مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣ فبراير ٢٠١٧
على ماذا ستتفاوض المعارضة مع النظام السوري؟

تتزايد حاجة المعارضة السورية للإسراع في عقد اجتماع عاجل في مدينة ما، يضم من لم تستطع موسكو جمعهم على طاولة واحدة، من منصّات المعارضة المختلفة، في الداخل والخارج، للوصول إلى تفاهمات بينهم، قبل الوصول إلى طاولة التفاوض في جنيف مع النظام.

والسؤال الملح المطروح اليوم على «الهيئة العليا للمفاوضات»، التي تضم أوسع أطياف المعارضة، هو: هل تملك هذه الهيئة رؤى مرنة للتعامل مع ما هو مطلوب منها، وفق تصريحات المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في 31 الشهر الماضي، حيث طلب تشكيل وفد واحد للمعارضة، مهدداً باستخدام صلاحياته في تشكيل الوفد بعد نفاد المدة التي حددها، وهي الثامن من هذا الشهر؟

ولعل ما جاء في خطاب دي ميستورا يتطابق مع البيان الذي صدر من موسكو موقعاً من المشاركين الثمانية الذين لبوا الدعوة الروسية، ومنهم من يعتبر أحد مكوناتها، أي «هيئة التنسيق»، في حين رفض كل من المنسق العام لـ «الهيئة العليا للمفاوضات» رياض حجاب، ومن دعي من «الائتلاف» المعارض، الدعوة الشفهية التي وجهت لهم. حيث يقر الموقعون على بيان موسكو، الذي صدر في 27 الشهر الماضي، بأن اجتماعات آستانة التي ثبّتت اتفاق وقف إطلاق النار، ستنعكس إيجاباً على المسار السياسي المأمول وتنفيذ القرار 2254. ولعل المتفحّص جيداً لمواد هذا القرار يعرف أن المجتمع الدولي مهّد به لتمثيل منصّات عديدة إلى جانب «الهيئة العليا للمفاوضات»، وبناء على ذلك « توافق المجتمعون على توجيه نداء إلى تشكيل وفد واحد عادل التمثيل ووازن ومقبول، ومن دون إقصاء أحد أو هيمنة أحد»، للتفاوض مع وفد النظام في اجتماع جنيف المقترح هذا الشهر.

وفي عودة لمخرجات اجتماع آستانة، الذي جمع «القوى المسلحة»، يمكننا ملاحظة أن كل طرف (أي النظام والمعارضة) يعتبر أنها جاءت متوافقة مع ما يعزّز موقعه في معركة التفاوض، ويضعه أمام جمهوره منتصراً. إلا أن الحقيقة تفيد أيضاً بأن النظام السوري مني بهزيمة موجعة في المؤتمر، تمثلت بانهيار خطابه الإعلامي، المرتكز على أنه خلال السنوات الست الماضية كان يواجه فصائل وجماعات إرهابية ثابر ليضعها على قائمة الإرهاب الدولية، فإذا به يجلس معها في قاعة واحدة، ويبدو في ذلك كمن هو مضطر للموافقة على البيان الصادر، أو السكوت عنه، على رغم أنه يقضي على كل ما تبقى من سيادته على جيشه، حيث روسيا وإيران معاً هما الضامنتان لتنفيذ بنود الاتفاق، تبدوان كدولتين تتحكمان بمصير سورية ونظامها.

على الجهة المقابلة، تضمنت وثيقة آستانة خسائر بالجملة للمعارضة السورية أيضاً، بشقيها السياسي والمسلح، حيث اضطرت الفصائل للقبول في شكل أو آخر بتحديد طبيعة الدولة السورية، «دولة ديموقراطية، متعددة الإثنيات، متعددة الأديان، غير طائفية» وهو الأمر الذي كان يجب تركه لمحادثات جنيف، وليس التعامل معه بشكلياته من دون إسقاطاته السياسية، التي يجب أن تكون مبنية على التوافقات السياسية بين المكونات السورية جميعها، وليس بين المتصارعين عسكرياً.

واضح أن روسيا على ما يبدو في البيان - حاولت التشويش على المرجعيات الدولية للقضية السورية مختصرة النضالات الديبلوماسية للمعارضة السياسية بالقرار 2254 فقط، وهو الأمر الذي استدركته في بيان موسكو الأخير في محاولة لاسترضاء المجتمع الدولي من جهة، والتقرب من «الهيئة العليا» من جهة ثانية. وربما بالموافقة على الحضور بداية، والتوقيع ختاماً، فقد وضعت الفصائل العسكرية المعارضة كلا من روسيا وإيران في موضع متساو مع تركيا، الدولة الصديقة للمعارضة، مسقطة بذلك الدور القتالي والتدميري للدولتين المذكورتين في سورية، وقابلة بوجودهما من خلال عملهما كضامنتين ومراقبتين على تنفيذ الاتفاق.

ما تريده موسكو والنظام وإيران فعلياً من الفصائل هو انضمامها للحرب على الإرهاب، وقد تحقق لها ذلك، بل بدأت علاماته في الميدان بالشروع بمحاولة تصفية مباشرة لجبهة «فتح الشام» (النصرة سابقاً)، وفي حال تحقق ما يتم الحديث عنه، بخصوص انعقاد مؤتمر جديد في مدينة يمكنها أن تجمع كل أطياف المعارضة من دون تحفظ، قبل اجتماع جنيف المقترح في 20 هذا الشهر، والذي تم تأجيله بناء على توافقات أميركية روسية أممية، والذي كان قد أعلن عن تأجيل موعده المقترح في 8 الشهر، من جانب وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي لا ينطق عن هوى، ما يضعنا أمام انقلاب على مستويين:

- عسكري، حيث تتجمع الفصائل كنواة صلبة مع بعضها بعضاً، لاغتنام فرصة انزياح الحل حسب رغباتها وبشروطها، التي تفرضها على الطرف الذي تجلس إلى جانبه (أي المعارضة) وليس فقط على الطرف المقابل لها (أي النظام). مما يجعلنا نتوقع مجلساً عسكرياً مشتركاً قريباً.

- سياسي، توحي به عبارة مررت عن قصد في بيان آستانة تقول: «أن الصراع يمكن حله فقط من خلال عملية سياسية»، بمعنى أنه ليست هناك عملية انتقال سياسي تستند إلى بنود إعلان جنيف1 و2، وهنا أمام المعارضة السياسية خياران أحلاهما مر، ليس لأنها ستقبل بتوسيع وفدها ليضم ممثلين عن الإدارة الذاتية (الكردية)، أو معارضة موسكو ورندة قسيس، إضافة الى منصة القاهرة وتيار «بناء الدولة»، اللذين كانا موجودين على قائمة اجتماع الرياض الذي أنتج «الهيئة العليا للمفاوضات»، بل لأن على المعارضة السياسية متابعة ما بدأه العسكر، بدل أن يكون العكس هو ما يتم تنفيذه الآن، وفق خطة الانتقال السياسي التي عملت عليها خلال سنوات، وحققت لها مرجعيات دولية، تعتبر موسكو أنها أسقطتها عنوة، ولكن بديبلوماسيتها الناعمة في مؤتمر آستانة في 23 كانون الثاني (يناير) الماضي.

وإذا كان المطلوب من «الهيئة العليا» المرونة في أقسى حالاتها، فعلى هذه المنصات أيضاً أن تعلن مبادرتها للانطلاق نحو تفاهمات مشتركة ليس فقط على أسماء من سيفاوض النظام، (وفد المعارضة الواحد)، بل على ماذا سيكون التفاوض مع النظام، ولعل هذا هو البند الأهم الذي يوجب الاجتماع المشترك، والذي لن تفصلنا عنه سوى أيام إن لم تكن ساعات.

بين مؤتمر آستانة ومن ثم موسكو وقد مضيا، وعاصمة جديدة تطرحها عناوين الأخبار، ثمة صمت في العواصم العربية طال فهل ينتهي، لتكون إحداها مكاناً يمكن من خلاله الحديث بلغة أقرب إلى واقعنا، وأكثر تفهماً لآلام شعب تشرد نصفه، ومنع من دخول بلاد الله الواسعة، وقتل منه نحو نصف مليون، وعدد معتقليه يناهز مئات الآلاف، و85 في المئة منه ضمن خط الفقر، وخمسة ملايين بحاجة للإيواء؟

اقرأ المزيد
٣ فبراير ٢٠١٧
زمن مفاجآت ترامب وتحالفات بوتين

سجّلت الأيام العشرة الأولى من عهد الرئيس دونالد ترامب تنفيذ وعوده الانتخابية، فعطّل العمل الحكومي المعتاد وخلق اختلالاً هزَّ واشنطن وعواصم العالم. أمسك الرئيس الجديد بقلمه السحري ووقَّع على أوامر مدهشة مستفيداً من صلاحياته التنفيذية ومتعمّداً استباق تسلم وزرائه حقائبهم وبدء عمل الإدارة الأميركية كفريق تقليدي. الجيد والمفيد هو أن دونالد ترامب حسم الجدل حول ما إذا كان سيتأقلم مع منصب الرئاسة، وأوضح أنه عازم على تفعيل كل ما تعهّد به أثناء حملته الانتخابية، وهكذا قطع الطريق على الافتراضات والاجتهادات حول مَن هو وماذا سيفعل. والمخيف الذي يدب الرعب في قلوب الكثيرين هو أن دونالد ترامب قد يأخذ الولايات المتحدة حقاً إلى الانفراط وقد يأخذ العالم إلى عاصفة تلو الأخرى، فينهار النظام العالمي من دون أن يكون تم إعداد البديل عنه. قد يقال إن المقاومة الدخلية لأوامر وإجراءات دونالد ترامب ستجبره على إعادة النظر والتراجع. إنما ترامب، من جهته، يراهن على الوهن الذي سيُتعِب ويُحبِط المعارضين له وهم يلهثون معارضين لإدهاش يلي إدهاشاً، فيخضعون للأمر الواقع. بالطبع، لقد ازداد الكلام بعد مرور عشرة أيام على حكم دونالد ترامب – عن حتمية إنزاله من السلطة عبر محاكمته «امبيتشمانت» لأن أميركا لن تسمح له أن يفككها أو أن يجرها إلى حرب أهلية أو أن يُفقرها أو أن يقلص نفوذها العالمي ويقدم مرتبة العظمة للصين وروسيا. الداعمون لدونالد ترامب يقهقهون ويتوعدون أولئك الذين يحلمون بإسقاطه من الرئاسة، بل إنهم واثقون أن ترامب سيجعل أميركاً فعلاً «عظيمة مجدداً» وأن واقعيته السياسية في علاقاته الدولية ستبني نظاماً عالمياً جديداً وتحالفات غير مسبوقة ستسفر عن ازدهار أميركي وعالمي. روسيا محورية في حسابات دونالد ترامب، الذي يقول المقربون منه: لن ينطلق بالعلاقات معها على أساس الحجج والمقاييس الأخلاقية، وإنما على أساس «ما يستلزمه إبرام الصفقة». فهذا «رجل الصفقات» حتى وهو رئيس الولايات المتحدة. ووفق الذين يعرفونه جيداً، سيضع دونالد ترامب «الواقعية» فوق «الأخلاقية» وهو يبني التحالفات الضرورية، ويغيّر السياسات كتلك التي نحو إيران وسورية، ويفصِّل العالم إلى حليف يسند الولايات المتحدة وتسنده وآخر خارج معادلة «سند الظهر» يدفع ثمن مواقفه.

السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، استهلت مهماتها بإبراز العزم على «إظهار قوة» الولايات المتحدة وتوعدت كل من «لا يساندنا» بعواقب تناسب أفعالهم. تحدثت عن أن «هدفنا أن نساند حلفاءنا، ولكن أن نتأكد أن حلفاءنا يساندوننا أيضاً»، وقالت: إن الإدارة الجديدة ستركز أكثر على العلاقات الثنائية على حساب العلاقات المتعددة الأطراف. أثارت نيكي هايلي الاستغراب عندما قالت: «الذين لا يساندوننا، سنسجل أسماءهم وسنحرص على الرد عليهم بما هو مناسب، وهذا الوقت هو للقوة وللعمل ولإنجاز الأعمال». فهذه لغة بعيدة من الديبلوماسية تنطوي على التهديد. إنما السؤال هو، من هم حلفاء الولايات المتحدة في زمن دونالد ترامب، لا سيما أنه اتخذ إجراءات تخص الجدار مع المكسيك فعاداها، وأصدر أوامر تمنع السفر من 7 دول ذات غالبية إسلامية وأخرى تقفل الباب في وجه اللاجئين، فأثار انتقادات جاره الآخر، كندا، وكذلك حلفاء الولايات المتحدة عبر الأطلسي بما فيها بريطانيا المهرولة إلى صداقة مميزة مع الإدارة الجديدة.

مصدر مقرب من تفكير أقطاب رئيسيين في الحلقة الضيقة للرئيس دونالد ترامب قال: «إننا عازمون على مساعدة من يساعدنا حقاً ويثبت جدواه. في الشرق الأوسط، هذا يضم السعودية ومصر والأردن والإمارات». وتابع: «في الوقت ذاته، سنقوم بإدانة من نصنفهم في مرتبة المنبوذ مثل إيران وسورية». باختصار، تابع المصدر: «المعادلة واضحة: كن حليفاً صادقاً، ونحن جاهزون للمساعدة في المقابل».

كان لافتاً ما قاله المصدر حول الرغبة بأن «تساعدنا السعودية في ضبط إيران»، من دون ان يتوسع. إدارة ترامب تريد أيضاً من السعودية المشاركة الفعلية المكثفة لمنع تمويل الإرهاب ليس بالضرورة علناً طالما تفعل ذلك بإجراءات حازمة سراً. خلاصة الأمر أن السعودية ستكون أكثر قرباً وتقارباً مع الولايات المتحدة، وفق المصدر الرفيع.

مع إيران، ما تنوي إدارة ترامب أن تفعله هو التنفيذ الصارم للاتفاق النووي، وليس تمزيقه. تريد تكثيف المراقبة الدقيقة لكل شاردة وواردة، فإذا قامت إيران بانتهاك الاتفاق، سيسقط الاتفاق وسنقفز إلى المحاسبة، قال المصدر مؤكداً العزم على إجراءات.

كيف ستعدّل إدارة ترامب المواقف الأميركية إزاء توسّع إيران في الدول العربية، بالذات في العراق وسورية واليمن ولبنان؟ ليس واضحاً تماماً بعد أن كانت إدارة ترامب ستتبنى مباركة إدارة أوباما للتوغل الإيراني في سورية والعراق باسم مكافحة الإرهاب والتعاون العسكري ضد «داعش» وأمثاله. هناك تلميحات بأن التغيير قد يأتي عبر البوابة اليمنية، إنما ليست هناك سياسات متكاملة بعد توضح إن كانت العلاقة الأميركية– السعودية الوثيقة المنتظرة ستنعكس في ملف اليمن بالدرجة الأولى، وكيف. واضح أنها لن تنعكس في سورية.

روسيا هي اللاعب الأهم في سورية وإدارة ترامب جاهزة لعقد الصفقة معها على أساس «الأخذ والعطاء» طبقاً لفن الصفقات والعمليات التجارية وليس استناداً إلى الحجة الأخلاقية كما فعلت إدارة أوباما. ويشير المصدر إلى أن سياسة الرئيس السابق باراك اوباما القاضية بضرورة رحيل بشار الأسد كانت «سياسة بالاسم فقط»، ولم «تدخل أبداً حيز التنفيذ». ويتابع: «بشار الأسد ما زال موجوداً. هذا واقع. وبناءً عليه، ستكون السياسة الجديدة مبنية على الإقرار باستمرار وجوده إنما مع تصنيفه منبوذاً، والعمل على عزله».

بكلام آخر، ووفق التفكير في إدارة ترامب «لقد تبنى أوباما سياسة تعارضت مع الواقع. أما ترامب فإنه ينظر في تغيير السياسة المعلنة لتتطابق مع الواقع». بوضوح أكثر، ستتخلى إدارة ترامب عن سياسة تغيير النظام في سورية وستتبنى بدلاً منها سياسة «عزل الأسد»، وفق المصدر، أي أن «التغيير سيكون فقط في السياسة المعلنة بحيث نعترف بما هو واقع»، إنما مع استمرار «إجراءات العزل وتكثيفها لأن هذا الرجل ارتكب جرائم حرب ضد شعبه وسيبقى منبوذاً».

الرهان هو على التوصل إلى صفقة تؤدي إلى «انسحابه إلى منفى» أو إلى التحاق روسيا بمساعي عزل الأسد، إذا تبين لها أن السياسة الأميركية لم تعد تريد «تغيير النظام»، وفق المصدر المطلع. إنما المفاوضات الأميركية– الروسية لم تبدأ بعد ومن المبكر التدقيق في عناصر الصفقة الكبرى التي قد يريد كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس دونالد ترامب إبرامها – فالأمر أكثر تعقيداً من مجرد ملف سورية أو حتى ملفي سورية وأوكرانيا معاً. إنها صفقة المصالح الكبرى ولن تكون بالضرورة سهلة أو قريبة. في هذه الأثناء، تستمر روسيا في إدارة ملف سورية سوية مع تركيا وإيران فيما يستمر التغيب العربي الملحوظ عن المسألة السورية تحت عذر معارضة اختطاف روسيا للملف السوري من مجلس الأمن ونقله إلى آستانة، عاصمة كازاخستان.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس اعتبر مشاركة الأمم المتحدة في مؤتمر آستانة تأكيداً على تمسكها بمسار العملية السياسية، مشدداً على أن البحث الفعلي لهذه العملية سيتم في 20 الشهر الجاري في جنيف تحت رعاية مبعوثه ستيفان دي ميستورا. قال إن العملية الانتقالية للحكم في سورية التي أقرها بيان جنيف «ستكون من القضايا المركزية» التي ستبحث عندما يجمع دي ميستورا السلطة والمعارضة. دي ميستورا من جهته أنذر المعارضة بأنها في حال لم تتفق على تشكيل وفد موحد شامل التمثيل ومتوازن، فإنه سيتصرف ويقوم هو بتشكيل الوفد طبقاً للصلاحيات الواردة في قرار مجلس الأمن 2254. هذا التصريح أثار حفيظة أقطاب المعارضة السورية المبعثرة بين تخلي تركيا عنها لتكون شريك روسيا وإيران كـ «ضامن» لوقف النار والحل السياسي، وبين تخلي الدول الخليجية وفض يدها من المسألة السورية، وبين تلميح في سياسة الإدارة الأميركية الجديدة بالتضحية الصريحة بالمعارضة السورية الممثلة بالإئتلاف وبالجيش الحر مع تنمية قدرات «قوات سورية الديموقراطية» التي حصلت من إدارة ترامب هذا الأسبوع على مدرعات وتعزيز القدرات في حملة تحرير الرقة من عناصر «داعش».

المشاريع ما زالت متضاربة في سورية، بالذات المشروع الروسي والمشروع التركي والمشروع الإيراني، علماً أن أي مشروع خليجي بات اليوم في خبر كان. ليس واضحاً ماذا جد بين روسيا وإيران في شأن التضارب الواضح في مشروعيهما، حيث أن روسيا تريد نظاماً قوياً في دمشق وتريد انسحاب كل القوات الأجنبية بما فيها تلك التابعة لإيران، بينما إيران تريد بقاء نفوذها داخل سورية بقوات غير نظامية على نسق «الحرس الثوري». هذه الأمور مؤجلة إلى «وقت لاحق» وفق ما قال غوتيريس، مشيراً إلى أن مسألة انسحاب القوات الأجنبية من سورية «تشمل كل القوات» من دون استثناء. الواقع على الأرض يفرض نفسه، وهناك تزاحم على فرض الأمر الواقع في سورية تهيئة للمفاوضات، على الصفقات.

فكل شيء وارد في زمن المفاجآت غير التقليدية التي وعد بها دونالد ترامب وفي زمن التحالفات غير الاعتيادية التي يتهيأ لها فلاديمير بوتين مع دونالد ترامب. والكل يتموضع بصورة أو بأخرى في رمال متحركة وسط أكثر من زلزال.

اقرأ المزيد
٣ فبراير ٢٠١٧
في ذكرى مجزرة حماة .. المردود العكسي لسياسات النظام الداخلية

إن ما تعيشه سوريا اليوم من قتل و تدمير هو نتاج لتاريخ من القمع و التنكيل و التهميش و الاستفراد و الاستقصاء و التحكم بمقدرات الشعب بشكل مستبد و إرهابي مارسه النظام منذ أكثر من 40 عاماً عندما قام حافظ الأسد، وزير الدفاع آنذاك، بانقلابه في عام 1970 وتولى مقاليد الحكم، حيث بدأ الفساد ينخر في جسد الدولة لاستغلال الرئيس منصبه ليقرب طائفته من سدة الحكم بعد السيطرة على الجيش والأمن وفرض الدولة الأمنية القمعية ،مما أدى ذلك إلى تزايد السخط في البلاد، بين كافة فئات المجتمع وشرائحه الاجتماعية والدينية وبعض الجماعات السياسية المتضررة من الحكم الطائفي البغيض ، ناهيك عن استغلال النعرات الاجتماعية والطائفية بين مكونات المجتمع السوري ، شكل كل هذا الإحباط التربة الخصبة للرفض الشعبي للحكم الجديد ، وبقيت هذه الأوضاع تتنامى إلى أن انفجرت عام 1982 م في مدينة حماة بعد أن ارتكب نظام الأب حافظ مجازر متعددة في كل من حلب ودير الزور وإدلب لتكون مجزرة حماة أشدها وأكثرها هولا .

ابتدع يومها النظام طريقة فريدة للإرهاب و الاعتداء على المواطنين و حرمة مساكنهم، واختطاف نسائهم وأعراضهم، والسطو على أموالهم وممتلكاتهم، وقتل الأزواج وتشريد العائلات، و التمثيل بهم، أمام الزوجات والأولاد، كما فعل بداية الثورة في مجزرة الحصوية ومجزرة الحولة .

أقدم النظام على هذه الجرائم تحت اسم "تمشيط المدن والقرى" إذ تقوم الحوامات والدبابات والقوى المحمولة بتطويق المدن والقرى التي يراد تمشيطها ويؤمر الناس بمنع التجول والمكوث في بيوتهم وتقسم المدينة إلى قطاعات تتولى كل قطاع مجموعة كبيرة من الجنود والوحدات الخاصة وسرايا الدفاع وعناصر المخابرات والكتائب الطائفية، ويستبيحون كل شيء في أثناء "التمشيط"، يسرقون وينهبون ويدمرون ويعتدون على الناس والحرمات والمقدسات، ويقتلون كل من يرفع صوته محتجاً على هذه الانتهاكات، وكثيراً ما أبادوا أسراً كاملة، وقطّعوا أيدي النساء وأصابعهن من أجل الأساور و الحلي الذهبية.. يسحلون من يُقتلون بالسيارات والدبابات أمام الناس لنشر الذعر والرعب والإرهاب في قلوب المواطنين حيث تعرضت مدن و قرى القطر للتمشيط، فمشطت حلب مرتين، ومشطت حماة تسع مرات.

دامت المجزرة 27 يوماً بدءاً من 2 شباط 1982 م، نفذ نظام الأسد الأب خلالها ما يمكن تسميته بالوأد الجماعي، فحوصرت المدينة بعدد من الوحدات العسكرية { اللواء (47) دبابات ، واللواء (21) دبابات ، والفوج (41) إنزال جوي ، واللواء (138) من سرايا الدفاع ، واللواء (142) دبابات من سرايا الدفاع ، والفرقة الانتحارية (22) من سرايا الدفاع ، والفوج (114) مدفعية ميدان وراجمات صواريخ ، وعشرات الطائرات المروحية }

قصفت المدينة بالمدفعية الثقيلة قصفاً عشوائياً، تمهيداً لاقتحامها بالدبابات والآليات، لتخوض فيه عناصر سرايا الدفاع والوحدات الخاصة حرب الشوارع ضد المواطنين العزل

رافق كل ذلك تعتيم إعلامي شديد في الداخل والخارج، ليدفع قوى المعارضة إلى ما يشبه اليأس

أخفى حقيقة حقده الطائفي عن أبناء الشعب في بقية المحافظات وعن الرأي العام العربي والعالمي، إلى جانب اعتماد السلطة العسكرية على البطش المفرط و العشوائي، ليكون الأداة الفعالة في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية والنفسية ضد المواطنين في آن واحد.

تلا ذلك زج الكثير من المواطنين من أبناء المدن في السجون بصفة السجناء السياسيين الذين أودعوا في السجون العسكرية عشرات السنين, وأنزل عقوبة الإعدام بكل مواطن ينتمي أو يشك بانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين التي تصدرت المشهد يومها على الرغم من وجود الحاضنة الشعبية من غير الإخوان ، عدا عن المفقودين الذين لا يعرف أهلهم هل هم أحياء أم أموات، وبدلاً من أن يتخذ نظام الأسد الأب الإجراءات الكفيلة بالحد من آثار المجزرة وتداعياتها على سكان المدينة المنكوبة والمجتمع السوري بشكل عام، والتحقيق في أعمال التنكيل التي وقعت ضد الأهالي، فقد عمد إلى مكافأة العسكريين الضالعين في ارتكاب الجرائم ومن بين هؤلاء القاتل المجرم أخيه الذي عُين نائباً لرئيس الجمهورية لشؤون الأمن القومي، و تعيين محافظ حماة آنذاك محمد حربة في منصب وزير الداخلية.

كانت تلك الإجراءات بمثابة استهتار مروع من قبل الحكومة بالمشاعر العامة، وتأكيد واضح على استمرار منهجية القوة بدلاً من الحوار في التعاطي مع الشؤون الداخلية.

سار نظام الوريث بشار على خطى أبيه باعتماده القتل أسلوبا وحيدا لإبعاد معارضيه ، ونحن على أعتاب الذكرى السادسة للثورة السورية المباركة.

عقم النظام عن انتاج أساليب جديدة للقضاء على معارضيه فيما أنتجت حمامات الدم من أبناء سورية الذين قضوا على أيدي هذا النظام .

فهو رغم استباحته لكافة المدن السورية كما استباح مدينة النواعير من قبل إلا أنه أخفق في تحقيق أهدافه ، بل أعطت تصرفاته الإجرامية مردودا عكسيا يذكرنا برثاء أمير الشعراء أحمد شوقي لشيخ الشهداء عمر المختار فبقتله زرع قاتلوه بذور الثورة والتمرد ضدهم:

رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواءَ     يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساءَ

يا وَيحَهُم نَصَبوا مَناراً مِن دَمٍ     توحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ

جُرحٌ يَصيحُ عَلى المَدى وَضَحِيَّةٌ     تَتَلَمَّسُ الحُرِّيَةَ الحَمراءَ

 

اقرأ المزيد
٢ فبراير ٢٠١٧
تغيير قِيَم أميركا... أبرز «انتصارات» الإرهاب

لا يزال الاعتقاد الأكثر شيوعاً عن الإرهاب، مجسّداً بتنظيمَي «القاعدة» و «داعش» وما تفرّع عنهما، أنه يسعى إلى إقامة «الدولة الإسلامية» أو «دولة الخلافة» أو في حدٍّ أدنى إلى فرض «الحكم بشرع الله». أما الاعتقاد الآخر الأكثر شيوعاً فهو أن هذه الأهداف غير قابلة للتحقيق، لا بالحمولة العقائدية ولا بتطبيقاتها الدموية والقهرية. فالنموذج الإيراني لـ «الدولة» الموصوفة بـ «الإسلامية» ساد في الداخل باستخدم القمع والترهيب واستنساخ أساليب سوفياتية وصينية وكورية شمالية لسحق الشعب وإماتة طموحاته، واستنبط بالشحن المذهبي وميليشياته نمطاً من «الفتوحات» الخارجية قائماً على اختراق المجتمعات وضرب أسس تعايش الأديان والأعراق فيها، فضلاً عن استلاب الأنظمة وإلغاء الجيوش وإفساد الأمن وتجاوز الدساتير والقوانين. أما «دولة الخلافة» التي أقامها «داعش»، المنبثق من «القاعدة»، المتحدّر بدوره من تجربة «الأفغان العرب»، فبدت مُستَلهَمة من تجربة حركة «طالبان» والنظام الذي فرضته على أفغانستان قبل أن تزيله الولايات المتحدة مستندةً إلى تحالف دولي عريض، والأرجح أن المصير ذاته ينتظر «دولة داعش»، ولو أن فلولاً بقيت لـ «طالبان» وقد تبقى لـ «داعش» في سورية والعراق، كما هي حال «القاعدة» في اليمن وباكستان وإيران والصومال منذ طرده من معاقله الأفغانية.

قد يلتقي النموذجان الإيراني و «الداعشي» موضوعياً أو يفترقان، وقد يتعاونان أو يتحالفان. الفارق بينهما أن إيران دولة و «داعش» مجرّد تنظيم، والدولة تستخدم التنظيم ولا يستطيع التنظيم أن يستخدمها، بل إنهما قد يقتتلان متى رأت الدولة أن صلاحية استخدام التنظيم في صدد الانتهاء، كما هو حاصل في الموصل. ثم إن هذه الدولة، إيران، التي شرعت أخيراً في التواصل مع عدوّ لدود سابق هو «طالبان»، لم تتردّد في اعتماد فلول «القاعدة» التي تؤويها كقنوات اتصال مع تنظيم «داعش» لتمكينه وتوجيهه، ولم تعدم سبل تعايش مع «جبهة فتح الشام - النصرة سابقاً» التي أبصرت النور من خلال مبايعة علنية لزعيم «القاعدة»، فهذه «الجبهة» تشكّل مع «داعش» وسيلتين لإحباط أي حلّ للصراع السوري ورأس حربة المقاومة الإيرانية - الأسدية للترتيبات الروسية - التركية في سورية. وأبرز ما يلتقي عليه هذا الرباعي أن أطرافه كافةً (النظامان الإيراني والسوري وتنظيما «داعش» و «النصرة») تتخذ من الإرهاب وسيلة لاستكمال تدمير سورية والتحكّم بوجودها ومستقبلها كدولة موحّدة، بمعزل عن نيات روسيا ومشاريعها. وتكرّر إيران مع «الحشد الشعبي» و «داعش» السيناريو ذاته في العراق، حتى في ظل الدور الأميركي.

وإذ يلتقي النموذجان، الإيراني و «الداعشي» - «القاعدي»، على عداء علني للغرب الأميركي وعلى خطاب تتنوّع التفافاته اللغوية إلا أنه يختصر رسالته بـ «إعلاء شأن الاسلام والمسلمين» وبـ «إلحاق الهزيمة بأميركا»، وهي غايات حققت بالأحرى حتى الآن عكس ما توخّته، لذلك تعزّز الانطباع لدى عموم السوريين والعراقيين ومعظم الشعوب العربية بأن ما يحصل هو تواطؤ جمعي أو على الأقل نتيجة التقاء مصالح أتاحه «داعش» بظهوره وانتشاره اللذَين لا يزالان لغزاً أضافت إليه توسّعاته وتجاراته مزيداً من الغموض. إذ شكل التنظيم دافعاً لاقتراب أميركا من ساحة سورية حاذرت إدارة باراك أوباما التعامل معها، ثم ذريعة رسمية للتدخّل الروسي المباشر المتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مكوث طويل في سورية، وقبل ذلك ساهمت إيران في تصنيعه ومدّه نظام بشار الأسد بتسهيلات ثم اتخذاه عنواناً لتحالفهما في الحرب على «التكفيريين» بديلاً واستكمالاً لحربهما ضد «المؤامرة الكونية».

عندما اختصرت هذه الأطراف، ومعها أطراف أوروبية وعربية، المسألة السورية بأنها مفاضلة بين الأسد و «داعش» بدا الخيار محسوماً لمصلحة رأس النظام. فمن لديه دولة يمارس باسمها القتل بالسلاح الكيماوي واقتلاع السكان بالمجازر وبمحاصرة المدن وتدميرها بعد تجويعها يبقى أكثر قبولاً في نظر المجتمع الدولي من تنظيم يدّعي «دولةً» ويقطع الرؤوس ويحرق أسراه بالنار ويفجّر المنشآت. والواقع أن تحرّكات التنظيم أظهرت في كل المراحل أنه قاتل المعارضة أكثر مما حارب النظام، بل إنه اتّبع تكتيكات الفصائل المسلحة في الاستيلاء على المناطق، ما دعم الحجة التي دفعت روسيا بها أخيراً حين ذكّرت الأسد بأنها أنقذته وأنقذت سورية من السقوط في أيدي الإرهابيين. لم يسبق لـ «إرهاب الدولة» وارهاب «المجموعات غير الدول» أن وجدا بيئة مناسبة يتناغمان فيها كما هي حالهما في سورية، ولا سبق لهما أن التقيا ضد «عدو» واحد كما يفعلان بكل وحشيتهما حيال الشعب السوري.

من المؤكّد أن «داعش» يقترب من الهزيمة في العراق، وقد يلقى المصير ذاته في الرقة بعد شهور، لكن الإرهاب يضمن بقاءه في سورية عبر نظام الأسد طالما أن القوى الخارجية تواصل دعمه، ويضمن بقاءه في العراق عبر هيمنة إيران وميليشيات «الحشد الشعبي». غير أن الإرهاب أنجز منذ زمن أحد أهم انتصاراته التي طيّر بها صواب الدولة العظمى الوحيدة وكان أحد أسباب تراجع الهيبة الأميركية وما سمّي «أفول الغرب»، وأحد الدوافع وراء بحث دونالد ترامب عن استعادة «عظمة أميركا». كانت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي آخر من تحدّث عن عوامل التراجع. ففي خطابها أمام خلوة الحزب الجمهوري في فيلادلفيا، عشية لقائها مع ترامب، قالت أن «أفول الغرب» و «صعود الصين» حصلا بالتزامن مع: الأزمة المالية، و «فقدان الثقة» بعد هجمات 11 سبتمبر، والحربين في أفغانستان والعراق، مستخلصة أن استعادة أميركا (وبريطانيا) قيادة العالم مشروطة بعدم العودة إلى «السياسات الفاشلة» وأن أيام تدخلات أميركا وبريطانيا في دول ذات سيادة «لإعادة صنع العالم على صورتهما» قد ولّت.

كان إرهاب «القاعدة» عام 2001 الاختبار الأهم الذي تحدّى أميركا على أرضها واستفزّ جورج بوش الابن وإدارته، وبدا منطقياً أن يتعامل معه كما فعل الرئيس فرانكلين روزفلت مع الهجوم الياباني على بيرل هاربر عام 1941، أي بالذهاب إلى حيث يوجد تنظيم «القاعدة» لمعاقبته ومسحه عن وجه الأرض. لكن بدت أفغانستان هدفاً متاحاً وسهلاً وغير كافٍ أو متناسب مع المستوى الذي تريده أميركا لثأرها، ومع إضافة هدف آخر هو العراق بدأ الاختلال الأميركي في الداخل وحتى في مجتمعات الدول الحليفة في الخارج. وبمعزل عن المسوّغات أو التلفيقات التي سيقت لتبرير غزو العراق واحتلاله فإن الأعوام التي تلته أظهرت الدولة العظمى غارقة في مسار أقرب إلى العشوائية وفي صراع غير متكافئ مع تنظيم إرهابي لا يحقق فيه أي طرف انتصاراً حاسماً.

لا شك في أن ما حصل بعد 9 - 11 أضعف «القاعدة» وكبّده خسائر هائلة، لكنه تنظيم وليس دولة، لا هو مسؤول عن شعب وأرض وحدود، ولا هو ينشغل بإحصاء قتلاه. والأكيد أنه عندما خطّط لهجماته لم يحسب نتائجها التي فاقت لاحقاً توقّعاته، كما أنه لم يوصّف أهدافه ولو فعل لما استطاع أن يتصوّر ما تحقق سواء بفعل أخطاء واشنطن خلال الاحتلال، ليس في العراق فحسب بل في عموم المنطقة، أو بفعل أخطاء الانسحاب أواخر 2011 وما تلاه من سياسات أثبتت استمرار الاختلال في الأداء الأميركي إلى حدّ أن انكفاء إدارة باراك أوباما توصّل إلى نتائج أسوأ من تلك التي سجّلتها تهوّرات إدارة بوش الابن. وإذ ذكّر أوباما أخيراً بقتل أسامة بن لادن كأحد أهم إنجازاته فمن الواضح أن ستة عشر عاماً بعد الهجمات الإرهابية والحربَين والأزمة المالية واستمرار صعود الصين وعودة روسيا إلى الواجهة جعلت المجتمع الأميركي في مزاج آخر تماماً. أميركا التي لم تعد أميركا التي يعرفها العالم مهّدت لمجيء دونالد ترامب، متفلّتاً من القيم ومن الواجبات، محاولاً تجاوز «السياسات الفاشلة» ونسيانها، لكنْ متمسّكاً بالصراع المستمر مع الإرهاب ومتوعّداً بسحقه. وكلما زادت أميركا منسوب القوة ضد الإرهاب كتبت له بدايات جديدة.

اقرأ المزيد
٢ فبراير ٢٠١٧
في إخفاق انتفاضاتنا وحداثتنا من منظور مختلف

هل كان من المفاجئ أن تنتهي الانتفاضات العربية إلى ما آلت إليه من خذلان وخيبات، أم أن ثمة خللاً أساسياً في منطلقاتها وأهدافها والرؤية الأيديولوجية الناظمة لها، دفع بها في هذا الاتجاه وأوصلها إلى مأزقها الحتمي؟

الذين يأخذون بفكرة المفاجأة لا يرون في الثورة إلا انقلاباً على حكومة لاستبدالها بأخرى قد تكون أكثر سوءاً، أو إسقاطاً لرئيس لصالح آخر أشد وطأة واستبداداً، فهم في الثورة على ما رأى النهضوي أديب اسحق "دعاة زعيم وعصاة زعيم لا ينشطون بها من عقال، إلا ليربطوا بآخر من مثاله أو أشد".

ولو أخذنا في الاعتبار المسار التاريخي للحراك السياسي والاجتماعي العربي لرأينا فيه ما هيأ لحالة الارتباك والضياع الراهنة، وإرساء كل الشروط التأسيسية لسقوط الانتفاضات العربية واندحارها. لعل أول هذه الشروط إخفاق الإصلاح السياسي العربي والاستعصاء التاريخي لقيام دولة الحداثة، دولة القانون والمؤسسات والمساءلة الدستورية، تلك التي طرحها النهضويون العرب منذ ستينات القرن التاسع عشر، وبقيت حلماً لكل دعاة التقدم والإصلاح، فيما الواقع العربي يزداد تدهوراً وتتفاقم أزماته عاماً بعد عام.

يحضر هذا الهاجس بشدة فيما نحن نتابع التحقيق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو للاشتباه بتورطه بقضايا فساد، وتلقيه وزوجته هدايا من مؤيدين أثرياء في شكل غير قانوني، فضلاً عن تورط قريبه ومحاميه في صفقة شراء إسرائيل غواصات ألمانية، الأمر الذي يضع مستقبله السياسي على المحك في حال ثبوت أي من هذه الاتهامات.

في الوقت نفسه يطالعنا تقرير منظمة الشفافية الدولية حول الفساد في العالم بأرقام صادمة عربياً. فقد قالت المنظمة الأربعاء 25 كانون الثاني (يناير) 2017 إن أغلب الدول العربية تراجعت في مجال مكافحة الفساد في 2016 على رغم مرور 6 سنوات على اندلاع ثورات الربيع العربي في المنطقة. ورأت المنظمة أن غالبية الدول العربية لم تحقق نتائج تعكس إرادة الشعوب في بناء أنظمة ديموقراطية تعطي مساحة للمساءلة والمحاسبة، وأن 90 في المئة من هذه الدول فشلت في التصدي للفساد الواسع الذي كان من أسباب اندلاع ثورات الربيع العربي. وجاء في تقرير المنظمة أن 6 من بين أكثر عشر دول فساداً في العالم، هي عربية: سورية والعراق والصومال والسودان واليمن وليبيا. فيما تعاني دول عربية كتونس ومصر والجزائر والأردن ولبنان من ارتفاع معدلات الفساد، حيث جاءت درجتها في التقرير: تونس 75، مصر والجزائر 108، الأردن 57، لبنان 136، بينما هي في إسرائيل 33، ما يضع هذه الدولة مع دول العالم المتقدمة. كما كشف التقرير أن نسبة الذين يعتقدون بأن الفساد قد ازداد تصل إلى 92 في المئة في لبنان و84 في المئة في اليمن و75 في المئة في الأردن، فيما بلغت فاتورة الفساد 77 بليون دولار خلال عام في مصر.

إزاء هكذا مقارنة، يجب أن تكون لدينا شجاعة الاعتراف بأن اسرائيل، وإن كانت دولة غاصبة تمارس التمييز العنصري بحق العرب وتنتهك حرماتهم ومقدساتهم، إلا أنها في تعاملها مع مواطنيها، دولة قانون، يخضع مسؤولوها للمساءلة والمحاسبة في ما يخص الشأن العام، ولم يكن تصنيفها في عداد الدول الأقل فساداً من دون مسوغ، أياً يكن موقفنا منها. بينما لم يتوصل العرب إلى دولة القانون، بعد قرابة قرنين على المبادئ الليبرالية التي طرحها التنويريون العرب لإرساء دولة العدل والحق والمساواة و"مجرى شرائعها متساوية على الجميع بدون تمييز أو تفريق" على ما رأى فرنسيس المراش أواسط القرن التاسع عشر.

لقد استغرقنا في الأيديولوجيا ومشاريعها المستحيلة، فيما أخفقنا في الاعتراف بالانسان كقيمة في حد ذاته، كما أخفقنا في الاعتراف بقيمة عمله وجهده وكفاحه. آثرنا الوصول إلى الثروة والمكانة بالقربى من ذوي النفوذ، والتزلف إليهم ورشوتهم بكل الطرق والأساليب، ولو كان ذلك على حساب كرامتنا الإنسانية، سعياً وراء وظائف لا نستحقها وثروة لم نشارك في إنتاجها. لكأن قول الكواكبي في طبائعه "أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفة ورتبة" لا يزال واقعياً، وكأن الدولة السلطانية التي عاش في كنفها، لا تزال تعيد إنتاج نفسها بصورة وبأخرى.

بإيجاز شديد، لقد فشلنا في تحديث أنظمتنا ومجتمعاتنا وإنساننا، كما فشلنا في تحديث اقتصادنا وعلومنا، فكانت النتيجة كل هذا التردي في كل المجالات لأن ثمة صلات وثقة بل تلازماً بين الأخلاق والسياسة والاجتماع والاقتصاد والثورة المعرفية والعلمية، ولا يؤمل فلاحنا بأي من هذه الميادين في ظل الفساد المهيمن. وهنا بالذات محنة حداثتنا، وسر تمادي تخلفنا.

اقرأ المزيد
٢ فبراير ٢٠١٧
سورية ضحية تباينات الحسابات الدولية والإقليمية

حلب، آستانة، موسكو... ما هي المحطة أو المحطات التالية؟ وما أهميتها بالنسبة إلى تركيب سورية المقبلة، أو"سوريات وليدة" يعتقد الكثيرون بأنها باتت في البرزخ الفاصل بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل؟ تساؤل مشروع يطرحه السوريون، وينتظرون الإجابة عليه.

فقد أوحى التحرّك الروسي المكثّف بعد انقشاع غبار معركة التوافقات وعلامات الاستفهام في حلب، تلك المعركة التي انعكست على البشر والعمران والممتلكات قتلاً وخراباً ولصوصية، بوجود خطة روسية هدفها ترتيب الأمور ميدانياً وسياسياً استعداداً للتفاوض مع إدارة ترامب، التي يبدو أنها ستكون أكثر استعداداً من إدارة أوباما لاتخاذ قرارات تؤثر في الواقع الميداني، على الأقل من جهة تقاسم مناطق النفوذ كمرحلة أولى، انتظاراً لما سيكون مستقبلاً. ولعل الحديث الأميركي عن المناطق الآمنة يشير إلى جانب من ملامح الآتي الذي سيشهده السوريون في مختلف المناطق.

وبالعودة إلى مباحثات آستانة نرى أن الأطراف التي اجتمعت هي تلك التي تمتلك الوجود الميداني والنفوذ الواقعي في القسم الغربي من سورية، من الشمال إلى حدود دمشق. وربما هذا ما يفسر حرص الأطراف ذاتها (روسيا، تركيا، إيران) على التفاهم مع الفصائل الميدانية، أو بصيغة أخرى إفهامها ضرورة الرضوخ لنتائج التفاهمات التي فرضها الراعي الروسي بقوة آلته العسكرية الاستراتيجية، وذلك بالتناغم مع التعديلات التي شهدتها قائمة الأولويات الخاصة بالقوى الإقليمية.

وكان من الواضح أن الطرف الروسي سعى، ويسعى، منذ مدة، إلى إقامة علاقة مباشرة مع الفصائل الميدانية قبل معركة حلب الأخيرة وبعدها، بهدف التفاهم معها واحتوائها بهذه الصيغة أو تلك، تمهيداً لترتيب الأمور وضبطها مستقبلاً على المستوى العسكري.

أما اجتماع موسكو، فمن الواضح من خلال اختيار الأسماء، وطريقة توجيه الدعوات، أن هناك رغبة روسية في تجاوز هيئات المعارضة المعروفة. ويُشار هنا إلى الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات على وجه التحديد، هذا على رغم ملاحظاتنا الكثيرة حول فعالية عمل هاتين الهيئتين وآليته. كما أن هناك رغبة بينة في تجاوز مرجعية جنيف والقرارات الأممية الخاصة بالقضية السورية. بل إن موسكو ما زالت مستمرة في توجهها السابق القائم على أساس أن ما يجري في سورية صراع بين الإرهاب من ناحية والقوى لمناهضة له، ومن ضمنها النظام من ناحية أخرى. لذلك كان التأكيد المتواصل من جانب موسكو على ضرورة إعطاء الأولوية للإرهاب، وتوحيد جهود النظام والمعارضة في محاربته. هذا ما كان أثناء مفاوضات جنيف 2 وجنيف 3، وعبر التواصل المكثف مع الجانب الأميركي.

ومن المفيد ذكره هنا أن روسيا كانت تعتبر كل الفصائل المسلحة في المعارضة إرهابية، ولم تكتفِ بذلك فحسب، بل قصفت كل تلك الفصائل بآخر تكنولوجيتها العسكرية في مجال الطيران على مدى أكثر من عام.

ولكن يبدو أن الروس اعتمدوا لاحقاً استراتيجية أخرى تعتمد ضرب الفصائل المعنية بعضها ببعض؛ بقصد إضعافها واستنزافها، ومن ثم إلزامها لاحقاً بالقبول بما يملى عليها، بما في ذلك مشروع الدستور الذي يعكس، بغض النظر عن مضمونه، رغبةً روسية في التحكّم بكل جوانب الورقة السورية، على الأقل ضمن الحيّز الجغرافي الذي أشرنا إليه.

بعد آستانة وموسكو، ربما تكون هناك محطة أو محطات أخرى في جنيف أو سواها تتكامل مع الجهود الروسية، وعبر التنسيق والتفاهم مع القوى الإقليمية المعنية بالشأن السوري لأسباب مختلفة، وذلك لكسب المزيد من النقاط ميدانياً وعسكرياً، استعدداً للمحادثات المقبلة التفصيلية مع الأميركيين حول الملف السوري من موقع أهميته الإقليمية، وفي إطار الاستفادة منه في عملية التوافقات حول الملفات الأخرى على الساحة الدولية.

وهنا لا بد من التوقف عند فكرة المناطق الآمنة في سورية التي تناقشها الجهات المختصة ضمن الإدارة الأميركية. فقد طالب السوريون المجتمع الدولي والإدارة الأميركية تحديداً بالتحرّك لحماية المدنيين. وذلك منذ بداية الهجوم المسلح السافر من جانب النظام على المدن والقرى السورية بكل أنواع الأسلحة. وتركوا أمر تحديد كيفية تنفيذ هذه المهمة للمجتمع الدولي. كما طرحوا غير مرة فكرة المناطق الآمنة التي كان من شأنها في ذلك الحين حماية الشعب من القتل والتشرد، وحفظ البلد من الدمار، وصيانة النسيج المجتمعي الوطني السوري.

والآن، وبعد مرور نحو ستة أعوام، تطرح هذه الفكرة مجدداً من جانب الإدارة الأميركية بعدما شُرّد أكثر من نصف الشعب السوري، وقُتل ما يزيد عن نصف مليون إنسان، وهناك من يقول إن الأرقام الحقيقية تفوق ذلك بكثير. وبعد أن تهتك النسيج المجتمعي السوري، تُطرح فكرة المناطق الآمنة التي تُوحي بأنها ستكون في صيغة ما تكريساً لوضعية مناطق النفوذ بين كل من روسيا وإيران وأميركا وتركيا، في المقام الأول، مع غياب عربي لافت ومدهش.

أما السوريون فخارج اللعبة تماماً، مع أن ما يجري يتصل مباشرة بمصيرهم ومصير بلدهم. ويبدو أن دورهم يقتصر من جهة المعارضة على التوزع بين المنصات المتكاثرة، والفصائل المتناحرة، ويقتصر من جهة النظام على التزام أوامر الراعي الدولي وشريكه الإقليمي، وتوقيع الاتفاقات المشبوهة التي تسلب الأجيال السورية المقبلة حقوقها.

ولكن على رغم كل ما حصل ويحصل، فإن الكلمة الأخيرة ستكون للسوريين إذا توفرت الإرادة الوطنية الراسخة، ليقرروا ما إذا كانوا يريدون المحافظة على وطنهم ونسيجهم المجتمعي موحداً.، أم أنهم سيسلمون أمورهم بصورة ما إلى القوى الإقليمية والدولية، وهذه القوى ستتعامل مع الوضع انطلاقاً مما يتناسب مع مصالحها وحساباتها المتباينة.

المعارضة بهياكلها الحالية وبخلافاتها وتناحراتها مُنهكة، عاجزة عن التصدي للمهمات المطلوبة. ولكن النخب السورية التي لم تتلوث بعد بآفات التشدد الديني والتعصب القومي والفساد بكل أشكاله ما زالت موجودة تمثّل خط الدفاع الاسترتيجي، وما زالت تمتلك الصدقية والكفاءة، وفي مقدورها التحرّك لممارسة الضغط من أجل تحسين أداء المعارضة، وتوحيد مواقفها وجهودها. كما يمكن لهذه النخب أن تتواصل مع مفاصل القرار الدولية والإقليمية المؤثرة، لوضعها أمام مسؤولياتها، وبيان حقيقة رغبة السوريين في حياة حرة كريمة، في وطن حرّ موحّد يطمئن الجميع، وطن لا مكان فيه للاستبداد والإرهاب.

اقرأ المزيد
٢ فبراير ٢٠١٧
كي لا ينجح 'حزب الله' حيث فشل في 2009

من الواضح أن الوضع الأمني في لبنان ممسوك إلى حدّ كبير. يساعد في ذلك وجود رئيس للجمهورية، هو العماد ميشال عون يعمل، على طريقته، من أجل المحافظة على التوازنات الداخلية واستعادة العرب ثقتهم بلبنان.

هناك، في موازاة ذلك، حكومة تمثل فئات واسعة من الطبقة السياسية برئاسة سعد الحريري الساعي، يوميا، إلى إعادة الحياة إلى مؤسسات الدولة من جهة، وتحريك العجلة الاقتصادية من جهة أخرى. فضلا عن ذلك، هناك قسم من الحكومة يعي الخطر الإيراني ويعمل على مواجهة هذا الخطر الذي في أساسه مشروع توسّعي مكشوف قائم على الاستثمار في الغرائز المذهبية في كلّ دولة عربية واستخدام جزء من اللبنانيين في خدمة هذا المشروع. إنّه مشروع يستهدف كلّ مجتمع من المجتمعات العربية. مؤسف أن هناك لبنانيين لم يستوعبوا ذلك في الماضي ولم يستوعبوه في الحاضر.

يبدو الإمساك بالوضع الأمني، كما ظهر من خلال إحباط العملية الانتحارية في مقهى “كوستا” في شارع الحمراء، عائدا أيضا إلى التعاون بين الأجهزة الأمنية المختلفة. يتم ذلك في ظلّ وجود وزير للداخلية اسمه نهاد المشنوق يعتبر نفسه وزيرا لكلّ لبنان واللبنانيين. الأهمّ من ذلك كلّه، وربّما في أساسه، أن لا مصلحة لـ”حزب الله” الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني في إرباك الوضع اللبناني، أقلّه في هذه المرحلة. مثل هذا التصرّف، الذي ينمّ عن رغبة في إبقاء لبنان في مأمن عن الحريق السوري، يجب أن لا يغيّب الخطر الذي يمثلّه السلاح غير الشرعي الذي في يد ميليشيا مذهبية قرارها في طهران. لا يمكن إلا أن تكون هناك نتائج في غاية السلبية على مستقبل البلد بسبب وجود سلاح غير شرعي ومناطق تحت سيطرة ميليشيا مذهبية قررت عدم الاعتراف بوجود حدود دولية للجمهورية اللبنانية من جهة، والتدخل إلى جانب النظام السوري في الحرب التي يشنّها على شعبه من جهة أخرى.

هناك ما يشير إلى وجود بقايا مؤسسات لدولة لبنانية. يمكن البناء على بقايا المؤسسات. لا يمنع ذلك التخوف من أن أحداثا يمكن أن تحصل مستقبلا، لكن الثابت أنّ على البلد إعداد نفسه للمرحلة المقبلة، مرحلة الانتخابات النيابية. هذه الانتخابات اللبنانية ستثبت أن لبنان قادر على استكمال عملية استعادة مؤسساته.

تمثّل هذه الانتخابات التي يُفترض أن تحصل في أيار ـ مايو المقبل، في حال لم يكن هناك تأجيل ذو طابع تقني، منعطفا على الصعيد اللبناني. ستثبت الانتخابات أن هناك محاولة جدّية لإعادة بناء البلد في ظلّ ظروف إقليمية أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها معقّدة.

من هذا المنطلق، يمكن أن تكون الانتخابات سيفا ذا حدّين. يمكن أن تساعد لبنان في تحصين نفسه، ويمكن أن تساهم في تكريس لبنان مستعمرة إيرانية. وهذا ما ترفضه أكثرية لبنانية تعي تماما ماذا يعني أن يكون قانون الانتخابات على قياس “حزب الله” الطامح إلى قلب المعادلة داخل مجلس النوّاب. يستند الحزب في ذلك إلى أنّه يعتبر نفسه قادرا على السيطرة بشكل شبه كامل على الطائفة الشيعية، فيما يستطيع تحييد المسيحيين إلى حدّ ما… مع شق السنّة والدروز إلى حدّ كبير وانتزاع مقاعد لموالين له ولما يمثّله من هاتين الطائفتين. بكلام أوضح، يعتقد “حزب الله” أن في استطاعته إلغاء العلاقة العضوية بين “تيّار المستقبل” وأهل السنّة، كما في استطاعته إيجاد طريقة لتقليص الحجم الدرزي لوليد جنبلاط لمصلحة بعض التافهين الذين يعتقدون أنّ لديهم وجودا داخل هذه الطائفة. صحيح أن الطائفة الدرزية طائفة صغيرة. لكنّ الصحيح أيضا أنّها طائفة مؤسسة في لبنان ليس هناك من يستطيع إلغاءها لأسباب عدة. من بين هذه الأسباب الوجود الدرزي في لبنان من الناحية الجغرافية، والتماسك داخل المجتمع الدرزي… والدور العربي التاريخي للدروز المنتشرين في لبنان وفلسطين وسوريا، وحتّى في الأردن، فضلا عن طبيعة الزعامة الدرزية التي يرمز إليها في هذه المرحلة وليد جنبلاط.

ليس طبيعيا أن يذهب لبنان إلى قانون انتخابي يسمح لـ”حزب الله” بتحقيق ما عجز عنه في انتخابات العام 2009. وقتذاك، لعب سعد الحريري دورا محوريا في التصدي للتوجّه الإيراني ومنع الحزب من السيطرة على لبنان، عن طريق صناديق الاقتراع. ربح رهانه على الرغم من أنّ كثيرين كانوا يعتقدون أنّه لن يتمكن من ذلك، وأن لبنان ورقة خاسرة. ليس ما يدعو إلى العودة إلى ما قدّمه سعد الحريري في تلك المرحلة وإلى تضحياته، على كلّ صعيد، من أجل تحقيق انتصار في الانتخابات. وضع الرجل عائقا يستهدف منع الحزب الإيراني من السيطرة على الجمهورية اللبنانية عبر أكثرية تابعة له في مجلس النوّاب. ليس سرّا أن الانتصار الذي تحقّق في 2009 لم تكن له ترجمة على الأرض بعدما رفع “حزب اللّه” سلاحه ومنع مجلس النواب من الانعقاد لانتخاب رئيس للجمهورية في مرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في أيار ـ مايو من العام 2014.

قبل ذلك، في العامين 2010 و2011، لم تكن من ترجمة لهذا الانتصار، وهو انتصار للشعب اللبناني أوّلا، عندما أسقطت ميليشيا “حزب الله”، بقمصانها السود، حكومة سعد الحريري بسحب “الوزير الملك” منها تمهيدا لتشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي. لم يكن من هدف لهذه الحكومة سوى إذلال المسيحيين والسنّة والدروز في لبنان.

ما الذي سيحصل الآن؟ قانون الستين مرفوض. هل يبني “حزب اللّه” على هذا الرفض من أجل تحقيق ما عجز عن تحقيقه في 2009؟

ثمّة واقع، لم يعد في الإمكان تجاهله، خصوصا في ظلّ تورط “حزب اللّه” في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري. هذا الواقع يفرض على لبنان متابعة المقاومة. المقاومة الحقيقية هي مقاومة الهيمنة الإيرانية التي يسعى الحزب إلى فرضها على لبنان. هل من قانون انتخابي عادل يأخذ في الاعتبار حقوق كلّ اللبنانيين ومصالحهم تجري على أساسه الانتخابات المقبلة؟

الجواب أن في الإمكان التوصّل إلى مثل هذا القانون، أقلّه من أجل تفادي السقوط في الفخّ الذي تنصبه إيران للبنان.

في الإمكان الانطلاق من قانون الستين، مع بعض التعديلات له، من أجل التوصل إلى صيغة ترضي الجميع. صيغة تكون بعيدة عن قانون النسبية الكاملة الذي يطالب “حزب الله” به لتحقيق غايات معيّنة. أيّ قانون عادل سيخدم المحافظة على السلم الأهلي، في وقت يحتاج لبنان إلى كثير من الهدوء في سعيه لإعادة بناء مؤسساته وإبقاء الأمن مضبوطا داخليا، ولتمرير مرحلة التغييرات الكبيرة التي تبدو سوريا مقبلة عليها.

اقرأ المزيد
١ فبراير ٢٠١٧
عن المناطق الآمنة في سورية

يأتي قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإنشاء مناطق آمنة في سورية أو في الدول المحيطة بها ضمن سياق طبيعي لتوجهه الرامي إلى تقليص وإنهاء عمليات الهجرة إلى الولايات المتحدة، وهو توجه قديم عبر عنه العام الماضي حين أعلن أن الحل الوحيد للتعامل مع أزمة اللاجئين السوريين هو إقامة مناطق آمنة في سورية للحيلولة دون لجوئهم إلى أوروبا أو الولايات المتحدة.

وبالتالي، ليس المقصود أميركياً إنشاء مناطق آمنة أو عازلة بالمعنى العسكري، فمثل هذه المناطق قد تجاوزتها الأحداث العسكرية على الأرض نتيجة التفاهم الروسي - التركي. والمشهد الميداني الجديد في الشمال السوري وطبيعة التحالفات الإقليمية - الدولية لا تسمحان بمثل هذا الفهم العسكري للمناطق الآمنة.

وحتى تركيا ذاتها التي طالبت خلال السنوات الماضية بإقامة منطقة آمنة ذات صبغة إنسانية وعسكرية في الوقت نفسه، لم تعد تطالب بها بعدما توجهت شرقاً نحو الكرملين وحصلت على حصة جغرافية مهمة تحقق من خلالها حل جزء من أزمة اللاجئين من جهة، وإنهاء التواصل الجغرافي بين مناطق الأكراد من جهة ثانية.

لكن المشكلة هي أن ثمة خطاً رفيعاً بين منطقة آمنة لأغراض إنسانية ومنطقة آمنة لأغراض عسكرية، ذلك أن كلا المنطقتين تعنيان تحييد أرض جغرافية ما عن النزاع، وهذا أمر يتطلب موارد كبيرة لضمانها، بما فيها حظر الطيران.

ولذلك بدت موسكو ممتعضة من إعلان ترامب هذا من دون التشاور معها، فموسكو ترفض تحييد أي بقعة جغرافية عن الصراع قبل اكتمال المشهد العسكري في عموم سورية، وهو المشهد الذي عملت بجد على رسمه وتحديده.

المنطقة الآمنة لأغراض إنسانية يمكن أن تتحول بقرار إلى منطقة عسكرية، وهذا يشكل ضربة قوية وقاصمة للمجهود الذي قامت به روسيا خلال العامين الماضيين، كما أن من شأن هذه المنطقة أن تعيد صوغ التحالفات من جديد، وتكون بمثابة أسفين بين تركيا وروسيا.

لن تخاطر أنقرة بطبيعة الحال بالمضي قدماً في المشروع الأميركي وإن رحبت به من حيث المبدأ إلا بما يتماهى مع الأغراض الروسية، فلن تخسر تركيا ما حققته على الأرض السورية من نتائج بالغة الأهمية، وهي نتائج تم تحقيقها من البوابة الروسية وليس من البوابة الأميركية.

وأغلب الظن أن واشنطن تتجه إلى إقامة هذه المناطق داخل سورية في الشمال والجنوب، وليس في دول الجوار، لأن الواقع الأردني والتركي لا يسمحان بذلك، فضلاً عن أن المنطقة التي تسيطر عليها تركيا في شمال سورية تتحول تلقائيا إلى ملجأ لكثير من المدنيين السوريين، ولن تتحول إلى منطقة عسكرية، فهذا أهم شرط روسي وضع أمام طاولة الأتراك قبل الموافقة على إطلاق عملية «درع الفرات».

ربما تستفيد أنقرة من التوجه الأميركي الجديد من الناحية المالية لدعم عودة المدنيين إلى المنطقة الشمالية الخاضعة لها، وهنا ثمة مصلحة متبادلة: تستفيد واشنطن من الأرض الخاضعة للسيطرة التركية لتوطين اللاجئين، وتستفيد أنقرة منها لتعزيز الثقل الديموغرافي السني، وهو ثقل تبدو أنقرة في حاجة اليه ليكون سداً أمام الأكراد، في حال حصلت تغيرات مفاجئة في سورية قد تقتضي خروج الأتراك من الشمال السوري.

أما في الجنوب السوري، فإنها منطقة تبدو وفق التفاهمات مع روسيا من حصة الأردن والولايات المتحدة، غير أن المشكلة التي تواجه إقامة مثل هذه المنطقة هي اقتراب المناطق الجغرافية التي تسيطر عليها المعارضة والنظام من بعضها بعضاً، وبالتالي يصعب إنشاء منطقة آمنة لا وجود فيها للعنصر المسلح.

لكن المشكلة أن سياسة الإدارة الأميركية الجديدة حيال سورية لا تزال غامضة، ولا يعرف المدى الذي يمكن أن تتدخل فيه الولايات المتحدة، لأن مثل هذه المناطق تتطلب تدخلاً مباشراً من واشنطن ليس فقط لضمان نجاحها، وإنما أيضاً لضمان حمايتها، وهذا ما تخشاه روسيا.

اقرأ المزيد
١ فبراير ٢٠١٧
إيران تختبر ترمب!

هل كانت الجمهورية الخمينية تختبر عزيمة الرئيس الأميركي الجديد، ترمب، حين أطلقت صاروخها الباليستي، الذي قطع أكثر من 900 كيلومتر، ثم انفجر قبل هدفه، في «تجربة فاشلة»، على حد وصف مسؤول في البنتاغون الأميركي؟

التجربة الباليستية الخمينية هذه انتهاك واضح للقرار الدولي «2231» الذي يمنع إيران من مثل هذه الأعمال لمدة ثماني سنوات.

روسيا عبر نائب وزير الخارجية، ريابكوف، حاولت التقليل من هذا الأمر، وتفسير القرار الدولي بطريقة تخدم التأويل الإيراني، لكن ردة الفعل التي يخشاها الأوروبيون والروس، وطبعًا المعسكر الخميني، هي ما يدور في عقل الرئيس ترمب وأركان إدارته «الأشداء الجدد».
لو جرت مثل هذه المحاولة في وقت «الآفل» أوباما، لمرّت بردًا وسلامًا، مع حفنة من تصريحات القلق والنصائح الأكاديمية الباردة للناشط السياسي، جون كيري.

لكن جرت في الساقية مياه أخرى، مياه هادرة صاخبة الأمواج، في واشنطن الجديدة، وقد دعت الولايات المتحدة فورًا إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن، ردًا على الانتهاك الخميني هذا، وقال السيناتور بوب كروكر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، إنه سيعمل مع المشرعين الآخرين وحكومة الرئيس ترمب على محاسبة طهران بعد استعراضها الصاروخي هذا.

الاتحاد الأوروبي، الوجل بدوره من عزائم الرئيس الأميركي الجديد، انتقد التصرف الإيراني، داعيًا طهران إلى «الامتناع عن كل عمل من شأنه تعميق الريبة»!

لاحظ اللغة! يعني الكل يريد تحاشي إغضاب ترمب، وليس البحث في «جوهر» المعضلة الخمينية في المنطقة كلها، كما كان سلوك وعقل الإدارة الأوبامية الآفلة، ومعها الاتحاد الأوروبي أيضًا.

نحن أمام ثقافة جديدة، ومعايير مختلفة، الكل يحاول اختبارها اليوم. ربما صدقت توقعات العاهل الأردني في حديثه مع نواب وأعيان بديوانه الملكي مؤخرًا، حول خطورة الوضع في الشرق الأوسط، وأن الإقليم هذا العام 2017 يعبر أصعب مرحلة، و«ثمة تغييرات كبيرة خلاله».

يجب أن نتذكر هنا الخبرة الكبيرة التي يمتلكها الملك عبد الله الثاني بمسارات الرياح الدولية والإقليمية قبل هبوبها، فهو الذي حذّر في ديسمبر (كانون الأول) 2004 من تشكيل الهلال الشيعي بالمنطقة، بحديثه الشهير لصحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، وكان تحذيرًا مبكرًا وصادمًا.

كيف سيتعامل الرئيس ترمب، بعد أقل من أسبوعين من تعيينه، مع هذا التحدي الإيراني الجديد؟

يقال ذلك، ونحن نعلم أن ترمب يشاطر السعودية والإمارات رؤيتهما لطبيعة الخطر الإيراني، كما في اتصاله الهاتفي الأخير مع الملك سلمان والشيخ محمد بن زايد.

الكل في حالة ترقب، والكل يريد اختبار العزم الأميركي الجديد... وحدوده.

اقرأ المزيد
١ فبراير ٢٠١٧
ترمب وإيران وخلط القضايا

لقد ضيعنا سنوات طويلة لا نفرق بين مصالح إيران ومصالحنا، ولا نفرق بين صدق القضايا والمزور منها. ونجح نظام إيران في أن يتاجر في قضايانا، القضية الفلسطينية وقضايا العرب والمسلمين، التي باع فيها واشترى من أجل غاياته، ولم يستوعب كثيرون هذه الحقيقة إلا متأخرين، وبخاصة بعد أن رأوا ما فعلته إيران من جرائم في العراق وسوريا واليمن والبحرين. وسنرى إيران، ومن في معسكرها، يعيدون الكرة بشن الحملات في مواجهة الإدارة الأميركية الجديدة، وغيرها من الحكومات التي تقف ضدهم؛ لهذا علينا ألا نخلط الحقائق، ولا في المصالح، ودعوا إيران ورفاقها يحاربون بأنفسهم.

أما لماذا كل هذه المواجهات الصاخبة التي يخوضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب؟ في رأيي هدفه بناء شعبيته الرئاسية في مواجهة خصومه، وهم كثر، في الإعلام والحزب الديمقراطي، والكونغرس وغيرهم.

مثلا، لأن هناك شكوى من مزاحمة الأجانب للمواطنين الأميركيين، قرر بناء جدار مع جارته دولة المكسيك لوقف تسلل أكثر من سبعمائة ألف شخص سنويا. ولأن هناك قلقًا من الإرهاب خَص سبع دول إسلامية، فيها فوضى وإرهاب، بمنع مواطنيها من الدخول لثلاثة أشهر. ولأن النقابات العمالية ضد الشركات الأميركية التي تفتح مصانعها خارج الولايات المتحدة تعهد بأنه سيفرض غرامات على بضائعها المستوردة. ولأنه يريد إقناع منتقدي العقود الحكومية بأنه ضد الفساد أعاد عقدين ضخمين للمراجعة، أحدهما لبناء طائرته الرئاسية. ولأن هناك محافظين ضد الإجهاض أمر بمنع إنفاق الدعم الحكومي لعمليات الإجهاض، وهكذا.

لا يمكن أن نقول ترمب ضد المسلمين، بدليل أنه يبني جدارا لمنع تسلل جيرانه المكسيكيين ومعظمهم مسيحيون، ووعد بأنه سيرحل المقيمين غير الشرعيين في الولايات ويربو عددهم على أحد عشر مليونا، ومعظمهم غير مسلمين.

ومن بين 57 دولة إسلامية في أنحاء العالم، لم يفرض ترمب حظر الدخول إلا على سبع دول إسلامية منها، لأن فيها حروبا أو قلاقل، وسلطة مركزية ضعيفة. ومعظم دول العالم تتلكأ في منح تأشيرات دخول لمواطني هذه الدول لعدم وجود سلطات مركزية تستطيع التنسيق الأمني معها. إنما الإرهاب ليس خاصا بهذه الدول، فهو في دول وسط آسيا، وفِي باكستان، وبنغلاديش، والسعودية، وتركيا، وغيرها من الدول الإسلامية، وموجود حتى في دول غربية مثل بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وغيرها. السبب في عدم ضم مسلميها إلى قائمة حظر التأشيرات على مواطنيها، لأن فيها حكومات مركزية، وأنظمة أمنية، يمكن التنسيق المعلوماتي معها وتقليل المخاطر.

معركة ترمب ليست مع المسلمين، ولا المكسيكيين، بل في الشارع الأميركي. يشعر أنه وعد ناخبيه وسيحاول أن ينفذ معظم وعوده التي انتخب بسببها، ورغم إصراره فقد لا يستطيع أن يكسب معاركه، وذلك نتيجة الاحتجاجات الشعبية المعارضة والعراقيل القانونية، وهذه على أي حال مسألة أميركية داخلية.

الولايات المتحدة أكثر بلد في العالم استفاد من المهاجرين واللاجئين والمجنسين، وحتى من غير الشرعيين، في إدارة عجلته الاقتصادية الكبرى في العالم. وقد أصبحت التجربة الأميركية في استيعاب الآخرين ملهمة لكثير من الدول التي تسعى للمنافسة اقتصاديا، حيث جعلت المعايير هي المكاسب والفوائد التي يعود بها الوافد إلى الدولة والسوق، ومن الطبيعي أن يقابله شعور بالرفض عند العاطلين والأقل حظًا في المجتمع. والشعور المحلي الرافض للأجانب حالة مكررة في كل المجتمعات مع تزايد التنافس على الوظائف، والتنافس بين الأحزاب التي تستخدمه في حملاتها الانتخابية، كما فعل ترمب.

والرئيس الجديد المتحمس، بكل ما أوتي من سلطة، لن يتمكن من منع الإرهاب، ولا إبعاد كل المقيمين غير الشرعيين ولا منع التسلل من المكسيك، لكنه سيجرب أن يكسب ما يستطيع داخليًا، وخارجيا أيضا لن تكون كل معاركه رابحة. ولعل أهم قراراته عدم التعاون مع إيران، الأمر الذي سيغضب طهران، وستسلط عليه دُمَاها، في غزة، والعراق، وسوريا، واليمن، والتنظيمات المتطرفة التي ترفع الإسلام بهتانا

اقرأ المزيد
١ فبراير ٢٠١٧
أيها السوريون.. اخلعوا أعضاءكم لتمروا

أيها السوريون.. “اخلعوا أعضاءكم لتمروا”، لتهربوا من جحيم الموت الأسدي إلى دول أكثر أمنًا وأمانًا، إلى أميركا ربما، أميركا التي تحترف خداع العالم بلصق تهمة الإرهاب بالسوري إعلاميًا، بينما أرقامها الرسمية تقول إن السوري اللاجئ ليس إرهابيًا.

ثمة أرقام صادمة عن اللاجئين السوريين، تمر مرور الكرام أمام أعين العالم، ولكن لابد من بعض التدقيق وإعادة قراءة هذه الأرقام، خصوصًا بعد قرار ترامب الأخير الذي قضى بمنع استقبال لاجئين سوريين؛ “لإبقاء الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين خارج الولايات المتحدة”، وأما الإرهاب فإنه، بحسب البيانات الأميركية، لا يتصل لا من قريب ولا من بعيد باللاجئين السوريين الواصلين إلى أميركا.

استقبلت أميركا -حتى الآن- نحو 12 ألف لاجئ سوري فقط، من أصل 4.7 مليون لاجئ سوري، أي بنسبة 0.2، وبحسب بيتر بيرغن، محلل شؤون الأمن القومي في شبكة CNN، ونائب رئيس مؤسسة “أميركا الجديدة”، وأستاذ ممارس في جامعة أريزونا الأميركية، ومؤلف كتاب “الولايات المتحدة الجهادية: تقرير عن إرهابيي أميركا محليي المنشأ”؛ فإنه لا دليل على وجود إرهابيين من بين اللاجئين السوريين الذين يستقرون في الولايات المتحدة الأميركية.

لن ندخل في أرقام توزع اللاجئين السوريين على دول العالم، ولا نريد أن نثبت أن الدول المجاورة لسورية تتحمل العبء الأكبر من أعداد السوريين، ولا نهدف إلى استجرار التعاطف بالكلام الإعلامي، ولا حتى الأدبي، كل ما سنحاول أن نثبته أن السوريين في أميركا لم يحملوا أي مشروع إرهابي.

بحسب مقال لبيرغن، كل الأعمال الإرهابية “الجهادية” القاتلة التي شهدتها أميركا منذ أحداث 11 سبتمبر عام 2001، نفذها مواطنون أميركيون أو مقيمون في الدولة بصفة قانونية، ولم تُنفذ أي من تلك العمليات على يد لاجئ سوري.

من المعروف أن الدخول إلى الولايات المتحدة بالنسبة إلى اللاجئ السوري أكثر تعقيدًا من أي قضية تشغل العالم، والكلام ليس من تأليفنا، فبحسب شهادة آن ريتشارد، المسؤولة رفيعة المستوى في وزارة الخارجية الأميركية، في جلسة استماع للجنة الأمن الداخلي في مجلس الشيوخ، في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2015، فإن “أي لاجئ سوري يحاول دخول الولايات المتحدة يجري التدقيق في ملفه من مسؤولين في المركز الوطني لمكافحة الإرهاب، ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، ووزارة الأمن الداخلي ،(DHS) ووزارة الخارجية، والبنتاغون، ويجمع المسؤولون -أيضًا- بيانات اللاجئين السوريين البيومترية (بمسح شبكية العين) على سبيل المثال، إضافة إلى تاريخ مفصل عنهم، كما تُجرى معهم مقابلات مطولة، ويُبحث عنهم في قواعد البيانات الحكومية؛ لمعرفة ما إذا كانوا قد يشكلون خطرًا، وتستغرق العملية عامين، وفي بعض الأحيان أكثر من ذلك”، وبالنتيجة؛ لا يصل أميركا من السوريين طالبي اللجوء إلا “كل طويل عمر بالتعبير السوري”.

هل يعلم الشعب الأميركي أن ثمة 17 جهاز استخبارات في أميركا، وهل يعلم الشعب الأميركي أن الرئيس الجديد الذي انتخبه هو ابن لسيدة هربت من الفقر في جزر هبريدس الخارجية في اسكتلندا إلى نيويورك عام 1929، وهل يعلم الشعب الأميركي أن أوروبا استقبلت أضعاف مضاعفة من السوريين، ومعظمهم من وصلها جاء بطرق غير نظامية، بحرًا أو برًا.

هل فعلا رئيس الولايات المتحدة الأميركية ومستشاروه لا يعرفون هذه التفاصيل والمعلومات؟ من السذاجة تصديق ذلك، إذن؛ ماذا يريد ترامب من قراره هذا؟

الواضح من سيرة الرجل السياسية أن قراره عرض إعلامي صرف، يهدف إلى خداع الشارع الأميركي من خلال التستر على الحقائق، وتوجيه الرأي العام إلى الأكاذيب.

ترامب لا يريد أن يعترف بأن الإرهاب مصدره سياسة أميركية، ومصدره في سورية سياسة صديقه بوتين ورجله بشار الأسد.

يغض الطرف عن وفود الإرهابيين الذين دخلوا إلى سورية تحت أعين استخباراته وحكومات الإقليم، وأن دعمهم جاء من أموال أصدقاء أميركا وترامب.

إنه يريد -ببساطة- أن يقول إن الإرهاب جينات موجودة في السوريين. لكن السؤال الحقيقي: هل فعلًا الولايات المتحدة ملجأ للاجئين السوريين؟

بالنسبة والتناسب؛ فإن هذا القرار لن يؤثر في اللاجئين السوريين، سوى حالات فردية. وليست كارثية، لكن الكارثة أن يتفق سوريون مع قرارات كهذه؛ لأنهم يرون أن جماعات سورية من بلدهم لا تستحق الحياة؛ لأنها من طائفة أو دين أو قومية ما، فهل نلوم ترامب ونقبل الترامبيين السوريين.

اقرأ المزيد
٣١ يناير ٢٠١٧
سورية وميراث الحرب العالمية الثانية

كانت الحرب العالمية الثانية قد أورثت سورية ثلاث أدوات مكنتها للمرة الأولى أن تكون بشكلٍ ما «جزءاً من العالم». فهي سمحت بأن تتحول البؤر النُخبوية الصغيرة للأفكار الماركسية الشيوعية أحزاباً وحركاتٍ شعبية، وتحولت معها النتاجات الثقافية والسياسية الشيوعية المُترجمة إلى أدوات للتفكير والنقاش العام، استطاعت عبرها الكُتل الشعبية الموالية لهذه التنظيمات أن تحاجج التراث الثقافي والفكري لـ «سورية القديمة».

كانت تلك النتاجات المُترجمة بوابة لكُل ما يُمكن أن نُسميه «الحداثة الاجتماعية» التي واجهت ما كان عالقاً وباقياً في مجتمعاتنا من ميراثها العثماني.

من جهة أخرى، أثبتت الحرب للقوى الاستعمارية في بلداننا أن استمرارها المديد على أشكال احتلالات عسكرية في هذه البلدان غير مُمكن. بذا نزعت القوى الاستعمارية لأن تسعى لتوافقات سياسية مع نُخب الحُكم والقوى المُناهضة لها، وتُوجت تلك الديناميات التوافقية باستحصالنا في النهاية على «دولةٍ حديثة»، بمؤسسات ساهم هؤلاء المُستعمرون في بنائها بشكل مُطابق لما كانت حالها في بُلدانهم، وشرائع وقوانين لا علاقة لها تقريباً بما ساد في منطقتنا لقرونٍ كثيرة.

أخيراً فإن الأزمة الاقتصادية للحرب في أوروبا، خلقت الآليات لأن تتفاعل القوى الاقتصادية في سورية مع نظيراتها الأوروبية، وأن تُنمي مواردها وتطور أدواتها الاقتصادية. كانت المصانع والمؤسسات البنكية والزراعة بأدواتٍ حديثة من نِتاج هذه العلاقة الثُنائية، وكانت هذه العوالم الاقتصادية أدواتٍ لخلق عالم «الديموقراطية البورجوازية». فبالعودة إلى أرقام التنمية الاجتماعية والاقتصادية خلال عقدي الأربعينات والخمسينات، يُستدل بأن سورية كانت دولة أخرى تماماً، تصل فيها نسبة النمو وبشكل متواتر إلى قُرابة 9 في المئة.

كانت الأسدية وريثة نهائية لكل أشكال الأنظمة الاستبدادية التي حكمت سورية بعد فترة قصيرة بين نهاية تلك الحرب وبداية القضاء على ذلك الميراث، بدءاً من حُكم العسكر الانقلابيين ثم الناصرية الأيديولوجية وانتهاء بالعُصبوية البعثية. لكن السر في قُدرة الأسدية على الاستمرار من دون أن يصيبها الانهيار السريع الذي أصاب أشكال الحكم الاستبدادية التي سبقتها هو قُدرتها على خلق مساومات مُستترة مع تلك الديناميات الثلاث.

استعملت الأسدية أداة بسيطة في عملية احتوائها لهذه المنظومات، ففصلتها عن السياسة، وبقولٍ أكثر دقة «فصلتها عن السُلطة»، حيث احتفظت الأسدية بهذه الأخيرة وبشكل احتكاري تام لنفسها.

سمحت الأسدية لنُخب الاقتصاد السوري، خصوصاً كبار تجار وصناعيي المدن، بأن يُنمّوا أعمالهم وثرواتهم، لكن من دون أن يُسمح لهم بإنشاء أحزابٍ أو جمعياتٍ تمتهن السياسة وتسعى إلى مشاركة الأسدية سلطتها المطلقة. وبالتقادم كان ينهار ذلك التوازن، فتطمع الأجيال الأحدث من موالي الأسدية إلى الشراكة مع هؤلاء التُجار والصناعيين، وبرأسمال وحيد هو السُلطة. وكان ذلك بالضبط بوابة القضاء التام على الاقتصاد السوري.

الأمر ذاته كان ينطبق على التيارات السياسية والفكرية الأيديولوجية التي كانت بوابة «العالم الحديث» إلى المجتمع السوري، من الحزب الشيوعي السوري وحتى حزب البعث نفسه. فقد سمحت الأسدية لها بأن تستمر، لكن فقط كأجهزة خِطابية، معزولة تماماً عن أي فعلٍ أو تطلُعٍ سياسي. ولنفس السبب، وبالتقادم نفسه، انهارت كُل هذه الديناميات المعرفية والنُخب الحديثة لمصلحة نظيراتها «الرجعية»، انهار صادق جلال العظم على يد محمد سعيد رمضان البوطي، وانهار الحزب الشيوعي السوري لمصلحة الإخوان المُسلمين.

الأمر نفسه كان ينطبق على الدولة السورية ذاتها، فكُل مؤسساتها وشرائعها ومواثيقها بقيت بشكلٍ هيكلي مُحافظة على البُنية التي ورثتها عن تلك السنوات، لكنها جميعاً أفرغت تماماً من مضمونها الفعلي الحقيقي. كان ثمة برلمان في سورية بانتخابات متواترة مُنتظمة، لكن من دون حياة قط، وكانت ثمة مخافر للشرطة، لكنها كانت تطلب من المواطنين أن يُنهوا خلافاتهم عبر المُصالحات العشائرية، وكان ثمة دستور في سورية، لكن قانون الطوارئ بقي يحكُمها فعلياً لأكثر من نصف قرن، وكان كُل شيء على ذلك المنوال.

من هُنا، ثمة قوسٌ كبير يجب أن يُفتح حول مسألتين ما زالتا بالغتي الحيوية في النقاش العام السوري مُنذ بدء الثورة السورية وحتى اليوم: هل كان أيُ إصلاحٍ ما مُمكناً في، ومع، الدولة الأسدية، وهي التي كانت مُتخمة بغريزة القضاء على كُل ذلك الميراث الذي كانت تعتبره عدو سُلطتها المُطلقة، وعدو أساس وجودها؟، وهل لا يزال أي تحولٍ سياسي بُنيوي ممكناً، الآن ومُستقبلاً، من دون القضاء على الدولة الأسدية نفسها، وبكل مؤسساتها الحقيقية؟!

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني