٥ فبراير ٢٠١٧
يحمل السجال العلني، وغير المألوف دولياً، بين روسيا وإيران حول من يمكن وصفه بـ «صاحب الفضل» في إنقاذ دمشق، وتالياً النظام السوري، من السقوط خلال الفترة الماضية، أحد معنيين أو المعنيين: إما أنهما بدأتا التنافس حول وراثة النظام بعد أن فقد من وجهة نظرهما مبرر وجوده، أو أنهما تشيران الى تباين جدي بينهما حول أولويات المرحلة المقبلة... تسوية سياسية للحرب السورية، أو استمرار هذه الحرب لسنوات أخرى.
فليس مألوفاً بين الدول في العالم، بخاصة إذا كانت كبرى كما هي حال روسيا، أو ساعية لدور اقليمي ودولي كما هي ايران، أن تدخل في سجال حول من ساهم أكثر من غيره، أو ربما حتى من دون غيره، في الحرب الإبادية الناشبة منذ ستة أعوام في دولة ثالثة. وسواء حملت هذه الحرب اسم الدفاع عن النظام في سورية، أو محاربة الإرهاب، أو غيرهما، فلا يغير ذلك في الأمر شيئا: تدمير سورية وتشريد شعبها في أصقاع الأرض في نهاية المطاف. كذلك فإنه بغض النظر عن غياب النظام عن هذا السجال، فضلاً عن الاتفاقات المسبقة في شأن المفاوضات في آستانة، فلا يقلل هذا الأمر من شأن «الاشتباك» بين موسكو وطهران حول ما تم حتى الآن، ولا حول ما سيجري مستقبلاً.
بدأ السجال عندما تبرع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في تصريح صحافي من دون مناسبة مبررة وعلى هامش اجتماع وزاري ضمه ووزيري الخارجية الإيراني والتركي تحضيراً لاجتماع آستانة بين وفدين من النظام والمعارضة المسلحة، بإعلان أنه لولا التدخل العسكري الروسي في أيلول (سبتمبر) عام 2015 لكانت دمشق قد سقطت في أقل من أسبوعين. بعده بأيام، جاء الرد على لسان المستشار العسكري للمرشد الإيراني على خامنئي الذي قال انه لولا التدخل الإيراني لكانت كل من دمشق وبغداد قد سقطتا معاً خلال أيام وليس خلال أسابيع. ليأتي بعده دور قاعدة حميميم الروسية (باتت، كما يبدو، مركزاً اعلامياً ناشطاً)، لتعلن في بيان رسمي ان التدخل الروسي في سورية بدأ بعد أكثر من ثلاثة أعوام من تواجد ايران، بقواتها المسلحة وحرسها الثوري وميليشياتها، من دون نتيجة في ما يتعلق بإنقاذ دمشق التي كانت توشك على السقوط. أكثر من ذلك، فليس سراً أن التدخل الروسي جرى بالتنسيق المباشر بين موسكو ودمشق وطهران، وأن الأخيرة تحدثت عن زيارتين قام بهما الى موسكو مسؤولها العسكري في سورية، قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني، عشية الإعلان عن هذا التدخل... بما يفيد بأن هدفه لم يكن فقط إنقاذ نظام الحكم في دمشق، انما أيضاً انقاذ ايران نفسها من ورطتها في سورية.
لكن، ماذا وراء هذا السجال غير المألوف دولياً بين روسيا وإيران حول دور كل منهما في سورية؟.
غني عن القول ان ما يريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من قاعدتيه العسكريتين الكبيرتين في حميميم وطرطوس النظر منهما الى العالم الواسع، أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وجوارهما التركي بحراً وبراً وصولاً الى أوروبا والغرب عموماً من ناحية، وإلى الشرق الأوسط العربي من ناحية ثانية، أكثر من التطلع الى الداخل السوري على أهميته القصوى بالنسبة لما سيكون عليه مستقبل قاعدتيه هاتين في سورية. ولعل انفتاح بوتين على الوضع الفلسطيني من ناحية، بإعلانه الاستعداد للعب دور في تسويتها، وقوله قبل أيام فقط أن دعوته لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لا تزال مفتوحة، وعلى الوضع الليبي من خلال استقباله مرتين على الأقل في خلال شهرين قائد الجيش فيها (عملياً، أحد الجيوش الليبية) الجنرال خليفة حفتر ووعده بتسليح قواته، يكفيان للتدليل على نظرة زعيم الكرملين الإستراتيجية والبعيدة المدى للمنطقة ان لم يكن الآن، ففي الفترة المقبلة من تواجد قاعدتيه، وبالتالي تزايد دوره ونفوذه، في سورية.
قد لا يكون بوتين بصدد البحث عن بديل للأسد في هذه المرحلة، أقله لارتباط وجوده بوجود القاعدتين وجملة الامتيازات التي وفرها لها وللسياسات الروسية فيها وفي المنطقة، الا أنه كما يبدو يريد تسوية سياسية يضمن من خلالها ليس بقاء القاعدتين لمدة طويلة فقط، انما تحولهما رأس جسر سياسياً يلاقي طموحاته باستعادة دور الاتحاد السوفياتي السابق، وحتى القيصر الروسي القديم، في سياسات المنطقة والعالم.
وليست هذه، ولا شيء منها على الإطلاق، في خطة إيران لسورية أو بخاصة لمستقبل الحرب فيها. فهذه لا ترى في سورية سوى «سورية الأسد» من دون غيرها، وتحديداً منها الجزء الذي لا يتجزأ من محور امبراطوري يقوده «الولي الفقيه» في ايران ويمتد من طهران الى دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء، والذي لا بد أن تتواصل الحرب فيه الى أن يتم «تحرير» كامل الأراضي السورية وتجري استعادتها الى كنف النظام (عملياً، كنف ايران وقواتها وميليشياتها وحرسها الثوري) كما كانت قبل بدء الثورة ضده في آذار (مارس) 2011.
والخطاب السياسي والإعلامي الإيراني، كما ممارسات ميليشياتها على الأرض في منطقة وادي بردى وغيرها وصولاً في الفترة الأخيرة الى مدينة الباب في الشمال السوري، لا يقول غير ذلك.
ولعل هذه هي معضلة سورية الآن، ومعها الى حد كبير معضلة روسيا وتركيا اللتين تبحثان عن تسوية تنهي الحرب المديدة في هذا البلد المعذب.
٥ فبراير ٢٠١٧
لا جدوى من تجديد الحديث عن انعدام الشعور بالمسؤولية لدى أهل النظام الأسدي في كل ما يتصل بمكونات المجتمع السوري، وخصوصاً منها المكوّن العلوي الذي ألقوا به إلى محرقة دمرته، لن يبقى بعدها ما كان عليه قبلها، عدديا ومجتمعيا، سياسيا واجتماعيا. لو كان عند أهل النظام أدنى شعور بالمسؤولية عن شعب"هم"، لما عاملوه بعنف خمسين عاما، ولأحجموا عن إطلاق النار على متظاهرين شبّان، غالبا طالبوا سلميا بحريتهم، ولتذكّروا أن الحرية أحد وعود حزبهم للعرب، وليست مؤامرة إمبريالية/ صهيونية، ولبادروا إلى إجراء إصلاح طالما تحدث الأسد الأب عن ضرورته في سنواته الأخيرة، ولما حالوا، بجميع الوسائل، دون حل توافقي لأزماتٍ افتعلوها، للسيطرة على الشعب، وصرفه عن الاهتمام بقضاياه العامة ومشكلاته المستعصية، التي أنتجتها سياساتهم في جميع المجالات والأصعدة، ولسارعوا إلى تلبية مطالب مواطنيهم، ولتجنبوا شن حرب إبادة وتدمير شاملة عليهم، أجبرتهم على الدفاع عن وجودهم بقوة السلاح. بدل أن يرفض أهل النظام الحل العسكري/ الأمني، ويروا فيه ضربا من الاستحالة، جعلوا الحل الإصلاحي/ السلمي، الكفيل وحده بإنقاذ دولة سورية ومجتمعها، مستحيلا، والمطالبة به خيانة وطنية عقوبتها الموت قتلا. لذلك، شرعوا يطلقون النار على مواطني"هم"، إناثا وذكورا، ويستهدفون بالقتل الشبان منهم بصورة خاصة، حتى صار مجرد أن المرء شاب سببا كافيا لقتله، فلا عجب أن غطت دماء الشباب أرض سورية من أقصاها إلى أدناها.
لم تكن هذه السياسة الإجرامية وقتية، بل خيارا تبناه النظام ورعاه، منذ استولى الأسد الأب على السلطة عام 1970، وتصرّف وكأن سورية لا تتسع للنظام والشعب، وأن حضور أحدهما لا بد أن يغيب حضور الآخر، فلا مكان لأي توافق أو تعايش عادي أو طبيعي بينهما، ولا علاج لأي خلاف بينهما غير العنف الأقصى (الرادع) الذي لا بأس إن بلغ حال حربٍ يخوضها جيشه المستعد لها أولوية أمنية عليا، بالنظر إلى أن عدو الداخل أشد خطرا من أي عدو خارجي، وخصوصاً إسرائيل.
واليوم، وبعد قرابة ستة أعوام من حربٍ مجنونةٍ شنها الأسد على السوريات والسوريين، تعترف دول العالم جميعها باستحالة الحل العسكري، وبالنتيجة باستحالة عودة سورية إلى وضعها الأسدي الذي عاشته قبل ثورتها، نرى الأسدية تصر على حلها المستحيل، وتضع السوريين والعالم أمام خيارٍ لا مهرب منه، هو إرغامها على قبول حل سياسي يجبرها على دفع الأثمان المناسبة لما ارتكبته من جرائم ضد شعب"ها"، وشعوب الدنيا التي عرضتها بوحشيتها المنقطعة النظير لمخاطر وتحديات كارثية، فرضت على عديد من بلدانها أعباءً ومراجعاتٍ استراتيجية ثقيلة الوطأة وغير مسبوقة، علها تحول دون انتقال الإرهاب، وخصوصاً منه الأسدي، إليها، ومن دون توريطها في حروبٍ سرية وعلنية في بلدانها، وعلى أرض سورية، يحتّمها الارتباط الجدلي بين سياسات الأسد السورية وما يعيشه المجتمع الدولي من انعكاساتٍ ناجمةٍ عنها، ويصيب علاقات وأوزان قواه من تبدلاتٍ تقوّض توازناته، وتنتهك قيمه وتشل مؤسساته، ويرجّح كثيرون أن تنتج نظاما دوليا أشد سوءا من نظامه الحالي الذي تخلق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتلاشي نظام القطبية الثنائية.
على الرغم من أستانه، وما بذله الروس والأتراك من جهد لإحداث انعطافةٍ سورية يمهد الالتزام بها لحل سياسي، أعلن بشار الجعفري، ممثل الأسدية فيها، رفض نظامه التخلي عن الحل العسكري، المستحيل سورياً وإقليميا ودوليا، كما رفض التقيد بوقف إطلاق النار، بذريعة محاربة الإرهاب، ضاربا عرض الحائط رغبة السوريين، وغيرهم من المطالبين بالسلام في وقف إراقة دماء الأبرياء، والتعاون ضد الإرهاب المزدوج، الآتي من الدولة الاستبدادية التي لا تعتمد سبيلا آخر للتعامل مع شعبها غير العنف، وذاك الذي تمارسه تنظيماتٌ مذهبيةٌ لعب الاستبداد الأسدي دورا كبيرا في تأسيسها، وكذلك التعاون لوضع حد للحل الأسدي المستحيل: منتج الفوضى والموت قرابة ستة أعوام، والمتسم بعبثيةٍ مطلقة على الصعيدين، السياسي والعسكري، وسفك بحارا من الدماء، من دون أن يكون لها إلى اليوم أي عائد سياسي.
إلى متى يبقى العالم صامتا حيال نظامٍ يرفض أي حل سياسي لمعضلةٍ تسبب بها، ويصر على حله العسكري المستحيل من جهة، والعاجز، من جهة أخرى، عن مواجهة أزمات سياسية/ اجتماعية لم يسبق لحلٍ عنيف أن نجح في التخلص منها، على الرغم من أن ناتجها الأوحد كان دوما أنهارا من دماء الأبرياء، وأزمات غطت أربع أقطار الأرض، وقوّضت عيش مواطنيها الآمنين؟
٥ فبراير ٢٠١٧
تضع الأحداث الدولية المتسارعة الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية التي يترأسها رياض حجاب، والتي تضم ممثلين من معظم كيانات المعارضة، السياسية والعسكرية، في الداخل والخارج، أمام منعطفٍ كبير، وتحدياتٍ كثيرة، إذ من شأن ذلك أن يعيد هيكلة تمثيل الكيانات السياسية المعارضة، بل وحتى إنتاج مرجعية تفاوضية جديدة، لا تأخذ في الحسبان شكل (ونسب) التمثيل التي جرى اعتمادها في أثناء تشكيل تلك الهيئة في الرياض (ديسمبر/ كانون الأول 2015).
على ذلك، أضحت هذه الهيئة التي كانت تشكلت في الرياض، قبل أكثر من عام، في مواجهة أوضاع أو تحديات جديدة، لا بد من التعامل أو التكيّف معها، أو مقاومتها، لعل أهمها يتمثل في الآتي:
أولاً، الإبقاء على الروابط القوية التي تجمعها مع فصائل المعارضة المسلحة، والتي تعتبر موسكو أنها حقّقت خرقاً كبيراً في مواقفها، من خلال العلاقة الوطيدة التي أضحت تربطها مع تركيا من جهة، ومن خلال التزام هذه الفصائل ببيان أستانة، الموقع من الحليفة والضامنة لهم تركيا من جهة أخرى.
ثانياً، التساؤل بخصوص موقع المعارضة المسلحة في إطار تحوّلها إلى قوة للمعارضة السياسية لتحقيق الانتقال السياسي، وليس الانقلاب العسكري، أو الاندماج العسكري، الذي تطمح له روسيا، بالطريقة التي تضمن لها بقاء سيطرتها على سورية، بوصفها دولة تحت الوصاية.
ثالثا، تحقيق ما صرح به المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، في 31 يناير/ كانون الثاني الماضي، حول تشكيل وفد واحد للمعارضة، والمقصود وفد يضم ممثلي المنصات التي اجتمعت في موسكو، مع وفد "الهيئة العليا"، وهو الأمر المتطابق مع بيان اجتماع موسكو (27 يناير). وهنا، يبرز التحدّي في آلية العمل التي ستتبعها للوصول إلى تفاهماتٍ لتشكيل الوفد المطلوب دولياً.
رابعاً، وقبل الوصول إلى تشكيل الوفد، لا بد من الوصول إلى ما هو أهم من الوفد الواحد، وهو الرؤية للعملية التفاوضية بكاملها، وما هو الهدف المبتغى منها؟ أي بصراحةٍ مطلقة: على ماذا سيتم التفاوض، وما هو السقف الأعلى، قبل الوصول إلى أخفض درجات السقف الأدنى الجامع الذي يتوافق عليه المتفاوضون على تباين مواقفهم، ومواقعهم؟
خامساً، كيف وما نسبة التمثيل المفترضة وآليات تنفيذها لكل التكوينات السياسية؟ وهل ستستطيع الهيئة العليا للمفاوضات أن ترمم خلافاتها مع مكوّناتها التي صارت أطرافاً في هذه المنصّات، بعد أن كانت جزءاً من الهيئة نفسها، كتيار بناء الدولة ورئيس تيار الغد ورئيس مجموعة سورية الوطن؟ وماذا عن كيانات سياسية كحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ومنصة حميميم وغيرهما؟
كل هذه التساؤلات، أو المعطيات، تضع الهيئة العليا للمفاوضات أمام مسؤولياتٍ كبيرة وكثيرة لكي ترتب صفوفها، وتوضح مواقفها، ولكي تعزّز من دور السوريين ككل في تقرير مستقبلهم، بدل أن تقرّره عنهم الدول الكبرى، أو الدول الفاعلة في الصراع السوري، بحسب أجندتها وأولوياتها.
ولعل هذه الهيئة مطالبة بإدراك الوضع الحرج الذي باتت فيه، لا سيما على ضوء متغيرات عديدة، أهمها: أولاً، تحوّل الموقف التركي نحو التنسيق مع روسيا في الملف السوري، وهو موقفٌ نجمت عنه مضاعفاتٌ أو تداعيات عديدة سياسية وميدانية، خفضت سقف المعارضة. ثانياً، انحسار مكانة فصائل المعارضة العسكرية، بعد خسارة مواقع نفوذها في مناطق عديدة، ولا سيما في حلب، وهو ما اضطرها إلى المشاركة في مؤتمر أستانة. ثالثاً، دخول فصائل المعارضة العسكرية على خط المفاوضات، بعد أن كان الأمر في يد الهيئة وحدها، من جهة المعارضة. رابعاً، افتقاد الهيئة العليا للمفاوضات، والمعارضة السورية إجمالا، أية أوراق ضغط لفرض نفسها ممثلاً وحيداً، أو ممثلاً أساسياً في المفاوضات.
على ضوء هذا الوضع، يفترض بالهيئة أن تشتغل بعقلية وطنية، مسؤولة ومرنة، بحيث تستطيع لملمة كل الكيانات والإرادات المبعثرة للمعارضة السورية، بشقيها العسكري والسياسي، الداخلي والخارجي، للمضي إلى المفاوضات نواة صلبة لمواجهة استحقاقات جنيف التفاوضية، وتحصيل ما يمكن لتجاوز أزمة المعارضة والثورة. كما مطلوب منها العمل بعقليةٍ منفتحة، تتمكّن بها من العمل مع أطراف المعارضة الأخرى التي تتفق معها بالهدف الأساسي، وهو الانتهاء من نظام الاستبداد، وإقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة مدنية وديمقراطية، بحيث تتجاوز، في ذلك، الخلافات الحالية والمصالح الحزبية أو الكيانية، من أجل المستقبل المشترك، ومن أجل مصلحة شعبنا السوري كله.
٤ فبراير ٢٠١٧
يبدو التوجه نحو إقامة مناطق آمنة في سورية متأخراً. ومن مظاهر تأخره تدفق ملايين النازحين السوريين إلى الخارج، وأعداد كبيرة إلى الداخل ممن فقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم. والأسوأ من ذلك أن غياب وجود مناطق آمنة للسوريين في وطنهم قد أدى إلى إزهاق أرواح نصف مليون ضحية، مع أعداد هائلة من المصابين والجرحى، ومئات الآلاف من المعتقلين، وقد قضى الآلاف منهم تحت التعذيب، في ما بات يُعرف بأكبر كارثة إنسانية في عالمنا منذ الحرب العالمية الثانية، هذا من دون إغفال نكبة فلسطين في العام 1948 وتشريد شعبها.
التوجه الذي أعلن عنه الرئيس دونالد ترامب، في الأيام الأولى لحلوله في البيت الأبيض، سبق أن تعرّض للرفض من الرئيس السابق، باراك أوباما، بحجة أن إقامة تلك المناطق تستلزم تهيئة تجهيزاتٍ عسكرية وإقامة حظر جوي، وكان أوباما يعتبر أن أية خطوةٍ لتقييد حركة النظام ضد شعبه، وضمان حدٍّ أدنى من الأمن للمدنيين على أنها سوف تزيد الوضع سوءاً (!)، وهو ما تذاكى فيه مسؤولون روس، عقّبوا على هذا التوجه، بالقول إن أيّة مناطق آمنة سوف تشكل خطراً على النازحين (!). علماً أن الطائرات الروسية، بالمشاركة مع طائرات النظام، سبق أن قصفت مراراً وتكراراً مخيمات وأماكن إيواء للنازحين، في ريف حلب، وفي إدلب، خلال العام 2016، وبسلوك وحشي لا مثيل له في تاريخ الحروب. بعد أن أعيتهم الحجة، لرفض هذا التوجه، طلب الروس موافقة النظام على إقامة تلك المناطق، علماً أن الهدف الأساسي منه هو حماية المدنيين من بطش النظام، لكن الأخير، على لسان وزير الخارجية وليد المعلم، سارع إلى رفض هذا التوجه (لانتهاكه السيادة .. المصونة)، من دون أن يثير هذا الرفض أصداءً تُذكر. ومن المثير للانتباه أن قوى المعارضة السورية تريثت في إبداء موقفٍ حيال هذا التوجه، علماً أن إقامة مناطق آمنة شكّل، على الدوام، مطلباً لهذه القوى، مقترناً بمطلب فرض حظر جوي.
والآن، بات هذا التوجه بين أيدي مؤسسات أمنية أميركية، إلى أن يُصار إلى تشريعه. وفي هذه الأثناء، سرّبت مصادر إعلامية أن اتصالاتٍ تجريها واشنطن مع أطراف تركية وأردنية وسعودية لهذا الغرض، علاوة على الطرف الروسي الذي يتمتع بوجود قوي على الأرض، والذي تراجع عن رفض الفكرة التي من شأن تنفيذها إحداث تغييراتٍ هي الأولى من نوعها، لجهة تقييد حركة النظام، والحؤول بينه وبين مواصلة هوايته اليومية المفضلة، وهي الفتك بشعبه، كما من شأن تنفيذ الخطوة كبح حركة "داعش" في التنكيل بالمدنيين، وصولاً إلى المنظمات الطائفية اللبنانية والعراقية، ذات الولاء الإيراني التي استمرأت التطهير العرقي والطائفي على مدى سنواتٍ، من دون أن تتعرّض هذه المليشيات للإدانة والمساءلة. ومعلوم أن الهدف الأميركي من إعلان هذا التوجه هو الحدّ من نزوح اللاجئين إلى الخارج. وفي ذلك، فإن هذا التوجه يحقق غايته، وذلك بـ "حرمان" النظام وحلفائه من قذف ملايين المدنيين إلى الخارج، من أجل تحقيق "الصفاء الطائفي" الذي سبق لرأس النظام أن تحدث عنه مُعرباً عن ارتياحه لهذه التغييرات.
على أن الخطوة، بقدر ما تثير ارتياحاً، وتفتح أفقاً لوقف معاناة السوريين، فإنها تنطوي على محاذير، يتمثل الأول منها في عدم وضوح الأهداف حتى الآن، فهل المقصود مثلاً مجرد تثبيت المقيمين على أرضهم، أم إن الهدف يشمل ضمان عودة اللاجئين إلى وطنهم في ظروف آمنة؟ بالعودة إلى مجريات الوضع قبل أربع سنوات على الأقل، استقبلت كل من تركيا والأردن ما لا يقل عن ثلاثة ملايين لاجئ سوري. وكان واضحاً، منذ البداية، أن النظام يريد التخلص من هؤلاء، وإلقاء العبء على دول الجوار. وفي ضوء ذلك، كان منطق الأمور يقضي بأن توفّر كل من تركيا والأردن بالتعاون مع الأمم المتحدة ملاذات آمنة لهؤلاء داخل وطنهم. وهو ما استنكفت عنه هاتان الدولتان، احتراماً لأحكام القانون الدولي، وبأمل أن يُصار إلى وضع حلول لمحنة اللجوء. استقبلت دول أخرى، مثل لبنان، ما لا يقل عن مليون لاجىء، وقد تعرّض هؤلاء، وما زالوا، إلى عسف شديد على الأراضي اللبنانية من أجهزة رسمية، ومن حزب الله، ووُجّهوا بتعامل طائفي وعنصري، لا نظير له في تاريخ صراعات المنطقة. ولن تكون خطوة المناطق الآمنة ذات معنى، إذا لم تضمن عودة نازحي تركيا والأردن ولبنان ومصر والعراق، بضماناتٍ أميركيةٍ وروسيةٍ وتركيةٍ وأردنيةٍ، على الأرض وفي الأجواء.
يتمثل محذور ثانٍ، كما يقول الناشط السوري فوزي غزلان، في الخشية من أن يتم تجميع نازحين عائدين أو نازحين قادمين من مناطق أخرى، في ما يشبه كانتونات بعيداً عن مناطق إقامتهم الأصلية. وبذلك، يتحوّل النازحون لاجئين بصفة دائمة في وطنهم، والفرق أن الأمم المتحدة وبعض الدول سوف ترعى وضعية لجوء هؤلاء، فيما الحل الموضوعي والحق الثابت هو في عودة الجميع إلى ديارهم. وهو أمرٌ يقف دونه حال الدمار لمساكن هؤلاء في مناطق، مثل حماة وحمص ودرعا وريف دمشق وحلب وريفها. ومغزى ذلك أنه لا يمكن للمناطق الآمنة أن تحقق الغاية المنشودة منها، بمعزلٍ عن حل سياسي شامل، وفق المرجعيات الدولية، يكون مقدمة لإعادة الإعمار، وعودة النازحين وإخلاء سبيل عشرات آلاف المعتقلين. ومن شأن حل شامل كهذا ليس فقط وقف المحنة المتطاولة، بل كذلك رفع الأعباء عن دول الجوار والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة.
كان الواجب يقضي، منذ خمس سنوات، بالضغط على النظام، لوقف حربه الدموية، والتوقف عن قذف ملايين السوريين إلى خارج الحدود، وتحميل المسؤولية عنهم لدول العالم والمنظمات الدولية. وكان الواجب يقضي بتقييد حركة النظام ومنعه من قذف البراميل المتفجرة واستخدام الأسلحة الثقيلة والأسلحة المحرّمة ضد شعبه، لكن السيد أوباما آثر الوقوف موقف المتفرّج، فيما كانت روسيا وإيران تعدّان العدة لخوض الحرب بصورة مباشرة إلى جانب النظام، لضمان أن يحقق انتصاره على شعبه بمجازر بلا عدد، وبدمار يعزّ على الحصر.
بوضع خيار المناطق الآمنة موضع التنفيذ، وبضمانات إقليمية ودولية على الأرض، لحماية هذه المناطق وقاطنيها وجعلها آمنة بالفعل، والتقدّم، بموازاة ذلك، نحو حل سياسي جدي، وفقاً لمرجعية جنيف1 وقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة، فإنه يمكن اعتبار أن الأسرة الدولية بدأت تتحمل مسؤوليتها في تقييد حركتي النظام وإيران، وفي إعادة البناء الشامل، وفي جعل سورية وطناً آمناً ومزدهراً لشعبها، لا مجرد مناطق آمنة.
٤ فبراير ٢٠١٧
هناك ثلاث ملاحظات على الدستور الذي قالت روسيا إنها قدمته للوفد السوري في مؤتمر أستانة، ونفى أعضاء وفد المعارضة تلقيه أو أنهم رفضوه.
الأولى أن الدستور حجر الزاوية في حياة الدول، وسيلعب دوراً حاسماً في إعادة تأسيس حياة سورية العامة. لذلك، لا يجوز تحويله موضوعاً للتلاعب، أو أداة بيد أي طرف غير سوري، فكيف إذا كان، كالدستور الروسي، معادياً للديمقراطية، أعز مطالب الشعب السوري، وكان يبني نظامه البديل، وبالتالي الدولة السورية الجديدة، على مبدأ الهويات الإتنية والطائفية والمذهبية والفئوية، بحمولته الفاشية والتفكيكية، ولا يبنيه على المواطنة، المبدأ الذي لا تقوم ديمقراطيةٌ بغيره. باعتماده مبدأ الهويات أساساً لإعادة تنظيم سورية، راح الدستور الروسي في اتجاه يقوّض فرص قيام الدولة التي اختارها الشعب، والتي تعترف، من موقعها المرجعي، بحقوق مكوّناتها وتكرّسها دستورياً وفي قوانينها وممارساتها، من المرجح، إنْ لم يكن من المحتم، أن يفضي تطبيقه إلى كياناتٍ هوياتيةٍ نابذة الميول وطنياً، تتبع دولة المركز لها أو تخضع لإرادتها، لتكون، دستورياً، دولةً عاجزة عن حماية نظامها العام، ضعيفةً في علاقاتها مع مكوّناتها المناطقية التي ستمتلك صلاحيات تعطيل بواسطتها قراراتٍ وطنيةٍ لمركز ليس مستقلاً عنها، على الرغم من أنها لا تتبع له إلا في مجالاتٍ محدودة وجزئية.
بدل أن يحمي الدستور المركز، نجده يعطيه ما يفيض عن صلاحيات المكونات، وبدل أن يعزّز دوره دولةً لجميع مواطنيها، ويجعل منها مرجعيةً في كل شأن وطني أو عام، وإن نسّقت مع مكوناتها في المسائل التي تتقاطع عندها المسؤوليات وتتكامل الصلاحيات. لكن الدستور الروسي يفعل العكس، من ذلك أنه يفرض على دولةٍ تريد أن تكون ديمقراطيةً نسباً، طائفية وقومية عند توزيع المناصب الوزارية، في استبدالٍ واضحٍ لنظام طائفي قائم بنظام طائفي قادم.
لو أخذ الدستور بالمواطنة مبدأً للنظام، لكانت المساوة بين المواطنين ترجمته العملية، ولما جرى تحديده بمبدأ الهويات الذي ينكرها، بينما يعترف النظام الديمقراطي بها، وبما يترتّب عليها من حقوق، ويجعل منها فضاءاتٍ وطنيةً لأتباعها ضمانات دستورية وقانونية، مساوية لما يتمتع به غيرهم. لذلك، لا تنتج التفاوت بين المواطنين عامة، ولا تغدو حواجز تقطع الشعب إلى عوالم متجاورة، لكنها لا تنتمي إلى جسدية دولوية/ وطنية واحدة، إن أعطيت حصصاً انتفى المجتمع، وعجزت السياسة عن ردم الهوّة بين مكوّناته وتداعى ما هو عام وجامع في علاقاتها التي لن ترتكز عندئذ على عقد اجتماعي/ سياسي بين الشعب والدولة، وسيستبدل بعقودٍ جزئيةٍ، يمليها كل مكوّن، تنمي خصوصياته خارج الإطار الوطني المشترك. قلت إن الدستور الروسي لا يقيم دولة ديمقراطية في سورية، وأقول الآن: إنه لن يقيم دولة.
ثانياً، يتعارض الدستور الروسي مع وثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن التي وافقت روسيا عليها، وجعلت الانتقال الديمقراطي هدفاً ملزماً للعملية السياسية، عليها أن تنتهي إليه. لا يذكر الدستور هذا الانتقال في أيٍّ من بنوده. ويقرّر، نيابةً عن الشعب السوري الذي لم يفوّض واضعيه بذلك، أن نظام دولته القادم سيكون رئاسياً في كل ما يتعلق بالدولة القمعية وأجهزتها السلطوية شبه برلماني في مؤسسات الدولة الأخرى التي ستخضع لمحاصصاتٍ طائفيةٍ وقومية. لتمرير هذه الهجانة المدمرة لفرص قيام الدولة الديمقراطية، يفبرك الروس سلطاتٍ رئاسيةً، لا يحق لأحدٍ التدخل فيها، بينما تتدخل هي، في المقابل، في تعيين صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، ووظائف جمعية الشعب وجمعيات المناطق، وتمتلك هي، وكل واحدةٍ من هذه المؤسسات الرسمية، حق إلغاء السلطة التشريعية عبر الحق في قيامها بـ "مبادرات تشريعية". هذا دستورٌ يكرّس فوضى الصلاحيات وتداخلها الذي لن ينتج غير فوضى قانونية ضارية.
ثالثاً، بتجاهله الانتقال السياسي ووثائقه وقراراته الدولية، وفبركته نظاماً، رئيسه قوي ودولته ضعيفة، أطرافه جبارة ومركزه متهالك، يبعث الروس رسالتين إلى السوريين، تقول أولاهما لأهل النظام: انسوا نظامكم الحالي. وثانيتهما لأهل المعارضة: انسوا النظام الديمقراطي.
إذا كان دستور الروس لا يفي بالحد الأدنى من مطالب شعبنا، ويضعه في مواجهة نظام انتقالي معقد ومشحون بعوامل تضعف الدولة، وتشتت المجتمع، وتؤسّس فوضى صلاحياتٍ لن يستقيم في ظلها الأمر لأيٍّ من مكوناتها، أو مؤسسةٍ من مؤسساتها، ولن نتخلص من الاستبداد أو ننال حريتنا، لماذا ننصاع لبنوده التي أملتها على واضعيه سيطرتهم علينا؟
٤ فبراير ٢٠١٧
فاجأنا ديمستورا بتصريح يطالب فيه المعارضة بتشكيل وفد موحد إلى الجولة الرابعة من المفاوضات في جنيف، وقد حدد موعدها الجديد في 20 فبراير الحالي، وحمل تصريحه وعيداً بأن يقوم هو بتشكيل وفد التفاوض إن لم تقم المعارضة بذلك.
ولا نعرف ما الذي دعا ديمستورا إلى هذا التصريح الجاف، ولكننا سمعنا رغبة لافروف قبله بتشكيل وفد موحد، يضم كل أطياف المعارضة بما فيها تلك المنصات التي تطلق على نفسها لقب معارضة مع أنها تعلن أن هدفها الإبقاء على النظام، وعلى بشار الأسد رئيساً للأبد. ولا يعرف أحد ما الفارق بين مطالب هؤلاء وبين مطالب من يسمون الموالاة، وهؤلاء صنعهم النظام وبعضهم سمتهم روسيا، ومثلهم آخرون من حلفاء النظام وممن حاربوا معه، ولديهم مطالب عرقية وإثنية وبعضها انفصالية، ومع ذلك يرون أنفسهم معارضة وطنية! وهدف ذلك التناقض هو التشويش على مطالب المعارضة الجادة، وإبراز صفة التشتت على المعارضين على رغم أنهم أعلنوا وحدة أهدافهم في مؤتمر الرياض الذي جمع قوى المعارضة الكبرى (الائتلاف، وهيئة التنسيق، والفصائل الثورية، والمستقلين) ووقعوا جميعاً على بيان الرياض الذي تمسك ببيان جنيف لعام 2012 ومتنت مطالبه قرارات الأمم المتحدة وأهمها القرار 2254. ولم يخرج أحد من أعضاء مؤتمر الرياض أو هيئته العليا عن ثوابت بيانه، وتبدو منصة القاهرة أقرب تشكيلات المعارضة إليه، لأن غالبية مؤتمر القاهرة باتوا أعضاء في مؤتمر الرياض، ومن أبرزهم أعضاء الائتلاف وهيئة التنسيق والمستقلون.
وقد حرصت الهيئة العليا على التنسيق والتفاهم مع كل أطياف المعارضة عبر حوارات متصلة، وأصر بعض المعارضين في المنصات الأخرى على رؤيتهم بضرورة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية وترشحه للانتخابات وهؤلاء لا يمانعون بالطبع في بقائه رئيساً إلى الأبد، وذروة الحل السياسي عند بعضهم هي المشاركة في حكومة وحدة وطنية بقيادة الأسد نفسه.
واعتبر الروس الحديث عن مستقبل الأسد شرطاً مسبقاً لا يقبلون الخوض فيه، متجاهلين أن الثورة قامت ضد الديكتاتورية المطلقة، وسيكون من العبث المراهنة على تغيير سلوك النظام، ولا سيما أنه سيحتفظ بسلطته على الجيش وقوى الأمن، وسيكون بوسعه الانتقام البطيء أو السريع من كل من تمردوا على سلطته. ولن تنفع السوريين أوراق الدستور أو القوانين، ولن يطمئن المهجرون ولن يعود أحد من النازحين وستبقى القضية السورية مفتوحة الجراح، لأن بقاء النظام واستسلام المعارضة على الطريقة التي تريدها موسكو ستجعل سوريا القادمة مسرحاً لاستبداد من نوع أخطر، وسيمارس المنتصرون أبشع أنواع الانتقام وستغرق سوريا في مستنقع دم جديد.
ويبدو واضحاً أن روسيا أرادت أن تجعل منصة الآستانة بديلاً عن مرجعية جنيف 1، وكان لافتاً أن يتجاهل ديمستورا الإشارة إلى هذه المرجعية في تصريحه الأخير، وهو لم يشر إلى مضمون المفاوضات القادمة وإلى جدول عملها، وهل سيعود المتفاوضون إلى مناقشة وقف إطلاق النار، وإلى الحديث عن فك الحصار وإدخال المساعدات، وعن إطلاق سراح المعتقلين، ودون جدوى؟
أما كان حريّاً أن يناقش مؤتمر آستانة هذه القضايا التي اعتبرها القرار 2254 مرحلة بناء ثقة هي فوق التفاوض وقبله؟ ومؤتمر آستانة الذي جعل عنوانه تثبيت وقف إطلاق النار فاجأنا في بيانه بالحديث عن تخفيف العنف، ولكن العنف اشتد بعده حتى تمكن النظام من إجلاء المقاتلين من وادي بردى، ومن تهجير المئات إلى إدلب.
وليس مستبعداً أن يبدأ الهولوكست السوري الذي يتوقع المراقبون حدوثه في إدلب مع بدء الجولة القادمة، كما كان يحدث في حلب مع بدء كل جولة من جولات التفاوض في جنيف، مما يجبر وفد المعارضة على التوقف وربما الانسحاب أمام سيل الدماء، على رغم أن القرار الدولي ينص على وقف إطلاق النار وبناء مرحلة ثقة قبل التفاوض.
ولا يخفى على ديمستورا أن أي حديث في جنيف لا يباشر قضية الانتقال السياسي هو مزيد من إضاعة الفرص للوصول إلى نهاية، ولا يخفى على أعضاء مجلس الأمن أن المراوغات التي يقوم بها النظام للتهرب من مواجهة مضمون قرار مجلس الأمن تهدف إلى فرض الأمر الواقع وإجراء تغيرات ميدانية لصالحه، ولكنها ستجعل القضية السورية جمراً يتقد، وسيبقى العالم في حالة ترقب واضطراب مهدداً بغياب الاستقرار عن المنطقة كلها، لأن إيران وميليشياتها الإرهابية ستكون إذَّاك سيدة الشرق الأوسط كله.
لقد مدت المعارضة المسلحة يداً لروسيا، وقبلت دعوتها لمؤتمر آستانة، وبقي أن يكون الروس جادين في إيجاد حل يقبله الشعب السوري دون أن يفرض عليه بالقوة والعنف، فقد تمرس هذا الشعب على استقبال القوة والعنف بالصبر والإصرار على مطالبه المشروعة.
٤ فبراير ٢٠١٧
يغوص المشهد الحالي الذي يجمع الادارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب و النظام الايراني ، بكثير من الضبابية و نوع من الدراما المكررة منذ سنوات ، بدأت من عام ١٩٧٩ ، بين البلدين مع وصل الملالي إلى حكم أحد أكثر بلاد المنطقة اتساعاً و امتلاكاً للقدرات القدرات البشرية و الثروات الباطنية .
يكرر دونالد ترامب ما قاله سلفه باراك أوباما والذي سبقهما جورج بوش و كذلك بيل كلينتون وصولاً إلى جورج بوش الأب ، بأن الرد العسكري على التمرد الايراني ضمن الأجندة ، شعارات بقيت حبيسة حدود الفضاء الحبري ، دون أن تنتقل إلى أرض الواقع ، اللهم إلا ببعض العقوبات ذات الطابع الاقتصادي ، التي استطاع نظام الملالي تجاوزها من خلال ما يعرف بالشركات العابرة للقارات يقودها “الحرس الثوري الايراني” صاحب السطوة الأكبر في بلد يغرق بالفقر و الفساد و الانحلال الأخلاقي.
من الخطأ اعتبار تهديدات ادارة ترامب المتصاعدة لايران ، أنها جدية و حاسمة ، و لكن في الوقت ذاته لايمكن إهمالها سيما مع المتغيرات التي طرأت على خارطة الشرق الأوسط عموماً مع انهيار العراق و تحوله إلى محافظة ايرانية بشكل تام ، وقرب تحقق ذات السيناريو (و إن كان بسوية أقل) في سوريا ، الأمر الذي يحول إيران الدولة الحاكمة المطلقة في المنطقة ، التي هي “مركز الأرض” و نقطة الوصل التي لايمكن ابعادها من الطموحات الدولية.
ويشكل الاتفاق النووي (الغامض) ، الذي توعد ترامب مراراً و تكراراً بالغاءه ، محور تصاعد لهجة التهديد و التوعد بين الطرفين ، و يبدو أن ايران تحاول اختبار آخر ما يمكن أن يفعله ترامب من خلال التجربة الصاروخية الأولى بعد الاتفاق (الذي تم في عام 2015 ضمن ما يعرف دول 5+1) ، واليوم تعلن عن مناورات جديدة مفاجئة تتضمن تجارب مماثلة ، والغاية منها التصعيد أكثر بغية استهلاك “الفورة” التي تحملها الادارة الأمريكية الجديد ، التي يغلب عليها فريق كامل من معارضي ايران حتى النخاع .
وقد يُقرأ التهديد الايراني كما ذكرت آنفاً ، لكن هناك من يقرؤه على أنه مشهد مكرر لماحدث مع الرئيس العراقي الأسبق “صدام حسين” ، الذي أُوهِم أن قوته العسكرية لاتقهر ، في حين أنها كانت على شفا الانهيار نتيجة سنوات الحصار و التضييق و العقوبات . الذي حاول قبل احتلال بلاده رفع نزعة التحدي إلى أقسى الدرجات ، الأمر الذي كان بمثابة بطاقة العبور نحو القضاء عليه .
ايران الخاوية من الداخل و المهلهلة لدرجات لايكشفها الاعلام ، و يمنع عليه كشفها بالأصل ، نتيجة انتهاء أجيال متعاقبة عاصرت ما قبل الثورة الشيعية و الثورة وصولاً إلى التحكم بالبلاد و العباد ، و اليوم تقف ايران أمام أجيال جديدة ، تبحث عن وجودها بعيداً عن “عمائم” لاتفهم أمر على هذه الأرض سوى الخضوع و الخنوع لافكارهم و عقائدهم ، التي يمكن تغييرها وتحوريها وفق ما يشتهي “المارد الفارسي” الذي تخفيه.
٣ فبراير ٢٠١٧
انتهت الولاية الثانية والأخيرة للرئيس الأميركي باراك أوباما، بينما زعماء الجمهورية الإسلامية في إيران تتآكلهم مشاعر الحسرة على رحيله؛ لقد فشلوا في قطف الثمرة الحقيقية لاستراتيجية هذا الرئيس.
أينما وجّه المرشد الأعلى للجمهورية، علي خامنئي، بصره على خريطة الهلال الخصيب والجزيرة العربية، سيجد عناصر الحرس الثوري يقاتلون بموافقة الأميركيين (سورية - اليمن)، وفي بعض الأماكن تحت إمرتهم مثل (العراق). ليس هذا الأمر جديداً بالنسبة للعلاقة الأميركية الإيرانية المعقدة والبراغماتية، إذ سبق لرئيسٍ من طينة جورج دبليو بوش أن استعان بالإيرانيين لضرب أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003. وبالطبع، لم تمانع النخبة الإيرانية التحالف مع المحافظين الجدد للخلاص من ألد أعدائها. لكن ما عقده بوش الابن بداعي الواقعية، وبهدف نهائي يتمثل في "الوصول إلى طهران"، جاء أوباما ليفعله من باب "الوصل لإيران"، القناعة، الهوى السياسي والإعجاب غير المحدود بالثقافة الإيرانية.
حتى لو افترض المرء أن محادثات الملف النووي والمفاوضات الإيرانية الأميركية السرية في مسقط لم تتطرّق إلى القضايا الإقليمية، فمجرد تأكيد أوباما على ضرورة قبول دول الخليج العربي اقتسام المنطقة مع طهران هو إظهار لجوهر استراتيجية هذا الرئيس للمنطقة... تحويل "إيران الإسلامية" إلى حالةٍ طبيعيةٍ في المنطقة، ورأسمال سياساتها التعديلية في المنطقة إلى مكاسب ونفوذ سياسي واسع، يستند إلى مليشيات طائفية، وعلاقات غير شرعية مع مكونات اجتماعية في الدول العربية داخل الهلال الخصيب، بمعنى آخر "اصطناع" توازن قوى بين العرب والإيرانيين، بين الشيعة والسنة.
والآن، جاء دونالد ترامب لنسف هذه الاستراتيجية. بمجرد أن ارتقى هذا الرئيس سدة الحكم، تآكلت جاذبية طهران بين القوى التي تريد التعاون، أو التواصل مع الإيرانيين. انعكس ذلك سلباً على الدور العُماني، وأيضاً على التحالف الهش بين الحوثيين والرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح.
حرّر وجود ترامب في البيت الأبيض قوىً كثيرة من السيف المسلط على رقبتها: كابوس اتفاق أميركي إيراني. أكثر القوى التي استفادت هي روسيا والسعودية وتركيا ومصر وإسرائيل.
بات في وسع روسيا أن تستجر مزيداً من التنازلات من الإيرانيين في سورية ولبنان. أصبحت السعودية أكثر ارتياحاً في حربها لضمان عودة استعادة الشرعية إلى صنعاء. أما تركيا فلم تعد قلقةً على مصير الموصل. الآن، يبني الجميع سياساتهم، ليس على أساس الخشية من تعاون أميركي إيراني من تحت الطاولة، بل بناء على عداء إيراني أميركي مستحكم.
فقد الإيرانيون الورقة الأكبر التي كانوا يلوّحون بها للدول الكبرى والإقليمية: أوباما. عادوا ليقاتلوا وحيدين في طول المنطقة وعرضها، وسط بيئة عدائية إلى أقصى حد.
مع أوباما، وصل النفوذ الإيراني في المنطقة إلى أوسع مدى له. مع ذلك، عانت إيران خلال الأعوام الثلاثة الماضية من تقهقر حلفائها وحرسها الثوري في جميع المسارح الإقليمية الاستراتيجية. أنقذ أوباما حلفاء الإيرانيين في بغداد. استنجد قاسم سليماني وبشار الأسد بفلاديمير بوتين لوقف تدهور قواتهما في سورية بعد ضربة إدلب، وصد تقدّم المعارضة نحو معاقل النظام في حماة وحمص واللاذقية ودمشق. لبت موسكو النداء.
أظهرت الهزيمة في سورية والعراق حدود القوة الإيرانية الإقليمية. مثلت بداية العودتين، الأميركية والروسية العسكرية، إلى الشرق الأوسط. على الرغم من ذلك، صبّ رفض أوباما المقايضة مع الروس بين سورية وأوكرانيا في صالح الإيرانيين. استغلت طهران هذا الرفض، كي تدفع الروس للذهاب إلى حلب، من أجل تأمين موقع أفضل لموسكو في الصراع مع واشنطن على كييف، ومستقبل أوكرانيا!
ساهمت في تعزيز التحالف بين طهران وموسكو في سورية مخاوف العاصمتين من فوز هيلاري كلينتون بانتخابات الرئاسة الأميركية، ما بدا أنه أكثر احتمالاً في أواسط العام الماضي. بنى الإيرانيون حساباتهم على أن فوز هيلاري كلينتون سيعني استمراراً، بشكل أو بآخر، لسياسات أوباما تجاه الشرق الأوسط، لكن فوز ترامب قلب المقاييس.
تحت وطأة التصريحات المعادية لترامب، ولكبار المسؤولين في إدارته، لم يعد أمام إيران سوى إعادة ضبط استراتيجيتها الإقليمية. قرّرت استباق المواجهة مع الرئيس الجديد. عيّنت سفيراً من الحرس الثوري في بغداد، ولوّحت بإعادة نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء، دافعةً وراء تعيين بهاء العرجي (المنتمي لمنظمة بدر المقرّبة من إيران) وزيراً للداخلية العراقي.
ولأن المواجهة مع ترامب في العراق لا بد أن تتمدّد إلى لبنان، مضت إيران في عملية أستانة. أرادت إيران من مشاركتها في مفاوضات العاصمة الكازاخية تنفيذ خطةٍ من شعبتين. تتمثل الأولى في تقليص وجود عناصر المليشيات العراقية في سورية، وسحب قطاعات منها إلى العراق بهدف إحباط السياسة الأميركية المعادية لها هناك. تتمثل الشعبة الثانية في إعادة توزيع مقاتلي حزب الله بين سورية ولبنان، من أجل التحوط لأي مغامرة إسرائيلية في جنوب لبنان. ولعودة مسلحي حزب الله إلى الجنوب فائدة إضافية، تتمثل في إبقاء ورقة تهديد جدية ضد الإسرائيليين. تتكامل هذه الخطة مع ضغط إيراني على النظام السوري، من أجل إشعال الجبهة الجنوبية بهدف إيصال قوات إيرانية، ومن حزب الله، إلى القنيطرة، بما يزيد أوراق الضغط الإيرانية على الإسرائيليين وحلفائهم الأميركيين.
على أية حال، تبقى الاستراتيجية الإيرانية الجديدة محفوفةً بالمخاطر، نتيجة خطوة أقدم عليها الإيرانيون أنفسهم قبل حوالي العام ونصف العام، عندما طلبوا النجدة الروسية للنظام وقواتهم في سورية. ستترك هذه الخطوة، في الماضي القريب، مناورات طهران الإقليمية تحت رحمة بوتين. بطبيعة الحال، لا ينسى الإيرانيون الصفقات الكثيرة التي عقدتها موسكو على حسابهم. وهم بلا شك قلقون مما يحضّره لهم سيدا البيت الأبيض والكرملين.
٣ فبراير ٢٠١٧
شكّل إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عزمه إقامة مناطق آمنة في سورية والجوار الجغرافي قنبلة سياسية، دفع كثيرين إلى طرح سؤال أساسي، هو هل جاء الإعلان تعبيراً عن سياسةٍ داخلية لترامب، للحد من قضايا اللجوء والهجرة، خصوصاً في ظل إجراءاته المثيرة بهذا الخصوص، أم أنها سياسة أميركية جديدة تجاه الأزمة السورية؟ قوبل الإعلان بحذر روسي وترحيب سعودي وقطري وتركي، لطالما أن تركيا كانت أول دولة دعت إلى إقامة مثل هذه المناطق، ما دعا بعضهم إلى السؤال عما إذا كان إعلان ترامب سيشكل نقطة تقارب بين أنقرة والإدارة الأميركية الجديدة، بعد أن رفضت إدارة باراك أوباما إقامة مثل هذه المناطق طويلا بحجج مختلفة؟
مع الغموض الذي يحيط بمشروع ترامب لإقامة مناطق آمنة، ثمّة أسئلة كثيرة بشأن كيفية إقامة هذه المناطق؟ وأين ستقام؟ وهل سيلجأ ترامب إلى مجلس الأمن الدولي لإصدار قرار بهذا الخصوص، أم سينفذها من خارج المجلس؟ وماذا عن آليات التعاون مع تركيا ودول الخليج العربي بهذا الخصوص؟ وكيف سيواجه ترامب الاعتراض الروسي على إقامة مثل هذه المناطق؟ وهل سيتم تأمين التغطية العسكرية لحماية هذه المناطق من أي هجوم محتمل للنظام السوري وحلفائه؟
بانتظار اتضاح الأمور والخطط والتفاصيل، والتي ستشكل إجاباتٍ عن الأسئلة السابقة، فإن إعلان ترامب يشكل تحولاً كبيراً في السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية، واشتباكا مسبقا مع التدخل العسكري الروسي في سورية إن كانت تعبر عن سياسة حقيقية، وليست مناورة سياسية رفيعة المستوى. إذ إن إقامة مثل هذه المناطق، وإن كانت بهدف وقف تدفق اللاجئين الذين يعتبرهم ترامب تهديدا لأمن الولايات المتحدة، إلا أنها تعني أن الإدارة الأميركية تستعد لسياسة مغايرة لسياسة الانكفاء التي اتبعها أوباما تجاه الأزمة السورية، وهي سياسة استغلها الروس في فرض واقع ميداني يُبقي النظام. وعليه، فإن إقامة مناطق آمنة، لأسباب تتعلق بوقف الهجرة أو خطوة ضد النظام، ستؤدي إلى تصعيد عسكري مع الروس، وهو ما كان يتجنبه أوباما. مع أن المفارقة، هنا، أن علاقات أوباما الذي ابتعد عن التصعيد مع الروس، وترك لهم حرية التدخل العسكري في سورية، مع موسكو كانت متوترة، ولاسيما في الفترة الأخيرة من حكمه، فيما ترامب الذي يتحدث عن إقامة مناطق آمنة لا يتوقف عن إعلان رغبته في سياسة جديدة تجاه روسيا تقوم على التعاون، بل ثمّة من في أميركا يقول إن وصول ترامب إلى البيت الأبيض كان بفضل التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولعل هذا ما يخفّف من الاعتقاد بأن ترامب سيذهب إلى الصدام مع الروس، وأنه أقرب إلى ممارسة مناورة سياسية. إذ إن منطق ترامب هو منطق المال والأعمال والحسابات والفوائد، وهذا ما يحيلنا إلى قضية تمويل هذه المناطق، وتكلفة حمايتها أمنيا وعسكريا، فضلا عن الحاجات الإنسانية والخدمية للسكان المفترضين من أهالي ونازحين.
ثمّة من يرى أن ترامب قد يجد مشكلةً لقضية تمويل المناطق الآمنة، من خلال دول الخليج العربي التي أبدت استعدادها لدعم إقامة مثل هذه المناطق، وقد سبق أن أشار ترامب إلى دور التمويل الخليجي في هذا الخصوص، إلا أن الإشكالية التي لا تقل أهمية هنا تتعلق بكيفية توفيق ترامب في العلاقة الأميركية بين تركيا ودعم أكراد سورية، إذ ترفض أنقرة هذا الدعم وتنظر إليه بعين الريبة والقلق، كونه يؤسس للمشروع الكردي في المنطقة.
وفي الحديث عن التحديات والإشكاليات والتعقيدات التي تعترض إقامة مناطق آمنة، لا بد من نظرة واقعية إلى حال الانقسام الحاصل في الخريطة السورية جغرافياً، إذ تبدو سورية وكأنها ثلاث مناطق أساسية، تدار كل منها بقوى محلية ودولية، فقسم كبير من الشمال والشرق واقع تحت سيطرة الكرد وحليفهم الأميركي، وقسم آخر من الشمال والشمال الغربي تحت سيطرة الفصائل المسلحة وتركيا، والقسم الثالث الذي يتألف من الساحل والوسط والعاصمة تحت سيطرة النظام وحلفائه. ولعل اللافت هنا أن هذه الانقسامات المناطقية توحي بأن ثمّة تقاطعاً كبيراً بين فكرة إقامة مناطق آمنة وإقامة إدارات حكم محلية، كما أوحت مسودة الدستور التي طرحها الروس أخيراً. وبغض النظر عن هذا التقاطع، فإن ما يجري يوحي بالتأسيس لحكم لا مركزي في سورية أكثر من استراتيجية لإقامة مناطق آمنة.
٣ فبراير ٢٠١٧
تتزايد حاجة المعارضة السورية للإسراع في عقد اجتماع عاجل في مدينة ما، يضم من لم تستطع موسكو جمعهم على طاولة واحدة، من منصّات المعارضة المختلفة، في الداخل والخارج، للوصول إلى تفاهمات بينهم، قبل الوصول إلى طاولة التفاوض في جنيف مع النظام.
والسؤال الملح المطروح اليوم على «الهيئة العليا للمفاوضات»، التي تضم أوسع أطياف المعارضة، هو: هل تملك هذه الهيئة رؤى مرنة للتعامل مع ما هو مطلوب منها، وفق تصريحات المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في 31 الشهر الماضي، حيث طلب تشكيل وفد واحد للمعارضة، مهدداً باستخدام صلاحياته في تشكيل الوفد بعد نفاد المدة التي حددها، وهي الثامن من هذا الشهر؟
ولعل ما جاء في خطاب دي ميستورا يتطابق مع البيان الذي صدر من موسكو موقعاً من المشاركين الثمانية الذين لبوا الدعوة الروسية، ومنهم من يعتبر أحد مكوناتها، أي «هيئة التنسيق»، في حين رفض كل من المنسق العام لـ «الهيئة العليا للمفاوضات» رياض حجاب، ومن دعي من «الائتلاف» المعارض، الدعوة الشفهية التي وجهت لهم. حيث يقر الموقعون على بيان موسكو، الذي صدر في 27 الشهر الماضي، بأن اجتماعات آستانة التي ثبّتت اتفاق وقف إطلاق النار، ستنعكس إيجاباً على المسار السياسي المأمول وتنفيذ القرار 2254. ولعل المتفحّص جيداً لمواد هذا القرار يعرف أن المجتمع الدولي مهّد به لتمثيل منصّات عديدة إلى جانب «الهيئة العليا للمفاوضات»، وبناء على ذلك « توافق المجتمعون على توجيه نداء إلى تشكيل وفد واحد عادل التمثيل ووازن ومقبول، ومن دون إقصاء أحد أو هيمنة أحد»، للتفاوض مع وفد النظام في اجتماع جنيف المقترح هذا الشهر.
وفي عودة لمخرجات اجتماع آستانة، الذي جمع «القوى المسلحة»، يمكننا ملاحظة أن كل طرف (أي النظام والمعارضة) يعتبر أنها جاءت متوافقة مع ما يعزّز موقعه في معركة التفاوض، ويضعه أمام جمهوره منتصراً. إلا أن الحقيقة تفيد أيضاً بأن النظام السوري مني بهزيمة موجعة في المؤتمر، تمثلت بانهيار خطابه الإعلامي، المرتكز على أنه خلال السنوات الست الماضية كان يواجه فصائل وجماعات إرهابية ثابر ليضعها على قائمة الإرهاب الدولية، فإذا به يجلس معها في قاعة واحدة، ويبدو في ذلك كمن هو مضطر للموافقة على البيان الصادر، أو السكوت عنه، على رغم أنه يقضي على كل ما تبقى من سيادته على جيشه، حيث روسيا وإيران معاً هما الضامنتان لتنفيذ بنود الاتفاق، تبدوان كدولتين تتحكمان بمصير سورية ونظامها.
على الجهة المقابلة، تضمنت وثيقة آستانة خسائر بالجملة للمعارضة السورية أيضاً، بشقيها السياسي والمسلح، حيث اضطرت الفصائل للقبول في شكل أو آخر بتحديد طبيعة الدولة السورية، «دولة ديموقراطية، متعددة الإثنيات، متعددة الأديان، غير طائفية» وهو الأمر الذي كان يجب تركه لمحادثات جنيف، وليس التعامل معه بشكلياته من دون إسقاطاته السياسية، التي يجب أن تكون مبنية على التوافقات السياسية بين المكونات السورية جميعها، وليس بين المتصارعين عسكرياً.
واضح أن روسيا على ما يبدو في البيان - حاولت التشويش على المرجعيات الدولية للقضية السورية مختصرة النضالات الديبلوماسية للمعارضة السياسية بالقرار 2254 فقط، وهو الأمر الذي استدركته في بيان موسكو الأخير في محاولة لاسترضاء المجتمع الدولي من جهة، والتقرب من «الهيئة العليا» من جهة ثانية. وربما بالموافقة على الحضور بداية، والتوقيع ختاماً، فقد وضعت الفصائل العسكرية المعارضة كلا من روسيا وإيران في موضع متساو مع تركيا، الدولة الصديقة للمعارضة، مسقطة بذلك الدور القتالي والتدميري للدولتين المذكورتين في سورية، وقابلة بوجودهما من خلال عملهما كضامنتين ومراقبتين على تنفيذ الاتفاق.
ما تريده موسكو والنظام وإيران فعلياً من الفصائل هو انضمامها للحرب على الإرهاب، وقد تحقق لها ذلك، بل بدأت علاماته في الميدان بالشروع بمحاولة تصفية مباشرة لجبهة «فتح الشام» (النصرة سابقاً)، وفي حال تحقق ما يتم الحديث عنه، بخصوص انعقاد مؤتمر جديد في مدينة يمكنها أن تجمع كل أطياف المعارضة من دون تحفظ، قبل اجتماع جنيف المقترح في 20 هذا الشهر، والذي تم تأجيله بناء على توافقات أميركية روسية أممية، والذي كان قد أعلن عن تأجيل موعده المقترح في 8 الشهر، من جانب وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي لا ينطق عن هوى، ما يضعنا أمام انقلاب على مستويين:
- عسكري، حيث تتجمع الفصائل كنواة صلبة مع بعضها بعضاً، لاغتنام فرصة انزياح الحل حسب رغباتها وبشروطها، التي تفرضها على الطرف الذي تجلس إلى جانبه (أي المعارضة) وليس فقط على الطرف المقابل لها (أي النظام). مما يجعلنا نتوقع مجلساً عسكرياً مشتركاً قريباً.
- سياسي، توحي به عبارة مررت عن قصد في بيان آستانة تقول: «أن الصراع يمكن حله فقط من خلال عملية سياسية»، بمعنى أنه ليست هناك عملية انتقال سياسي تستند إلى بنود إعلان جنيف1 و2، وهنا أمام المعارضة السياسية خياران أحلاهما مر، ليس لأنها ستقبل بتوسيع وفدها ليضم ممثلين عن الإدارة الذاتية (الكردية)، أو معارضة موسكو ورندة قسيس، إضافة الى منصة القاهرة وتيار «بناء الدولة»، اللذين كانا موجودين على قائمة اجتماع الرياض الذي أنتج «الهيئة العليا للمفاوضات»، بل لأن على المعارضة السياسية متابعة ما بدأه العسكر، بدل أن يكون العكس هو ما يتم تنفيذه الآن، وفق خطة الانتقال السياسي التي عملت عليها خلال سنوات، وحققت لها مرجعيات دولية، تعتبر موسكو أنها أسقطتها عنوة، ولكن بديبلوماسيتها الناعمة في مؤتمر آستانة في 23 كانون الثاني (يناير) الماضي.
وإذا كان المطلوب من «الهيئة العليا» المرونة في أقسى حالاتها، فعلى هذه المنصات أيضاً أن تعلن مبادرتها للانطلاق نحو تفاهمات مشتركة ليس فقط على أسماء من سيفاوض النظام، (وفد المعارضة الواحد)، بل على ماذا سيكون التفاوض مع النظام، ولعل هذا هو البند الأهم الذي يوجب الاجتماع المشترك، والذي لن تفصلنا عنه سوى أيام إن لم تكن ساعات.
بين مؤتمر آستانة ومن ثم موسكو وقد مضيا، وعاصمة جديدة تطرحها عناوين الأخبار، ثمة صمت في العواصم العربية طال فهل ينتهي، لتكون إحداها مكاناً يمكن من خلاله الحديث بلغة أقرب إلى واقعنا، وأكثر تفهماً لآلام شعب تشرد نصفه، ومنع من دخول بلاد الله الواسعة، وقتل منه نحو نصف مليون، وعدد معتقليه يناهز مئات الآلاف، و85 في المئة منه ضمن خط الفقر، وخمسة ملايين بحاجة للإيواء؟
٣ فبراير ٢٠١٧
سجّلت الأيام العشرة الأولى من عهد الرئيس دونالد ترامب تنفيذ وعوده الانتخابية، فعطّل العمل الحكومي المعتاد وخلق اختلالاً هزَّ واشنطن وعواصم العالم. أمسك الرئيس الجديد بقلمه السحري ووقَّع على أوامر مدهشة مستفيداً من صلاحياته التنفيذية ومتعمّداً استباق تسلم وزرائه حقائبهم وبدء عمل الإدارة الأميركية كفريق تقليدي. الجيد والمفيد هو أن دونالد ترامب حسم الجدل حول ما إذا كان سيتأقلم مع منصب الرئاسة، وأوضح أنه عازم على تفعيل كل ما تعهّد به أثناء حملته الانتخابية، وهكذا قطع الطريق على الافتراضات والاجتهادات حول مَن هو وماذا سيفعل. والمخيف الذي يدب الرعب في قلوب الكثيرين هو أن دونالد ترامب قد يأخذ الولايات المتحدة حقاً إلى الانفراط وقد يأخذ العالم إلى عاصفة تلو الأخرى، فينهار النظام العالمي من دون أن يكون تم إعداد البديل عنه. قد يقال إن المقاومة الدخلية لأوامر وإجراءات دونالد ترامب ستجبره على إعادة النظر والتراجع. إنما ترامب، من جهته، يراهن على الوهن الذي سيُتعِب ويُحبِط المعارضين له وهم يلهثون معارضين لإدهاش يلي إدهاشاً، فيخضعون للأمر الواقع. بالطبع، لقد ازداد الكلام بعد مرور عشرة أيام على حكم دونالد ترامب – عن حتمية إنزاله من السلطة عبر محاكمته «امبيتشمانت» لأن أميركا لن تسمح له أن يفككها أو أن يجرها إلى حرب أهلية أو أن يُفقرها أو أن يقلص نفوذها العالمي ويقدم مرتبة العظمة للصين وروسيا. الداعمون لدونالد ترامب يقهقهون ويتوعدون أولئك الذين يحلمون بإسقاطه من الرئاسة، بل إنهم واثقون أن ترامب سيجعل أميركاً فعلاً «عظيمة مجدداً» وأن واقعيته السياسية في علاقاته الدولية ستبني نظاماً عالمياً جديداً وتحالفات غير مسبوقة ستسفر عن ازدهار أميركي وعالمي. روسيا محورية في حسابات دونالد ترامب، الذي يقول المقربون منه: لن ينطلق بالعلاقات معها على أساس الحجج والمقاييس الأخلاقية، وإنما على أساس «ما يستلزمه إبرام الصفقة». فهذا «رجل الصفقات» حتى وهو رئيس الولايات المتحدة. ووفق الذين يعرفونه جيداً، سيضع دونالد ترامب «الواقعية» فوق «الأخلاقية» وهو يبني التحالفات الضرورية، ويغيّر السياسات كتلك التي نحو إيران وسورية، ويفصِّل العالم إلى حليف يسند الولايات المتحدة وتسنده وآخر خارج معادلة «سند الظهر» يدفع ثمن مواقفه.
السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، استهلت مهماتها بإبراز العزم على «إظهار قوة» الولايات المتحدة وتوعدت كل من «لا يساندنا» بعواقب تناسب أفعالهم. تحدثت عن أن «هدفنا أن نساند حلفاءنا، ولكن أن نتأكد أن حلفاءنا يساندوننا أيضاً»، وقالت: إن الإدارة الجديدة ستركز أكثر على العلاقات الثنائية على حساب العلاقات المتعددة الأطراف. أثارت نيكي هايلي الاستغراب عندما قالت: «الذين لا يساندوننا، سنسجل أسماءهم وسنحرص على الرد عليهم بما هو مناسب، وهذا الوقت هو للقوة وللعمل ولإنجاز الأعمال». فهذه لغة بعيدة من الديبلوماسية تنطوي على التهديد. إنما السؤال هو، من هم حلفاء الولايات المتحدة في زمن دونالد ترامب، لا سيما أنه اتخذ إجراءات تخص الجدار مع المكسيك فعاداها، وأصدر أوامر تمنع السفر من 7 دول ذات غالبية إسلامية وأخرى تقفل الباب في وجه اللاجئين، فأثار انتقادات جاره الآخر، كندا، وكذلك حلفاء الولايات المتحدة عبر الأطلسي بما فيها بريطانيا المهرولة إلى صداقة مميزة مع الإدارة الجديدة.
مصدر مقرب من تفكير أقطاب رئيسيين في الحلقة الضيقة للرئيس دونالد ترامب قال: «إننا عازمون على مساعدة من يساعدنا حقاً ويثبت جدواه. في الشرق الأوسط، هذا يضم السعودية ومصر والأردن والإمارات». وتابع: «في الوقت ذاته، سنقوم بإدانة من نصنفهم في مرتبة المنبوذ مثل إيران وسورية». باختصار، تابع المصدر: «المعادلة واضحة: كن حليفاً صادقاً، ونحن جاهزون للمساعدة في المقابل».
كان لافتاً ما قاله المصدر حول الرغبة بأن «تساعدنا السعودية في ضبط إيران»، من دون ان يتوسع. إدارة ترامب تريد أيضاً من السعودية المشاركة الفعلية المكثفة لمنع تمويل الإرهاب ليس بالضرورة علناً طالما تفعل ذلك بإجراءات حازمة سراً. خلاصة الأمر أن السعودية ستكون أكثر قرباً وتقارباً مع الولايات المتحدة، وفق المصدر الرفيع.
مع إيران، ما تنوي إدارة ترامب أن تفعله هو التنفيذ الصارم للاتفاق النووي، وليس تمزيقه. تريد تكثيف المراقبة الدقيقة لكل شاردة وواردة، فإذا قامت إيران بانتهاك الاتفاق، سيسقط الاتفاق وسنقفز إلى المحاسبة، قال المصدر مؤكداً العزم على إجراءات.
كيف ستعدّل إدارة ترامب المواقف الأميركية إزاء توسّع إيران في الدول العربية، بالذات في العراق وسورية واليمن ولبنان؟ ليس واضحاً تماماً بعد أن كانت إدارة ترامب ستتبنى مباركة إدارة أوباما للتوغل الإيراني في سورية والعراق باسم مكافحة الإرهاب والتعاون العسكري ضد «داعش» وأمثاله. هناك تلميحات بأن التغيير قد يأتي عبر البوابة اليمنية، إنما ليست هناك سياسات متكاملة بعد توضح إن كانت العلاقة الأميركية– السعودية الوثيقة المنتظرة ستنعكس في ملف اليمن بالدرجة الأولى، وكيف. واضح أنها لن تنعكس في سورية.
روسيا هي اللاعب الأهم في سورية وإدارة ترامب جاهزة لعقد الصفقة معها على أساس «الأخذ والعطاء» طبقاً لفن الصفقات والعمليات التجارية وليس استناداً إلى الحجة الأخلاقية كما فعلت إدارة أوباما. ويشير المصدر إلى أن سياسة الرئيس السابق باراك اوباما القاضية بضرورة رحيل بشار الأسد كانت «سياسة بالاسم فقط»، ولم «تدخل أبداً حيز التنفيذ». ويتابع: «بشار الأسد ما زال موجوداً. هذا واقع. وبناءً عليه، ستكون السياسة الجديدة مبنية على الإقرار باستمرار وجوده إنما مع تصنيفه منبوذاً، والعمل على عزله».
بكلام آخر، ووفق التفكير في إدارة ترامب «لقد تبنى أوباما سياسة تعارضت مع الواقع. أما ترامب فإنه ينظر في تغيير السياسة المعلنة لتتطابق مع الواقع». بوضوح أكثر، ستتخلى إدارة ترامب عن سياسة تغيير النظام في سورية وستتبنى بدلاً منها سياسة «عزل الأسد»، وفق المصدر، أي أن «التغيير سيكون فقط في السياسة المعلنة بحيث نعترف بما هو واقع»، إنما مع استمرار «إجراءات العزل وتكثيفها لأن هذا الرجل ارتكب جرائم حرب ضد شعبه وسيبقى منبوذاً».
الرهان هو على التوصل إلى صفقة تؤدي إلى «انسحابه إلى منفى» أو إلى التحاق روسيا بمساعي عزل الأسد، إذا تبين لها أن السياسة الأميركية لم تعد تريد «تغيير النظام»، وفق المصدر المطلع. إنما المفاوضات الأميركية– الروسية لم تبدأ بعد ومن المبكر التدقيق في عناصر الصفقة الكبرى التي قد يريد كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس دونالد ترامب إبرامها – فالأمر أكثر تعقيداً من مجرد ملف سورية أو حتى ملفي سورية وأوكرانيا معاً. إنها صفقة المصالح الكبرى ولن تكون بالضرورة سهلة أو قريبة. في هذه الأثناء، تستمر روسيا في إدارة ملف سورية سوية مع تركيا وإيران فيما يستمر التغيب العربي الملحوظ عن المسألة السورية تحت عذر معارضة اختطاف روسيا للملف السوري من مجلس الأمن ونقله إلى آستانة، عاصمة كازاخستان.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس اعتبر مشاركة الأمم المتحدة في مؤتمر آستانة تأكيداً على تمسكها بمسار العملية السياسية، مشدداً على أن البحث الفعلي لهذه العملية سيتم في 20 الشهر الجاري في جنيف تحت رعاية مبعوثه ستيفان دي ميستورا. قال إن العملية الانتقالية للحكم في سورية التي أقرها بيان جنيف «ستكون من القضايا المركزية» التي ستبحث عندما يجمع دي ميستورا السلطة والمعارضة. دي ميستورا من جهته أنذر المعارضة بأنها في حال لم تتفق على تشكيل وفد موحد شامل التمثيل ومتوازن، فإنه سيتصرف ويقوم هو بتشكيل الوفد طبقاً للصلاحيات الواردة في قرار مجلس الأمن 2254. هذا التصريح أثار حفيظة أقطاب المعارضة السورية المبعثرة بين تخلي تركيا عنها لتكون شريك روسيا وإيران كـ «ضامن» لوقف النار والحل السياسي، وبين تخلي الدول الخليجية وفض يدها من المسألة السورية، وبين تلميح في سياسة الإدارة الأميركية الجديدة بالتضحية الصريحة بالمعارضة السورية الممثلة بالإئتلاف وبالجيش الحر مع تنمية قدرات «قوات سورية الديموقراطية» التي حصلت من إدارة ترامب هذا الأسبوع على مدرعات وتعزيز القدرات في حملة تحرير الرقة من عناصر «داعش».
المشاريع ما زالت متضاربة في سورية، بالذات المشروع الروسي والمشروع التركي والمشروع الإيراني، علماً أن أي مشروع خليجي بات اليوم في خبر كان. ليس واضحاً ماذا جد بين روسيا وإيران في شأن التضارب الواضح في مشروعيهما، حيث أن روسيا تريد نظاماً قوياً في دمشق وتريد انسحاب كل القوات الأجنبية بما فيها تلك التابعة لإيران، بينما إيران تريد بقاء نفوذها داخل سورية بقوات غير نظامية على نسق «الحرس الثوري». هذه الأمور مؤجلة إلى «وقت لاحق» وفق ما قال غوتيريس، مشيراً إلى أن مسألة انسحاب القوات الأجنبية من سورية «تشمل كل القوات» من دون استثناء. الواقع على الأرض يفرض نفسه، وهناك تزاحم على فرض الأمر الواقع في سورية تهيئة للمفاوضات، على الصفقات.
فكل شيء وارد في زمن المفاجآت غير التقليدية التي وعد بها دونالد ترامب وفي زمن التحالفات غير الاعتيادية التي يتهيأ لها فلاديمير بوتين مع دونالد ترامب. والكل يتموضع بصورة أو بأخرى في رمال متحركة وسط أكثر من زلزال.
٣ فبراير ٢٠١٧
إن ما تعيشه سوريا اليوم من قتل و تدمير هو نتاج لتاريخ من القمع و التنكيل و التهميش و الاستفراد و الاستقصاء و التحكم بمقدرات الشعب بشكل مستبد و إرهابي مارسه النظام منذ أكثر من 40 عاماً عندما قام حافظ الأسد، وزير الدفاع آنذاك، بانقلابه في عام 1970 وتولى مقاليد الحكم، حيث بدأ الفساد ينخر في جسد الدولة لاستغلال الرئيس منصبه ليقرب طائفته من سدة الحكم بعد السيطرة على الجيش والأمن وفرض الدولة الأمنية القمعية ،مما أدى ذلك إلى تزايد السخط في البلاد، بين كافة فئات المجتمع وشرائحه الاجتماعية والدينية وبعض الجماعات السياسية المتضررة من الحكم الطائفي البغيض ، ناهيك عن استغلال النعرات الاجتماعية والطائفية بين مكونات المجتمع السوري ، شكل كل هذا الإحباط التربة الخصبة للرفض الشعبي للحكم الجديد ، وبقيت هذه الأوضاع تتنامى إلى أن انفجرت عام 1982 م في مدينة حماة بعد أن ارتكب نظام الأب حافظ مجازر متعددة في كل من حلب ودير الزور وإدلب لتكون مجزرة حماة أشدها وأكثرها هولا .
ابتدع يومها النظام طريقة فريدة للإرهاب و الاعتداء على المواطنين و حرمة مساكنهم، واختطاف نسائهم وأعراضهم، والسطو على أموالهم وممتلكاتهم، وقتل الأزواج وتشريد العائلات، و التمثيل بهم، أمام الزوجات والأولاد، كما فعل بداية الثورة في مجزرة الحصوية ومجزرة الحولة .
أقدم النظام على هذه الجرائم تحت اسم "تمشيط المدن والقرى" إذ تقوم الحوامات والدبابات والقوى المحمولة بتطويق المدن والقرى التي يراد تمشيطها ويؤمر الناس بمنع التجول والمكوث في بيوتهم وتقسم المدينة إلى قطاعات تتولى كل قطاع مجموعة كبيرة من الجنود والوحدات الخاصة وسرايا الدفاع وعناصر المخابرات والكتائب الطائفية، ويستبيحون كل شيء في أثناء "التمشيط"، يسرقون وينهبون ويدمرون ويعتدون على الناس والحرمات والمقدسات، ويقتلون كل من يرفع صوته محتجاً على هذه الانتهاكات، وكثيراً ما أبادوا أسراً كاملة، وقطّعوا أيدي النساء وأصابعهن من أجل الأساور و الحلي الذهبية.. يسحلون من يُقتلون بالسيارات والدبابات أمام الناس لنشر الذعر والرعب والإرهاب في قلوب المواطنين حيث تعرضت مدن و قرى القطر للتمشيط، فمشطت حلب مرتين، ومشطت حماة تسع مرات.
دامت المجزرة 27 يوماً بدءاً من 2 شباط 1982 م، نفذ نظام الأسد الأب خلالها ما يمكن تسميته بالوأد الجماعي، فحوصرت المدينة بعدد من الوحدات العسكرية { اللواء (47) دبابات ، واللواء (21) دبابات ، والفوج (41) إنزال جوي ، واللواء (138) من سرايا الدفاع ، واللواء (142) دبابات من سرايا الدفاع ، والفرقة الانتحارية (22) من سرايا الدفاع ، والفوج (114) مدفعية ميدان وراجمات صواريخ ، وعشرات الطائرات المروحية }
قصفت المدينة بالمدفعية الثقيلة قصفاً عشوائياً، تمهيداً لاقتحامها بالدبابات والآليات، لتخوض فيه عناصر سرايا الدفاع والوحدات الخاصة حرب الشوارع ضد المواطنين العزل
رافق كل ذلك تعتيم إعلامي شديد في الداخل والخارج، ليدفع قوى المعارضة إلى ما يشبه اليأس
أخفى حقيقة حقده الطائفي عن أبناء الشعب في بقية المحافظات وعن الرأي العام العربي والعالمي، إلى جانب اعتماد السلطة العسكرية على البطش المفرط و العشوائي، ليكون الأداة الفعالة في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية والنفسية ضد المواطنين في آن واحد.
تلا ذلك زج الكثير من المواطنين من أبناء المدن في السجون بصفة السجناء السياسيين الذين أودعوا في السجون العسكرية عشرات السنين, وأنزل عقوبة الإعدام بكل مواطن ينتمي أو يشك بانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين التي تصدرت المشهد يومها على الرغم من وجود الحاضنة الشعبية من غير الإخوان ، عدا عن المفقودين الذين لا يعرف أهلهم هل هم أحياء أم أموات، وبدلاً من أن يتخذ نظام الأسد الأب الإجراءات الكفيلة بالحد من آثار المجزرة وتداعياتها على سكان المدينة المنكوبة والمجتمع السوري بشكل عام، والتحقيق في أعمال التنكيل التي وقعت ضد الأهالي، فقد عمد إلى مكافأة العسكريين الضالعين في ارتكاب الجرائم ومن بين هؤلاء القاتل المجرم أخيه الذي عُين نائباً لرئيس الجمهورية لشؤون الأمن القومي، و تعيين محافظ حماة آنذاك محمد حربة في منصب وزير الداخلية.
كانت تلك الإجراءات بمثابة استهتار مروع من قبل الحكومة بالمشاعر العامة، وتأكيد واضح على استمرار منهجية القوة بدلاً من الحوار في التعاطي مع الشؤون الداخلية.
سار نظام الوريث بشار على خطى أبيه باعتماده القتل أسلوبا وحيدا لإبعاد معارضيه ، ونحن على أعتاب الذكرى السادسة للثورة السورية المباركة.
عقم النظام عن انتاج أساليب جديدة للقضاء على معارضيه فيما أنتجت حمامات الدم من أبناء سورية الذين قضوا على أيدي هذا النظام .
فهو رغم استباحته لكافة المدن السورية كما استباح مدينة النواعير من قبل إلا أنه أخفق في تحقيق أهدافه ، بل أعطت تصرفاته الإجرامية مردودا عكسيا يذكرنا برثاء أمير الشعراء أحمد شوقي لشيخ الشهداء عمر المختار فبقتله زرع قاتلوه بذور الثورة والتمرد ضدهم:
رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواءَ يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساءَ
يا وَيحَهُم نَصَبوا مَناراً مِن دَمٍ توحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ
جُرحٌ يَصيحُ عَلى المَدى وَضَحِيَّةٌ تَتَلَمَّسُ الحُرِّيَةَ الحَمراءَ