ها هو دونالد ترامب يفاجئ فلاديمير بوتين الذي ينتظر منه الإشارات الطيبة من أجل تحسين العلاقات، فإذا به يلوّح له بالعمل على إقامة مناطق آمنة في سورية من أجل عودة النازحين السوريين إليها، ما أطلق تحذيراً من موسكو بأن على واشنطن أن تفكر «في العواقب المحتملة لإقامة هذه المناطق الآمنة».
وعدا أن ترامب يقتحم بخطواته العالم ويقلقه، ومعه الأميركيين أنفسهم، بتدابيره الخارجة عن المألوف منذ أن تسلم السلطة قبل أسبوع، فإن حديثه عن المناطق الآمنة في سورية يقتحم المسار التي رسمته موسكو في خريطة الطريق للملف السوري تحت ناظري باراك أوباما، وصولاً إلى رعايتها مع تركيا وإيران محادثات آستانة بين النظام والفصائل السورية المعارضة التي قبلت الانخراط في وقف النار بعد هزيمتها في حلب.
وفي انتظار استكشاف مدى جدية ترامب في إقامة هذه المناطق الآمنة، بات احتمال من هذا النوع عاملاً في حسابات الفرقاء المعنيين بالحرب السورية، بما فيها اجتماع قادة المعارضة الذين يلتقون اليوم في موسكو بناء لدعوة من سيرغي لافروف، بعدما كان الأمر مستبعداً كلياً من أي حسابات في السنتين الماضيتين، نتيجة رفض أوباما الأخذ به.
وللتذكير فإن دعوة أنقرة المستمرة إلى قيام المنطقة الآمنة شمال سورية كانت سبباً للتباعد مع واشنطن أوباما، وللخلافات الكبيرة بينها وبين القيادة الروسية، قبل أن يتفقا، ومع إيران. وإقامة هذه المناطق كانت تعني أيضاً تمكين المعارضة السورية المعتدلة من أن يكون لها مقرات ونقاط ارتكاز تتمتع بحماية دولية-إقليمية، تمنع النظام وإيران من استكمال ما يسميانه «تحرير سورية»، وتعزز موقع المعارضة التفاوضي في أي حل. فاستناد المعارضين إلى رقعة جغرافية ثابتة عصية على إيران وبشار الأسد كان ليعزز موقعهم على الطاولة أكثر.
وللتذكير أيضاً، فإن ترامب عندما يكلف البنتاغون دراسة الخطوة، فإنه يوكل المهمة إلى وزير دفاعه الجنرال جيمس ماتيس الذي كان مؤيداً لخيار هيلاري كلينتون حين كانت وزيرة الخارجية عام 2012، ورئيس السي.آي.إي الجنرال ديفيد بترايوس في حينها، بضرورة دعم قيام مناطق آمنة في سورية.
قد يزول عنصر المفاجأة التي أطلقها ترامب إذا كان خيار المناطق الآمنة يواجه صعوبات لأنه يتطلب توظيفاً عسكرياً وكلفة عالية، فيما الرئيس الجديد ينوي خفض الإنفاق العسكري خارج بلده. إلا أن اعتماد ترامب سياسة الحد من النزوح التي يعتبرها أولوية للحد من المهاجرين وتدفق الإرهاب إلى دول الغرب، قد يجعلها خطوة جدية. وهناك من يعتقد أنها قد تتحول سبباً لدى موسكو للتقارب مع سيد البيت الأبيض الجديد، لأن المناطق الآمنة تتلاءم مع قيام المجالس المحلية التي نصت عليها مسودة الدستور السوري التي قدمها المسؤولون الروس إلى قادة المعارضة في آستانة. وهي نوع من الفيديرالية أو اللامركزية الموسعة، في التصور الروسي للنظام السوري المقبل.
لكن الأسئلة حول هذه المناطق الآمنة تتعدى نية نقل النازحين إليها، نظراً إلى أنها تؤشر إلى مستقبل بلاد الشام، وأدوار اللاعبين الإقليميين والدوليين فيها. فهل تبدأ إعادة النازحين المدنيين إلى المنطقة الآمنة من الرقعة التي سيطرت عليها تركيا عبر عملية «درع الفرات» التي بدأتها الصيف الماضي وبلغت مساحتها ما يقارب الـ6 آلاف كيلومتر مربع والتي كان من أهدافها عزل مناطق الإقليم الكردي الموعود عن بعضها البعض. فضمان هذه المنطقة يعني تركيز كثافة سكانية آمنة من السوريين الذين نزحوا إلى تركيا ومن حلب. وهؤلاء خزان معاد للنظام، ما يثير حفيظة إيران وبشار الأسد لأنها تعطي موطئ قدم للمعارضة الفعلية المطالبة بحل سياسي أساسه تنحي الأسد، ما يعني الاصطدام بهما. أم تبدأ من المنطقة التي تسيطر عليها «قوات سورية الديموقراطية» بقيادة «حزب الاتحاد الديموقراطي» (يرأسه صالح مسلم) والذي تعتبره أنقرة إرهابياً. فمراعاة موسكو لتركيا في عدائها لإقليم كردي كانت أحد أركان اتفاق الدولتين الذي كان ثمنه «تسليم» تركيا حلب إلى القيصر الروسي. أم تبدأ من المناطق التي يسيطر عليها النظام والميليشيات الإيرانية و «حزب الله»، أي ما يسمى الشريط السوري المحاذي للحدود اللبنانية - السورية وصولاً إلى حمص؟ فالأخيرة هي المناطق التي أمعن هذا الحلف فيها تغييراً ديموغرافياً ومذهبياً كبيراً ما زال مستمراً حتى اليوم ويشمل العاصمة دمشق ومحيطها. وافتراض إعطاء الأولوية لهذه الرقعة في إقامة منطقة آمنة هدفه نقل جزء كبير من نازحي لبنان إليها، الأمر الذي قد يحول دونه التغيير الديموغرافي الحاصل، فضلاً عن أنه يصطدم بالمشروع الإيراني في سورية ولبنان معاً.
اتسمت دعوة الولايات المتحدة إلى المشاركة «بصفة مراقب» في المحادثات السورية في آستانة برمزية حتمتها ظروف الانتقال من إدارة إلى إدارة في واشنطن، لكنها قد تبقى في شكل أو في آخر ملازمة للتعامل الأميركي مع هذه الأزمة، أي أن يستمرّ «مراقباً». فالرئيس دونالد ترامب لم يبدِ، خلال حملته الانتخابية، أي اهتمام بالأزمة السورية خارج محاربة الإرهاب، وحصل شبه تبادل للتحيات بينه وبين بشار الأسد إذ قال الأول: «لا أحب الأسد، لكنه يحارب داعش» وردّ الآخر بأن «ترامب سيكون حليفاً إذا حارب الإرهاب»، وبعد ذلك وجد المرشح الجمهوري قبيل انتخابه ضرورة لتضمين برنامجه أي اقتراح عملي فأضاف تأييداً مبدئياً لإنشاء منطقة آمنة في شمال سورية ليلجأ إليها النازحون الجدد. وغداة انتخابه قدّم ترامب ما يشبه الضوء الأخضر للإجهاز على حلب، ولم تستثر الفظائع والجرائم أي ردّ فعل من جانبه ولا حتى أي موقف إنساني، أما التفاهمات الروسية - التركية التي سبقت مأساة حلب وتلتها فطوت عملياً مسألة «المنطقة الآمنة»، ولم تعد أنقرة تتحدّث عنها. بقيت إذاً الحرب على «داعش»، ولا يريد ترامب أن يكون فيها مراقباً.
في خطاب التنصيب قال ترامب عبارته المفخّخة: «سنوحّد العالم المتحضّر ضد الإرهاب الإسلامي المتطرف الذي سنزيله في شكل كامل عن وجه الأرض». كان الرؤساء الثلاثة الذين سبقوه مباشرة إلى البيت الأبيض، وواجهوا تفاقم خطر الإرهاب، تفادوا إلصاق الصفة «الإسلامية» به، سواء مراعاةً لحساسيات المسلمين الذين يرفضون «إسلامية» الإرهاب ولا يعترفون بها، أو أيضاً لأن إزالة الإرهاب تحتاج إلى تعاون المسلمين، أو خصوصاً للحؤول دون جدل شعبي قد يتدهور في مجتمعات الغرب إلى مواقف تمييزية وعنصرية. ومنذ إفادات مرشحي ترامب للوزارات الرئيسية أمام لجان الكونغرس، بدا اعتماد هذا المصطلح معبّراً عن روح مختلفة لسياسة الإدارة الجديدة وأولويتها التي حدّدها بيان نشره موقع البيت الأبيض كالآتي: «هزيمة الدولة الإسلامية وجماعات الإرهاب الإسلامي المتطرّف ستكون أولويتنا العليا». وعدا اللغة الشديدة لم يقل البيان بماذا ستختلف حرب ترامب على الارهاب، إذ إن الوسائل التي ذكرها (عمليات عسكرية نشطة، قطع التمويل عن «داعش»، مواجهة دعايته وتجنيده بالهجمات الإلكترونية، وتوسيع تبادل المعلومات الاستخبارية) هي ذاتها التي أوردها الوزير جون كيري في مقالة (نيويورك تايمز 20/01) عن إنجازات الإدارة السابقة بدءاً بمحاربة الإرهاب التي يُفترض أن تبلغ غاياتها المرسومة خلال ولاية ترامب.
مع أن أميركا أوباما أولت الخطر «الداعشي» أهمية، إلا أنها حافظت إلى حدٍّ ما على مقاربة مختلفة للأزمة الداخلية في سورية، مميّزةً بين معارضة «معتدلة» وجماعات متشدّدة، ومتعارضة جزئياً مع المفاهيم التي تبنتها روسيا. الفارق مع أميركا ترامب أنها أعطت انطباعاً قويّاً بأنها تميل إلى ترك روسيا تدير الملف السوري، كما أنها انزلقت باكراً وسريعاً إلى اختصار الأزمة بالإرهاب لتلتقي بذلك مع بروباغندا الأسد والإيرانيين، أما جديدها غير المؤكّد بعد فقد يكون التعاون مع روسيا ضد الإرهاب، وكان أن هذا التعاون رُفض من جانب البنتاغون والاستخبارات قبل اتفاق كيري - لافروف في أيلول (سبتمبر) الماضي وبعده. ويمكن القول أن روسيا غيّرت خلال الفترة الانتقالية بين الإدارتين الأميركيتين الكثير من معادلات الأزمة السورية ومن معالم الحرب على الإرهاب، إذ وسّعت نطاق عملياتها الجوية ضد مواقع «داعش»، وتفاهمت مع تركيا على دور لها داخل الأراضي السورية، وهو ما رفضه الأميركيون دائماً مفضّلين التعامل مع الأكراد، كما تغاضت روسيا عن اقتراب قوات الأسد وميليشيات إيران من مناطق «داعش» لفرض أمر واقع بمشاركتها في محاربة الإرهاب.
يُفترض أن يوضح الرئيس الأميركي الجديد خلال الأسابيع المقبلة، المدى الذي يحبذه للاستقالة الأميركية من الأزمة السورية، فالعودة إلى الخوض في تفاصيلها هي أيضاً عودة إلى مساواة لا يريدها مع روسيا. وما دامت إدارة أوباما حاججت دائماً بأن لا مصالح أميركية في سورية عدا القضاء على «داعش»، فلن يكون مستغرباً أن يتمسّك ترامب بفضيلة هذه المصلحة واعتبار غياب المصالح الأخرى مبرّراً كافياً للإحجام عن التدخل في الحل السياسي وشروطه، وهو ما سترحّب به إيران التي اتخذت من مشاركتها في «رعاية» محادثات آستانة فرصةً لمناكفة أميركا بمعارضة دعوتها إلى آستانة حتى «بصفة مراقب» ومحاولة إقصائها نهائياً عن الملف السوري، إلى الحدّ الذي استوجب ردّاً غاضباً من الكرملين. وكانت إدارة أوباما تظاهرت، بل أوحت بأن «الشراكة» التي أقامتها مع روسيا مكّنتها من تمثيل (والدفاع عن) المعارضة السورية وطموحاتها، كذلك مصالح الأصدقاء العرب في سورية، وإذ لم يتحْ للمعارضة و «الأصدقاء» أن يلمسوا نتائج مفيدة لهذا الدور الأميركي فإن إدارة ترامب لا تبدو معنيةً به، بل تأخذ في الاعتبار أن تغييراً طرأ على معطيات الأزمة السورية.
ثمة خطأ أميركي علني وواضح للعيان في صدد أن يُرتكب، تحديداً في اختزال ما حصل في سورية بأنه «إرهاب إسلامي متطرّف يجب أن يُزال عن وجه الأرض». أكثر من صوتٍ سُمع يُحذّر من أن «لغة» ترامب وفّرت دعاية مجانية لـ «داعش» وأشباهه. لكن، إذا أرادت إدارته أن تتمايز فعلاً فأمامها خيار إنهاء المهادنة التي اتّبعتها إدارة أوباما تجاه دور النظامَين السوري والإيراني في دعم الإرهاب، سواء بإيواء تنظيم «القاعدة» ومنحه تسهيلات مقابل استخدامات شتى، أو بتصنيع «داعش» وتوظيفه في تغيير طبيعة الأزمة، ثم بتفريخ الميليشيات من داخل الجيش الأسدي وعلى هامشه. فهذا الواقع الميليشيوي أضحى رديفاً لـ «داعش» ويماثله في الانتشار بين سورية والعراق، بل لعل إرهابيته أكثر خطراً كونها مرتبطة بنظامَين متحالفَين يوفّران لها الإمكانات العسكرية والتغطية السياسية. وإذا لم تُشمل هذه الميليشيات في ضرب «الإرهاب الإسلامي المتطرّف»، فإنها ستكون على الدوام دافعاً لاستمرار الإرهاب بوجوه متعدّدة وسبباً لعدم استعادة الاستقرار. ويكفي هنا مثلاً أن الحرب على «داعش» والقضاء عليه لا يحولان دون إنهاء الصراع السوري بحل سياسي، في حين أن وجود الميليشيات الإيرانية وبقاءها كفيلان بتخريب أي حل لا يتناسب مع أجندة طهران.
من هنا، إن ضرب «داعش» لن يجدي إذا لم يتصدَّ لكل عناصر الإرهاب سواء كانت سنّية أو شيعية، وقد أظهرت «معارك التحرير» في العراق أن علّة ظهور «داعش» كانت في النظام العراقي ذاته واعتماده ولو غير المعلن على الميليشيات، ولا يزال الخطر على مرحلة «ما بعد داعش» يكمن في النظام ذاته وفي عجزه عن بلورة مصالحة وطنية. أما في سورية فكانت تفاهمات كيري - لافروف توصّلت إلى مفهوم مبتسر قوامه أن ضرب المعارضة هو أيضاً ضربٌ للإرهاب، على رغم أن تقارير الأجهزة شخّصت مسؤولية نظامَي دمشق وطهران عن استشراء الوباء الإرهابي وجماعاته. وبديهي أن إلقاء وصمة الإرهاب على كاهل المعارضة السورية لم يكن خطاً آخر ولم يلقِ بظلاله الثقيلة على البحث في الحل السياسي فحسب، بل شكّل وسيشكّل تشويهاً لطبيعة ذلك الحل، خصوصاً إذا اعتُمد فيه المفهوم الروسي الذي لا يزال مبنياً على بقاء النظام ورئيسه وعلى استثمار هزيمة المعارضة في حلب. فمثل هذا الحل الالتفافي الذي ستطلب موسكو من مجلس الأمن أن يضفي عليه شرعية دولية، وقد يلقى قبولاً لمجرد أنه يخفّف حدّة الصراع المسلّح ويريح دولاً غربية من ضغوط موجات الهجرة، سينطوي على دعوة إلى المجتمع الدولي لقبول ديكتاتور دموي واعتباره حجر الزاوية للتطبيع السلمي في سورية. والأغرب أنه حتى قبل التوصّل إلى أي وقف للنار أو إلى هدنة ثابتة أو إلى حل على الإطلاق باشرت روسيا وإيران تتوزّعان المكاسب والمغانم، الأولى بتوسيع قاعدة طرطوس الحرية للمكوث فيها لخمسة عقود مقبلة بعد حصولها على أفضلية أو احتكار الكثير من القطاعات، والثانية بانتزاع ميناء نفطي وترخيص لشركة هاتف جوّال وأراضٍ ومناجم فوسفات للاستغلال... كل ذلك يتمّ استباقاً لأي خيارات تحدّدها إدارة ترامب، أو الأرجح لأن هذه الإدارة لا تكترث بما يتحاصصه الروس والإيرانيون ولا بحقيقة أن هذا التحاصص يتجاوز أي حكومة مقبلة ذات تمثيل جامع وفقاً لما روّجت له موسكو دائماً.
بين انتقاد النظام السوري لخرقه الهدنة واتهام إيران، قبل ذلك، بتعقيد جهود التسوية في أستانة، بدأت تتضح، ليس فقط معالم الاختلاف في زاوية الرؤية والمصالح بين روسيا وحليفيها الإيراني والسوري، فهذا أمر لم يعد يحتاج إلى تفصيل، خصوصاً مع تنامي آمال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بانفراجةٍ في العلاقة مع واشنطن، بعد وصول ترامب إلى السلطة، بل بدأت أيضاً تتضح معالم السياسة الروسية في المنطقة العربية للمرحلة المقبلة، فروسيا التي تلقفت دعوة النظام وإيران للتدخل عسكرياً في سورية لوقف تقدم المعارضة، بعد سقوط إدلب وجسر الشغور ربيع العام 2015، ولمنع تركيا من إنشاء منطقة "خالية من تنظيم الدولة الإسلامية"، وافقت عليها إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، بمجرد الإعلان عن الاتفاق النووي مع إيران في يوليو/ تموز 2015، تبدو اليوم كمن ركب موجة الجموح الإيراني، واستغلها، فحدّد مداها، وتحكّم باتجاهاتها وحقّق مبتغاه من خلالها.
ومنذ الزيارة التي قام بها الرئيس التركي أردوغان إلى موسكو في أغسطس/ آب الماضي، وتوصل فيها إلى تفاهماتٍ أخذت تتضح أبعادها لاحقاً في عملية درع الفرات واتفاق حلب، وصولاً إلى أستانة، بدأت روسيا تحاول أخذ مسافةٍ عن حليفيها السوري والإيراني، في محاولةٍ، على ما يبدو، لإعادة التموضع في مكانٍ وسط في الصراع الذي تراه يدور داخل الإسلام بين سنة المنطقة وشيعتها.
خلال الفترة الماضية، بدا واضحاً أن روسيا دخلت في تحالف استراتيجي مع إيران، لتحقيق هدفين رئيسين: الأول، منع تركيا من الاستثمار في موجة الربيع العربي، وتجييرها لخدمة مصالحها، والتحوّل من خلالها إلى قوةٍ إقليمية كبرى، وزعيم "للعالم السني"، يساعدها في ذلك النموذج السياسي والاقتصادي الناجح الذي قدمه حزب العدالة والتنمية. وقد تعاظمت هذه المخاوف في موسكو، بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة في غير عاصمة عربية، أهمها القاهرة. الهدف الثاني، منع ما اعتبرته روسيا محاولة أميركية لإيصال موجات الربيع العربي إلى شواطئها، وتزامنت مع الانتخابات التي أعادت بوتين إلى كرسي الرئاسة عام 2012.
غدت هذه المخاوف اليوم بالنسبة إلى موسكو جزءاً من الماضي، فالربيع العربي أجهض في محطاته الأولى. وعادت السياسة التركية تمشي على الأرض، بعد أن حلقت عالياً في فضاء الأحلام، وأوباما المتشدد مع روسيا غادر، وحل مكانه دونالد ترامب الأكثر تفهماً. إنها مرحلةٌ مختلفةٌ كلياً تحاول روسيا فيها تعزيز مكاسبها التي حققتها في المنطقة من البوابة السورية، حيث دعمت الهجوم الإيراني لسحق حلم الربيع العربي والطموح التركي.
تسعى موسكو اليوم إلى الخروج من الشرنقة السورية التي شوّهت صورتها، وأكسبتها عداءً في عموم العالم العربي، وترنو للوصول بنفوذها إلى مصر وليبيا والجزائر، وربما إلى الخليج أيضاً، حيث تطمح لقيادة "كونسورتيوم" نفطي وغازي عالمي، يمثل أملها الوحيد في العودة قوة كبرى. لا يمكن أن يتحقق هذا الأمر إذا ظلت روسيا تتصرف وكأنها سلاح جو للمليشيات الإيرانية التي تفتك بالمجتمعات العربية، كما يفتك السرطان بالجسد، لكن هذا لا يعني أيضاً أنها تريد خسارة إيران، أو الدخول في مواجهة معها. على الإطلاق، الوضع المثالي بالنسبة إلى روسيا أن تغدو حكماً بين إيران وحلفائها من جهة (شيعة المنطقة) وتركيا والعرب من جهة أخرى (سنة المنطقة). واضحٌ أن هذا ما يسعى بوتين إليه من خلال التقارب مع تركيا، وأخذ مسافةٍ من إيران. لكن، هناك هدف آخر لا يقل أهميةً يضعه الرئيس الروسي نصب عينيه، هو الشروع في تفكيك حلف الأطلسي (الناتو) عبر محاولة إخراج تركيا منه، يساعده في ذلك موقف الرئيس الأميركي الجديد الذي يرى أن الحلف فقد الغرض من استمراره.
هذا تحديداً ما يسعى بوتين إليه من خلال الدعم الجوي الذي يقدمه للقوات التركية وفصائل المعارضة السورية، في عملية درع الفرات، في مواجهاتها مع تنظيم الدولة الإسلامية في الباب، علماً أن هذه المرة الأولى التي يتم فيها تنسيق ميداني مشترك بين روسيا ودولةٍ عضو في حلف الأطلسي. إن تحول بوتين عن العمل سلاح جو للإيرانيين وحلفائهم الى العمل سلاح جو للأتراك وحلفائهم يعد تطوراً كبيرا، يفهم الإيرانيون مغزاه، كما الاتراك والأميركيون، وهو أمر ينبغي الانتباه إليه والاستثمار فيه من المعارضة السورية، كيف يكون هذا؟ للحديث تتمة...
تقول الوثيقة التي نشرت، أخيراً، إن روسيا والنظام السوري وقعا اتفاقاً لتوسعة قاعدة طرطوس، بحيث يمكنها استضافة 11 سفينة حربية روسية في الوقت نفسه، بالإضافة إلى بروتوكول ملحق بشأن نشر طائرات روسية، بلا مقابل، في قاعدة حميميم 49 عاماً قابلة للتمديد 25 عاماً.
هُيئت القاعدة الشعبية للنظام السوري لابتلاع هذا الإجراء، في عدة خطواتٍ، بدأت بمعلومات أشاعها مسؤولون، من الدائرة الأقرب لنظام الأسد، عن أهمية الدور الاستخباراتي الروسي في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية منذ انطلاقتها. ثم أُعلن عن الأمر رسمياً، بعد أول فيتو روسي في مجلس الأمن ضد قرارٍ يقوِّض قمع النظام الاحتجاجات، وصار المتجوّل في سورية يطالع عبارة "شكراً روسيا" أمام المؤسسات الحكومية وفي المناطق الحيوية. ومن ثم دَعَمَ هذا التوجه مسيراتٍ صغيرةً احتلت وسط مدينة دمشق ومراكز مدن الساحل السوري. ولم تستهجن العين مشاهدة زيارات متبادلة وعاجلة بين رأس النظام السوري وقادة روس، سواء في الداخل السوري أو في موسكو، بما يؤكد علناً عمق العلاقات، ويوحي بالحالة الوصائية التي تمارسها روسيا على نظام الأسد، وقبوله ذلك برضى وامتنان.
قبلت الشريحة المؤيدة ذلك كله تدريجياً، فمنطلق الحكاية هو الدعم الروسي لاستمرار حكم الأسد المتهالك. وينتشي هذا العمق المؤيد ذو الطبيعة الأقرب للعلمانية بحليف سوفييتي، في مقابل تحجيم دور شريكه الأصولي التابع لولاية الفقيه. امتد الرضى عن الوجود الروسي إلى طبقة أبعد قليلاً عن الفئة المتعارف عليها "بالشبيحة"، حتى تقبّله قسمٌ من الوسطيين (أو الرماديين)، وهؤلاء منتشرون بين عامة الشعب، وأيضاً بين النخب المحسوبة أحياناً على المعارضة، ليأتي بعد ذلك بيع قاعدة حميميم أو تأجيرها في سياق مقبول وغير مستغرب.
تتداعى إلى الذاكرة قصة رهن الخديوي إسماعيل أسهم مصر في قناة السويس البحرية، البالغة 44% من إجمالي أسهم القناة، في صفقة أجراها مع الإنكليز، بعد تراكم ديون مصر، وتدهور وضعها المالي، بسبب انفلاش البذخ الذي عاشته الخديوية، وانخفاض سعر القطن (السلعة الاقتصادية لميزان مصر التجاري) في الأسواق العالمية. وقد دفع رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، بنيامين دزرائيلي، المبلغ على الفور، وصارت القناة هي الضمانة لإعادة الديْن، مضافةً عليه فوائد بقيمة 5% كل سنة، ابتداء من عام 1875 حتى 1894.
اعتبرت هذه الصفقة أشهر عملية بيع أسهم في العالم، حيث تسببت بكارثة على البلاد، ومهّدت للاحتلال الإنكليزي، عام 1882، على مصر، بالإضافة إلى الخسارة المالية الفادحة، إذ اتضح أن السهم الذي باعته مصر بـ 560 فرنكًا أصبح سعره بعد ثلاثين سنة فقط 5010 فرنكات، وحصتها من أرباح القناة التي باعتها بـ 22 مليون فرنك فرنسي أصبحت قيمتها 300 مليون فرنك فرنسي، وبقي الامتياز قائمًا بشروطه، حتى جاء قرار جمال عبد الناصر بتأميم القناة عام 1956، أي قبل نهاية الامتياز بـ12 سنة.
ستبدو الخسارة السورية أكبر من تلك المصرية، حيث تم البيع هنا "ببلاش". وليس ثمة مجال للمناورة، فالبيع قطعي ولا أمل باسترجاع ما ذهب إلا برحيل نظام الأسد نفسه. وهذا ما تحرص روسيا على منعه بأي طريقة. أما المكاسب الروسية الآنية، فأبرزها وضع حد للتنافس الإعلامي بين المسؤولين الروس وقيادات فيلق القدس الإيراني وحزب الله، حول تحديد الجهة الحقيقية التي سندت صمود الأسد، ومنعت سقوطه، بالإضافة إلى التوسع الروسي في المياه الدافئة بشكل خطير، والاتفاق مع تركيا على جر قادة الفصائل السورية إلى أستانة، لتوقيع اتفاق على وقف إطلاق النار، يمكن خرقه حسب الطلب. الجهة الوحيدة التي يمكن أن تمنع مثل هذا الوضع هي أميركا. لكن، في عهد دونالد ترامب الذي ينادي "أميركا أولاً"، يبدو أن تركيا كانت محقّة بخوض لعبة تبديل الحلفاء.
النتيجة الهزيلة التي خرج بها مؤتمر آستانة تُظهر بوضوح أن أحد طرفي النزاع الرئيسيين، أي نظام الأسد، ليس جاهزاً بعد لمفاوضات فعلية تنتهي بحل سياسي يقود إلى سورية جديدة. فيما الأطراف الثلاثة «الضامنة»، ليست قادرة على التوافق في ما بينها على رؤية سياسية واحدة، سواء بالنسبة إلى سورية أو للمنطقة كلها، حتى لو اتفقت هذه الأطراف على آلية لتثبيت وقف إطلاق النار، وهو أمر مشكوك في فاعليته إلى حد كبير.
فالنظام جاء إلى المؤتمر لأسبابه واعتباراته، لكن بالدرجة الأولى مسايرة لروسيا التي تحاول جاهدة الظهور بمظهر المحايد، وتركز على شراكتها مع تركيا لأنها تعرف أن «الراعي» الإيراني ليس ضامناً ولا محايداً، بل هو منخرط حتى العظم في الحرب الدائرة منذ ست سنوات، ولديه تصور مسبق لما يريده من هذا البلد، وهو نفسه بحاجة إلى من يضمنه ويمنعه من التخريب.
وإذا كان النظام المستجيب لإلحاح موسكو المنقذة، يحاول استعادة بعض الصدقية أمام العالم، وتجنب الظهور بمظهر الرافض جهود التسوية، إلا أنه اكتفى في آستانة بترديد النغمة القديمة المستهلكة عن «محاربة الإرهاب» وضرورة الفصل بين التنظيمات، والتذرع بمشكلة المياه في دمشق لاستمرار حملة التطهير المذهبي الجارية على قدم وساق بأيدي «حزب الله» والميليشيات الإيرانية الأخرى.
فنظام الأسد لا يزال يعتبر الحل العسكري السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة، أي إخراج المعارضين تدريجاً من كل معاقلهم، وإجهاض ثورتهم، والحيلولة دون أي تغيير حقيقي. وهو تقييم تشاركه فيه إيران التي ترى أن الحفاظ على النظام السوري الطائفي الأقلوي يضمن استمرار نظام طهران نفسه.
وعلى رغم تشديد موسكو على دخولها مرحلة جديدة تقوم على محاولة إيجاد حل سياسي في سورية، وتبنيها خلال المؤتمر مواقف لتدعيم دورها المستجد، إلا أنها تنطلق من مفهوم خاطئ يعتبر أن التسوية السياسية يجب أن يسبقها بالضرورة وقف لإطلاق النار، علماً أن تجارب سابقة كثيرة في العالم لا تزكي هذا الاتجاه. وقد يساعد وقف إطلاق النار في تسهيل المفاوضات، لكن هذه لا تنجح إلا إذا كانت هناك رغبة سياسية فعلية مسبقة في التسوية يكون وقف القتال تتويجاً لها وليس العكس. وهذا ما لم يحصل في الحالة السورية بعد، بل إن المسعى الروسي في غياب الإرادة السياسية يشبه تماماً وضع العربة أمام الحصان.
وما لم تستطع موسكو انتزاع اعتراف علني من الأسد بضرورة التغيير السياسي ودخول مرحلة انتقالية تمهد لانتخابات تشريعية ورئاسية ودستور جديد، سيظل أي وقف لإطلاق النار رهناً برؤية النظام للحل وبضغوط طهران الهادفة إلى قطف ثمار استثماراتها في سورية منذ عهد حافظ الأسد وحتى اليوم.
ولهذا يفترض أن يطاول الضغط الروسي إيران أيضاً، بعدما بدأت بالرد على التنسيق بين موسكو وأنقرة عبر الاقتراب من القوات التركية المتوغلة في شرق حلب نحو مدينة الباب، ما يهدد بتوسيع الحرب وينزع صفة الحياد عن أنقرة ويجهض الجهود الروسية.
وفي المحصلة، يشكل مؤتمر آستانة محطة صغيرة وهامشية في مسار الأزمة السورية بانتظار أن تنتهي الإدارة الأميركية الجديدة من المرحلة الانتقالية التي قد تستمر بضعة أشهر. وفي غضون ذلك، ستظل «وصفات» إنهاء النزاع السوري تنقصها لمسة «كبير الطهاة»، إذا توافرت لديه الرغبة والوقت.
لا رحمة في تقاتل الفصائل الإسلامية المسلحة، فقد استطاعت «النصرة» (أو «فتح الشام» أو «القاعدة») «إبادة» فصيل من «جيش المجاهدين» الذي شارك في لقاء «آستانة»، مباشرة بعد صدور بيان وقف إطلاق النار: يحتاج الأمر إلى مفت هنا ومفت هناك يأمران بالقتل الحلال، لتشتعل «حرب الإخوة» مخلِّفة ضحايا ودماراً.
ويبدو شمال حلب وشمال إدلب ساحتين لمعارك قاسية بين إسلاميين مختلفين حول لقاء «آستانة»، في انتظار تبلور إرادة سياسية لتركيا تدافع عمن لبوا دعوتها في وجه اعتداءات «داعش» و «النصرة»: هل تتحمل أنقرة الصدام مع التنظيمين في وقت واحد، مع ما يستتبع ذلك من استنهاض خلاياهما النائمة في طول تركيا وعرضها؟
وعدا التنظيمين هناك «وجهاء» يعارضون فتح أي نافذة في النفق السوري، فيصف أحدهم المشاركين في لقاء آستانة، بأنهم «لا يفقهون شيئاً في لغة السياسة ولا حتى لغة القتال، وأظهرت الوقائع الميدانية طوال ست سنوات أن كثيرين منهم هم من حثالة الشعب، من النصابين والحرامية واللصوص، وأنهم ركبوا موجة الثورة وحملوا السلاح ليتعيشوا ويثروا على دماء الشعب» (موفق السباعي في رسالة موزعة بالإنترنت).
هذان، القتال والكلام، عينتان من تعقيد الحرب السورية التي تبتعد عن حلّ تونسي قائم على تعايش الإسلام السياسي والدولة المدنية، وتتجه إلى المثال الليبي القائم على احتراب الإسلاميين وتبدل مواقعهم مع رفضهم الدائم للسلم الأهلي.
سورية الآن، وربما غداً، مجرد مساحة يستوطن فيها غزاة يفرضون أيديولوجياتهم بقسوة، غير آبهين بالضحايا والخراب وملايين النازحين. إنهم غزاة لا ثوار، يحاول المجتمع الدولي إغراءهم بالحل السياسي، من جنيف ذات الطموح إلى آستانة المتواضعة، لكن التجارب أثبتت ان الأيديولوجي يفضل الحرب على السلام، لأنها منصة للوعود فيما السلام مسؤولية في تلبية مطالب المتضررين.
وما يحدث في سورية هدايا يتلقاها النظام من المتطرفين الإسلاميين، فيما ينجحان معاً بتغييب معارضة نقرأ ملامحها في وجوه النازحين، وهي تنكفئ بعد تدمير مكانها الطبيعي وإخراس صوتها المستقل.
سورية الى المصير الليبي، والخطوات واضحة في هذا الشأن، أما لقاء آستانة الذي أصدر اتفاقاً أمنياً لوقف النار ترعاه ثلاث جهات على صلة بالمعارك، فيبدو فرصة أخيرة للعبور نحو حوار سياسي سوري– سوري في جنيف ترعاه الأمم المتحدة والدول الكبرى واللاعبون الإقليميون.
في يد تركيا نجاح الفرصة السورية الأخيرة، لأن روسيا تتحكم بالنظام، وإيران بأتباع النظام، فيما لأنقرة خيوط بمقاسات مختلفة مع المقاتلين الإسلاميين، تمنحها القدرة على استمالة غالبيتهم، وتتمرد الأقلية فتستحق حرباً بالفتاوى والسلاح.
ينظر السوري من أماكن نزوحه الى وطنه فلا يراه، وليست هي النظرة الخائبة الأولى، فلطالما أبعدت النخب السياسية الحاكمة والمعارضة السوريين عن معنى الوطن والوطنية، مع استثناءات نادرة في مطالع خمسينات القرن الماضي. كان التعبير عن الانتماء الوطني أشبه بمخالفة للقانون أو خيانة أو كفر في حالات كثيرة، فسورية غالباً هي الشام الشريف الباحث عن «الخليفة» أو هي قلب العروبة النابض، وقلّما نجد كلمة «وطن» في الأدبيات السائدة، حيث يميلون الى كلمة «قُطر»... يمكن في حال ضمه الى أقطار عربية أخرى، أن يتحقق حلم اسمه «الوطن العربي».
بعد الانتصار الذي تحقق لروسيا في حلب، من الواضح أن الرئيس فلاديمير بوتين قرر طي صفحة وفتح أخرى تبحث الحل السياسي في أسوأ صراع وأكثره شراسة وتعقيدًا في التاريخ المعاصر دام لستة أعوام. أهم خطوة اتخذها بوتين كانت توقيع اتفاقية مع تركيا لوقف إطلاق النار، وفتح الطرق والمعابر للمساعدات الإنسانية، تمهيدًا للمحادثات الجارية الآن في العاصمة الكازاخية (آستانة)، التي تأتي بدورها تمهيدًا لمحادثات جنيف في شهر فبراير (شباط) المقبل، التي يفترض أن تصوغ الحل السياسي النهائي. هذا ما اتفقت عليه روسيا وتركيا، الدول الضامنة لأطراف النزاع. أما إيران، الضلع الثالث في الصراع السوري، فتذهب إلى «آستانة» مكرهة، تشعر بغصة وهي تحاول أن تذود أمام الروس عن أهدافها من هذه الحرب التي كلفتها مليارات الدولارات، وعناصر حشدتها من إيران والعراق ولبنان وأفغانستان، وحضور لقيادات عسكرية كبيرة في ساحات المعارك، بعضهم دفع حياته في مواجهتها.
أي ضرس أوجع طهران في هذه المحادثات وحملها على التصادم مع الروس؟
محادثات آستانة تهدف بالدرجة الأولى إلى تثبيت وقف إطلاق النار الذي بدأ نهاية العام الماضي. وبهذا المعنى، فإنها تبدو كأنها خرجت خاسرة لأن استمرار الاشتباك هو الذي يغذي الوجود الإيراني، ويمنيها بسراب الاستيطان، وهي تخشى من أن هذه المحادثات ستفضي إلى حكومة انتقالية تقبل بوجود الأسد مؤقتًا، وبالنسبة لطهران شخص الأسد هو النظام السوري الحليف، وبخروجه تفقد كل مكتسباتها. والقلق الكبير الذي لم يفلح الإيرانيون في إخفائه منذ أشهر، هو شعورهم بأن الروس يتخلون عنهم بعد هذا الشوط الطويل. وقد أشرت في مقال في أغسطس (آب) الماضي إلى أن طهران ترى أن روسيا حجر عثرة في طريقها بتطفلها على منطقة تعدها مستباحة لها. الروس بدورهم يؤكدون حقيقة شهدها العالم؛ أنه لولا تدخلهم العسكري لاحتلت المعارضة السورية المسلحة دمشق خلال أيام، ولم يكن الوجود الإيراني بكل تعبئته سيفلح في صدها. أمام هذا الاستحقاق، نرى موسكو تشهر يدها عاليًا فوق يد طهران، وتملي عليها ما تفعله، ولولا الروس أيضًا لانهار اتفاق وقف إطلاق النار بسبب حزب الله والميليشيات الإيرانية التي تفتعل معارك في وادي بردى.
إيران تصر على وجود بشار الأسد، وروسيا تطمح إلى ما هو أكبر من ذلك بكثير، بعد أن أرهقتها العقوبات الأميركية والأوروبية في موضوع أوكرانيا، وهي تعاني بالفعل من وضع اقتصادي سيء؛ هنا مفترق طرق بينهما، لكن الغلبة للأقوى، والكل يعرف من الأقوى.
بوتين أيضًا يمهد لحضور صديقه دونالد ترمب، الرئيس الأميركي الجديد، الذي نطق بما لم يتجرأ على نطقه رئيس أميركي سابق، من أنه ينظر لإيران وتنظيم داعش والقاعدة بالعين نفسها، وهو ما حاولت الدول العربية المساندة للمعارضة السورية إقناع الإدارة الأميركية السابقة به منذ عقدين من الزمن، ولكن لم تنجح مساعيها بعدما رأت أن جل اهتمام باراك أوباما هو توقيع الاتفاق النووي متجاهلاً عمق المشكلة، فتعززت قوة الإرهابيين في العراق وسوريا، وأصبح وجودهم رقمًا صعبًا في معادلة معقدة.
وحتى لا ننسى، فإن النظام السوري، بإيعاز من إيران، أرخى الحبل لتنظيم القاعدة الذي بدأ بتنفيذ عمليات تفجير السيارات المفخخة في دمشق في عام 2013، ليقول للعالم إنه يواجه الإرهابيين، بعد أن تلقى هزائم موجعة من المعارضة تزامنت مع انشقاقات في جيشه. كانت هذه أولى نجاحاته في تأخير حسم المعركة لصالح المعارضة. وبكل أسف، حتى السوريون المعارضون أخطأوا بعد ذلك حينما خفضوا النبرة الوطنية، ورفعوا صوت ما يسمونه «الجهاد»، وظهرت صورهم ملتحين يحملون شعارات دينية، رغم أن قضيتهم وثورتهم اشتعلت ضد نظام ديكتاتوري في إدارته للبلاد، لا بسبب دينه أو مذهبه، فتحولت المعركة من وطنية إلى آيديولوجية، وجدت فيها إيران فرصة كبيرة للنفخ في النار الطائفية.
أوباما رحل مع وعوده التي ضربها لنا ولم تتحقق، لا في سوريا ولا العراق، تاركًا لدول المنطقة عبء حرب مكلفة على الإرهاب الذي تفشى بفعل سوء إدارته لملفات ما بعد الثورات العربية.
اليوم، أمام المعارضة السورية فرصة كبيرة لتحقيق مبتغاها، ولن تشكل القواعد الروسية التي بدأت فعليًا موسكو بإنشائها بأسًا بالنسبة لمستقبل سوريا، فالروس سيتمسكون بحقهم في حصد ما زرعوه، وإن يلام أحد على عودتهم للمنطقة فهو الرئيس الأميركي السابق، وسيكون من الصعب على المعارضة السورية مواجهة هذا الاستحقاق في هذا التوقيت الحساس، لكن تظل المعارضة في أفضل أحوالها منذ أربعة أعوام، فالروس أمسوا ينشدون الحل السياسي المدعوم من المجتمع الدولي، وكل الدول الراعية لها ستدفع بالعملية السياسية للأمام، بالتوازي مع حربها ضد الإرهاب في سوريا الذي سيضعف من مواجهة مسلحة إلى عمليات فردية واستهداف شخصيات، لكن في كل الأحوال ستكون المعارضة قد بدأت تتماسك أمام يأس نظام الأسد وحيرة الإيرانيين.
مع انتهاء عهد الرئيس فرنسوا هولاند وتولي دونالد ترامب رئاسة أميركا، هناك أمر محزن ومخيب للأمل بدأ ينكشف بالنسبة إلى سورية: تغيير القيادات في دول الغرب المهمة سيؤدي بها إلى الوقوع في فخ استراتيجية بشار الأسد في حربه على شعبه منذ عام ٢٠١١، والمرتكزة على مبدأ: إما أنا أو «داعش» والإرهاب والخراب. إن التغيير في فرنسا إزاء الوضع السوري آت. فتصريحات المرشحين الأوفر حظاً في السباق الرئاسي الذي سيتم في أواخر نيسان (أبريل) المقبل تشير إلى ذلك وإن اختلفت بعض الشيء في أسلوب التعامل مع الملف السوري. فالعودة إلى الحديث مع بشار الأسد أصبحت قاسماً مشتركاً بين المرشح اليميني رئيس الحكومة السابق فرنسوا فيون والمرشح إيمانويل ماكرون الذي كان وزيراً في عهد هولاند وأنشأ تيار «إلى الإمام»، ومرشحة الجبهة الوطنية مارين لوبن ومرشح أقصى اليسار جان لوي ملانشون.
كل هؤلاء يرون أنه لا يمكن تجاهل بشار الأسد وأي مسار سلمي ينبغي أن يكون عبر مفاوضات يشارك فيها الرئيس السوري. فيون غيّر مواقفه عدداً من المرات في الحملة الانتخابية. فكان في البداية يقول: بين بشار الأسد و «داعش» سأختار الأسد حرصاً على مسيحيي سورية والشرق وتحاشياً للإرهاب. وقال أنه في حال وصل إلى الرئاسة سيعيد فتح سفارة فرنسا في سورية ويتحاور مع الأسد. ثم تراجع عندما أعرب الأسد عن أمله بأن تغير فرنسا سياستها مع مجيء فيون إلى الحكم. فشعر فيون بانزعاج من هذا التدخل، وقال أنه يدرك تماماً أن بشار الأسد ديكتاتور مناور ويدرك أنه لا يمكن أن يكون هناك حل للحرب السورية كما أوحى أنه لن يتعاطى مع المعارضة السورية لأنه يعتبرها منقسمة وغير موجودة على الأرض. أما ماكرون فقال وهو يتناول الموضوع السوري علناً للمرة الأولى خلال زيارته الأخيرة لبنان، أنه لن يعيد فتح السفارة الفرنسية في دمشق وأن بشار الأسد رئيس فاشل، لكنه أضاف أن التفاوض يجب أن يتضمنه. وعندما سئل ما إذا كان الأسد مجرم حرب اكتفى ماكرون بالقول أنه فاشل. أما لوبن فهي منذ البداية تدافع عن الأسد وعن عرّابه فلاديمير بوتين. وقالت في تصريح لها أنه ينبغي التحالف مع بشار الأسد لمكافحة «داعش»، وأنه يحكم سورية ويدير جيشاً وليس هناك أي وسيلة أخرى لإزالة «داعش».
إن عهداً جديداً سيبدأ في فرنسا قريباً. وفي الولايات المتحدة لم نسمع بعد الكثير عما يريده ترامب بدقة بالنسبة إلى بشار الأسد. وعلى المعارضة السورية الديموقراطية أن تبدأ التفكير بالبديل لأن فرنسا بعد هولاند ستتخلى عنها لسوء حظها وحظ الشعب السوري. فالمرشحون للرئاسة الفرنسية الأكثر حظاً للوصول إلى الرئاسة لا يبالون بالجرائم التي ارتكبها بشار الأس، في حلب ولا في درعا ولا في المدن السورية الباسلة. وهمهم الأول التفاهم مع القوة المتمثلة بفلاديمير بوتين الذي رغم ضمه القرم وتهديده أوكرانيا على باب أوروبا يفرض نفسه على المرشحين الفرنسيين لتراجع هيبة أوروبا إزاء القوة الروسية. إن الغياب العربي في آستانة لن يساعد المعارضة السورية المعتدلة والشعب السوري اليائس من رئيسه. فالدول العربية أيضا منقسمة إزاء بشار الأسد. والمرشحون الفرنسيون يتجاهلون أنه لو تم وقف الحرب في سورية في عام ٢٠١٣ مع ضرب مراكز قوى النظام السوري لما تصاعدت قوة «داعش». فقد مثل ذلك أفضل طريقة للأسد لاستعادة ثقة الغرب الأعمى به. فعلى رغم قتل الشعب السوري وما ارتكبه النظام في لبنان سابقاً من تقسيم المسيحيين واغتيال شهداء لبنان يرى المرشحون للرئاسة في فرنسا مستقبل لسورية مع الأسد. فالثورات لن تنجح إلا عندما تعتمد على ذاتها. والمعارضة السورية خاسرة، لكن بشار الأسد خاسر أيضاً لأنه سيبقى تحت نفوذ روسيا وإيران و «حزب الله». ومستقبل المنطقة حالك في ضوء هذه التغييرات.
كیف تحولت أزمة الربیع السوري بالذات من بین أزمات دول الربیع العربي إلى أسوأ حرب وكارثة إنسانیة في القرن الحادي والعشرین؟
بالرغم من أن النظام الوحشي في سوریا والثوار وطبیعة الجماعات المسلحة لھم دور فیما یحدث في سوریا، فإن الدور الداخلي لھذه الأطراف یبقى ثانوياً في قصة الربیع السوري. السبب یعود إلى أن قصة أزمة الربیع في سوریا – بخلاف أزمات دول الربیع العربي الأخرى –ھي جزء من قصة النظام العالمي الذي یمر بأزمة أكبر. تأثیر أزمة النظام العالمي على سوریا بالذات یأتي بقدر موقعھا وأھمیتھا الاستراتیجیة. روسیا، إحدى الدول العظمى التي تلعب الدور الرئیسي في تشكیل ھذا النظام. بدأت علاقة الدولة العربیة الحدیثة بالنظام العالمي مع بدایة استقراره على قواعد الحرب الباردة. فمنطقة الشرق الأوسط كانت ومازالت أحد أھم میادین المنافسة العالمیة على النفوذ والسیطرة. لذا عندما انتھت الحرب الباردة بانھیار الاتحاد السوفیتي سیاسیا واقتصادیا في 1991م، لم تنته معھا علاقة أميركا وروسیا بدول المنطقة. ففي الوقت الذي رأت روسیا أن طریق العودة لسابق مجدھا یمر بالشرق الأوسط، رأت أميركا أن من الضروري تھیئة المنطقة بالشكل الذي یخدم استمرارھا كقوة عظمى منفردة بالسیطرة.
ولكن أميركا لم تستثمر نجاح أیدیولوجیتھا السیاسیة في الحرب الباردة. فبدلا من عمل ما كانت تبشر وتدعو له طوال الحرب الباردة من دعمٍ لفرص السلام والمساواة واحترام حقوق الإنسان، تخلت عن ھذه المبادئ وارتكبت الكثیر من أخطاء الاتحاد السوفیتي التي ساھمت في سقوطه، فاحتلت أفغانستان التي ساھمت في تحریرھا من احتلال الاتحاد السوفیتي، واحتلت بعدھا العراق، وانجرفت في تدخلات عسكریة وانتھاكات لحقوق الإنسان أدت بھا إلى التراجع سیاسیا واقتصادياً وأخلاقیاً عن المكانة التي حققتھا.
وجاء الرئیس باراك أوباما في 2009م بشعار تغییر ھذه الحالة المتردیة. ولكنه أخطأ في استراتیجیة التغییر التي انتھجھا. حیث اعتقد بأن عكس اتجاه السیر سیعید أميركا إلى مكانتھا السابقة. فقام بسحب قواته من أماكن انتشارھا حول العالم قبل نھایة مھامھا، وتجاھل الحلفاء الاستراتیجیین لأميركا وقرب أعداءھا. ولم یكتفِ أوباما بتجاھل أزمات الربیع العربي فحسب، بل منح إیران تأشیرة الدخول إلى العراق وسوریا، ودفع تكالیف مغامرتھا التوسعیة بفك تجمید 1.7 ملیار دولار من أرصدتھا المجمدة منذ 1979م. لقد ضحى أوباما باختلال موازین الأمن الإقلیمي والعالمي لوقف بعض نزیف الموارد الأميركیة، ولكن استراتیجیته فشلت في إعادة أميركا لمكانتھا السابقة لأنه من الصعب أن تقود النظام العالمي وأنت في عزلة عنه.
وفي ھذه الأثناء جاء بوتین الذي یطمح لإعادة روسیا إلى سابق عھدھا واستعادة ما أخذته أميركا منھا من نفوذ حول العالم. وبما أن الأیدیولوجیة السیاسیة لم تعد الأداة الأقوى ارتكزت استراتیجیة بوتین على استعادة المنافذ البحریة المھمة التي تسمح بنشر القوات بسرعة وتستخدم كنقاط لمد خطوط أنابیب الغاز والنفط الذي یعتمد علیه اقتصاده. فبدأ في 2014م بضم جزیرة القرم الغنیة بالغاز والنفط والتي یعتبر میناؤھا سیفاستوبول نقطة انتشار مھمة للقوات البحریة لتغطیة البحر الأبیض المتوسط. كما أن سیفاستوبول یرتبط تاریخیا بأمجاد الاتحاد السوفیتي، فلم یستعد الاتحاد السوفیتي مكانته كدولة عظمى إلا بالاستیلاء علیه في 1878م ولا یزال ھو المقر الدائم لأسطول البحر الأسود الروسي.
استیلاء بوتین على جزیرة القرم كان اختبارا مھما لردة فعل المجتمع الدولي على استراتیجیته. فمع انشغال أوروبا بشؤونھا الداخلیة واستمرار عزلة أميركا اتضح لبوتین أن بإمكانه الاستمرار في التوسع. وبدت سوریا التي تعتبر الخیط الوحید الذي یربط روسیا بالمنطقة كفرصة ذھبیة للعودة لبسط النفوذ الروسي في إحدى أھم مناطق العالم. فعاد بوتین إلى إحیاء قاعدة عسكریة روسیة قدیمة في طرطوس التي لا تقل أھمیة له عن سیفاستوبول. ففضلا عن أن روسیا ترتبط بعقود استثمار في الطاقة على سواحلھا، تعتبر طرطوس نقطة استراتیجیة مھمة لقربھا من قناة السویس ومضیق البوسفور وتسمح بانتشار القوات البحریة للبحر الأحمر والمحیط الأطلسي. تدخل بوتین في سوریا في 2015م كان محسوباً بدقة وجاء متوافقا مع استراتیجیته لاستغلال سیاسة أوباما الانعزالیة للعودة للمنافسة. فلم ینضم بوتین للتحالف الدولي ضد داعش، وفضل أن یحاربھا في المكان والزمان المناسبین لاستراتیجیته. لذلك سمح لداعش بالدخول لسوریا وحاربھا بالقدر الذي یضفي غطاء "الحرب على الإرھاب" على روایته عن التدخل في سوریا. وكثف ضرباته الجویة على مواقع الثوار السوریین ممھدا الطریق للمیلیشیات الإیرانیة والسوریة التي لم یكن باستطاعتھا تغییر الموازین وحدھا. وقد زادت وحشیة العملیات الروسیة عند اقتراب نھایة ولایة الرئیس أوباما، فسقطت حلب بكامل ما فیھا من ثوار ومدنیین في أسوأ كارثة إنسانیة في القرن الحالي.
قصة ربیع سوریا لیست قصة سوریة داخلیة فحسب، بل قصة نظام عالمي اختل توازن القوى فیه لتستغل الفرصة بعض القوى لتحقیق طموحاتھا التوسعیة بینما البعض الآخر من القوى بین منشغلٍ بالمحافظة على بقائه وغیر مستوعبٍ بعد لحجم التغییر. ابتعاد قوة مؤثرة مثل أميركا عن المشھد أثر على سلوك الكثیر من الدول التي تحاول أن تتوسع وتأخذ مكانھا قبل استقرار النظام العالمي مرة أخرى. والآن وبقدوم إدارة أميركیة جدیدة تحمل شعار "إعادة أميركا لعظمتھا مرة أخرى" یبقى السؤال: ھل سیتمكن الرئیس دونالد ترامب من إعادة أميركا لمكانتھا القیادیة؟ وعلى حساب من؟ قد یكون من السابق لأوانه التنبؤ بذلك ولكن من المؤكد أن تكملة قصة الربیع السوري لن تعتمد على العوامل الداخلیة والإقلیمیة بقدر ما تعتمد على طبیعة العلاقة بین الإدارة الأميركیة الجدیدة وروسیا والتي ستشكل طبیعة النظام العالمي للسنوات القادمة.
يبدو أن الحديث عن مخالب إيران في جسد منطقتنا العربية لم تعد خافيةً على أحد، فهي أشرس مما كان قد تخيله بعضهم، ومنغمسة بجسدنا أعمق مما نظن. ولعل متابعة بعض الإعلام المسمّى العربي، وليس الإيراني، يجعلنا نقف على هول كارثة هذا التوغل والتغلغل الإيراني، أو حتى الاحتلال إن شئت الدقة والوصف الأقرب للواقع.
ولعل من المفيد الآن، وبدلا من البكاء على اللبن المسكوب، البحث في الآلية التي يمكن، من خلالها، منع التوسع الإيراني في المنطقة بشكل أكبر من وضعه الحالي، والذي بات الحديث عن طرده من ضروب اللاممكن، في ظل غياب أي مشروع عربي مقابل للمشروع الإيراني.
أقدمت السعودية على خطوةٍ جريئةٍ، بعد أن قرّرت الرد عسكرياً على استحواذ الحوثيين، صناعة إيران، على العاصمة صنعاء والانقلاب على شرعية عبد ربه منصور هادي رئيس اليمن، خطوة أخّرت، بشكل كبير، تقدم مشروع إيران في جنوب شبه الجزيرة العربية، بعد أن نجح مشروع إيران في التغلغل شمال جزيرة العرب، وأقصد هنا العراق.
المشكلة أن الخطوة السعودية جاءت بعد أن غابت دول عربية عن فعل التأثير. والإشارة هنا تحديداً إلى مصر التي باتت، في بعض تصرفات نظامها، أقرب إلى إيران من السعودية.
يجدر بنا، ونحن نتحدث عن كيفية مواجهة مشروع إيران في المنطقة، أن نتحدث عن أهمية دور دول مجلس التعاون الخليجي التي باتت الوحيدة في ساحة المواجهة مع إيران، وهو أمر لم تعهده الدول الخليجية سابقاً، الأمر الذي يتطلب تدعيم هذا الموقف، والعمل على إسناده، وتحديدا من البقية الباقية من الأمة، وأعني مثقفيها وإعلامها وكتابها، على الرغم من أن ذلك لا يكفي.
من الواجب أيضا، ونحن نتحدّث عن آليات مواجهة مشروع إيران في المنطقة، أن نؤكد أهمية التفات الدول الخليجية إلى تركيا بشكل أكبر، فلم يعد لهما، الخليج وتركيا، إلا تحالف قوي واستراتيجي، قادر على أن ينزل ملعب الكبار وينازل، ولا يتنازل.
الأمر الآخر أن التعويل على موقف الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، في تقليم أظافر إيران وهمٌ، ولا ينبغي الانخداع به، فحتى لو كانت مواقف ترامب من الاتفاق النووي مع إيران رافضة، فذلك لا يعني أنه سينهي هذا الاتفاق، فهو بين إيران والدول الخمس زائدا واحداً، ما يعني أن الموقف منه ليس بيد أميركا وحدها.
من شان تحالف خليجي تركي أن يطرح نفسه على الطاولة الدولية بقوة، وتحديداً مع الرئيس الجمهوري الجديد الذي يبدو أنه مازال يفكر بعقلية التاجر، لا السياسي، وهو الأمر الذي تحتاجه كل أميركا في مرحلة ترامب. وتملك دول الخليج وتركيا أوراقاً عديدة يمكن أن ترميها على طاولة اللاعبين الكبار، لعل أولها القوة الاقتصادية، وثانيها النفوذ الإقليمي، والقدرة على التأثير في أوضاع المنطقة عموماً. وبالتالي، لا ترامب ولا إدارته الجديدة مستعدون للتفريط بهذا، كما أن المجتمع الدولي يدرك جيدا حجم القوة والقدرة لدى أي تحالف خليجي تركي، وقدرة هذا التحالف على أن يكون فاعلا وصاحب قرار ونفوذ واستقلالية في التعامل مع أحداث المنطقة، بعيدا عن لغة التبعية التي تريدها الولايات المتحدة وروسيا.
ربما تكون الدول الخليجية عموماً أدركت ما كانت قد دعت إليه قطر، عندما وقعت اتفاقية تحالف استراتيجي مع تركيا عام 2010. وقتها اعتبرته دول خليجية شاذاً عن قاعدة التحالفات الخليجية المعروفة، والمتمثلة بأميركا وبريطانيا، إلا أن رؤية صاحب القرار في قطر كانت سباقة وقادرة على استشراف المستقبل، بطريقة ذكية واستراتيجية.
قبل أيام، صرح مسؤولون خليجيون أن دول الخليج العربية تنوي استثمار 100 مليار دولار في تركيا، وهو مبلغ إن تم ضخه في السوق التركية سيكون قادراً على إيجاد قوة اقتصادية تركية كبيرة، تضاف إلى قوتها الحالية التي وضعتها في المرتبة 16 على مستوى اقتصاديات العالم. تبقى روسيا وعلاقتها المتشابكة مع إيران، وكيف يمكن فك هذا الارتباط؟ بدايةً، يجب أن يجري حوار خليجي روسي، بمشاركة تركيا، يتم خلاله التعرّف على ما تريده روسيا في سورية، والحوار على أهمية أن يكون الروس بعيدين عن الحلف الإيراني في سورية، فروسيا وإن كانت لديها مطامح في سورية والمنطقة، فإنها تبقى غير معنيةٍ بالتغيير الديمغرافي الذي تعزف على وتره إيران في سورية، كما فعلت بالعراق.
كما أن الروس، في النهاية، قوة متغطرسة، استعملتها أميركا في سورية، لإخضاع المعارضين لنظام الأسد، ويمكن أن تنتهي منها أميركا متى ما أرادت ذلك. وبالتالي، فإن حواراً مرحلياً مع روسيا، بحضور تركيا، يمكن أن يكون مفيداً، خصوصاً إذا كان منصباً على ضرورة تقليم أظافر إيران في سورية.
العراق، وعلى الرغم من أن إيران ابتلعت عروبته، ونجحت، حتى الآن، في تحويله إلى حديقة خلفية لها، إلا أن ذلك لا يعني اليأس من استعادة العراق وعروبته من براثن إيران، خصوصاً أن مقومات هذا الأمر متوافرة بعد 13 عاما من حكم أتباع طهران للعراق، وحالة التذمر الشعبية التي تسود الجنوب، قبل الوسط والشمال، جرّاء حجم الفساد وغياب الخدمات وانعدام الأمن.
يبقى التحالف الخليجي التركي بيضة القبان القادرة على موازنة الكفة، خصوصاً أن كلا الطرفين، الخليج وتركيا، بحاجة بعضهما بعضاً، فهل سيكون ذلك قريباً، أم أن التعويل على إدارة الجمهوريين سيعطل المشروع؟
مما لاشك فيه أن الثورة السورية التي خرجت ضد الظلم والاستبداد في 2011 تسير بمشيئة الله وبمعجزة إلهية كبيرة، حيث انها صمدت رغم كل الخطوب والمؤامرات والتحالفات التي حيكت ضدها طوال السنوات الستة الماضية، قدم فيها الشعب السوري الألاف من الشهداء والملايين من المشردين، وسط استمرار القتل وشلالات الدماء على كامل تراب المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد.
بدأت الثورة كحراك سلمي تطور سريعاً للمسلح بهدف وقف تسلط القبضة الأمنية على الشعب والدفاع عنه بكل الوسائل المتاحة، فكانت البذور الأولى للحراك بتشكيل حركة الضباط الأحرار والجيش السوري الحر، تلاها ظهور تشكيلات وحركات متعددة الأسماء والرايات والأهداف، رفعت شعارات مختلفة، وكلها تهدف لإسقاط نظام الأسد، على تنوع منهاجها.
ومع تطور الحراك المسلح وتوسع الحركات لفصائل تضم ألوية وجيوش وجبهات وفيالق، بدأت الأمور تأخذ منحى جديد في الثورة وتزداد تعقيداً مع تنوع الأفكار وبدأ التعصب للفصيل وللجماعة على حساب الثورة والشعب، فكل يدعي أحقيته في الوجود والسيطرة، وصحة منهجه، تلتها موجات الطعن بالمناهج الأخرى وبدأت فتاوى التكفير والردة تتردد، فنشبت الحرب بين هذه المكونات والفصائل وبات الأسد يتفرج.
فكانت أولى الحروب بين الجيش الحر وتنظيم الدولة وبين التنظيم والفصائل الإسلامية في ريفي دير الزور والحسكة والرقة وامتدت إلى حلب وإدلب وحماة واللاذقية وريف دمشق ودرعا، فانحسر التنظيم من عدة محافظات بينما سيطر بشكل كامل على مناطق واسعة في محافظات الرقة والحسكة ودير الزور وامتد إلى حلب وريف حماة الشرقي وريف دمشق ودرعا.
وعلى الرغم من تشارك الجميع في قتال التنظيم واتفاقهم على "ردته" إلا أن الشقاق والاقتتال بين الفصائل لم يتوقف فعاد في أواخر عام 2014 بين "جبهة النصرة" والجيش الحر، وتمكنت النصرة بمساعدة علنية لجند الأقصى وسرية من عدة فصائل من انهاء جبهة ثوار سوريا وحركة حزم وعدة مكونات في الشمال، تلاه انتهاء عدة مكونات حوربت بتهم جديدة غير الغلو والردة، كالعمالة والتخطيط لضرب الفصائل الإسلامية وغرها، فحوربت الفرقة 13 في إدلب وشبت حرب بين الفصائل في الغوطة الشرقية بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن، أيضاً في درعا والاقتتال المستمر بين الثوار ولواء شهداء اليرموك وحركة المثنى، وجند الأقصى وأحرار الشام وليس آخرها بين فتح الشام وجيش المجاهدين و والاحتقان المستمر بين عدة فصائل في الشمال السوري.
ولو خضنا في نتائج الاقتتال في كل مرة لوجدنا خسائر باهظة للثوار في كل مرة دون أن تعوض حتى اليوم، فدرعا جمدت جبهاتها مع نظام الأسد وباتت تحارب الغلو، وريف دمشق خسرت أرضها الزراعية والمئات من الدنمات والمناطق والقرى، كما استفرد نظام الأسد بداريا وحلب وريف اللاذقية، وعشرات المناطق في ريف دمشق الغربي وحمص، وأخيراً في حماة، وبدأت مرحلة التهجير للشمال تتسارع مفرغاً جميع المناطق التي يخشى على سلطته فيها من أي سلاح أو ثوار، كما فرغت داريا رأس الحربة في خاصرة النظام بدمشق، ويتم العمل على حصار باقي المناطق وإجبارها على التسليم أو الاستمرار بالتجويع والحصار.
هذه النتائج السلبية للاقتتال الداخلي تحت أي بند كانت مخططة ومتوقعة لدى نظام الأسد وروسيا واللذين أعلنا صراحة أن إدلب وبعد تجمع كل هذه القوى فيها ستكون ملاذاَ لحرب طويلة بين الفصائل، تساهم في إنهاء بعضها البعض، وبعد أن يضعف الجميع يأتي دورها للتقدم والسيطرة الكاملة، وإنهاء آخر بقعة جغرافية فيها قوة للثورة السورية.
ولطالما نادى الجميع بضرورة الوعي العميق بخطورة المرحلة الراهنة، وضرورة إيجاد مظلة عسكرية وقضائية متفق عليها، تتولى فض النزاعات ومحاسبة المعتدين بأقل الخسائر الممكنة، لتجنب الساحة المزيد من الدماء والخسائر على الأرض من جميع النواحي، إلا أن الفصائل مازالت تواصل اقتراف المزيد من الاقتتال والخصومات، وإنهاء مكونات جديدة والسيطرة على مقراتها ومستودعاتها، يدفعها لذلك مبررات باهتة وغير واضحة، ستوصل الساحة لإنهاء غالبية مكوناتها العسكرية بالقوة بعد فشل كل طروحات الاندماج بينها، وظهور تيار أو اثنين يتشاركان في السيطرة، وربما يصلان لمرحلة الصدام في حال اختلافهما، وهذا ما سيجلب الويلات للمنطقة، ويقدمها على طابق من ذهب لأعدائها المتربصين بها، وستكون النهاية السقوط لا محال.
تختلط الأوراق، وتتبعثر الحروف، وتهرب الخطوط عندما تحاول سرد وقائع ما يجري من صراعات داخلية ضمن حدود فصائل الثورة السورية، حيث باتت الخصومات الفصائلية أمراً غالباً ومسيطراً على الساحة العسكرية، بينما نظام الأسد وعشرات الميليشيات الشيعية تراقب اقتتالنا وسفك دماء بعضنا، ليس لشيىء إنما لنحقق المكاسب، ونزيد السيطرة، ونعزز القوة، فبات القوي يأكل الضعيف، وكل ما يحتاجه مبراً هو اتهام بالفساد تارة، والانتماء للغرب أو للشرق تارة أخرى، أو التنبؤ بمخطط قادم وأنه لابد من قضم هذا الفصيل وإنهاء وجوده، وبالتالي السيطرة على مستودعاته ومقراته، والفصائل الأخرى منها من يندد ومنها من يراقب، ومنها من التزم الحياد، والأخر رفع صوته فوجد نفسه وحيداً فسكت.
هذا حالنا اليوم بعد ستة سنوات من التضحيات التي بذلت والدماء التي أريقت على درب النضال، خرج الشعب السوري الثائر ليقول لا للظلم، ولا للقتل، ولا للتسلط والاستبداد، ولا للاعتقال، وقدم التضحيات والشهداء على درب الحرية الطويل، إلا أنه ابتلي بكثرة الكيانات، وتنوع الإيدلوجيات، كلاً يدعي نصرة الشعب المظلوم، والدين، وكل يرى في نفسه أنه الحق والأجدر بالسيطرة، وعليه وجب إنهاء الخصم، لأنه فاسد، مارق، عميل، متآمر، فالأقوى هو من يحدد ويشيطن الفصيل الذي يريد أن ينهيه.
منذ 2014 حتى اليوم، بدأت فصائل الثورة السورية تتجه لمنحى الصراع فيما بينها أكثر من قتال الأسد والميليشيات، ولا ينكر ما قدمته من قتال، ولكن باتت السمة الرائجة اليوم هي الاقتتال الداخلي، حكم القوي على الضعيف، ببيان واحد ينهي مسيرة فصيل قدم مئات الشهداء على الجبهات، يتهمه فيه بالعمالة أو الفساد أو التآمر، أو التخطيط لفعل ما، وبالتأكيد هذا الفساد والفعل والتآمر ينتهك حرمة الثورة، فوجب القصاص.
ومع كل عملية انهاء لفصيل لابد من تبرير شرعي، يتكفل به شرعيي الفصائل ممن يتنافسون في الفتوى، ويحللون الدم الذي حرمه الله، فيقتل من يقتل، ويسلب ما يسلب، وتضيع الحقوق، ويغدوا العشرات من الشباب في المعتقلات، فالمهم انتصرنا على الفاسدين، وقضينا على المتآمرين، وحققنا ما يتطلبه الدين، ولكن ما إن تهدأ النفوس، وتسلم الفصائل بأن من كان برفقتهم في الخندق اليوم زال، تتحسس فصائل أخرى رأسها وتنتظر ساعة الشيطنة لها.
فبالأمس كانت النصرة والجند والأحرار والصقور وفصائل أخرى ضد "المفسدين" في الأرض، منهم من قاتل علناً، ومنهم من ناصر، ومنهم من أقام الحواجز وعطل الحركة، ومنهم من دخل باسم قوات ردع، فسيطرت الفصائل على المقرات ونالت مخازن المستودعات، واقتصت من العناصر وجردتهم السلاح، ثم بات الدور على غيرهم فاختلفت المصالح، واختلف الظرف، فحشد أصحاب الصف الواحد لبعضهم، وتقسمت غاياتهم، وباتوا في صراع بين بعضهم، كلاً يجد في نفسه الأحق، فتكررت سيناريوهات الإنهاء لفصائل عدة زاد عددها عن 14 فصيلاً كانوا من أوائل من حمل السلاح.
واليوم ومع اختلاف المصالح، وتعدد الزعامات، وتغيرات الساحة، اختلف الأصحاب، وانشق الأحباب، وباتوا في مواجهة بعضهم البعض، فالصقور انشقت عن الأحرار، والأحرار تطالب بإنهاء الجند، وفتح الشام فكت البيعة، والجند يريدون إنهاء الأحرار، والفيلق يساند، وجيش الإسلام يعاضد، وفتح الشام اختارت ذبيحتها في حلب الممثلة بجيش المجاهدين، وهاجمته، فردت الصقور في جبل الزاوية، ودخلت الأحرار والفيلق كقوات ردع ولم تجرؤ أن تقول أننا خصم، وبدأت حرب التغريدات، وبدأ الشحن النفسي والحشد العسكري، واختلطت الأرواق وضاع الشعب بين هذا وذاك، وأبنائه يذبحون في مناطقهم وأمام أعينهم.
وما إن انجلى الليل، وأعلن عن سيطرة فتح الشام على مستودعات ومقرات جيش المجاهدين في حلب، بعد بيان بررت فيه فتح الشام عملها، لم يذكر جيش المجاهدين بالاسم، ولم يحدد سبب الهجمة المباغتة، بل قال أنها لإنقاذ الساحة، ووقف التفاوض وعلى الجميع أن يهز برأسه ويبارك العمل، فالمعنى بات واضحاَ وموجهاً للجميع، لكل من حضر التفاوض، فهل بتنا أمام المرحلة ما قبل الأخيرة من الصراع تمهيداً لإنهاء الجميع وظهور قطب او أثنين تقودهما الفصائل الكبرى، وتذوب فيها مرغمة جميع الفصائل الأخرى، منها بعد أن تورطت وباتت في الواجهة، وبات اسمها على قائمة الهدف القادم، فبات لزاماً عليها حل نفسها والإسراع في الاندماج مع طرف من أطراف القوة، وهل باتت دماء المسلمين مباحة لهذه الدرجة في دين ونهج وشرع البعض، وهل يتعظ الخصوم من أخطاء الماضي، ويعي الجميع أن الدور قادم لامحالة عليهم أجمعين، لن تبقي نزعات السيطرة والتفرد بالساحة منهم أحداً، فمن هو الرابح في النهاية لا أدري، ولكن كل ما أدريه أن الشعب السوري الثائر هو الخاسر الأكبر، وأن ما يجري هو تحقيق لما خططت له إيران وروسيا من حشر الجميع في بقعة جغرافية صغيرة في الشمال السوري النازف من جراح واقتتال الاخوة.