مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٤ فبراير ٢٠١٧
دستور مرفوض

هناك ثلاث ملاحظات على الدستور الذي قالت روسيا إنها قدمته للوفد السوري في مؤتمر أستانة، ونفى أعضاء وفد المعارضة تلقيه أو أنهم رفضوه.

الأولى أن الدستور حجر الزاوية في حياة الدول، وسيلعب دوراً حاسماً في إعادة تأسيس حياة سورية العامة. لذلك، لا يجوز تحويله موضوعاً للتلاعب، أو أداة بيد أي طرف غير سوري، فكيف إذا كان، كالدستور الروسي، معادياً للديمقراطية، أعز مطالب الشعب السوري، وكان يبني نظامه البديل، وبالتالي الدولة السورية الجديدة، على مبدأ الهويات الإتنية والطائفية والمذهبية والفئوية، بحمولته الفاشية والتفكيكية، ولا يبنيه على المواطنة، المبدأ الذي لا تقوم ديمقراطيةٌ بغيره. باعتماده مبدأ الهويات أساساً لإعادة تنظيم سورية، راح الدستور الروسي في اتجاه يقوّض فرص قيام الدولة التي اختارها الشعب، والتي تعترف، من موقعها المرجعي، بحقوق مكوّناتها وتكرّسها دستورياً وفي قوانينها وممارساتها، من المرجح، إنْ لم يكن من المحتم، أن يفضي تطبيقه إلى كياناتٍ هوياتيةٍ نابذة الميول وطنياً، تتبع دولة المركز لها أو تخضع لإرادتها، لتكون، دستورياً، دولةً عاجزة عن حماية نظامها العام، ضعيفةً في علاقاتها مع مكوّناتها المناطقية التي ستمتلك صلاحيات تعطيل بواسطتها قراراتٍ وطنيةٍ لمركز ليس مستقلاً عنها، على الرغم من أنها لا تتبع له إلا في مجالاتٍ محدودة وجزئية.
بدل أن يحمي الدستور المركز، نجده يعطيه ما يفيض عن صلاحيات المكونات، وبدل أن يعزّز دوره دولةً لجميع مواطنيها، ويجعل منها مرجعيةً في كل شأن وطني أو عام، وإن نسّقت مع مكوناتها في المسائل التي تتقاطع عندها المسؤوليات وتتكامل الصلاحيات. لكن الدستور الروسي يفعل العكس، من ذلك أنه يفرض على دولةٍ تريد أن تكون ديمقراطيةً نسباً، طائفية وقومية عند توزيع المناصب الوزارية، في استبدالٍ واضحٍ لنظام طائفي قائم بنظام طائفي قادم.

لو أخذ الدستور بالمواطنة مبدأً للنظام، لكانت المساوة بين المواطنين ترجمته العملية، ولما جرى تحديده بمبدأ الهويات الذي ينكرها، بينما يعترف النظام الديمقراطي بها، وبما يترتّب عليها من حقوق، ويجعل منها فضاءاتٍ وطنيةً لأتباعها ضمانات دستورية وقانونية، مساوية لما يتمتع به غيرهم. لذلك، لا تنتج التفاوت بين المواطنين عامة، ولا تغدو حواجز تقطع الشعب إلى عوالم متجاورة، لكنها لا تنتمي إلى جسدية دولوية/ وطنية واحدة، إن أعطيت حصصاً انتفى المجتمع، وعجزت السياسة عن ردم الهوّة بين مكوّناته وتداعى ما هو عام وجامع في علاقاتها التي لن ترتكز عندئذ على عقد اجتماعي/ سياسي بين الشعب والدولة، وسيستبدل بعقودٍ جزئيةٍ، يمليها كل مكوّن، تنمي خصوصياته خارج الإطار الوطني المشترك. قلت إن الدستور الروسي لا يقيم دولة ديمقراطية في سورية، وأقول الآن: إنه لن يقيم دولة.

ثانياً، يتعارض الدستور الروسي مع وثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن التي وافقت روسيا عليها، وجعلت الانتقال الديمقراطي هدفاً ملزماً للعملية السياسية، عليها أن تنتهي إليه. لا يذكر الدستور هذا الانتقال في أيٍّ من بنوده. ويقرّر، نيابةً عن الشعب السوري الذي لم يفوّض واضعيه بذلك، أن نظام دولته القادم سيكون رئاسياً في كل ما يتعلق بالدولة القمعية وأجهزتها السلطوية شبه برلماني في مؤسسات الدولة الأخرى التي ستخضع لمحاصصاتٍ طائفيةٍ وقومية. لتمرير هذه الهجانة المدمرة لفرص قيام الدولة الديمقراطية، يفبرك الروس سلطاتٍ رئاسيةً، لا يحق لأحدٍ التدخل فيها، بينما تتدخل هي، في المقابل، في تعيين صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، ووظائف جمعية الشعب وجمعيات المناطق، وتمتلك هي، وكل واحدةٍ من هذه المؤسسات الرسمية، حق إلغاء السلطة التشريعية عبر الحق في قيامها بـ "مبادرات تشريعية". هذا دستورٌ يكرّس فوضى الصلاحيات وتداخلها الذي لن ينتج غير فوضى قانونية ضارية.

ثالثاً، بتجاهله الانتقال السياسي ووثائقه وقراراته الدولية، وفبركته نظاماً، رئيسه قوي ودولته ضعيفة، أطرافه جبارة ومركزه متهالك، يبعث الروس رسالتين إلى السوريين، تقول أولاهما لأهل النظام: انسوا نظامكم الحالي. وثانيتهما لأهل المعارضة: انسوا النظام الديمقراطي.

إذا كان دستور الروس لا يفي بالحد الأدنى من مطالب شعبنا، ويضعه في مواجهة نظام انتقالي معقد ومشحون بعوامل تضعف الدولة، وتشتت المجتمع، وتؤسّس فوضى صلاحياتٍ لن يستقيم في ظلها الأمر لأيٍّ من مكوناتها، أو مؤسسةٍ من مؤسساتها، ولن نتخلص من الاستبداد أو ننال حريتنا، لماذا ننصاع لبنوده التي أملتها على واضعيه سيطرتهم علينا؟

اقرأ المزيد
٤ فبراير ٢٠١٧
نحو جنيف 4

فاجأنا ديمستورا بتصريح يطالب فيه المعارضة بتشكيل وفد موحد إلى الجولة الرابعة من المفاوضات في جنيف، وقد حدد موعدها الجديد في 20 فبراير الحالي، وحمل تصريحه وعيداً بأن يقوم هو بتشكيل وفد التفاوض إن لم تقم المعارضة بذلك.

ولا نعرف ما الذي دعا ديمستورا إلى هذا التصريح الجاف، ولكننا سمعنا رغبة لافروف قبله بتشكيل وفد موحد، يضم كل أطياف المعارضة بما فيها تلك المنصات التي تطلق على نفسها لقب معارضة مع أنها تعلن أن هدفها الإبقاء على النظام، وعلى بشار الأسد رئيساً للأبد. ولا يعرف أحد ما الفارق بين مطالب هؤلاء وبين مطالب من يسمون الموالاة، وهؤلاء صنعهم النظام وبعضهم سمتهم روسيا، ومثلهم آخرون من حلفاء النظام وممن حاربوا معه، ولديهم مطالب عرقية وإثنية وبعضها انفصالية، ومع ذلك يرون أنفسهم معارضة وطنية! وهدف ذلك التناقض هو التشويش على مطالب المعارضة الجادة، وإبراز صفة التشتت على المعارضين على رغم أنهم أعلنوا وحدة أهدافهم في مؤتمر الرياض الذي جمع قوى المعارضة الكبرى (الائتلاف، وهيئة التنسيق، والفصائل الثورية، والمستقلين) ووقعوا جميعاً على بيان الرياض الذي تمسك ببيان جنيف لعام 2012 ومتنت مطالبه قرارات الأمم المتحدة وأهمها القرار 2254. ولم يخرج أحد من أعضاء مؤتمر الرياض أو هيئته العليا عن ثوابت بيانه، وتبدو منصة القاهرة أقرب تشكيلات المعارضة إليه، لأن غالبية مؤتمر القاهرة باتوا أعضاء في مؤتمر الرياض، ومن أبرزهم أعضاء الائتلاف وهيئة التنسيق والمستقلون.

وقد حرصت الهيئة العليا على التنسيق والتفاهم مع كل أطياف المعارضة عبر حوارات متصلة، وأصر بعض المعارضين في المنصات الأخرى على رؤيتهم بضرورة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية وترشحه للانتخابات وهؤلاء لا يمانعون بالطبع في بقائه رئيساً إلى الأبد، وذروة الحل السياسي عند بعضهم هي المشاركة في حكومة وحدة وطنية بقيادة الأسد نفسه.

واعتبر الروس الحديث عن مستقبل الأسد شرطاً مسبقاً لا يقبلون الخوض فيه، متجاهلين أن الثورة قامت ضد الديكتاتورية المطلقة، وسيكون من العبث المراهنة على تغيير سلوك النظام، ولا سيما أنه سيحتفظ بسلطته على الجيش وقوى الأمن، وسيكون بوسعه الانتقام البطيء أو السريع من كل من تمردوا على سلطته. ولن تنفع السوريين أوراق الدستور أو القوانين، ولن يطمئن المهجرون ولن يعود أحد من النازحين وستبقى القضية السورية مفتوحة الجراح، لأن بقاء النظام واستسلام المعارضة على الطريقة التي تريدها موسكو ستجعل سوريا القادمة مسرحاً لاستبداد من نوع أخطر، وسيمارس المنتصرون أبشع أنواع الانتقام وستغرق سوريا في مستنقع دم جديد.

ويبدو واضحاً أن روسيا أرادت أن تجعل منصة الآستانة بديلاً عن مرجعية جنيف 1، وكان لافتاً أن يتجاهل ديمستورا الإشارة إلى هذه المرجعية في تصريحه الأخير، وهو لم يشر إلى مضمون المفاوضات القادمة وإلى جدول عملها، وهل سيعود المتفاوضون إلى مناقشة وقف إطلاق النار، وإلى الحديث عن فك الحصار وإدخال المساعدات، وعن إطلاق سراح المعتقلين، ودون جدوى؟

أما كان حريّاً أن يناقش مؤتمر آستانة هذه القضايا التي اعتبرها القرار 2254 مرحلة بناء ثقة هي فوق التفاوض وقبله؟ ومؤتمر آستانة الذي جعل عنوانه تثبيت وقف إطلاق النار فاجأنا في بيانه بالحديث عن تخفيف العنف، ولكن العنف اشتد بعده حتى تمكن النظام من إجلاء المقاتلين من وادي بردى، ومن تهجير المئات إلى إدلب.

وليس مستبعداً أن يبدأ الهولوكست السوري الذي يتوقع المراقبون حدوثه في إدلب مع بدء الجولة القادمة، كما كان يحدث في حلب مع بدء كل جولة من جولات التفاوض في جنيف، مما يجبر وفد المعارضة على التوقف وربما الانسحاب أمام سيل الدماء، على رغم أن القرار الدولي ينص على وقف إطلاق النار وبناء مرحلة ثقة قبل التفاوض.

ولا يخفى على ديمستورا أن أي حديث في جنيف لا يباشر قضية الانتقال السياسي هو مزيد من إضاعة الفرص للوصول إلى نهاية، ولا يخفى على أعضاء مجلس الأمن أن المراوغات التي يقوم بها النظام للتهرب من مواجهة مضمون قرار مجلس الأمن تهدف إلى فرض الأمر الواقع وإجراء تغيرات ميدانية لصالحه، ولكنها ستجعل القضية السورية جمراً يتقد، وسيبقى العالم في حالة ترقب واضطراب مهدداً بغياب الاستقرار عن المنطقة كلها، لأن إيران وميليشياتها الإرهابية ستكون إذَّاك سيدة الشرق الأوسط كله.

لقد مدت المعارضة المسلحة يداً لروسيا، وقبلت دعوتها لمؤتمر آستانة، وبقي أن يكون الروس جادين في إيجاد حل يقبله الشعب السوري دون أن يفرض عليه بالقوة والعنف، فقد تمرس هذا الشعب على استقبال القوة والعنف بالصبر والإصرار على مطالبه المشروعة.

اقرأ المزيد
٤ فبراير ٢٠١٧
ايران “تسعّر” ترامب .. فهل تنجو كما السابق أم تلقى مصيراً مختلفاً !؟

يغوص المشهد الحالي الذي يجمع الادارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب  و النظام الايراني ، بكثير من الضبابية و نوع من الدراما المكررة منذ سنوات ، بدأت من عام ١٩٧٩ ، بين البلدين مع وصل الملالي إلى حكم أحد أكثر بلاد المنطقة اتساعاً و امتلاكاً للقدرات القدرات البشرية و الثروات الباطنية .


يكرر دونالد ترامب ما قاله سلفه باراك أوباما والذي سبقهما جورج بوش و كذلك بيل كلينتون وصولاً إلى جورج بوش الأب ، بأن الرد العسكري على التمرد الايراني ضمن الأجندة ، شعارات بقيت حبيسة حدود الفضاء الحبري ، دون أن تنتقل إلى أرض الواقع ، اللهم  إلا ببعض العقوبات ذات الطابع الاقتصادي ، التي استطاع نظام الملالي تجاوزها من خلال ما يعرف بالشركات العابرة للقارات يقودها “الحرس الثوري الايراني” صاحب السطوة الأكبر في بلد يغرق بالفقر و الفساد و الانحلال الأخلاقي.

من الخطأ اعتبار تهديدات ادارة ترامب المتصاعدة لايران ، أنها جدية و حاسمة ، و لكن في الوقت ذاته لايمكن إهمالها سيما مع المتغيرات التي طرأت على خارطة الشرق الأوسط عموماً مع انهيار العراق و تحوله إلى محافظة ايرانية بشكل تام ، وقرب تحقق ذات السيناريو (و إن كان بسوية أقل) في سوريا ، الأمر الذي يحول إيران الدولة الحاكمة المطلقة في المنطقة ، التي هي “مركز الأرض” و نقطة الوصل التي لايمكن ابعادها من الطموحات الدولية.

ويشكل الاتفاق النووي (الغامض) ، الذي توعد ترامب مراراً و تكراراً بالغاءه ، محور تصاعد لهجة التهديد و التوعد بين الطرفين ، و يبدو أن ايران تحاول اختبار آخر ما يمكن أن يفعله ترامب من خلال التجربة الصاروخية الأولى بعد الاتفاق (الذي تم في عام 2015 ضمن ما يعرف دول 5+1) ، واليوم تعلن عن مناورات جديدة مفاجئة تتضمن تجارب مماثلة ، والغاية منها التصعيد أكثر بغية استهلاك “الفورة” التي تحملها الادارة الأمريكية الجديد ، التي يغلب عليها فريق كامل من معارضي ايران حتى النخاع .
وقد يُقرأ التهديد الايراني كما ذكرت آنفاً ، لكن هناك من يقرؤه على أنه مشهد مكرر لماحدث مع الرئيس العراقي الأسبق “صدام حسين” ، الذي أُوهِم أن قوته العسكرية لاتقهر ، في حين أنها كانت على شفا الانهيار نتيجة سنوات الحصار و التضييق و العقوبات . الذي حاول قبل احتلال بلاده رفع نزعة التحدي إلى أقسى الدرجات ، الأمر الذي كان بمثابة بطاقة العبور نحو القضاء عليه .
ايران الخاوية من الداخل و المهلهلة لدرجات لايكشفها الاعلام ، و يمنع عليه كشفها بالأصل ، نتيجة انتهاء أجيال متعاقبة عاصرت ما قبل الثورة الشيعية و الثورة وصولاً إلى التحكم بالبلاد و العباد ، و اليوم تقف ايران أمام أجيال جديدة ، تبحث عن وجودها بعيداً عن “عمائم” لاتفهم أمر على هذه الأرض سوى الخضوع و الخنوع لافكارهم و عقائدهم ، التي يمكن تغييرها وتحوريها وفق ما يشتهي “المارد الفارسي” الذي تخفيه.

اقرأ المزيد
٣ فبراير ٢٠١٧
خامنئي إذ يتحسّر على رحيل أوباما

انتهت الولاية الثانية والأخيرة للرئيس الأميركي باراك أوباما، بينما زعماء الجمهورية الإسلامية في إيران تتآكلهم مشاعر الحسرة على رحيله؛ لقد فشلوا في قطف الثمرة الحقيقية لاستراتيجية هذا الرئيس.

أينما وجّه المرشد الأعلى للجمهورية، علي خامنئي، بصره على خريطة الهلال الخصيب والجزيرة العربية، سيجد عناصر الحرس الثوري يقاتلون بموافقة الأميركيين (سورية - اليمن)، وفي بعض الأماكن تحت إمرتهم مثل (العراق). ليس هذا الأمر جديداً بالنسبة للعلاقة الأميركية الإيرانية المعقدة والبراغماتية، إذ سبق لرئيسٍ من طينة جورج دبليو بوش أن استعان بالإيرانيين لضرب أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003. وبالطبع، لم تمانع النخبة الإيرانية التحالف مع المحافظين الجدد للخلاص من ألد أعدائها. لكن ما عقده بوش الابن بداعي الواقعية، وبهدف نهائي يتمثل في "الوصول إلى طهران"، جاء أوباما ليفعله من باب "الوصل لإيران"، القناعة، الهوى السياسي والإعجاب غير المحدود بالثقافة الإيرانية.

حتى لو افترض المرء أن محادثات الملف النووي والمفاوضات الإيرانية الأميركية السرية في مسقط لم تتطرّق إلى القضايا الإقليمية، فمجرد تأكيد أوباما على ضرورة قبول دول الخليج العربي اقتسام المنطقة مع طهران هو إظهار لجوهر استراتيجية هذا الرئيس للمنطقة... تحويل "إيران الإسلامية" إلى حالةٍ طبيعيةٍ في المنطقة، ورأسمال سياساتها التعديلية في المنطقة إلى مكاسب ونفوذ سياسي واسع، يستند إلى مليشيات طائفية، وعلاقات غير شرعية مع مكونات اجتماعية في الدول العربية داخل الهلال الخصيب، بمعنى آخر "اصطناع" توازن قوى بين العرب والإيرانيين، بين الشيعة والسنة.

والآن، جاء دونالد ترامب لنسف هذه الاستراتيجية. بمجرد أن ارتقى هذا الرئيس سدة الحكم، تآكلت جاذبية طهران بين القوى التي تريد التعاون، أو التواصل مع الإيرانيين. انعكس ذلك سلباً على الدور العُماني، وأيضاً على التحالف الهش بين الحوثيين والرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح.

حرّر وجود ترامب في البيت الأبيض قوىً كثيرة من السيف المسلط على رقبتها: كابوس اتفاق أميركي إيراني. أكثر القوى التي استفادت هي روسيا والسعودية وتركيا ومصر وإسرائيل.

بات في وسع روسيا أن تستجر مزيداً من التنازلات من الإيرانيين في سورية ولبنان. أصبحت السعودية أكثر ارتياحاً في حربها لضمان عودة استعادة الشرعية إلى صنعاء. أما تركيا فلم تعد قلقةً على مصير الموصل. الآن، يبني الجميع سياساتهم، ليس على أساس الخشية من تعاون أميركي إيراني من تحت الطاولة، بل بناء على عداء إيراني أميركي مستحكم.

فقد الإيرانيون الورقة الأكبر التي كانوا يلوّحون بها للدول الكبرى والإقليمية: أوباما. عادوا ليقاتلوا وحيدين في طول المنطقة وعرضها، وسط بيئة عدائية إلى أقصى حد.

مع أوباما، وصل النفوذ الإيراني في المنطقة إلى أوسع مدى له. مع ذلك، عانت إيران خلال الأعوام الثلاثة الماضية من تقهقر حلفائها وحرسها الثوري في جميع المسارح الإقليمية الاستراتيجية. أنقذ أوباما حلفاء الإيرانيين في بغداد. استنجد قاسم سليماني وبشار الأسد بفلاديمير بوتين لوقف تدهور قواتهما في سورية بعد ضربة إدلب، وصد تقدّم المعارضة نحو معاقل النظام في حماة وحمص واللاذقية ودمشق. لبت موسكو النداء.

أظهرت الهزيمة في سورية والعراق حدود القوة الإيرانية الإقليمية. مثلت بداية العودتين، الأميركية والروسية العسكرية، إلى الشرق الأوسط. على الرغم من ذلك، صبّ رفض أوباما المقايضة مع الروس بين سورية وأوكرانيا في صالح الإيرانيين. استغلت طهران هذا الرفض، كي تدفع الروس للذهاب إلى حلب، من أجل تأمين موقع أفضل لموسكو في الصراع مع واشنطن على كييف، ومستقبل أوكرانيا!

ساهمت في تعزيز التحالف بين طهران وموسكو في سورية مخاوف العاصمتين من فوز هيلاري كلينتون بانتخابات الرئاسة الأميركية، ما بدا أنه أكثر احتمالاً في أواسط العام الماضي. بنى الإيرانيون حساباتهم على أن فوز هيلاري كلينتون سيعني استمراراً، بشكل أو بآخر، لسياسات أوباما تجاه الشرق الأوسط، لكن فوز ترامب قلب المقاييس.

تحت وطأة التصريحات المعادية لترامب، ولكبار المسؤولين في إدارته، لم يعد أمام إيران سوى إعادة ضبط استراتيجيتها الإقليمية. قرّرت استباق المواجهة مع الرئيس الجديد. عيّنت سفيراً من الحرس الثوري في بغداد، ولوّحت بإعادة نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء، دافعةً وراء تعيين بهاء العرجي (المنتمي لمنظمة بدر المقرّبة من إيران) وزيراً للداخلية العراقي.

ولأن المواجهة مع ترامب في العراق لا بد أن تتمدّد إلى لبنان، مضت إيران في عملية أستانة. أرادت إيران من مشاركتها في مفاوضات العاصمة الكازاخية تنفيذ خطةٍ من شعبتين. تتمثل الأولى في تقليص وجود عناصر المليشيات العراقية في سورية، وسحب قطاعات منها إلى العراق بهدف إحباط السياسة الأميركية المعادية لها هناك. تتمثل الشعبة الثانية في إعادة توزيع مقاتلي حزب الله بين سورية ولبنان، من أجل التحوط لأي مغامرة إسرائيلية في جنوب لبنان. ولعودة مسلحي حزب الله إلى الجنوب فائدة إضافية، تتمثل في إبقاء ورقة تهديد جدية ضد الإسرائيليين. تتكامل هذه الخطة مع ضغط إيراني على النظام السوري، من أجل إشعال الجبهة الجنوبية بهدف إيصال قوات إيرانية، ومن حزب الله، إلى القنيطرة، بما يزيد أوراق الضغط الإيرانية على الإسرائيليين وحلفائهم الأميركيين.

على أية حال، تبقى الاستراتيجية الإيرانية الجديدة محفوفةً بالمخاطر، نتيجة خطوة أقدم عليها الإيرانيون أنفسهم قبل حوالي العام ونصف العام، عندما طلبوا النجدة الروسية للنظام وقواتهم في سورية. ستترك هذه الخطوة، في الماضي القريب، مناورات طهران الإقليمية تحت رحمة بوتين. بطبيعة الحال، لا ينسى الإيرانيون الصفقات الكثيرة التي عقدتها موسكو على حسابهم. وهم بلا شك قلقون مما يحضّره لهم سيدا البيت الأبيض والكرملين.

اقرأ المزيد
٣ فبراير ٢٠١٧
ترامب والمناطق الآمنة

شكّل إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عزمه إقامة مناطق آمنة في سورية والجوار الجغرافي قنبلة سياسية، دفع كثيرين إلى طرح سؤال أساسي، هو هل جاء الإعلان تعبيراً عن سياسةٍ داخلية لترامب، للحد من قضايا اللجوء والهجرة، خصوصاً في ظل إجراءاته المثيرة بهذا الخصوص، أم أنها سياسة أميركية جديدة تجاه الأزمة السورية؟ قوبل الإعلان بحذر روسي وترحيب سعودي وقطري وتركي، لطالما أن تركيا كانت أول دولة دعت إلى إقامة مثل هذه المناطق، ما دعا بعضهم إلى السؤال عما إذا كان إعلان ترامب سيشكل نقطة تقارب بين أنقرة والإدارة الأميركية الجديدة، بعد أن رفضت إدارة باراك أوباما إقامة مثل هذه المناطق طويلا بحجج مختلفة؟

مع الغموض الذي يحيط بمشروع ترامب لإقامة مناطق آمنة، ثمّة أسئلة كثيرة بشأن كيفية إقامة هذه المناطق؟ وأين ستقام؟ وهل سيلجأ ترامب إلى مجلس الأمن الدولي لإصدار قرار بهذا الخصوص، أم سينفذها من خارج المجلس؟ وماذا عن آليات التعاون مع تركيا ودول الخليج العربي بهذا الخصوص؟ وكيف سيواجه ترامب الاعتراض الروسي على إقامة مثل هذه المناطق؟ وهل سيتم تأمين التغطية العسكرية لحماية هذه المناطق من أي هجوم محتمل للنظام السوري وحلفائه؟

بانتظار اتضاح الأمور والخطط والتفاصيل، والتي ستشكل إجاباتٍ عن الأسئلة السابقة، فإن إعلان ترامب يشكل تحولاً كبيراً في السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية، واشتباكا مسبقا مع التدخل العسكري الروسي في سورية إن كانت تعبر عن سياسة حقيقية، وليست مناورة سياسية رفيعة المستوى. إذ إن إقامة مثل هذه المناطق، وإن كانت بهدف وقف تدفق اللاجئين الذين يعتبرهم ترامب تهديدا لأمن الولايات المتحدة، إلا أنها تعني أن الإدارة الأميركية تستعد لسياسة مغايرة لسياسة الانكفاء التي اتبعها أوباما تجاه الأزمة السورية، وهي سياسة استغلها الروس في فرض واقع ميداني يُبقي النظام. وعليه، فإن إقامة مناطق آمنة، لأسباب تتعلق بوقف الهجرة أو خطوة ضد النظام، ستؤدي إلى تصعيد عسكري مع الروس، وهو ما كان يتجنبه أوباما. مع أن المفارقة، هنا، أن علاقات أوباما الذي ابتعد عن التصعيد مع الروس، وترك لهم حرية التدخل العسكري في سورية، مع موسكو كانت متوترة، ولاسيما في الفترة الأخيرة من حكمه، فيما ترامب الذي يتحدث عن إقامة مناطق آمنة لا يتوقف عن إعلان رغبته في سياسة جديدة تجاه روسيا تقوم على التعاون، بل ثمّة من في أميركا يقول إن وصول ترامب إلى البيت الأبيض كان بفضل التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولعل هذا ما يخفّف من الاعتقاد بأن ترامب سيذهب إلى الصدام مع الروس، وأنه أقرب إلى ممارسة مناورة سياسية. إذ إن منطق ترامب هو منطق المال والأعمال والحسابات والفوائد، وهذا ما يحيلنا إلى قضية تمويل هذه المناطق، وتكلفة حمايتها أمنيا وعسكريا، فضلا عن الحاجات الإنسانية والخدمية للسكان المفترضين من أهالي ونازحين.

ثمّة من يرى أن ترامب قد يجد مشكلةً لقضية تمويل المناطق الآمنة، من خلال دول الخليج العربي التي أبدت استعدادها لدعم إقامة مثل هذه المناطق، وقد سبق أن أشار ترامب إلى دور التمويل الخليجي في هذا الخصوص، إلا أن الإشكالية التي لا تقل أهمية هنا تتعلق بكيفية توفيق ترامب في العلاقة الأميركية بين تركيا ودعم أكراد سورية، إذ ترفض أنقرة هذا الدعم وتنظر إليه بعين الريبة والقلق، كونه يؤسس للمشروع الكردي في المنطقة.

وفي الحديث عن التحديات والإشكاليات والتعقيدات التي تعترض إقامة مناطق آمنة، لا بد من نظرة واقعية إلى حال الانقسام الحاصل في الخريطة السورية جغرافياً، إذ تبدو سورية وكأنها ثلاث مناطق أساسية، تدار كل منها بقوى محلية ودولية، فقسم كبير من الشمال والشرق واقع تحت سيطرة الكرد وحليفهم الأميركي، وقسم آخر من الشمال والشمال الغربي تحت سيطرة الفصائل المسلحة وتركيا، والقسم الثالث الذي يتألف من الساحل والوسط والعاصمة تحت سيطرة النظام وحلفائه. ولعل اللافت هنا أن هذه الانقسامات المناطقية توحي بأن ثمّة تقاطعاً كبيراً بين فكرة إقامة مناطق آمنة وإقامة إدارات حكم محلية، كما أوحت مسودة الدستور التي طرحها الروس أخيراً. وبغض النظر عن هذا التقاطع، فإن ما يجري يوحي بالتأسيس لحكم لا مركزي في سورية أكثر من استراتيجية لإقامة مناطق آمنة.

اقرأ المزيد
٣ فبراير ٢٠١٧
على ماذا ستتفاوض المعارضة مع النظام السوري؟

تتزايد حاجة المعارضة السورية للإسراع في عقد اجتماع عاجل في مدينة ما، يضم من لم تستطع موسكو جمعهم على طاولة واحدة، من منصّات المعارضة المختلفة، في الداخل والخارج، للوصول إلى تفاهمات بينهم، قبل الوصول إلى طاولة التفاوض في جنيف مع النظام.

والسؤال الملح المطروح اليوم على «الهيئة العليا للمفاوضات»، التي تضم أوسع أطياف المعارضة، هو: هل تملك هذه الهيئة رؤى مرنة للتعامل مع ما هو مطلوب منها، وفق تصريحات المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في 31 الشهر الماضي، حيث طلب تشكيل وفد واحد للمعارضة، مهدداً باستخدام صلاحياته في تشكيل الوفد بعد نفاد المدة التي حددها، وهي الثامن من هذا الشهر؟

ولعل ما جاء في خطاب دي ميستورا يتطابق مع البيان الذي صدر من موسكو موقعاً من المشاركين الثمانية الذين لبوا الدعوة الروسية، ومنهم من يعتبر أحد مكوناتها، أي «هيئة التنسيق»، في حين رفض كل من المنسق العام لـ «الهيئة العليا للمفاوضات» رياض حجاب، ومن دعي من «الائتلاف» المعارض، الدعوة الشفهية التي وجهت لهم. حيث يقر الموقعون على بيان موسكو، الذي صدر في 27 الشهر الماضي، بأن اجتماعات آستانة التي ثبّتت اتفاق وقف إطلاق النار، ستنعكس إيجاباً على المسار السياسي المأمول وتنفيذ القرار 2254. ولعل المتفحّص جيداً لمواد هذا القرار يعرف أن المجتمع الدولي مهّد به لتمثيل منصّات عديدة إلى جانب «الهيئة العليا للمفاوضات»، وبناء على ذلك « توافق المجتمعون على توجيه نداء إلى تشكيل وفد واحد عادل التمثيل ووازن ومقبول، ومن دون إقصاء أحد أو هيمنة أحد»، للتفاوض مع وفد النظام في اجتماع جنيف المقترح هذا الشهر.

وفي عودة لمخرجات اجتماع آستانة، الذي جمع «القوى المسلحة»، يمكننا ملاحظة أن كل طرف (أي النظام والمعارضة) يعتبر أنها جاءت متوافقة مع ما يعزّز موقعه في معركة التفاوض، ويضعه أمام جمهوره منتصراً. إلا أن الحقيقة تفيد أيضاً بأن النظام السوري مني بهزيمة موجعة في المؤتمر، تمثلت بانهيار خطابه الإعلامي، المرتكز على أنه خلال السنوات الست الماضية كان يواجه فصائل وجماعات إرهابية ثابر ليضعها على قائمة الإرهاب الدولية، فإذا به يجلس معها في قاعة واحدة، ويبدو في ذلك كمن هو مضطر للموافقة على البيان الصادر، أو السكوت عنه، على رغم أنه يقضي على كل ما تبقى من سيادته على جيشه، حيث روسيا وإيران معاً هما الضامنتان لتنفيذ بنود الاتفاق، تبدوان كدولتين تتحكمان بمصير سورية ونظامها.

على الجهة المقابلة، تضمنت وثيقة آستانة خسائر بالجملة للمعارضة السورية أيضاً، بشقيها السياسي والمسلح، حيث اضطرت الفصائل للقبول في شكل أو آخر بتحديد طبيعة الدولة السورية، «دولة ديموقراطية، متعددة الإثنيات، متعددة الأديان، غير طائفية» وهو الأمر الذي كان يجب تركه لمحادثات جنيف، وليس التعامل معه بشكلياته من دون إسقاطاته السياسية، التي يجب أن تكون مبنية على التوافقات السياسية بين المكونات السورية جميعها، وليس بين المتصارعين عسكرياً.

واضح أن روسيا على ما يبدو في البيان - حاولت التشويش على المرجعيات الدولية للقضية السورية مختصرة النضالات الديبلوماسية للمعارضة السياسية بالقرار 2254 فقط، وهو الأمر الذي استدركته في بيان موسكو الأخير في محاولة لاسترضاء المجتمع الدولي من جهة، والتقرب من «الهيئة العليا» من جهة ثانية. وربما بالموافقة على الحضور بداية، والتوقيع ختاماً، فقد وضعت الفصائل العسكرية المعارضة كلا من روسيا وإيران في موضع متساو مع تركيا، الدولة الصديقة للمعارضة، مسقطة بذلك الدور القتالي والتدميري للدولتين المذكورتين في سورية، وقابلة بوجودهما من خلال عملهما كضامنتين ومراقبتين على تنفيذ الاتفاق.

ما تريده موسكو والنظام وإيران فعلياً من الفصائل هو انضمامها للحرب على الإرهاب، وقد تحقق لها ذلك، بل بدأت علاماته في الميدان بالشروع بمحاولة تصفية مباشرة لجبهة «فتح الشام» (النصرة سابقاً)، وفي حال تحقق ما يتم الحديث عنه، بخصوص انعقاد مؤتمر جديد في مدينة يمكنها أن تجمع كل أطياف المعارضة من دون تحفظ، قبل اجتماع جنيف المقترح في 20 هذا الشهر، والذي تم تأجيله بناء على توافقات أميركية روسية أممية، والذي كان قد أعلن عن تأجيل موعده المقترح في 8 الشهر، من جانب وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي لا ينطق عن هوى، ما يضعنا أمام انقلاب على مستويين:

- عسكري، حيث تتجمع الفصائل كنواة صلبة مع بعضها بعضاً، لاغتنام فرصة انزياح الحل حسب رغباتها وبشروطها، التي تفرضها على الطرف الذي تجلس إلى جانبه (أي المعارضة) وليس فقط على الطرف المقابل لها (أي النظام). مما يجعلنا نتوقع مجلساً عسكرياً مشتركاً قريباً.

- سياسي، توحي به عبارة مررت عن قصد في بيان آستانة تقول: «أن الصراع يمكن حله فقط من خلال عملية سياسية»، بمعنى أنه ليست هناك عملية انتقال سياسي تستند إلى بنود إعلان جنيف1 و2، وهنا أمام المعارضة السياسية خياران أحلاهما مر، ليس لأنها ستقبل بتوسيع وفدها ليضم ممثلين عن الإدارة الذاتية (الكردية)، أو معارضة موسكو ورندة قسيس، إضافة الى منصة القاهرة وتيار «بناء الدولة»، اللذين كانا موجودين على قائمة اجتماع الرياض الذي أنتج «الهيئة العليا للمفاوضات»، بل لأن على المعارضة السياسية متابعة ما بدأه العسكر، بدل أن يكون العكس هو ما يتم تنفيذه الآن، وفق خطة الانتقال السياسي التي عملت عليها خلال سنوات، وحققت لها مرجعيات دولية، تعتبر موسكو أنها أسقطتها عنوة، ولكن بديبلوماسيتها الناعمة في مؤتمر آستانة في 23 كانون الثاني (يناير) الماضي.

وإذا كان المطلوب من «الهيئة العليا» المرونة في أقسى حالاتها، فعلى هذه المنصات أيضاً أن تعلن مبادرتها للانطلاق نحو تفاهمات مشتركة ليس فقط على أسماء من سيفاوض النظام، (وفد المعارضة الواحد)، بل على ماذا سيكون التفاوض مع النظام، ولعل هذا هو البند الأهم الذي يوجب الاجتماع المشترك، والذي لن تفصلنا عنه سوى أيام إن لم تكن ساعات.

بين مؤتمر آستانة ومن ثم موسكو وقد مضيا، وعاصمة جديدة تطرحها عناوين الأخبار، ثمة صمت في العواصم العربية طال فهل ينتهي، لتكون إحداها مكاناً يمكن من خلاله الحديث بلغة أقرب إلى واقعنا، وأكثر تفهماً لآلام شعب تشرد نصفه، ومنع من دخول بلاد الله الواسعة، وقتل منه نحو نصف مليون، وعدد معتقليه يناهز مئات الآلاف، و85 في المئة منه ضمن خط الفقر، وخمسة ملايين بحاجة للإيواء؟

اقرأ المزيد
٣ فبراير ٢٠١٧
زمن مفاجآت ترامب وتحالفات بوتين

سجّلت الأيام العشرة الأولى من عهد الرئيس دونالد ترامب تنفيذ وعوده الانتخابية، فعطّل العمل الحكومي المعتاد وخلق اختلالاً هزَّ واشنطن وعواصم العالم. أمسك الرئيس الجديد بقلمه السحري ووقَّع على أوامر مدهشة مستفيداً من صلاحياته التنفيذية ومتعمّداً استباق تسلم وزرائه حقائبهم وبدء عمل الإدارة الأميركية كفريق تقليدي. الجيد والمفيد هو أن دونالد ترامب حسم الجدل حول ما إذا كان سيتأقلم مع منصب الرئاسة، وأوضح أنه عازم على تفعيل كل ما تعهّد به أثناء حملته الانتخابية، وهكذا قطع الطريق على الافتراضات والاجتهادات حول مَن هو وماذا سيفعل. والمخيف الذي يدب الرعب في قلوب الكثيرين هو أن دونالد ترامب قد يأخذ الولايات المتحدة حقاً إلى الانفراط وقد يأخذ العالم إلى عاصفة تلو الأخرى، فينهار النظام العالمي من دون أن يكون تم إعداد البديل عنه. قد يقال إن المقاومة الدخلية لأوامر وإجراءات دونالد ترامب ستجبره على إعادة النظر والتراجع. إنما ترامب، من جهته، يراهن على الوهن الذي سيُتعِب ويُحبِط المعارضين له وهم يلهثون معارضين لإدهاش يلي إدهاشاً، فيخضعون للأمر الواقع. بالطبع، لقد ازداد الكلام بعد مرور عشرة أيام على حكم دونالد ترامب – عن حتمية إنزاله من السلطة عبر محاكمته «امبيتشمانت» لأن أميركا لن تسمح له أن يفككها أو أن يجرها إلى حرب أهلية أو أن يُفقرها أو أن يقلص نفوذها العالمي ويقدم مرتبة العظمة للصين وروسيا. الداعمون لدونالد ترامب يقهقهون ويتوعدون أولئك الذين يحلمون بإسقاطه من الرئاسة، بل إنهم واثقون أن ترامب سيجعل أميركاً فعلاً «عظيمة مجدداً» وأن واقعيته السياسية في علاقاته الدولية ستبني نظاماً عالمياً جديداً وتحالفات غير مسبوقة ستسفر عن ازدهار أميركي وعالمي. روسيا محورية في حسابات دونالد ترامب، الذي يقول المقربون منه: لن ينطلق بالعلاقات معها على أساس الحجج والمقاييس الأخلاقية، وإنما على أساس «ما يستلزمه إبرام الصفقة». فهذا «رجل الصفقات» حتى وهو رئيس الولايات المتحدة. ووفق الذين يعرفونه جيداً، سيضع دونالد ترامب «الواقعية» فوق «الأخلاقية» وهو يبني التحالفات الضرورية، ويغيّر السياسات كتلك التي نحو إيران وسورية، ويفصِّل العالم إلى حليف يسند الولايات المتحدة وتسنده وآخر خارج معادلة «سند الظهر» يدفع ثمن مواقفه.

السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، استهلت مهماتها بإبراز العزم على «إظهار قوة» الولايات المتحدة وتوعدت كل من «لا يساندنا» بعواقب تناسب أفعالهم. تحدثت عن أن «هدفنا أن نساند حلفاءنا، ولكن أن نتأكد أن حلفاءنا يساندوننا أيضاً»، وقالت: إن الإدارة الجديدة ستركز أكثر على العلاقات الثنائية على حساب العلاقات المتعددة الأطراف. أثارت نيكي هايلي الاستغراب عندما قالت: «الذين لا يساندوننا، سنسجل أسماءهم وسنحرص على الرد عليهم بما هو مناسب، وهذا الوقت هو للقوة وللعمل ولإنجاز الأعمال». فهذه لغة بعيدة من الديبلوماسية تنطوي على التهديد. إنما السؤال هو، من هم حلفاء الولايات المتحدة في زمن دونالد ترامب، لا سيما أنه اتخذ إجراءات تخص الجدار مع المكسيك فعاداها، وأصدر أوامر تمنع السفر من 7 دول ذات غالبية إسلامية وأخرى تقفل الباب في وجه اللاجئين، فأثار انتقادات جاره الآخر، كندا، وكذلك حلفاء الولايات المتحدة عبر الأطلسي بما فيها بريطانيا المهرولة إلى صداقة مميزة مع الإدارة الجديدة.

مصدر مقرب من تفكير أقطاب رئيسيين في الحلقة الضيقة للرئيس دونالد ترامب قال: «إننا عازمون على مساعدة من يساعدنا حقاً ويثبت جدواه. في الشرق الأوسط، هذا يضم السعودية ومصر والأردن والإمارات». وتابع: «في الوقت ذاته، سنقوم بإدانة من نصنفهم في مرتبة المنبوذ مثل إيران وسورية». باختصار، تابع المصدر: «المعادلة واضحة: كن حليفاً صادقاً، ونحن جاهزون للمساعدة في المقابل».

كان لافتاً ما قاله المصدر حول الرغبة بأن «تساعدنا السعودية في ضبط إيران»، من دون ان يتوسع. إدارة ترامب تريد أيضاً من السعودية المشاركة الفعلية المكثفة لمنع تمويل الإرهاب ليس بالضرورة علناً طالما تفعل ذلك بإجراءات حازمة سراً. خلاصة الأمر أن السعودية ستكون أكثر قرباً وتقارباً مع الولايات المتحدة، وفق المصدر الرفيع.

مع إيران، ما تنوي إدارة ترامب أن تفعله هو التنفيذ الصارم للاتفاق النووي، وليس تمزيقه. تريد تكثيف المراقبة الدقيقة لكل شاردة وواردة، فإذا قامت إيران بانتهاك الاتفاق، سيسقط الاتفاق وسنقفز إلى المحاسبة، قال المصدر مؤكداً العزم على إجراءات.

كيف ستعدّل إدارة ترامب المواقف الأميركية إزاء توسّع إيران في الدول العربية، بالذات في العراق وسورية واليمن ولبنان؟ ليس واضحاً تماماً بعد أن كانت إدارة ترامب ستتبنى مباركة إدارة أوباما للتوغل الإيراني في سورية والعراق باسم مكافحة الإرهاب والتعاون العسكري ضد «داعش» وأمثاله. هناك تلميحات بأن التغيير قد يأتي عبر البوابة اليمنية، إنما ليست هناك سياسات متكاملة بعد توضح إن كانت العلاقة الأميركية– السعودية الوثيقة المنتظرة ستنعكس في ملف اليمن بالدرجة الأولى، وكيف. واضح أنها لن تنعكس في سورية.

روسيا هي اللاعب الأهم في سورية وإدارة ترامب جاهزة لعقد الصفقة معها على أساس «الأخذ والعطاء» طبقاً لفن الصفقات والعمليات التجارية وليس استناداً إلى الحجة الأخلاقية كما فعلت إدارة أوباما. ويشير المصدر إلى أن سياسة الرئيس السابق باراك اوباما القاضية بضرورة رحيل بشار الأسد كانت «سياسة بالاسم فقط»، ولم «تدخل أبداً حيز التنفيذ». ويتابع: «بشار الأسد ما زال موجوداً. هذا واقع. وبناءً عليه، ستكون السياسة الجديدة مبنية على الإقرار باستمرار وجوده إنما مع تصنيفه منبوذاً، والعمل على عزله».

بكلام آخر، ووفق التفكير في إدارة ترامب «لقد تبنى أوباما سياسة تعارضت مع الواقع. أما ترامب فإنه ينظر في تغيير السياسة المعلنة لتتطابق مع الواقع». بوضوح أكثر، ستتخلى إدارة ترامب عن سياسة تغيير النظام في سورية وستتبنى بدلاً منها سياسة «عزل الأسد»، وفق المصدر، أي أن «التغيير سيكون فقط في السياسة المعلنة بحيث نعترف بما هو واقع»، إنما مع استمرار «إجراءات العزل وتكثيفها لأن هذا الرجل ارتكب جرائم حرب ضد شعبه وسيبقى منبوذاً».

الرهان هو على التوصل إلى صفقة تؤدي إلى «انسحابه إلى منفى» أو إلى التحاق روسيا بمساعي عزل الأسد، إذا تبين لها أن السياسة الأميركية لم تعد تريد «تغيير النظام»، وفق المصدر المطلع. إنما المفاوضات الأميركية– الروسية لم تبدأ بعد ومن المبكر التدقيق في عناصر الصفقة الكبرى التي قد يريد كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس دونالد ترامب إبرامها – فالأمر أكثر تعقيداً من مجرد ملف سورية أو حتى ملفي سورية وأوكرانيا معاً. إنها صفقة المصالح الكبرى ولن تكون بالضرورة سهلة أو قريبة. في هذه الأثناء، تستمر روسيا في إدارة ملف سورية سوية مع تركيا وإيران فيما يستمر التغيب العربي الملحوظ عن المسألة السورية تحت عذر معارضة اختطاف روسيا للملف السوري من مجلس الأمن ونقله إلى آستانة، عاصمة كازاخستان.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس اعتبر مشاركة الأمم المتحدة في مؤتمر آستانة تأكيداً على تمسكها بمسار العملية السياسية، مشدداً على أن البحث الفعلي لهذه العملية سيتم في 20 الشهر الجاري في جنيف تحت رعاية مبعوثه ستيفان دي ميستورا. قال إن العملية الانتقالية للحكم في سورية التي أقرها بيان جنيف «ستكون من القضايا المركزية» التي ستبحث عندما يجمع دي ميستورا السلطة والمعارضة. دي ميستورا من جهته أنذر المعارضة بأنها في حال لم تتفق على تشكيل وفد موحد شامل التمثيل ومتوازن، فإنه سيتصرف ويقوم هو بتشكيل الوفد طبقاً للصلاحيات الواردة في قرار مجلس الأمن 2254. هذا التصريح أثار حفيظة أقطاب المعارضة السورية المبعثرة بين تخلي تركيا عنها لتكون شريك روسيا وإيران كـ «ضامن» لوقف النار والحل السياسي، وبين تخلي الدول الخليجية وفض يدها من المسألة السورية، وبين تلميح في سياسة الإدارة الأميركية الجديدة بالتضحية الصريحة بالمعارضة السورية الممثلة بالإئتلاف وبالجيش الحر مع تنمية قدرات «قوات سورية الديموقراطية» التي حصلت من إدارة ترامب هذا الأسبوع على مدرعات وتعزيز القدرات في حملة تحرير الرقة من عناصر «داعش».

المشاريع ما زالت متضاربة في سورية، بالذات المشروع الروسي والمشروع التركي والمشروع الإيراني، علماً أن أي مشروع خليجي بات اليوم في خبر كان. ليس واضحاً ماذا جد بين روسيا وإيران في شأن التضارب الواضح في مشروعيهما، حيث أن روسيا تريد نظاماً قوياً في دمشق وتريد انسحاب كل القوات الأجنبية بما فيها تلك التابعة لإيران، بينما إيران تريد بقاء نفوذها داخل سورية بقوات غير نظامية على نسق «الحرس الثوري». هذه الأمور مؤجلة إلى «وقت لاحق» وفق ما قال غوتيريس، مشيراً إلى أن مسألة انسحاب القوات الأجنبية من سورية «تشمل كل القوات» من دون استثناء. الواقع على الأرض يفرض نفسه، وهناك تزاحم على فرض الأمر الواقع في سورية تهيئة للمفاوضات، على الصفقات.

فكل شيء وارد في زمن المفاجآت غير التقليدية التي وعد بها دونالد ترامب وفي زمن التحالفات غير الاعتيادية التي يتهيأ لها فلاديمير بوتين مع دونالد ترامب. والكل يتموضع بصورة أو بأخرى في رمال متحركة وسط أكثر من زلزال.

اقرأ المزيد
٣ فبراير ٢٠١٧
في ذكرى مجزرة حماة .. المردود العكسي لسياسات النظام الداخلية

إن ما تعيشه سوريا اليوم من قتل و تدمير هو نتاج لتاريخ من القمع و التنكيل و التهميش و الاستفراد و الاستقصاء و التحكم بمقدرات الشعب بشكل مستبد و إرهابي مارسه النظام منذ أكثر من 40 عاماً عندما قام حافظ الأسد، وزير الدفاع آنذاك، بانقلابه في عام 1970 وتولى مقاليد الحكم، حيث بدأ الفساد ينخر في جسد الدولة لاستغلال الرئيس منصبه ليقرب طائفته من سدة الحكم بعد السيطرة على الجيش والأمن وفرض الدولة الأمنية القمعية ،مما أدى ذلك إلى تزايد السخط في البلاد، بين كافة فئات المجتمع وشرائحه الاجتماعية والدينية وبعض الجماعات السياسية المتضررة من الحكم الطائفي البغيض ، ناهيك عن استغلال النعرات الاجتماعية والطائفية بين مكونات المجتمع السوري ، شكل كل هذا الإحباط التربة الخصبة للرفض الشعبي للحكم الجديد ، وبقيت هذه الأوضاع تتنامى إلى أن انفجرت عام 1982 م في مدينة حماة بعد أن ارتكب نظام الأب حافظ مجازر متعددة في كل من حلب ودير الزور وإدلب لتكون مجزرة حماة أشدها وأكثرها هولا .

ابتدع يومها النظام طريقة فريدة للإرهاب و الاعتداء على المواطنين و حرمة مساكنهم، واختطاف نسائهم وأعراضهم، والسطو على أموالهم وممتلكاتهم، وقتل الأزواج وتشريد العائلات، و التمثيل بهم، أمام الزوجات والأولاد، كما فعل بداية الثورة في مجزرة الحصوية ومجزرة الحولة .

أقدم النظام على هذه الجرائم تحت اسم "تمشيط المدن والقرى" إذ تقوم الحوامات والدبابات والقوى المحمولة بتطويق المدن والقرى التي يراد تمشيطها ويؤمر الناس بمنع التجول والمكوث في بيوتهم وتقسم المدينة إلى قطاعات تتولى كل قطاع مجموعة كبيرة من الجنود والوحدات الخاصة وسرايا الدفاع وعناصر المخابرات والكتائب الطائفية، ويستبيحون كل شيء في أثناء "التمشيط"، يسرقون وينهبون ويدمرون ويعتدون على الناس والحرمات والمقدسات، ويقتلون كل من يرفع صوته محتجاً على هذه الانتهاكات، وكثيراً ما أبادوا أسراً كاملة، وقطّعوا أيدي النساء وأصابعهن من أجل الأساور و الحلي الذهبية.. يسحلون من يُقتلون بالسيارات والدبابات أمام الناس لنشر الذعر والرعب والإرهاب في قلوب المواطنين حيث تعرضت مدن و قرى القطر للتمشيط، فمشطت حلب مرتين، ومشطت حماة تسع مرات.

دامت المجزرة 27 يوماً بدءاً من 2 شباط 1982 م، نفذ نظام الأسد الأب خلالها ما يمكن تسميته بالوأد الجماعي، فحوصرت المدينة بعدد من الوحدات العسكرية { اللواء (47) دبابات ، واللواء (21) دبابات ، والفوج (41) إنزال جوي ، واللواء (138) من سرايا الدفاع ، واللواء (142) دبابات من سرايا الدفاع ، والفرقة الانتحارية (22) من سرايا الدفاع ، والفوج (114) مدفعية ميدان وراجمات صواريخ ، وعشرات الطائرات المروحية }

قصفت المدينة بالمدفعية الثقيلة قصفاً عشوائياً، تمهيداً لاقتحامها بالدبابات والآليات، لتخوض فيه عناصر سرايا الدفاع والوحدات الخاصة حرب الشوارع ضد المواطنين العزل

رافق كل ذلك تعتيم إعلامي شديد في الداخل والخارج، ليدفع قوى المعارضة إلى ما يشبه اليأس

أخفى حقيقة حقده الطائفي عن أبناء الشعب في بقية المحافظات وعن الرأي العام العربي والعالمي، إلى جانب اعتماد السلطة العسكرية على البطش المفرط و العشوائي، ليكون الأداة الفعالة في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية والنفسية ضد المواطنين في آن واحد.

تلا ذلك زج الكثير من المواطنين من أبناء المدن في السجون بصفة السجناء السياسيين الذين أودعوا في السجون العسكرية عشرات السنين, وأنزل عقوبة الإعدام بكل مواطن ينتمي أو يشك بانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين التي تصدرت المشهد يومها على الرغم من وجود الحاضنة الشعبية من غير الإخوان ، عدا عن المفقودين الذين لا يعرف أهلهم هل هم أحياء أم أموات، وبدلاً من أن يتخذ نظام الأسد الأب الإجراءات الكفيلة بالحد من آثار المجزرة وتداعياتها على سكان المدينة المنكوبة والمجتمع السوري بشكل عام، والتحقيق في أعمال التنكيل التي وقعت ضد الأهالي، فقد عمد إلى مكافأة العسكريين الضالعين في ارتكاب الجرائم ومن بين هؤلاء القاتل المجرم أخيه الذي عُين نائباً لرئيس الجمهورية لشؤون الأمن القومي، و تعيين محافظ حماة آنذاك محمد حربة في منصب وزير الداخلية.

كانت تلك الإجراءات بمثابة استهتار مروع من قبل الحكومة بالمشاعر العامة، وتأكيد واضح على استمرار منهجية القوة بدلاً من الحوار في التعاطي مع الشؤون الداخلية.

سار نظام الوريث بشار على خطى أبيه باعتماده القتل أسلوبا وحيدا لإبعاد معارضيه ، ونحن على أعتاب الذكرى السادسة للثورة السورية المباركة.

عقم النظام عن انتاج أساليب جديدة للقضاء على معارضيه فيما أنتجت حمامات الدم من أبناء سورية الذين قضوا على أيدي هذا النظام .

فهو رغم استباحته لكافة المدن السورية كما استباح مدينة النواعير من قبل إلا أنه أخفق في تحقيق أهدافه ، بل أعطت تصرفاته الإجرامية مردودا عكسيا يذكرنا برثاء أمير الشعراء أحمد شوقي لشيخ الشهداء عمر المختار فبقتله زرع قاتلوه بذور الثورة والتمرد ضدهم:

رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواءَ     يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساءَ

يا وَيحَهُم نَصَبوا مَناراً مِن دَمٍ     توحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ

جُرحٌ يَصيحُ عَلى المَدى وَضَحِيَّةٌ     تَتَلَمَّسُ الحُرِّيَةَ الحَمراءَ

 

اقرأ المزيد
٢ فبراير ٢٠١٧
تغيير قِيَم أميركا... أبرز «انتصارات» الإرهاب

لا يزال الاعتقاد الأكثر شيوعاً عن الإرهاب، مجسّداً بتنظيمَي «القاعدة» و «داعش» وما تفرّع عنهما، أنه يسعى إلى إقامة «الدولة الإسلامية» أو «دولة الخلافة» أو في حدٍّ أدنى إلى فرض «الحكم بشرع الله». أما الاعتقاد الآخر الأكثر شيوعاً فهو أن هذه الأهداف غير قابلة للتحقيق، لا بالحمولة العقائدية ولا بتطبيقاتها الدموية والقهرية. فالنموذج الإيراني لـ «الدولة» الموصوفة بـ «الإسلامية» ساد في الداخل باستخدم القمع والترهيب واستنساخ أساليب سوفياتية وصينية وكورية شمالية لسحق الشعب وإماتة طموحاته، واستنبط بالشحن المذهبي وميليشياته نمطاً من «الفتوحات» الخارجية قائماً على اختراق المجتمعات وضرب أسس تعايش الأديان والأعراق فيها، فضلاً عن استلاب الأنظمة وإلغاء الجيوش وإفساد الأمن وتجاوز الدساتير والقوانين. أما «دولة الخلافة» التي أقامها «داعش»، المنبثق من «القاعدة»، المتحدّر بدوره من تجربة «الأفغان العرب»، فبدت مُستَلهَمة من تجربة حركة «طالبان» والنظام الذي فرضته على أفغانستان قبل أن تزيله الولايات المتحدة مستندةً إلى تحالف دولي عريض، والأرجح أن المصير ذاته ينتظر «دولة داعش»، ولو أن فلولاً بقيت لـ «طالبان» وقد تبقى لـ «داعش» في سورية والعراق، كما هي حال «القاعدة» في اليمن وباكستان وإيران والصومال منذ طرده من معاقله الأفغانية.

قد يلتقي النموذجان الإيراني و «الداعشي» موضوعياً أو يفترقان، وقد يتعاونان أو يتحالفان. الفارق بينهما أن إيران دولة و «داعش» مجرّد تنظيم، والدولة تستخدم التنظيم ولا يستطيع التنظيم أن يستخدمها، بل إنهما قد يقتتلان متى رأت الدولة أن صلاحية استخدام التنظيم في صدد الانتهاء، كما هو حاصل في الموصل. ثم إن هذه الدولة، إيران، التي شرعت أخيراً في التواصل مع عدوّ لدود سابق هو «طالبان»، لم تتردّد في اعتماد فلول «القاعدة» التي تؤويها كقنوات اتصال مع تنظيم «داعش» لتمكينه وتوجيهه، ولم تعدم سبل تعايش مع «جبهة فتح الشام - النصرة سابقاً» التي أبصرت النور من خلال مبايعة علنية لزعيم «القاعدة»، فهذه «الجبهة» تشكّل مع «داعش» وسيلتين لإحباط أي حلّ للصراع السوري ورأس حربة المقاومة الإيرانية - الأسدية للترتيبات الروسية - التركية في سورية. وأبرز ما يلتقي عليه هذا الرباعي أن أطرافه كافةً (النظامان الإيراني والسوري وتنظيما «داعش» و «النصرة») تتخذ من الإرهاب وسيلة لاستكمال تدمير سورية والتحكّم بوجودها ومستقبلها كدولة موحّدة، بمعزل عن نيات روسيا ومشاريعها. وتكرّر إيران مع «الحشد الشعبي» و «داعش» السيناريو ذاته في العراق، حتى في ظل الدور الأميركي.

وإذ يلتقي النموذجان، الإيراني و «الداعشي» - «القاعدي»، على عداء علني للغرب الأميركي وعلى خطاب تتنوّع التفافاته اللغوية إلا أنه يختصر رسالته بـ «إعلاء شأن الاسلام والمسلمين» وبـ «إلحاق الهزيمة بأميركا»، وهي غايات حققت بالأحرى حتى الآن عكس ما توخّته، لذلك تعزّز الانطباع لدى عموم السوريين والعراقيين ومعظم الشعوب العربية بأن ما يحصل هو تواطؤ جمعي أو على الأقل نتيجة التقاء مصالح أتاحه «داعش» بظهوره وانتشاره اللذَين لا يزالان لغزاً أضافت إليه توسّعاته وتجاراته مزيداً من الغموض. إذ شكل التنظيم دافعاً لاقتراب أميركا من ساحة سورية حاذرت إدارة باراك أوباما التعامل معها، ثم ذريعة رسمية للتدخّل الروسي المباشر المتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مكوث طويل في سورية، وقبل ذلك ساهمت إيران في تصنيعه ومدّه نظام بشار الأسد بتسهيلات ثم اتخذاه عنواناً لتحالفهما في الحرب على «التكفيريين» بديلاً واستكمالاً لحربهما ضد «المؤامرة الكونية».

عندما اختصرت هذه الأطراف، ومعها أطراف أوروبية وعربية، المسألة السورية بأنها مفاضلة بين الأسد و «داعش» بدا الخيار محسوماً لمصلحة رأس النظام. فمن لديه دولة يمارس باسمها القتل بالسلاح الكيماوي واقتلاع السكان بالمجازر وبمحاصرة المدن وتدميرها بعد تجويعها يبقى أكثر قبولاً في نظر المجتمع الدولي من تنظيم يدّعي «دولةً» ويقطع الرؤوس ويحرق أسراه بالنار ويفجّر المنشآت. والواقع أن تحرّكات التنظيم أظهرت في كل المراحل أنه قاتل المعارضة أكثر مما حارب النظام، بل إنه اتّبع تكتيكات الفصائل المسلحة في الاستيلاء على المناطق، ما دعم الحجة التي دفعت روسيا بها أخيراً حين ذكّرت الأسد بأنها أنقذته وأنقذت سورية من السقوط في أيدي الإرهابيين. لم يسبق لـ «إرهاب الدولة» وارهاب «المجموعات غير الدول» أن وجدا بيئة مناسبة يتناغمان فيها كما هي حالهما في سورية، ولا سبق لهما أن التقيا ضد «عدو» واحد كما يفعلان بكل وحشيتهما حيال الشعب السوري.

من المؤكّد أن «داعش» يقترب من الهزيمة في العراق، وقد يلقى المصير ذاته في الرقة بعد شهور، لكن الإرهاب يضمن بقاءه في سورية عبر نظام الأسد طالما أن القوى الخارجية تواصل دعمه، ويضمن بقاءه في العراق عبر هيمنة إيران وميليشيات «الحشد الشعبي». غير أن الإرهاب أنجز منذ زمن أحد أهم انتصاراته التي طيّر بها صواب الدولة العظمى الوحيدة وكان أحد أسباب تراجع الهيبة الأميركية وما سمّي «أفول الغرب»، وأحد الدوافع وراء بحث دونالد ترامب عن استعادة «عظمة أميركا». كانت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي آخر من تحدّث عن عوامل التراجع. ففي خطابها أمام خلوة الحزب الجمهوري في فيلادلفيا، عشية لقائها مع ترامب، قالت أن «أفول الغرب» و «صعود الصين» حصلا بالتزامن مع: الأزمة المالية، و «فقدان الثقة» بعد هجمات 11 سبتمبر، والحربين في أفغانستان والعراق، مستخلصة أن استعادة أميركا (وبريطانيا) قيادة العالم مشروطة بعدم العودة إلى «السياسات الفاشلة» وأن أيام تدخلات أميركا وبريطانيا في دول ذات سيادة «لإعادة صنع العالم على صورتهما» قد ولّت.

كان إرهاب «القاعدة» عام 2001 الاختبار الأهم الذي تحدّى أميركا على أرضها واستفزّ جورج بوش الابن وإدارته، وبدا منطقياً أن يتعامل معه كما فعل الرئيس فرانكلين روزفلت مع الهجوم الياباني على بيرل هاربر عام 1941، أي بالذهاب إلى حيث يوجد تنظيم «القاعدة» لمعاقبته ومسحه عن وجه الأرض. لكن بدت أفغانستان هدفاً متاحاً وسهلاً وغير كافٍ أو متناسب مع المستوى الذي تريده أميركا لثأرها، ومع إضافة هدف آخر هو العراق بدأ الاختلال الأميركي في الداخل وحتى في مجتمعات الدول الحليفة في الخارج. وبمعزل عن المسوّغات أو التلفيقات التي سيقت لتبرير غزو العراق واحتلاله فإن الأعوام التي تلته أظهرت الدولة العظمى غارقة في مسار أقرب إلى العشوائية وفي صراع غير متكافئ مع تنظيم إرهابي لا يحقق فيه أي طرف انتصاراً حاسماً.

لا شك في أن ما حصل بعد 9 - 11 أضعف «القاعدة» وكبّده خسائر هائلة، لكنه تنظيم وليس دولة، لا هو مسؤول عن شعب وأرض وحدود، ولا هو ينشغل بإحصاء قتلاه. والأكيد أنه عندما خطّط لهجماته لم يحسب نتائجها التي فاقت لاحقاً توقّعاته، كما أنه لم يوصّف أهدافه ولو فعل لما استطاع أن يتصوّر ما تحقق سواء بفعل أخطاء واشنطن خلال الاحتلال، ليس في العراق فحسب بل في عموم المنطقة، أو بفعل أخطاء الانسحاب أواخر 2011 وما تلاه من سياسات أثبتت استمرار الاختلال في الأداء الأميركي إلى حدّ أن انكفاء إدارة باراك أوباما توصّل إلى نتائج أسوأ من تلك التي سجّلتها تهوّرات إدارة بوش الابن. وإذ ذكّر أوباما أخيراً بقتل أسامة بن لادن كأحد أهم إنجازاته فمن الواضح أن ستة عشر عاماً بعد الهجمات الإرهابية والحربَين والأزمة المالية واستمرار صعود الصين وعودة روسيا إلى الواجهة جعلت المجتمع الأميركي في مزاج آخر تماماً. أميركا التي لم تعد أميركا التي يعرفها العالم مهّدت لمجيء دونالد ترامب، متفلّتاً من القيم ومن الواجبات، محاولاً تجاوز «السياسات الفاشلة» ونسيانها، لكنْ متمسّكاً بالصراع المستمر مع الإرهاب ومتوعّداً بسحقه. وكلما زادت أميركا منسوب القوة ضد الإرهاب كتبت له بدايات جديدة.

اقرأ المزيد
٢ فبراير ٢٠١٧
في إخفاق انتفاضاتنا وحداثتنا من منظور مختلف

هل كان من المفاجئ أن تنتهي الانتفاضات العربية إلى ما آلت إليه من خذلان وخيبات، أم أن ثمة خللاً أساسياً في منطلقاتها وأهدافها والرؤية الأيديولوجية الناظمة لها، دفع بها في هذا الاتجاه وأوصلها إلى مأزقها الحتمي؟

الذين يأخذون بفكرة المفاجأة لا يرون في الثورة إلا انقلاباً على حكومة لاستبدالها بأخرى قد تكون أكثر سوءاً، أو إسقاطاً لرئيس لصالح آخر أشد وطأة واستبداداً، فهم في الثورة على ما رأى النهضوي أديب اسحق "دعاة زعيم وعصاة زعيم لا ينشطون بها من عقال، إلا ليربطوا بآخر من مثاله أو أشد".

ولو أخذنا في الاعتبار المسار التاريخي للحراك السياسي والاجتماعي العربي لرأينا فيه ما هيأ لحالة الارتباك والضياع الراهنة، وإرساء كل الشروط التأسيسية لسقوط الانتفاضات العربية واندحارها. لعل أول هذه الشروط إخفاق الإصلاح السياسي العربي والاستعصاء التاريخي لقيام دولة الحداثة، دولة القانون والمؤسسات والمساءلة الدستورية، تلك التي طرحها النهضويون العرب منذ ستينات القرن التاسع عشر، وبقيت حلماً لكل دعاة التقدم والإصلاح، فيما الواقع العربي يزداد تدهوراً وتتفاقم أزماته عاماً بعد عام.

يحضر هذا الهاجس بشدة فيما نحن نتابع التحقيق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو للاشتباه بتورطه بقضايا فساد، وتلقيه وزوجته هدايا من مؤيدين أثرياء في شكل غير قانوني، فضلاً عن تورط قريبه ومحاميه في صفقة شراء إسرائيل غواصات ألمانية، الأمر الذي يضع مستقبله السياسي على المحك في حال ثبوت أي من هذه الاتهامات.

في الوقت نفسه يطالعنا تقرير منظمة الشفافية الدولية حول الفساد في العالم بأرقام صادمة عربياً. فقد قالت المنظمة الأربعاء 25 كانون الثاني (يناير) 2017 إن أغلب الدول العربية تراجعت في مجال مكافحة الفساد في 2016 على رغم مرور 6 سنوات على اندلاع ثورات الربيع العربي في المنطقة. ورأت المنظمة أن غالبية الدول العربية لم تحقق نتائج تعكس إرادة الشعوب في بناء أنظمة ديموقراطية تعطي مساحة للمساءلة والمحاسبة، وأن 90 في المئة من هذه الدول فشلت في التصدي للفساد الواسع الذي كان من أسباب اندلاع ثورات الربيع العربي. وجاء في تقرير المنظمة أن 6 من بين أكثر عشر دول فساداً في العالم، هي عربية: سورية والعراق والصومال والسودان واليمن وليبيا. فيما تعاني دول عربية كتونس ومصر والجزائر والأردن ولبنان من ارتفاع معدلات الفساد، حيث جاءت درجتها في التقرير: تونس 75، مصر والجزائر 108، الأردن 57، لبنان 136، بينما هي في إسرائيل 33، ما يضع هذه الدولة مع دول العالم المتقدمة. كما كشف التقرير أن نسبة الذين يعتقدون بأن الفساد قد ازداد تصل إلى 92 في المئة في لبنان و84 في المئة في اليمن و75 في المئة في الأردن، فيما بلغت فاتورة الفساد 77 بليون دولار خلال عام في مصر.

إزاء هكذا مقارنة، يجب أن تكون لدينا شجاعة الاعتراف بأن اسرائيل، وإن كانت دولة غاصبة تمارس التمييز العنصري بحق العرب وتنتهك حرماتهم ومقدساتهم، إلا أنها في تعاملها مع مواطنيها، دولة قانون، يخضع مسؤولوها للمساءلة والمحاسبة في ما يخص الشأن العام، ولم يكن تصنيفها في عداد الدول الأقل فساداً من دون مسوغ، أياً يكن موقفنا منها. بينما لم يتوصل العرب إلى دولة القانون، بعد قرابة قرنين على المبادئ الليبرالية التي طرحها التنويريون العرب لإرساء دولة العدل والحق والمساواة و"مجرى شرائعها متساوية على الجميع بدون تمييز أو تفريق" على ما رأى فرنسيس المراش أواسط القرن التاسع عشر.

لقد استغرقنا في الأيديولوجيا ومشاريعها المستحيلة، فيما أخفقنا في الاعتراف بالانسان كقيمة في حد ذاته، كما أخفقنا في الاعتراف بقيمة عمله وجهده وكفاحه. آثرنا الوصول إلى الثروة والمكانة بالقربى من ذوي النفوذ، والتزلف إليهم ورشوتهم بكل الطرق والأساليب، ولو كان ذلك على حساب كرامتنا الإنسانية، سعياً وراء وظائف لا نستحقها وثروة لم نشارك في إنتاجها. لكأن قول الكواكبي في طبائعه "أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفة ورتبة" لا يزال واقعياً، وكأن الدولة السلطانية التي عاش في كنفها، لا تزال تعيد إنتاج نفسها بصورة وبأخرى.

بإيجاز شديد، لقد فشلنا في تحديث أنظمتنا ومجتمعاتنا وإنساننا، كما فشلنا في تحديث اقتصادنا وعلومنا، فكانت النتيجة كل هذا التردي في كل المجالات لأن ثمة صلات وثقة بل تلازماً بين الأخلاق والسياسة والاجتماع والاقتصاد والثورة المعرفية والعلمية، ولا يؤمل فلاحنا بأي من هذه الميادين في ظل الفساد المهيمن. وهنا بالذات محنة حداثتنا، وسر تمادي تخلفنا.

اقرأ المزيد
٢ فبراير ٢٠١٧
سورية ضحية تباينات الحسابات الدولية والإقليمية

حلب، آستانة، موسكو... ما هي المحطة أو المحطات التالية؟ وما أهميتها بالنسبة إلى تركيب سورية المقبلة، أو"سوريات وليدة" يعتقد الكثيرون بأنها باتت في البرزخ الفاصل بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل؟ تساؤل مشروع يطرحه السوريون، وينتظرون الإجابة عليه.

فقد أوحى التحرّك الروسي المكثّف بعد انقشاع غبار معركة التوافقات وعلامات الاستفهام في حلب، تلك المعركة التي انعكست على البشر والعمران والممتلكات قتلاً وخراباً ولصوصية، بوجود خطة روسية هدفها ترتيب الأمور ميدانياً وسياسياً استعداداً للتفاوض مع إدارة ترامب، التي يبدو أنها ستكون أكثر استعداداً من إدارة أوباما لاتخاذ قرارات تؤثر في الواقع الميداني، على الأقل من جهة تقاسم مناطق النفوذ كمرحلة أولى، انتظاراً لما سيكون مستقبلاً. ولعل الحديث الأميركي عن المناطق الآمنة يشير إلى جانب من ملامح الآتي الذي سيشهده السوريون في مختلف المناطق.

وبالعودة إلى مباحثات آستانة نرى أن الأطراف التي اجتمعت هي تلك التي تمتلك الوجود الميداني والنفوذ الواقعي في القسم الغربي من سورية، من الشمال إلى حدود دمشق. وربما هذا ما يفسر حرص الأطراف ذاتها (روسيا، تركيا، إيران) على التفاهم مع الفصائل الميدانية، أو بصيغة أخرى إفهامها ضرورة الرضوخ لنتائج التفاهمات التي فرضها الراعي الروسي بقوة آلته العسكرية الاستراتيجية، وذلك بالتناغم مع التعديلات التي شهدتها قائمة الأولويات الخاصة بالقوى الإقليمية.

وكان من الواضح أن الطرف الروسي سعى، ويسعى، منذ مدة، إلى إقامة علاقة مباشرة مع الفصائل الميدانية قبل معركة حلب الأخيرة وبعدها، بهدف التفاهم معها واحتوائها بهذه الصيغة أو تلك، تمهيداً لترتيب الأمور وضبطها مستقبلاً على المستوى العسكري.

أما اجتماع موسكو، فمن الواضح من خلال اختيار الأسماء، وطريقة توجيه الدعوات، أن هناك رغبة روسية في تجاوز هيئات المعارضة المعروفة. ويُشار هنا إلى الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات على وجه التحديد، هذا على رغم ملاحظاتنا الكثيرة حول فعالية عمل هاتين الهيئتين وآليته. كما أن هناك رغبة بينة في تجاوز مرجعية جنيف والقرارات الأممية الخاصة بالقضية السورية. بل إن موسكو ما زالت مستمرة في توجهها السابق القائم على أساس أن ما يجري في سورية صراع بين الإرهاب من ناحية والقوى لمناهضة له، ومن ضمنها النظام من ناحية أخرى. لذلك كان التأكيد المتواصل من جانب موسكو على ضرورة إعطاء الأولوية للإرهاب، وتوحيد جهود النظام والمعارضة في محاربته. هذا ما كان أثناء مفاوضات جنيف 2 وجنيف 3، وعبر التواصل المكثف مع الجانب الأميركي.

ومن المفيد ذكره هنا أن روسيا كانت تعتبر كل الفصائل المسلحة في المعارضة إرهابية، ولم تكتفِ بذلك فحسب، بل قصفت كل تلك الفصائل بآخر تكنولوجيتها العسكرية في مجال الطيران على مدى أكثر من عام.

ولكن يبدو أن الروس اعتمدوا لاحقاً استراتيجية أخرى تعتمد ضرب الفصائل المعنية بعضها ببعض؛ بقصد إضعافها واستنزافها، ومن ثم إلزامها لاحقاً بالقبول بما يملى عليها، بما في ذلك مشروع الدستور الذي يعكس، بغض النظر عن مضمونه، رغبةً روسية في التحكّم بكل جوانب الورقة السورية، على الأقل ضمن الحيّز الجغرافي الذي أشرنا إليه.

بعد آستانة وموسكو، ربما تكون هناك محطة أو محطات أخرى في جنيف أو سواها تتكامل مع الجهود الروسية، وعبر التنسيق والتفاهم مع القوى الإقليمية المعنية بالشأن السوري لأسباب مختلفة، وذلك لكسب المزيد من النقاط ميدانياً وعسكرياً، استعدداً للمحادثات المقبلة التفصيلية مع الأميركيين حول الملف السوري من موقع أهميته الإقليمية، وفي إطار الاستفادة منه في عملية التوافقات حول الملفات الأخرى على الساحة الدولية.

وهنا لا بد من التوقف عند فكرة المناطق الآمنة في سورية التي تناقشها الجهات المختصة ضمن الإدارة الأميركية. فقد طالب السوريون المجتمع الدولي والإدارة الأميركية تحديداً بالتحرّك لحماية المدنيين. وذلك منذ بداية الهجوم المسلح السافر من جانب النظام على المدن والقرى السورية بكل أنواع الأسلحة. وتركوا أمر تحديد كيفية تنفيذ هذه المهمة للمجتمع الدولي. كما طرحوا غير مرة فكرة المناطق الآمنة التي كان من شأنها في ذلك الحين حماية الشعب من القتل والتشرد، وحفظ البلد من الدمار، وصيانة النسيج المجتمعي الوطني السوري.

والآن، وبعد مرور نحو ستة أعوام، تطرح هذه الفكرة مجدداً من جانب الإدارة الأميركية بعدما شُرّد أكثر من نصف الشعب السوري، وقُتل ما يزيد عن نصف مليون إنسان، وهناك من يقول إن الأرقام الحقيقية تفوق ذلك بكثير. وبعد أن تهتك النسيج المجتمعي السوري، تُطرح فكرة المناطق الآمنة التي تُوحي بأنها ستكون في صيغة ما تكريساً لوضعية مناطق النفوذ بين كل من روسيا وإيران وأميركا وتركيا، في المقام الأول، مع غياب عربي لافت ومدهش.

أما السوريون فخارج اللعبة تماماً، مع أن ما يجري يتصل مباشرة بمصيرهم ومصير بلدهم. ويبدو أن دورهم يقتصر من جهة المعارضة على التوزع بين المنصات المتكاثرة، والفصائل المتناحرة، ويقتصر من جهة النظام على التزام أوامر الراعي الدولي وشريكه الإقليمي، وتوقيع الاتفاقات المشبوهة التي تسلب الأجيال السورية المقبلة حقوقها.

ولكن على رغم كل ما حصل ويحصل، فإن الكلمة الأخيرة ستكون للسوريين إذا توفرت الإرادة الوطنية الراسخة، ليقرروا ما إذا كانوا يريدون المحافظة على وطنهم ونسيجهم المجتمعي موحداً.، أم أنهم سيسلمون أمورهم بصورة ما إلى القوى الإقليمية والدولية، وهذه القوى ستتعامل مع الوضع انطلاقاً مما يتناسب مع مصالحها وحساباتها المتباينة.

المعارضة بهياكلها الحالية وبخلافاتها وتناحراتها مُنهكة، عاجزة عن التصدي للمهمات المطلوبة. ولكن النخب السورية التي لم تتلوث بعد بآفات التشدد الديني والتعصب القومي والفساد بكل أشكاله ما زالت موجودة تمثّل خط الدفاع الاسترتيجي، وما زالت تمتلك الصدقية والكفاءة، وفي مقدورها التحرّك لممارسة الضغط من أجل تحسين أداء المعارضة، وتوحيد مواقفها وجهودها. كما يمكن لهذه النخب أن تتواصل مع مفاصل القرار الدولية والإقليمية المؤثرة، لوضعها أمام مسؤولياتها، وبيان حقيقة رغبة السوريين في حياة حرة كريمة، في وطن حرّ موحّد يطمئن الجميع، وطن لا مكان فيه للاستبداد والإرهاب.

اقرأ المزيد
٢ فبراير ٢٠١٧
كي لا ينجح 'حزب الله' حيث فشل في 2009

من الواضح أن الوضع الأمني في لبنان ممسوك إلى حدّ كبير. يساعد في ذلك وجود رئيس للجمهورية، هو العماد ميشال عون يعمل، على طريقته، من أجل المحافظة على التوازنات الداخلية واستعادة العرب ثقتهم بلبنان.

هناك، في موازاة ذلك، حكومة تمثل فئات واسعة من الطبقة السياسية برئاسة سعد الحريري الساعي، يوميا، إلى إعادة الحياة إلى مؤسسات الدولة من جهة، وتحريك العجلة الاقتصادية من جهة أخرى. فضلا عن ذلك، هناك قسم من الحكومة يعي الخطر الإيراني ويعمل على مواجهة هذا الخطر الذي في أساسه مشروع توسّعي مكشوف قائم على الاستثمار في الغرائز المذهبية في كلّ دولة عربية واستخدام جزء من اللبنانيين في خدمة هذا المشروع. إنّه مشروع يستهدف كلّ مجتمع من المجتمعات العربية. مؤسف أن هناك لبنانيين لم يستوعبوا ذلك في الماضي ولم يستوعبوه في الحاضر.

يبدو الإمساك بالوضع الأمني، كما ظهر من خلال إحباط العملية الانتحارية في مقهى “كوستا” في شارع الحمراء، عائدا أيضا إلى التعاون بين الأجهزة الأمنية المختلفة. يتم ذلك في ظلّ وجود وزير للداخلية اسمه نهاد المشنوق يعتبر نفسه وزيرا لكلّ لبنان واللبنانيين. الأهمّ من ذلك كلّه، وربّما في أساسه، أن لا مصلحة لـ”حزب الله” الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني في إرباك الوضع اللبناني، أقلّه في هذه المرحلة. مثل هذا التصرّف، الذي ينمّ عن رغبة في إبقاء لبنان في مأمن عن الحريق السوري، يجب أن لا يغيّب الخطر الذي يمثلّه السلاح غير الشرعي الذي في يد ميليشيا مذهبية قرارها في طهران. لا يمكن إلا أن تكون هناك نتائج في غاية السلبية على مستقبل البلد بسبب وجود سلاح غير شرعي ومناطق تحت سيطرة ميليشيا مذهبية قررت عدم الاعتراف بوجود حدود دولية للجمهورية اللبنانية من جهة، والتدخل إلى جانب النظام السوري في الحرب التي يشنّها على شعبه من جهة أخرى.

هناك ما يشير إلى وجود بقايا مؤسسات لدولة لبنانية. يمكن البناء على بقايا المؤسسات. لا يمنع ذلك التخوف من أن أحداثا يمكن أن تحصل مستقبلا، لكن الثابت أنّ على البلد إعداد نفسه للمرحلة المقبلة، مرحلة الانتخابات النيابية. هذه الانتخابات اللبنانية ستثبت أن لبنان قادر على استكمال عملية استعادة مؤسساته.

تمثّل هذه الانتخابات التي يُفترض أن تحصل في أيار ـ مايو المقبل، في حال لم يكن هناك تأجيل ذو طابع تقني، منعطفا على الصعيد اللبناني. ستثبت الانتخابات أن هناك محاولة جدّية لإعادة بناء البلد في ظلّ ظروف إقليمية أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها معقّدة.

من هذا المنطلق، يمكن أن تكون الانتخابات سيفا ذا حدّين. يمكن أن تساعد لبنان في تحصين نفسه، ويمكن أن تساهم في تكريس لبنان مستعمرة إيرانية. وهذا ما ترفضه أكثرية لبنانية تعي تماما ماذا يعني أن يكون قانون الانتخابات على قياس “حزب الله” الطامح إلى قلب المعادلة داخل مجلس النوّاب. يستند الحزب في ذلك إلى أنّه يعتبر نفسه قادرا على السيطرة بشكل شبه كامل على الطائفة الشيعية، فيما يستطيع تحييد المسيحيين إلى حدّ ما… مع شق السنّة والدروز إلى حدّ كبير وانتزاع مقاعد لموالين له ولما يمثّله من هاتين الطائفتين. بكلام أوضح، يعتقد “حزب الله” أن في استطاعته إلغاء العلاقة العضوية بين “تيّار المستقبل” وأهل السنّة، كما في استطاعته إيجاد طريقة لتقليص الحجم الدرزي لوليد جنبلاط لمصلحة بعض التافهين الذين يعتقدون أنّ لديهم وجودا داخل هذه الطائفة. صحيح أن الطائفة الدرزية طائفة صغيرة. لكنّ الصحيح أيضا أنّها طائفة مؤسسة في لبنان ليس هناك من يستطيع إلغاءها لأسباب عدة. من بين هذه الأسباب الوجود الدرزي في لبنان من الناحية الجغرافية، والتماسك داخل المجتمع الدرزي… والدور العربي التاريخي للدروز المنتشرين في لبنان وفلسطين وسوريا، وحتّى في الأردن، فضلا عن طبيعة الزعامة الدرزية التي يرمز إليها في هذه المرحلة وليد جنبلاط.

ليس طبيعيا أن يذهب لبنان إلى قانون انتخابي يسمح لـ”حزب الله” بتحقيق ما عجز عنه في انتخابات العام 2009. وقتذاك، لعب سعد الحريري دورا محوريا في التصدي للتوجّه الإيراني ومنع الحزب من السيطرة على لبنان، عن طريق صناديق الاقتراع. ربح رهانه على الرغم من أنّ كثيرين كانوا يعتقدون أنّه لن يتمكن من ذلك، وأن لبنان ورقة خاسرة. ليس ما يدعو إلى العودة إلى ما قدّمه سعد الحريري في تلك المرحلة وإلى تضحياته، على كلّ صعيد، من أجل تحقيق انتصار في الانتخابات. وضع الرجل عائقا يستهدف منع الحزب الإيراني من السيطرة على الجمهورية اللبنانية عبر أكثرية تابعة له في مجلس النوّاب. ليس سرّا أن الانتصار الذي تحقّق في 2009 لم تكن له ترجمة على الأرض بعدما رفع “حزب اللّه” سلاحه ومنع مجلس النواب من الانعقاد لانتخاب رئيس للجمهورية في مرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في أيار ـ مايو من العام 2014.

قبل ذلك، في العامين 2010 و2011، لم تكن من ترجمة لهذا الانتصار، وهو انتصار للشعب اللبناني أوّلا، عندما أسقطت ميليشيا “حزب الله”، بقمصانها السود، حكومة سعد الحريري بسحب “الوزير الملك” منها تمهيدا لتشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي. لم يكن من هدف لهذه الحكومة سوى إذلال المسيحيين والسنّة والدروز في لبنان.

ما الذي سيحصل الآن؟ قانون الستين مرفوض. هل يبني “حزب اللّه” على هذا الرفض من أجل تحقيق ما عجز عن تحقيقه في 2009؟

ثمّة واقع، لم يعد في الإمكان تجاهله، خصوصا في ظلّ تورط “حزب اللّه” في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري. هذا الواقع يفرض على لبنان متابعة المقاومة. المقاومة الحقيقية هي مقاومة الهيمنة الإيرانية التي يسعى الحزب إلى فرضها على لبنان. هل من قانون انتخابي عادل يأخذ في الاعتبار حقوق كلّ اللبنانيين ومصالحهم تجري على أساسه الانتخابات المقبلة؟

الجواب أن في الإمكان التوصّل إلى مثل هذا القانون، أقلّه من أجل تفادي السقوط في الفخّ الذي تنصبه إيران للبنان.

في الإمكان الانطلاق من قانون الستين، مع بعض التعديلات له، من أجل التوصل إلى صيغة ترضي الجميع. صيغة تكون بعيدة عن قانون النسبية الكاملة الذي يطالب “حزب الله” به لتحقيق غايات معيّنة. أيّ قانون عادل سيخدم المحافظة على السلم الأهلي، في وقت يحتاج لبنان إلى كثير من الهدوء في سعيه لإعادة بناء مؤسساته وإبقاء الأمن مضبوطا داخليا، ولتمرير مرحلة التغييرات الكبيرة التي تبدو سوريا مقبلة عليها.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان