مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣١ يناير ٢٠١٧
تحولات دراماتيكية في المشهد السوري

ثمة العديد من المؤشّرات التي تفيد باحتمال حصول تغيّرات نوعية، مفاجئة وكبيرة، في المشهد السوري، على الصعيدين السياسي والميداني، كما في تجاذبات أو صراعات القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في هذا المشهد.

على الصعيد الداخلي، يمكن رصد أهم هذه التحولات بعاملين، أولهما تحوّل معظم فصائل المعارضة المسلحة نحو القبول بخيار المفاوضات، أو خيار الحل السياسي، بعد أن كانت تمتنع عن ذلك، بدعوى أن لا حل سوى بإسقاط النظام عسكرياً، أو لأن لا ثقة لها بالحلول السياسية، تبعاً للأطراف الراعية للمفاوضات، والمقصود هنا تحديداً الطرف الروسي.

يلفت الانتباه أن تلك الفصائل ذهبت إلى خيار المفاوضات، في العاصمة الكازاخية آستانة، متناسية كل الادعاءات التي كانت تطرحها، ومتجاهلة أنها اتجهت نحو هذا الخيار بعد الانهيار العسكري الحاصل في حلب، وبعد اتضاح انسداد أفق الحل العسكري، وأن هذا الأمر تم بناء على رأي الحليفة تركيا. وطبعاً لا يدور النقاش هنا حول صحة هذا الخيار من عدم ذلك، مع التأكيد أنه الأنسب، وإنما النقاش يدور حول المواقف السابقة لهذه الفصائل، التي كانت تكابر في شأن قواها وقدراتها، وتترفّع عن دراسة المعطيات السياسية (كما العسكرية)، والتي ظلت تشتغل بعقلية قدرية، ومزاجية، إلى جانب استمرائها الارتهان للقوى الخارجية. وهذا الموقف ينطلق أيضاً، من الاعتقاد بأن الموقف الأصوب، ربما كان يتمثل بالتأكيد على وحدانية تمثيل المعارضة، وإحالة الأمر الى «الهيئة العليا للمفاوضات»، التي تتمثل فيها هذه الفصائل، إذ كان من شأن ذلك أن يضفي نوعاً من الصدقية على المعارضة إزاء نفسها، وإزاء شعبها، وإزاء العالم.

طبعاً، يلفت الانتباه في هذا الأمر أن لا «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، وهو الكيان الرئيس للمعارضة السياسية، ولا «الهيئة العليا للمفاوضات»، التي تتمثل فيها أوسع تشكيلة من الكيانات السياسية والعسكرية، أبديا أي تبرَم مما حصل، أو من هذا الانتقاص من مكانتهما في تمثيل المعارضة، إذا استثنينا بعض المواقف الفردية، التي أبدت استنكارها ومخاوفها من تلاعب روسيا بتمثيل المعارضة، ومن النيل من مكانة وشرعية الإطارين المذكورين.

العامل الثاني، يتمثّل في انقلاب معظم كيانات المعارضة، السياسية والعسكرية، على جبهة «فتح الشام» (جبهة «النصرة» سابقاً)، وهو موقف مفاجئ، وقد ماطلت معظم فصائل المعارضة في الإفصاح عنه لأسباب عقائدية، حيث ثمة فصائل لا تبتعد في طروحاتها عن هذه الجبهة، وميدانية، بحكم قوة هذه الجبهة، وإقليمية بواقع علاقات الجبهة الخارجية. ومعلوم أن تلك الجبهة، التي لم تحسب نفسها يوماً على الثورة السورية، وناهضت مقاصدها المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، ظلت تشكل خطراً على فصائل المعارضة العسكرية في كافة أماكن تواجدها، وهي أصلاً كانت عملت على إزاحة جماعات «الجيش الحر» من المشهد، فضلاً عن أنها حاولت فرض أنماط متعصّبة ومتطرّفة من الإسلام على السوريين، بواسطة القوة، في المناطق التي خضعت لسيطرتها، ناهيك عن تبعيتها لتنظيم «القاعدة»، وهو ما أضر بإجماعات السوريين، وبصدقية ثورتهم في العالم.

في هذا الجانب أيضاً، لم يأتِ هذا التغيّر نتاج تطور في القناعات السياسية، أو نتاج مراجعة للتجربة، بما لها وما عليها، من قبل المعارضة، وإنما أتى نتيجة ضغوط خارجية، وضمن ذلك التحوّل في الموقف التركي.

هكذا نحن في الحالتين المذكورتين آنفاً إزاء معارضة (سياسية وعسكرية) مترددة، ولا تأخذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولا تصدر مواقفها بناء على ادراكاتها لمصلحة شعبها، أو متطلبات ثورتها، ولا بناء على مراجعة نقدية للمسارات والخطابات التي انتهجتها، الأمر الذي يضعف صدقيتها، ويثير الشبهات حول حقيقة أو صلابة الخيارات التي اشتغلت على أساسها.

على أية حال يمكن الجزم بأن التحولين المذكورين لن يمرا بسهولة، إذ إن التحول الأول قد يفضي، على الأرجح، إلى إعادة ترسيم خريطة الكيانات السياسية والعسكرية للمعارضة السورية، وضمنها للوفد المفاوض، مع كل ما يستتبع ذلك من تغير في المرجعيات والأولويات والمواضيع. في حين أن التحول الثاني قد يفضي إلى إعادة هيكلة الفصائل العسكرية، والعمل على تحجيم «جبهة النصرة»، وربما تصفيتها، إضافة إلى حصول تغيرات ميدانية، تبعاً لذلك، في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، وفي شكل إدارة المناطق «المحررة».

أيضاً، على الصعيد الخارجي ثمة تحولات نوعية مهمة، وكبيرة، قد يتوقف بناء عليها مصير النظام والثورة السوريَين، أو مصير الصراع السوري برمته، وهو ما يتمثل، أولاً، في ظهور التباين بين الأجندتين الروسية والإيرانية، معطوفاً على تضاؤل نفوذ إيران في الصراع السوري لمصلحة روسيا. وثانياً، بتزايد التوافق والتنسيق الروسي - التركي، على حساب إيران، أيضاً، مع ما يعنيه ذلك من وضع حد للتدخل العسكري الروسي لمصلحة النظام، أو على الأقل التخفيف منه. وثالثاً، دخول الولايات المتحدة الأميركية في عهد الإدارة الجديدة على خط الصراع السوري، على خلاف عهد الإدارة المنصرفة، سواء بتهديدها إيران، وتصريحها عن اعتزامها تحجيم نفوذ طهران في المنطقة، وفي شأن تصريحاتها العلنية بخصوص عدم التوافق أو عدم الرضا عن سياسة روسيا في سورية، كما بتلويحها بإمكان تنظيم مناطق آمنة في سورية (وفق تصريحات الرئيس الجديد دونالد ترامب)، ما يعني عودة التقارب بينها وبين تركيا.

في كل الأحوال، فإن هذه التحولات تفيد بإمكان تغير المعادلات الدولية والإقليمية المتعلقة بالصراع السوري، أو بالصراع على سورية، ولعل هذا ما يمكن ملاحظته من تغير الأجندة الروسية بتخفيف ضغطها العسكري (الجوي) على فصائل المعارضة العسكرية، ووضع ثقلها وراء الحل السياسي التفاوضي، وطرحها مشروع دستور، واستعجالها توليف تشكيلة جديدة للوفد المفاوض، وهي المحاولة التي لم تنجح، على ما تبين من فشل اجتماع موسكو، الذي عقد بعد مؤتمر آستانة.

كما يتجلى ذلك بقبول معظم فصائل المعارضة الدور الروسي الجديد توخياً منها للاستثمار في التغير الحاصل لمصلحتها، ولمصلحة تركيا، وأيضاً من أجل تحجيم نفوذ إيران في سورية.

بيد أن كل التحولات المذكورة ستظل رهناً بعوامل أخرى لم يجر بعد تبين مداها، أو مفاعيلها، وهذه تتمثل أولاً في مدى حسم الإدارة الأميركية الجديدة مواقفها إن في شأن مناطق آمنة، أو بخصوص علاقتها بالمعارضة السورية، كما في شأن التدخل بالطريقة المناسبة، بوسائل الضغط السياسي أو العسكري، لإنهاء الصراع السوري. ثانياً، هذا سيتعلق بطبيعة رد الفعل الإيراني على التحولات في الموقفين الأميركي والروسي، لا سيما أن لهذه الدولة وجوداً ميدانياً، أي عسكرياً، في سورية، كما في العراق ولبنان. ثالثاً، يبقى السؤال هنا مشرعاً في شأن حقيقة توجهات روسيا، وما إذا كانت تعتزم حقاً طرح استراتيجية خروج من الصراع السوري قبل التورط في مواجهات غير محسوبة مع الإدارة الأميركية الجديدة، أو إنها لا تبالي بذلك، سعياً منها لإجراء مساومات مع هذه الإدارة في ملفات أخرى عالقة (أوكرانيا، الدرع الصاروخي، الحظر التكنولوجي، أسعار النفط). ورابعها، يتعلق بالمعارضة السورية، بكياناتها السياسية والعسكرية، إذ من غير المعقول بقاؤها على النحو الذي هي عليه، ببناها وخطاباتها وأشكال عملها، وبتشتتها، وارتهان ارادتها، وبالفجوة بينها وبين مجتمعات السوريين في الداخل والخارج.

الفكرة هنا أن المعارضة معنية بإعادة تنظيم أحوالها وترشيد خطاباتها، والارتقاء بأشكال عملها لمواجهة الاستحقاقات والتحديات المقبلة، لأنه من دون ذلك لن يستطيع السوريون الاستثمار في التحولات المرتقبة، والبناء عليها، وبخاصة أن النظام يبدو كجبهة موحدة، وينتهج استراتيجية واضحة وخطابات متماسكة، في حين تبدو المعارضة على خلاف ذلك.

اقرأ المزيد
٣١ يناير ٢٠١٧
الخليج وإيران... الحوار الواقعي أم الصراع الضروري؟!

لا مِراء في أن الحوار والتفاوض السياسي بين الدول جزء أساسي من العمل الدبلوماسي، والسياسات والاتفاقيات بُنيت لتكون ثمرة لورش الحوار، ونتيجة الجلوس على الطاولة والتفاهم، لكن المشكلة ليست في امتثال الحوار قيمةً بين الدول المختلفة، بل في كون الحوار ضمن النهج المتبع سياسيًا أم لا، لدى الضفة الأخرى!

رسالة أمير الكويت، لإيران، التي حملها وزير الخارجية الشيخ صباح الخالد، تتعلق بالحوار والعلاقة بين دول الخليج وإيران، الرسالة كانت حكيمة وواضحة، خلاصتها «أن العلاقات بين إيران والخليج، يجب أن تكون مبنية على ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي الخاص بالعلاقة بين الدول، إننا شركاء في المنطقة، ولدينا مصالح مشتركة وإمكانيات كثيرة، والحوار وتطبيع العلاقات سيعودان بالمنفعة على الجانبين».

الرئيس الإيراني روحاني، رحب بهذه المبادرة، واعتبرها خطوةً إيجابية لتحسين العلاقات، كل ذلك حسن وسائغ، ويفتح كوةً على جدار صلب، غير أن المثل شيء، والواقع له حيثياته الأخرى. لنتذكر شهادة رفسنجاني نفسه، وهو جزء من تأسيس النظام الإيراني، وعرّاب وصول خامنئي إلى سدة منصب المرشد وهو يتحدث عن «نكث النظام الإيراني بالاتفاق الذي أبرمه مع السعودية»، وذلك عبر التدخلات السافرة في شؤون الخليج الداخلية. هناك امتناع من النظام الإيراني عن محاورة خصومه من الإيرانيين في الداخل الذين يقضون أحكامًا جائرةً بالإقامة الجبرية، أو السجن والاعتقال، يحدث هذا مع مختلفين مرموقين مع النظام مثل الرئيس السابق محمد خاتمي، أو بعض أحفاد الخميني، وورثة رفسنجاني، هذه هي العقلية التي تدار بها الأمور داخل البلاد، فكيف يمكن للآخرين توقع ردات فعلٍ أو خطواتٍ تذهب بعيدًا باتجاه الحوار وضبط التدخل، واحترام سيادة الدول؟!

نعم هناك أصوات أقل جنونًا، أو قل «عاقلةً» في إيران، استطاعت دول الخليج التعامل معهم بنجاح مثل محمد خاتمي، وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني، وسواهما، لكن هذه أطياف لا تشكل لونًا فارقًا على لوحة إيران الدموية!

ما يفقده النظام الإيراني هو الواقعية السياسية، لهذا امتاز رفسنجاني عن نجاد وروحاني، وفي مقابلة موقع «جماران» مع غلام علي رجائي، مستشار رفسنجاني يقول عنه: «كان يحظى بميزتين؛ الأولى نظرته الواسعة، فمثلاً عندما كان يقترح حلاً لمشكلات العالم الإسلامي، كان يعرف الواقع الشيعي والسني، فإذا دعا للتقارب والتفاهم مع أهل السنة كانت دعوته على أساس اعتبارهم أشقاء أولاً، وأن الشيعة أقلية في العالم الإسلامي من ناحية العدد ثانيًا. إن رفسنجاني كان واقعيًا، فمن هذا المنطلق استجاب الملك عبد الله بن عبد العزيز لدعوته، وكان يكرر دائمًا أننا توصلنا إلى اتفاقات مع الملك عبد الله، وشكلنا لجانًا لكل المشكلات في المنطقة والعالم الإسلامي من قبل القدس ولبنان والعراق ومناطق أخرى، لكن أحمدي نجاد تخلى عن تلك الاتفاقات المهمة كافة».

الخطابات السياسية التي يدلي بها الساسة والدبلوماسيون في القمم الدولية، تتسم غالبًا بالبراغماتية وتوجه إلى الغرب أكثر من كونها متضمنةً رسائل لدول الجوار، لكن العمل العسكري عبر الحرس الثوري يعبر عن سياسة إيران الحقيقية، وعن مشروعها في تصدير الثورة، أما الخطاب السياسي الهادئ كما يجسده وزير الخارجية ظريف، فإنه قشرة لينة على قنبلة قاتلة!

الحوار مع إيران من حيث الفكرة، هو جزء من العمل السياسي لأي دولتين جارتين في العالم، هذا من حيث الفكرة والشكل، لكن على الأرض والواقع، وبقياس الإمكانات والاحتمالات، فإن نجاحه صعب للغاية، لأن أنياب إيران غرست باليمن ولبنان وسوريا والعراق، وأججت للطائفية وقتل الآخرين على الهوية، وعودتها لتكون إيران خاتمي، أو رفسنجاني، تلك المراحل العابرة سريعًا لن يكون أمرًا سهلاً، بل أراه شبه مستحيل في المرحلة الحالية، والملك سلمان حدد سياسة السعودية، وماذا يجب على دول الجوار احترامه، وذلك بـ«الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية، بما في ذلك احترام مبدأ السيادة، ورفض أي محاولة للتدخل في شؤوننا الداخلية»، تلك خلاصة سياسة السعودية، دولة الاعتدال.

اقرأ المزيد
٣١ يناير ٢٠١٧
الديموقراطية والتنوير والحداثة

ازدادت في الفترات الأخيرة عملية تفكيك وتهشيم المجتمع السوري بحيث جعلت منه حالة مصدعة على نحو شمولي مأساوي، وراح الأمر يبدو وكأنه غدا مع سوريا ريحاً صرصراً لم يترك إلا الخراب والآلام، إضافة إلى شكوك سوداء في القدرة على إعادة البناء، ولكن إرادة الشعب السوري على هذا الأخير هي الرهان الذي يبرز بقوة، رغم كل شك وتشكيك في ذلك. وفي هذا وذاك تبرز النواظم لهذه الإرادة، على رغم ما قد يبرز من سلبيات، ولا شك أن إنجاز ذلك مجتمعاً سينتج ما سيكون البدايات الناظمة لإعادة الأيقونة العظمى إلى ألقها.

وإذا قلنا إن تحقيق هذه المهمة يمثل واجباً وجودياً وأخلاقياً وإنسانياً، على الجميع أن يشارك في إنجازه، فإنما نعني أن على هؤلاء جميعاً المشاركة في ذلك انطلاقاً من واقعين اثنين، أولهما المشاركة المادية، العسكرية والاقتصادية والجغرافية الطوبوغرافية.. إلخ، كما يتبلور في المسؤولية الأخلاقية والسياسية حيال الصمت المريب والمؤلم الذي أبداه الآخرون في العالم، حين أظهروا عجزاً فاضحاً في الصمت على قتل الأطفال، وعلى استباحة النساء بشكل فاحش مُريب إلى حد الثمالة. وذلك كله لا يعوضه إلا استعادة العافية البيولوجية والإنسانية والأخلاقية التاريخية للشعب السوري الذي قدم ما نراه في ملحمة الخلاص والكرامة.

إن هذا الحدث السوري الفائق الدلالة بالنسبة إلى ما مر بشعوب العالم الأخرى لن نسدد الدَّين التاريخي المترتب عليه، إلا إذا وُفقنا في ضبط عناصر إرادة البناء، كما في وضعها الموضع المناسب من التراكمات التاريخية السورية الفائقة في وجودها البشري المديد، وسيبقى طويلاً الصدى السوري في التاريخ، الماضي كما القادم، بأعظم ما قدمه شعبه، للكرامة البشرية، ورفعها إلى الفرادة أو قريباً منها في التاريخ.

وقد يكون هذا السؤال وارداً في هذا المنعطف التاريخي: ما الذي أفضى إليه الصراع السوري، وهل ما أفضى قابل للحل؟ ألم يكن الصراع السوري فريداً في التاريخ، بل هو صيغة من الصراع الذي ينشب حين يقف طرف من هذا الصراع في وجه التاريخ، حركة وتجدداً وتغييراً، بل وتثويراً إذا اقتضى الأمر، أي إذا خرج فريق من الناس الحاكمين، وعبر عن ذلك بالتمادي في ردود الفعل لإيقاف عجلة التغيير في بلد ما، وجعل هذه الرغبة كأنها خارج التاريخ، ومن هنا كان الوعي التاريخي لبعض ذوي السلطة والرأي غير ذي حكمة، حين يرفضون النظر إلى دواعي التاريخ، وأحياناً خاصة لضروراته! والمأساة تنساح أمام الشعب حين يواجه بالسلاح بدلاً من الإقرار بواقع الحال والعمل بمقتضى الضرورات التاريخية، فالوعي بهذه الأخيرة، وبالاستجابة لها، من علامات النمو الحضاري والوعي الوطني بالمعنى البسيط المباشر. وغياب ذلك يترتب عليه الوقوع في أخطاء تمتد مع الزمن بكل الاعتبارات والدلالات، ومن ثم، ها هنا تظهر إرادة الاستجابة الواعية للأحداث، وهذا من طبائع الأمور وأمهاتها، ومن ثم فليس من العيب الاستجابة لدعوة التغيير، حين تلعلع في السماء بصوتها الحكيم، مع الاستجابة المتواضعة الأمينة، بل بتقديم هذه الاستجابة محشوة بالرموز والدلالات التي عليها أن تقربها وتعلن ضرورة التبشير بها، وفق استجابة عقلانية وتواضع بشري تاريخي.

ومصطلح «الديموقراطية» قد يكون هنا ذا أهمية كبيرة تمتد إلى كل المصطلحات المعنية في هذا الحقل، وربما كذلك لغيرها مثل الحداثة والتنوير وإعادة البناء، إضافة إلى مفهومي الوطنية والقومية والنهضة.. إلخ، مع العلمانية والمجتمع المدني. وسنتوقف في منعطف دقيق وذي حساسية بالنسبة إلى موضوعنا، ونعني مركّب مفاهيم العلمانية والديموقراطية والمجتمع المدني، فليس بعيداً عن الاحتمال أن كل تلك المفاهيم الثلاثة تلتقي بصيغة أو بدلالة ما تشير إلى ما يربط بينها.

وقد نشأ مفهوم العلمانية في أوروبا وترك بصمات مشددة على علاقته بكل الحياة الأوروبية، فالكل ها هنا غدا النظر إليه بمثابة البصمة الرئيسة: أن تكون العلمانية موقفاً صارماً من الحياة، فهنا نغدو أمام حقلين من الحياة، الحياة الدينية والأخرى «اللادينية» المدنية في السياسة والمجتمع والثقافة الجديدة، وأخيراً حصرنا ذينك الحقلين كلاً في فسحة تعزله عن الآخر.

اقرأ المزيد
٣١ يناير ٢٠١٧
الخميني كما يدعون : "روح الله" التي عادت

تعيش ايران هذه الأيام حالة من الهياج العاطفي و الجنون الحزني على مؤسس دولتهم ، في ذكرى عودته من منفاه المشبوه ، التي بناها و أسسها الخميني قبل ٣٧ عاماً ، و مات بعد تأسسيها بثمان سنوات ، تاركاً إرثاً سلبياً على كاهل الإسلام و كل ما يحيط بالمنطقة .

الخميني الذي يعتبره الشيعة مرسال الإمام المهدي المختفي ، و صاحب القرار و الأمر و النهي ، فهو في مرتبة الرسول الأعظم لما يقولون عنه "صاحب الزمان" و بلغتهم "ولي العصر" ، خاض سلسلة من الاتفاقيات و الصفقات حتى وصل إلى سدة الحكم و أنهى حكم "الشاهنشاهي" .

الخميني الذي نظّم و أسس لدولة بوليسية غاية في التعقيد وضعها في قالب اسلامي ليضمن الهالة لها ، و نشر الرعب و الخشية ، أن أي مخالفة لها هي مخالفة لإرادة الله و"بقية" آل البيت على الأرض ، ألا وهو "المهدي" ، دولة قامت على أهداف و مشاريع استعادة أمجاد الفارسية ، بصبغة دينية ، و لباس شرعي ، و تأييد إلهي ، فهو مندوب المهدي .. ولي أمر المسلمين ، مؤسس جيش محمد ، مساند فعال لمواجهة الظلم ، و لكن على أن يكون تحت هذه الراية و الشعارات والخطب ، ما يعيد أمجاد الإمبراطورية الفارسية و الإنتقام من الحضارات أجمع و على رأسهم الحضارة العربية الإسلامية .

فالمشكلة التي تعيش إيران لإنهائها هي مشكلة حضارية بحتة ، و من عاش و عايش الفرس عموماً و الإيرانيين على وجه الخصوص ، سيلمس بشكل جلّي الحقد الدفين على العرب في أشعارهم و أقوالهم و مبادئهم ، فالعرب هم "آكلي الجراد" لا يحق لهم السيطرة أو التفرد أو التطور ، فكيف و حطموا أمجادهم و أنهموا أساطيرهم .

هذه الرؤية التي جمعت و تحجمع إيران مع الغرب و كل من يعادي العرب ...

ايران التي تقوم على نظام "ثيوقراطي" تعمل بكل ما أوتيت لكي تعيد وجودها المنفرد بالمنطقة ، و التفرد فعلته من خلال تعزيز المذهب الشيعي الإثني عشري ، و تفردها بدعمه و إدارة شؤونه ، كونه مذهب يقوم على أسس الطاعة و الولاء المطلق للمراجع الدينية ، و يرفض أي اختلاف أو تخالف مع الغير ، و يجعل من رجال الدين (تجار الدين) هم همزة الوصل بين العبد و الله على مبدأ "درجة درجة حتى تلتقي مع الله " و هم أولى و اهم هذه الدرجات .

الخميني هو لغز و عنصر فعال في التمدد الإيراني الحالي ، لذا يدأب الإيرانيون على إضفاء كامل هالات القدسية و التقديس ، و اعطاء قيمة لمحبته و السير على خُطاه كتلك التي يتعرض لها الإنسان يوم القيامة فهو "روح الله" ، و يملك مفاتيح الجنة ، و يرسم طرق الخلاص .

إيران القائمة على مبادئ التأليه و الرسولية المستمرة بعد سيد الخلق "محمد صل الله عليه و سلم" لم و لن تصل إلى مبتغاها ، فما قام على باطل فالبطلان مصيره .

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
سيموت بشار ولو بعد حين

انتشرت في السنوات القليلة الماضية، وخصوصا في 2016، مقالات وآراء عديدة تقارن بين ما يجري في سورية اليوم وما جرى قبل ثمانين عاماً تقريبا في إسبانيا، على خلفية الانقلاب العسكري العنيف الذي قامت به عناصر من الجيش الإسباني بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو ضد حكومة الجبهة الشعبية اليسارية المنتخبة في مدريد.

تقوم معظم المقارنات على التشابه في عامل التدخل الخارجي لصالح فرانكو، وتخلي الدول الداعمة للديمقراطية عن الجمهوريين، بشكل مباشر أحيانا وغير مباشر أحيانا أخرى، وهو ما حصل، بطريقةٍ أو بأخرى، مع النظام السوري والمعارضة الشعبية له، حيث تُركت الأخيرة لتدخل دوامة التخبط وحيدةً في مواجهة نظام دموي مدعوم مادياً بشكل رئيسي من إيران، وعسكرياً من إيران وروسيا. بينما وُعدت المعارضة بالدعم الذي لم يأت، أو أنه قُنن واستُخدم للتلاعب بكل مجريات الأمور على الأرض، بما يخدم حالة الاستعصاء العسكرية لمرحلة طويلة، والتي ستنتهي، على ما يبدو، بفوز عسكري للنظام، وهو ما لن يستطع، كما كانت الحال في إسبانيا بعد فوز فرانكو، أن يقتل روح الثورة التي ستعاود الاشتعال بأشكال مختلفة لتعيد إلى سورية حريتها، ولو بعد حين.

فعلى الرغم من فوز فرانكو العسكري عام 1939، بعد عامين من المعارك المشرّفة التي خاضها الجمهوريون دفاعا عن الديمقراطية، وعلى الرغم من تعرّض جزء كبير من الشعب الإسباني للنزوح والتشرد بعد الهروب من بلادهم، وتعرّض الآلاف للإعدامات الميدانية، وغالبيتهم من النخب الثقافية والسياسية المناوئة لفرانكو، وعلى الرغم أيضا من القمع الوحشي والدكتاتورية المطلقة اللذيْن حكم بهما فرانكو إسبانيا حوالي 36 عاما حتى تاريخ وفاته، على الرغم من ذلك كله، استطاعت جيوب المقاومة السرية أن تقلق عرش فرانكو طويلا، وأن توجه له ضربةً قاضيةً باغتيال لويس كاريرو بلانكو، مساعد فرانكو الأوثق ووريثه المحتمل في الوصاية على رئاسة الدولة. وهو ما يُعد حدثا مفصليا في تاريخ إسبانيا، لأنه أسقط حلم فرانكو في استمرار حكمه من بعده.

لا مجال هنا للدخول في تفاصيل الأحداث. لكن، يمكننا أن نقول بشكل عام إن كل تلك الوحشية والقمع و"الانتصارات" العسكرية التي سلمت فرانكو العرش، وأبقته فيه، لم تستطع أن تمنع إسبانيا من النهوض دفعةً واحدةً، وكالمارد من تحت الرماد، ما إن مات الدكتاتور، وذلك لم يكن ليكون لولا تذوّق الشعب الإسباني طعم الحرية والديمقراطية، وقتاله دفاعا عنها، وتقديمه ثمنها كاملا قبل حكم الطاغية وفي أثنائه.

كان العالم يعرف أنه يسلم إسبانيا للدكتاتورية المجرمة، كما يعرف العالم نفسه اليوم أنه يسلم سورية لدكتاتوريةٍ قد تكون أسوأ وأقسى وأكثر إجراما. أما الشعوب فكانت، ولا تزال، تعرف أن التاريخ لا يمكن أن يعود إلى الوراء، وأن الثورات لا تُهزم، حتى وإن أسكت الرصاص أصواتها إلى حين.

لم تهزم الثورة السورية ولن تموت، فقد انتصرت حين كسرت جدران الصمت وقيود الفكر. انتصرت حين قالت للطاغية إنه الدكتاتور الأخير على هذه الأرض، حين عّرته تماما أمام نفسه، وأمام العالم المشيح بوجهه اليوم، كي لا يعترف بهزيمته الأخلاقية والإنسانية. انتصرت حين أجبرت كل سوري على الوقوف أمام المرآة عارياً، إلا من إنسانيته، وحين أمادت الأرض السورية لتخرج كل الغث من باطنها، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، ثم جرفتهم جميعا إلى الهاوية.

حتى وإن "انتصر" نظام الأسد عسكريا في هذه الجولة، فإنه مهزومٌ حتى الصميم، ومنخور بالسوس الذي سيأكله سريعا.

بشار الأسد هو الطاغية الأخير على أرض سورية، حتى وإن اجتمعت لدعمه كل أهل الأرض، وأجبرتنا، نحن السوريين، على الضغط على الجراح سنوات أخرى، سنعمل خلالها على إعمار ذواتنا المهشّمة المجروحة والتخطيط الصحيح ليومٍ سيأتي لا محالة، تحمل شمسه فجراً جديداً لسورية، حتى وإن كنا سننتظر حتى يموت الطاغية.. وهو ما تقوله شائعات اليوم.

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
حلب آخر معارك روسيا بانتظار قمة بوتين - ترامب

تكرّر موسكو أن لا حل عسكرياً لأزمة سورية. وتقود منذ تدخلها العسكري خريف 2015، نشاطاً ديبلوماسياً لا يكل ولا يمل لإبرام حل سياسي. لكن هذا الحل يبدو أيضاً معضلة، إن لم نقل مستحيلاً. فلا هي قادرة على فرضه بالقوة. ولا هي على سكة واحدة مع اللاعبين الآخرين والمتصارعين على بلاد الشام. اجتماع آستانة الأخير لم يفشل، لكنه لم ينجح وقد لا ينجح إذا ظل المعنيون بالحل على مواقفهم. تقدم الكرملين خطوة باتجاه الفصائل المسلحة التي حضرت الاجتماع ووافقت على وقف النار. لكنه لم يستطع إقناعها ولن يستطيع، لا هو ولا الآخرون بدفعها إلى القبول ببقاء الرئيس بشار الأسد، حتى وإن قبلت بإعادة تأهيل النظام مع تعديلات معقولة نصت عليها مسودة «روسية» للدستور السوري الجديد. لا يجرؤ فصيل سياسي أو عسكري على القبول بما تقدمه روسيا بعد كل هذه التضحيات، حتى وإن سكتت تركيا، أحد الأطراف الثلاثة الضامنة الهدنة. وهي سكتت بالفعل وقبلت على مضض ألا يتضمن بيان العاصمة الكازاخية أي إشارة إلى إعلان جنيف الأول وإعلانات فيينا. صحيح أن القرار الدولي 2254 الذي لحظه البيان الثلاثي الروسي - الإيراني - التركي يتضمن إشارة إلى إعلان جنيف. إلا أن الواضح أن موسكو تستهدف منذ استئثارها بالدور البارز في إدارة الأزمة، إلغاء كل ما سبق، وإرساء قواعد ومفاهيم وعناصر جديدة للتسوية. لذلك، أعلن وزير الخارجية سيرغي لافروف تأجيل مفاوضات جنيف، مفضلاً أن تتحول آستانة مقراً لأي مفاوضات بديلاً من المدينة السويسرية.

لا شك في أن موسكو حققت في آستانة خطوة متقدمة على طريق استثمار تدخلها العسكري، خصوصاً في حلب أخيراً. ولم يشر البيان الثلاثي إلى إعلان جنيف الذي بات كتاباً «مقدساً» للمعارضة. لذا، لم يوقع ممثلو الفصائل على البيان، وكذلك فعل النظام. وهنا المعضلة في الحل الذي يبحث عنه الرئيس فلاديمير بوتين. لا شك في جدية بحثه عن الحل. لكن عقبات كبيرة تعترضه. أولها موقف إيران والنظام في دمشق. وليس سراً استياؤه من موقف هذين الحليفين. وصور الخلاف بين موسكو وطهران لا تحتاج إلى تظهير، منذ بداية التدخل العسكري الروسي. لم يصل الأمر إلى حد القطيعة وقد لا يصل بانتظار ما ستسفر عنه القمة المرتقبة بين الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب ونظيره بوتين. ولكن، حتى هذه قد تفاقم العقبات. سيد البيت الأبيض لن يحمل إلى القمة المرتقبة في الربيع المقبل ملف سورية وحده. سيضع في جعبته كل الملفات موضوع الخلاف من أوكرانيا إلى إيران مروراً بسورية وغيرها. يعني ذلك أن اللقاء بين الزعيمين قد يثمر أو لا يثمر صفقة كاملة. بالطبع ما يأمل به المعنيون بسورية، خصوصاً أطياف المعارضة بكل أجنحتها، ألا يكتفي الزعيمان بالتفاهم على محاربة «داعش» وما شاكل، بل أن تنضم واشنطن إلى الجهود الثنائية الروسية - التركية لترتيب حل مُرضٍ يرفع اليد الثقيلة للجمهورية الإسلامية عن دمشق. ويحبط استراتيجيتها في بلاد الشام، مقدمة أيضاً لانضمام أطراف أخرى، مثل دول الخليج، إلى رسم مستقبل سورية. وما لم يحصل مثل هذا التفاهم الدولي - الإقليمي الواسع ستظل التسوية معضلة تماماً كما الحسم العسكري المستحيل. ويصعب الآن التنبؤ بموقف الإدارة الأميركية الجديدة حيال الأزمة في بلاد الشام. وإشارة ترامب إلى تأخير رفع العقوبات التي فرضها سلفه على روسيا، ودعوته أركان فريقه إلى البحث عن إقامة ملاذات آمنة في سورية، لا تؤشران إلى سهولة التفاهم بين الكرملين والبيت الأبيض في القمة الموعودة.

المعارضة السورية تلقت ضربات قاصمة بعد حلب. لكنها ليست في وارد التسليم ببقاء الرئيس الأسد. لن تعول على مدها بسلاح نوعي يعيد شيئاً من التوازن على الأرض. لكن القضاء عليها بالكامل شبه مستحيل والحسم الميداني ليس في أجندة القوات الروسية لاعتبارات كثيرة. تحسب موسكو ألف حساب لحضور إيران واستراتيجيتها وقدرتها على التأثير في موقف الرئيس الأسد. ولعل الرئيس بوتين ليس واثقاً في قدرته على تنفيذ أي التزام بتنحية الأسد إذا اقتضت صفقة كبرى ترحيله. استثمرت طهران الكثير في سورية وقدمت الرجال والمال. ومارست أخيراً ضغوطاً واسعة على دمشق وأوقفت إمدادها بالنفط وتقديمات أخرى لنحو شهرين إلى أن حصلت على عوائد ضخمة لتدخلها وميليشياتها. وضعت يدها باتفاقات رسمية على مناجم الفوسفات، وعلى مساحات واعدة للتنقيب عن النفط كانت من نصيب الشركة السورية للنفط. ونالت ترخيصاً ثالثاً لتشغيل الهاتف الخليوي. وكانت تضغط بلا جدوى للحصول على موقع في مرفأ اللاذقية. وهذا هو العنصر الأهم في استراتيجيتها. وللحقيقة أن الأسد استطاع حتى الآن التملص من هذا المطلب.

الإمساك بموقع على الساحل السوري هدف رئيسي لإيران، يضعها في مواجهة مكشوفة مع روسيا وتركيا أيضاً. ليس سراً أن الجمهورية الإسلامية تريد، بتحركها العسكري وبناء جيوش رديفة من الميليشيات التابعة لها، استكمال وضع يدها على سورية ولبنان كما هي الحال في العراق. وتقضي خطتها الاعتماد على «الحشد الشعبي» وباقي الميليشيات لبناء جسر كبير يمتد من حدودها إلى أرض الرافدين فبلاد الشام مخترقاً المثلث السنّي الكبير بين هذين البلدين حتى الوصول إلى الساحل. يضمن لها هذا بناء خط لتصدير الغاز إلى أوروبا والغرب عموماً. مثلما يضمن لها تحقيق هدف آخر هو التواصل البري الآمن مع حلفائها في لبنان. هكذا، تستكمل عناصر أساسية من سياستها، وترسخ حضورها أو ثقلها السياسي والعسكري والاقتصادي في المشرق العربي. ولا يخفى أن هذه الأهداف تصطدم بسياسة روسيا التي سعت من الساحة السورية بعد الأوكرانية إلى توكيد قوتها دولة عظمى. وقد طوت صفحة خلافاتها مع تركيا من أجل ضمان التعاون معها في بناء خط مماثل لتصدير الغاز عبر القناة التركية لتظل تتحكم بمصادر الطاقة إلى أوروبا عموماً. فهي تدرك أن الاقتصاد هو عماد قوتها إلى جانب قواها العسكرية. إضافة إلى رغبتها في التعاون مع الدول الخليجية لأهداف تتعلق بالطاقة أيضاً، ولحرصها على عدم ترسيخ صورتها عدواً للعالم السنّي والعربي عموماً.

الجبهات المشتعلة الآن ترسم مشهداً يعكس سياسات الأطراف المعنية. هناك جبهتا تدمر ودمشق وجبهتا الباب وإدلب. الواضح أولاً أن حلب ربما كانت آخر المعارك الروسية، بانتظار الصفقة الكبرى مع الولايات المتحدة. فالواضح أن القوة الروسية التي أعادت حلب إلى حضن النظام قادرة على استعادة تدمر، وقادرة على إلقاء ثقلها الكامل لفك الحصار الذي يضربه «داعش» على بضعة آلاف من جنود النظام في دير الزور. بل قادرة أيضاً على المساهمة الفعالة لتغيير ميزان القوى في إدلب وريفها. فلماذا هذا الإحجام؟ الواضح أيضاً أن قوات النظام وحليفته إيران وميليشياتها تركز على إدلب بدلاً من تدمر لقطع الطريق على النفوذ التركي شمالاً فلا يكون قوة موازية للحضور الإيراني، ولتوجيه ضربة إلى تفاهم موسكو - أنقرة. ويتناسى رأس النظام في دمشق ما قد يحل بالآلاف من جنوده المحاصرين في دير الزور. لعله لا يزال مأخوذاً بنشوة «النصر» الحلبي. أو لعله، إذا وقعت الواقعة، يشحذ آلته الدعائية حيال الغرب بدماء هؤلاء الجنود «ضحايا تنظيم الدولة» كما فعل ويفعل. والإشكال الذي يتحكم بالصراع الخفي بين روسيا والجمهورية الإسلامية أن الأولى تعي مدى حاجتها إلى قوات برية تساعد طيرانها العسكري في تحقيق «إنجازات» على الأرض. بينما تعي الثانية مدى حاجتها إلى القوة الجوية الروسية في الحرب الدائرة. وخير دليل ما حصل في تدمر حيث استأثر الرئيس بوتين بالاحتفال بالنصر، وأصر على إخراج الميليشيات من المدينة. مع أنه يعرف سلفاً أن القوات النظامية السورية لا يمكنها القتال في جبهات عدة. ولا يمكنها وحيدة الحفاظ على ما يتحقق على الأرض. والسؤال اليوم هل لإحجام الكرملين عن الانخراط الحاسم في معارك إدلب وتدمر ودير الزور علاقة بفرملة المشروع الإيراني؟

لا شك في أن الرئيس بوتين لن يجازف في خسارة حليفه الآخر، تركيا التي وقعت على مضض على بيان آستانة، وعدلت خطابها حيال بقاء الرئيس الأسد، من باب الحرص على تفاهمها مع روسيا. وهي تأمل بأن تبدل إدارة ترامب في سياسة أميركا حيال الملاذات الآمنة، لعلها ترتاح من خطر الإرهاب الذي يجتاح مدنها، وترتاح من عبء ملايين اللاجئين ومشاكلهم المرافقة. كما أن بوتين بتفاهمه الواضح مع إسرائيل يعي الإشكالية التي تواجه تل أبيب. فهي تتمسك من جهة ببقاء الأسد خوفاً من رحيلٍ يودي إلى نموذج ليبي ومرابطة قوى متشددة على حدودها الشمالية. ومن جهة أخرى تخشى أيضاً مرابطة إيران وميليشياتها المتحالفة مع النظام على حدود الجولان... يبقى أن سورية قد لا تحتمل استمرار الحرب لسنة أخرى لن توفر البقية الباقية من معالمها بشراً وحجراً. وعند ذلك يسهل تحويل بلاد الشام عراقاً آخر!

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
مجدّداً في عهدة شبابها

من حسنات ما ترتّب على هزيمة حلب المرعبة ما نشاهده اليوم من تجدّد لدور الشباب السوري في الثورة. وكما أخذت فاعلية الشباب، في بدايات الثورة، شكل حراكٍ سلميٍّ ومجتمعيٍّ واسع ويومي، تستعيد أنشطتهم المتجدّدة في كل مكان ذكريات ذلك الحراك، وإن كانت لم تبلغ بعد المستوى الذي كان لها في مطالع الانتفاضة الاجتماعية/ السياسية الكبرى لعام 2011، التي بلغت، في فترة قصيرة، مستوىً ندر أن عرفته ثورةٌ سبقتها.

والآن، هل يمكننا القول بثقة: هزيمة التعسكر المتمذهب في حلب ستضع الثورة من جديد في عهدة حراكٍ يقوم به شبانها، إناثاً وذكورا؟ سيلاحظ متابع أنشطة المواطنين عامة، والشباب خصوصاً، عودة كتلٍ كبيرة من الشباب إلى مسرح الأحداث في مناطق سيطرة التنظيمات المسلحة، وسيلمس ارتباط الثورة المتجدّد بشبابها: الجهة التي لعبت الدور الأهم في انطلاقتها، وزوّدتها بشعاراتٍ ومطالب جعلت منها ثورة "حرية وسلمية للشعب السوري الواحد"، تنبذ الطائفية والتفرقة والتمييز والصراع والاقتتال بين السوريين، وتنشد مخرجاً سياسياً، يحرّرهم من الاستبداد، يجعل العدالة والمساواة نعمةً، ينالها كل مواطن، بعد الانعتاق من عبوديته للأسدية والتنعم بالحرية التي سيأتيه بها من ضحّوا بحياتهم في سبيلها.

لكن عودة الشباب إلى الثورة، والثورة إلى الشباب، لن تكتمل من دون استعادة مشروعها الحر الذي انطلق منهم، ويتطلب استئنافه انغماسهم فيه واستئنافه من جوانبه السياسية والميدانية والتنظيمية والفكرية كافة، وإزالة نواقصه التي حال دون نجاحهم في التخلص منها قمع نظام الأسد، وقتل عشرات الآلاف منهم، خلال حله القمعي/ العسكري الذي أزاحهم عن قيادة الحراك المجتمعي، ومنعهم من بلورة رؤيةٍ متكاملة لثورتهم. من هنا، يرتبط استئناف الثورة بتصميم الشباب على تجديدها، وتحريرها من التعسكر والتمذهب، وقيادتها في المنافي والمخيمات وداخل الوطن، واستعادة طابعها السلمي وحامله العظيم: مجتمع سورية الأهلي، ضحية التمذهب الذي قوّض دوره الوطني في معظم المناطق السورية، وتكاملت أفعاله وخططه مع أفعال نظام الأسد وخططه ضد الشباب وقطاعات المجتمع المدنية والحديثة التي دمرت الوحدة التي صنعت الثورة بين قطاعي المجتمع الحديث والأهلي، وسيرتبط تجدّدها من الآن بالشباب وقيادتهم حراك هذين القطاعين الثوري.

هل فات وقت تحقيق ذلك؟ كلا، لأسبابٍ عديدة، منها أن دوران الثورة، منذ أعوام، داخل حلقة مفرغة يرجع، في قسمه الأكبر، إلى افتقارها لقيادة شبابية ثورية، ونجاح الأسدية في تفكيك وحدة قطاعي المجتمع الثوريين، المدني والأهلي، ومذهبة الثاني منهما، وتطييفه وتعسكره، وذهاب خطاب المعارضة السياسي، الناقص واللحاقي، في اتجاه، والأعمال العسكرية، العشوائية والخارجة على أي نهج سياسي يلبي مصالح الشعب ويعزّز وحدته، في اتجاه آخر. ولم يفت الوقت، لأن السوريين لن يخرجوا من الفوضى من دون سد (وإزالة) فجواتٍ وعيوبٍ عطلت انتصارهم، أهمها افتقارهم قيادة شبابية مدنية تمارس دورها الحاسم في حراكهم السياسي ومقاومتهم العسكرية، يحتم قيامها مسارعتهم إلى تنظيم صفوفهم داخل الوطن وخارجه، وتأسيس صلاتٍ مدروسةٍ ويومية بينهم، تجدّد الثورة السلمية/ المدنية، وتبلور صيغاً متجدّدة لحراك نضالي يراعي أوضاع سورية الحالية، ويبني خططه عليه، لاستعادة الشعب إلى الشارع، وجعل عودته إلى الوطن، وبلوغ حل سياسي يطبق قرارات جنيف حول رحيل الأسد على رأس مطالبه.

هل يستطيع الشباب إنجاز هذه المهام الكبيرة؟ نعم، إنهم أهل لها، ويستطيعون تحقيقها. تشجّعني على اعتقادي هذا أدوارهم المبدعة في الثورة السلمية أمس، وعودتهم إلى الشارع اليوم، وحماستهم التي لم تخمدها سنوات القتل والحرمان والتهجير والتعذيب، وحراكهم الثوري والوطني الذي لا بد أن تكون الأيام قد أنضجته، وخطابهم السياسي المعادي للطائفية والمذهبية، العائد بالحرية إلى مكانها الأصلي رافعةً للثورة، تكون بها ثورة حقيقية، أو لا تكون أبداً.

لن يتخلى السوريون عن ثورتهم، ما بقيت أجيالهم الشبابية منتمية إليها، وعازمة على بلوغ هدفها السامي: الحرية والعدالة والمساواة لشعبها الواحد، المضحّي، الذي يرفض اليوم في كل مكان بديل الديمقراطية الإرهابي، الأسدي من جهة والمتمذهب والمتعكسر من جهة أخرى، الذي لا مفرّ من أن يسقطه عدوهما، شباب سورية إناثا وذكوراً، انتقاما ممن خانوا الثورة، ونكّلوا بشعبها.

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
اندماج للثورة أم للمنهج


ولدت الثورة السورية يتيمة، واستمرت في يتمها لست سنوات مرت بمزيد من القتل والإجراء وشلالات الدماء، وسط تكالب كل قوى العالم وشيعة الأرض ضد مطالب الشعب السوري في الحرية والخلاص، والعيش بكرامة بعيداً عن تسلط أجهزة المخابرات، وغطرسة الأفرع الأمنية لنظام الأسد وطغمته الحاكمة.


وتولى حماية الثورة طيلة أعوامها الستة أبنائها من الثوار الأوائل، وكل من لحق على دربهم، ومن قدم من دول بعيدة لنصرتهم، فشاب الثورة من الشوائب الكثير، ومرت بمراحل عدة من الضعف والانكسار، وتكاثرت الفصائل وتنوعت الإيديولوجيات والأفكار، وطفى الصراع الفكري والعسكري على سطح الأحداث، فتغيرت المعادلة العسكرية، وسقطت العشرات من المناطق بيد القوى المعادية للثورة من نظام الأسد وروسيا وإيران وقوات قسد وتنظيم الدولة.


ومع تنوع الأفكار وتبيان القوى، باتت فصائل تحاول السيطرة وتغليب موقفها ومنهجها على حساب القوى الأخرى، فنشب الصراع، تكتلت لأجله قوى عدة تتوافق على رؤية واحد ضد فصيل، فكان أولى زواله خلق الحجة " فاسد، مارق، عميل، مفحوص، مبيع" وتهم متنوعة، اختلقت لإنهاء الفصيل، والسيطرة على مقدراته ومقراته وسلاحه، وإنهاء مسيرته بعد سنوات قدم فيها المئات من الشهداء كانوا كتف لكتف في خندق واحد في قتال الأسد، فحكم عليهم جميعاً بنفس الحكم، وكل لأجل نصرة الثورة، وباسم تغليب مصلحة الدين.


وما إن زال "المفسدون" وتقاسم الحلفاء الغنيمة، عاد التوتر لمرحلة جديدة من الصراع الداخلي بين قوى الثورة، فحكم على فصيل آخر ربما كان ممن شارك بقتل أخيه وشارك في إنهائه، ليحكم عليه بحكم جديد، وتساق الفتاوى لإنهائه، وتختلف الرؤى بين مؤيد ورافض للفعل، وتسير الأرتال وتبدأ مرحلة إقناع الشعب بأن هذا الفعل لصالح الثورة، ولنصرة الدين، وتتباين المواقف، فيما لا حول للشعب ولا قوة حتى لم يستشر في أي أمر، جل ما فيه أن أبناءه هم وقود الحرب المستعرة، والخاسر الأكبر من كل هذا الاقتتال هم لا سواهم، فالأسد والروسي يقصفهم بطائراته، والأخوة من أبنائهم يتصارعون على أرض لم يتمكنوا من تأمين أبسط متطلبات الحياة فيها بعد لتكون حلبة لصراعهم وسط ترقب الأعداء.


ومع تباين المواقف بين مؤيد ورافض لكل هذه الأعمال التي وصفت بأوصاف عدة منها " البغي، الصيال، العدوان، السلب، التعدي"، وعبارات " تصحيح المسار، تغليب مصلحة الثورة، ترتيب البيت الداخلي، التخلص من المفسدين في الأرض، قطع دابر العملاء"، تتباين المواقف في النظرة البعيدة من كل تكتل أو اندماج لعدة قوى في جسم ثوري جديد، تختلف فيه الرايات، والمسميات، وربما يشوب قليلاً من تغيير وجوه القيادة.


فمع إعلان تشكيل "هيئة تحرير الشام" تباينت النظرة بين مؤيد لهذا التشكيل من وجهة نظره، أن الشعب يترقب هذه الخطوة منذ سنوات، ويترقب بفارغ الصبر توحيد الصفوف لمواجهة ما تتعرض له الثورة السورية من عدوان، وأن لا مجال لنصر إلا بتحقيق الوحدة بين قوى الثورة، وتغليب المصلحة الثورية على مصلحة المنهج والفصيل والكيان، وأن هذا التكتل هو المخلص بنظرهم، داعين باقي مكونات الثورة للالتحاق به.


وفي الطرف المقابل ينظر آخرون إلى أن هذا التكتل ما هو إلا لتغليب مصلحة الفصيل والمنهج على مصلحة الثورة، مستشهداً بالحرب التي تشن ضد كل فصائل الثورة الأوائل من الجيش الحر وحتى الإسلامية منها وكل من خالف أفكار هذا المنهج باسم الدين وبفتاوى المشايخ من أرباب هذه التكتلات، وناظراً للاندماج لأنه تكتل قوى تتفق على رؤية واضحة من باقي تشكيلات الثورة، وأن الادعاء بتغليب مصلحة الثورة والشعب يكون بالتمسك بمبادئ هذه الثورة لا باعتقال أبنائها، والسيطرة على سلاح كل من يخالفهم، وكل من لا يقوى على ردهم، بتهم الفساد في حين زاد الفساد وقويت شوكته أكثر عما قب.


وبين مؤيد ورافض لما تشهده الساحة من تكتلات، يعيش آلاف المعتقلين والمعتقلات في سجون طغمة الأسد، وتهجر مناطق لمخيمات تفتقر لأدنى مقومات الحياة وسط برد وحر وتقلب الظروف ونقص الموارد، في حين تشهد الساحة العسكرية أكبر انكسارات الثورة السورية، فبات الحكم اليوم لمن يغير المعادلة وينصر الثورة نصرة حقه، ويحقق مراد الشعب الثائر، لا مراده، ويغلب مصلحة الشعب الذي قام بالثورة ودفع كل الفواتير من دمائه ومازال يقدم.

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
الانقلاب على الثورة ..

من الخطأ اعتبار الهيكيلة الجديدة التي ظهرت خلال اليومين الماضين و اتخذت من اسم “هيئة تحرير الشام” ، أنها شيء سلبي و غير ذي فائدة ، و لكن في الوقت ذاته الخطأ الأكبر هو عدم الاهتمام بكارثية ما حدث ، و ما سيتبعه ، سيما أن المطلوب حاليا ليس الغفران على ما اقترف ، و إنما السماح بارتكاب الأشنع.

لم تكن الثورة السورية ، ذات ايدلوجية معينة أو اتجاه معين ، بل كانت شعبوية خالصة تماماً ، و متسعة حد احتضان جميع من أراد المشارك بها ، و مساندتها ، كما يقل “الصدر للضيف و العتبة للأصحاب المنزل” ، هذه النظرية التي كانت ساذجة بعض الشيء في البداية و تحولت إلى قاتلة في مواجهة ما يحدث الآن .

لم يكن لتنقلات جبهة النصرة بين القاعدة و فتح الشام وصولاً إلى هيئة تحرير الشام ، أي أثر علي المنهج الاقصائي و السلطوي المدعم بالدين ، بل كان الانتقال من صنف لآخر ، عبارة عن صك لمنحها المزيد من الاعفاءات و الضمانات بعدم المحاكمة و الحساب .

و انقلبت النصرة سواء أكانت “فتح الشام” أم بلبوسها الجديد “هيئة تحرير الشام” ، على أهل الأرض و قررت أن تضع نفسها كوصي عليهم ، مدعمة بعشرات الفتاوي من نوع “العابر للقارات” ، يرأسها مشايخ من النوع “فرق تسد” و “اضرب تحت الحزام” ، فالمهم لديهم هو الانتصار للفكر و الجماعة ، لا الأمة أو المجتمع .

اليوم يظهر الانقلاب على الثورة من خلال اقصاء طيف كامل من ثوارها و ممثليها في السلاح ، اصباغهم بصبوغات لاتتفق و الواقع بشيء ، و إنما أوهام حُملت عبر عشرات السنين ، التي كانت حُبلى بالفشل ، ليعاد تكرارها اليوم على أرض سوريا ، التي تتجرع كافة أنواع الموت تحت كافة أنواع التسميات ، ابتداء من الديكاتورية بأقذر صورها إلى التشدد بأحمق أشكاله ، وفي كل الأحوال لامكان للعقل و لا الحكمة ، و إنما الصوت الوحيد المسموع هو صوت “الرصاصة” التي اما أن تكون في رأس من بجانبك أو تسير باتجاه جمجمتك.

عمليات الانهاء المنظم و المدروس لمكونات الجيش السوري الحر “بمختلف تدرجاته” ، ليست عبثية بأي حال من الأحوال ، و كذلك ليست اسعافية كما يدعون ، و إنما هي تمهيدية لادخال الثورة في الاحتضار .

لايمكن النظر بتشاؤم شديد اتجاه “هيئة تحرير الشام” ، و لكن لا تفاؤل يعلو الوجوه ، سيما أن الممهدات و السوابق و المقدمات تشي أن الانقلاب يسير بخطى متسارعة ، و لكن هذه الخطى ستجد تثاقل يجعلها تتباطئ حتى التوقف لتعود للخلف ، فالثورة التي يتم الانقلاب عليها طوت ست سنوات ، دون أي كلل و تجاوزت كل المواجهات و الانقلابات المتلونة ، ونجت و رحل المنقلبون.

اقرأ المزيد
٢٩ يناير ٢٠١٧
دخول أميركي مفاجئ

لا يبدو أن مسار التحالف الجديد في سورية، أي الثلاثي الروسي التركي الإيراني، سيهنأ كثيراً في رسم مستقبل البلاد، في ظل وجود بشار الأسد أو غيابه، بعدما ظهر دخول أميركي مفاجئ على الخط، قد يعيد خلط الأوراق التي عمدت موسكو إلى ترتيبها طوال السنوات الثلاث الماضية، في ظل الانكفاء الأميركي في عهد باراك أوباما عن القيام بأي دور على الساحة السورية، ما فتح المجال أمام الروس للتفرّد بالملف، وسحب أطراف إليها، كانوا في الأساس أقرب إلى المحور الأميركي.

لم يجد التفرد الروسي في وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة تهديداً، في ظل التقارب بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومع تركيز الرئيس الأميركي الجديد على الملفات الداخلية، حتى بدا أن الولايات المتحدة مقدمةٌ على انكفاء إضافي على الساحات الدولية. وعليه، بدأت موسكو ترتيب "أوراق الحل" في سورية، بما يفيد حلفاءها وتوجهاتها، وأعدت لمؤتمر أستانة، ووزعت مسوّدة دستور سوري جديد، وحضّرت لمؤتمر سياسي جديد في جنيف، لترتيب إخراج دولي لـ "الحل السوري". إلا أن تطورات الأيام القليلة الماضية تؤشّر إلى أن هناك حاجة لإعادة النظر بكل هذه الترتيبات، بعدما أعلن دونالد ترامب نيته إقامة مناطق آمنة في سورية للاجئين الفارين من العنف. وهذا الكلام بمثابة "قلب للطاولة" التي اجتهد الروس كثيراً في إعدادها، متجاهلين أي دور أميركي محتمل، باستثناء دور المراقب المحايد، وهو ما مثله وجود السفير الأميركي في كازاخستان في مؤتمر أستانة.

ليست خطة ترامب عملياً جديدة، فهي كانت مدرجة ضمن توصيات المؤسسات الأميركية للرئيس السابق باراك أوباما، غير أن الأخير كان معارضاً بشدة لتنفيذها، وهو أمر يبدو مختلفاً مع الرئيس الجديد الذي يبدو ماضياً لإصدار قرارٍ في هذا المجال خلال تسعين يوماً، بحسب ما أعلن في مقابلته مع "إيه.بي.سي‭ ‬نيوز".

لا يأتي مخطط ترامب من منطلق حرص على السوريين، بقدر ما هو إبعاد اللاجئين عن الولايات المتحدة، وهو ما أقرّ به بعدما رأى أن أوروبا ارتكبت خطأ جسيما باستقبال ملايين اللاجئين من سورية، ومناطق اضطراب أخرى في الشرق الأوسط. وأضاف "لا أود أن يحدث ذلك هنا". لكن، بغض النظر عن خلفية القرار وتوجهاتها، إلا أنه يصب في خانة إعادة خلط الأوراق على الساحة السورية، وتشكيل تحالفاتٍ دولية جديدة في هذا السياق، ولا سيما بالنسبة لتركيا التي تلقفت الإعلان بترحيب كبير، وأتبعته بموقف مناقض لما كانت تعلن عنه في الأشهر الماضية، إذ شدّدت على ضرورة عدم وجود دور للأسد في مستقبل سورية.

الأمر نفسه بالنسبة إلى بريطانيا، والتي يبدو أن مواقفها السياسية الخارجية انتعشت مع التوجه الأميركي الجديد، وهو ما دفع وزير خارجيتها، بوريس جونسون، إلى إطلاق مجموعة من المواقف الخاصة بسورية واليمن وليبيا، ما يدفع إلى السؤال عن إمكان عودة الحلف الأميركي البريطاني الذي كان قائماً خلال عهدي جورج بوش الابن وتوني بلير.

خلط الأوراق هذا بالتأكيد لن يعجب موسكو، والتي يبدو أنها ستنتظر التوجهات الأميركية لإعادة تقييم سياستها، ولا سيما في سورية، بعدما لم تخف دهشتها من عودة فكرة "المناطق الآمنة" إلى التداول وفق الاستراتيجية الأميركية، وهو ما دفع الكرملين إلى التحذير من خطورة الصدام المحتمل، خصوصاً في حال تم الذهاب إلى فرض منطقة حظر جوي.

سيكون الانتظار سيد الموقف في الأيام والأشهر المقبلة، لتبيان المدى الذي سيمضي إليه ترامب في دخوله المفاجئ على الملفات الدولية عموماً، والملف السوري تحديداً، وقياس مدى جدية واشنطن الجديدة في تفعيل أدوارها الدولية، في إطار سياسة الحفاظ على المصالح المحلية التي ينتهجها ترامب.

اقرأ المزيد
٢٩ يناير ٢٠١٧
الأزمة السورية والحل الروسي

دعت روسيا وتركيا السوريين المسلحين وممثلي النظام إلى أستانا بجمهورية كازاخستان. وكانت مهمة الاجتماع تثبيت وقف إطلاق النار. وقد تحول الاجتماع إلى توسط الطرف الروسي بين إيران وتركيا على ذاك الوقف للنار وآلياته. إذ وقف النار في الأصل تمَّ بين الروس والأتراك وبضمانتهما. لكنّ أهل الفيتو أو القدرة عليه هم الإيرانيون وقوات النظام السوري. لذا كان لا بد لوقف القتال من الحصول على موافقة الإيرانيين وبشروطهم. ولذلك ازدادت التنازلات التركية في شمال سوريا إلى حدّ إمكان دخول قوات النظام إلى بلدة الباب، بدلاً من قوات «درع الفرات» المدعومة تركياً، أو إلى جانبها! والشائع الآن أنّ «داعش» ربما ينسحب من الباب لصالح قوات النظام، كما فعل في مواطن كثيرة، للإضرار بتركيا وقوات «الجيش الحر» المتحالفة معها. وهكذا لا يزال وقف النار رهينة لدى النظام السوري وإيران. وأتوقع استمرار القضم في وادي بردى والغوطة وجوبر وغيرها، إضافةً إلى الهجمات التي يعتزم النظام و«حزب الله» شنَّها في الجبهة الجنوبية (درعا) بعد التوافق فيما يبدو مع الحكومة الأردنية.

المهمّ أنه بعد أستانا مباشرةً دعا الروس المعارضة السياسية (دون المسلَّحة، بينما كانت السياسية غائبةً في أستانا!) إلى التشاور حول الحلّ السياسي. ويتناول ذلك أمرين: بنية المعارضة السياسية التي يريد الروس إدخال أنصارهم إليها (وكذلك الذين كانوا يلتقون بمصر، والأكراد) بحيث يصبح الحاضرون ثلثين (لصالحهم)، والثلث الباقي لـ«الهيئة العليا للمفاوضات» أو ما بقي منها. أما الأمر الثاني فهو الدستور الذي يُراد التفاوُضُ عليه ليكون مدخلاً للمرحلة الانتقالية إذا كانت تستحق هذا الاسم كما في بيان «جنيف-1». وقد وزّع الروس على المسلحين وعلى السياسيين المسوَّدة الدستورية التي يقترحونها، وفيها حكم ذاتي موسع للأكراد، ولا مركزية واسعة لسائر المحافظات والنواحي، وإسقاط للعربية من اسم «الجمهورية العربية السورية»، بحجة أنّ الأكراد ليسوا عرباً، كما أنّ الإيرانيين يريدون ذلك لأنّ العروبة عدوُّهم اللدود، وقد توافقوا مع الأميركيين على ذلك في العراق، وكانت الحجة الظاهرة أيضاً وجود الأكراد.

المعارضة السياسية السورية ضعيفة لأنها منقسمة. ثم إنها لا تملك مواقع مدنية أو عسكرية حقيقية على الأرض، رغم التنسيق مع «الجيش الحر». أما المعارضة المسلَّحة (المعتدلة) فوجوهُ ضعفها متعددة. فهي أولاً ما استطاعت حتى الآن تكوين قيادة مشتركة حقيقية حتى في شمال سوريا، ولديها عائقان: الأول هو «جبهة فتح الشام» (النصرة سابقاً)، والتي صُنّفت إرهابية، وهي أقوى الفصائل، وهي تقاتلها جميعاً الآن لأنّ الحلَّ لا يشملها. وفي كل الأماكن التي يتقدم فيها النظام والإيرانيون يتقدمون بحجة وجود «النصرة». والعائق الآخر «داعش» وحلفاؤه، والذين يفضّلون الآن مواجهة المعارضة المسلَّحة، وليس النظام السوري أو الميليشيات الإيرانية.

كيف ستمضي المعارضة أو المعارضات السياسية قُدُماً في التفاوض على الانتقال أو التواصُل أو المستقبل، ولديها كلُّ هذه المتاعب في داخلها وفي الداخل السوري وفي الإقليم والقوى الكبرى؟!

بكل المقاييس فإن الحل الذي يُبقي على بشار الأسد بحراسة إيران وروسيا لا يمكن أن يكون حلاً دائماً لأنه غير عادل وغير عربي وغير إنساني. فبعد مقتل نصف مليون إنسان، وجرح مليون ونصف، وتهجير اثني عشر مليوناً بالداخل والخارج، وتخريب نصف العمران السوري، لا يمكن لأي نظام شارك في ذلك كلِّه أن يكون جزءاً من الحل، فضلاً عن أن يكون نظاماً مستقبلياً للحكم الصالح.

وما دام الأمر كذلك، فما الذي يمكن أن يحصل، وليتخذ الحل سمة التسوية الدائمة؟ لا بد من تدخل عربي لتعديل الموازين العسكرية والأمنية والسياسية. فإذا كان المطروح الآن الملاذات الآمنة بشمال سوريا، فلتكن هناك قوة سلام عربية وإسلامية ودولية، ولتنتشر ليس للملاذ الآمن فقط، بل وللحلول محلّ المسلحين المعتدلين. وفي ظل وقفٍ ثابتٍ للنار ترعاه قوة سلام، يمكن أن تجري مفاوضات سياسية على المرحلة الانتقالية، ويكون نص «جنيف-1» هو الدليل المرشد. فأمام حكومة السلام التوافقي مهامّ تكاد تعجز عنها أقدر الحكومات، وأولها إعادة المهجرين من جهة، والإعمار من جهةٍ ثانية.

اقرأ المزيد
٢٩ يناير ٢٠١٧
تغيرات أستانة

هل تشكل نتائج اجتماع أستانة انقلاباً على المعارضة السورية وأهدافها؟ سؤال مرتبط بسؤال أعمق: هل روسيا قادرة على اجتراح حل للأزمة، بعيداً عن التفاهمات الدولية، وبمعزل عن المجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتحدة؟ الإجابة على هذا تحدد الإجابة على ذاك، أي إذا كانت موسكو قادرةً على عزل المجتمع الدولي في سورية، فإن المعارضة وقعت في فخها، وإذا كانت روسيا عاجزة عن ذلك، وأن ما جرى في أستانة ليس سوى تفاهمات ضمنية مع واشنطن، فللحديث بقية.

عملت موسكو في الاجتماع على تمييز نفسها عن النظام وإيران، وهو ما عبر عنه كبير مفاوضي المعارضة، محمد علوش، وآخرون. وليس هذا تغيراً مفاجئاً في مواقف موسكو، وليس انعطافة أيديولوجية، بقدر ما هو استكمال طبيعي لمسارٍ رسمته موسكو منذ زمن، وبتفاهم مضمر مع واشنطن، أو على الأقل محاولة روسية لتقديم رؤية وقواعد للحل، تقبلها إدارة ترامب.

وصلت موسكو إلى قمة ما يمكن أن تصل إليه في سورية، وبعد ذلك سيكون الانحدار سواء من الفيتو الغربي الإقليمي الذي يمنعها من التمدّد أكثر، أو من خلال النظام وإيران اللذيْن لن ينصاعا عندها إلى المطالب الروسية.

هنا، يمكن تفسير الاندفاعة الروسية في اجتماع أستانة، عبر محاولة تحويل الاجتماع من منصة مخصصة لمناقشة وقف إطلاق النار إلى منصة عسكرية ـ سياسية معا، وتقديم مسودة الدستور دليل على تسرع روسي في إرساء قواعد الحل، ورغبة منها في هندسة واقع سياسي، كما هندست الواقع العسكري.

ليس الاجتماع محاولةً للانقلاب على المعارضة، فهذا يتجاوز القدرة الروسية، وليس الاجتماع محاولةً لإضعاف النظام، أنه يعكس واقع الأزمة السورية وواقعية الحلول، بعدما كانت اجتماعات جنيف السابقة طروحات ميتاواقعية لطرفي الأزمة، لا تتماهى مع واقع المجال التداولي السياسي وحقيقته على المسرح الدولي المعني بالأزمة.

اعترف اجتماع أستانة بفصائل المعارضة المسلحة، وشرعن وجودها، بما فيها الإسلامية المعتدلة، وهذا تحول مهم جدا، وأكد أن حل الأزمة سياسي. والأهم أن الاجتماع عقد وانتهى في ظل وقف إطلاق النار، على عكس اجتماعات جنيف السابقة، وسيكون منطلقاً لتمييز الفصائل الوطنية عن الإرهابية التي أثقلت الثورة السورية، وكانت حجة عليها أمام المجتمعين، السوري والدولي. لكن تغييرات مهمة تبدّت في الاجتماع:

ـ إدخال إيران طرفاً راعياً وضامناً لوقف النار، وإذ اعترض وفد المعارضة على ذلك، من حيث إن هذه خطوة ستكرس طرفاً ساهم في قتل الشعب السوري، فإن لروسيا قراءة مختلفة، فإيران داخل الاتفاق وضامن له أفضل من أن تكون خارجه، حيث ستكون قادرةً، بطرق غير مباشرة، على عرقلة وقف إطلاق النار. ولذلك ترى موسكو، ببراغماتية، أن إدخال إيران سيجعلها مسؤولةً عن أي خرق له.

ـ عدم الإشارة إلى المرحلة الانتقالية، وهو تراجع عن مخرجات قرار مجلس الأمن 2254 والحراك الأممي الذي أعقب صدوره. ولهذا جانبان: الأول يخدم النظام، من حيث إنه لا توجد مهلة محددة لاكتمال التحول السياسي، كما نص القرار، وجانب يمكن وصفه بالواقعي، من حيث إن الواقع السوري المعقد كشف زيف المهل الزمنية. كما أن الروس يريدون إزالة معنى المرحلة الانتقالية من الأذهان، لما تحمله من دلالة على التغيير في زمن محدد.

ـ عدم الإشارة إلى بيان جنيف1، وهو انزياح عن القرار 2254، لكنه ليس انزياحاً كبيراً، فالقرار الذي يشكل المرجعية السياسية الوحيدة للحل في سورية أشار إلى البيان في مقدمته، وفي الفقرة الأولى، لكنه، في الفقرة الرابعة المخصصة لعملية الانتقال السياسي، لم يتطرق إلى صيغة البيان (هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة)، واستبدلها بعمليةٍ سياسيةٍ تقيم حكماً ذا مصداقية، يشمل الجميع، ولا يقوم على الطائفية.

تحاول موسكو، في استبعادها ذكر بيان "جنيف1"، التفريق بين اعتباره أساساً للانتقال السياسي واعتباره أساساً لوضع آليات الانتقال السياسي، وبين الأمرين اختلافٌ كبير، فلا مانع لدى موسكو، وواشنطن أيضا، أن يكون هذا البيان أساساً للحل السياسي في مخرجاته العامة، لكنه لا يصلح، بعد هذه السنوات، أن يكون أساساً لمخرجات العملية السياسية وتفاصيلها.

باختصار، اجتماع أستانة منصة قديمة ـ جديدة، هدفها إطلاق جنيف جديد، مع تغييراتٍ لم تسمح معطيات العام الماضي بإدخالها، وستكون هذه المعطيات على حساب المعارضة والنظام معا. ومن هنا، ربما تكمن واقعية الاجتماع.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني