لافروف الذي قال إن روسيا أنقذت دمشق من السقوط أصبح موثوقا صادقا، بل وصفه أحد المنابر الثورية بأنه أنصف ثوار سوريا، تخيلوا ماهية ذلك العقل الذي يصف وزير خارجية الدولة التي قتلت آلاف السوريين بالمنصف، هو العقل الانتقائي الضحل ذاته أو (اللاعقل)، الذي يعرف أن لافروف نفسه قال قبل اربعة اشهر فقط إن «الاسد صمد، لست سنوات وبات يتمتع بشعبية أكبر بين مواطنيه».
بالنسبة لداعمي الفصائل المنخرطة بالتسوية مع النظام، فإن البحث عن تبريرات لتراجعهم عن مواجهة النظام أمام جمهور الثورة الغاضب بات هو عملهم الوحيد، خاصة ان تواجدهم مقتصر على الفضاء الإعلامي. أما في ساحة الفعل فيكاد يكون معدوما، وهكذا فإن الاعتماد على تصريحات مسؤولين روس يصبح أمرا مقبولا، حتى إن كانوا يكذبون اكثر من النظام نفسه، وحتى إن تحول الروس من اعداء للثورة الى شهود منصفين، وكأنهم لا يعرفون ان السياسة فن الكذب، وأن التصريحات السياسية هي دعاية وإعلان وشرعنة لعمل ما، فالروس أرادوا من هذا التصريح الدعاية لقوتهم العسكرية وتضخيمها، كما يعتبرونها حجة للتدخل تماما، كما اخترع الامريكييون حجة اسلحة الدمار في العراق للتدخل، عندما قدم، كولن باول في مجلس الامن عرضه الدرامي في مسرحية ملأت الدنيا كذبا..
واكثر المفارقات التي يعيشها من يعتمدون على التصريحات والأقاويل في فهم وتفسير مجريات الواقع، أنهم سيصلون لنتائج متناقضة تماما إذا اعتمدوا على التصريحات، الدعائية السياسية، فهل يمكن الاستناد إلى أن لافروف نفسه قال قبل أربعة اشهر إن الاسد صامد وشعبيته تزداد؟ أم عليهم تصديق حزب الله الذي قال احد قادته لجريدة «التايمز» إنه من أنقذ الاسد؟ أم العميد الايراني مسجدي مستشار سليماني (السفير الايراني الجديد في بغداد) الذي قال بتصريحات علنية ايضا، إن فيلق القدس أنقذ الاسد من السقوط؟ أم على تصريحات حلفائهم بالنظام السوري؟ القوى التي تتحدث باسم الثورة والتي روجت لتصريحات لافروف، تواصل سياسية الهروب من مواجهة الحقيقة، بحرف عين الجمهور عن الطرف الابرز الذي ساهم بانقاذ الاسد، وهو داعموه من الانظمة العربية.
فهذه الانظمة والفصائل المرتبطة بها كانت هدية السماء لنظام الاسد، تماما كما كانت هدية السماء للسيسي، فقد اخضعت ثوار الربيع في سوريا الذين خرجوا لاسقاط الانظمة وحولتهم لموظفين مأجورين عند عتاولة الانظمة، وروضت الاسلاميين منهم ليسيروا على درب الولايات المتحدة المعتدل، أملا بانتصار موعود على الاسد، قبل ان يسدل الستار على هذه المسرحية السمجة، بمشهد صادم ينتهي بـ»مذكرة الجلب» للاستانة، قبل ان تبدأ فصوله بطوابير المقاتلين العائدين لحضن الوطن من تلك الفصائل «المعتدلة» نفسها وهم يهتفون بالمعضمية بحياة ماهر الاسد.
وهكذا بدلا من تحميل مسؤولية الاخفاق لمن صنع ألف راية وفصيل للاكثرية السنية في سوريا، وفشل امام تحالف ايراني صنع من اقلية علوية قوة مهيمنة، تذهب التبريرات بعيدا في استغفال القارئ العربي واستغلال توقه لاي انتصارات في زمن هزائم متتالية، فيتحول السيد المنقذ الثوري لافروف لمحلل وخبير، ننتظر منه وصفا ميدانيا لواقع نزاع يفترض اننا نراقبه ونعيشه تفاصيله .
وهكذا اريد ابعاد اعين جمهور الثورة عن مكمن الداء، ليراد منهم ان يصدقوا أن الخلل لم يكن في قوى المعارضة المترهلة وداعميها المدججين بترسانات الاسلحة الصدئة، بل بقوة روسيا الساحرة التي لا يجرؤ احد على مقاومتها، تماما كما صنع هذا الجو الاسطوري لامريكا سابقا، يراد اقناعهم بقوة روسيا التي لا تملك قواتها دبابة واحدة في سوريا، ولم تشارك بكتيبة مقاتلة في معركة في سوريا ولا يزيد عدد مستشاريها عن عدة مئات.
يجب إقناع الجمهور أيضا بأن أكبر فصائل الغوطة في ريف دمشق المقرب من السعودية، الذي انشغل باعتقال قادة الثورة الاوائل في الغوطة كأبو علي خبية وغيره، وامتلأت سجونه بمئات المقاتلين من الفصائل التي قمعها في الغوطة، كجيش الأمة، في خطوة تهدف للاستبداد وليس للتوحيد، أوشك أن يحاصر أسوار العاصمة، إنه الفصيل الذي قاده اداؤه المترهل الى تجميد أكبر كتلة بشرية مقاتلة لمناطق المعارضة ونزع فتيل، اي هجوم حقيقي مؤثر على النظام منذ اواخر 2013.
رجال فصائل الغوطة، الذين احتفل انصارهم بتصريحات «منصف الثورة لافروف» ورغم انهم ولاربع سنوات ظلوا عاجزين، عن السيطرة على أي حي بدمشق وهم على تخوم ساحة العباسيين، الا انهم اقنعوا انفسهم انهم كانوا فجأة على ابواب القصر الجمهوري ولكن روسيا القيصرية تدخلت وبلحظة تاريخية لحماية دمشق، ونجحت بذلك دون اي جندي روسي مقاتل على الأرض، تماما كما اقنعوا وسائل الاعلام العربية التي روجت لهم لسنوات بساعة صفر في معركة دمشق الكبرى، التي لم نر منها إلا الصفر.
إن واقع توازنات القوى في سوريا حين تدخل الروس، تشير الى ان النظام كان يسيطر على جميع عواصم المحافظات وعقد المواصلات، عدا الرقة وادلب، وهذا لا يعني باي حال انه كان مهددا، ثم ان التدخل الروسي الجوي فور بدئه استهدف مناطق بعيدة تماما عن دمشق وهو ما يؤكد انعدام اي تهديد محيق في العاصمة، حيث شنت العمليات في ريف حلب الجنوبي وريف ادلب الجنوبي وسهل الغاب قرب اللاذقية، واستهدفت تحصين مواقع رخوة في شمال الخط الحيوي في سوريا المفيدة، واذا نظرنا لخريطة التوازنات قبل وبعد التدخل الروسي فلن نجد تغييرا كبيرا حققه التدخل العسكري الروسي، يوازي ما كان متحققا اصلا من السيطرة على مراكز اهم المدن والتكتلات السكانية في سوريا، خصوصا إذا اخذنا بالاعتبار ان حلب الشرقية كانت شبه محاصرة قبل التدخل الروسي، بعد عملية دبيب النمل التي عمل عليها النظام لاكثر من عامين، انطلاقا من خناصر والسفيرة نحو اللواء ثمانين نحو الشيخ نجار فسجن حلب المركزي. ورغم ان التدخل الجوي الروسي كان مفيدا للنظام في استعادة تلك القرى بارياف ادلب وحلب الجنوبية، إلا ان القوة التدميرية لطيران النظام كانت مستخدمة طوال الاعوام السابقة، خصوصا في ريف دمشق وحلب، وحتى مع هذه القوة الجوية الروسية، لم يتمكن النظام للان من استعادة ادلب او ريفها، بل ان المدينة المركزية الوحيدة التي استعادها النظام بعد التدخل الجوي الروسي هي تدمر، عاد وفقدها مجددا، رغم تلك القوة الجوية التي لا تمثل عاملا حاسما في حروب اهلية، كالحاصلة في سوريا .فالقوة المقاتلة الارضية تبقى العامل الابرز، ولا يملك الروس اي تواجد قتالي فاعل ضمن تلك القوات البرية التي تتوزع بين القوات النظامية والميليشيات الموالية وقوات حزب الله والميليشيات الشيعية الاخرى، وتشير ارقام القتلى في صفوف قوات النظام الى تسلسل الدور الذي لعبه كل طرف في المواجهات البرية، اضافة طبعا لخريطة توزيع القوى المسلحة الموالية للتظام على الجبهات القتالية، فعدد القتلى من الميليشيات العلوية وجنود النظام هو الاكبر بفارق يبلغ عشرات الالاف عن الطرف الثاني وهو حزب الله، ومن بعده الميليشيات العراقية والشيعية الاخرى، لذلك يمكن القول إن الطائفة العلوية المتماسكة لعبت الدور الاكبر عسكريا في دعم النظام، وعلينا الا ننسى ان مناطق الاقليات اراحت الاسد من تواجد اي قوات نظامية، كونها لم تشهد اي تمرد مسلح، بل انها تحولت بالسنوات الاخيرة لمصدر لدعم النظام في مناطقها، مشكلة دفاعا ذاتيا، فتجد ميليشيات درزية تقاتل ضد الثوار قرب القرى الدرزية بالسويداء، وميليشيات اخرى لقرى ريف حماة وحمص واللاذقية، واخرى للقرى الشيعية في نبل والزهراء وكفريا والفوعة، وهكذا فان عملية مواجهة تمرد اغلبية سنية مفككة تمت اساسا بفضل تماسك الاقلية العلوية وحلفائها من الاقليات الاخرى، بداية، ومن ثم الدعم الكبير من قوات حزب الله والميليشيات الشيعية، باشراف ودعم لوجستي ايراني، ثم القوة الروسية الجوية التي اكملت هذا التحالف المكون من كل هذه الاحزمة المترابطة بتنسيق موحد.
ويمكن القول ان النظام استفاد من التدخل الروسي في تعزيز جبهاته بعدما وصل لمرحلة لم يعد فيها قادرا اكثر على التقدم لاستعادة باقي المناطق، الا ان الدور الروسي السياسي والدبلوماسي يبقى اكثر نفعا للنظام من دور الالة العسكرية الروسية التي يجري تضخيم انجازاتها والتي لا تمثل نسبة تذكر مضافة على خريطة التوازنات قبل التدخل، ولم تكن لتحصل لولا تبعثر الفصائل، ولعل استعادة تنظيم الدولة لتدمر رغم تواجد الغطاء الجوي الروسي بل وقوات مستشارين روس ابسط مثال على ذلك، والامر ذاته ينطبق على دير الزور اليوم .
وبما ان الجمهور كثيرا ما ينسى وقليلا ما يلاحظ، فانه سيجد ان الجوقة التي روجت لساعة الصفر في معركة دمشق الكبرى، وملحمة حلب الكبرى، التي اعقبها سقوط حلب بثلاثة ايام فقط لا غير.. هي نفسها التي اطلقت مئات الاخبار المزيفة، لمحاربة وتشويه القوة الوحيدة التي ما زالت تقاتل النظام بشراسة وهي الفصائل الجهادية، ودق اسفين العداء بينهم خوفا من امتداد الطوفان الجهادي خارج سوريا، وهي نفسها الجوقة التي تعمل منذ بدء الثورة على فرض وصاية، الغرب على الثورة ونبذ اي توجه، اسلامي لها، وهي ايضا نفسها التي تغنت بعواصف الحزم التي لم تهب الا بمخليتهم ومخيلة من صدقها من الجمهور المغلوب على امره، المحاصر بعشرات المنابر الاعلامية ذات المنشأ والتمويل الواحد، رددت الدعاية، وفرضت الوصاية وهدفت لاحتكار تمثيل الثورة بيد جماعات سياسية وعسكرية خاضعة تماما للنادي الرسمي العربي.. وحولت جزءا كبيرا من، اعلام الثورة لنسخة من اعلام النظام بهزليته وانعدام مصداقيته، لانها تربت وتشربت بذهنية النظام نفسها.. فلم تنتج سوى نسخ جديدة من قناة «الدنيا» بشعارات معارضة، تقدم رواياتها سيئة الاخراج لجمهور محاصر بها، يتفاعل معها وتتفاعل معه في محيط مغلق تماما، لينطبق عليهم وصف (لا يعلمون ولا يعلمون انهم لا يعلمون) . واللافت ان هذه الابواق لا تتقن حتى فن التأليف، ولا تمتلك خيالا خصبا، وهي تحاول دائما الهروب من انتقاد النظام الرسمي العربي والقوى المرتبطة به اعلاميا وسياسيا، بحيث برمجت عقول متابعيها على ظاهرة عجيبة غريبة وهي معاتبة القتلة والشكوى من العدو.
كاتب فلسطيني من «أسرة القدس العربي»
ما ستقوله الخارجية الاميركية على طاولة المحادثات حول سوريا في أستانة بكازاخستان هذا الشهر سيكون اول إختبار خارجي لإدارة الرئيس دونالد ترامب. ومما سنسمعه على لسان من سيمثل واشنطن في محادثات استانة سيقطع الشك باليقين في شأن كل ما تردد في الاسابيع الماضية حول عزم الرئيس الخامس والاربعين للولايات المتحدة الاميركية على إحداث تغيير جذري وإيجابي في العلاقات بين البيت الابيض والكرملين، علما أن مسار العلاقات بين إدارة الرئيس الاميركي المنتهية ولايته باراك أوباما وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم تكن، وعلى مدى الثمانية أعوام التي أمضاها الرئيس أوباما، سيئة لاسيما في الملف السوري. لا بل أن اوباما خرج امس من البيت الابيض وهو متّهم بأنه تسبب بأكبر مأساة في التاريخ الحديث عندما عقد صفقة مع بوتين في أزمة إستخدام رئيس النظام السوري السلاح الكيميائي ما سمح للأخير وحلفائه بتدمير سوريا.
من يتابع سلوك طهران من بيروت الى أستانة يتبيّن ان النظام الايراني يتصرّف وكأنه خرج منتصرا من تورطه في الحرب السورية ومن إمساكه بالورقة اللبنانية منذ رحيل قوات الاسد عن لبنان عام 2005 إثر الانتفاضة العارمة في 14 آذار بعد إستشهاد الرئيس رفيق الحريري. ففي سوريا نجح رهان المرشد الايراني على بقاء الاسد في السلطة، كما نجح رهان ممثل المرشد في لبنان على وصول مرشحه الى رئاسة الجمهورية.
في إيران اليوم، تبدو سلطة ولي الفقيه علي خامنئي في أفضل أيامها. حتى أن موت خصمه رفسنجاني المفاجئ جاء ليعزز هذه السلطة التي كادت أن تتهاوى قبل أعوام في الثورة الخضراء. فمن موقع المنتصر جاء كلام وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف الاخير في مؤتمر دافوس حول نجاح التفاهم الايراني - السعودي في إنجاز الاستحقاق الرئاسي في لبنان. ومثله كلام أمين المجلس الاعلى للامن القومي الايراني علي شمخاني الذي صاغ شروط طهران بشأن مستقبل سوريا قائلا: "إما أن ترحّب السعودية وتركيا بتقسيم سوريا... وعندها لن يكونا في مأمن من التقسيم ، وإما أن يقفا في وجه هذا المخطط كما تفعل إيران".
على الارض، وبعد أعوام من التورط الايراني المباشر في سوريا وزّج الميليشيات الحليفة في الصراع السوري وفي مقدمها "حزب الله" ارتسمت فعليا خريطة ما يسمى "سوريا المفيدة". فقد تحوّل قسم من سوريا، وبعد التطهير العرقي الذي مارسته إيران وميليشياتها، ذا أقلية سنيّة. وتفيد معلومات أن طهران مصممة على إبقاء عشرات الالاف من قواتها المسلّحة ومن ميليشياتها الحليفة في نطاق هذه الخريطة ولن تتراجع عن هذا الوجود مهما تطورت المحادثات حول سوريا. وما يقال عن حسابات روسية مختلفة فهو ما زال في دائرة التكهنات. ماذا عن لبنان؟ كل المعطيات تفيد ان مشروع ضمّه الى "سوريا المفيدة" جاهز بقوة "حزب الله" التي لا تقف في وجهها أية قوّة أخرى.
في ديسمبر 2016، وبُعيد اللقاء الثلاثي في موسكو بين روسيا وتركيا وإيران، تقرّر إجلاء المدنيين والمسلحين من مدينة حلب السورية. لكنّ هذا الإجلاء وقتها، تمت عرقلته مراراً وسط تأكيدات روسية ضمنية بقيام "عناصر ميليشياوية" باعتراض تنفيذ الإجلاء الآمن كما وعدت موسكو بالاتفاق مع أنقرة. فبين النظام و"العناصر الميليشياوية غير المنضبطة" بدأت تظهر تباعاً ملامح "امتعاض" إيراني من التقارب الروسي – التركي تجلّى ظرفياً وزمنياً بخروج عناصر من النظام والميليشيات ووضعهم عراقيل لتنفيذ إجلاء المدنيين من حلب، لأنّ طهران رأت في هذا التقارب تحييداً للدور الإيراني في القرار السوري.
مصادر سورية مطلعة على تفاصيل التطورات الميدانية، أفادت بالدور الإيراني المهم في الساحة العسكرية السورية، حيث تستطيع إيران فرض أمر واقع بدون تحميلها أي مسؤولية رسمية أو توجيه أصابع اتهام بشكل فاضح لمسؤوليها في "بدلاتهم بدون كرافاتات"، حيث إن من يرتدون البدلات العسكرية غالبيتهم من الميليشيات والمرتزقة.
في حين يشارك الرسميون الإيرانيون في اجتماعات في قصور رئاسية على أنهم الطرف الرسمي الإيراني الذي يفاوض ويجتمع ويضغط، هناك تحركات للميليشيات ميدانياً في الوقت نفسه بدون أي صفة رسمية، غير المظلة الإيرانية الآمرة. وهذه المشهدية تُذكّر اللبنانيين صراحة بتجاوزات من قبل عناصر حزب الله في الداخل اللبناني، كانت تهدف لإيصال رسائل تهديدية قبل أن تنتهي بإعلان من قبل قيادة الحزب بأن "أولئك" عناصر غير منضبطة.
وهذا الدور الإيراني في المعادلة، يبقى مهماً في إنجاح أو إفشال المساعي الروسية. فمحادثات أستانا التي تبحث الشق العسكري تهدف لتثبيت وقف النار بسوريا، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، لا يمكن أن تفضي إلى أي من أهدافها بدون "هدنة"، فيما الهدنة وخرقها بيد إيران.
التقارب الروسي – التركي
تتواصل المساعي التركية - الروسية لتطبيق الاتفاق بينهما وإحقاق مفاوضات أستانا. فمن جهة، تحدثت المصادر في موسكو عن تكثيف الكرملين في الآونة الأخيرة اتصالاته لضمان إجراء مفاوضات أستانا السورية في موعدها المقرر. وفي المقابل، تعمل أنقرة على الضغط على فصائل معارضة، وفق مصادر عديدة، للموافقة على المشاركة في أستانا وفق الترتيبات المتفق عليها مع الجانب الروسي، وكانت أرسلت إلى اجتماعات الفصائل السورية رئيس جهاز الاستخبارات التركي الذي اجتمع بهم طويلا، وفي وجوده تكمن الرسالة.
من جهة تركيا، فهي تلعب دوراً هاماً في الشأن السوري بحكم الجغرافيا والسياسة في آن، واجتمعت الظروف كي تتقارب من موسكو، بالموازاة مع تباعدها عن واشنطن. فمسلسل الأحداث بين الأميركيين والأتراك بُعيد محاولة الانقلاب الفاشلة هذا الصيف في تركيا، بدأ مع رفض الولايات المتحدة تسليم فتح الله غولن إلى تركيا الذي تتهمه بتدبير محاولة الانقلاب. وهذا التوتر يسير يداً بيد، مع دعم واشنطن لأكراد سوريا وتسليحهم وتدريبهم شمال البلاد، وهو ما ترفضه تركيا التي تصنف حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية كفصائل إرهابية، وتؤكد وجود رابط بين "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة أميركيا والعمال الكردستاني.
لكن التباعد الحاصل بين واشنطن وأنقرة ترافق مع تقارب روسي – تركي، والذي بات يجمع بين القصير والسلطان ليس مرضياً.. لا واشنطن ولا لملالي إيران.
الدور الإيراني... بين روسيا وتركيا
التقارب الروسي - التركي، يفضي إلى تحييد للدور الإيراني حول محادثات أستانا، رغم وجود إيران كطرف فيها. والمحادثات المرتقبة والتي تقوم أساساً على تثبيت وقف النار بسوريا أولاً، يترافق إطارها مع خروقات بالجملة لهذا الاتفاق، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن الطرف المستفيد من خرق الهدنة. يعيدنا ذلك إلى تصريحات أدلى بها مصدر بالخارجية التركية لوكالة الأناضول، "إيران تتبع موقفاً يتلخص بكل ما يقبل به النظام السوري تقبل به طهران"، ليضيف أن "طهران غير راضية عن عملية درع الفرات، رغم محاولات البناء على قواسم مشتركة بين أنقرة وطهران منذ عام 2013. ورغم وجود تعاون بين إيران وروسيا في سوريا، إلا أن البلدين لديهما مصالح مختلفة". ويتهم الدبلوماسي التركي إيران بلعب دور مؤثر في التوتر بين العراق وتركيا، حيث إن "إيران تتبع سياسات طائفية مذكورة بدستورها" على حد تعبير الدبلوماسي التركي.
أما بالنسبة للعلاقات الإيرانية - الروسية فقد تحدثت تقارير غربية عن أن الروس وإيران تقاطعت مصالحهما لفترة لكنها عادت لتتباعد. وكانت وسائل إعلام إيرانية نقلت قبل أسبوعين تقريباً، عن محادثة بين الرئيس الإيراني حسن روحاني ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، ذكّر فيها روحاني القيصر الروسي أن اتفاق وقف النار في سوريا تم بجهود إيرانية - روسية - سورية، وهو طبعاً تهديد - مبطّن وصريح في آن يشير إلى أن إيران ستعمد لنسف الهدنة عبر الميليشيات التي تأتمر منها، إن كان هناك من أي مسعى لتهميش دورها في أي اتفاق سوري مقبل.
وخلال الشهر الحالي، كانت تصريحات في وسائل إعلام إيرانية تقول بالفم الملآن إن هناك "امتعاضاً" إيرانياً من التقارب التركي - الروسي بشأن الأزمة السورية والمترجم باتفاق وقف إطلاق النار، معتبرة ذلك "تهميشاً" للدور الإيراني، و"إضعافاً" لها وإخراجها من طاولة المحادثات والمفاوضات.
ختاماً، إيران ترى نفسها مُبعدة "سياسياً" وستعمد إلى عرقلة أستانا بوجه التوصل إلى نتائج "إيجابية" هناك. سوف تصعد عسكرياً في الميدان السوري بالموازاة مع المباحثات، لتجبر الفصائل المسلحة على اتخاذ قرار بالانسحاب من المفاوضات، تماماً كما حصل في مفاوضات جنيف. حتى ولو أن روسيا هذه المرة داخلة على خط الحل وتبحث عن دور "عراب" للأزمة وحلولها، لكن الحلف الإيراني – الروسي في وقت من الأوقات قام على تقاطع مصالح إلا أنه ليس دائماً. ونعود إلى تقارير غربية فصّلت العلاقة الإيرانية – الروسية في الشأن السوري، واعتبرت أن الروس وإيران تقاطعت مصالحهما لفترة لكنها عادت لتتباعد، حيث إن موسكو استخدمت الحل العسكري لأهداف سياسية واقتصادية وإقليمية، أما إيران فأهدافها طائفية مرتبطة بالهلال الشيعي وولاية الفقيه، وتبحث عن نفوذ عسكري في المنطقة.
لم يكن اللقاء المرتقب في أستانة خياراً سورياً، لقد أراده الروس بعد أن حققوا بالتعاون مع الفرس ما رأوه انتصاراً تاريخياً على أحياء حلب الشرقية، وتمكنوا بعد حرب ضروس من إخراج الفصائل المسلحة، ثم دعوا إلى هدنة استثنت «داعش» و«النصرة» مما جعلهم يعلنون أنهم حققوا ما عجز عنه الأميركان من فصل بين مَن يصنفونهم (إرهابيين) وبين من قبلوا أخيراً بتسميتهم معتدلين، ولا بد أن نلحظ دور تركيا في تعديل المزاج الروسي في النظر إلى الفصائل الثورية، وأن نلحظ أن الفصائل وبخاصة في الشمال تقدّر أهمية الدور التركي، وتثق بأن تركيا تحرص على مصالح السوريين، لا سيما أنها تكبّدت الكثير في موقفها السياسي الداعم للشعب السوري في ثورته، ويبدو أن روسيا بعد معركة حلب أرادت استثمار انتصارها العسكري لتبدأ مرحلة جديدة تبدو فيها وسيطاً للخروج من كونها طرفاً رئيساً في الصراع، وأرادت أن تتحاور مع الفصائل دون الهيئات والتنظيمات السياسية المعارضة، مما يجعل المحادثات ذات طابع عسكري محض، رغم ما نتوقعه من محاولة الروس إضفاء طابع سياسي عليها.
ولقد حرصنا في «الهيئة العليا للمفاوضات» على أن نتفاعل بإيجابية مع أي مبادرة توقف شلال الدم السوري، وما دامت الدعوة إلى أستانة ستبحث تعزيز الهدنة ووقف إطلاق النار فلا بد من أن ندعم وفد الفصائل، وقد أعلنَّا أننا نؤيد أي جهد دولي يسعى نحو الحل السياسي وإنهاء معاناة شعبنا، وكان إصرارنا على أن تكون مفاوضات الحل النهائي في جنيف، كي يكون الحل بإشراف الأمم المتحدة دون أن ينفرد بالقضية السورية طرف يفرض رؤيته وحدها، وأعلنَّا حرصنا على الحضور العربي وعلى حضور «مجموعة دول أصدقاء سوريا»، لأن ما نمضي إليه في رؤيتنا للحل السياسي هو ما حدده بيان «جنيف 1» وما أصدرته هيئة الأمم من قرارات كان أهمها القرار «2254» وقد جاء بمثابة خريطة طريق ترسم الحل المرتقب.
ولم تكن لدينا أي شروط، فقد كنا نطالب بما حدده هذا القرار لمرحلة (بناء الثقة) وقد تحدثنا مطولاً عن البنود 12 و13 و14 من القرار فظن بعضهم أنها شروط إضافية، وتجاهل أنها حدود وضعها مجلس الأمن لمرحلة تسبق المفاوضات وتؤسس لها، وهي البنود التي تتحدث عن ضرورة وقف إطلاق النار وفك الحصار وإدخال المساعدات الإنسانية وإطلاق سراح المعتقلين.
ما نأمله من لقاء أستانة المقبل هو البحث في هذه البنود من القرار الدولي، فإنْ تمكن الروس من تحقيق مرحلة بناء الثقة التي يرفض النظام تحقيقها فسيكون ذلك إنجازاً كبيراً يمهد لمفاوضات جادة في جولة جنيف المقبلة في شهر فبراير 2017، وربما تستطيع روسيا بذلك أن تقنع السوريين والعالم كله أنها حقاً تريد التحول من كونها طرفاً رئيساً في الصراع الدموي لصالح النظام إلى دور يبحث بجدية عن حل عادل لقضية الشعب السوري.
ومهما تفاءلنا أو تشاءمنا بما قد ينتج عن لقاء أستانة من اتفاقيات مقبولة أو مرفوضة، فإننا ندرك أن هذا اللقاء لن يحل القضية، ولن يكون النهاية. وبما أننا نتفاعل بإيجابية مع هذا اللقاء، فإننا نحرص على أن ينصبّ الاهتمام على شمولية الهدنة، فلن يشعر السوريون بوجود وقف لإطلاق النار ما دامت النيران تحرق وادي بردى ومناطق أخرى في سوريا مثل غربيّ حلب ومحافظة إدلب، ولا بد من رؤية سياسية حكيمة تجنِّب المدنيين ما يحدث من دمار في الحرب الدولية المعلنة على الإرهاب، وحسبنا أن نرى حقيقة أن المواطن البريء من شرور الإرهاب هو الذي يدفع حياته وقوداً في هذه الحرب، وما دام الجميع يبحثون عن حلول سياسية فلا بد من إيجاد حلول لإنقاذ المواطنين المهددين بالإبادة في حرب ليست حربهم، بل إنهم لو تمكنوا من مكافحة الإرهاب لكانوا أول المقاتلين ضده.
شرح المفردات :
منهج : طريق واضح - منهج الإسلام : يتَّبع في حياته مِنْهجًا قويمًا .
أخُوَّةٌ : صِلَةُ القَرَابَةِ بَيْنَ الإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ بينَهُمَا أُخُوَّةُ الرَّضَاعِ - تَرْبِطُنِي بِهِمْ أُخُوَّةٌ صَادِقَةٌ : صِلَةُ التَّضَامُنِ وَالْمَوَدَّةِ.
يفقد المصطلحين الراقيين آنفي الذكر ، معناهما وسط الركام السوري المتشكل من مليارات أطنان الأبنية و المنازل و المنشآت ، و تراكمات آلاف السنين من الايدلوجيات المتشعبة و الأفكار المتعددة ، و في الركام و التراكمات يعيش أعداد غير قابلة للاحصاء من الترهات و الشوائب و الأوساخ و القاذورات ، لتشكل في مجملها مشهد سريالياً غاية في القرف.
من بين ما ذكر "إخوة المنهج” هو مصطلح يطفو على السطح، ليشكل ظاهرة فريدة ، لم يعرفه التاريخ في السابق ، ولا يجد له تعبيرا جامعا ، و إنما كلمة لحقية بأي طرفين أو ثلاث أو عشرة يتفقون على جزئية في منهج ديني معين ، هذا ظاهراً و باطناً كلمة تستخدم للتعبير عن التقارب و التحابب ، و في ذات الوقت تمنح المتسمين باسمها “سمو” و رفعة عن المحيطين و يباتون آمرين ناهين في أدق التفاصيل بما فيها الجلباب الداخلي الذي نرتديه.
لكن هل "إخوة المنهج” منجى و دليل صدق و مصطلح حق ؟.
يفقد هذا المصطلح رونقه ، عندما نقترب من منفذيه و المجتمعين حوله ، اذ ولد هذا المصطلح في رحم السجون و عاش داخلها لعشرات السنين ، و فجأة أطل علينا و فرض سطوته ، فرضٌ لحال لم يراع ما حدث عبر تلك السنوات الطوال ، اذ يصر هذا الوليد الذي ظن أن عوده اشتد على أن الزمان لم يتغير و الحال كذلك ، اذ بقيت الأمور ذاتها منذ ادخاله السرداب و حتى خروجه منه.
اليوم و بعد أربع سنوات من صحوة “إخوة المنهج” ، تجدهم قد أوصلو “المنهج” إلى غياهب السواد ، و “الأخوة” إلى أدنى مراتب العلاقات و باتت أشد من العداوة و الحقد الدفين ، فمن خرج من هذا السجن يختلف عن ذلك الذي كان يقبع ذلك المعتقل ، وحتى داخل المعتقل أو السجن الواحد لدينا أفكار متضاربة تبعاً للزنزانة التي كان بها يقيم.
“إخوة المنهج” تدخل حيز في القتل الذاتي بعد سطوة من أراد العيش سيرة الأولين شكلاً و ليس فعلاً ، رغب بمعاصرة الصالحين كخُلق و ليس أخلاق ، وها هم اليوم بعد أن أشبعوا العالم كرهاً باتوا على أبواب أن يمنحوا بعضهم البعض “الكره” ، فلا مكان للمودة و الرحمة ، و إنما للسطلة و التمكين ، لتطبيق شكل الأولين و باطن....
عندما تدق حتى صحيفة «الغارديان» البريطانية ناقوس الخطر وتنشر حقائق فعلية وبالأدلة الدامغة عن عمليات تغيير «ديموغرافي» ليس في دمشق العاصمة وحدها وضواحيها فقط، وإنما في مناطق الحدود السورية اللبنانية، فإن هذا يعني أن ما كان أطلق عليه بشار الأسد اسم «سوريا المفيدة» أصبح عنوان استيراد المزيد من المجموعات المذهبية (الشيعية)، الإيرانية وغير الإيرانية، وإقامة «مستوطنات» لهذه المجموعات، لم يعد من غير الجائز تشبيهها بالمستوطنات الإسرائيلية، إنْ في فلسطين أو في هضبة الجولان المحتلة.
وحسب «الغارديان»، فإنه بينما تسعى روسيا إلى وقف لإطلاق النار ومصالحة سياسية بين نظام الأسد والمعارضة، فإن إيران تسعى لاستكمال مشروع سيغير البنية الاجتماعية في سوريا، وسيعزز مواقع «حزب الله» في الشمال الشرقي للبنان، وسيعزز ويقوي السيطرة الإيرانية الممتدة من طهران وحتى حدود لبنان الشرقية.. إن الإيرانيين ومعهم النظام السوري لا يريدون أي وجود للمسلمين السنّة بين دمشق وحمص والحدود اللبنانية.. وإن هذا يتطلب تغييرات سكانية «ديموغرافية» تاريخية كبيرة في هذه المناطق الممتدة من دمشق وصولاً إلى معقل الأقلية العلوية في شمال غربي الأراضي السورية.
نسبت هذه الصحيفة إلى مسؤولين لبنانيين أنهم يعتقدون أن هناك «حرقًا» متعمدًا لمكاتب تسجيل العقارات في المناطق التي يسيطر عليها نظام بشار الأسد ليصبح من الصعب على المواطنين (السنّة) إثبات ملكيتهم لعقاراتهم في الزبداني وداريا وحمص والقصير... إن أحياءً كاملة في هذه المناطق قد تم تطهيرها من سكانها الأصليين، وإن العديد من هؤلاء السكان قد مُنِعوا من العودة إلى منازلهم بذريعة عدم وجود أدلة تثبت امتلاكهم لها، وهنا فإن «الغارديان» قد نسبت إلى أحد المتابعين لكل هذه التطورات قوله: «إن هذا لا يشكل تغييرًا للتوازن الديموغرافي لسوريا فقط، وإنما أيضًا لموازين القوى في هذه المنطقة كلها».
وحقيقة أنَّ الجديد في هذا كله هو أن عمليات الاستيطان الإيراني في سوريا أصبحت تتم بكتل بشرية كبيرة وعلى غرار ما جرى أخيرًا، حيث تم توطين ثلاثمائة عائلة «شيعية» تم استيرادها من أفغانستان ومن منطقة كويتا في باكستان، في إحدى قرى ضواحي دمشق الغربية بالقرب من الحدود مع لبنان، وهذا قد تم بعدما شملت هذه القرى عمليات التطهير المستمرة بإخراج كل أهلها «السنَّة» منها، وترحيلهم بقوة السلاح إلى منطقة إدلب، تحضيرًا لمذبحة كالمذبحة التي ارتُكِبَت في مدينة حلب التاريخية.
لقد أصبح الإيرانيون، وفقًا لمخطط بات معلنًا ومعروفًا وتحدث عنه معظم قادة إيران الكبار، وعلى رأسهم مرشد الثورة علي خامنئي، يسيطرون استيطانيًا على مناطق وعقارات كثيرة في دمشق القديمة نفسها، من بينها باب توما، ومن بينها العديد من فضاءات المسجد الأموي الذي من غير المستبعد أن يأتي يوم يتم فيه هدمه كما هُدمت كثير من الحوزات والمساجد السنية في العراق على مدى الفترة منذ عام 2002 وحتى الآن!!
والآن، وإذْ يتواصل حصول هذا كله، تجب العودة إلى ذلك التحذير المبكر الذي كان أطلقه العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين في حديث لصحيفة «واشنطن بوست» الأميركية في نهايات عام 2004، عبّر فيه عن تخوفه من وصول حكومة عراقية موالية لإيران إلى السلطة في بغداد تتعاون مع طهران ودمشق لإنشاء هلال «جغرافي يكون تحت نفوذ الشيعة ويمتد إلى لبنان»... «وأن بروز مثل هذا الهلال يدعو إلى التفكير الجدي في مستقبل استقرار هذه المنطقة، وحيث إنه من الممكن أن يحمل متغيرات واضحة في خريطة المصالح السياسية والاقتصادية لبعض دولها»!!
ولعل هذا «الاستشراف» المبكر لأمور هذه المنطقة يدل على بعد نظر «استراتيجي» بالفعل، إذ إن هذا الهلال الشيعي، الذي لا يخجل كبار المسؤولين الإيرانيين من مواصلة الإعلان عنه والتغني به، بات قائمًا بالفعل، وأن طرفه الأول يبدأ باليمن، ويتجه نحو منطقة الخليج العربي والعراق، وينتهي طرفه الثاني عند ضاحية بيروت الجنوبية مرورًا بما أطلق عليه بشار الأسد اسم «سوريا المفيدة»، وصولاً إلى طرطوس وبانياس واللاذقية.
إن هذه الحقائق لم تعد خافية إلاّ على الذين يضعون أكفهم على عيونهم، ويضعون أصابعهم في آذانهم، والمفترض أن كل المعنيين بهذه الأمور قد سمعوا الولي الفقيه.. مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي يتحدث عن هذه المسألة الخطيرة بصراحة ووضوح ويعتبرها واجبًا ألزم إيران به الإمام الخميني والتزمت به أيضًا منطلقات الثورة الإيرانية، التي اعتبرها أصحابها ومنذ اللحظة الأولى في فبراير (شباط) عام 1979، ثورة عالمية متحركة وعابرة للحدود القريبة والبعيدة.
لقد اعترف قائد حرس الثورة الإيرانية الجنرال محمد علي جعفري بأن تدخل إيران في اليمن وسوريا يأتي في إطار توسع خريطة الهلال الشيعي في المنطقة... وقد ادعى، أي الجعفري، أن «نظام الهيمنة الغربي» بات يخشى من توسع هذا الهلال الشيعي في المنطقة، الذي (على حد ادعائه) «يجمع المسلمين ويوحدهم»، والمقصود بالطبع هو الشيعة في إيران وسوريا واليمن والعراق ولبنان، وهنا تجب الإشارة إلى أن هذا الكلام قد كرره قاسم سليماني أكثر من مرة وكان قد كرره أيضًا عدد من كبار المسؤولين العراقيين الغارقين في المستنقع المذهبي والطائفي حتى آذانهم، ومن بينهم نوري المالكي وهادي العامري قائد الحشد الشعبي وغيرهما من الذين ظهروا على شاشات الفضائيات في منطقتي الموصل وحلب وهم يهددون بإعادة حركة التاريخ إلى ما يسمى «معركة الطفّ» في كربلاء.
وحقيقة أن عمليات الاستيطان المذهبي هذه، التي يقوم بها الإيرانيون الآن في سوريا بتسهيل يصل إلى حد التآمر من قبل بشار الأسد نفسه، كانت قد مهدت لها ما تسمى «جمعية المرتضى» التي كان أنشأها جميل الأسد، شقيق الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، لتقوم بـ«تنصير» السنة، أي حملهم على اعتناق المذهب النصيري (العلوي) خصوصًا في بادية الشام وبادية حمص وحماه والجزيرة، بحجة أن أهل هذه المناطق كانوا على المذهب النصيري (العلوي) قبل أن تجبرهم السلطات العثمانية على اعتناق المذهب السنّي، الذي يجب أن يعودوا إليه، وكانت هذه الجمعية قد أرسلت من أجل هذه الغاية العديد من البعثات إلى قم في إيران ليدرسوا في حوزاتها على أيدي كبار «آيات الله» من المراجع الشيعية.
والآن وقد وصلت الأمور إلى كل هذا الذي وصلت إليه، وأصبحت هناك «مستوطنات» مذهبية إيرانية في سوريا بالفعل، خصوصًا في دمشق الشام وضواحيها، فإنه لا بد من أخذ هذه الأمور بجدية متناهية، ومع التأكيد هنا على أن المقصود بـ«التشيع» هو التشيع السياسي، وهو الصفوية الجديدة، وهو تشيع ولاية الفقيه؛ فالمذهب الجعفري الاثني عشري الذي هو مذهب الشيعة العرب له كل التقدير والاحترام من قبل أهل السنّة وعلمائهم، والمعروف أن هناك من اعتبره مِن كبار أئمة السلف الصالح المذهبَ الإسلامي الخامس بعد المذهب الحنفي والحنبلي والشافعي والمالكي.
ذاب الثلج وبان المرج، فإذا بواقع الفصائل المذهبية المسلحة هو النقيض المطلق لما كانت تدّعيه حول دفاعها عن الشعب السوري ضد الطغيان الأسدي. ومع أن كثيرين حذّروا الفصائل مراراً وتكراراً من العسكرة ومخاطرها، وفي مقدمها دورها في إضعاف قدرة الثورة على بلورة قيادةٍ سياسيةٍ، يلتزم القطاعان، العسكري والسياسي، بخطّها وقراراتها، فإن تحذيرات هؤلاء لم تحل دون طغيان العسكرة على السياسة، والتمذهب على مشروع الحرية، ونجاحها في إنهاك الحراك وإزالة طابعه المجتمعي والسلمي، فلا عجب إن أفضى وضعٌ هذه سماته إلى هزيمة حلب، وما ترتب عليها من حقائق منها:
أولاً، ارتهان الثورة للتنظيمات والفصائل المذهبية هو سبيل السوريين إلى الهزيمة، لأسباب بينها التناقض البنيوي بين هويتها ومشروعها وهوية الثورة ومشروعها، والقطيعة بين ممارسات فصائلها وما يتطلبه نجاح أي عمل ثوري/ وطني من برامج وخطط تكرّس لخدمة الحرية ومطالب الشعب، إن غابت، صار من المحال أن تلعب الفصائل دوراً يقطع مع بندقيتها المتمذهبة التي أخضعت المجال السياسي لفوضاها، وأسهمت في تهميشه، بدل أن تخضع هي له، وترى في السوريين شعباً واحداً، تستحق مكوناته جميعها الحماية، وليست طوائف ومذاهب وإثنيات مصطرعة مقتتلة.
ثانياً، انفكاك الحاضنة الشعبية المتسارع عن الفصائل المذهبية المتأسلمة الذي نلاحظه، خصوصاً لدى القطاع الشبابي، والذي يوجد ما يشير إلى أنه أخذ يجمع نفسه، ويتلمس سبل استعادة وحدته ورهانه الثوري الأصلي: الحرية للشعب السوري بصفته شعباً واحداً.
ثالثاً، تراجع خطاب التأسلم الفصائلي وواقعه، نتيجة هزائمه المتتابعة التي فضحت زيف وعوده بتحقيق الانتصار، ومقولاته عن الصراع السوري التي ترى فيه حرباً، هدفها انتزاع السلطة من العلويين، وإعطاؤها لأهل السنة، مثلما فضحت تناقض أيديولوجية الفصائل مع الإسلام وقيمه الإنسانية. وكشفت أخيراً ما أفضت إليه علاقاتها من قمع واضطهاد أسدي ضد مواطني المناطق التي تحكمها، وإذا كان لقادتها آذان تسمع، فلا بد أنهم سمعوا سيل الشتائم الذي انصب عليهم بعد حلب، واتهم معظمهم بالخيانة، وبأنهم اختراقات مخابراتية.
لئن كانت الفصائل المتمذهبة قد نجحت في خداع سوريين كثيرين بعض الوقت بشأن حقيقة مواقفها من قضيتهم، وأقنعتهم بأنها تقاتل دفاعاً عن الإسلام، فإن أكاذيبها انهارت تماماً خلال ما سمّته "ملحمة حلب الكبرى" وبعدها، حيث تبيّن أنها ليست إسلامية، ولو كانت كذلك، لما تطابقت نظرتها إلى الشعب وممارساتها ضده مع نظرة النظام الأسدي وممارساته، ولما تصرّف قادتها وأمراؤها، كما يتصرّف ضباط مخابراته الفاسدون والقتلة.
ثم، ماذا يمكن أصلاً أن تحقق للشعب فصائل يدّعي معظم قادتها أن سكاكينهم وسلاحهم ينفّذان إرادة الله ضد الكفرة والمرتدّين، أي الذين يرفضون نهجهم من المسلمين، ويقارنونه بنهج الرسول (ص)، الإنساني والرحماني، ويطالبونهم بالاقتداء به، إن كانوا مسلمين حقا؟ وماذا تستطيع قيادات فصائل تركها بعد حلب عدد كبير من مقاتليها أن تفعل، بعد اليوم، لإقناع الشعب بأهليتها لحمل آماله وتحقيق أهدافه؟ أسقطت حلب ورقة التوت عن عورات هؤلاء، وفضحت التناقض الكبير بين أقوالهم وأفعالهم، حتى صار من المستبعد أن يصدّقهم الآن مَن خُدع بهم البارحة، واعتبرهم المدافع الأمين عنه، فإذا بهم يسلمون حلب للنظام ويستسلمون له، من دون قتال، في عدد كبير من أحيائها، ويصعدون قبل مدنييها العزّل إلى حافلات الأسد الخضراء، ليغادروا المدينة بحماية من كانوا يعلنون، إلى ما قبل سويعات، تصميمهم على "الجهاد" ضده، إلى أن يطردوه من كل شبر في سورية، بينما كانوا يخونون كل من صعد إلى هذه الحافلات قبلهم، بمن في ذلك من تخلوا عنهم، مثل مقاتلي داريا ومواطنيها.
بسبب حلب، فقدت الفصائلية، بوصفها نمطاً من التنظيم العسكري، القليل من الصدقية العسكرية الذي كان لها، وغدت، في نظر أغلبية السوريين، مجرد حواضن للعنف والفوضى. لذلك، لن تبقى الثورة بعد حلب، إذا لم يتخلّ الشعب عن الفصائلية أداةً للصراع، ويستعيدْ، في الوقت نفسه، حراك الحرية المجتمعي والسلمي الذي صار أداتنا لإنقاذ شعبنا وثورته، وإلا كان انهيار العسكرة المتمذهبة في حلب انهياراً للثورة نفسها، وحلّت بنا الكارثة.
تلوح اليوم فرصة لاستئناف مشروع الحرية وحراكه المجتمعي، إن لم نفدْ منها فرّطنا، نحن أيضا بحقوق الشعب وثورته ووطنه. ماذا نحن فاعلون؟
«الخيارات الصعبة التي اتخذها الرئيس أوباما (بخصوص سوريا) ثبت فيما بعد أنها خيارات صحيحة، لكن هذا لا يعني أننا ننام ليلنا بشكل أفضل ونحن نعرف أن التكلفة البشرية لذلك الصراع تكلفة غير اعتيادية»… هذا ما قالته سوزان رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي في مقابلة مع قناة «أم أس أن بي سي» الأمريكية ولعلها المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول أمريكي ولو تلميحا إلى المسألة الأخلاقية في التعامل الأمريكي مع مأساة سوريا إلى درجة التطرق إلى راحة الضمير من عدمه وهو يؤوي إلى فراشه ويضع رأسه على المخدة.
ليس من عادة المسؤولين الأمريكيين، حتى وهم يغادرون مناصبهم، الخوض في قضايا سياسية شائكة بلغة الضمير الإنساني وتأرجحه بين السكينة والتأنيب، لكن ذلك لم يحل بين رايس وأن تقول وبلغة، لا عواطف فيها هذه المرة، إن «الخيار الصحيح كان عدم توريط الولايات المتحدة بشكل عسكري مباشر في الحرب الأهلية بين الأسد والمعارضة» مقرة بأن هناك من اعترض على هذه السياسة بناء على تجارب سابقة لكنها تعتقد مع ذلك بأن «ما قمنا به كان الخيار الصائب لكنه لا يخفف ما نشعر به من إحباط كبير تجاه كل تلك الخسائر الكبيرة في الأرواح».
باختصار شديد، واشنطن محرجة من هذه التكلفة الإنسانية لمأساة سوريا ولكنها تعتقد أن الأولى في الاهتمام والممارسة هو صيانة أرواح جنودها قبل أرواح السوريين أو غيرهم. يمكن الخوض طويلا في وجاهة وأخلاقية هذا النوع من القناعة التي حكمت وضبطت إيقاع سياسة أوباما في سوريا التي قادها جون كيري الذي بدا في تحركاته واتصالاته مع الروس ضعيفا ومهزوزا إلى أبعد الحـــــدود.
حين كانت رايس تدلي بكلامها هذا كان جون كيري يتحدث إلى قناة أمريكية أخرى. لم يكن في كل كلامه في برنامج «أمنبور» على شاشة «سي أن أن» أية حسرة أو قرصة ضمير، ولو خفيفة، بخصوص الملف السوري. أكثر من ذلك، هو لم ينظر إلى هذه المسألة إلا عرضا وفي سياق الحديث عن مجالات التعاون بين بلاده وروسيا التي «لم تكن سيئة وإن كانت تشوبها بعض المشاكل التي افتعلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مثل الأزمات التي شهدناها في القرم وسوريا».
وحتى في هذه الإشارة العابرة إلى سوريا لم يضع كيري إصبعه على كارثة مئات آلاف الضحايا المدنيين الأبرياء بل اكتفى بتناول الأمر من زاوية ما حققه من مكاسب في تعاونه مع روسيا التي «كانت داعمة وطرفا في الاتفاق النووي الإيراني، كما أنها كانت مع إخراج الأسلحة الكيمياوية من سوريا، وقد جلست مع نظيري سيرغي لافروف من أجل إخراج هذه الأسلحة، وتعاونا أيضا في الأمور الإنسانية في سوريا، كما كان لنا تعاون على صعيد البيئة في مؤتمر باريس».
هنا كيري لم يكتف بعدم تناول عجزه عن فعل أي شيء لإيقاف مسلسل القتل الأهوج في سوريا ، كقوة عظمى أولى في العالم، مكتفيا بسرد ما فعله بالتنسيق مع لافروف في بعض القضايا الإنسانية، وقد كانت متعثرة وبائسة هي الأخرى، لم يكتف بذلك فقط بل إنه أيضا أحجم عن الإشارة إلى ما فعلته روسيا في سوريا ولو من باب العتاب العابر والخفيف!! لا هو راجع سياسات بلده ولا حتى انتقد سياسات روسيا. روسيا التي لم تحجم عن التدخل العسكري، كما فعلت الولايات المتحدة، بل أقدمت على تدخل خشن لإنقاذ نظام متهالك هبت لنجدته أيضا إيران وكل الميليشيات الطائفية من كل أصقاع العالم بدعوى محاربة الإرهاب والتنظيمات التكفيرية. بعض الحق أريد به تبرير كل الباطل…
وقبل رايس وكيري وبعدهما، ترى ما الذي يمكن أن يقر به الرئيس أوباما نفسه بخصوص سياساته تجاه سوريا طوال هذه السنوات سواء في هذه الأيام القليلة المتبقية من حكمه أو حتى بعد أن يترك لنا خليفته الكارثة. بإمكان أي سياسي أو مراقب أن يتفهم هذه السياسة ويجد لها الأعذار على أساس أن واشنطن استخلصت الدرس جيدا من درس العراق ولا تريد أن تقع في مستنقع آخر فهي في النهاية مسؤولة أولا وقبل كل شيء عن أرواح مواطنيها قبل أية أرواح أخرى. المشكلة هنا، أنه حتى لو وافقنا هذا المنطق فإن إدارة أوباما أظهرت فشلا ذريعا حتى في مجرد اتصالاتها السياسية لإيقاف القتال في سوريا أو الحد منه أو تأمين دخول المساعدات الإنسانية أو السعي الجاد للتوصل إلى تسوية سياسية سواء كانت عبر صيغة جينيف أو من خلال ما تعده الآن موسكو وأنقرة. إنه الفشل الذريع فعلا… يغادر أوباما وبشار الأسد باق.
عديد من التساؤلات سيطرحها السوريون، وهم يتابعون نقلاً عن إحدى القنوات الفضائية مشاهد من قاعة تفاوض، سواء كانت في آستانة أو غيرها، من مثل: من هم هؤلاء الأشخاص الذين يجلسون على الجانب السوري المعارض كممثلين لهم؟ أو أين هم ممثلو المعارضة السياسية؟ أو هل ما يجري ينم عن استدارة دولية عن الثورة المدنية لصالح تنصيب فصائل المعارضة العسكرية، وإيلاء الأولوية للصراع العسكري، الذي سعى النظام، أصلاً، الى تصديره أمام الرأي العام للهرب من استحقاقات الحل السياسي، أو استحقاقات ثورة قامت لأسباب سياسية وحقوقية بالدرجة الأولى؟ هذه أسئلة مؤلمة، لكنها محقّة من جهة، وربما مجحفة من جهة أخرى!
مع ذلك، ومن الناحية المبدئية، يمكننا القول إن ثمة أهمية اليوم، وبعد كل هذه الكارثة والأثمان الباهظة المدفوعة، أن يشعر السوريون بأن وقف المقتلة السورية، من خلال تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، ممكن، وبإرادة الأطراف الفاعلة والمؤثّرة والمهيمنة على الأرض، أي أن تبدأ المفاوضات بين ممثلي الجبهات العسكرية من طرف المعارضة والداعمين لهم من جهة، وبين الحكومتين الروسية والإيرانية ومن أطلق يدهما في سورية، أي النظام السوري، على الجهة المقابلة.
كما من المهم أيضاً التذكير بأن أي فرصة متاحة لعودة الأمان للسوريين هي في الآن ذاته فرصة للثورة السورية أن تستعيد حراكها من أجل الحرية وإقامة الدولة الديموقراطية، التي تحفظ حقوق مواطنيها أفراداً وجماعات، وتنهي تغول الأمن والجيش في السياسة وفي التدخّل في حياة المواطنين. هذه الجزئيّة التي كانت سبباً مباشراً في تفجر الثورة السورية في 18 آذار (مارس) 2011.
لكن ما يجري، أو دلالة ما يتم تحضيره في مؤتمر آستانة، يشير إلى تغير المعطيات التفاوضية، إذ لم تعد المسألة اليوم تتعلق بالتنافس بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج، ولا بين هذه والمعارضة المحسوبة على النظام، إنما أضحت بين المعارضة السياسية ممثلة بـ «الائتلاف الوطني» و «الهيئة العليا للمفاوضات» من جهة، وفصائل المعارضة العسكرية من جهة أخرى.
هذا التطور الكبير ينبغي إدراك تبعاته، ليس من باب التخوين المتّبع في الحالة السورية بين الأطراف، عند انعقاد كل مؤتمر، وإنما للبحث في أسباب هذه الاستدارة الروسية المريبة، بقبول التفاوض مع أكثر الفصائل التي أوجعتها، والتي تسبّبت في خسارة النظام كثيراً من مواقعه، بعد إيقاف القصف الجوي الروسي، وخصوصاً أن موسكو بذلت جهوداً لتصنيف هذه الفصائل بـ «الإرهابية»، رافضة هي والنظام ومعارضته المحسوبة عليه، الجلوس مقابلها في جنيف. كل هذا يجعل البحث في أسباب انقلاب روسيا على ماضيها موضع شك، ولا بد للفصائل الممثلة في مؤتمر آستانة أن تبحث فيها، وأن تستفيد منها لتحقيق مكاسب ليست فقط عسكرية ولكن إنسانية وسياسية.
فهل تسعى روسيا لتشكيل ترويكا دولية تحل مكان مجموعة «أصدقاء الشعب السوري» تتألف من روسيا وإيران وتركيا، وربما تنضم اليها السعودية لاحقاً؟ وهل سينتج عن المؤتمر مجلس عسكري مشترك بين المعارضة والنظام يطيح بشكل فعلي بالمعارضة السياسية وبرموز النظام نفسه، وتكون مهمته صناعة مستقبل سورية على شاكلة ما حدث في مصر؟ ثم من هو «سيسي سورية» الذي تصنعه هذه الترويكا؟
أخيراً، هذا الواقع الجديد للفصائل المعارضة بين مؤيدة للتفاوض مع روسيا والنظام تحت الضمانة التركية، وبين رافضة للتوافقات التي أفضت إلى المؤتمر المزمع عقده في آستانة، يطرح تساؤلاً آخر يتعلق بالوظيفة التي قد تناط بهذه الفصائل لترتيب واستعادة المناطق التي تسيطر عليها الفصائل التي ترفض الدخول في ممر التفاوضات والتسويات.
قد تكون المليشيات الإيرانية مستعدة لاستمرار القتال لكن في تلك المناطق تحديداً ستكون الأكلاف باهظة على كل الأطراف، وأقل كلفة فيما لو استخدمت الفصائل السورية بعضها في مواجهة بعض، وهو الأمر الذي يجب الحذر منه وتجنبه في أي اتفاق يعقد تحت الكاميرات أو خلفها.
لهذا كله قد لا تكون روسيا اليوم أقل رغبة من السوريين في عقد مؤتمر يجمع صقور المعارضة المسلحة مع النظام، لإحداث ما يمثل انتصاراً لها، ولو ظاهرياً، من خلال مؤتمر آستانة أو غيره، في أقل وقت ممكن، وقبل تولي الإدارة الأميركية الجديدة قيادة المرحلة التي تبدو غامضة للروس أكثر من سواهم، في ظل تصريحات متناقضة ومتضاربة وفق المثل: «طاسة سخنة وطاسة باردة».
على ذلك، فالمطلوب اليوم أن تكون منصّة مفاوضات آستانة موجّهة نحو تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، وآليات مراقبته، ووضع عقوبات واضحة على من يخرقه، تطاول جميع الأطراف، وتحديداً ميليشيات إيران وتوابعها، وهذا لن يتم ما لم تقف كل فصائل المعارضة على خط جبهة واحدة، مقابل هذه الميليشيات، التي لا بد ستجتهد لخلق أسباب لخرق الهدنة، كما حدث سابقاً في حلب وريف دمشق وفي أماكن كثيرة من سورية، باعتبار أن ما تبقى من جيش النظام سيلتزم، على الأرجح، ما تقوله روسيا التي تتحكّم فعلياً به.
من جهة أخرى ستكون هذه الهدنة بمثابة فرصة لعمل مشترك بين الفصائل يشدّ بعضها إلى بعض لإقامة ما يسمى جبهة المعارضة العسكرية، والفائدة الحقيقية ربما تكون بإسباغ اللون الأخضر (علم الثورة) على منطقتها في اعتراف روسي ودولي، لخلوها من الأعلام السوداء لتنظيم «القاعدة»، في خطوة تنتزع كل حجج النظام السوري لقصف المدنيين.
من شأن مفاوضات آستانة إذاً أن تحول هزيمة حلب التي يستثمرها النظام السوري إلى نصر سياسي للمعارضة، إذا تعامل وفد المعارضة ذو الطابع المسلح بحِرَفية تجاه كل القضايا المطروحة على طاولة التفاوض الروسية ـ التركية، وفق رؤية المعارضة السياسية تجاه الحل السياسي الشامل لإعادة ترتيب أولويات المرحلة الانتقالية، التي تتوافق وأهداف الثورة السورية.
قد نقرأ أسماء لا نعرفها في وفد المعارضة، وهذه تشكّل انعطافة خطيرة أمام السوريين، لكنها قد تكون فرصتنا لتمهيد الطريق من آستانة إلى جنيف ومنها إلى دمشق ليس فيها من نظام الاستبداد إلا ملامحه الروسية.
يقول محدثي الأوروبي العائد للتو من موسكو إنه لا استراتيجية روسية واضحة للتعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة. تعتمد موسكو سياسة الحذر: «لننتظر ونرَ». إنما بشكل عام هناك ترحيب برئاسة دونالد ترامب، وتطلع إلى التعامل معه، لأن الود كان مفقودًا على كل الجبهات مع رئاسة باراك أوباما.
الاتهام بالاختراق الإلكتروني، وبأن روسيا عملت على دعم حملة ترامب، أثَّر على الشعور الإيجابي في روسيا، وبسبب المناخ المتوتر العام في أميركا شعرت موسكو بأن ترامب والمرشح لتولي وزارة الخارجية ريكس تيلرسون اضطرا إلى استعمال لغة قاسية ومتشددة. لكن يشير إلى أمر ما وقع بعدما طرد الرئيس أوباما 33 من الدبلوماسيين الروس... «جرت اتصالات سرية وطلب فريق ترامب من الرئيس فلاديمير بوتين عدم المعاملة بالمثل، والانتظار حتى يتسلم ترامب للتخلص من سلبية سياسة أوباما».
روسيا تريد تقوية مواقفها الدبلوماسية، وتأمل من ترامب شراكة عمل جيدة «من دون شيطنة بوتين واتهامه كمجرم حرب». الروس متفائلون، ومع علمهم بأنه لا يمكن توقع شيء واضح وحاسم من ترامب، فإنهم يعتقدون أن من عيَّنَهم في مناصب حساسة، مثل تيلرسون، سيتفهمون الوضع الروسي.
في هذه الأثناء تستمر اللعبة الروسية في الشرق الأوسط، خصوصًا لجهة دعم الرئيس بشار الأسد، وتدخل فيها تركيا وإيران. يقول محدثي: «هناك تركيا، وهناك الرئيس رجب طيب إردوغان. كثيرون من الأتراك لا يحبون إردوغان رغم الدعم الذي يلقاه (حزب العدالة والتنمية)، وكثيرون يريدون أن يغادر الساحة التركية».
في روسيا الوضع مختلف؛ فبوتين ليس في حال إردوغان، صحيح هناك كثيرون لا يحبون نظام الفساد، وعدم الاهتمام بتطوير البنية التحتية، ومتضايقون من ارتفاع نسبة الجريمة، إنما لا يربطون هذا ببوتين، بينما في تركيا، فإن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية والأمنية مرتبط مباشرة بإردوغان. وبسبب تدهور الوضع الاقتصادي وغياب السياح الروس تطلع إردوغان إلى بوتين فربطت بين الاثنين صداقة براغماتية.
فسر البعض هذا التوجه بمثابة ابتعاد تركيا عن أوروبا، وتكاثرت الأسئلة عن علاقة تركيا بالحلف الأطلسي، خصوصًا بعد توجيه إردوغان اتهامات للأميركيين بأنهم رعوا المحاولة الانقلابية ضده، ولم يسلموه بالتالي فتح الله غولن. ردود الفعل هذه استغلتها روسيا كثيرًا، وظلَّت تدفع بإردوغان إلى أحضانها، حتى صار يؤيد دورهم في سوريا، وأبقوا معًا الولايات المتحدة بعيدة عن الصورة. ثم لوح الروس له بـ«منظمة شانغهاي»، وهي تسويق صيني - روسي، ولا يمكن مقارنتها بالأطلسي، فأصبحت تركيا أكثر تفاعلاً مع «شانغهاي» التي تجري دولها مناورات عسكرية، وتحاول تصوير نفسها بأنها تتوازن مع الحلف الأطلسي.
لكن، كما يقول محدثي، هناك مشكلة جديدة طرأت أخيرًا مع إرسال الولايات المتحدة 3 آلاف جندي إلى بولندا و300 إلى النرويج و800 دبابة. فسرها الروس كآخر ردود فعل أوباما، وبالتالي فهم غير سعداء، لذلك علينا متابعة ما سيحل بهذا الانتشار بعدما يصير ترامب رئيسًا. قد تبقى هذه القوات، فتتعقد محادثات ترامب مع بوتين، وإذا لم يستطع ترامب تغيير الوضع، فإن تركيا سوف تستمر في علاقتها الوثيقة مع روسيا، خصوصًا أن البرلمان الأوروبي يحاول الآن عرقلة انضمامها إلى أوروبا. يشرح محدثي: «اندفع البلدان للعمل معًا، فالاثنان يزعجهما النقد الموجه لعدم احترام حقوق الإنسان، وبسبب المعتقلين السياسيين».
عام 2017 سوف تتقرب روسيا أكثر من تركيا، لأنه من المهم جدًا لموسكو أن تلقى دعم تركيا على دورها في سوريا، ولا تريد أن تتعقد العلاقات بين البلدين. بالنسبة إلى روسيا... «الأسد هو رجلنا في الشرق الأوسط»، لا زخم لديها عند دول الخليج العربي عكس الأميركيين والبريطانيين. صحيح أن لروسيا علاقة مع إيران، لكن الأخيرة ليست دولة عربية، وبنظر روسيا فإن الأسد لا يزال شابًا، ومن المهم أن تشد إلى جانبها دولة إقليمية كبرى مثل تركيا.
هناك أمر آخر، فللعلاقة الروسية - التركية امتدادات في مجال الطاقة، ومشروع إمدادات أنابيب الغاز من روسيا عبر تركيا يعطي زخمًا لروسيا على أوروبا، وأنبوب النفط التركي «ستريم» هو خيار روسي في حال تعرقلت إمدادات أنابيب الشمال بسبب معارضة بلجيكا وبولندا والسويد. ثم إن تركيا ثالث أكبر مشترٍ للغاز الروسي بما مقداره 30 مليار متر مكعب. من هنا ستظل روسيا تغري إردوغان. وأسأل محدثي الأوروبي: وهل هذا يعني السماح لتركيا بالتضحية بالأكراد؟
يجيب: روسيا ستغمض عينيها عن كل قضية داخلية، وإذا أرادت تركيا الاستمرار بمواجهة الأكراد داخلها وفي سوريا، فسيكون لها ذلك. روسيا لا تسوق الديمقراطية أو حقوق الإنسان، وسياستها الخارجية قائمة على المصالح الجيو - سياسية، في تركيا سيتركون إردوغان يفعل ما يشاء. ويضيف: ترددت شائعات في روسيا مفادها أن الأجهزة الأمنية الروسية هي التي حمت إردوغان أثناء محاولة الانقلاب، ومن هنا كان أول اتصال تلقاه من بوتين، ثم لا ننسى أن روسيا خلال توتر العلاقة مع إردوغان استعملت الأكراد ضد تركيا. «قد لا تضحي بالأكراد إنما تهمشهم».
يصل محدثي إلى إيران حيث تعرف روسيا أنه لا مفر أمام طهران من تقوية علاقتها بموسكو لتخوفها من ردود الفعل السلبية للإدارة الأميركية الجديدة تجاه الاتفاق النووي، لكن لا يستبعد محدثي أن أشخاصًا في الإدارة الجديدة مثل تيلرسون لا يريدون تغيير الاتفاق، بل المساعدة على أن تنفتح إيران على الاستثمارات الدولية وشركات النفط ثم «أن تيلرسون سوف يشجع التفاوض بين إيران والسعودية، لأن ذلك يدعم السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، كما يريد أن تكون أميركا هي من يدير الحوار بين الرياض وطهران». أسأل: وهل تعتقد أن هذا ممكن؟ يجيب: أرى عنصرًا من هذا، فتيلرسون يمثل بكل تأكيد المصالح الوطنية الأميركية، لكنه سيحاول أيضًا دعم الشركات الأميركية، خصوصًا قطاع النفط والغاز منها. هو جزء من هذه الصناعة، إنه رجل نفط، ويعرف أن هذه الصناعة ضرورية للعالم، ولا أحد يمكنه تغيير ذلك. إيران منتج كبير للنفط، ومن المؤكد أنه سيراقب المفاوضات في «أوبك»، سيحيي الدبلوماسية الاقتصادية عبر الصناعة النفطية في الشرق الأوسط.
لهذا السبب سيتعمق التعاون بين روسيا وإيران، لكن الإيرانيين لا يريدون الاعتماد كثيرًا على موسكو، «ستبقى العلاقة براغماتية».
إذن في الشرق الأوسط ستكون علاقات روسيا جيدة مع سوريا، وتركيا، وإيران وإسرائيل. يوضح: العلاقة مع إسرائيل جيدة، لكنها شراكة وليست تحالفًا استراتيجيًا، أو كعلاقة بريطانيا مع السعودية أو دول الخليج.
من جهة أخرى، هناك عقبات كثيرة تعترض تطوير علاقة روسيا بدول الخليج العربي، وأكبر عقبة هي بشار الأسد. لقد استثمر الغرب والعرب كثيرًا من رأس المال الدبلوماسي، ولا يمكن الآن أن يستديروا للاعتراف بشرعية الأسد.
يقول محدثي: «لا يمكن عودة سوريا إلى المسرح الدولي ما دام الأسد موجودًا، ثم إن إعادة الاعتراف به تعني اعترافًا بالجهود الروسية في الوقوف إلى جانب رجلها». ويستطرد: «لكن، إذا تم تشكيل حكومة جديدة والاتفاق على فترة انتقالية يغادر خلالها الأسد، فحتى ولو كان لروسيا نفوذ على الحكومة الجديدة، فإن ذلك سيغير مسار اللعبة».
إذن لا يمكن لروسيا تحسين علاقاتها الخليجية في ظل أوضاع كهذه؟ يجيب: من المستحيل تقريبًا. هي تحاول، وأول تطور يمكن أن نراقبه قيادة روسيا للدول غير الأعضاء في منظمة «أوبك» وتفاوضها مع «أوبك» من أجل تنظيم عالمي لإنتاج النفط. هذا تطور إيجابي لأن له بعدًا اقتصاديًا يعود بالمصلحة على الجميع.
وعلى المستوى الدبلوماسي، لا عودة للعلاقات الروسية ودول الخليج لما كانت عليه عندما زار ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز موسكو، التي أصبحت لاحقًا مراقبًا في المؤتمر الإسلامي، وحدث تقارب روسي - سعودي، لأنه لا يمكنني رؤية السعوديين يغيرون موقفهم من الأسد.
غدًا يصبح دونالد ترامب الرئيس الأميركي الـ45. التموضع الروسي في الشرق الأوسط، قد يتجذر أو يهتز، وهذا يعتمد على ما إذا كانت إدارة ترامب ستركز على الشرق الأقصى، أو تعاود الالتفات إلى مصالحها في الشرق الأوسط.
أصبح التحالف بين روسيا والنظامين السوري والإيراني مواجهةً مفتوحةً لن تلبث أن تظهر معالمها أكثر فأكثر. وتمرّ الأزمة السورية حالياً بأخطر مرحلة، وبصراع متصاعد بين «الحلفاء» على مَن تكون له الكلمة الأخيرة ليس فقط في تقرير مسار الأزمة وإنما في تقرير مستقبل سورية. وفيما يبدي نظام بشار الأسد وحليفه الإيراني «ممانعة» جلية في تمرير خطط روسيا، ليس واضحاً ما إذا كانت الأخيرة بلغت درجة من التمكّن (عبر إعادة تأهيل الجيش السوري وتنظيمه) لفرض إرادتها. وقد أدّى انشغالها باحتمالات وهمية لمواجهة مع الولايات المتحدة أو حتى مع تركيا، ثم بمعركة حلب لحسم الوضع شمالاً، الى تغافلها عمّا يحصل في دمشق ومحيطها، بل عمّا يحصل في حمص وحماة ودرعا. لذلك، بدا الأمر كأن الروس نفّذوا، متقصّدين أو غير متقصّدين، ما رسمه المخطط الأسدي - الإيراني، ولم يعملوا إلا في النطاق الذي حُدّد لهم. وعلى رغم أن فاعليتهم توسّعت على مستويات عدّة عسكرية وسياسية، إلا أنهم لم يتحكّموا بالحيّز الذي يحتلّه التنسيق بين النظام وإيران.
يقتضي الاستدلال الى المواجهة بين «الحلفاء» معاينة جملة تطوّرات كان أبرزها التصعيد في وادي بردى. لكن ثمة وقائع حدثت وبقيت أشبه بألغاز تحتاج الى من يفكّ رموزها، وإنْ لم تكن غامضة دائماً. لعل أبرزها الصمت الروسي المطبق إزاء عودة تنظيم «داعش» الى تدمر، بالسيناريو السابق نفسه، وبأعداد أكبر من تلك التي «اجتاحت» المدينة منتصف أيار (مايو) 2015. ففي منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي، «استعاد» التنظيم المدينة في وضح النهار ناقلاً نحو خمسين دبابة على مسافة 250 كيلومتراً مكشوفة من دون أن يتعرّض لأي إزعاج أو إعاقة، وكما في المرة السابقة هربت/ انسحبت قوات النظام المعزّزة بحضور إيراني وبوجود روسي رمزي (استخباري). وما أعاد «داعش» الى تدمر هو حاجة «ممانعة» دمشق وطهران الى خدماته، إذ كان احتلاله مدينة أثرية ذات سمعة عالمية شكّل تطوّراً حاسماً في حصر الأزمة السورية في خانة «الحرب على الإرهاب». ولأن التوجّه الروسي الى وقف النار وترتيب مفاوضات في آستانه يعيد الأزمة الى واقعها الداخلي كصراع بين نظام ومعارضة، فقد استدعى الأسد والإيرانيون «داعش» مجدّداً الى تدمر، إلا أن تكرار السيناريو المكشوف قد لا يؤدّي الى النتائج ذاتها.
تنبغي أيضاً معاينة وقائع أخرى، فما الذي استدعى أن يدمّر «داعش» معمل «حيان» للغاز في ريف حمص الشرقي الذي وصفه وزير الخارجية الكرواتي بأنه «تدمير لأكبر منشأة اقتصادية في سورية منذ اندلاع الأزمة» (كرواتيا تملك 45 في المئة من المعمل). هل نفّذ «داعش» أوامر النظام، أم اعتبر النظام أن لا عودة له الى تلك المنطقة فقرر تدمير المنشأة ليحرم أعداءه من مرفق اقتصادي مهم؟ الأكيد، أنه تخريب متعمّد من دون أي مبرّر أمني، لكن هناك مصادر تعزوه الى هاجس «ترسيم الحدود»، فالأسد يوهم المتعاطفين معه عربياً ودولياً بأنه يحارب لإبقاء سورية موحّدة، وهؤلاء المتعاطفون يصدّقونه ويتجاهلون أجندة إيران القائمة على تثبيت نفوذ دائم في سورية عبر التغيير الديموغرافي في محيط دمشق وحيثما أمكنها ذلك.
ثمة أسئلة أيضاً، ودائماً في إطار تلك المواجهة، عن التفجيرات الأخيرة سواء في كفر سوسة أو في جبلة وطرطوس، امتداداً الى المعلن/ وغير المعلن عنه من غارات إسرائيلية. لا إجابات واضحة، لكن الحدس التحليلي لدى السوريين، موالين ومعارضين، كما لدى أي شعب يشهد حرباً داخلية، يميل الى ربط الأحداث وتفسيرها أحياناً بما يقرب من «نظرية المؤامرة»، ولا يعني ذلك أنه مخطئ كليّاً. فالتفجير في جبلة هو الثاني الذي يقع خلال فترة قصيرة في موقع لا يبعد سوى كيلومترات قليلة من قاعدة حميميم الروسية، وبديهي أنه يوجّه مع تفجيرين آخرين في طرطوس رسالة الى الروس بأن أمنهم في قواعدهم يمكن أن يُهدّد من دون أن تكون طائراتهم ولا بوارجهم قادرة على الردّ. وهكذا، فإن الإرهاب الذي منع أي تدخّل دولي أو عربي مباشر في سورية يمكن أن يُستخدم حتى ضد الروس إذا اقتضت الظروف استهدافهم.
لكن في أي سياق يمكن إدراج تفجير كفرسوسة الذي قتل فيه ثمانية من عسكريي النظام، بينهم عقيد في المخابرات؟ قال إعلام النظام أنه «تفجير إرهابي» نفّذه انتحاري، لكن طبيعة المكان وعدد القتلى أبقيا ملابسات الحادث غامضة، ولم يتهم النظام أي جهة محدّدة ما يمكن أن يعني أنه ربما يشكّ في «جهة صديقة» وأن ما حصل هو تهديد مقابل تهديد. هذا يقود الى تساؤل عن الغارات الإسرائيلية المتوالية على مطار المزّة، فليست كلّها ضد شحنات سلاح مخصّصة لـ «حزب الله»، وإذا لم تكن بتنسيق مدروس مع الروس فإنها تبدو متناغمة مع ما يريده الروس من دون أن يكون هؤلاء متورّطين مباشرةً. لا يعني ذلك أن الإسرائيليين مهتمّون بوقف النار أو حريصون على نجاح السعي الروسي الى إنهاء الصراع، لكنهم وجدوا في التطوّرات الجارية ما يمنحهم فرصة لمفاقمة التباعد والخلاف بين الروس والإيرانيين. وكان لافتاً مثلاً، أن قراءات معارضين لمواقف النظام من الهدنة وشروطها في وادي بردى التقطت تأرجحاً بين تشدّد ومرونة على وقع اتصالات روسية وضربات إسرائيلية وتصلّب إيراني، إذ جاءت أفضل المبادرات للهدنة غداة ليلة طويلة من غارات إسرائيلية على مطار المزّة ومحيطه، وحملت اسم مدير مكتب الأمن القومي علي مملوك الذي سمّى فيها اللواء المتقاعد أحمد الغضبان مفاوضاً عن مقاتلي وادي بردى ومشرفاً على تنفيذ ما يُتفق عليه، ولما حضر الأخير بادر أحد ضباط النظام الى قتله في ما اعتبرته المعارضة «إعداماً ميدانياً»، وأُجهضت «المبادرة».
كان واضحاً خلال الأسابيع الأخيرة، أن النظام والإيرانيين اختاروا وادي بردى ثغرة لضرب الاتفاق الروسي - التركي على وقف شامل لإطلاق النار. كانت منطقة الوادي شهدت طوال الأعوام الماضية مناوشات، لكنها بقيت في شبه هدنة نسبية، وتحوّل مصدر إرواء دمشق في عين الفيجة ومنشآته عنصراً رادعاً للطرفين، فلا «الجيش الحرّ» يهدّده لئلا يستدرج هجوماً واسعاً عليه، ولا قوات النظام - و»حزب الله» تحديداً - تستهدفه لئلا تتسبّب بتعطيش العاصمة. غير أن هذا «الرادع» أُسقط بعد التغيير الروسي لقواعد اللعبة، غداة معركة حلب، والاتجاه الى عملية متدرّجة يُزعم أن هدفها إنهاء الصراع. إذ بدأت الهجمات على وادي بردى تتكاثف وتعنف بالتزامن مع الاجتماع الثلاثي، الروسي - التركي - الإيراني، واتضاح أن موسكو تطوّر تنسيقها مع أنقرة لتغيير وجهة الأزمة وإدارتها.
اتضح أيضاً أن وادي بردى والغوطة الدمشقية بشرقها وغربها كانا ثغرة في الدور الروسي. ففيما ضغطت موسكو للحصول على «وقف شامل لإطلاق النار» وبَنَت عليه دعوتها الى مفاوضات عسكرية في آستانه تمهّد لمفاوضات سياسية في جنيف، دخلت قوات النظام والميليشيات الإيرانية في سباق مع الوقت للسيطرة على وادي بردى لكنها صُدَّت وتكبدت خسائر كبيرة، عندئذ راح النظام يقصف منشآت المياه في عين الفيجة وتوصّل الى تعطيلها قبل يومين من إعلان اتفاق وقف النار (29/12/2016)، ليصبح حرمان دمشق من المياه ورقةً إعلاميةً في يده وذريعة لاستمراره في القتال.
قيل دائماً، ولا يزال صحيحاً، أن أي وقف لإطلاق النار وشروع في مفاوضات سياسية يشكّلان بالنسبة الى الأسد بداية النهاية حتى لو طالت. وينطبق الأمر أيضاً على إيران ونفوذها، إذ إن الترتيبات العسكرية المتداولة لهدنة دائمة تتضمّن بالضرورة سحب ميليشياتها، كما أن أي حل سياسي ترضى به المعارضة أو يُفرض عليها سيعني في حدٍّ أدنى أن سلطة الأسد لن تعود مطلقة وأن بنية نظامه ستتعرّض لاختراق، وإلّا فإنه لن يكون حلاً ولن ينهي الصراع. لا بدّ أن تدرك روسيا أن حليفيها كانا يبجّلان دورها حين كانت ترتكب التدمير الإجرامي، فإذا كفّت عنه فإنهما سيعمدان الى تدمير شامل لتخريب أي معادلة جديدة.
يتسلم دونالد ترامب غداً مفاتيح البيت الأبيض، و «يتسلم» معها شرقاً أوسط مضطرباً ومنقسماً، بل مفتتاً تنهشه الحروب ومشاريع العنف والتطرف والدويلات. لكن القادم الجديد الى رئاسة الدولة الأقوى في العالم، لا يملك فكرة واضحة عن كيفية تعامله مع بؤرة التوترات هذه، باستثناء أن لديه صديقاً واحداً هو إسرائيل وعدواً واحداً هو «الإرهاب».
هذا الاختصار السطحي لمشكلاتنا من وجهة نظره، يعني أن منطقتنا مقبلة على تطورات ليست في مصلحة تقدمها المنشود نحو الديموقراطية والاستقرار، وهو الشعار الذي رفعه الأميركيون زوراً منذ «ورثوا» الشرق الأوسط من أوروبا الكولونيالية، واعتمدته الإدارات المتعاقبة ذريعة لتبرير خيارات تدخلها فيه أو انكفائها عنه. لكن مواقف ترامب المبتسرة التي تشبه الأحاجي، تكشف رغبته في تعديل مفهوم السياسة الخارجية الأميركية وقصر دورها على مهمة رئيسة واحدة هي «مكافحة الإرهاب» الذي لا يرى في خلفية صورته سوى الإسلام والمسلمين.
ولعله سيكون في مقدم المتضررين من غموض سياسات ترامب والتباساتها ثوار سورية الذين لم يعد لهم سند كثير في العالم، بعدما تقاعس القريبون والبعيدون، باستثناء قلة، عن نجدتهم، وفضلوا التعاطي بواقعية مع موازين القوى المستجدة بعد دخول روسيا الحرب وتفاهمها مع تركيا وإيران، وهذا بالتأكيد ما دفع معظم فصائل المعارضة الى القبول بوصاية أنقرة والذهاب الى مفاوضات كازاخستان من دون شروط مسبقة.
فخلال عهد أوباما، وعلى رغم تنصل إدارته من التزام أي دعم عملي للثورة السورية، ظلت هذه الأخيرة تستفيد من دعم سياسي أميركي عام وفضفاض، لكنه كان كافياً لتوفير غطاء للدعم الذي تتلقاه من حلفائها الفعليين في المنطقة ومنحها هامشاً من المناورة. أما اليوم، فإن ما تشي به مواقف ترامب وتصريحاته وتغريداته التي تقارب السذاجة أحياناً، في شأن الأطراف الفاعلين في الأزمة السورية، يسمح باستنتاج أن الرجل يتحالف عملياً مع الذين يدافعون عن نظام بشار الأسد ويقاتلون لبقائه، ويهادنهم، حتى عندما يتخذ مواقف قد تبدو مناوئة لهم.
ولنأخذ أولاً العلاقة مع موسكو التي من المرجح أن تشهد، في انتظار انحسار سحابة تقارير وكالات الاستخبارات عن القرصنة والتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، تحسناً كبيراً قد يصل سريعاً الى حد التنسيق في سورية. وعلى رغم أن ترامب انتقد في أحاديث صحافية أخيرة الدور الروسي في حلب، إلا أن ذلك جاء متأخراً كثيراً باعترافه هو نفسه، بعدما سقطت المدينة أمام قصف الطيران الروسي واجتياح الميليشيات الإيرانية. ويبدو موقفه مجرد تصفية حسابات مع الإدارة الراحلة أكثر مما هو اهتمام بالمدينة ومصيرها، فهو لم يتطرق الى هذا الموضوع إطلاقاً خلال احتدام معركة حلب ومحاصرة المدنيين فيها، بل يستخدمه اليوم للنيل من إدارة أوباما التي يتهمها بـ «التقصير» وبأنها لم تفعل شيئاً لإنقاذ «العجائز المتعثرات اللواتي أطلقت عليهن النار وهنّ يخرجن من حلب».
ويأتي تأكيد ترامب أكثر من مرة أن تغيير نظام الأسد ليس من اهتماماته، ليناقض تماماً حملته على «الدور الإقليمي» لطهران، الداعم العسكري والمالي الرئيس لحاكم دمشق. وهنا أيضاً يقتصر «التهديد» الإيراني بالنسبة الى الرئيس الجديد على إسرائيل وحدها، علماً أن الدولة العبرية تضخم كثيراً هذا «التهديد» لاستدرار المزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية. ذلك أن مصالح طهران وتل أبيب تتقاطع في سورية ولبنان، وهما تتفقان على «ضرورة» بقاء الأسد واستمرار الهدنة في الجنوب اللبناني.
وحتى إصراره خلال حملته الانتخابية على إجراء مراجعة شاملة للاتفاق النووي مع إيران، يبدو اليوم قابلاً للتعديل لأن فرصه في إقناع الدول الخمس الأخرى التي وقّعته شبه معدومة، خصوصاً انه لم يوفر أياً من الشركاء الأوروبيين في انتقاداته التي جاء أقساها ضد المستشارة الألمانية مركل عندما لامها على استقبال النازحين السوريين.
وبالتأكيد، فإن ترامب لا يرى فارقاً بين الثوار السوريين الذين يقاتلون من أجل التغيير والديموقراطية والحق في العيش بكرامة في وطنهم، وبين إرهابيي «داعش» و «النصرة»، بل يضعهم كلهم في سلة واحدة. ولهذا يمكن للمعارضة السورية انتظار الأسوأ خلال عهده، على رغم محاولات التلطيف المتوقعة في آستانة.