كرّر بشار الأسد، في لقاءاته الإعلامية التي تكثفت أخيراً، وبطرق مختلفة، أنه مستعد للتفاوض "حول كل شيء"، ففي لقائه مع قناة تي بي إس اليابانية، قال إن وفده ذاهب إلى أستانة لوقف إطلاق النار وإيصال المساعدات، وكان قد قال، قبل أيام، في لقاء مع وكالات أنباء غربية، إنه مستعد للتفاوض حتى حول منصبه الرسمي، شرط أن يتم ذلك وفق الدستور، وإن أي تغيير دستوري يجب أن يطرح في استفتاءٍ على الشعب، فالشعب السوري وحده المخوّل بتقرير مصيره، وبالتالي دستور بلاده ورئيسها، عبر الاستفتاءات الشعبية وصناديق الاقتراع.
الرجل الذي يتحدث أمام وكالات الأنباء بلهجة المنتصر والواثق، كما علق صحفيون، بعد الانتصارات التي حققها الروس، أخيراً، في حلب، واعتبرها الخطوة الحاسمة على طريق استعادة كل الأراضي السورية من الإرهابيين، كما يحلو له أن يسمي الشعب الثائر ضده منذ بداية الحراك في سورية، سخر من المعارضة السورية، كعادته، قائلا إنه "لا يعرف من سيمثل المعارضة فيها". وتساءل: من سيكون حاضراً منها؟ وهل ستكون معارضةً سورية حقيقية؟ معتبراً أن المعارضة الحقيقية ينبغي أن يكون لها قواعد شعبية في سورية، وليست قواعد سعودية أو فرنسية أو بريطانية، وهذا هو المعيار الأساسي الذي سيعتمد عليه نجاح مؤتمر أستانة، أو قابليته للحياة كما قال.
ولعل الأكثر طرافةً في لقاءات الأسد، وتصريحه عن قبوله التفاوض حول كل شيء، هو تماماً قابليته للتفاوض حول كل شيء، بعد أن ضاع كل شيء، واستمراره طويلاً في تعنته لينتظر اللحظة التي ضاع فيها كل شيء، ويعلن أنه يقبل التفاوض على كل شيء، لعله هو ما يجعلنا غير قادرين على أن نأخذ هذا التصريح على محمل الجد، ولا ننظر إليه بأي قدر من التفاؤل. والحاجة إلى الحديث عن عدم وجود أي معارضةٍ حقيقيةٍ قادرةٍ على التفاوض كفيلٌ بردم أي فرصةٍ للأمل أو أي شيء، مع أن التكهنات، في الأيام القليلة الماضية، تحمل ما يجعله قابلا للتصديق، تماما بالدرجة نفسها التي تجعله غير قابل للتصديق.
والتكهنات التي تؤشر إليها هذه السطور هي القراءات والاستنتاجات التي امتلأت بها الصحف وشاشات التلفزة، بعد نصف الاستدارة التركية نحو روسيا، وحديث موسكو عن نياتٍ جدّية لإنهاء الصراع في سورية، والتنبؤات بخلاف روسي أميركي - إيراني مقبل على الأرض. فقد أصبحت روسيا، بعد أن أنقذت نظام الأسد من الموت مرات، المسؤول الوحيد عن الملف السوري، والمتحكّم بخيوط اللعبة، وبمصيري الأسد والمعارضة معا، ووحدها قادرة على فرض شروطها على الأسد وإرغامه على الدخول في العملية السياسية والانتقال السياسي الحقيقي، حسبما يرى بعضهم، وأيضاً على تحجيم الوجود الإيراني المتعنت حيال رحيل الأسد، حتى إن سياسيين تحدثوا عن وجود أسماء محدّدة انتقتها الإدارة الروسية بديلاً عن نظام الأسد، وبعضهم ذهب إلى أنه تم إبلاغه بذلك.
وثمّة من رأى من المحللين أن النظام الإيراني قلق جداً مما يجري، وأنه لا يمتلك أدوات الضغط الكافية لعرقلة التوجه الروسي، ويخشى من أن استمرار الأمور هكذا ربما كان مقدمةً لبلورة ملامح تفاهم روسي – أميركي على الأرض، يحدّ من النفوذ الإيراني في سورية.
قد لا يكون في وسعنا نفي أهمية الإنجازات التي حققتها روسيا لصالح النظام، وصالح حضورها الاستراتيجي والسياسي قوةً يتعاظم دورها مجدّداً، في المنطقة العربية والعالم، إلا أنه من المبكر التفاؤل بأي دور إيجابي ممكن لها لصالح تطلعات الشعب السوري بعملية انتقالية حقيقية، ترغم بشار الأسد على التفاوض على السلطة بشكل حقيقي، والتنازل عنها لرئيسٍ ينتخبه السوريون الذين يعيش معظمهم تحت خط الفقر، وحوالي نصفهم في المنافي والمخيمات، ومئات الآلاف منهم في السجون، من دون أن يرغمهم الخوف من الاعتقال مجدّدا على كتابة اسم الرئيس الذي أعلن أنه قبل بالتفاوض على كل شيء، باستثناء الأمر الوحيد الذي سفحت من أجله دماء مئات آلاف من السوريين، وشردت وهجرت بسببه ملايين العائلات، واعتقل في سبيله مئات آلاف الثائرين على امتهان الكرامة.
على الرغم من تكرار الأسد استعداده للتفاوض على كل شيء في ستة عشر لقاءً إعلامياً أجراها في أشهر قليلة أخيراً، ستبقى كرامة السوريين الشيء الوحيد الذي يستحيل أن يقبل رأس النظام السوري التفاوض حوله.
في الأيام الأخيرة، شنت إسرائيل غارات على مدينة دمشق، وعلى مطارها العسكري في المزة، ودمرت صواريخ وذخيرة وفق ما أشارت إليه وسائل إعلام محلية وأجنبية. لم تكن هذه الغارة الوحيدة، فقد سبقتها غارات واعتداءات إسرائيلية كثيرة، تعود الى زمن حافظ الأسد ولاحقاً الى عهد ابنه المستمر. كان النظام يتصرف بداية بتجاهل ما يحصل، وعندما تنكشف الأمور، يندد بالغارة كلامياً ويتوعد ويهدد، مقرناً ذلك بأنه يرفض أن تجره إسرائيل الى مكان المعركة وزمانها. على امتداد أكثر من أربعة عقود، كان السوريون ينتظرون أن ترد القوات المسلحة على الاعتداءات الإسرائيلية، وأن تظهر الدولة حرصها على الدفاع عن السيادة السورية ولو لمرة واحدة. لا يبدو أن النظام يعتبر الضربات الإسرائيلية تقع في منطق انتهاك السيادة، كما لا يبدو أن زمان ومكان الرد على العدو سيأتيان، لا سابقاً ولا راهناً ولا مستقبلاً.
من المفيد السؤال اليوم عن مدى تمتع النظام السوري بقدرته على اتخاذ القرارات المتعلقة بالحرب الأهلية وبالمفاوضات الدائرة. هل من شك في أن السيادة السورية باتت في جيب النظام الروسي ورئيسه بوتين؟ إن مجرى الحوادث الدائرة يؤكد أن القرار في السلم والحرب لم يعد يملكه بشار الأسد وحاشيته. النظام ينفذ ما يأمر به الروسي من دون سؤال أو اعتراض. صرّح وزير الخارجية الروسي لافروف مؤخراً بأن التدخل الروسي في سورية هو الذي أنقذ النظام ومنع سقوط مدينة دمشق في يد المعارضة المسلحة. التصريح ليس مفاجئاً، فكل من يتابع مجريات الحرب السورية يدرك مدى الانهيارات التي أصابت الجيش السوري ومعه الميليشيات اللبنانية والعراقية التابعة له، وكونها على وشك السقوط المريع. لكن المفاجئ أن النظام السوري وإعلامه تجاهلا كلياً هذا التصريح، كما تجاهلا تصريحات مشابهة من الرئيس الروسي نفسه. فأين تقع السيادة السورية من هذه التصريحات المهينة والمذلة عملياً للنظام ولجيشه ولميليشياته. ليس من قبيل المبالغة اعتبار سورية اليوم أشبه بمستعمرة روسية، تخضع لمنطق تعاطي الاستعمار مع الشعوب التي استولى على بلدانها. القرارات السياسية والعسكرية في يد الروس، والقواعد العسكرية الروسية تتوسع على الأراضي السورية ويجرى تسييجها باتفاقات مع النظام.
والسيادة السورية ليست مستلبة فقط من جانب روسيا، فهناك إيران التي دخلت بجيشها وميليشياتها وساعدت النظام في حربه على الشعب السوري. لا يوفر قادة إيران فرصة إلا ويعلنون فيها عن دورهم في إنقاذ النظام من السقوط. لا يراعي هؤلاء القادة الحد الأدنى من اللياقة الديبلوماسية في التعبير الفج عن دورهم وموقعهم وإصرارهم على بقاء رأس النظام مهما كان الثمن المطلوب لذلك. لم يخجل قادة الحرس الثوري من الإعلانات المتكررة بأن إيران لها الدور الكبير في القرارات المتخذة في دمشق، وأنها مصرّة على البقاء في الأراضي السورية، وتقاسم استعمار البلد مع روسيا وإن كان في شكل غير متوازن.
يبدو فقدان السيادة فاقعاً من خلال الدعوات الى المفاوضات حول سورية ومصيرها. تجرى المفاوضات وترسم القرارات في معزل عن النظام السوري. وعندما يدعى الى المفاوضات، فلا يدعى بصفته صاحب المشكلة والقرار في خيارات سورية، بل يدعى كأنه بلد مراقب، يستمع مثل غيره من الوفود الى أصحاب القرار الفعليين، وينفذ ما يُملى عليه في نهاية المطاف من دون قيد أو شرط.
إذا كان هذا حال السيادة فعلياً، فهل من مكان آخر لها؟ نعم! منطق النظام في السيادة هو في تدمير سورية وتفكيك نسيجها الاجتماعي وإجراء الجراحات الديموغرافية داخل سورية بما يؤدي الى إفراغ مناطق من سكانها وإحلال مجموعات ذات طابع مذهبي خاص. السيادة في سورية هي في رفض النظام إجراء تسويات سياسية مع قوى البلد نفسه بما يسمح بإنهاء الحرب الأهلية. في هذا المجال، يرتفع صوت النظام رافضاً الحوار تحت حجة سيادة البلد وعدم الخضوع لمنطق الإرهاب المتسبب به أصلاً.
كانت سورية تحديداً ذلك المدخل الذي أثّرت فيه تركيا في «الربيع العربي»، مثلها مثل إيران، مع أنها تأثّرت به أكثر من إيران، التي بدت، حتى الآن، عصيّة على التأثيرات الخارجية، بحكم صلابة نظامها السياسي، وطابعه الأيدلوجي، وديماغوجية شعاراته السياسية.
نستنتج من ذلك أن طبيعة النظام الديموقراطي والتعدّدي في تركيا هي التي تسمح أو تسهّل هذا التأثّر، بغض النظر عن رأينا بطبيعة ردود فعل النظام السياسي في تركيا على هذه التأثيرات، سلباً أو إيجاباً.
وفي مقارنة بين مكانتها قبل «الربيع العربي» وبعده، يمكننا ببساطة ملاحظة أن تركيا خسرت جزءاً مهماً من استثمارها السياسي لدى حكومات بل ومجتمعات العالم العربي، وذلك بسبب طبيعة تدخّلاتها في سورية، على رغم أن إيران تعتبر الخاسر الأكبر من ذلك، بحكم انكشاف طابعها الطائفي والمذهبي والأيدلوجي، ومحاباتها نظام الأسد، وحشدها الميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية الموالية لها للدفاع عن هذا النظام بكل الوسائل.
ضمن ملاحظتنا لتأثيرات «الربيع العربي»، من المدخل السوري، على تركيا، لا نتحدث فقط عن التهديدات التي أضحت تمثلها العمليات الإرهابية «الداعشية»، التي باتت تضرب بعض مدنها، فقط، ولا توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية فحسب، بل إننا نقصد، أيضاً، عودة المسألة الكردية إلى البروز، بعد أن بدا أن حزب «العدالة والتنمية» الحاكم استطاع هضمها، أو استيعابها، أو تهدئتها؛ هذا أولاً.
ثانياً، نقصد من ذلك التوتر الحاصل بين الإسلاميين والعلمانيين من قوميين أو يساريين. وثالثاً، فإن ذلك يشمل الشروخ الحاصلة بين القوى التي تعمل من أجل ترسيخ النظام الديموقراطي البرلماني، من داخل الحزب الحاكم وخارجه، والقوى التي تريد التحول نحو النظام الرئاسي؛ على نحو ما نشهد في المناقشات والتجاذبات الحاصلة في الطبقة السياسية التركية.
وكانت تركيا بدت، منذ بداية حكم حزب العدالة والتنمية (2002)، بمثابة نموذج ملهم للمجتمعات العربية، باستقرار مجتمعها، وصعودها السياسي والاقتصادي، وبقوّتها الناعمة. فهي دولة ديموقراطية، برلمانية، وهي تتمتع باقتصاد قوي (دخل الفرد 13 ألف دولار سنوياً)، مع قدرة تصديرية عالية (114 مليار دولار 78 في المئة منها من السلع المصنعة)، ناهيك عن النهضة العمرانية الكبيرة التي تشهدها.
النموذج الذي قدمته تركيا، أيضاً، يتمثل في أن فيها حزباً إسلامياً يحكم في نظام علماني، وديموقراطي، بما يفيد بمصالحة الحركات الإسلامية مع العلمانية والديموقراطية، وهذا تطور مهم، وهو النموذج الذي اعتمدته، فيما بعد، الحركات الإسلامية في المغرب العربي، لا سيما في تونس.
وفوق هذين، أي الاقتصاد والسياسة، فإن تركيا، في ظل حزبها الحاكم، كانت انتهجت سياسة تخفيف التوترات مع محيطها، وعدم التورط في المشكلات الداخلية للبلدان الأخرى، وتوطيد مكانتها لدى جيرانها عبر العلاقات التجارية والنشاطات الاستثمارية، ما عزّز جاذبيتها، بفضل قوتها الناعمة، على خلاف الدولة الإقليمية الأخرى، أي إيران، التي انتهج نظامها السياسي، منذ قيامه أواخر السبعينات، طابعاً ايدلوجياً، وسياسة «تصدير الثورة»، والتدخل في شؤون الدول الأخرى، وإنشاء ميلشيات مسلحة موالية لها.
طبعاً لا علاقة مباشرة للطابع المذهبي في الانحياز للنموذج التركي، لأن المجتمعات العربية كانت، مثلاً، تحمّست للثورة الإيرانية لدى قيامها، وناصرت «حزب الله» كحزب مقاومة، منذ عقود، أي بغض النظر عن طابعهما المذهبي. لذا يمكن تفسير هذا الانحياز بتغيّر السياسة التركية لمصلحة العالم العربي، وبنجاح نموذج حزب «العدالة والتنمية» في الحكم، وبالشبهات التي تحوم حول دور إيران في الغزو الأميركي للعراق (2003)، ناهيك عن هيمنتها عليه، وإثارتها النزعة المذهبية فيه، وفي العالم العربي، وصولاً إلى دعمها المحموم لنظام الأسد، كما قدمنا.
لكن مشكلة تركيا تكمن في أنها لم تحافظ على سياستها تلك، فهي مع ثورات «الربيع العربي» تصرّفت كدولة ذات اجندة حزبية - دينية، مثلها مثل إيران، ما بدّد مكاسبها وزعزع مكانتها. هكذا لم تستطع تركيا، بعد «الربيـع العربي» الحفاظ على المكانة التي تحققت لها بفضل نموذجها الاقتصادي والسياسي والسلمي، إذ بات طابعها الأيدلوجي يظهر في تعاملاتها الخارجية، سواء في تعاطيها مع بعض الأنظمة العربية، أو في ممالأتها بعض التيارات الإسلامية في العالم العربي، لا سيما في دعمها فـصائل عـسكريـة سوريـة من طابع معين، الأمر الذي أضعف، أيضاً، الثورة السـورية في معناها ومبناها.
وفي الحقيقة أخطأت تركيا بتدعيمها تياراً سياسياً معيّناً، في هذه الثورات، على حساب التيارات الأخرى، وبتعاملها بطريقة غير ديبلوماسية مع هذا النظام أو ذاك، وبتحالفاتها مع دول معينة على حساب أخرى.
لكن الخطأ الأكبر يتمثل ربما بتشجيعها تحول الثورة السورية ثـورة مسلحـة، بطريقة متسرّعة وغير مدروسة، وتسهيلها دخول مقاتلين أجانب إلى سورية، وتدعيمها الجماعات العسكرية المحسوبة على الإسلام السياسي المتطرف، فهذا كله أضر بثورة السوريين وبمجتمعهم، وأطال عمر النظام، وزعزع الاستقرار السياسي في تركيا ذاتها.
بغض النظر عن علاقات التأثّر والتأثير، سلباً أو أيجاباً، فإن تركيا ما زالت تبدي حيوية وقدرة فائقين على استيعاب أو تجاوز ما يحصل من أزمات أو توترات، لكن ذلك سيبقى أفضل في حال تخفّف نظامها من الانحيازات الأيدلوجية والسياسية وتعزيز علاقات المواطنة والديموقراطية، في الداخل، والاعتماد على القوة الناعمة في الخارج.
ليست المرة الأولى التي يناقض بها الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، تصريحاتٍ سابقة له، كما أنها ليست غريبة على الوسط الدبلوماسي الأميركي، إذ يغرّد كل منهم باتجاه يجعل حصيلة الجمع لهم من المعنيين في تصريحاتهم تساوي الصفر. لكن، مع ذلك، ما ألمح إليه ترامب، أخيراً، يمكن الاستنتاج منه إمكان حصول تغيّر ما في السياسة الأميركية، بعد رحيل إدارة باراك أوباما، تجاه الوضع في سورية، وتجاه التدخل الروسي فيها.
وكان ترامب وجّه نقداً لسياسات الإدارة الأميركية المنصرفة التي لم تعمل شيئاً تجاه الأزمة السورية، عندما كان هناك إمكانية لديها لعملٍ ما، بحسب تعبيره، كما اعتبر التدخل الروسي في سورية سيئاً جداً، ووصف الوضع الإنساني في مدينة حلب بأنه "فظيع".
تعد تصريحات ترامب هذه غير متوقّعة، بالنظر لآرائه التي كان أدلى بها لدى ترشّحه للرئاسة، بشأن موقفه من الصراع في سورية، وخصوصاً موقفه من روسيا. وبحسب تجربتنا السورية الطويلة مع التصريحات الصحافية الأميركية، لا ينبغي لنا الاتكاء كثيراً عليها، ونحن نضع تصورات الحل السوري المنشود، فما نجنيه من تصريح لهذا المسؤول الأميركي تذهب به ريح تصريح لمسؤول آخر، فتجربة السنوات الماضية علمتنا أن المعيار هو الموقف العملي. وفي الحقيقة، فإن تصريحات الرئيس السابق، باراك أوباما، إن "الأسد فقد شرعيته، وعليه أن يرحل"، وإن استخدام السلاح الكيماوي "خط أحمر"، لم تنفع شيئاً في دعم السوريين وحمايتهم، أو دعم ثورتهم، من الناحية العملية، ولم تشكل رادعاً مناسباً للنظام، ولا لحلفائه، إيران وروسيا الذين استباحوا سورية، أرضاً وشعباً.
ولعل هذه مناسبة للعودة إلى تصريحاتٍ أدلى بها روبرت فورد، السفير الأميركي في دمشق (2010- 2014)، أخيراً، والذي لم تسنح لي الظروف للقائه، لا قبل الثورة ولا بعدها، على الرغم من معرفته بكثيرين، بحكم عمله، وبحكم التطورات الحاصلة في سورية. وكنت أتابع تصريحاته في أثناء توليه الملف السوري، وبعد تنحيه عنه. ويعد فورد من أهم المسؤولين الأميركيين متابعةً لملفات الصراع الجاري في سورية، منذ بدايته، وهو الذي قام بزيارة إلى حماة في يوليو/ تموز 2011، إبّان الاعتصام الشهير في ساحة النواعير، وزار دوما وداريا وغيرهما من مناطق الحراك الثوري، الشعبي أو السلمي، في العاصمة دمشق، وهي الزيارات التي اعتبرت إيحاءً بدعم الولايات المتحدة الثورة، وتشجيعا للسوريين على التظاهر.
في تصريحاته تلك، والتي جرت قبيل انهيار فصائل المعارضة العسكرية في حلب، أقرّ فورد بأن تغيرات كبيرة طرأت على الصراع بين النظام والمعارضة، أهمها، أن "الإيرانيين باتوا قادرين على المجيء بآلاف المقاتلين من مليشيات في العراق أو مخيمات لاجئين للأفغان..."، معترفاً، في الوقت نفسه، أنه "عندما كان القتال بين الجيش السوري أو ما تبقى منه والمعارضة بداية، أعطت حرب الاستنزاف الأفضلية للثوار". (وهذا ما أكده وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، في 17 يناير/ كانون الثاني الجاري، باعترافه أن النظام كان على وشك الانهيار خلال أسبوعين، لولا التدخل الروسي)، إنما اليوم وبسبب التدخّل الإيراني (بحسب فورد)، فهذه الحرب في مصلحة طهران في المدى الأبعد. "ومع أن حديث فورد يوحي بالتنصّل من مسؤولية بلده عن التدخل الإيراني (ثم الروسي) في سورية، إلا أنه يوجه انتقاداتٍ خجولةً لإدارة أوباما، محملاً إياها بعض المسؤولية، في قوله: "بدلاً من ممارسة ضغوط على الحكومة العراقية، لوقف عبور طائرات التسليح الجوي الإيراني عبر أجوائها إلى سورية، تجاهلنا الأمر وغضضنا النظر... كما أن واشنطن لم تفرض عقوباتٍ على موسكو، ردّاً على ما تقوم به في سورية".
عذراً فورد، هذا كلام يمكن قبوله من دولة صغيرة ومغلوبة على أمرها، لكنه غير مقبول من الولايات المتحدة، بمكانتها وقدراتها، ورؤيتها نفسها قطباً عالمياً مهيمناً، إذ كان في وسعها الحؤول دون التدخل العسكري لإيران ثم روسيا، بطرق عديدة، غير عسكرية، كما كان بإمكانها فرض حظر جوي في سورية، أو إيجاد مناطق آمنة للسوريين، بالتعاون مع تركيا والأردن، أو تقديم الدعم لـ "الجيش الحر" بدل تجميده، داخل معسكرات في بعض دول الجوار، وترك الساحة لمبادرات بعض الدول لإيجاد فصائل مسلحة ذات أيدلوجيا متطرّفة وطائفية وإقصائية.
بيد أن ما يلفت الانتباه، وفي سياق التنصّل الأميركي من المسؤولية عن الكارثة التي ألمت بسورية، أرضاً وشعباً وعمراناً، النصائح أو التوجيهات التي ادّعى تقديمها للمعارضة. وبحسب فورد، فإنه عندما ذهب إلى اعتصام حماة، قال للمحتجين "إذا تسلحتم لن يساعدكم الغرب، ولا الجيش الأميركي، سورية...بعض الناس قالوا لي إن المعارضة السورية فهمت زيارتي حماة بأننا سندعمها مهما كلّف الأمر. وهذا لم يكن هدف الزيارة، وأنا لم أقل هذا الكلام إطلاقا". وطبعاً، هذا كلام يفترض سذاجةً عند الآخرين، وكأن زيارة سفير دولة عظمى اعتصاماً جماهيرياً هائلاً زيارة مجاملة فقط.
مع ذلك، يواصل فورد حديثه، مذكّراً بنصائحه للمعارضة بالطريقة الملتبسة إياها، بقوله: "قلنا لهم مثلاً تجنّبوا تنظيم القاعدة، إنما لم نمنحهم بديلاً. وعوضاً عن مساعدتهم في عدم التحوّل إلى القاعدة، لم نقدّم سوى الوعظ". فوق ذلك، لمح فورد إلى انتقاداتٍ وإرشاداتٍ، بخصوص طريقة خوض الفصائل العسكرية معاركها ضد النظام، على خلفية معركة حلب، بقوله: "أعتقد أننا أمام صورة مشابهة لما رأيناه في القصير في ربيع 2013، عندما حاول الثوار أن يسيطروا على مواقع يمكن محاصرتها وضربها بقوةٍ جويةٍ وبالدبابات والمدفعية، وهنا التفوّق للحكومة السورية، ما يجعل من المستحيل استمرار السيطرة على المواقع. وعلى غرار خسارة الجيش الحر في القصير، يتكرّر الأمر عينه في حلب. من هنا، سيكون على الثوار تغيير تكتيكاتهم، إذ لا يمكنهم الاستمرار في محاولة السيطرة على أراضٍ كجيش تقليدي، لأنهم ليسوا كذلك. وليس في مقدورهم التصدّي للطيران الروسي، وعليهم إعادة التفكير باستراتيجيتهم".
ولعل العبارة الأخيرة هي الأهم في كل ما تقدم به السيد فورد الذي يحاول التنصّل من مسؤولياته سفيراً سابقاً لدولة عظمى، في بلد نكّل نظامه بالشعب قتلاً وتشريداً وتعذيباً، تحت نظر العالم وسمعه، وببث مباشر أسهمت تبرعات دولته به. نعم، لا بد للسوريين من إعادة التفكير باستراتيجيتهم، معتمدين على قدراتهم الذاتية، ومنطلقين من مصلحتهم، شعباً ودولةً، لا تقبل التقسيم، وتعمل من مبدأ عدالة القسمة للمواطنين أفراداً وقوميات. أي تغير في السياسة الأميركية لصالح الشعب السوري مهم ومطلوب، بيد أن التجربة علمتنا ألا نراهن على ذلك.
بعد مجزرة حلب والتي كان للجهد العسكري الروسي والحلفاء والميليشيات المتعاونة معها دور مركزيا في نتائجها وفي تنشيط الدور السياسي للنظام السوري بعد أن وفر له الروس فرصة لالتقاط الأنفاس، يحاول النظام السوري الإيحاء بكونه قد امتلك زمام المبادرة، وهو بالتالي أضحى يتصرف بمنطق المنتصر رغم أنه مهزوم حتى الثمالة، فعملياته العسكرية المدعومة بميلشيا حزب نصر الله الإرهابي في وادي بردى والتي تهدف لإبعاد المعارضة المسلحة عن تخوم دمشق وضواحيها القريبة تأتي بعد تأكيد وزير الخارجية الروسي لافروف بأنه لولا التدخل الروسي لسقط النظام خلال أسبوعين أي أن كل الدعم الإيراني وجهود العصابات العراقية واللبنانية وغيرها لم تكن ذات جدوى ولا فاعلية والدليل هو إعادة تنظيم داعش السيطرة على مدينتي تدمر ودير الزور بكل سهولة وإيقاع خسائر كبرى بقوات النظام ومناصريه مما يؤكد تهاوي القدرة العسكرية، وقد سبق الرئيس السوري محادثات أستانة بسلسلة تصريحات للإعلام الخارجي حاول من خلالها نشر انطباع بامتلاكه للقدرة الاستراتيجية، ولكنه بالمقابل أوضح علنا بأنه يعتبر المعارضة جماعات إرهابية أي أنه ليس على استعداد لمناقشة أي شيء سوى استسلام المعارضة، وهو موقف مثير للسخرية، خصوصا وأن رئيس الوفد السوري الحكومي المفاوض هو بشار الجعفري المعروف بصلفه وعنجهيته وعدم امتلاكه لأي قرار؟ أي أنه يذهب للتفاوض لتزجية الوقت فقط، فالنظام ليس جادا في تبني أي حلول تنهي الاستبداد والدمار، بل يحاول اللعب على الوقت من أجل محاولة إعادة التسويق والطلاء وتلك مهمة مستحيلة، النظام غير جاد وساحة الصراع المفتوحة وحدها من تحدد المصير السوري.
حتى لو قرر الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترمب، أن يبني الجدران مع جيرانه، ويطرد عشرة ملايين مقيم غير شرعي في بلاده، ويمتنع عن مدّ حمايته لأوروبا وجنوب شرقي آسيا وحلفائه في منطقة الشرق الأوسط، فإننا لن نقلق كثيرًا لأن سياسة الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما بلغت من السوء، ما يجعل ترمب مقبولا مهما فعل أو لم يفعل في منطقتنا.
حتى لو هادن ترمب إيران، وأيّد بقاء نظام الأسد في سوريا، وامتنع عن مدّ يد العون لملايين المشردين واللاجئين، وسكت على التمدد الروسي، فإن هذه كلها حدثت في عهد أوباما.
لقد انتشر الإرهاب في أنحاء العالم، ضرب أكثر من عشر مدن أوروبية، بدرجة لم يتخيلها أحد، نتيجة سياسة اللامبالاة التي تبنتها الإدارة السابقة. ودبّت الفوضى في سبع دول عربية، وكانت سياستها تشجع عليها في كل أزمة. وعندما قامت الثورة في ليبيا جلس متفرجًا حتى انتشر «داعش» والقوى الإرهابية وقتلا السفير الأميركي. وفي مصر دفعت سياسة أوباما الجيش لإقصاء الرئيس حسني مبارك باسم دعم الثورة، ثم تركها للفوضى التي تسببت في التدخل العسكري. وفي اليمن أصرّ على التغيير الديمقراطي، ثم تخلّى عن دعمه وترك المتمردين بقوة السلاح يستولون على السلطة. وكان موقفه في البحرين لا يقل سوءًا حيث حاول تأييد المعارضة وفرضها لولا أن الدول الخليجية قطعت الطريق عليه، فأرسلت قواتها إلى هناك. وفي العراق سحب أوباما آخر ما تبقى من قوته العسكرية، وكانت رمزية وتمثل جزءًا مهمًا من التفاهمات مع الدولة العراقية. ترك هذا البلد الاستراتيجي فريسة للإيرانيين وتنظيم داعش الإرهابي. أما سوريا فإنها كانت أسوأ كارثة مرّت في عهد أوباما، وفي تاريخ المنطقة منذ أكثر من نصف قرن. وكان لتردده ووعوده المضللة، دور ساعد على زيادة التدمير والقتل والتشريد الذي عاشه الشعب السوري. اتضح أن أوباما باع سوريا للمساومة مع إيران من أجل تحقيق اتفاقه النووي معها. وتبين لاحقًا أن أوباما منح إيران أكثر من رفع العقوبات، وإنهاء سياسة الاحتواء، حيث سلمها مبالغ مالية كبيرة، وسكت على دورها العسكري التخريبي في المنطقة، ولم يحمِ مواطنيه أو قواته البحرية في المنطقة من اعتداءات الحرس الثوري الإيراني.
شهدت فترة رئاسة أوباما انتشار الفوضى في المنطقة، وتضاعف عدد المنظمات الإرهابية ورجالها ونشاطها في العالم. لم يكن أحد يريد منه تدخلا عسكريًا أميركيًا، منذ فشل التدخل العسكري في العراق في عهد جورج بوش، لكن أوباما أخطأ عندما حرّم على حلفائه بيع السلاح للمعارضة السورية حتى لا يُغضب إيران، وأخطأ في الاستهانة بالجماعات الإرهابية حتى ملأت العالم رعبًا.
بعد هذه الإخفاقات الرهيبة في ثماني سنوات من رئاسة أوباما لا أعتقد أن أحدًا سيقلق من أي سياسة يتبناها الرئيس الأميركي الجديد، لأنها لا يمكن أن تكون أسوأ مما كانت ووصلت إليه اليوم. لا أحد في هذه المنطقة يتوقع من الرئيس ترمب أن يحقق إنجازات سياسية أو عسكرية، وسيكون إنجازًا مهمًا لو قررت إدارته وقف سياسة أوباما التي شجعت إيران على توسيع دوائر الحروب، وتركت التنظيمات الإرهابية تتمدد.
كثيرون اقتنعوا أن الغموض الشديد يكتنف فعلاً مفاوضات الأستانة القادمة, ولصنع هذا الغموض أتت كل الروايات والتوقعات والإشاعات التي تُضخ عبر الوسائط المختلفة ولم تتوقف أبداً...وكل الكلام اتجه بعيداً عن الذي تحضره موسكو في الأستانة.
وما تحضره موسكو ليس فيه أي غموض فهي تخطط لمفاوضات يتفاوض فيها الجميع على ما يريدون إلا على بقاء بشار الأسد.
التسوية من أي شكل تريدون وبأي تفاصيل تختارون ولكن تحت مظلة بشار الأسد.
وعلى هذا الأساس الثابت تصرف الروس منذ البداية, وأميركا حاولت أن تجد بديلاً ولمّا فشلت أصبحت مقتنعة تماماً ببقاء بشار الأسد ولحقت الدول الأوربية كلها كالعادة بالقناعة الأمريكية.
وآخر الملتحقين المضطرين بهذه القناعة كانت تركيا التي صرَّح نائب رئيس الوزراء فيها عن ذلك في دافوس.
وبدون أي غموض نجد أنَّ ما يجمع كل المفاوضين المنتدبين عن الفصائل ومن أضيف إليهم تحت مسميات شتى- سياسية واستشارية واعلامية- هو أنهم جميعاً تحت التواصل و الضغط والتعهد مع دول راعية وداعمة قريبة أو بعيدة.
ويبدو أن معظم المفاوضين الأوائل الذين تم اختيارهم في الرياض على الهوى الأميركي الكامل وتم تدريبهم هناك, قد أُبعدوا عن الأستانة وتُركوا للجولة التالية في جنيف واختارت روسيا للأستانة نوع المفاوضين الذي تريد, لتجعل الصبغة عسكرية ميدانية أكثر وأبرز مع وجودٍ لبعض الممثلين عن هيئة التفاوض والائتلاف كعناصر ارتباط.
ويتجه المفاوضون برئاسة محمد علوش بدون أي خطة أو خارطة طريق خاصة بهم يعرضونها سوى فك الحصار والمعتقلين, بل صرّح محمد علوش ممتدحاً ممهداً للدور الروسي وقال: إنه يرى خطاباً روسياً جديداً يجب أن يُستثمر.
وبدون أي غموض أيضا صرَّح بشار الأسد عن الأستانة أن أقصى ما عنده هو عفوٌ يقدمه لبعض الجماعات المسلحة, و السماح لها بالمشاركة بالهدن والمصالحات المحلية التي مهَّدت له اصلاً لابتلاع كثير من الأراضي والمناطق المحررة....
تصريحات بشار الأسد وموفديه التي كانت تصدر قبل جولات جنيف تطابقت سابقاً مع ما جرى فعلاً في المفاوضات لوجود الضمانات الروسية والإيرانية من خلفها حول بقاء بشار الأسد ....وستتطابق التصريحات مع النتائج هذه المرة ايضاً ولن يكون أمام وفد الفصائل إلا محور واحد ألا وهو الموافقة على بقاء بشار الأسد.
في الأستانة قد يقوم المعدّون والمخرجون بإنشاء ورشات عمل ظاهرية تناقش تفاصيل تثبيت وقف إطلاق النار وفك الحصار والمعتقلين,
وخلف أبواب أخرى سيتم طرح محور بقاء بشار سراً أو علناً لتتم غربلة وفرز الذين يمكن أن يتفهموا ويوافقوا عن المتشددين الرافضين مطلقاً, وسيكون هناك بلا ريب حضور قوي للضاغطين المؤثرين.
لقد جرت عملية الفرز الأولى في أنقرة وفي الأستانة الفرز النهائي الذي على أساسه سيُضاف الرافضون المتطرفون إلى بنك الأهداف العسكرية على الأرض, وينتقل الموافقون المتفهمون المعتدلون إلى جنيف حيث سيُرحَّل الإعلان عن التسوية إلى هناك لضرورة التعبئة والتغليف.
الإبقاء على بشار الأسد ليس بالأمر البسيط ولابد له من تعبئة وتعليب في تسوية مقنعة ثم تغليفها بغلاف مغرٍ مقنع.
مؤتمر جنيف سيكون مؤتمر التعليب و التغليف.
التسوية السياسية هي التفاصيل الكثيرة المتشعبة والمعقدة التي ستُعلب بقاء بشار الأسد ولابد أن تكون التفاصيل معقدة وفي نفس الوقت بعضها متروك مؤجل لإفساح الفرص للمناورة والتهرب والتغيير في المستقبل.
أما التغليف فلابد منه عاجلاً ولابد من أن يكون مقنعاً مغرياً جاذباً لأكبر عدد ممكن من الناشطين في الثورة السورية , ولابد أن يلبي أموراً معنوية دعائية وأن يلعب على أوتار حساسة مشدودة.
قد يختارون تغليفاً فيه أن بشار يبقى حتى نهاية مدته في عام 2021, وأنه لن يترشح بعدها وحتى ذلك الحين تتغير أمور وتستجد أمور.
وقد يختارون تغليف الانتخابات المبكرة بعد سنة, يترشح فيها بشار الأسد ومن أراد أن ينافسه فالساحة مفتوحة والضمانات بانتخابات نزيهة أممية دولية , والشعب يختار بحرية بوجود الرعب وأشباح الرعب وشبيحة الرعب.
وقد يختارون تغليف نزع الصلاحيات من بشار وجعلها في يد حكومة شراكة وطنية, وتبقى دولة الاستبداد العميقة هي الحاكم الفعلي ومرتبطة عبر أعماقها السحيقة ببشار الأسد.
وقد يضيفون تغليفاً أكثر ترغيباً وإغراءً فيه دول مانحة وفيه أرقام ضخمة مشروطة لإعادة البناء والإعمار, ووعود للاستثمار وخلق الفرص والعمل....ولو صدقت الدول المانحة أصلاً مع الثورة السورية لما وصلت الأمور إلى ماهي عليه الآن.
هما مؤتمران متتاليان ...مؤتمر للضغط و الفرز والتصنيف النهائي ومؤتمر للتعليب والتغليف.
وفي كلا المؤتمرين هناك مصطلحات تغليفية لازمة ستتكرر....محاربة الإرهاب والجماعات الإرهابية, ضرورة مشاركة الجميع في الحرب على الإرهاب, حقن الدماء أولوية وضرورة ودافع.
ولكن لن يستطيع أحد أن يُروّج في التعليب والتغليف لحقوق أكثر من مليون شهيد ومفقود, وأكثر من مليون معتقل مؤقت ودائم, وأكثر من ثلاثة عشر مليون لاجئ ونازح, وغير ذلك كثير.
إستهداف مخيم «الركبان»، داخل الحدود السورية، وعلى هذا النحو المتواصل مقصود به الأردن فالجهة التي إرتكبت جريمة أمس الأول التي كانت حصيلتها أكثر من عشرة قتلى وأكثر من ضعف هذا العدد من الجرحى أرادت دفع اللاجئين السوريين في هذا المخيم إلى إجتياح الحدود الأردنية والإنتقال إلى الداخل الأردني ولإضافة مزيد من الضغط والأعباء على الأردنيين لإجبارهم على الإستنجاد بنظام بشار الأسد لفتح حدود سورية وإعادة إستيعابهم في مناطقهم الأساسية أو في أي مكان على الأراضي السورية.
والمعروف أن هذه العملية الإجرامية، التي إستهدفت هذا المخيم وأستهدفت معه حرس الحدود الأردنيين، لم تكن العملية الأولى وبالتأكيد فإنها لن تكون الأخيرة ففي الحادي والعشرين من يونيو (حزيران) عام 2016 كانت هناك عملية إرهابية دموية أدت إلى إستشهاد وجرح عدد من الجنود الأردنيين وحيث ثبت أن تجهيزها قد تم داخل مخيم الركبان هذا وبالطبع فإنه قد تم تحميل المسؤولية لتنظيم «داعش» الإرهابي الذي ستثبت الأيام أنه بصورة عامة قد «أخترع» إختراعاً لتحميله مسؤولية إن ليس كُلِّ فمعظم هذه المذابح التي ترتكب في سورية وخارجها وبنفس طريقة إختراع»راجح» في مسرحية بياع الخواتم للفنانة المبدعة فيروز التي لن يجود الزمان بمثلها.
كان بعض «المؤلفة قلوبهم» وأصحاب المصالح الخاصة ومعهم بعض المصابين بالحول السياسي من الأردنيين بالطبع قد بدأوا «يطرحون» وإن همساً ومواربة بضرورة «إنفتاح» الأردن على هذا النظام السوري وإعادة كامل العلاقات السابقة معه ولقد ذهب بعض «المتفلسفين» إلى المطالبة بتوجيه دعوة لرئيسه بشار الأسد لحضور القمة العربية التي ستنعقد بعد أسابيع في منطقة البحر الميت الأردنية.
وبالطبع فإن هؤلاء، الذين يعتبر بعضهم أنفسهم رجال دولة من «العيار الثقيل»!!، من المفترض أنهم يعرفون أن هناك قراراً عربياًّ لم تتحفظ عليه سوى دولتين عربيتين بتجميد عضوية سورية في الجامعة العربية مما يعني أن دعوة بشار الأسد لحضور قمة البحر الميت تتطلب الغاء هذا القرار الآنف الذكر.. وهذا غير معقول وغير ممكن وبخاصة وأن هناك الآن مساع جدية لحل الأزمة السورية وفقاً لـ»جنيف1» وقرارات مجلس الأمن الدولي التي تنص على مرحلة إنتقالية لا دور ولا مكانة لرئيس هذا النظام السوري فيها.
لقد إنسجم الأردن مع نفسه وتلاءم مع مصالحه وقد إنحاز إلى الشعب السوري الشقيق فعلاً عندما إتخذ الموقف الصحيح الذي إتخذته غالبية الدول العربية الشقيقة والذي لا يزال ساري المفعول حتى الآن وهو سيبقى ساري المفعول إلى أن تحل هذه الأزمة الحل الذي تم الإتفاق عليه في (جنيف1) مما يعني أنه على أصحاب مواقف التجارة السياسية الرخيصة ألا يعتقدوا أن المعادلات في هذه المنطقة قد حسمت لمصلحة إيران وبالتالي لمصلحة بشار الأسد فهذه إما أحلام يقظة أو أوهام بلا أي أساس أو الإثنين معاً.. والآن وقد بدأ إجتماع الـ «آستانة» فإن الأيام ستثبت ذلك!!.
للتأمل في السنوات الست المنصرمة التي احتوت مفاعيل ثورة سورية محطمة وتبعاتها، ينبغي النظر في مستويين متمايزين من النشاط. الأول، وهو المستوى السياسي بحصر المعنى، مستوى القيادة المباشرة المتعلق بتحديد المواقف، واتخاذ القرارات، وشبك العلاقات السياسية، والتفاوض ..إلخ، وهو المستوى الذي تولته هيئاتٌ متعدّدة، كان أبرزها المجلس الوطني (تشكل بعد ستة أشهر من بداية الثورة)، ثم الائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات. والحق أن بروز الهيئات المذكورة لا يعود إلى صلةٍ أقوى بالثورة، بقدر ما يعود إلى الاعتراف الخارجي بها. المرض الأساسي الذي شلّ فاعلية المستوى السياسي هذا، هو انفكاك مؤسساته عن الداخل، ما جعل "مشروعيّتها" مستمدةً من الخارج. هذا جزءٌ أساسي، ولعله الأساسي، في الخلل الذي تفاقم أكثر مع ظهور ما سميت (المناطق المحرّرة) من دون أن يكون لهذه المؤسسات موطئ قدم فيها، ما زاد في ضعفها المعنوي، وتحوّلها، أكثر فأكثر، إلى هياكل مسحوبة القيمة وهامشية. وتلمس من أحاديث من تسلموا مناصب قيادية في هذه المؤسسات مدى تقديرهم الاهتمام البروتوكولي الذي تلقوه من هذا الوزير أو ذاك، أو للعناية الشخصية التي خصّهم بها هذا المسؤول الخارجي أو ذاك. يعكس هذا ضعفاً معنوياً، ليس مردّه حداثة العهد بالمسؤولية، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، بل إلى الشعور بانعدام القيمة السياسية الناجم بالتحديد عن وهن الصلة بالداخل وشعور هؤلاء بأن قيمتهم تأتي من خارج سورية، وليس من داخلها.
إلى ذلك، لم تعمل المؤسسات السياسية على حل مشكلتها المالية، إنْ عبر تشكيل صندوق وطني أو إمكانية التمويل الذاتي من (المناطق المحرّرة) أو ضغط النفقات وترشيق الهيئات ..إلخ، بحيث تحقق استقلالاً مالياً يسند الاستقلال السياسي. بقيت تابعة مالياً، وعرضة للابتزاز السياسي المالي، وللفساد المالي في غياب آلية مؤسساتية ورقابة مالية موثوقة، ما راكم في الوعي العام صورةً لا تصلح لمؤسسات بديلة.
لم تكن هذه القصورات مجتمعةً معزولةً عن التركيبة الداخلية للمؤسسات السياسية المذكورة، فغلبة الإسلاميين لم تكن في صالح "العمومية السورية" التي كان ينبغي أن تحميها، كما لم تثبت المجموعة الديموقراطية العلمانية داخل هذه التركيبة فاعليةً مستقلةً، تضع في منظورها أن تعكس، ضمن هذه المؤسسات، ثقل الطموح الديموقراطي السوري. وبالتأكيد، لم يكن هذا التعثر العام منفصلاً عن قصورٍ في التصورات السياسية، نال ما يستحقه من النقد: التعويل شبه التام على الخارج، الاستسلام أمام الشطط العسكري العصبوي والإجرامي، التراخي مع تفشّي التعبئة الطائفية على ضفة الثورة، القبول بدخول تنظيمات القاعدة على خط الثورة ..إلخ.
على هذا، سعت مؤسسات المعارضة أن تجمع ما لا يُجمع، أن تجمع الاستناد إلى القوى العسكرية الإسلامية، بوصفها القوى المواجهة للنظام في الداخل، والاستناد إلى الدول الخارجية التي تبدي تحفظاً أو رفضاً صريحاً لهذه القوى من جهةٍ أخرى.
كل هذا ينبغي النظر إليه باعتباره خللاً مؤسساتياً وليس فردياً. بمعنى أن الإخفاق ليس حصيلة أخطاء أفرادٍ فشلوا في أدوارهم، بل حصيلة بنية مؤسسية نشأت معتمدة على الخارج، وفاقدة السيطرة على الداخل الثائر، وهذه البنية تحدد فاعلية الفرد، مهما علا منصبه. تحميل الفشل العام لأفراد يغطي في الواقع على أصل المشكلة. من دون أن يعني هذا رفع المسؤولية بالكامل عن الأفراد الذين كان عليهم، على الأقل، مصارحة شعبهم "بالورطة" التي وجدوا أنفسهم فيها، بدلاً من السوق مع السوق، وتبني خطاب الداعمين، وربما، عند بعضهم، التركيز على المكاسب الشخصية التي وفرتها لهم "الأقدار".
يمكن القول إن الطغيان العسكري غطّى على أهمية المواقف السياسية، بمعنى أن الكلمة باتت للقوة، وليس لأي صوابيةٍ سياسية ممكنة. ولكن، ينبغي، أمام هذا التأكيد العام، أن نلاحظ أولاً أن الأداء السياسي المتعثر ليس بلا تأثيرٍ في تقوية الجبهة القتالية نفسها أو إضعافها. وثانياً أن الموقف السياسي، حتى لو فقد فاعليته المباشرة أمام الطغيان العسكري، فإنه يراكم في الوعي العام، ومن خلف ظهر العسكرة، تقديراً لصالح صاحبه أو ضده. وهذا التأثير أو المراكمة أمر في غاية الأهمية، عندما ننظر إلى اللوحة بشمولية ومستقبلية.
لا يمر، مثلاً، القبول بجبهة النصرة ونسبها إلى قوى التحرّر في سورية، من دون أثر في الوعي السوري العام، ذلك بصرف النظر عن المآل العسكري للصراع. تقتضي المراجعة تلمّس هذا الخلل المتكرّر في الميدان السوري، والتأمل فيه بمسؤولية.
يقود هذا إلى الحديث عن المستوى الثاني من النشاط في الثورة، وهو الذي يعمل على التأثير في الوعي. والذي تولاه كتاب ومحاورون وإعلاميون وفيسبوكيون ..إلخ، وحاولوا، بحسن نية، دعم الثورة. ولكن، بسببٍ من الاستسهال ربما، لم يفلحوا في حماية قيمة الثورة وجاذبيتها في الوعي العام. وهو ما يشكّل خسارةً كبرى، تزيد ربما عن الخسارة السياسية والعسكرية.
في هذا المستوى، تغيب الهرمية المؤسسية، لتحل مكانها ظاهرة الأقطاب والشلل، وهذه تقوم على اعتباراتٍ ضيقة وتعالٍ فقير. وقد شكل "فيسبوك" الميدان الأنسب لهذه الظاهرة. سهولة الحصول على منبر واتساع دائرة "المتواصلين" أعطيا لهذه الوسيلة دوراً لم يكن متخيلاً من قبل. والحق أن من السمات التي برزت في هذا المستوى ضعف الشعور بالمسؤولية. وسائل التواصل الاجتماعي تحضر لأول مرة في الثورات، وهذه تجربة جديدة ومجال غير مختبر، فقد توفر لكل فرد منبر عام سهل، أو جريدة شخصية، من دون أن يرافق هذه القدرة، المتاحة فجأة، ما يكفي من الثقافة والمتابعة والموضوعية والشعور بمسؤولية المنبر.
في الحالة السورية، تحولت هذه الوسيلة إلى ميدان للتنافر والصد أكثر منها للحوار وصياغة الأرضيات المشتركة. تكرّس، في هذا المجال، الابتعاد عن المعنى الإنساني للثورة، حين ارتبط التعاطف الإنساني بالموقف السياسي، وقاد هذا إلى فتح المجال أمام المفاضلة بين جرائم. اتسع هذا الشرخ الأخلاقي كثيراً مع الوقت؛ وقاد، مشفوعاً بازدهار لغةٍ وتحليلات طائفية، وبسيادة نفس استعلائي مشبع باليقين، إلى تحطيم فكرة الثورة في وعي العامة، حين ظهرت في مؤسساتها، وفي "وعي" جمهورها، كما لو أنها تحارب نظاماً مستبداً من دون أن تتميز عنه.
ما عاد أحدٌ من المسؤولين الإيرانيين يكرر ما قاله روحاني وظريف عندما تم الاتفاق النووي عام 2015، أي أنه أكبر انتصار للإسلام ولإيران منذ قيام الثورة. وقتها كان الكلام موجَّهاً إلى الخصوم الداخليين للاتفاق. وهم أولئك الذين كانوا يريدون إنتاج سلاح نووي، شأن باكستان في ثمانينيات القرن العشرين. وبحسب تقدير هؤلاء، ومنهم قادة الحرس الثوري، فإنه بالوصول إلى النووي تصبح إيران قلعةً حصينةً لا يمكن الهجوم عليها ولا تهديدها، وفي الوقت نفسه يمكنها أن تتابع حروبها دونما خوف للسيطرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وكان تقدير روحاني ومعسكره أنّ الممكن بالمنطق أحد الأمرين: إما النووي، وإما المكاسب الإقليمية. إذ إنه حتى المكاسب الإقليمية لا يمكن تحقيقها من دون انفكاك الحصار الأميركي على طهران. فهي محتاجةٌ إلى المئة والخمسين مليار دولار المرهونة في الولايات المتحدة لتجديد سلاحها وجيوشها من جهة، وتجديد الصناعة البترولية، وتوسيع القدرات على التصدير.
أما على الجبهة الأميركية، فقد كان أوباما وإدارته يعتقدان أنّ تأجيل إنتاج السلاح النووي من جهة، وفتح الحصار من جهة ثانية، يُدخِلُ إيران في حقبة جديدة، تتنامى خلالها الاحتياجات والتوقعات الشعبية، وتتضاءل طموحات إيران في تصدير الثورة ذات التكلفة العالية في المال والأرواح.
«جاي سولومون»، مؤلّف كتابك «حروب إيران» (2016)، يرى أنّ أوباما أخطأ في فهم التكتيكات الإيرانية، نتيجة الخطأ أصلاً في فهم الطموحات الإيرانية أو طموحات الحكام الإيرانيين. فهؤلاء ما كانت تهمهم كثيراً الطموحات الشعبية في الكفاية والرخاء، وإنما كانوا لا يزالون على خطتهم الأولى في انتهاز فرصة الغزو الأميركي للعراق للاستيلاء على منطقة الشرق الأوسط. والفرق بين الطرفين الإيرانيين الداخليين أنّ جماعة روحاني كانوا يعتقدون أنه يمكن خداع الولايات المتحدة بالحصول على الأمرين: السلاح النووي، والتوسع الاستراتيجي. لذلك استطاعوا إقناع خامنئي بتأجيل إنتاج السلاح مقابل إطلاق أيديهم في التوسع مع القدرات المستجدة والناجمة عن فك الحصار.
على أنه- في نظر سولومون- الإيرانيون الروحانيون والسليمانيون معاً أخطؤوا في تقدير التحديات التي تواجههم في مناطق التوسع. إذ خلال المفاوضات على الاتفاق، من عُمان إلى جنيف، ظهر «داعش» في سوريا والعراق، وتقدم المعارضون الآخرون لنظام بشار الأسد، وصارت إيران نفسها مهدَّدة، وهو تهديدٌ لا يفيد في دفعه عنها حتى السلاح النووي. وذلك لأنها لا تُواجِهُ دولاً فقط، بل أيضاً تنظيمات عقائدية مسلحة تقاتل على أرضها وعلى الأرض التي اكتسبتها، ولا تُهمُّها الخسائر التي تلحقُ بها ما دامت تتخذ لسلوكها عنوان: إدارة التوحش! إيران تريد الاستيلاء على الدول والثروات، وخصومها يريدون إحراق تلك الدول والثروات، في المراحل الأولى على الأقل.
فهم الإيرانيون أنّ الاتفاق النووي يتيح لهم التوسع من دون حدود إذا تجنبوا إسرائيل. لذلك فبعد أُسبوع على توقيع الاتفاق ذهب الجنرال سليماني إلى موسكو لإقناع الرئيس بوتين بالتدخل في سوريا إنقاذاً لحكم الأسد المتهاوي. والتفت اللوبي الإيراني من حول الرئيس أوباما إلى خطر «داعش» على العراق وعلى الأكراد وعلى العالم. وهكذا، وفي مطلع 2016 اعتقد الإيرانيون من جديد أنه يمكن كسْبُ كل شيء: فكّ الحصار، وضمان العراق عن طريق الأميركيين، وضمان سوريا بجهد الروس. وعلى مشارف عام 2017 بدا نظام الأسد راجح الكفة ولكنْ بقوة الروس، وبدا العبادي متقدماً على «داعش»، ولكن بمعونة الأميركيين. وبذلك فقد صار للإيرانيين شركاء في كلٍ من العراق وسوريا، وهو أمرٌ ما كان يتصوره أحدٌ حتى روحاني الذي كان على أي حال يفضّل رفاهية طهران على رفاهية آل الأسد!
إلى أين تتجه الأمور في عام 2017، ودائماً مع التأمل في «حروب إيران» المقبلة؟ لا يريد ترامب وأنصاره علاقات جيدة بإيران، لكنهم يريدون علاقات جيدة بروسيا. لذلك فالتقدير أن يتقدم الحلُّ السياسي في سوريا مع بقاء الدور الأكبر للروس، وتوسع الدور التركي (وربما العربي) للاستخدام في مقاتلة «داعش». أمّا في العراق فسيظل الأميركيون موجودين لمقاتلة «داعش»، ولخلق توازُن بين إيران وتركيا. وستظل إيران مسيطرة على النخبة الحاكمة ببغداد. وستستمر المراوحة الكردية بين إيران وتركيا وأميركا وروسيا وإسرائيل في سوريا والعراق.
ماذا كسبت إيران من حروبها؟ إذا كان الخراب مقياس النجاح، فإنها نجحت في تخريب ثلاثة بلدان عربية على الأقل. أما بمقياس بناء الدول، فلا شك أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين لا يزال أقل سوءاً من الاحتلال الإيراني للعراق وسوريا!
تشكّل مفاوضات آستانة، المفترض أن تبدأ غداً، تطوّراً مهماً في مسار الصراع السوري. فهذه المرة الأولى التي سيكون فيها التفاوض بين الحكومة والفصائل المسلحة وليس المعارضة السياسية.
سيقلل بعضهم، ربما، من أهمية ذلك. فمفاوضات آستانة، كما سيقولون، ستكون محصورة بتثبيت وقف النار، في حين أن المفاوضات السياسية ستبقى، على الأرجح، كما كانت سابقاً، مع «الهيئة العليا للمفاوضات»، تكتل المعارضة الأبرز. سيقول أصحاب هذا الرأي، إذن، إن التسوية السياسية ستكون مع «سياسيي» المعارضة في جنيف وليس مع «عسكرييها» الذاهبين إلى آستانة.
كلام صحيح. ولكن ماذا لو أدت آستانة إلى «تمايز» بين السياسيين والعسكريين، فلمن ستكون الغلبة؟
مرد هذا التساؤل حالات شبيهة في نزاعات سابقة وعد فيها «العسكريون» بأن يخضعوا لـ «السياسيين» الذين ستكون لهم الكلمة النهائية في أي مفاوضات سلام، لكن النتيجة كانت معاكسة، بحيث «همّش» العسكري السياسي.
حصل مثل هذا الأمر في حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، بين نهاية خمسينات وبداية ستينات القرن الماضي. قال عسكريو «جبهة التحرير»، منذ بدايات ثورتهم (مؤتمر الصومام عام 1956)، إنهم يخضعون لسياسييها، لكن تطورات الحرب أفرزت نتيجة معاكسة تماماً. فتم تهميش السياسيين وقتل بعضهم أو نفيه، وأمسك العسكريون بورقة الثورة حتى نالت بلادهم استقلالها عام 1962، وهناك من يقول إنهم ما زالوا ممسكين بالحكم فيها حتى اليوم.
مثال ثان من الجزائر يعود إلى فترة التسعينات، عندما كانت الأزمة مشتعلة عقب إلغاء الانتخابات التي فازت فيها «جبهة الإنقاذ». حاول الحكم الجزائري، آنذاك، التفاوض على تسوية، فذهب جنرالاته وسياسيوه إلى قادة «الإنقاذ» المسجونين (القيادة السياسية)، وتحاوروا معهم على إطلاق مسار تسوية يبدأ بنداء لوقف العنف. تردد قادة «الإنقاذ». لم يكن سهلاً، كما يبدو، أن يصفوا ما يحصل بأنه عنف، بينما هم يعتبرونه دفاعاً مشروعاً عن حق مسلوب. استمرت المفاوضات عامي 1993 و1994، من دون نتيجة. وفي الواقع، ما عقّد التسوية أن مسلحي المعارضة لم يكونوا خليطاً متجانساً. بعضهم كان يؤمن بالعمل السياسي. بينما بعضهم الآخر لم يكن أصلاً يؤمن لا بانتخابات ولا بديموقراطية.
ولا شك أن قادة «الإنقاذ» السياسيين كانوا على دراية بهذا الواقع، إذ أنهم أرسلوا موفدين إلى الجبال، حيث سمعوا ردّين مختلفين على طلب وقف القتال. الطرف الأول، ممثلاً بـ «الجماعة الإسلامية المسلحة»، رفض ذلك بحجة أنه لا يجوز شرعاً («لا هدنة مع المرتدين»، كما جادلوا). الطرف الثاني، ممثلاً بقادة «الجيش الإسلامي للإنقاذ»، حض السياسيين على إبرام تسوية مع الحكم، وجادل بعضهم بأنه يرى غلوّ «الجماعة المسلحة» أكثر خطورة على الجزائر من جنرالاتها.
أمام هذا الواقع، عجز سياسيو «الإنقاذ» عن بت أمرهم في خصوص نداء وقف العنف، فتلقّف عسكريوها المبادرة. عقدوا هدناً محلية مع الجيش النظامي، ووافقوا على إلقاء سلاح «جيش الإنقاذ» والانخراط في مصالحة مع النظام. لم تكن تلك المصالحة مثالية واعتبرها مناصرون لـ «الإنقاذ» مجحفة، إلا أن تجاوز عسكريي الجبهة لقادتهم السياسيين ساهم، كما يعتقد كثيرون، في تهميش «المتطرفين» («الجماعة المسلحة») ووضع الجزائر على سكة وقف نزف الدم.
في هذين المثالين الجزائريين، يظهر جلياً أن الكلمة في نهاية المطاف كانت لحاملي السلاح وليس السياسيين، وإن بنتائج مختلفة (انتصر العسكريون في حرب التحرير وهُزموا في الحرب ضد النظام).
هل تكون مفاوضات آستانة السورية «الثغرة» التي ينفذ منها «عسكريو الثورة» لأخذ زمام المبادرة من سياسييها؟ يبدو مبكراً الوصول إلى هذه الخلاصة الآن، إلا أن ما يحصل في الميدان السوري يوحي بأن العسكريين مقبلون على ترتيب أوضاع ساحتهم وتحديد من يُمسك بها أولاً، قبل السير في ما يقرره السياسيون أو تهميشهم. ويتضح هذا جلياً في محاولات تجميع الفصائل المشتتة، سواء تحت لواء «المتشددين» كـ «جبهة فتح الشام»، أو في إطار «المعتدلين»، على غرار الفصائل الذاهبة إلى آستانة. سورية ليست الجزائر، بالتأكيد، لكن الحروب والأزمات تتشابه أحياناً، كما يوحي صراع العسكريين في ما بينهم، وبينهم وبين السياسيين.
تبدأ ولاية دونالد ترامب، فيما انتقلت سوريا إلى حال جديدة مختلفة كلّيا عن تلك التي مرّت فيها منذ اندلاع الثورة الشعبية في آذار-مارس 2011 بحثا عن شيء من الكرامة.
يبحث الشعب السوري عن شيء من كرامته المفقودة منذ ما قبل وصول حزب البعث إلى السلطة في آذار-مارس 1963، أي منذ أخذه بعض الجهلاء والمغامرين إلى الوحدة مع مصر في العام 1958، وهي وحدة أقرب ما تكون إلى بناء قصور على الرمال.
أسست الوحدة لقيام نظام أمني في سوريا التي كانت بدأت تلتقط أنفاسها وتعود إلى وضع طبيعي، في ظلّ برلمان منتخب ديمقراطيا، بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية لضباط يتسمون بالرعونة بدءا بحسني الزعيم الذي قام على النظام القائم في العام 1949.
يتمثّل جديد سوريا هذه الأيّام في ما بعد معركة حلب التي شهدت إطلاق المشاركين في جنازة هاشمي رفسنجاني في طهران هتاف “الموت لروسيا” تعبيرا عن مدى السخط الإيراني من السياسة الروسية في سوريا.
كان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على حقّ عندما أكد قبل أيّام أنّ دمشق كانت ستسقط في يد المعارضة في غضون أسبوعين أو ثلاثة لو لم يحصل التدخل العسكري الروسي في أواخر أيلول-سبتمبر من العام 2015.
يعبّر مثل هذا الكلام عن حقيقة أن روسيا أنقذت النظام السوري وأبقت بشّار الأسد في دمشق. روسيا نفسها جعلت الثوار يغادرون حلب وذلك في ظلّ اتفاق مع تركيا التي لعبت دورا أساسيا على صعيد تغيير الوضع في المدينة.
سحبت تركيا المسلحين الذين لديها مونة عليهم من داخل حلب ثمّ قطعت الإمدادات عن المدافعين عن المدينة في ظلّ قصف جوّي روسي طاول المدنيين خصوصا لتأليبهم على المدافعين عن حلب.
تبدو روسيا على عجلة من أمرها في سوريا. كان عليها خلق أمر واقع على الأرض قبل دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. كان عليها أن تهيّئ نفسها لمفاوضات مع الإدارة الأميركية الجديدة من موقع قوّة.
زمن دونالد ترامب
فالرئيس الروسي يعرف جيدا أن ترامب ومساعديه، على رأسهم وزير الخارجية ركس تيلرسون، يعشقون عقد الصفقات، كلّ أنواع الصفقات، بما في ذلك الصفقات السياسية.
تظلّ سوريا إحدى الأوراق القويّة لدى فلاديمير بوتين. يراهن الرئيسي الروسي على استخدام هذه الورقة في الوقت المناسب بغية الخروج من الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه بلاده. لذلك يمكن الحديث عن وضع جديد في سوريا بدأت تظهر ملامحه بوضوح كليّ في مرحلة ما بعد سقوط حلب.
من أبرز هذه الملامح التوتر بين روسيا من جهة وكلّ من النظام السوري وإيران من جهة أخرى. لم يكن منع بشّار الأسد من زيارة حلب في الفترة بين عيدي الميلاد ورأس السنة الجديدة، أي في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي سوى أحد مظاهر هذا التوتر.
كان الأسد الابن ينوي إلقاء “خطاب الانتصار” في المدينة. جاءت الرسالة الروسية مقتضبة. فحوى الرسالة أن الانتصار الذي تحقّق على حلب وأهل حلب كان نتيجة تحالف روسي-تركي ليس إلّا.
دخول قوات تابعة للنظام وميليشيات مذهبية تابعة لإيران مناطق وأحياء كانت تحت سيطرة المعارضة، كان نتيجة مباشرة لهذا التحالف. لو شاءت تركيا، لبقيت حلب، في جزء منها، عصيّة على النظام.
يتمثّل جديد سوريا باختصار في التحالف مع تركيا في منطقة الشمال السوري والتحالف مع إسرائيل في مناطق أخرى، خصوصا في كلّ ما له علاقة من قريب أو بعيد بدمشق والمناطق القريبة منها وتلك المرتبطة بالجولان الذي طويت صفحته. ليس صدفة الإعلان قبل أيام عن غارات جوية روسية-تركية على “داعش” في داخل الأراضي السورية.
لم يعد سرّا أن الحلف السوري-الإسرائيلي أكثر عمقا بكثير مما يعتقد. إذا كان هناك تحالف تركي-روسي، هناك حلف روسي-إسرائيلي. سيساعد هذا الحلف روسيا في التعاطي مع الإدارة الأميركية الجديدة التي أعلنت أنها ستنقل السفارة إلى القدس التي تعتبرها إسرائيل “عاصمتها الأبدية”.
أكثر من ذلك، أظهرت هذه الإدارة انحيازا كبيرا لإسرائيل ولسياسة الاستيطان التي يتبعها بنيامين نتنياهو عندما عيّنت ديفيد فريدمان سفيرا لها في إسرائيل. الأسوأ من ذلك، أن ترامب جعل من صهره جاريد كوشنر مسؤولا عن عملية السلام.
كوشنر وفريدمان من أبرز داعمي الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية. إنّهما رمز للتغيير الذي ينشده ترامب على صعيد الشرق الأوسط في مجال تكريس الاحتلال الإسرائيلي لجزء من الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية!
في ظلّ التحالف الروسي-التركي والحلف الروسي-الإسرائيلي والعلاقات المتجددة بين تركيا وإسرائيل، هناك وضع جديد على الأرض في سوريا. هل بدأت إيران تعيد حساباتها، خصوصا بعدما تبيّن أن هامش المناورة لديها صار محدودا وأن كلّ شيء في سوريا يعتمد على ما يتقرّر في موسكو، بما في ذلك مراقبة روسيا لعملية شراء الأراضي من أجل تغيير التركيبة السكانية في مناطق محدّدة في مقدّمها دمشق؟
هذا الوضع الجديد على الأرض السورية يمكن أن يفسّر تلك التحولات في الخطاب. فجأة، يتحدّث محمد جواد ظريف وزير الخارجية عن تعاون إيراني-سعودي أدّى إلى انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان. كذلك صار علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني حريصا على وحدة الأراضي السعودية وعلى التعاون مع المملكة ومع العائلة المالكة فيها.. فجأة أيضا، صار يتحدّث بإيجابية عن آل سعود في تصريح وزعته الوكالة الإيرانية الرسمية “إرنا”!.
لن يكون مؤتمر أستانة (عاصمة كازاخستان) الذي سينعقد ابتداء من يوم الاثنين، بدفع روسي-تركي، سوى خطوة أولى على طريق تقديم روسيا-فلاديمير بوتين أوراق اعتمادها لأميركا-دونالد ترامب.
سوريا هي المنطلق بالنسبة إلى الرئيس الروسي الذي يعرف في نهاية المطاف أنّه سيكون عليه الاختيار، عاجلا أم آجلا، بين واشنطن وطهران. فمثلما هناك جديد على الأرض في سوريا، هناك جديد على الأرض في واشنطن. هناك وزير جديد للدفاع هو الجنرال جيمس ماتيس يعرف تماما، وهذا على الأقلّ ما قاله أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، أن إيران مصدر التوتر في المنطقة وأن التوصل إلى اتفاق معها في شأن الملفّ النووي لا يعني التغاضي عن مشروعها التوسّعي في الإقليم.
يبدو أن موسكو تفهم هذه المعادلة جيّدا. ليست الساحة السورية، بما في ذلك التوتر الروسي-الإيراني سوى مرآة للتغيير الكبير الذي بدأ يشهده الشرق الأوسط ومعه العالم مع بداية عهد دونالد ترامب.