عندما تدق حتى صحيفة «الغارديان» البريطانية ناقوس الخطر وتنشر حقائق فعلية وبالأدلة الدامغة عن عمليات تغيير «ديموغرافي» ليس في دمشق العاصمة وحدها وضواحيها فقط، وإنما في مناطق الحدود السورية اللبنانية، فإن هذا يعني أن ما كان أطلق عليه بشار الأسد اسم «سوريا المفيدة» أصبح عنوان استيراد المزيد من المجموعات المذهبية (الشيعية)، الإيرانية وغير الإيرانية، وإقامة «مستوطنات» لهذه المجموعات، لم يعد من غير الجائز تشبيهها بالمستوطنات الإسرائيلية، إنْ في فلسطين أو في هضبة الجولان المحتلة.
وحسب «الغارديان»، فإنه بينما تسعى روسيا إلى وقف لإطلاق النار ومصالحة سياسية بين نظام الأسد والمعارضة، فإن إيران تسعى لاستكمال مشروع سيغير البنية الاجتماعية في سوريا، وسيعزز مواقع «حزب الله» في الشمال الشرقي للبنان، وسيعزز ويقوي السيطرة الإيرانية الممتدة من طهران وحتى حدود لبنان الشرقية.. إن الإيرانيين ومعهم النظام السوري لا يريدون أي وجود للمسلمين السنّة بين دمشق وحمص والحدود اللبنانية.. وإن هذا يتطلب تغييرات سكانية «ديموغرافية» تاريخية كبيرة في هذه المناطق الممتدة من دمشق وصولاً إلى معقل الأقلية العلوية في شمال غربي الأراضي السورية.
نسبت هذه الصحيفة إلى مسؤولين لبنانيين أنهم يعتقدون أن هناك «حرقًا» متعمدًا لمكاتب تسجيل العقارات في المناطق التي يسيطر عليها نظام بشار الأسد ليصبح من الصعب على المواطنين (السنّة) إثبات ملكيتهم لعقاراتهم في الزبداني وداريا وحمص والقصير... إن أحياءً كاملة في هذه المناطق قد تم تطهيرها من سكانها الأصليين، وإن العديد من هؤلاء السكان قد مُنِعوا من العودة إلى منازلهم بذريعة عدم وجود أدلة تثبت امتلاكهم لها، وهنا فإن «الغارديان» قد نسبت إلى أحد المتابعين لكل هذه التطورات قوله: «إن هذا لا يشكل تغييرًا للتوازن الديموغرافي لسوريا فقط، وإنما أيضًا لموازين القوى في هذه المنطقة كلها».
وحقيقة أنَّ الجديد في هذا كله هو أن عمليات الاستيطان الإيراني في سوريا أصبحت تتم بكتل بشرية كبيرة وعلى غرار ما جرى أخيرًا، حيث تم توطين ثلاثمائة عائلة «شيعية» تم استيرادها من أفغانستان ومن منطقة كويتا في باكستان، في إحدى قرى ضواحي دمشق الغربية بالقرب من الحدود مع لبنان، وهذا قد تم بعدما شملت هذه القرى عمليات التطهير المستمرة بإخراج كل أهلها «السنَّة» منها، وترحيلهم بقوة السلاح إلى منطقة إدلب، تحضيرًا لمذبحة كالمذبحة التي ارتُكِبَت في مدينة حلب التاريخية.
لقد أصبح الإيرانيون، وفقًا لمخطط بات معلنًا ومعروفًا وتحدث عنه معظم قادة إيران الكبار، وعلى رأسهم مرشد الثورة علي خامنئي، يسيطرون استيطانيًا على مناطق وعقارات كثيرة في دمشق القديمة نفسها، من بينها باب توما، ومن بينها العديد من فضاءات المسجد الأموي الذي من غير المستبعد أن يأتي يوم يتم فيه هدمه كما هُدمت كثير من الحوزات والمساجد السنية في العراق على مدى الفترة منذ عام 2002 وحتى الآن!!
والآن، وإذْ يتواصل حصول هذا كله، تجب العودة إلى ذلك التحذير المبكر الذي كان أطلقه العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين في حديث لصحيفة «واشنطن بوست» الأميركية في نهايات عام 2004، عبّر فيه عن تخوفه من وصول حكومة عراقية موالية لإيران إلى السلطة في بغداد تتعاون مع طهران ودمشق لإنشاء هلال «جغرافي يكون تحت نفوذ الشيعة ويمتد إلى لبنان»... «وأن بروز مثل هذا الهلال يدعو إلى التفكير الجدي في مستقبل استقرار هذه المنطقة، وحيث إنه من الممكن أن يحمل متغيرات واضحة في خريطة المصالح السياسية والاقتصادية لبعض دولها»!!
ولعل هذا «الاستشراف» المبكر لأمور هذه المنطقة يدل على بعد نظر «استراتيجي» بالفعل، إذ إن هذا الهلال الشيعي، الذي لا يخجل كبار المسؤولين الإيرانيين من مواصلة الإعلان عنه والتغني به، بات قائمًا بالفعل، وأن طرفه الأول يبدأ باليمن، ويتجه نحو منطقة الخليج العربي والعراق، وينتهي طرفه الثاني عند ضاحية بيروت الجنوبية مرورًا بما أطلق عليه بشار الأسد اسم «سوريا المفيدة»، وصولاً إلى طرطوس وبانياس واللاذقية.
إن هذه الحقائق لم تعد خافية إلاّ على الذين يضعون أكفهم على عيونهم، ويضعون أصابعهم في آذانهم، والمفترض أن كل المعنيين بهذه الأمور قد سمعوا الولي الفقيه.. مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي يتحدث عن هذه المسألة الخطيرة بصراحة ووضوح ويعتبرها واجبًا ألزم إيران به الإمام الخميني والتزمت به أيضًا منطلقات الثورة الإيرانية، التي اعتبرها أصحابها ومنذ اللحظة الأولى في فبراير (شباط) عام 1979، ثورة عالمية متحركة وعابرة للحدود القريبة والبعيدة.
لقد اعترف قائد حرس الثورة الإيرانية الجنرال محمد علي جعفري بأن تدخل إيران في اليمن وسوريا يأتي في إطار توسع خريطة الهلال الشيعي في المنطقة... وقد ادعى، أي الجعفري، أن «نظام الهيمنة الغربي» بات يخشى من توسع هذا الهلال الشيعي في المنطقة، الذي (على حد ادعائه) «يجمع المسلمين ويوحدهم»، والمقصود بالطبع هو الشيعة في إيران وسوريا واليمن والعراق ولبنان، وهنا تجب الإشارة إلى أن هذا الكلام قد كرره قاسم سليماني أكثر من مرة وكان قد كرره أيضًا عدد من كبار المسؤولين العراقيين الغارقين في المستنقع المذهبي والطائفي حتى آذانهم، ومن بينهم نوري المالكي وهادي العامري قائد الحشد الشعبي وغيرهما من الذين ظهروا على شاشات الفضائيات في منطقتي الموصل وحلب وهم يهددون بإعادة حركة التاريخ إلى ما يسمى «معركة الطفّ» في كربلاء.
وحقيقة أن عمليات الاستيطان المذهبي هذه، التي يقوم بها الإيرانيون الآن في سوريا بتسهيل يصل إلى حد التآمر من قبل بشار الأسد نفسه، كانت قد مهدت لها ما تسمى «جمعية المرتضى» التي كان أنشأها جميل الأسد، شقيق الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، لتقوم بـ«تنصير» السنة، أي حملهم على اعتناق المذهب النصيري (العلوي) خصوصًا في بادية الشام وبادية حمص وحماه والجزيرة، بحجة أن أهل هذه المناطق كانوا على المذهب النصيري (العلوي) قبل أن تجبرهم السلطات العثمانية على اعتناق المذهب السنّي، الذي يجب أن يعودوا إليه، وكانت هذه الجمعية قد أرسلت من أجل هذه الغاية العديد من البعثات إلى قم في إيران ليدرسوا في حوزاتها على أيدي كبار «آيات الله» من المراجع الشيعية.
والآن وقد وصلت الأمور إلى كل هذا الذي وصلت إليه، وأصبحت هناك «مستوطنات» مذهبية إيرانية في سوريا بالفعل، خصوصًا في دمشق الشام وضواحيها، فإنه لا بد من أخذ هذه الأمور بجدية متناهية، ومع التأكيد هنا على أن المقصود بـ«التشيع» هو التشيع السياسي، وهو الصفوية الجديدة، وهو تشيع ولاية الفقيه؛ فالمذهب الجعفري الاثني عشري الذي هو مذهب الشيعة العرب له كل التقدير والاحترام من قبل أهل السنّة وعلمائهم، والمعروف أن هناك من اعتبره مِن كبار أئمة السلف الصالح المذهبَ الإسلامي الخامس بعد المذهب الحنفي والحنبلي والشافعي والمالكي.
ذاب الثلج وبان المرج، فإذا بواقع الفصائل المذهبية المسلحة هو النقيض المطلق لما كانت تدّعيه حول دفاعها عن الشعب السوري ضد الطغيان الأسدي. ومع أن كثيرين حذّروا الفصائل مراراً وتكراراً من العسكرة ومخاطرها، وفي مقدمها دورها في إضعاف قدرة الثورة على بلورة قيادةٍ سياسيةٍ، يلتزم القطاعان، العسكري والسياسي، بخطّها وقراراتها، فإن تحذيرات هؤلاء لم تحل دون طغيان العسكرة على السياسة، والتمذهب على مشروع الحرية، ونجاحها في إنهاك الحراك وإزالة طابعه المجتمعي والسلمي، فلا عجب إن أفضى وضعٌ هذه سماته إلى هزيمة حلب، وما ترتب عليها من حقائق منها:
أولاً، ارتهان الثورة للتنظيمات والفصائل المذهبية هو سبيل السوريين إلى الهزيمة، لأسباب بينها التناقض البنيوي بين هويتها ومشروعها وهوية الثورة ومشروعها، والقطيعة بين ممارسات فصائلها وما يتطلبه نجاح أي عمل ثوري/ وطني من برامج وخطط تكرّس لخدمة الحرية ومطالب الشعب، إن غابت، صار من المحال أن تلعب الفصائل دوراً يقطع مع بندقيتها المتمذهبة التي أخضعت المجال السياسي لفوضاها، وأسهمت في تهميشه، بدل أن تخضع هي له، وترى في السوريين شعباً واحداً، تستحق مكوناته جميعها الحماية، وليست طوائف ومذاهب وإثنيات مصطرعة مقتتلة.
ثانياً، انفكاك الحاضنة الشعبية المتسارع عن الفصائل المذهبية المتأسلمة الذي نلاحظه، خصوصاً لدى القطاع الشبابي، والذي يوجد ما يشير إلى أنه أخذ يجمع نفسه، ويتلمس سبل استعادة وحدته ورهانه الثوري الأصلي: الحرية للشعب السوري بصفته شعباً واحداً.
ثالثاً، تراجع خطاب التأسلم الفصائلي وواقعه، نتيجة هزائمه المتتابعة التي فضحت زيف وعوده بتحقيق الانتصار، ومقولاته عن الصراع السوري التي ترى فيه حرباً، هدفها انتزاع السلطة من العلويين، وإعطاؤها لأهل السنة، مثلما فضحت تناقض أيديولوجية الفصائل مع الإسلام وقيمه الإنسانية. وكشفت أخيراً ما أفضت إليه علاقاتها من قمع واضطهاد أسدي ضد مواطني المناطق التي تحكمها، وإذا كان لقادتها آذان تسمع، فلا بد أنهم سمعوا سيل الشتائم الذي انصب عليهم بعد حلب، واتهم معظمهم بالخيانة، وبأنهم اختراقات مخابراتية.
لئن كانت الفصائل المتمذهبة قد نجحت في خداع سوريين كثيرين بعض الوقت بشأن حقيقة مواقفها من قضيتهم، وأقنعتهم بأنها تقاتل دفاعاً عن الإسلام، فإن أكاذيبها انهارت تماماً خلال ما سمّته "ملحمة حلب الكبرى" وبعدها، حيث تبيّن أنها ليست إسلامية، ولو كانت كذلك، لما تطابقت نظرتها إلى الشعب وممارساتها ضده مع نظرة النظام الأسدي وممارساته، ولما تصرّف قادتها وأمراؤها، كما يتصرّف ضباط مخابراته الفاسدون والقتلة.
ثم، ماذا يمكن أصلاً أن تحقق للشعب فصائل يدّعي معظم قادتها أن سكاكينهم وسلاحهم ينفّذان إرادة الله ضد الكفرة والمرتدّين، أي الذين يرفضون نهجهم من المسلمين، ويقارنونه بنهج الرسول (ص)، الإنساني والرحماني، ويطالبونهم بالاقتداء به، إن كانوا مسلمين حقا؟ وماذا تستطيع قيادات فصائل تركها بعد حلب عدد كبير من مقاتليها أن تفعل، بعد اليوم، لإقناع الشعب بأهليتها لحمل آماله وتحقيق أهدافه؟ أسقطت حلب ورقة التوت عن عورات هؤلاء، وفضحت التناقض الكبير بين أقوالهم وأفعالهم، حتى صار من المستبعد أن يصدّقهم الآن مَن خُدع بهم البارحة، واعتبرهم المدافع الأمين عنه، فإذا بهم يسلمون حلب للنظام ويستسلمون له، من دون قتال، في عدد كبير من أحيائها، ويصعدون قبل مدنييها العزّل إلى حافلات الأسد الخضراء، ليغادروا المدينة بحماية من كانوا يعلنون، إلى ما قبل سويعات، تصميمهم على "الجهاد" ضده، إلى أن يطردوه من كل شبر في سورية، بينما كانوا يخونون كل من صعد إلى هذه الحافلات قبلهم، بمن في ذلك من تخلوا عنهم، مثل مقاتلي داريا ومواطنيها.
بسبب حلب، فقدت الفصائلية، بوصفها نمطاً من التنظيم العسكري، القليل من الصدقية العسكرية الذي كان لها، وغدت، في نظر أغلبية السوريين، مجرد حواضن للعنف والفوضى. لذلك، لن تبقى الثورة بعد حلب، إذا لم يتخلّ الشعب عن الفصائلية أداةً للصراع، ويستعيدْ، في الوقت نفسه، حراك الحرية المجتمعي والسلمي الذي صار أداتنا لإنقاذ شعبنا وثورته، وإلا كان انهيار العسكرة المتمذهبة في حلب انهياراً للثورة نفسها، وحلّت بنا الكارثة.
تلوح اليوم فرصة لاستئناف مشروع الحرية وحراكه المجتمعي، إن لم نفدْ منها فرّطنا، نحن أيضا بحقوق الشعب وثورته ووطنه. ماذا نحن فاعلون؟
«الخيارات الصعبة التي اتخذها الرئيس أوباما (بخصوص سوريا) ثبت فيما بعد أنها خيارات صحيحة، لكن هذا لا يعني أننا ننام ليلنا بشكل أفضل ونحن نعرف أن التكلفة البشرية لذلك الصراع تكلفة غير اعتيادية»… هذا ما قالته سوزان رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي في مقابلة مع قناة «أم أس أن بي سي» الأمريكية ولعلها المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول أمريكي ولو تلميحا إلى المسألة الأخلاقية في التعامل الأمريكي مع مأساة سوريا إلى درجة التطرق إلى راحة الضمير من عدمه وهو يؤوي إلى فراشه ويضع رأسه على المخدة.
ليس من عادة المسؤولين الأمريكيين، حتى وهم يغادرون مناصبهم، الخوض في قضايا سياسية شائكة بلغة الضمير الإنساني وتأرجحه بين السكينة والتأنيب، لكن ذلك لم يحل بين رايس وأن تقول وبلغة، لا عواطف فيها هذه المرة، إن «الخيار الصحيح كان عدم توريط الولايات المتحدة بشكل عسكري مباشر في الحرب الأهلية بين الأسد والمعارضة» مقرة بأن هناك من اعترض على هذه السياسة بناء على تجارب سابقة لكنها تعتقد مع ذلك بأن «ما قمنا به كان الخيار الصائب لكنه لا يخفف ما نشعر به من إحباط كبير تجاه كل تلك الخسائر الكبيرة في الأرواح».
باختصار شديد، واشنطن محرجة من هذه التكلفة الإنسانية لمأساة سوريا ولكنها تعتقد أن الأولى في الاهتمام والممارسة هو صيانة أرواح جنودها قبل أرواح السوريين أو غيرهم. يمكن الخوض طويلا في وجاهة وأخلاقية هذا النوع من القناعة التي حكمت وضبطت إيقاع سياسة أوباما في سوريا التي قادها جون كيري الذي بدا في تحركاته واتصالاته مع الروس ضعيفا ومهزوزا إلى أبعد الحـــــدود.
حين كانت رايس تدلي بكلامها هذا كان جون كيري يتحدث إلى قناة أمريكية أخرى. لم يكن في كل كلامه في برنامج «أمنبور» على شاشة «سي أن أن» أية حسرة أو قرصة ضمير، ولو خفيفة، بخصوص الملف السوري. أكثر من ذلك، هو لم ينظر إلى هذه المسألة إلا عرضا وفي سياق الحديث عن مجالات التعاون بين بلاده وروسيا التي «لم تكن سيئة وإن كانت تشوبها بعض المشاكل التي افتعلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مثل الأزمات التي شهدناها في القرم وسوريا».
وحتى في هذه الإشارة العابرة إلى سوريا لم يضع كيري إصبعه على كارثة مئات آلاف الضحايا المدنيين الأبرياء بل اكتفى بتناول الأمر من زاوية ما حققه من مكاسب في تعاونه مع روسيا التي «كانت داعمة وطرفا في الاتفاق النووي الإيراني، كما أنها كانت مع إخراج الأسلحة الكيمياوية من سوريا، وقد جلست مع نظيري سيرغي لافروف من أجل إخراج هذه الأسلحة، وتعاونا أيضا في الأمور الإنسانية في سوريا، كما كان لنا تعاون على صعيد البيئة في مؤتمر باريس».
هنا كيري لم يكتف بعدم تناول عجزه عن فعل أي شيء لإيقاف مسلسل القتل الأهوج في سوريا ، كقوة عظمى أولى في العالم، مكتفيا بسرد ما فعله بالتنسيق مع لافروف في بعض القضايا الإنسانية، وقد كانت متعثرة وبائسة هي الأخرى، لم يكتف بذلك فقط بل إنه أيضا أحجم عن الإشارة إلى ما فعلته روسيا في سوريا ولو من باب العتاب العابر والخفيف!! لا هو راجع سياسات بلده ولا حتى انتقد سياسات روسيا. روسيا التي لم تحجم عن التدخل العسكري، كما فعلت الولايات المتحدة، بل أقدمت على تدخل خشن لإنقاذ نظام متهالك هبت لنجدته أيضا إيران وكل الميليشيات الطائفية من كل أصقاع العالم بدعوى محاربة الإرهاب والتنظيمات التكفيرية. بعض الحق أريد به تبرير كل الباطل…
وقبل رايس وكيري وبعدهما، ترى ما الذي يمكن أن يقر به الرئيس أوباما نفسه بخصوص سياساته تجاه سوريا طوال هذه السنوات سواء في هذه الأيام القليلة المتبقية من حكمه أو حتى بعد أن يترك لنا خليفته الكارثة. بإمكان أي سياسي أو مراقب أن يتفهم هذه السياسة ويجد لها الأعذار على أساس أن واشنطن استخلصت الدرس جيدا من درس العراق ولا تريد أن تقع في مستنقع آخر فهي في النهاية مسؤولة أولا وقبل كل شيء عن أرواح مواطنيها قبل أية أرواح أخرى. المشكلة هنا، أنه حتى لو وافقنا هذا المنطق فإن إدارة أوباما أظهرت فشلا ذريعا حتى في مجرد اتصالاتها السياسية لإيقاف القتال في سوريا أو الحد منه أو تأمين دخول المساعدات الإنسانية أو السعي الجاد للتوصل إلى تسوية سياسية سواء كانت عبر صيغة جينيف أو من خلال ما تعده الآن موسكو وأنقرة. إنه الفشل الذريع فعلا… يغادر أوباما وبشار الأسد باق.
عديد من التساؤلات سيطرحها السوريون، وهم يتابعون نقلاً عن إحدى القنوات الفضائية مشاهد من قاعة تفاوض، سواء كانت في آستانة أو غيرها، من مثل: من هم هؤلاء الأشخاص الذين يجلسون على الجانب السوري المعارض كممثلين لهم؟ أو أين هم ممثلو المعارضة السياسية؟ أو هل ما يجري ينم عن استدارة دولية عن الثورة المدنية لصالح تنصيب فصائل المعارضة العسكرية، وإيلاء الأولوية للصراع العسكري، الذي سعى النظام، أصلاً، الى تصديره أمام الرأي العام للهرب من استحقاقات الحل السياسي، أو استحقاقات ثورة قامت لأسباب سياسية وحقوقية بالدرجة الأولى؟ هذه أسئلة مؤلمة، لكنها محقّة من جهة، وربما مجحفة من جهة أخرى!
مع ذلك، ومن الناحية المبدئية، يمكننا القول إن ثمة أهمية اليوم، وبعد كل هذه الكارثة والأثمان الباهظة المدفوعة، أن يشعر السوريون بأن وقف المقتلة السورية، من خلال تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، ممكن، وبإرادة الأطراف الفاعلة والمؤثّرة والمهيمنة على الأرض، أي أن تبدأ المفاوضات بين ممثلي الجبهات العسكرية من طرف المعارضة والداعمين لهم من جهة، وبين الحكومتين الروسية والإيرانية ومن أطلق يدهما في سورية، أي النظام السوري، على الجهة المقابلة.
كما من المهم أيضاً التذكير بأن أي فرصة متاحة لعودة الأمان للسوريين هي في الآن ذاته فرصة للثورة السورية أن تستعيد حراكها من أجل الحرية وإقامة الدولة الديموقراطية، التي تحفظ حقوق مواطنيها أفراداً وجماعات، وتنهي تغول الأمن والجيش في السياسة وفي التدخّل في حياة المواطنين. هذه الجزئيّة التي كانت سبباً مباشراً في تفجر الثورة السورية في 18 آذار (مارس) 2011.
لكن ما يجري، أو دلالة ما يتم تحضيره في مؤتمر آستانة، يشير إلى تغير المعطيات التفاوضية، إذ لم تعد المسألة اليوم تتعلق بالتنافس بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج، ولا بين هذه والمعارضة المحسوبة على النظام، إنما أضحت بين المعارضة السياسية ممثلة بـ «الائتلاف الوطني» و «الهيئة العليا للمفاوضات» من جهة، وفصائل المعارضة العسكرية من جهة أخرى.
هذا التطور الكبير ينبغي إدراك تبعاته، ليس من باب التخوين المتّبع في الحالة السورية بين الأطراف، عند انعقاد كل مؤتمر، وإنما للبحث في أسباب هذه الاستدارة الروسية المريبة، بقبول التفاوض مع أكثر الفصائل التي أوجعتها، والتي تسبّبت في خسارة النظام كثيراً من مواقعه، بعد إيقاف القصف الجوي الروسي، وخصوصاً أن موسكو بذلت جهوداً لتصنيف هذه الفصائل بـ «الإرهابية»، رافضة هي والنظام ومعارضته المحسوبة عليه، الجلوس مقابلها في جنيف. كل هذا يجعل البحث في أسباب انقلاب روسيا على ماضيها موضع شك، ولا بد للفصائل الممثلة في مؤتمر آستانة أن تبحث فيها، وأن تستفيد منها لتحقيق مكاسب ليست فقط عسكرية ولكن إنسانية وسياسية.
فهل تسعى روسيا لتشكيل ترويكا دولية تحل مكان مجموعة «أصدقاء الشعب السوري» تتألف من روسيا وإيران وتركيا، وربما تنضم اليها السعودية لاحقاً؟ وهل سينتج عن المؤتمر مجلس عسكري مشترك بين المعارضة والنظام يطيح بشكل فعلي بالمعارضة السياسية وبرموز النظام نفسه، وتكون مهمته صناعة مستقبل سورية على شاكلة ما حدث في مصر؟ ثم من هو «سيسي سورية» الذي تصنعه هذه الترويكا؟
أخيراً، هذا الواقع الجديد للفصائل المعارضة بين مؤيدة للتفاوض مع روسيا والنظام تحت الضمانة التركية، وبين رافضة للتوافقات التي أفضت إلى المؤتمر المزمع عقده في آستانة، يطرح تساؤلاً آخر يتعلق بالوظيفة التي قد تناط بهذه الفصائل لترتيب واستعادة المناطق التي تسيطر عليها الفصائل التي ترفض الدخول في ممر التفاوضات والتسويات.
قد تكون المليشيات الإيرانية مستعدة لاستمرار القتال لكن في تلك المناطق تحديداً ستكون الأكلاف باهظة على كل الأطراف، وأقل كلفة فيما لو استخدمت الفصائل السورية بعضها في مواجهة بعض، وهو الأمر الذي يجب الحذر منه وتجنبه في أي اتفاق يعقد تحت الكاميرات أو خلفها.
لهذا كله قد لا تكون روسيا اليوم أقل رغبة من السوريين في عقد مؤتمر يجمع صقور المعارضة المسلحة مع النظام، لإحداث ما يمثل انتصاراً لها، ولو ظاهرياً، من خلال مؤتمر آستانة أو غيره، في أقل وقت ممكن، وقبل تولي الإدارة الأميركية الجديدة قيادة المرحلة التي تبدو غامضة للروس أكثر من سواهم، في ظل تصريحات متناقضة ومتضاربة وفق المثل: «طاسة سخنة وطاسة باردة».
على ذلك، فالمطلوب اليوم أن تكون منصّة مفاوضات آستانة موجّهة نحو تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، وآليات مراقبته، ووضع عقوبات واضحة على من يخرقه، تطاول جميع الأطراف، وتحديداً ميليشيات إيران وتوابعها، وهذا لن يتم ما لم تقف كل فصائل المعارضة على خط جبهة واحدة، مقابل هذه الميليشيات، التي لا بد ستجتهد لخلق أسباب لخرق الهدنة، كما حدث سابقاً في حلب وريف دمشق وفي أماكن كثيرة من سورية، باعتبار أن ما تبقى من جيش النظام سيلتزم، على الأرجح، ما تقوله روسيا التي تتحكّم فعلياً به.
من جهة أخرى ستكون هذه الهدنة بمثابة فرصة لعمل مشترك بين الفصائل يشدّ بعضها إلى بعض لإقامة ما يسمى جبهة المعارضة العسكرية، والفائدة الحقيقية ربما تكون بإسباغ اللون الأخضر (علم الثورة) على منطقتها في اعتراف روسي ودولي، لخلوها من الأعلام السوداء لتنظيم «القاعدة»، في خطوة تنتزع كل حجج النظام السوري لقصف المدنيين.
من شأن مفاوضات آستانة إذاً أن تحول هزيمة حلب التي يستثمرها النظام السوري إلى نصر سياسي للمعارضة، إذا تعامل وفد المعارضة ذو الطابع المسلح بحِرَفية تجاه كل القضايا المطروحة على طاولة التفاوض الروسية ـ التركية، وفق رؤية المعارضة السياسية تجاه الحل السياسي الشامل لإعادة ترتيب أولويات المرحلة الانتقالية، التي تتوافق وأهداف الثورة السورية.
قد نقرأ أسماء لا نعرفها في وفد المعارضة، وهذه تشكّل انعطافة خطيرة أمام السوريين، لكنها قد تكون فرصتنا لتمهيد الطريق من آستانة إلى جنيف ومنها إلى دمشق ليس فيها من نظام الاستبداد إلا ملامحه الروسية.
يقول محدثي الأوروبي العائد للتو من موسكو إنه لا استراتيجية روسية واضحة للتعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة. تعتمد موسكو سياسة الحذر: «لننتظر ونرَ». إنما بشكل عام هناك ترحيب برئاسة دونالد ترامب، وتطلع إلى التعامل معه، لأن الود كان مفقودًا على كل الجبهات مع رئاسة باراك أوباما.
الاتهام بالاختراق الإلكتروني، وبأن روسيا عملت على دعم حملة ترامب، أثَّر على الشعور الإيجابي في روسيا، وبسبب المناخ المتوتر العام في أميركا شعرت موسكو بأن ترامب والمرشح لتولي وزارة الخارجية ريكس تيلرسون اضطرا إلى استعمال لغة قاسية ومتشددة. لكن يشير إلى أمر ما وقع بعدما طرد الرئيس أوباما 33 من الدبلوماسيين الروس... «جرت اتصالات سرية وطلب فريق ترامب من الرئيس فلاديمير بوتين عدم المعاملة بالمثل، والانتظار حتى يتسلم ترامب للتخلص من سلبية سياسة أوباما».
روسيا تريد تقوية مواقفها الدبلوماسية، وتأمل من ترامب شراكة عمل جيدة «من دون شيطنة بوتين واتهامه كمجرم حرب». الروس متفائلون، ومع علمهم بأنه لا يمكن توقع شيء واضح وحاسم من ترامب، فإنهم يعتقدون أن من عيَّنَهم في مناصب حساسة، مثل تيلرسون، سيتفهمون الوضع الروسي.
في هذه الأثناء تستمر اللعبة الروسية في الشرق الأوسط، خصوصًا لجهة دعم الرئيس بشار الأسد، وتدخل فيها تركيا وإيران. يقول محدثي: «هناك تركيا، وهناك الرئيس رجب طيب إردوغان. كثيرون من الأتراك لا يحبون إردوغان رغم الدعم الذي يلقاه (حزب العدالة والتنمية)، وكثيرون يريدون أن يغادر الساحة التركية».
في روسيا الوضع مختلف؛ فبوتين ليس في حال إردوغان، صحيح هناك كثيرون لا يحبون نظام الفساد، وعدم الاهتمام بتطوير البنية التحتية، ومتضايقون من ارتفاع نسبة الجريمة، إنما لا يربطون هذا ببوتين، بينما في تركيا، فإن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية والأمنية مرتبط مباشرة بإردوغان. وبسبب تدهور الوضع الاقتصادي وغياب السياح الروس تطلع إردوغان إلى بوتين فربطت بين الاثنين صداقة براغماتية.
فسر البعض هذا التوجه بمثابة ابتعاد تركيا عن أوروبا، وتكاثرت الأسئلة عن علاقة تركيا بالحلف الأطلسي، خصوصًا بعد توجيه إردوغان اتهامات للأميركيين بأنهم رعوا المحاولة الانقلابية ضده، ولم يسلموه بالتالي فتح الله غولن. ردود الفعل هذه استغلتها روسيا كثيرًا، وظلَّت تدفع بإردوغان إلى أحضانها، حتى صار يؤيد دورهم في سوريا، وأبقوا معًا الولايات المتحدة بعيدة عن الصورة. ثم لوح الروس له بـ«منظمة شانغهاي»، وهي تسويق صيني - روسي، ولا يمكن مقارنتها بالأطلسي، فأصبحت تركيا أكثر تفاعلاً مع «شانغهاي» التي تجري دولها مناورات عسكرية، وتحاول تصوير نفسها بأنها تتوازن مع الحلف الأطلسي.
لكن، كما يقول محدثي، هناك مشكلة جديدة طرأت أخيرًا مع إرسال الولايات المتحدة 3 آلاف جندي إلى بولندا و300 إلى النرويج و800 دبابة. فسرها الروس كآخر ردود فعل أوباما، وبالتالي فهم غير سعداء، لذلك علينا متابعة ما سيحل بهذا الانتشار بعدما يصير ترامب رئيسًا. قد تبقى هذه القوات، فتتعقد محادثات ترامب مع بوتين، وإذا لم يستطع ترامب تغيير الوضع، فإن تركيا سوف تستمر في علاقتها الوثيقة مع روسيا، خصوصًا أن البرلمان الأوروبي يحاول الآن عرقلة انضمامها إلى أوروبا. يشرح محدثي: «اندفع البلدان للعمل معًا، فالاثنان يزعجهما النقد الموجه لعدم احترام حقوق الإنسان، وبسبب المعتقلين السياسيين».
عام 2017 سوف تتقرب روسيا أكثر من تركيا، لأنه من المهم جدًا لموسكو أن تلقى دعم تركيا على دورها في سوريا، ولا تريد أن تتعقد العلاقات بين البلدين. بالنسبة إلى روسيا... «الأسد هو رجلنا في الشرق الأوسط»، لا زخم لديها عند دول الخليج العربي عكس الأميركيين والبريطانيين. صحيح أن لروسيا علاقة مع إيران، لكن الأخيرة ليست دولة عربية، وبنظر روسيا فإن الأسد لا يزال شابًا، ومن المهم أن تشد إلى جانبها دولة إقليمية كبرى مثل تركيا.
هناك أمر آخر، فللعلاقة الروسية - التركية امتدادات في مجال الطاقة، ومشروع إمدادات أنابيب الغاز من روسيا عبر تركيا يعطي زخمًا لروسيا على أوروبا، وأنبوب النفط التركي «ستريم» هو خيار روسي في حال تعرقلت إمدادات أنابيب الشمال بسبب معارضة بلجيكا وبولندا والسويد. ثم إن تركيا ثالث أكبر مشترٍ للغاز الروسي بما مقداره 30 مليار متر مكعب. من هنا ستظل روسيا تغري إردوغان. وأسأل محدثي الأوروبي: وهل هذا يعني السماح لتركيا بالتضحية بالأكراد؟
يجيب: روسيا ستغمض عينيها عن كل قضية داخلية، وإذا أرادت تركيا الاستمرار بمواجهة الأكراد داخلها وفي سوريا، فسيكون لها ذلك. روسيا لا تسوق الديمقراطية أو حقوق الإنسان، وسياستها الخارجية قائمة على المصالح الجيو - سياسية، في تركيا سيتركون إردوغان يفعل ما يشاء. ويضيف: ترددت شائعات في روسيا مفادها أن الأجهزة الأمنية الروسية هي التي حمت إردوغان أثناء محاولة الانقلاب، ومن هنا كان أول اتصال تلقاه من بوتين، ثم لا ننسى أن روسيا خلال توتر العلاقة مع إردوغان استعملت الأكراد ضد تركيا. «قد لا تضحي بالأكراد إنما تهمشهم».
يصل محدثي إلى إيران حيث تعرف روسيا أنه لا مفر أمام طهران من تقوية علاقتها بموسكو لتخوفها من ردود الفعل السلبية للإدارة الأميركية الجديدة تجاه الاتفاق النووي، لكن لا يستبعد محدثي أن أشخاصًا في الإدارة الجديدة مثل تيلرسون لا يريدون تغيير الاتفاق، بل المساعدة على أن تنفتح إيران على الاستثمارات الدولية وشركات النفط ثم «أن تيلرسون سوف يشجع التفاوض بين إيران والسعودية، لأن ذلك يدعم السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، كما يريد أن تكون أميركا هي من يدير الحوار بين الرياض وطهران». أسأل: وهل تعتقد أن هذا ممكن؟ يجيب: أرى عنصرًا من هذا، فتيلرسون يمثل بكل تأكيد المصالح الوطنية الأميركية، لكنه سيحاول أيضًا دعم الشركات الأميركية، خصوصًا قطاع النفط والغاز منها. هو جزء من هذه الصناعة، إنه رجل نفط، ويعرف أن هذه الصناعة ضرورية للعالم، ولا أحد يمكنه تغيير ذلك. إيران منتج كبير للنفط، ومن المؤكد أنه سيراقب المفاوضات في «أوبك»، سيحيي الدبلوماسية الاقتصادية عبر الصناعة النفطية في الشرق الأوسط.
لهذا السبب سيتعمق التعاون بين روسيا وإيران، لكن الإيرانيين لا يريدون الاعتماد كثيرًا على موسكو، «ستبقى العلاقة براغماتية».
إذن في الشرق الأوسط ستكون علاقات روسيا جيدة مع سوريا، وتركيا، وإيران وإسرائيل. يوضح: العلاقة مع إسرائيل جيدة، لكنها شراكة وليست تحالفًا استراتيجيًا، أو كعلاقة بريطانيا مع السعودية أو دول الخليج.
من جهة أخرى، هناك عقبات كثيرة تعترض تطوير علاقة روسيا بدول الخليج العربي، وأكبر عقبة هي بشار الأسد. لقد استثمر الغرب والعرب كثيرًا من رأس المال الدبلوماسي، ولا يمكن الآن أن يستديروا للاعتراف بشرعية الأسد.
يقول محدثي: «لا يمكن عودة سوريا إلى المسرح الدولي ما دام الأسد موجودًا، ثم إن إعادة الاعتراف به تعني اعترافًا بالجهود الروسية في الوقوف إلى جانب رجلها». ويستطرد: «لكن، إذا تم تشكيل حكومة جديدة والاتفاق على فترة انتقالية يغادر خلالها الأسد، فحتى ولو كان لروسيا نفوذ على الحكومة الجديدة، فإن ذلك سيغير مسار اللعبة».
إذن لا يمكن لروسيا تحسين علاقاتها الخليجية في ظل أوضاع كهذه؟ يجيب: من المستحيل تقريبًا. هي تحاول، وأول تطور يمكن أن نراقبه قيادة روسيا للدول غير الأعضاء في منظمة «أوبك» وتفاوضها مع «أوبك» من أجل تنظيم عالمي لإنتاج النفط. هذا تطور إيجابي لأن له بعدًا اقتصاديًا يعود بالمصلحة على الجميع.
وعلى المستوى الدبلوماسي، لا عودة للعلاقات الروسية ودول الخليج لما كانت عليه عندما زار ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز موسكو، التي أصبحت لاحقًا مراقبًا في المؤتمر الإسلامي، وحدث تقارب روسي - سعودي، لأنه لا يمكنني رؤية السعوديين يغيرون موقفهم من الأسد.
غدًا يصبح دونالد ترامب الرئيس الأميركي الـ45. التموضع الروسي في الشرق الأوسط، قد يتجذر أو يهتز، وهذا يعتمد على ما إذا كانت إدارة ترامب ستركز على الشرق الأقصى، أو تعاود الالتفات إلى مصالحها في الشرق الأوسط.
أصبح التحالف بين روسيا والنظامين السوري والإيراني مواجهةً مفتوحةً لن تلبث أن تظهر معالمها أكثر فأكثر. وتمرّ الأزمة السورية حالياً بأخطر مرحلة، وبصراع متصاعد بين «الحلفاء» على مَن تكون له الكلمة الأخيرة ليس فقط في تقرير مسار الأزمة وإنما في تقرير مستقبل سورية. وفيما يبدي نظام بشار الأسد وحليفه الإيراني «ممانعة» جلية في تمرير خطط روسيا، ليس واضحاً ما إذا كانت الأخيرة بلغت درجة من التمكّن (عبر إعادة تأهيل الجيش السوري وتنظيمه) لفرض إرادتها. وقد أدّى انشغالها باحتمالات وهمية لمواجهة مع الولايات المتحدة أو حتى مع تركيا، ثم بمعركة حلب لحسم الوضع شمالاً، الى تغافلها عمّا يحصل في دمشق ومحيطها، بل عمّا يحصل في حمص وحماة ودرعا. لذلك، بدا الأمر كأن الروس نفّذوا، متقصّدين أو غير متقصّدين، ما رسمه المخطط الأسدي - الإيراني، ولم يعملوا إلا في النطاق الذي حُدّد لهم. وعلى رغم أن فاعليتهم توسّعت على مستويات عدّة عسكرية وسياسية، إلا أنهم لم يتحكّموا بالحيّز الذي يحتلّه التنسيق بين النظام وإيران.
يقتضي الاستدلال الى المواجهة بين «الحلفاء» معاينة جملة تطوّرات كان أبرزها التصعيد في وادي بردى. لكن ثمة وقائع حدثت وبقيت أشبه بألغاز تحتاج الى من يفكّ رموزها، وإنْ لم تكن غامضة دائماً. لعل أبرزها الصمت الروسي المطبق إزاء عودة تنظيم «داعش» الى تدمر، بالسيناريو السابق نفسه، وبأعداد أكبر من تلك التي «اجتاحت» المدينة منتصف أيار (مايو) 2015. ففي منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي، «استعاد» التنظيم المدينة في وضح النهار ناقلاً نحو خمسين دبابة على مسافة 250 كيلومتراً مكشوفة من دون أن يتعرّض لأي إزعاج أو إعاقة، وكما في المرة السابقة هربت/ انسحبت قوات النظام المعزّزة بحضور إيراني وبوجود روسي رمزي (استخباري). وما أعاد «داعش» الى تدمر هو حاجة «ممانعة» دمشق وطهران الى خدماته، إذ كان احتلاله مدينة أثرية ذات سمعة عالمية شكّل تطوّراً حاسماً في حصر الأزمة السورية في خانة «الحرب على الإرهاب». ولأن التوجّه الروسي الى وقف النار وترتيب مفاوضات في آستانه يعيد الأزمة الى واقعها الداخلي كصراع بين نظام ومعارضة، فقد استدعى الأسد والإيرانيون «داعش» مجدّداً الى تدمر، إلا أن تكرار السيناريو المكشوف قد لا يؤدّي الى النتائج ذاتها.
تنبغي أيضاً معاينة وقائع أخرى، فما الذي استدعى أن يدمّر «داعش» معمل «حيان» للغاز في ريف حمص الشرقي الذي وصفه وزير الخارجية الكرواتي بأنه «تدمير لأكبر منشأة اقتصادية في سورية منذ اندلاع الأزمة» (كرواتيا تملك 45 في المئة من المعمل). هل نفّذ «داعش» أوامر النظام، أم اعتبر النظام أن لا عودة له الى تلك المنطقة فقرر تدمير المنشأة ليحرم أعداءه من مرفق اقتصادي مهم؟ الأكيد، أنه تخريب متعمّد من دون أي مبرّر أمني، لكن هناك مصادر تعزوه الى هاجس «ترسيم الحدود»، فالأسد يوهم المتعاطفين معه عربياً ودولياً بأنه يحارب لإبقاء سورية موحّدة، وهؤلاء المتعاطفون يصدّقونه ويتجاهلون أجندة إيران القائمة على تثبيت نفوذ دائم في سورية عبر التغيير الديموغرافي في محيط دمشق وحيثما أمكنها ذلك.
ثمة أسئلة أيضاً، ودائماً في إطار تلك المواجهة، عن التفجيرات الأخيرة سواء في كفر سوسة أو في جبلة وطرطوس، امتداداً الى المعلن/ وغير المعلن عنه من غارات إسرائيلية. لا إجابات واضحة، لكن الحدس التحليلي لدى السوريين، موالين ومعارضين، كما لدى أي شعب يشهد حرباً داخلية، يميل الى ربط الأحداث وتفسيرها أحياناً بما يقرب من «نظرية المؤامرة»، ولا يعني ذلك أنه مخطئ كليّاً. فالتفجير في جبلة هو الثاني الذي يقع خلال فترة قصيرة في موقع لا يبعد سوى كيلومترات قليلة من قاعدة حميميم الروسية، وبديهي أنه يوجّه مع تفجيرين آخرين في طرطوس رسالة الى الروس بأن أمنهم في قواعدهم يمكن أن يُهدّد من دون أن تكون طائراتهم ولا بوارجهم قادرة على الردّ. وهكذا، فإن الإرهاب الذي منع أي تدخّل دولي أو عربي مباشر في سورية يمكن أن يُستخدم حتى ضد الروس إذا اقتضت الظروف استهدافهم.
لكن في أي سياق يمكن إدراج تفجير كفرسوسة الذي قتل فيه ثمانية من عسكريي النظام، بينهم عقيد في المخابرات؟ قال إعلام النظام أنه «تفجير إرهابي» نفّذه انتحاري، لكن طبيعة المكان وعدد القتلى أبقيا ملابسات الحادث غامضة، ولم يتهم النظام أي جهة محدّدة ما يمكن أن يعني أنه ربما يشكّ في «جهة صديقة» وأن ما حصل هو تهديد مقابل تهديد. هذا يقود الى تساؤل عن الغارات الإسرائيلية المتوالية على مطار المزّة، فليست كلّها ضد شحنات سلاح مخصّصة لـ «حزب الله»، وإذا لم تكن بتنسيق مدروس مع الروس فإنها تبدو متناغمة مع ما يريده الروس من دون أن يكون هؤلاء متورّطين مباشرةً. لا يعني ذلك أن الإسرائيليين مهتمّون بوقف النار أو حريصون على نجاح السعي الروسي الى إنهاء الصراع، لكنهم وجدوا في التطوّرات الجارية ما يمنحهم فرصة لمفاقمة التباعد والخلاف بين الروس والإيرانيين. وكان لافتاً مثلاً، أن قراءات معارضين لمواقف النظام من الهدنة وشروطها في وادي بردى التقطت تأرجحاً بين تشدّد ومرونة على وقع اتصالات روسية وضربات إسرائيلية وتصلّب إيراني، إذ جاءت أفضل المبادرات للهدنة غداة ليلة طويلة من غارات إسرائيلية على مطار المزّة ومحيطه، وحملت اسم مدير مكتب الأمن القومي علي مملوك الذي سمّى فيها اللواء المتقاعد أحمد الغضبان مفاوضاً عن مقاتلي وادي بردى ومشرفاً على تنفيذ ما يُتفق عليه، ولما حضر الأخير بادر أحد ضباط النظام الى قتله في ما اعتبرته المعارضة «إعداماً ميدانياً»، وأُجهضت «المبادرة».
كان واضحاً خلال الأسابيع الأخيرة، أن النظام والإيرانيين اختاروا وادي بردى ثغرة لضرب الاتفاق الروسي - التركي على وقف شامل لإطلاق النار. كانت منطقة الوادي شهدت طوال الأعوام الماضية مناوشات، لكنها بقيت في شبه هدنة نسبية، وتحوّل مصدر إرواء دمشق في عين الفيجة ومنشآته عنصراً رادعاً للطرفين، فلا «الجيش الحرّ» يهدّده لئلا يستدرج هجوماً واسعاً عليه، ولا قوات النظام - و»حزب الله» تحديداً - تستهدفه لئلا تتسبّب بتعطيش العاصمة. غير أن هذا «الرادع» أُسقط بعد التغيير الروسي لقواعد اللعبة، غداة معركة حلب، والاتجاه الى عملية متدرّجة يُزعم أن هدفها إنهاء الصراع. إذ بدأت الهجمات على وادي بردى تتكاثف وتعنف بالتزامن مع الاجتماع الثلاثي، الروسي - التركي - الإيراني، واتضاح أن موسكو تطوّر تنسيقها مع أنقرة لتغيير وجهة الأزمة وإدارتها.
اتضح أيضاً أن وادي بردى والغوطة الدمشقية بشرقها وغربها كانا ثغرة في الدور الروسي. ففيما ضغطت موسكو للحصول على «وقف شامل لإطلاق النار» وبَنَت عليه دعوتها الى مفاوضات عسكرية في آستانه تمهّد لمفاوضات سياسية في جنيف، دخلت قوات النظام والميليشيات الإيرانية في سباق مع الوقت للسيطرة على وادي بردى لكنها صُدَّت وتكبدت خسائر كبيرة، عندئذ راح النظام يقصف منشآت المياه في عين الفيجة وتوصّل الى تعطيلها قبل يومين من إعلان اتفاق وقف النار (29/12/2016)، ليصبح حرمان دمشق من المياه ورقةً إعلاميةً في يده وذريعة لاستمراره في القتال.
قيل دائماً، ولا يزال صحيحاً، أن أي وقف لإطلاق النار وشروع في مفاوضات سياسية يشكّلان بالنسبة الى الأسد بداية النهاية حتى لو طالت. وينطبق الأمر أيضاً على إيران ونفوذها، إذ إن الترتيبات العسكرية المتداولة لهدنة دائمة تتضمّن بالضرورة سحب ميليشياتها، كما أن أي حل سياسي ترضى به المعارضة أو يُفرض عليها سيعني في حدٍّ أدنى أن سلطة الأسد لن تعود مطلقة وأن بنية نظامه ستتعرّض لاختراق، وإلّا فإنه لن يكون حلاً ولن ينهي الصراع. لا بدّ أن تدرك روسيا أن حليفيها كانا يبجّلان دورها حين كانت ترتكب التدمير الإجرامي، فإذا كفّت عنه فإنهما سيعمدان الى تدمير شامل لتخريب أي معادلة جديدة.
يتسلم دونالد ترامب غداً مفاتيح البيت الأبيض، و «يتسلم» معها شرقاً أوسط مضطرباً ومنقسماً، بل مفتتاً تنهشه الحروب ومشاريع العنف والتطرف والدويلات. لكن القادم الجديد الى رئاسة الدولة الأقوى في العالم، لا يملك فكرة واضحة عن كيفية تعامله مع بؤرة التوترات هذه، باستثناء أن لديه صديقاً واحداً هو إسرائيل وعدواً واحداً هو «الإرهاب».
هذا الاختصار السطحي لمشكلاتنا من وجهة نظره، يعني أن منطقتنا مقبلة على تطورات ليست في مصلحة تقدمها المنشود نحو الديموقراطية والاستقرار، وهو الشعار الذي رفعه الأميركيون زوراً منذ «ورثوا» الشرق الأوسط من أوروبا الكولونيالية، واعتمدته الإدارات المتعاقبة ذريعة لتبرير خيارات تدخلها فيه أو انكفائها عنه. لكن مواقف ترامب المبتسرة التي تشبه الأحاجي، تكشف رغبته في تعديل مفهوم السياسة الخارجية الأميركية وقصر دورها على مهمة رئيسة واحدة هي «مكافحة الإرهاب» الذي لا يرى في خلفية صورته سوى الإسلام والمسلمين.
ولعله سيكون في مقدم المتضررين من غموض سياسات ترامب والتباساتها ثوار سورية الذين لم يعد لهم سند كثير في العالم، بعدما تقاعس القريبون والبعيدون، باستثناء قلة، عن نجدتهم، وفضلوا التعاطي بواقعية مع موازين القوى المستجدة بعد دخول روسيا الحرب وتفاهمها مع تركيا وإيران، وهذا بالتأكيد ما دفع معظم فصائل المعارضة الى القبول بوصاية أنقرة والذهاب الى مفاوضات كازاخستان من دون شروط مسبقة.
فخلال عهد أوباما، وعلى رغم تنصل إدارته من التزام أي دعم عملي للثورة السورية، ظلت هذه الأخيرة تستفيد من دعم سياسي أميركي عام وفضفاض، لكنه كان كافياً لتوفير غطاء للدعم الذي تتلقاه من حلفائها الفعليين في المنطقة ومنحها هامشاً من المناورة. أما اليوم، فإن ما تشي به مواقف ترامب وتصريحاته وتغريداته التي تقارب السذاجة أحياناً، في شأن الأطراف الفاعلين في الأزمة السورية، يسمح باستنتاج أن الرجل يتحالف عملياً مع الذين يدافعون عن نظام بشار الأسد ويقاتلون لبقائه، ويهادنهم، حتى عندما يتخذ مواقف قد تبدو مناوئة لهم.
ولنأخذ أولاً العلاقة مع موسكو التي من المرجح أن تشهد، في انتظار انحسار سحابة تقارير وكالات الاستخبارات عن القرصنة والتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، تحسناً كبيراً قد يصل سريعاً الى حد التنسيق في سورية. وعلى رغم أن ترامب انتقد في أحاديث صحافية أخيرة الدور الروسي في حلب، إلا أن ذلك جاء متأخراً كثيراً باعترافه هو نفسه، بعدما سقطت المدينة أمام قصف الطيران الروسي واجتياح الميليشيات الإيرانية. ويبدو موقفه مجرد تصفية حسابات مع الإدارة الراحلة أكثر مما هو اهتمام بالمدينة ومصيرها، فهو لم يتطرق الى هذا الموضوع إطلاقاً خلال احتدام معركة حلب ومحاصرة المدنيين فيها، بل يستخدمه اليوم للنيل من إدارة أوباما التي يتهمها بـ «التقصير» وبأنها لم تفعل شيئاً لإنقاذ «العجائز المتعثرات اللواتي أطلقت عليهن النار وهنّ يخرجن من حلب».
ويأتي تأكيد ترامب أكثر من مرة أن تغيير نظام الأسد ليس من اهتماماته، ليناقض تماماً حملته على «الدور الإقليمي» لطهران، الداعم العسكري والمالي الرئيس لحاكم دمشق. وهنا أيضاً يقتصر «التهديد» الإيراني بالنسبة الى الرئيس الجديد على إسرائيل وحدها، علماً أن الدولة العبرية تضخم كثيراً هذا «التهديد» لاستدرار المزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية. ذلك أن مصالح طهران وتل أبيب تتقاطع في سورية ولبنان، وهما تتفقان على «ضرورة» بقاء الأسد واستمرار الهدنة في الجنوب اللبناني.
وحتى إصراره خلال حملته الانتخابية على إجراء مراجعة شاملة للاتفاق النووي مع إيران، يبدو اليوم قابلاً للتعديل لأن فرصه في إقناع الدول الخمس الأخرى التي وقّعته شبه معدومة، خصوصاً انه لم يوفر أياً من الشركاء الأوروبيين في انتقاداته التي جاء أقساها ضد المستشارة الألمانية مركل عندما لامها على استقبال النازحين السوريين.
وبالتأكيد، فإن ترامب لا يرى فارقاً بين الثوار السوريين الذين يقاتلون من أجل التغيير والديموقراطية والحق في العيش بكرامة في وطنهم، وبين إرهابيي «داعش» و «النصرة»، بل يضعهم كلهم في سلة واحدة. ولهذا يمكن للمعارضة السورية انتظار الأسوأ خلال عهده، على رغم محاولات التلطيف المتوقعة في آستانة.
توشك الأزمة السورية، بعد نحو ست سنوات على بدايتها، أن تدخل مرحلةً جديدة، مختلفة كلياً عما سبق، وهو أمرٌ يتطلب، من قوى المعارضة خصوصاً، إعادة قراءة المشهديْن، الإقليمي والدولي، والتصرّف بناء عليه، سواء فيما خصّ الوضع الميداني على الأرض، أو المسار السياسي الذي تدفع كل من روسيا وتركيا به من محطة الأستانة، على أمل أن يصل إلى جنيف. وهناك على وجه التحديد متغيران أساسيان يجب التوقف عندهما:
الأول، رحيل إدارة أوباما يوم 20 يناير/ كانون الثاني الجاري، وأخذ سياساتها معها، وهذا أمر تترتب عليه فرصٌ كما يحمل في ثناياه مخاطر. فمن جهةٍ تستعد إدارة ترامب التي جنّدت ألد أعداء إيران، وجلهم من الجنرالات، وسلمتهم أكثر المناصب حساسيةً فيها (مستشار الأمن القومي مايكل فلين، وزير الدفاع جيمس ماتيس، وزير الأمن الداخلي جون كيلي، وجميعهم مطرودون من إدارة أوباما بسبب مواقفهم المتشددة من إيران) تستعد هذه الإدارة لاتخاذ إجراءات تحد من "التغول" الإيراني في المنطقة (Roll it back)، منهيةً بذلك سنواتٍ من التفاهم الضمني بين واشنطن وطهران لمواجهة "التطرّف السني" في سورية والعراق. ويبدو واضحاً أن ترامب، إذا تمكّن من التغلب على المقاومة الشديدة التي تبديها المؤسسة الحاكمة لتوجهاته، خصوصاً الاستخبارات والبنتاغون، ينوي استبدال التنسيق غير المعلن على الأرض مع إيران بآخر معلن مع روسيا في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. لكن التنسيق الروسي-الأميركي المحتمل في سورية يحمل في ثناياه، من جهة أخرى، مخاطر جمة، اذ يرجّح أن يكون على حساب المعارضة السورية، ومكاسبها السياسية التي تحققت خلال السنوات الماضية، سواء لناحية الاعتراف الأميركي بشرعيتها، أو دعم مطالبها في انتقال سياسي وتحوّل ديمقراطي.
المتغير الثاني، والذي لا يقل أهمية، هو التقارب الروسي - التركي الذي بدأ ربيع العام الماضي، وبلغ ذروته بعد المحاولة الانقلابية الصيفية الفاشلة في تركيا. وقد أفصح هذا التقارب عن نفسه في توصّل الطرفين إلى اتفاق حلب الذي خرجت بموجبه فصائل المعارضة من المدينة، ثم في اتفاق أنقرة الذي أقرّ وقفاً لإطلاق النار، استعدادا لإحياء المسار التفاوضي من الأستانة. ويحمل هذا التقارب في ثناياه أيضاً فرصاً كما يحمل مخاطر.
من جهةٍ، تبدو روسيا وتركيا اللتان دخلتا حرب وكالة في سورية بين عامي 2011-2015، قبل أن تتحول هذه الحرب بينهما إلى تدخل عسكري مباشر (روسيا سبتمبر/ أيلول 2015 وتركيا أغسطس/ آب 2016)، مصممتين، كلٌ لغاياتها، على الدفع باتجاه حل سياسي ينهي ست سنوات من الصراع الدامي، وهو تطوّر لا يمكن وصفه إلا بالإيجابي، أخذاً بالاعتبار أن تنافس القوى الإقليمية والدولية جعل من سورية وثورتها مسرحاً للتناحر على النفوذ والسيطرة، فشرّد أهلها ودمر اقتصادها، وأحال نسيجها المجتمعي خراباً. كما أن التفاهم التركي - الروسي يعدّ بالغ الأهمية، لجهة تفويت الفرصة على محاولات تفتيت البلد، حيث تبدو واشنطن مستعدةً لمكافأة الأكراد على "تضحياتهم" في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية بإقطاعهم إقليماً على الحدود السورية - التركية، يستوجب تغييراً ديمغرافياً حتى يصبح، كما يطمح الأكراد، متصلاً جغرافياً. ومنذ بدأ التنسيق التركي - الروسي الصيف الماضي، أخذنا نشهد تراجعاً في سقف الطموحات الكردية في شمال سورية، كما تبدّى في اجتماع الرميلان للقوى الكردية، أخيراً، حيث تم، بناء على ضغط روسي، إسقاط اسم "روجافا الفيدرالية" التي تم الإعلان عنها بدعم أميركي في مارس/ آذار 2016، علماً أن روسيا نفسها كانت دعمت الأكراد السوريين بقوة، رداً على إسقاط تركيا طائرتها الحربية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015. فوق ذلك، فإن أي تقارب روسي -تركي سوف يحسم بالضرورة من حساب النفوذ الإيراني في سورية، وهذا لا يحتاج إلى تفصيل.
لكن، للتقارب التركي-الروسي مخاطر يجب الانتباه إليها أيضاً، فهناك مخاوف مشروعة من وجود تفاهمات عميقة بين الجانبين حول سورية، تبدّت منذ أغسطس/ آب الماضي، حين سمحت روسيا لتركيا بإطلاق عملية درع الفرات ضد الأكراد وتنظيم الدولة الإسلامية. ويُخشى أن تكون تركيا أخذت في المقابل تمارس ضغوطاً على المعارضة، للقبول بتسوياتٍ لا تحقق أدنى مطالبها، أو تكون بدأت باستخدام سورية ورقة لتحقيق مزيدٍ من التقارب مع روسيا. على أية حال، هذه بعض الفرص والمخاطر التي يحملها العام 2017 للقضية السورية، والتي يتوجب درسها جيداً، حتى يصار إلى تعظيم الأولى وتصفير الثانية.
هل المواجهة الأولى التي سيفتتح بها الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، حكمه ستكون مواجهته لطهران وملاليها بعد أن كان أعلن مراراً، أثناء حملته الرئاسية وبعد انتخابه رئيساً، أنه يريد نقض الاتفاق النووي معها؟ وهل تكون لهذه المواجهة الأولوية والتقديم على معالجة قضايا دولية ملحّة وساخنة وفي مقدمها الإرهاب وانفلات عمليات تنظيم الدولة في العالم، وكذا انكشاف التجسس الروسي الاستخباراتي، أم أن العملاق الصيني أهم على أجندة ترامب؟
يــنـشغل مــــستــشارو العـــلاقـــات الخارجية في فريق ترامب، ومنذ اليوم الأول لتشكيله، بإعداد السيناريوات لكيفية التعامل مع الاتفاق النووي. فبعضهم يجتهد بأنه يمكن الإبقاء على الاتفاق مع تشديد العقوبات على طهران. والبعض الآخر الأكثر تشدّداً يرى في الاتفاق ضعفاً شديداً واستسهالاً بدور الولايات المتحدة وموقفها المناهض للسياسات الإيرانية، ويطالب بإلغائه وإعادة مناقشته. إلا أن الجدل يقوم هنا حول المدة الزمنية التي انقضت على توقيعه ومدى تأثير هذا التقادم على إمكانية خلق ظروف موازيـة لتلك التي أرغمت طهران حينذاك على الرضوخ لمشيئة الولايات المتحدة والدول الراعية والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ويبدو أن الرأي المرجّح الآن يتّجه نحو تلافي أي قرار كبير وأحادي من الولايات المتحدة، على الأقل في الأيام الأولى لدخول ترامب إلى البيت الأبيض، إلى أن يستقر له الحكم، والعمل على تغيير طريقة التعامل مع الخروقات الإيرانية في ما تعلّق بالاتفاق، كاتخاذ إجراءات فورية ورادعة إذا ما تكرّر إطلاق الصواريخ الإيرانية البالستية، لا كما حدث مع إدارة باراك أوباما التي انتظرت ثلاثة شهور لتدين هذا الخرق، ولتفرض على طهران حداً أدنى من العقوبات لا يتناسب على الإطلاق مع حجم تجاوزاتها.
ويرى المستشارون أنه إثر تشديد المراقبة والعقوبات، تبدأ إدارة ترامب بالتعامل مع أذرع إيران الميليشياوية التي تمدّها في المنطقة، وتزودها بالعديد والعتاد لزعزعة استقرار الدول المجاورة.
الصقــور الجمهــوريــــون الذيـــــن يعيبون على ترامب أنه وصل إلى البيت الأبيض من خارج المؤسسة السياسية الجمهورية العريقة، ومعظمهم عارض ترشيحه عن الحزب لانتخابات الرئاسة، كانوا من المعارضين الأشداء لتلك الاتفاقية التي أبرمها سلفه باراك أوباما. وهم يرون ضرورة إعادة فتح ملفها، وإعادة التفاوض بمعايير جمهورية حازمة بهدف ربط شروطها مع توقّف إيران عن رعاية ودعم الميليشيات الطائفية وفي مقدمها حزب الله وفروعه في سورية والعراق واليمن، وكذا الكف عن تدخلاتها الإقليمية بل عدوانها المباشر على السوريين في غير موقع ومدينة، ومراجعة ملف حقوق الإنسان الذي تشوبه بقع الدم والقهر منذ اندلاع الثورة الخضراء عام 2009 حتى هذا اليوم. ويرى هؤلاء الصقور أن إدارة أوباما فوتت فرصة كبيرة في ردع نظام الملالي في حينه، ولو أنها دعمت ثورة المستنيرين الليبراليين من طلاب الجامعات والمثقفين والسياسيين الإصلاحيين، لكان الطريق أقصر بكثير لكبح جماح طهران النووي، والعقائدي التوسعي أيضاً.
فعلى رغم العقوبات الاقتصادية التي وُضعت إيران في خانتها، فإنها لم تتخلّ عن دعمها المادي والعسكري والسياسي لحزب الله في لبنان، والحشد الشعبي ومشتقاته في العراق، وعشرات الميليشيات بكافة المسمّيات والممارسات الإرهابية التي ترتقي إلى جرائم حرب في سورية، وذلك إلى جانب النظام السوري حين تهالك جيشه.
ومن المؤسف أن أوباما الذي انبنت استراتيجيته الخارجية على النأي بالنفس عن تعقيدات الشرق الأوسط إثر اندلاع ثوراته الشعبية، ثم الانعطافات التي أحدثت فجوة في هذه الحركات تسلّلت من ثغورها القوى الظلامية مدعومة بالأنظمة الاستبدادية عينها التي خرجت الثورات أصلاً على طواغيتها، كان قد دفع لطهران ما يمكننا أن نسميه مجازاً بالرشوة، وبما يعادل 700 مليون دولار شهرياً حتى تجلس إلى طاولة المفاوضات، وتوّج هذه المكرمة الشهرية بفدية دفعها نقداً وبالعملة الورقية حيث نُقل بطائرة خاصة من واشنطن إلى طهران ما قيمته 1.7 بليون دولار للإفراج عن رهائن أميركيين معتقلين في إيران. كل هذا لأن أوباما أراد أن ينهي فترة حكمه الذي بدأه بتلقي جائزة نوبل للسلام بالطريقة نفسها التي دخل بها المكتب البيضاوي، وأن يسلّم مفاتيح الشرق الأوسط الملتهب بنيران حروبه لجوقة أصحاب العمامات السود.
وأوباما الذي تمكّن ببلاغته اللفظية من إقناع المجتمع الأميركي والدولي بأهمية عقد الصفقة النووية مع إيران، وما سيكون لها من مردود مباشر وإيجابي على الأمن القومي الأميركي وأمن واستقرار دول العالم بعامة، والشرق الأوسط بشكل خاص، يغادر مخزياً بما وصل إليه الأمن والاستقرار في العالم، حيث مشاهد الموت العبثي جليّة من الموصل إلى حلب إلى باب المندب، ودورة العنف اليومي تولّد إرهاباً متوحشاً منفلتاً من عقاله، وعابراً للقارات.
يبقى أن يحدّد الرئيس الأميركي الجديد أدواته الخاصة في التعامل مع طهران، في الملف النووي تحديداً، الذي منه تنطلق كافة المسارات وإليه تتوجه السياسات الخارجية لترامب التي سيحددها بناء على معطيات ما بعد حروب الشرق الأوسط، سواء بالترغيب عن طريق «الجزرة»، كما فعل سلفه أوباما، أم برفع العصا والعودة إلى النقطة الصفر في المواجهة بين طهران وموسكو، متمثّلاً سياسات الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، لا سياسات سلفه جيمي كارتر.
تبدو مسألة إيران في سورية معقدة للغاية. ويتأتى التعقيد من الضعف العربي الداعم للوطنيين السوريين، ومن ضعف الأخيرين، وهيمنة العقلية الماقبل وطنية على أغلبية السوريين، ومن رضىً أميركي على التغلغل الإيراني في أكثر من دولة عربية. مشكلة إيران هي في غياب رؤية استراتيجية للمنطقة، تتجاوز البعد الطائفي والاعتماد على مجموعات طائفية مغلقة، تقرّ بمسألة ولي الفقيه الإيراني والطاعة له؛ هذه المجموعات محصورة في الطائفة الشيعية (والحوثيين في اليمن) ومجموعات سياسية عربية معزولة عن وسطها الاجتماعي المحيط، وتستفيد من هيمنتها على الدولة الهشّة والحروب. وبتوقف تلك الحروب، ستذوب تلك المجموعات تلقائيا، فلا الدعم الإيراني سيستمر، ولا المجتمع المحلي سيتقبلها.
سمحت الفصائل الجهادية والاحتلال الروسي للمليشيات الطائفية التابعة لإيران بتوهم إمكانية السيطرة على سورية. قبل ذلك، كان النظام وإيران وحزب الله في حالة ضعف شديدة. توهمت إيران أنها ستنافس روسيا، وربما تزيحها من سورية، حالما تندثر الثورة الشعبية. هذه محض أوهام، فمن حسم المعارك منذ نهاية 2015 في سورية هو السلاح الروسي، ولدى روسيا هذه مصالح دولية وإقليمية. ولهذا، تسمح بوجود إيراني أو تركي وسواه في سورية، عدا عن الدرس الأفغاني في الإخفاق الروسي هناك، وإمكانية أن يتكرّر الأمر ذاته، إن تورّطت برياً بشكل واسع.
ما حدث في سورية من تطورات منذ 2011، ودخول روسيا قوة احتلال، وباتفاقية طويلة الأمد مع النظام، لا يترك مجالاً للمقارنة لحسم السيطرة لصالحها، وخروج إيران من الدور المسيطر في سورية، وهذا ما يلحظ من خلال تهميشها عبر التوافقات الروسية التركية. إيران ذاتها تتّكِئ على روسيا في أكثر من مسألة إقليمية ودولية، وبالتالي، لا يمكنها معاندة روسيا بما يخصّ شكل السيطرة على سورية، أي أنّ من أكبر الأوهام الاعتقاد أن إيران يمكن أن تتبنى إستراتيجية مناهضة لروسيا في سورية، حينها ستكون إيران وحيدة أمام العالم.
لم تَسلم مدينة أو قرية سورية من الممارسات الطائفية لإيران، وانتهت كل أسطورة حزب الله حزباً مقاوماً، وتكشّف حزباً إيرانياً وشيعياً، بل تشعر غالبية السوريين ومن كل الطوائف بامتعاضٍ كبيرٍ، وترفض الممارسات الطائفية الإيرانية، والتي تبرز أفعالاً مناقضة لكل ما يخص السوريين من عادات وتقاليد وإيمان وأغانٍ وتديّن، عدا عن شعور سنّي سوري عام بأنّ إيران أذلّتهم في كل مدنهم وقراهم، ويُنهي هذا الأمر أية علاقة طبيعية في مستقبل الأيام، وليس فقط يحتّم خروجها من سورية.
لعبت إيران، عبر حزب الله وبقية المليشيات الشيعية المأمورة من حرسها الثوري، ولاحقاً تدخلت بألويةٍ منه، دوراً رئيسياً في تهجير مئات القرى من ريف القصير والقلمون وحمص وحلب وسواها؛ وقد ضاعف ذلك من حدّة الرفض الشعبي والمجتمعي ضدها. ونزعم أن الصامتين عنها والموالين للنظام سيكون لهم الشعور نفسه، حينما تبدأ العملية السياسية التي ستتضمن، بالضرورة، إخراج إيران وكلّ مليشياتها من سورية، أي سيكون السوريون "الموالون" أمام سؤال جديّ، وربما لأول مرة، لماذا سمحنا لإيران، ومن ثم روسيا، باحتلال سورية وقتل آلاف الشباب "الموالين"، ولا سيما أننا كنا نعلم أن النظام مخفقٌ، ولن يتمكّن من استعادة المدن والقرى تلك. أقصد أن نظام ولي الفقيه مرفوضٌ في إيران، وكذلك الحال في سورية. تتطلب المسألة وقتاً وسيكون العرب، وليس السوريون فحسب، رافضين وبشكل نهائي كل السياسة الإيرانية، وربما كل علاقات معها.
تصاعد الطموح الإيراني مع حقبة أوباما، مع الانكفاء الأميركي لمواجهة الصين وحل المشكلات الداخلية، وكذلك بعد انهيار العراق عبر الاحتلال الأميركي 2003، ورفض علي عبد الله صالح تسليم الحكم، وقوة الثورة الشعبية في سورية، وبسبب النظام الطائفي القوي في لبنان. استطاعت السعودية تحجيم التدخل في الخليج بفضل قواتها في البحرين، وبفضل الأهمية الحيوية لتلك المنطقة عالمياً، وأميركياً بشكل خاص. كاد هذا الطموح القديم في الوصول إلى البحر المتوسط يتحقق بفضل الانهيار الكبير للنظام العربي، ولا سيما بعد سقوط حلب، واحتمال سقوط الموصل بفضل المليشيات الطائفية المستقدمة من كل الدول.
مشكلة الطموح الإيراني في طائفيّته بالتّحديد، فهو يثير طائفيّةً مضادّةً وحروباً مستمرّة، فمشروع إيران طائفي وحربي في آن. هذا سببٌ مركزي لانهياره لاحقاً، أي أن قوته متأتيةٌ مما ذكرنا، وسيكون ضعفه لأسباب محلية وإقليمية ودولية، فهناك تغيّر في السياسة الأميركية بخصوص إيران، كما يصرّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهناك توافق روسي تركي كبير، وشعور روسي بأن إيران طامحة لتحل مكانها في سورية والشرق العربي، عدا عن الرفض العربي المتصاعد ضدها، وتسمح هذه الأسباب بالقول إن لا مكان لإيران في سورية، وربما ستحجم وجودها في اليمن والعراق ولبنان.
لن يتم تحجيم إيران بشكل جاد قبل بداية إيجاد آليات محدّدة للانتقال في سورية نحو العملية السياسية، ووضوح موقف السوريين من الوجود الروسي في سورية، وكذلك قبل مشاركة فصائل الجيش الحر في الحرب على الجهادية، أكانت "داعش" أم "فتح الشام" أم أية قوى لها الرؤية الجهادية ذاتها؛ فروسيا التي خيضت حروبٌ عنيفة ضدها في الشيشان وأفغانستان لن تقبل بأيّ حلِّ سياسيٍّ، ولن تسعى جدياً نحوه ما لم تنظف الأرض من هذه القضايا. في ذلك الحين، أعتقد أن بقاء إيران ومليشياتها، وبدءاً بحزب الله، ستتهيأ كل الشروط لرحيلهم من سورية. قبل ذلك، ستظل روسيا توظف إيران في الحرب ضد الثورة الشعبية، وضد الجهادية، وضد كل الرافضين لوجود الاحتلال الروسي لسورية.
أمر محرج أن توافق المعارضة السياسية السورية على المشاركة في مفاوضات آستانة، بعد انقلاب توازنات القوى في غير مصلحتها بفعل التدخل العسكري الروسي، وهي التي لم تكل أو تمل الحديث عن دور روسيا المناهض للثورة، وعن أن هدف قيادة الكرملين من دعواتها الى مؤتمرات ومفاوضات، بدءاً من مؤتمر موسكو إلى مؤتمر آستانة وبينهما اجتماعات جنيف وفيينا، ليس إيجاد حل حقيقي يهدئ النفوس ويرضي مطامح الناس، بل ربح مزيد من الوقت لتمكين السلطة وإضعاف المعارضة وخلق مزيد من الخلافات والانقسامات بين صفوفها، بما في ذلك إقصاء الهيئة العليا للتفاوض أو تهميشها كمقدمة لتأهيل طرف مطيع يشارك في تكريس حل سياسي جديد لا يقوم على المرجعيتين القانونية والأممية، لا سيما بيان جنيف 1 والقرار الدولي 2254.
وأمر محرج أيضاً، أن تتخذ المعارضة السياسية موقفاً مناهضاً لخطة موسكو تسوية الصراع القائم وترفض المشاركة في مؤتمر آستانة، لأن ذلك يضعها في مواجهة مع الفصائل العسكرية الموقعة على اتفاق أنقرة، ومع ميل غالبية السوريين نحو التهدئة والخلاص من استمرار العنف والتدمير وما يخلفه من معاناة وآلام، فكيف الحال وهي تدرك أن رفضها لن يقدم أو يؤخر ما دامت لا تمتلك وزناً فاعلاً على الأرض، وما دامت «ورقة الشرعية» التي أنعم بها المجتمع الدولي عليها قد تهتكت ولم تعد تجدي في تمكينها لعب دور مختلف؟ وكيف الحال وقد طاولتها انتقادات حادة وصل بعضها إلى اتهامها ونزع الثقة بها وتحميلها المسؤولية الرئيسة عما وصلت إليه أحوالنا بما في ذلك النتائج المريرة لمعركة حلب.
وكم هو محرج للمعارضة السورية حين تتزاحم بعض قياداتها على استجداء تركيا وروسيا الضامنتين اتفاق أنقرة والعملية التفاوضية، كي تحجز مكاناً لها في آستانة؟ أو عندما تقف ذليلة تراقب، بعين الحسرة، التداول بين الراعيين على اختيار رموز من صفوفها تناسب جدول أعمال المؤتمر، مكتفية بإبداء تحفظ خجول حول ما رشح عن نية موسكو دعوة ست شخصيات اختارتهم للمشاركة في المحادثات وفي المرحلة الانتقالية العتيدة، من خارج التشكيلات الرئيسة للمعارضة السياسية والهيئة العليا للتفاوض؟ وما يزيد الحرج حرجاً، أن يكون للجماعات المسلحة الموقعة على اتفاق أنقرة، دور رديف في هذا الاختيار، وفي تزكية رموز معارضة، أقرب إلى أجندتها، كي تمثلها سياسياً، والأنكى أن لهذه الجماعات لوناً أيديولوجياً وسياسياً واحداً، حتى وإن ألحقت بها بعض فصائل الجيش الحر لإعطاء المشهد بعداً أوسع، ويزيد الطين بلة ما رشح عن استعداد قيادة المعارضة لحضور مؤتمر آستانة ضمن وفد مشترك مع الفصائل العسكرية، من دون أن تنتبه إلى أن هذا الخيار يدشن نهاية دورها كطرف رئيس في المفاوضات وعملية الانتقال السياسي.
وأيضاً، كم يبدو محرجاً أن تضطر المعارضة السورية الى الصمت أحياناً وتعديل مواقفها أحياناً أخرى، كي تنال رضا الأطراف المؤثرة في مستقبل الصراع السوري. فأي معنى لصمتها المريب عن تراجع مواقف الجار التركي وقد خيّب أملها وخذلها بانتقاله إلى التفاهم مع روسيا لمحاصرة الخطر الكردي وتحصيل بعض النفوذ الإقليمي، ضارباً عرض الحائط بادعاءاته ووعوده الداعمة لها؟ وكيف يفسر استسهال تغيير خطابها تجاه التدخل الروسي من اتهامه باحتلال البلاد، إلى الاعتراف بدوره كطرف رئيس في الحل السياسي، أو تراجعها عن خطوط حمراء حول تغيير النظام ورموزه، كانت تعتبرها اشتراطات لا تنازل عنها للمشاركة في المفاوضات؟ ثم كيف يفهم اندفاعها لرهان مبالغ فيه، على خلافات بين روسيا وإيران حول مسار التسوية السورية، والبناء على اعتراضات طهران المعلنة ضد تفرد أنقرة وموسكو في ترتيبات مؤتمر آستانة، وعلى الخروقات المتكررة لحلفائها في وادي بردى؟
وما يزيد الموقف حرجاً، أن المعارضة صاحبة الكليات والإطلاقيات، ومن كانت تسخر من أية خصومة أو خلافات في الحلف الداعم للنظام وتعتبرها مجرد لعبة أو مسرحية لتبادل الأدوار، باتت هي ذاتها من يتحدث اليوم في التفاصيل والجزئيات وترى بعين، تحسبها بصيرة، دقائق الأمور والمسافات الصغيرة لتفاوت المصالح والسياسات بين قوى هذا الحلف!
ويزيد الحرج حرجاً عندما تعجز المعارضة عن تحقيق توافق مرضٍ على موقف واحد من مؤتمر آستانة، أياً يكن هذا الموقف، نتيجة اختلاف الاجتهادات وتباين الإملاءات التي يطلبها هذا الطرف الداعم أو ذاك، أو عندما تفتك ببعض قياداتها الحسابات الأنانية والضيقة، وتندفع إلى التطرف والمزايدة على الآخرين رافعة سقف الاتهامات كي تميز نفسها في المشهد السياسي، بما في ذلك استسهال المطالبة بتسعير الصراع رداً على مؤتمر آستانة ورفضاً لما تعتبره هزيمة واستسلاماً، مستهترة بما يخلفه استمرار العنف من شدة ومعاناة لقطاعات شعبية واسعة لم تعد قادرة على تحمل المزيد.
هل يكمن السبب وراء ما تعانيه المعارضة السياسية من إحراج وتردد، في حالة الحصار المطبقة على مشروع التغيير السوري وما تعرض له من غدر وأضرار وتشوهات؟ أم فشلها في الالتحام بالثورة ونيل ثقة أبنائها نتيجة أمراضها الذاتية وتغلغل النزعات والمصالح الأنانية في صفوفها؟ أم الأمر ناجم عن رهاناتها الخائبة وتراكم أخطاء قصر النظر في قراءتها الأحداث، وعجزها عن تفعيل دورها السياسي وتحمل المسؤولية لتصويب ما يكتنف مسارها من مثالب وعثرات؟!.
والحال، باتت المعارضة السورية في وضع لا تحسد عليه، وإذ يرى البعض أن دورها قد استهلك وانتهى وأن عليها الاستقالة كي لا تغدو عنواناً للخيبة والفشل والإحباط، يرى آخرون أن قدرها اليوم هو القبض على جمرات الثورة وحمايتها من العبث والتشويه والتغييب، وتسخير إنتاجها النقدي، سياسياً وثقافياً، لاستخلاص الدروس والعبر مما جرى، ما يمكّن المؤمنين بالخيار الديموقراطي خوض غمار الخلاص من محنة الاستبداد، بأقل الأخطاء والآلام.
نجحت تركيا في إدخال ملف الميليشيات التابعة لإيران في سورية إلى برنامج الحل السياسي، بعدما تم حصر الحديث عن الأجانب بأولئك الذين يقاتلون إلى جانب «داعش، في سورية، وذلك بعد تجاهل إدارة الرئيس باراك أوباما وكل مشاورات مجلس الأمن والتفاهمات السابقة لهذا الأمر. الإنجاز التركي لم يتوقف عند هذا الحد، بل ذهب إلى طرح مسألة التغييرات الديموغرافية التي تسعى إيران إلى تكريسها كأمر واقع في الشمال السوري كعائق أمام أي تعاون روسي - تركي، وهذا ما قاد روسيا إلى موقع مواجه للطموحات الإيرانية في سورية، وإلى اتخاذ اجراءات عملية في حلب بعد مرحلة من التغاضي عن ذلك.
من هنا، ازداد الحديث عن تعارض في الرؤى بين روسيا وإيران بدأ يأخذ مكانه في الميدان هذه المرة، ومن هنا انطلق الرهان على إمكان زيادة الشرخ بينهما عبر تعاون تركي أنجع وذي فائدة أكبر للوجود الروسي الطويل الأمد في سورية، بخاصة إذا تلازم مع رعاية دولية وإقليمية لحل سياسي عادل يقوم بين السوريين على غرار الطائف اللبناني.
طبعاً، إذا أحسنّا الظن، فإن روسيا بلغت مرحلة الكفاية المعنوية التي تخوّلها الانتقال الى المرحلة السياسية فعلياً، وإلى القول أن تدخلها العسكري لقي ترجمات مرضية على الأرض وأن الآلة العسكرية الروسية حققت إنجازاً فعلياً، وهذا الأهم بالنسبة الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إيران أيضاً تستطيع القول أنها شاركت روسيا الانتصار في حلب لكن يبقى عليها أن تبدي حسن نية تجاه الحل السياسي، وبالتالي فالموضوع بالنسبة الى إيران يتعلق بالقناعة لا أكثر.
ظروف إيران الداخلية مُهيّأة لبناء مثل هذه القناعة التي تقيها تداعيات مواجهة غير مُحصّنة بمواكبة روسية وازنة فيما لو وقعت الفرقة بين الطرفين، بخاصة أن طلائع الإدارة الأميركية توحي بسياسة مختلفة عن تلك التي سلكها أوباما تجاه إيران طيلة الفترة السابقة، إضافة إلى أن وجهة النظر والمقاربة الإسرائيلية لما يجري في المنطقة أخذتا تتغلغلان في إدارة الرئيس دونالد ترامب التي تبحث عن طريقة لتعويض الخسارة السياسية التي لحقت بإسرائيل نتيجة تبنّي مجلس الأمن القرار 2334 على خلفية الاستيطان غير الشرعي في الأراضي المحتلة. وهذا ما ينبئ بسياسة أميركية تحاول التوفيق بين هواجس إسرائيل ومراضاتها من جهة والتنسيق مع روسيا من جهة ثانية، إضافة إلى دور كبير يعطى لتركيا في كل سورية أو في شمالها في الحد الأدنى.
أضف إلى ذلك، أن محطة الانتخابات الرئاسية في إيران خلال أيار (مايو) المقبل بدأت تضفي سخونة على المشهد الداخلي، على رغم حرص المرشد على أن يمر هذا الاستحقاق بسلاسة، ما يؤشر إلى مرحلة من تحديد الخيارات الداخلية ينبغي أن تُقطع في ظل حد أدنى من الخسائر في السياسة الخارجية.
المشروع الروسي في سورية بدأ يجد نفسه مُنظّماً للتناقضات بين تركيا وإيران، ومُيسّراً للحوار بين الأطراف السورية. هذا طبعاً إذا افترضنا أن روسيا بدأت تبحث جدياً عن حلول للمشكلة وأن الغرب يسلّم معها في إراحة الساحة الداخلية، لكن الرهان على ذهاب روسيا إلى حد التفريط بحلفها مع إيران ربما يكون فيه شيء من المبالغة في ظل عدم حسم أردوغان وجهته نهائياً.
الثابت بالنسبة الى تركيا، تقويض مشروع الكيان الكردي وعرقلة أي تغيير يهدد المسار الذي تكرس في معاهدة لوزان الثانية عام 1923. والتحدي الأهم لها يكمن في نجاحها بتشكيل تقاطع منطقي بين مصالح كل من الحلف الأطلسي وواشنطن من جهة والمصالح الروسية في سورية من جهة ثانية، وهذا لا شك يأخذها إلى مرحلة من تطبيق الوظيفة المتفاهم عليها دولياً بعد ظهور الدور الإيراني معرقلاً للحل السياسي، وتبعثر الجهود الدولية بغياب لاعب إقليمي مقبول. تركيا تقول اليوم أنها تستطيع لعب هذا الدور التوفيقي، لكن شروط نجاحها في ذلك تتوقف أيضاً على قدرتها على تجاوز أزماتها الداخلية وظهورها بمظهر القوي، وهذا يشكل تحدياً إضافياً، إذ لحدّ الآن يندفع أردوغان نحو تعديل مسارات تقليدية راسخة في الداخل التركي كمثل الانتقال إلى النظام الرئاسي، ما يمكن أن يبدد مشهد الوحدة الوطنية التي تجلت عقب الانقلاب. أضف إلى ذلك، أن نموذج أسلمة المجتمع في تركيا بدأ يقود الى مشاعر عدائية تجاه الغرب، بخاصة عقب محاولة الانقلاب وحماية الولايات المتحدة الداعية فتح الله غولن، وهذا الأمر لا يشكل خطراً على أوروبا فحسب إنما يحمل تساؤلات تتعلق بإمكان السيطرة على مآلات هذه الوجهة.
المهم في التفاهم التركي الروسي، فيما إذا تم تحصينه بتفاهم أشمل، أنه يرسم مساراً يضمن لبوتين إقامة هادئة في المنطقة، بينما طموحات إيران المتدحرجة لا تضمن ذلك.