يتجاوز وصول شخص موتور، مثل دونالد ترامب، إلى أهم منصب سياسي في العالم، مجرد تغيير في هرم السلطة في الولايات المتحدة. وإنما بالأحرى تغيير في كثير من ثوابت اللعبة السياسية وقواعدها على المستويين المحلي والدولي. وهو إن استمر سلوكه على هذا النحو طوال السنوات الأربع المقبلة، فسوف نشهد قطيعة كاملة مع إرث النظام الدولي الذي ظل سائداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سواء في طبيعته الليبرالية التعدّدية، قيماً ومؤسسات وثقافة، أو في طبعته الأحادية التي سادت طوال العقود الثلاثة الماضية.
وبينما كان بعضهم يرى في ترامب مجرّد شخص أرعن (وربما أحمق) يمتلك المال، والآن السلطة، إلا أن سلوكه وقراراته، منذ تنصيبه في الحادي والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، يكشف أننا إزاء رجل يعرف جيداً ما يقوم به، ولديه رؤية وأجندة سياسية وإيديولوجية واضحة، يريد إنفاذها وتطبيقها على الأرض بأي ثمن. وإذا كانت هذه الرؤية قد تبدو خروجاً عن النسق الأميركي المألوف، فإن الرجل لا يُخفي سراً بأن هذا "الخروج" هو أحد أهدافه الرئيسية. ولعل منبع المعارضة القوية لترامب، خصوصاً في الأوساط الليبرالية واليسارية، ومنصاتها الإعلامية مثل CNN وMSNBC، هي سعيه إلى جعل "غير المألوف" أمراً معتاداً، ونقل "اليمين" إلى "الوسط"، وتثبيته كي يصبح لاحقاً التيار الرئيسي أو الـ mainstream الذي يجب أن تسير عليه أميركا والعالم.
بكلمات أخرى، المعركة الرئيسية التي يخوضها ترامب، هي جعل ما يراه بعضهم "حالة استثناء" في السياسة واللغة والإيديولوجيا، أمراً معتاداً ومألوفا يجب قبوله من دون مساءلة أو مقاومة. ينطبق ذلك على مسائل داخلية وأخرى خارجية، حوّلها ترامب إلى مادة للتجاذب والاستقطاب والانقسام غير المسبوق محلياً ودولياً. لذا، يخطئ من يظن أن ترامب يتصرف بحماقة أو بعفوية غير محسوبة. على العكس، هو يحسب خطواته جيداً، ويعرف عواقب قراراته. وهو يتبع سياسة "الإدارة بالصدمة"، ويتبنى سياسة مهاجمة (وإرباك) الخصوم التي لا تدع لهم فرصةً لالتقاط أنفاسهم، ويمتلك القدرة على تشتيت جهودهم، من خلال نقل المعركة من المتن إلى الهامش، ثم العودة إلى تحويل هذا الهامش إلى متنٍ وأصل للصراع، فينشغل الجميع بالهامش، وبالتالي يحقق هدفه من المناورة.
خذ، على سبيل المثال، قراره بحظر دخول اللاجئين السوريين ومواطني سبع دول عربية وإسلامية الولايات المتحدة، في سابقة لم تحدث طيلة تاريخ أميركا أو أية دولة غربية. ليس القرار محاربة "الإرهاب الإسلامي" كما يصفه ترامب، وإنما بالأساس وقف مسألة الهجرة، باعتبارها تمثل تهديداً وجودياً للجماعة البيضاء في أميركا، وحماية "العِرق الأبيض" باعتباره الأسمى بين غيره من الأعراق التي تشكل الأمة الأميركية. وقد اختار الرجل بذكاء أحد أكثر الحلقات ضعفاً لتحقيق هدفه، وهي المسلمون سواء داخل أميركا أو خارجها. وهو يحاول، مثل أي زعيم سلطوي، تبرير قراره بـ"الحفاظ على الأمن القومي للبلاد"، وهي العبارة نفسها التي يكرّرها الحكام الديكتاتوريون والسلطويون، بدءاً من كيم يونغ أون ديكتاتور كوريا الشمالية، مروراً ببشار الأسد، وانتهاء بالجنرال عبد الفتاح السيسي.
خذ أيضا تصريحه الذي تعهد فيه بتحطيم القانون الذي يمنع الكنائس الأميركية من دعم السياسيين، خصوصاً في الحملات الانتخابية، والمعروف "بتعديل جونسون" الذي تقدّم به السيناتور والرئيس الأميركي الأسبق، ليندون جونسون عام 1954. وقد حاول ترامب تغليف تصريحه هذا بحماية الحريات الدينية وإعطاء الحق للمؤسسات الدينية، للتعبير عن تفضيلاتها السياسية، علما أن القانون لا يمنع رجال الدين من ذلك. ولكن ترامب كان يغازل اليمين الديني، بشقيه المحافظ والمتطرّف، خلال حفل الصلاة الوطني الذي يقام كل عام. وإذا حدث، فسوف يمثل ذلك ضرباً لمبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة في السياق الأميركي، ما قد يفتح الباب أمام صراع ديني وطائفي غير مسبوق في الولايات المتحدة. خذ أيضا تصريحاته أخيراً ضد إيران التي وضعها "تحت المراقبة"، في استحضار لأجواء الاستقطاب والتوتر الذي ساد إبان فترة الرئيس جورج دبليو بوش. وهو هنا يريد توجيه رسالة قوية لطهران بضرورة الحذر ولجم سلوكها، وإلا فإن العقاب سيكون شديداً وفورياً. كذلك خذ مكالمته الهاتفية مع رئيس الوزراء الأسترالي، مالكوم تيرنبول، والتي انتهت بشجار وإغلاق للهاتف بشكل فجائي بعد أقل من نصف ساعة من المكالمة التي كان من المفترض أن تستمر حوالي ساعة. وقد ثار ترامب بسبب رفضه الالتزام باتفاقٍ كانت إدارة أوباما قد وقّعته مع أستراليا، بنقل مهاجرين آسيويين إلى أراضيها.
يعكس سلوك ترامب داخلياً وخارجياً محاولة واعية لإعادة تعريف السياسة، وتحويل كل ما هو ثابت ويقيني إلى فوضى، تمهيداً لتثبيت رؤية محدّدة للعالم، ولدور أميركا فيه. وهو هنا يريد إعادة تعريف أسس العلاقات الدولية، ويسعى، بكل قوة، إلى اقتلاع ثوابتها من جذورها، لكي تحل محلها ثوابت أخرى، نابعة من رؤية راديكالية لعالم فوضوي، لا مكان فيه إلا للقوة العارية بكل معانيها وأشكالها. وهو يفعل ذلك ليس اعتباطاً، وإنما بدوافع يراها مشروعة، بل وضرورية لجعل أميركا "عظيمة مرة أخرى"، بحسب شعاره الذي لا يتوقف عن ترديده.
ما وصلت إليه الأوضاع الراهنة في سورية يثير معضلة الجوهرية، ليس فقط بالنسبة للمعارضة السورية أو حتى السوريين، بل ربما لكثير منّا ممن تعاطفوا مع الثورة السورية في البداية، ووقف مع حق الشعب السوري الأصيل في الحرية والديمقراطية، بل وقبل ذلك الإنسانية.
تضعنا المعضلة المطروحة اليوم بين خيارين رئيسين؛ الأول هو الخيار الواقعي المدعّم بمؤشرات موازين القوى العسكرية على الأرض من جهة، وبالمعادلات السياسية الدولية والإقليمية من جهةٍ ثانية. أمّا الخيار الثاني فهو الأخلاقي- الإنساني المرتبط بالمبادئ والقيم وثيمة العدالة وبالمنطق الثوري المثالي، أي الإصرار على خيارات الحرية ومعاقبة النظام السلطوي الاستبدادي على الجرائم التي اقترفتها يداه أولاً، وبوصفه المسؤول الحقيقي عمّا آلت إليه سورية من دمار وكوارث ألمّت بأغلبية الشعب، بين القتل والتعذيب والأسر، والذبح، والهجرة القسرية والنزوح الداخلي.
ينبثق عن ذلك سؤال كبير؛ هل على المعارضة السورية القبول بالمنطق الواقعي، والتسليم بأنّ هنالك تحولات جوهرية في المرحلة الراهنة، عسكرياً وسياسياً، تجعل من الإصرار على إسقاط النظام أمراً غير ممكن، وكلفته ستستمر طويلاً، أم أنّ عليها الإبقاء على الحلم المشروع بالحرية والتحرر والتخلص من النظام الدكتاتوري؟
صحيحٌ أنّ المعارضة السياسية السورية قبلت، منذ البداية، بمنطق الحل السلمي، وذلك كان مشروطاً بانتهاء الصيغة الراهنة من النظام، وبإسقاط الأسد، وهي شروط عادلة محقّة، تمثّل الحدّ الأدنى لو كانت هنالك عدالة دولية حقيقية؛ لكن ما هو مطروح اليوم دولياً وإقليمياً لا ينسجم مع هذه الشروط والمطالب، بل هنالك تحول كبير تجاه القبول بالنظام السوري، حتى من الحليف الأكبر للمعارضة السورية، الأتراك (وقد ألقى ذلك بالون اختبار نائب رئيس الوزراء التركي في منتدى دافوس أخيراً)، وخروج شبه كامل للنظام الرسمي العربي من المعادلة السورية، وتحوّل في مواقف الإدارة الأميركية بالكلية، من ادعاء الدعوة إلى إسقاط النظام، إلى التخلي عن ذلك والتركيز على "داعش"، ونمو الدور الروسي، والتفاهمات الروسية- التركية..إلخ.
قلبت هذه المتغيرات موازين القوى العسكرية بالكلية في المشهد السوري، فبعدما كاد النظام أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في أكثر من مرّة، في بداية الـ2012، ثم في منتصف العام 2015، جاء التدخل الخارجي لينتشله تماماً، بداية بدور حزب الله وإيران والحرس الثوري، وتالياً بالدور الروسي المؤثّر.
مع ذلك، لم يكن التحالف الروسي- الإيراني ليقلب نتائج المعركة، لولا الانقلاب التركي، فهو قاصمة الظهر الحقيقية للمعارضة السورية، وكانت معركة حلب "نقطة التحول" الكبيرة. ولا ينفصل ما يجري اليوم في محافظة إدلب عن التحولات التركية، وعملية الفرز والاستقطاب في أوساط المعارضة السورية المسلحة هناك، إذ انقسم جيش الفتح على نفسه، وبدأ الصراع بين الفصيلين الرئيسين، جبهة فتح الشام وحركة أحرار الشام، وهو التحالف الذي رعاه ودعمه الأتراك سابقاً، لكنّهم يفككونه اليوم، بعد أن تغيرت "المعادلة" والحسابات!
على الطرف الآخر؛ توقفت غرفة "الموك العسكرية" (العمليات المشتركة بين الأردن وأميركا وفرنسا والسعودية والإمارات) عن الدعم العسكري للمعارضة المسلحة، وعمل الأردن على التوصل إلى تفاهمات "جنتلمان" مع الروس، فحيّد المناطق الجنوبية في سورية (درعا) عن كل الصراعات المسلحة، منذ عام تقريباً، وأعاد تصميم (وترسيم) الدور العربي والدولي في دعم المعارضة المسلّحة لمواجهة "داعش" حصرياً، مع عدم السماح بأي صدام مسلّح مع النظام السوري، فانتهت، عملياً، فعالية الجبهة الجنوبية القريبة من دمشق التي كانت أحد أهم روافد الثورة العسكرية الضاربة!
هذه العوامل جميعاً، بالضرورة، شبه حاسمة، ومؤثّرة جداً على "المسرح السوري"، فالمعارضة المسلّحة لا تعيش في فراغ، ولا تمتلك، في النهاية، قدرات خارقة، إذ اشتغلت البيئتان الدولية والإقليمية ضدها، فهنالك شروط رئيسة، مثل التسليح والتمويل والدعم والإسناد العسكري والفني والسياسي، ولا نتصوّر وجود مقاومةٍ مسلحةٍ نجحت سابقاً في تحقيق أهدافها السياسية في ظل ظروف دولية وإقليمية متواطئة، مثلما يحدث اليوم "ضد الثورة السورية".
مع ذلك، لم يكن العامل الأكثر حسماً، ومقتل المعارضة السورية كل ما سبق، بل هو الحالة الداخلية لها، ولا أتحدث هنا عن الفجوة الكبيرة بين السياسيين والعسكريين، ولا عن ارتهان السياسيين لأجندات إقليمية ودولية متضاربة، بل عن الداخل نفسه، أي واقع الفصائل المسلحة وعلاقتها بالحاضنة الاجتماعية الشعبية السورية.
يكفي أن ننظر في "ساحات القتال"، ونعيد تعريف الواقع وتقييمه بصورة موضوعية وأمينة، بعيداً عن الأوهام، ونتساءل: ماذا تبقى من المعارضة السورية، ومن قيم الثورة السورية، على الأرض؟! في الرقة ودير الزور وبادية الشام تنظيم داعش، في إدلب وريفها جبهة فتح الشام (هيئة تحرير الشام لاحقاً) و"أحرار الشام"، وهم لا يؤمنون (في أغلبيتهم) بالديمقراطية وبالدولة المدنية، والفصائل الإسلامية الأخرى (الجبهة الشامية سابقاً) اضطرّت إلى الانضواء تحت عباءة "أحرار الشام" خشية من "فتح الشام"، بينما انضمت أجزاء من أحرار الشام- الجناح الأيديولوجي، سابقاً، إلى جبهة الفتح.
سلّمت المعارضة أغلب ريف دمشق، وما تزال التوترات والصراعات الداخلية بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن وجيش الفسطاط قائمة، وسينتهي الأمر إلى خروجهما معاً، واستلام جيش الأسد هذه المنطقة، بعدما صمدت ببطولة خلال الأعوام الماضية.
وفي الجبهة الجنوبية، كما ذكرت السطور السابقة، انتهت المعارضة المسلحة عملياً، وآلت إما إلى جيش خالد بن الوليد (جزء من "داعش") أو إلى فصائل موالية للأردن، تنتظر تقرير مصيرها على طاولة التفاهمات الإقليمية والدولية.
أمّا باقي الفصائل فتحولت إلى أدوات في خدمة الأجندات الإقليمية والدولية، تارة تحت شعار "محاربة الإرهاب" وتارةً أخرى "تحت شعار: هذا أفضل من ذلك، كما هي الحال في معركة الباب حالياً"، لكن العامل الأكثر تأثيراً على هذه الفصائل هو المال، وبروز ظاهرة "أمراء الحروب" وبزنس الصراعات الداخلية.
بالنتيجة؛ دفع الشعب السوري ثمناً باهظاً غير مسبوق، وتعسكر عشرات الآلاف من أبنائه، وقتل مئات الآلاف، واعتقل مثلهم، وهجّر الملايين، ليس ليجدوا أنفسهم أمام خيارين؛ إما النظام أو القاعدة أو داعش أو المرتزقة؟!
أعتذر عن الصرامة والوضوح في التعابير. لكن أظن أن المطلوب اليوم هذا المنطق الواضح في قراءة الحالة الراهنة وتعريفها للانطلاق من ذلك إلى إعادة تقييم المقاربات التقليدية والخطابات التي تقدمها المعارضة، وإعادة تدوير الاستراتيجيات والأفكار في التعامل مع النظام، وترسيم أهداف جديدة، مثل إعادة التفكير في الجانب الإنساني، وإعطائه أولوية وأهمية، المطالبة بعودة المهجّرين وبتصفية حساب مع المرحلة السابقة، وبمحاولة بناء تفكير جديد ضد النفوذ الإيراني المتنامي، إعادة تدشين الحوار مع الأتراك على قواعد جديدة،.. إلخ.
لنفترض أن هناك ضغوطاً سياسية أو عسكرية نجحت في إخراج روسيا وأتباعها من سورية، ولنفترض أن الدول التي مارست الضغوط السياسية أو دعمت الضغوط العسكرية هي من تولت رعاية المكوّنات السورية (السياسية والمسلحة) بعد خروج الروس! ما هو السيناريو المتوقع للمستقبل السوري؟
هل ستتحول سورية إلى واحة سلام؟ هل سيرمي الجميع السلاح ومخازن السلاح ويذهب مباشرة إلى قوائم الانتخابات وصناديق الاقتراع؟ هل ستنعم البلاد بحكم ديموقراطي يُنسي أهلها عذابات السنوات الست الأخيرة، وإحباطات العقود الخمسة الماضية؟
التاريخ لا يتكرر، لكنه ينعطف المنعطفات نفسها بين وقت وآخر، فما هو يا ترى «المنعطف المكرر» الذي قد يمر به تاريخ سورية مستقبلاً؟
أفغانستان، الدولة الآسيوية المقفلة فقيرة الموارد، دخلها السوفيات عام 1979 داعمين للنظام الموالي لهم في كابول، وخرجوا منها عام 1989 بضغوط سياسية دولية وضغوط جماعات مسلحة محلية بدعم من أميركا ودول أخرى. دخلوها بحجة حماية نظام وطني في نظرهم، عميل في نظر الأفغان، وخرجوا منها لحماية نظامهم في موسكو، الذي بدأت تظهر عليه التصدعات. عقد كامل وهم على التراب الأفغاني، فماذا كانت النتيجة؟
خلال عشر سنوات 1979-1989 تغيّرت طبيعة الشخصية الأفغانية. وتخلى المجتمع المحلي عن ازدهاره وتنوعه وفنونه وثقافاته المتعددة و (تشككه الإبداعي). تخلى عن ألوانه وراح يسير بخطى (الجاهل الذي يؤكد) إلى اللونين الأبيض والأسود. انقلبت الحال الأفغانية رأساً على عقب، وذهبت الأرض المقفلة قبل 1979 إلى سجلات التاريخ، وخُلقت أرض جديدة بمزايا وصفات جديدة!
قد يسأل قارئ: هل هذا التغيير ضد مسار الزمن؟ هل هو حال معزولة عن «علم اجتماع الحروب» و «ثقافة الاضطرابات المزمنة»؟ الجواب بالطبع لا، فما حدث في أفغانستان أمر متوقع، لكن السؤال المقابل لهذا الجواب هو هل نجحت أميركا في إعادة الشعب الأفغاني إلى طبيعته الأولى وساعدت في نمائه وازدهاره من جديد وحوت حيرته وضياعه بعد حروب السنوات الـ10؟ هل ساهم المنتصر على الأرض في ترميم ما خلفه انتصاره؟ هل مارست دورها الأخلاقي الذي جاءت من أجله كما أدعت؟
صحيح أن أميركا ومن خلفها العديد من دول العالم سهامت في إخراج السوفيات من أفغانستان لكنها إثر ذلك تركته وحيداً في مواجهة مصيره الأسود! سحبت كبريائها وغرورها من المنطقة وذهبت إلى مناطق أخرى في العالم! كان همها الرئيس تفويت الفرصة على السوفيات في الاستفادة من موقع قدم في آسيا الوسطى، وتحقق لها ما أرادت ثم أدارت ظهرها للمحرومين والفقراء والبائسين على الأرض، ما أنتج حرباً أهلية ما زالت تشتعل حتى اليوم!
خرج السوفيات مهزومين على وقع طبول انتصار أميركي، ودخلت أفغانستان من ذلك الحين في دوامة لا تنتهي.
على طرف الصدفة التاريخية المقابلة، تعيش سورية اليوم تحت رعاية القيصر الروسي غير المباشرة منذ الـ15 من آذار (مارس) 2011، وتحت احتلاله المباشر منذ الـ30 من أيلول (سبتمبر) 2015. جاءت القوات الروسية لدعم النظام الموالي لها في دمشق، متحدية الشعب السوري أولاً، ومنظمات العالم الأممية وغير الأممية ثانياً، وعدداً كبيراً من دول العالم على رأسها أميركا ثالثاً. وبقيت منذ ذلك الحين متحكمة وحدها على الأرض السورية، فهل من الحكمة في هذا الوقت أو المستقبل القريب أن يتم الضغط على روسيا عبر قنوات عدة للانسحاب من سورية في وجود هذه القوى العبثية والمتضادة على الأرض أم أن الواقع السياسي يفرض على المحبين لسورية والداعمين وحدتها وصمودها أن يعيدوا استذكار التاريخ الأفغاني القريب؟
روسيا ستخرج عاجلاً أم آجلاً. هذه مسألة منتهية، ويبقى على القوى الإقليمية في المنطقة المعنية بعذابات الشعب السوري والصديقة للكرملين أن تضغط من أجل تأمين خروج ناجح للروس يختلف تماماً عن طريقة خروج السوفيات من أفغانستان. لا بد من أن يخرجوا بطريقة تُبعد أميركا تماماً من المشهد أولاً، وُتحصّن الشعب السوري ضد الانزلاق في فوضى الفراغ الأمني المفاجئ ثانياً!
في الحال السورية لا تُمكن القوتين العظميين أن توجدا حلاً مشتركاً واحداً. فعلى رغم أن الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب يقول في كل سانحة إن علاقته جيدة بقيصر روسيا فلاديمير بوتين، وعلى رغم الإشارات الديبلوماسية التي ترشح بين حين وآخر بين البلدين بإمكان الاتفاق حول الملف السوري، إلا أنه لا أحد على هذه الأرض يؤمن بإمكان حدوث واستمرار الشراكة الروسية الأميركية للأبد. هذا أمر يخالف السنن الكونية ويتعارض مع نظريات توازن القوى عبر التاريخ.
إما أن تخضع روسيا لأميركا أو أميركا لروسيا ويعيش العالم في قطبية واحدة، وإما أن تتضاد القوتان العظميان لتوازنا روح العالم، وإما أن تميل روسيا باتجاه أميركا لتوازن الدولتان وجود الوحش الصيني في الطرف المقابل، وهذا أمر مستبعد في الوقت الحالي. أما أن تتفق الدولتان العظميان في مثل هذه الظروف التي نعيشها كما يقول ترامب فهذا أمر مستحيل، وسيخضع للاختبار قريباً... ويفشل!
ستعود أميركا بعد أشهر قليلة وربما أسابيع لمناكفة روسيا في المنطقة والالتفاف من جديد حول القوى الإقليمية لتأمين خروج روسي ذي طابع سوفياتي، ثم ستدير ظهرها من جديد للمنطقة وتبحث عن صراعات أخرى جديدة في العالم من أجل إدارتها وصرف أرباحها في العمق الأميركي.
اجتماع آستانة كان فاتحة الحلول، وبقي أن يصنع محبو سورية وأصدقاؤها أدوات ضغط فاعلة تجبر الروس على فرض حكومة سورية جديدة مقبولة شعبياً، وتولّي رعايتها وتأمين حضورها محلياً وأممياً ومحاربة أعدائها في الداخل حتى القضاء عليهم وإعادة السلم من جديد بغطاء رعوي دولي.
ليذهب بشار الأسد أولاً (هذه مسألة غير قابلة للمزايدة) ولتبقى روسيا في «حال انتداب» لأجل مسمى ثانياً، ثم ليخرج بعد ذلك القيصر بعد أن يحقق مطلبين مهمين: إبعاد الأميركي وتأمين الحكومة الجديدة ضد منزلقات الحرب الأهلية!
هل هذا هو الحل الأكثر صحة والأكرم أخلاقاً؟ لا... لكنه الحل الأمثل.
لم تكن للنظام السوري شرعية من أيّ نوع في أيّ يوم من الأيّام. هذا ما يفسّر وصول سوريا إلى ما وصلت إليه، وتحولها إلى منطقة نفوذ يتقاسمها الروسي والإيراني والتركي والإسرائيلي في ظلّ لامبالاة أميركية وأوروبية. استمرّ النظام الذي يُعتبر تتمة لانقلاب عسكري قضى في الثامن من آذار – مارس 1963 على التجربة الديمقراطية الناشئة والمحاولة الخجولة للعودة إلى الحياة المدنية جاثما على صدور السوريين منذ العام 1970.
استطاع النظام السوري في كلّ مرحلة من المراحل البناء على حدث ما أو مجزرة معيّنة أو علاقة مع هذه القوة الأجنبية أو تلك، كي يبقى في السلطة معتمدا قبل أي شيء آخر على العصب الطائفي. هذا العصب يبقى العمود الفقري للنظام الذي تأسس فعليا في شباط – فبراير 1966، تاريخ انتقال الحكم الذي في أساسه انقلاب عسكري إلى الضباط العلويين. قام النظام في نهاية المطاف على سلسلة من الشرعيات المزّيفة ترافقت مع إحكام الطائفة، ثمّ العائلة، سيطرتها على البلد وعلى مواطنيه استنادا إلى ثقافة قائمة على إلغاء الآخر ولا شيء آخر غير ذلك.
تمر هذه الأيّام الذكرى الخامسة والثلاثين لمجزرة حماة التي ارتكبها النظام السوري في شباط – فبراير من العام 1982. لا أرقام نهائية حتى اليوم لحجم المأساة التي بنى عليها حافظ الأسد جزءا من “شرعيته”. المتداول في أوساط المطلعين أن عدد الضحايا بلغ نحو أربعين ألفا، وأن عائلات بكاملها أُبيدت عن بكرة أبيها، كما أنّ قسما كبيرا من المدينة دمّر.
ما زالت حماة تقاوم حتّى اليوم على الرغم من كلّ المحاولات التي بذلها النظام وما زال يبذلها للتخلّص من المدن السورية الكبرى أو تدجينها وتغيير طبيعة تركيبتها السكّانية كما يحصل حاليا مع دمشق.
كانت مجزرة حماة من بين المحطات التي لا بدّ من التوقف عندها لفهم كيف وصلت سوريا إلى ما وصلت إليه. عندما فقد حافظ الأسد السيطرة على المدينة مطلع شباط – فبراير 1982، أيقن أن نظامه صار في خطر. لم تكن حماة وحدها التي تحرّكت في تلك الفترة. كانت هناك تحركات شعبية في مدن ومناطق مختلفة، بينها دمشق وحلب وحمص واللاذقية، على الرغم من أن العلويين باتوا يعتبرون المدينة الساحلية تحت السيطرة الكاملة إثر الإتيان بسكان من الريف إليها. لم يتردد الأسد الأب لحظة في تطويق حماة وقصفها ومحو أحياء فيها من الوجود. لا تزال آثار نحو عشرين ألفا من أهل المدينة مختفية إلى اليوم…
منذ وصوله إلى السلطة في السادس عشر من تشرين الثاني ـ نوفمبر 1970، حاول حافظ الأسد دائما الاستحصال على شرعية. كان ملفتا أنّه لم ينتخب رئيسا للجمهورية مباشرة بعد الانقلاب الذي قام به. وجد أستاذ مدرسة سنّيا من منطقة حوران يدعى أحمد الخطيب ليشغل هذا الموقع لأقلّ من ثلاثة أشهر. بعد ذلك أصبح الأسد الأب رئيسا في شباط – فبراير 1971. بين الانقلاب الذي قام به على رفاقه، وكان أبرزهم صلاح جديد، ووصوله إلى الرئاسة، راح حافظ الأسد يصلي في المساجد السنّية. لم يوجد بين السوريين من سكان المدن الكبيرة ومن التجار والمهندسين والأطباء والمحامين من يقبل شرعيته المزيّفة التي قامت على الصلاة في مساجد السنّة وعلى قمع أهل المدن والعمل على إيجاد تحالف مع سنّة الأرياف.
كانت الدفعة القويّة التي تلقاها نظام الأسد الأب في العام 1973. أشركه أنور السادات في حرب لم تكن تستهدف تحرير الجولان، بمقدار ما كانت تستهدف إيجاد شرعية لوزير الدفاع السوري، المسؤول الأول عن سقوط الهضبة الإستراتيجية في أثناء حرب العام 1967. لم يكن هذا الوزير أحدا سوى حافظ الأسد الذي خسر الجولان وظلّ يتاجر به إلى يوم وفاته.
من الدخول إلى لبنان والبقاء فيه، عسكريا وأمنيا، طوال ثلاثة عقود، مرورا بالمتاجرة بالنظام البعثي الآخر في العراق وإقناع العرب والعالم ثمّ إيران بأن لا بدّ من إيجاد توازن معه، تدبّر حافظ الأسد أموره إلى حد كبير. قبض ثمنا كبيرا لوقوفه في وجه البعث الآخر المقيم في بغداد. قبض الثمن من العرب ومن إيران خصوصا. وجد حافظ الأسد لنفسه مكانا في المنطقة العربية، خصوصا بعد إغلاق جبهة الجولان إثر اتفاق فصل القوات مع إسرائيل في 1974 وبعد المشاركة إلى جانب القوات الأميركية في حرب تحرير الكويت في مطلع 1991. كان في كلّ وقت على تناغم مع إسرائيل التي لم تكن يوما ضد بقاء جبهة جنوب لبنان مفتوحة واستمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة، وهي الحال التي اعتبرتها دائما الأنسب من أجل تحقيق أهدافها المتمثلة في خلق وقائع على الأرض.
بقيت مجزرة حماة في كلّ وقت تلاحق حافظ الأسد. لم يستطع في أيّ وقت محو ما فعله بالمدينة وأهلها من ذاكرة السوريين. بقيت حماة في الذاكرة بعد رحيل الأسد الأب وحلول ابنه مكانه. بقيت رمزا لرفض الشعب السوري الرضوخ لمشيئة النظام ووحشيته. رفضت حماة الأب وترفض الابن. أكدت في كلّ وقت أن النظام لا يمتلك أيّ شرعية، مهما قتل ودمّر وهجّر.
أن يتذكّر السوريون المدينة هذه الأيّام يعني قبل كلّ شيء أن الاستثمار في القتل لا يمكن أن يأتي بشرعية لأيّ نظام. أراد حافظ الأسد، وكان إلى جانبه وقتذاك شقيقه رفعت، تأديب السوريين مرّة أخيرة. خدمته مجزرة حماة من 1982 إلى ما بعد مماته. أبقت البركان السوري خامدا نحو ثلاثين سنة. كان على النظام أن يبحث مجددا عن شرعية ما في عهد بشّار الأسد.
كان اندلاع الثورة السورية قبل أقل بقليل من ست سنوات دليلا على أن لا جدوى من هذا البحث. هذا يفسّر إلى حدّ كبير هذا الانقلاب في الأدوار بين النظام وداعميه. في الماضي، كان النظام يبتز روسيا وقبل ذلك الاتحاد السوفياتي. كان يبتز إيران وإيران تبتزه. كان يبتز العـرب، خصوصا أهل الخليج في كلّ وقت. ما نجده الآن أن روسيا، التي تعرف قبل غيرها، أن النظام لم يعد يصلح سوى ورقة في لعبة كبيرة لم يعد له من مبرر وجود باستثناء أنّه يمكن أن يستخدم في صفقة مع الإدارة الأميركية الجديدة.
لاحقت لعنة حماة النظام طويلا. لم يستطع التخلّص منها يوما. لن يستطيع في 2017 التخلص من لعنة سوريا، بعدما صارت سوريا كلّها حماة. أراد حافظ الأسد ما حلّ بحماة أن يكون درسا للسوريين. تبيّن أن السوريين ليسوا على استعداد للتعلّم من هذا الدرس وأن 35 سنة لم تكن كافية كي يمحوا المدينة من ذاكرتهم الفردية والجماعية… لم يعطوا ولن يعطوا يوما شرعية للنظام، لا في عهد الأب ولا في عهد الابن.
تأتي نهاية حقبة أوباما بعد 8 سنوات من الحكم ومجيء الرئيس دونالد ترمب واليمين الأميركي، في ظل ازدياد موجة الاحتجاجات الشعبية في داخل إيران، وتركيز الأنظار على المعارضة الإيرانية في الداخل والخارج وأوضاعها ومشروعاتها للتغيير.
وهناك من يرى أن السبب الرئيسي في بقاء النظام ليس قوته، وإنما يكمن في ضعف المعارضة، وأنه لا يمكن تغيير النظام والحصول على الدعم الإقليمي أو الدولي للمعارضة دون تأسيس بديل حقيقي من شأنه أن يقنع المجتمع الدولي بعدم تكرار التجربة السورية.
في هذا السياق، بدأت تيارات المعارضة في الخارج، خلال الأشهر الأخيرة بنشاطات واسعة لوضع خطة شاملة ترنو إلى إيجاد ائتلاف واسع وجاد يسعى لتغير النظام.
من بين هذه التيارات هناك السار الإيراني، وبشكل خاص حزب «تودة» الشوعي الذي يحظى بأهمية كبيرة بين المعارضة، رغم أنه خسر ثقله السياسي بعد الضربة الكبيرة التي تلقاها بعد الثورة في بداية الثمانينات وانهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن هذا الحزب كما التنظيمات اليسارية الأخرى يعاني من التشتت وفقدان التنسيق، رغم المرحلة التاريخية المهمة التي تمر بها المنطقة.
وضع حزب «تودة» جميع إمكاناته لصالح تقوية النظام الجديد بعد انتصار الثورة عام 1979. وساهم هذا الحزب في مساعدة بقايا جهاز السافاك ومخابرات الجمهورية الجديدة في إنشاء ما يسمى «ساواما» وهو جهاز المخابرات والأمن الإيراني. وتتهمه بعض أطياف المعارضة بالوقوف ضد جميع القوى المناهضة للنظام، حيث أوشى بآلاف الأشخاص وأرسلهم إلى الموت، كما دعم النظام الإيراني في الحرب مع العراق إبان الثمانينات.
ولكن رغم هذا فقد قام نظام الخميني الجديد وبعد استقراره النسبي بقمع «مجاهدين خلق» والأكراد والعرب الأهوازيين والأذريين والترکمان والآخرين، وأعقب ذلك بشن حملة شاملة ضد حزب «تودة» فنفذ إعدامات جماعية لقادته واعتقل الآلاف من عناصره ومناصريه. على سبيل المثال في 27 أبريل (نيسان) 1983، تم اعتقال نحو 670 من کوادر وقادات حزب «تودة» وأعدم ما يزيد عن 30 منهم في نفس الوم، منهم ضباط وعسكريون كانوا منظمين في الخلايا العسكرية لحزب «تودة»؛ وأنا شخصيا سبق وأن التقيت ببعض منهم في سجن «إيفن» في السبعينات إبان حكم الشاه، كالسادة ذو القدر وباقر زادة وشلتوكي وغيرهم.
بعد هروب فلاديمير كوزيتشكين رئيس مكتب الاستخبارات الروسية «كي جي بي» في طهران وطلبه اللجوء من بريطانيا عام 1982، كان قد سرب قائمة بقيادات وأعضاء حزب «تودة» مما أدى إلى تفكك الحزب وإعدام قادته. كما أعدم النظام وزر الخارجية صادق قطب زادة و121 من ضباط القوة الجوية، بتهمة المشاركة في محاولة انقلاب عسكري ضد النظام، من ضمنهم صديق الطفولة في عبادان الضابط سلطاني.
رغم ذلك، فإن اليسار الإيراني لا يزال يشكل من الناحية الفكرية قوة كبرى تمتلك برنامجا سياسيا للعدالة والمساواة، وله نشاط إعلامي مؤثر. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يستطيع اليسار الإيراني (الفارسي) أن يلعب دوره ويؤدي رسالته الثورية، ويرفض الهمنة الفارسية ويعمل مع سائر قوى المعارضة، وخاصة قوى الشعوب غير الفارسية المضطهدة، لإيجاد ائتلاف واسع من أجل تغيير النظام؟
أرى أن الرؤية التي دفعت بحزب «تودة» للوقوف إلى جانب الخميني ما زالت تتحكم فيه، حيث إن هذا الحزب واليسار الإيراني عموما يدافع عن نظام بشار الأسد الدموي في سوريا، كما يفعل معظم اليسار العربي التقليدي، ويدعم التدخل الروسي في سوريا، زاعما أن النظام الديكتاتوري في دمشق هو علماني، وأنه السد المنيع في وجه «داعش» والقوى التكفيرية الأخرى. وبالنسبة لموقف التيار اليساري من إسقاط النظام الإيراني، فإن القسم الأكبر منه قد تخلى عن خطاب إسقاط النظام، وفي أحسن الأحوال انضم للتيارات المطالبة بالإصلاح، لا بل سقط قسم منه في أحضان النظام، وهذا القسم لا يدافع عن نظام بشار الأسد فحسب، وإنما أيد حتى عمليات القتل والتهجير التي نفذها الحرس الثوري الإيراني وجيش الأسد والقوات الروسية في مدينة حلب مؤخرا، بقيادة الجنرال قاسم سليماني.
ولعل أبرز الشخصيات اليسارية الإيرانية التي تحدثت عن هذه الكارثة الإنسانية وأيدت التدخل الروسي - الإيراني في سوريا، البروفسور عباس ميلاني، أستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة ستانفورد الأميركية، والذي قضيت معه شخصيا فترة السجن في طهران. والطريف أنه كان مستشارا لأوباما في الشؤون الإيرانية، وبمعية زملاء له من نفس المنهج، لعب دورا ملموسا في إقناع إدارة أوباما بالتوصل إلى اتفاق مع طهران حول أنشطتها النووية. وهؤلاء جميعا لا يزالون يعارضون إسقاط النظام الإيراني.
إن الوضع المأساوي لليسار الإيراني لا ينتهي عند هذا الحد، حيث يقف بعضهم وليس جميعهم، إلى جانب نظام الملال فيما يتعلق بمناقشة مطالب الشعوب غير الفارسية، ولا سيما حقها في تقرير مصيرها، ويتذرعون بأن تحقيق هذا الهدف سيؤدي في نهاية المطاف إلى تفكك الدولة الإيرانية ونشوب حرب عرقية داخلية.
وهذا الموقف اليساري لطالما ساعد النظام الإيراني على البقاء؛ لأن تاريخ الحركات في إيران خلال أربعة عقود مضت، أثبت أن أي قوة لا تستطيع وحدها إسقاط النظام، فلا القوى الفارسية وحدها ولا قوى الشعوب غير الفارسية بمفردها يمكنها تحقيق هذه الغاية، لذا لا بد من توحيد صفوف أطياف المعارضة كافة في جبهة واسعة، تشمل جميع الأقاليم في إيران، لتضم جميع المكونات العرقية والمذهبية، بغية تأسيس ائتلاف واسع وقوي لكي يتمكن من تغيير موازين القوى لصالح المعارضة. إن تنظيمات وأحزاب الشعوب غير الفارسية لديها تحرك جدي وفاعل، وفقا لمشروع حقيقي قابل للتنفيذ، يهدف القضاء على نظام شديد المركزية، وإيجاد نظام ديمقراطي علماني فيدرالي غير مركزي على أنقاضه، تساهم جميع الشعوب في تأسيسه وتتعايش في ظله بشكل طوعي، بعيدا عن الصراعات. وعلى قوى المعارضة الإيرانية بجميع أطيافها، بدءًا من أحزاب اليسار إلى الديمقراطيين و«مجاهدين خلق» وغيرهم، استغلال هذه الفرصة وطرح بديل حقيقي لتخلص جميع الشعوب في إيران من هذا النظام القمعي الذي يمارس الإرهاب الداخلي، ويصدر نماذج مدمرة منه إلى المنطقة والعالم بأسره. ولكن لا يمكن تحقيق هذه الغاية دون تلقي المعارضة الشاملة مساعدات إقليمية ودولية.
يواصل الرئيس دونالد ترامب فتح جبهات جديدة. في كل تغريدة مفاجأة. يلوح ويحذر وينذر. إنها طريقة تعامل غير معهودة، لا مع الحلفاء ولا مع الخصوم. لم ينتظر اكتمال أعضاء إدارته. يعول على مجموعة صغيرة محيطة به. لكن المؤشرات الواضحة حتى الآن أن ثمة تغييراً جذرياً في قواعد السياسة الأميركية. هناك قطيعة كاملة مع سياسة الإدارة السابقة. شيء وحيد يريد ترسيخه في أيامه الأولى: سيكون أميناً لكل الشعارات التي رفعها وللوعود التي قطعها في حملته الانتخابية. أسقط مقولة كثيرين اعتقدوا بأن الوصول إلى البيت الأبيض سيدفعه إلى التعقل والنظر طويلاً في أي قرارات ستصدر عن أقوى دولة في العالم. لكن الرجل تجاوز التوقعات والقواعد وهزّ الداخل والخارج. وما اتخذه حتى الآن انقلاب واضح على سياسة سلفه باراك أوباما. يبدو مستعداً لخوض أي حرب، بل فتح جبهات عدة في وقت واحد! حتى أن أحد أبرز مستشاريه بشّر العالم بحربين، في غضون خمس إلى عشر سنوات. قال إن الولايات المتحدة ستخوض حرباً مع «صين توسعية» وأخرى في الشرق الأوسط مع «إسلام توسعي» أيضاً. المستشار ستيف بانون لم يحدد المعني بالإسلام التوسعي. لكنه لم يتردد في التأكيد «أننا نتوجه بوضوح إلى حرب كبرى في الشرق الأوسط مجدداً». بانتظار هاتين المواجهتين البعيدتين نسبياً الآن، استعجل البيت الأبيض فتح باب الصراع مع إيران. حذّرها رسمياً من أن «اختبار صاروخ باليستي وتصرفاتها ضد سفن البحرية الأميركية ومحاولات زعزعة الاستقرار لن تمضي من دون رد». هذا الموقف يأتي في سياق باقي المواقف أو القرارات التنفيذية التي اتخذها الرئيس الأميركي الجديد.
دانت إدارة ترامب «عدوانية روسيا» وأكدت أن لا رفع للعقوبات ما لم تعد القرم إلى أوكرانيا. وحذر الرئيس نفسه إيران من «اللعب بالنار». وتوعدها بأنه لن يكون متساهلاً معها كما كان سلفه. ومثله فعل وزير دفاعه الجنرال جيمس ماتيس الذي حذر كوريا الشمالية من «رد حاسم وساحق» إذا شنت هجوماً نووياً. هذا الخطاب العسكري يقلق كثيرين. قد لا يجر إلى حرب «طواحين الهواء»، كما عبر السيناتور جون ماكين. وقد لا يعني أن النار ستشتعل قريباً، وأن لغة الحديد والنار لا مفر منها. الرئيس الأميركي الجديد رجل أعمال يغرف من لغته وأدواته المعهودة. يرفع سقف شروطه إلى الحد الأقصى، بوجه روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية. ولا يوفر حتى الحلفاء أيضاً من أوروبا إلى الشرق الأوسط. لكنه سيجد نفسه في النهاية أمام مقايضات وصفقات. عجل في الرد على الجمهورية الإسلامية. فرض عقوبات جديدة وأرسل المدمرة «كول» إلى باب المندب. لكن إدارته عجلت أيضاً في التوضيح أن ذلك لا يمس بنود الاتفاق النووي. ومثلها فعلت طهران فقللت من أهمية التجربة الصاروخية بالقول إنه صاروخ متوسط المدى وليس معداً لحمل رأس نووي. وأكد وزير الخارجية محمد جواد ظريف أن بلاده لن تذهب إلى الحرب.
يعرف الوزير الإيراني كغيره أن الولايات المتحدة ليست ذاهبة إلى الحرب غداً. المواجهة تحتاج إلى استعدادات وخطط واتصالات وتحالفات واسعة مع أوروبا وقوى في الإقليم. وتستدعي حسابات دقيقة تتجاوز مسرح العمليات إلى التداعيات المحتملة في المنطقة كلها وخارجها. أبعد من ذلك لا تعول دوائر في واشنطن على تهديدات الرئيس ترامب وتغريداته المتناقضة أحياناً كثيرة. فهو نفسه كان صرّح في مناسبة سابقة بأن التدخل العسكري المباشر يؤثر في الاقتصاد كثيراً. وتوقع أن يؤدي تدخل روسيا العسكري في سورية إلى إفلاسها.
ورأى أن أي دولة تنغمس في الشرق الأوسط تبقى عالقة هناك! وما ينطبق على هذا الإقليم ينطبق على بحر الصين - الهاديء. يصعب تخيل وقوع مواجهة عسكرية مع الصين. فما “أنجزته” هذه في فضائها الأمني يستحيل أن تتخلى عنه. ومثلها روسيا التي تصعب رؤيتها وهي تنسحب مثلاً من شبه جزيرة القرم. هاتان دولتان نوويتان، وتضعان أولوية مصالحهما فوق أي اعتبارات أخرى، مثلما يرفع نرامب شعار “أميرك أولاً”. وستجد إدارته نفسها أمام واقع لا يمكن تجاوزه إذ يستحيل الرهان على حروب مدمرة. لن يبقى أمامها سوى التفاوض مع بكين وموسكو على سلة من القضايا والملفات، من الانتشار العسكري إلى اتفاقات المناخ والتجارة الحرة وسياسة الأبواب المفتوحة أمام تدفق البضائع وانتقال الشركات والمصانع وغيرها من الملفات الشائكة.
الهدف الكبير للرئيس ترامب أن يسعى إلى استعادة دور ريادي لأميركا. لكن الفرصة لن تكون متاحة كما كانت إثر انهيار الكتلة الاشتراكية وجدار برلين. لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء. ما تأخذه الدول الكبرى بالقوة العسكرية لا يستعاد لا بالقوة العسكرية. يمكن تحسين الشروط وتعديل خرائط النفوذ، وتقاسم المصالح. فالقيادتان الصينية والروسية تحتاجان أيضاً إلى حوار ومشاركة في حل معضلات تثقل عليهما. لا يمكن الأولى مواصلة بناء اقتصادها وتعميم منتجاتها في العالم والمحافظة على موقعها ثاني أكبر كتلة اقتصادية في العالم من دون تخفيف اندفاعها في محيطها بلا حساب لجيرانها الأقوياء أيضاً بالشريك الأميركي. ومثلها موسكو التي تحتاج أيضاً إلى إنهاء تدخلها العسكري في سورية وتسوية مرضية في أوكرانيا ووقف تقدم “الناتو” وتحديه لها في فضائها الأمني. المشكلات الدولية الأمنية والاقتصادية وقضايا المناخ والتجارة الحرة وغيرها لا تحل بضرب القواعد التي يقوم عليها النظام الدولي. تستدعي هذه تفاهمات بين الكبار دوليين وإقليميين.
على رغم نذر المواجهة بين الثلاثة الكبار، أميركا وروسيا والصين، إلا أن الأمر لم يتعد حتى الآن التصريحات والمواقف. فضلاً عن تعدد الآراء في دوائر السياسة الأميركية حيال القوتين الأخريين. لكن الوضع يختلف بالنسبة إلى إيران. كان واضحاً منذ فوز الرئيس ترامب أنه ليس وحده في الصراع معها. هناك شبه إجماع في أوساط الحزب الجمهوري على وجوب وضع حد لتمددها وانفلاشها. فضلاً عن قوى أوروبية وإقليمية تجهد لتقليم أصابعها في المنطقة والحد من نفوذها. فهي حظيت بتغاض متعمد من إدارة أوباما من أجل تمرير الاتفاق النووي. كان رهان تلك الإدارة على أن الاتفاق سيفتح باب التغيير داخل إيران، وفي سياستها الخارجية لتعود لاعباً إقليمياً مسؤولاً عبر الأطر والمؤسسات الدولية. وهو ما لم يحصل. الرئيس ترامب يدرك استحالة إلغاء الاتفاق. لكنه يدفع العلاقة معها إلى حافة الهاوية. يريد تطويقها بشتى السبل، خصوصاً العقوبات، لمنع إفادتها من مفاعيل الاتفاق. وبدأ الحديث عن تبدل في سياسة واشنطن حيال ما يجري في اليمن. أي أن الإدارة الجديدة يمكنها عبر التفاهم السياسي والعسكري مع أركان “عاصفة الحزم” ممارسة مزيد من الضغوط الميدانية على الحوثيين وشركائهم، وتضييق الحصار لمنع تهريب السلاح إليهم وفرض تسوية قد لا تروق لراعيهم الإقليمي. هذا الرهان وحده قد لا يكفي فالتقارير بدأت تحذر من تنامي قدرات “تنظيم القاعدة” في هذا البلد. ولم تكن طهران بعيدة يوماً عن استغلال هذا التنظيم سلاحاً بمواجهة خصومها، من أفغانستان إلى العراق غداة الغزو الأميركي لهذا البلد.
والسبيل نفسه يمكن اعتماده في سورية، إذا بدا أن الوضع في العراق أكثر تعقيداً. فالتمسك بالعقوبات على روسيا مثلاً قد يسمح لواشنطن بأن تقايضها في سورية وملفات أخرى، خصوصاً أن الكرملين يرغب في الخروج سريعاً من المستنقع السوري. ومثله أنقرة التي يطمئنها تعزيز البنتاغون دور قوى عربية في المعركة لتحرير الرقة. وهي تستعجل تسوية تريحها من طموحات الكرد. وكلا الأطراف الثلاثة معنية برفع اليد الإيرانية عن هذا البلد. لذلك قد يكون أسهل الطرق انضمام واشنطن إلى تفاهمات الرئيسين بوتين ورجب طيب أردوغان للحد من تدخلات طهران في بلاد الشام. ولكن يجب عدم التقليل من أوراق إيران وأسلحتها في هذا الصراع. فهي تملك جيشاً كبيراً من الميليشيات المحلية، من العراق إلى سورية ولبنان وحتى قطاع غزة. ولن تتساهل حيال تقليم أظافرها، أو السماح بزعزعة البناء الذي أنفقت سنوات في إقامته. علماً أن تأجيج الصراع معها سيهدد مصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائها في الإقليم. ويفاقم حدة معركة الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية الربيع المقبل. وهي معركة بكر المتشددون في فتحها على مصراعيها لضرب المعتدلين الذين خسروا أحد أركانهم أخيراً، علي أكبر هاشمي رفسنجاني. ويساهم في زرع مزيد من العقبات لمنع الرئيس حسن روحاني من التجديد لولاية ثانية. دفع إيران إلى الخروج وميليشياتها من سورية قد يقودها إلى فتح جبهات للتعويض في أماكن أخرى، في العراق ولبنان وغيرهما. تحذير الرئيس ترامب إيران من اللعب بالنار وباستقرار الإقليم شيء واللعب بالنار الإيرانية شيء آخر! وتطويق الانتشار العسكري الإيراني يستلزم بناء تحالف إقليمي واسع من مصر إلى تركيا مروراً بدول الخليج، فضلاً عن القوى الكبرى وعلى رأسها روسيا. فمن يقدم على اللعب بالنار أولاً؟
من الجامع العمري إلى مجازر حلب ، ينتقل القاتل بكل عنفوان وثقة ، و قناعة تامة أن لا رادع له ، ولامانع على هذه الأرض ، فالأعداء المتصارعين اتفقوا على منحه الاذن المضرج بدمائنا ، والسلطة اللازمة لمواصلة عقابنا ، و بالنهاية سنصفى خلف أبواب المعتقلات ، لتنهي قصة حماه الكبرى من جديد.
تختلط الأوراق بشكل كبير ، و تتغير المسميات و يتنوع المجرمون لدرجة تخطئ البوصلة الاتجاه ، و تتحول لعقارب مجنونة تشير إلى كل الاتجاهات ، و تعمل الجواذب المختلفة لتحويلها لجميع القتلة ، إلا القاتل الأصلي و المحرك الرئيسي للجميع .
في خضم البحث عن حل في ركام الجثامين ، تتجه الأنظار نحو ترسيخ وجود القاتل و رعايته للخلاص ، بإنه أفضل الأشرار ،و أكثرهم حنكة ، و أقلهم خطراً على الكرة الأرضية ، و لو غيّب بلد بأكمله عن الخارطة .
اليوم تختلط الأصوات الداعية للهدوء ، و الراسمة لخطوط العبور نحو النهاية المعتادة لجميع الحروب ، و لكن هذا الاختلاط في الأصوات لا يمكن سماعه تحت أزيز المجازر و نداءات المستغيثين ، من جامع درعا إلى القبير بحماه و الحولة بحمص و داريا و جديدة الفضل و الغوطة الشرقية و كيماويها ، و نهر قويق و البيضا ، كرم الزيتون و التريمسة و … و …. ، و المئات من المجازر التي تضيق المساحات في الذاكرة و الفضاء على إحصائها و إيرادها .
جميع المسميات من حزب الله وصولاً إلى أصغر مليشيا ارهابية بنكهة طائفية ، من أشد المتشدين وحتى أكثرهم خفاء و رحمة ، ومن أعتى و أقذر دولة في العالم إلى أكثرهم سلماً ، لن يكون لهم جميعاً أي فعالية أو وجود أو سبب للايجاد ، اذا رحل الأسد ، و إذا عوقب الأسد ، و لامكان لأي هدوء أو برود طالما بقي تحت أي مسمى أو وصف أو شكل .
الأسد مصنع الارهاب و سببه و داعمه ، وعنصره الأب الصانع و المولد ، مالم ينتهي لن ينتهي شيء ، وطالما هو موجود فإننا سنشهد أمور سيكون الواقع عبارة عن جنة أمام سعير جهنم القادم.
رحلت إدارة باراك أوباما ومعها العشق من جانب واحد الذي بقي ممنوعاً، وكذلك الرهان على التغيير في طهران أو إبرام شراكة معها، وتمركز دونالد ترامب الذي بدأ يهز العالم بقراراته التنفيذية المترجمة لوعوده الانتخابية، لكن صانع القرار الإيراني بدا غير منتبه أو غير مكترث بهذا التحول في البيت الأبيض، وإذ به يوجه رسائل استفزاز وتحد بعد أيام على تنصيب دونالد ترامب. من خلال تجربة الصاروخ الباليستي المتوسط المدى، والهجوم الحوثي ضد الفرقاطة السعودية، أرادت طهران جس نبض فريق ترامب. لم يتأخر الرد الأميركي بالتحذير الشديد والعقوبات مما يؤشر على اختبار للقوة بين الجانبين لن يخرج في البداية عن السيطرة، لكنه سيمهد على الأرجح لرسم معادلة جديدة في الإقليم قد لا تكون لصالح اللاعب الإيراني.
يبدو ترامب وكأنه يسابق الزمن كي يثبت بدء عهد جديد في واشنطن والعالم، وأنه كان يعني ما يقول خلال حملته الانتخابية أو في المرحلة الانتقالية قبل تسلمه الحكم. وهكذا عند أول احتكاك مع إيران سرعان ما وصف الاتفاق النووي مع إيران بالكارثي أو الفظيع، لكنه لم يطالب بإلغائه لاستحالة الأمر عملياً أو لخطورته. وحسب مصادر مطلعة في واشنطن، يمكن تلخيص خطة ترامب حول إيران على الشكل الآتي:
◄ نووي عسكري أو ممهد للعسكري صفر، وذلك عبر التنفيذ الصارم للاتفاق النووي، وليس تمزيقه. تريد الإدارة متابعة تكثيف المراقبة الدقيقة لكل شاردة وواردة، فإذا قامت إيران بانتهاك الاتفاق، سيسقط الاتفاق ويتم القفز إلى المحاسبة.
◄ رفض تطوير برنامج الصواريخ الباليستية. ولذا سيكون الرد على تجربة أواخر يناير 2017 عبر حزمة عقوبات كانت قيد الإعداد.
◄ مراقبة نشاطات إيران المزعزعة للاستقرار الإقليمي، ورفض التدخل السافر في شؤون الدول الأخرى (ضمن الأفكار المطروحة، فرض عقوبات على شركات طيران إيرانية تنقل السلاح إلى العراق أو سوريا).
◄ التنبه لنشاطات دعم الإرهاب.
عند أول تطبيق عملي، يتضح أن لهجة الإدارة الجديدة تعكس تحولاً بنسبة 180 درجة عن إدارة باراك أوباما؛ حيث أن تضمين اعتداءات الحوثيين ضد المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في بيان التحذير الذي صدر عن البيت الأبيض أو في المؤتمر الصحافي لمستشار الأمن القومي مايكل فلين يعكس تركيز الإدارة الأميركية على تصرفات إيران وسلوكها الإقليمي، وهو ما كان يتجاهله فريق أوباما.
حسب مصادر في المنامة، تزامنت تجربة إطلاق الصاروخ الباليستي الإيراني مع مناورات بحرية بين 31 يناير و2 فبراير تجرى للمرة الأولى في المياه الإقليمية الواقعة بين البحرين وإيران، وهذه المناورات المسماة “ترايدنت يونايتد” والتي شاركت فيها قوات بحرية أميركية وبريطانية وفرنسية وأسترالية، شملت جميع أنواع العمليات البحرية بهدف تعزيز الشراكة بين القوات المشاركة، ودعم الأمن البحري وتعزيز التعاون الدولي لضمان حرية انسياب حركة التجارة في منطقة الخليج، كما كانت تهدف إلى تحسين الكفاءة التكتيكية للقوات وتقوية علاقات الشراكة لضمان حرية الملاحة.
وغالباً ما كان الحرس الثوري الإيراني يرسل زوارقه لاستفزاز السفن المشاركة والتحرش بها، لكن هذه المرة لم يحصل ذلك، لأن هذه السفن كانت متطورة ومحصنة، وحسب مصدر في دبي كان “قائد الأسطول الأميركي الخامس قد وجه تهديداً بإطلاق النار الفوري على أي تحرك مشبوه”. وتبعاً لهذه المجريات لا يستبعد أن يكون الاعتداء على الفرقاطة السعودية رسالة للقول بأن إيران قادرة على إثبات الوجود في هذه الممرات الإستراتيجية التي تعتبر من أبرز شرايين التجارة العالمية ونقل الطاقة. طبقاً لقانون البحار لعام 1982، لا يحق لأي قوة عرقلة الملاحة الدولية. وللتذكير حاولت إيران عند نهايات الحرب العراقية – الإيرانية (تحديدا في الفترة بين 1987 و1988) تعطيل حرية الحركة وكان الثمن ردوداً غربية أسفرت عن توقيف الحرب وتراجع إيران.في مواجهة الوقائع الجديدة، بدا رد الفعل الإيراني متشددا في الظاهر مع كلام علي ولايتي مستشار المرشد الأعلى عن “تمريغ أميركا سابقا بالوحل في العراق” لكن يبدو أنه إزاء التحذير الأميركي الشديد اللهجة غابت عن ردود الأفعال الإيرانية عبارة “الشيطان الأكبر” وغيرها من المفردات المعتادة. على المدى القصير، يعتقد أن العقوبات الأميركية الجديدة قد تكون مقدمة لسياسة أشد صرامة، لكن ستفرضها الولايات المتحدة بطريقة لا تتعارض مع الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 والذي بمقتضاه وافقت طهران على تقييد برنامجها النووي مقابل إعفائها من عقوبات اقتصادية.
هكذا تبدأ صفحة جديدة في المسلسل الطويل بين واشنطن وطهران والمستمر فصولاً منذ عام 1979، والأرجح بدء المعارضة الأميركية للتوغل الإيراني في سوريا والعراق والتدخل الإيراني في اليمن، وسيكون ذلك وفق معادلة تفترض مساعدة واشنطن للحلفاء المحليين مقابل مشاركتهم الفعالة في هذا المجهود وتبني الخطط الأميركية في محاربة الإرهاب. وفي نفس السياق، سيكون لمسارات الحوار أو التنسيق بين واشنطن وكلّ من روسيا وإسرائيل أثر مباشر في بلورة المقاربة الأميركية الشاملة إزاء إيران.
يحمل السجال العلني، وغير المألوف دولياً، بين روسيا وإيران حول من يمكن وصفه بـ «صاحب الفضل» في إنقاذ دمشق، وتالياً النظام السوري، من السقوط خلال الفترة الماضية، أحد معنيين أو المعنيين: إما أنهما بدأتا التنافس حول وراثة النظام بعد أن فقد من وجهة نظرهما مبرر وجوده، أو أنهما تشيران الى تباين جدي بينهما حول أولويات المرحلة المقبلة... تسوية سياسية للحرب السورية، أو استمرار هذه الحرب لسنوات أخرى.
فليس مألوفاً بين الدول في العالم، بخاصة إذا كانت كبرى كما هي حال روسيا، أو ساعية لدور اقليمي ودولي كما هي ايران، أن تدخل في سجال حول من ساهم أكثر من غيره، أو ربما حتى من دون غيره، في الحرب الإبادية الناشبة منذ ستة أعوام في دولة ثالثة. وسواء حملت هذه الحرب اسم الدفاع عن النظام في سورية، أو محاربة الإرهاب، أو غيرهما، فلا يغير ذلك في الأمر شيئا: تدمير سورية وتشريد شعبها في أصقاع الأرض في نهاية المطاف. كذلك فإنه بغض النظر عن غياب النظام عن هذا السجال، فضلاً عن الاتفاقات المسبقة في شأن المفاوضات في آستانة، فلا يقلل هذا الأمر من شأن «الاشتباك» بين موسكو وطهران حول ما تم حتى الآن، ولا حول ما سيجري مستقبلاً.
بدأ السجال عندما تبرع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في تصريح صحافي من دون مناسبة مبررة وعلى هامش اجتماع وزاري ضمه ووزيري الخارجية الإيراني والتركي تحضيراً لاجتماع آستانة بين وفدين من النظام والمعارضة المسلحة، بإعلان أنه لولا التدخل العسكري الروسي في أيلول (سبتمبر) عام 2015 لكانت دمشق قد سقطت في أقل من أسبوعين. بعده بأيام، جاء الرد على لسان المستشار العسكري للمرشد الإيراني على خامنئي الذي قال انه لولا التدخل الإيراني لكانت كل من دمشق وبغداد قد سقطتا معاً خلال أيام وليس خلال أسابيع. ليأتي بعده دور قاعدة حميميم الروسية (باتت، كما يبدو، مركزاً اعلامياً ناشطاً)، لتعلن في بيان رسمي ان التدخل الروسي في سورية بدأ بعد أكثر من ثلاثة أعوام من تواجد ايران، بقواتها المسلحة وحرسها الثوري وميليشياتها، من دون نتيجة في ما يتعلق بإنقاذ دمشق التي كانت توشك على السقوط. أكثر من ذلك، فليس سراً أن التدخل الروسي جرى بالتنسيق المباشر بين موسكو ودمشق وطهران، وأن الأخيرة تحدثت عن زيارتين قام بهما الى موسكو مسؤولها العسكري في سورية، قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني، عشية الإعلان عن هذا التدخل... بما يفيد بأن هدفه لم يكن فقط إنقاذ نظام الحكم في دمشق، انما أيضاً انقاذ ايران نفسها من ورطتها في سورية.
لكن، ماذا وراء هذا السجال غير المألوف دولياً بين روسيا وإيران حول دور كل منهما في سورية؟.
غني عن القول ان ما يريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من قاعدتيه العسكريتين الكبيرتين في حميميم وطرطوس النظر منهما الى العالم الواسع، أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وجوارهما التركي بحراً وبراً وصولاً الى أوروبا والغرب عموماً من ناحية، وإلى الشرق الأوسط العربي من ناحية ثانية، أكثر من التطلع الى الداخل السوري على أهميته القصوى بالنسبة لما سيكون عليه مستقبل قاعدتيه هاتين في سورية. ولعل انفتاح بوتين على الوضع الفلسطيني من ناحية، بإعلانه الاستعداد للعب دور في تسويتها، وقوله قبل أيام فقط أن دعوته لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لا تزال مفتوحة، وعلى الوضع الليبي من خلال استقباله مرتين على الأقل في خلال شهرين قائد الجيش فيها (عملياً، أحد الجيوش الليبية) الجنرال خليفة حفتر ووعده بتسليح قواته، يكفيان للتدليل على نظرة زعيم الكرملين الإستراتيجية والبعيدة المدى للمنطقة ان لم يكن الآن، ففي الفترة المقبلة من تواجد قاعدتيه، وبالتالي تزايد دوره ونفوذه، في سورية.
قد لا يكون بوتين بصدد البحث عن بديل للأسد في هذه المرحلة، أقله لارتباط وجوده بوجود القاعدتين وجملة الامتيازات التي وفرها لها وللسياسات الروسية فيها وفي المنطقة، الا أنه كما يبدو يريد تسوية سياسية يضمن من خلالها ليس بقاء القاعدتين لمدة طويلة فقط، انما تحولهما رأس جسر سياسياً يلاقي طموحاته باستعادة دور الاتحاد السوفياتي السابق، وحتى القيصر الروسي القديم، في سياسات المنطقة والعالم.
وليست هذه، ولا شيء منها على الإطلاق، في خطة إيران لسورية أو بخاصة لمستقبل الحرب فيها. فهذه لا ترى في سورية سوى «سورية الأسد» من دون غيرها، وتحديداً منها الجزء الذي لا يتجزأ من محور امبراطوري يقوده «الولي الفقيه» في ايران ويمتد من طهران الى دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء، والذي لا بد أن تتواصل الحرب فيه الى أن يتم «تحرير» كامل الأراضي السورية وتجري استعادتها الى كنف النظام (عملياً، كنف ايران وقواتها وميليشياتها وحرسها الثوري) كما كانت قبل بدء الثورة ضده في آذار (مارس) 2011.
والخطاب السياسي والإعلامي الإيراني، كما ممارسات ميليشياتها على الأرض في منطقة وادي بردى وغيرها وصولاً في الفترة الأخيرة الى مدينة الباب في الشمال السوري، لا يقول غير ذلك.
ولعل هذه هي معضلة سورية الآن، ومعها الى حد كبير معضلة روسيا وتركيا اللتين تبحثان عن تسوية تنهي الحرب المديدة في هذا البلد المعذب.
لا جدوى من تجديد الحديث عن انعدام الشعور بالمسؤولية لدى أهل النظام الأسدي في كل ما يتصل بمكونات المجتمع السوري، وخصوصاً منها المكوّن العلوي الذي ألقوا به إلى محرقة دمرته، لن يبقى بعدها ما كان عليه قبلها، عدديا ومجتمعيا، سياسيا واجتماعيا. لو كان عند أهل النظام أدنى شعور بالمسؤولية عن شعب"هم"، لما عاملوه بعنف خمسين عاما، ولأحجموا عن إطلاق النار على متظاهرين شبّان، غالبا طالبوا سلميا بحريتهم، ولتذكّروا أن الحرية أحد وعود حزبهم للعرب، وليست مؤامرة إمبريالية/ صهيونية، ولبادروا إلى إجراء إصلاح طالما تحدث الأسد الأب عن ضرورته في سنواته الأخيرة، ولما حالوا، بجميع الوسائل، دون حل توافقي لأزماتٍ افتعلوها، للسيطرة على الشعب، وصرفه عن الاهتمام بقضاياه العامة ومشكلاته المستعصية، التي أنتجتها سياساتهم في جميع المجالات والأصعدة، ولسارعوا إلى تلبية مطالب مواطنيهم، ولتجنبوا شن حرب إبادة وتدمير شاملة عليهم، أجبرتهم على الدفاع عن وجودهم بقوة السلاح. بدل أن يرفض أهل النظام الحل العسكري/ الأمني، ويروا فيه ضربا من الاستحالة، جعلوا الحل الإصلاحي/ السلمي، الكفيل وحده بإنقاذ دولة سورية ومجتمعها، مستحيلا، والمطالبة به خيانة وطنية عقوبتها الموت قتلا. لذلك، شرعوا يطلقون النار على مواطني"هم"، إناثا وذكورا، ويستهدفون بالقتل الشبان منهم بصورة خاصة، حتى صار مجرد أن المرء شاب سببا كافيا لقتله، فلا عجب أن غطت دماء الشباب أرض سورية من أقصاها إلى أدناها.
لم تكن هذه السياسة الإجرامية وقتية، بل خيارا تبناه النظام ورعاه، منذ استولى الأسد الأب على السلطة عام 1970، وتصرّف وكأن سورية لا تتسع للنظام والشعب، وأن حضور أحدهما لا بد أن يغيب حضور الآخر، فلا مكان لأي توافق أو تعايش عادي أو طبيعي بينهما، ولا علاج لأي خلاف بينهما غير العنف الأقصى (الرادع) الذي لا بأس إن بلغ حال حربٍ يخوضها جيشه المستعد لها أولوية أمنية عليا، بالنظر إلى أن عدو الداخل أشد خطرا من أي عدو خارجي، وخصوصاً إسرائيل.
واليوم، وبعد قرابة ستة أعوام من حربٍ مجنونةٍ شنها الأسد على السوريات والسوريين، تعترف دول العالم جميعها باستحالة الحل العسكري، وبالنتيجة باستحالة عودة سورية إلى وضعها الأسدي الذي عاشته قبل ثورتها، نرى الأسدية تصر على حلها المستحيل، وتضع السوريين والعالم أمام خيارٍ لا مهرب منه، هو إرغامها على قبول حل سياسي يجبرها على دفع الأثمان المناسبة لما ارتكبته من جرائم ضد شعب"ها"، وشعوب الدنيا التي عرضتها بوحشيتها المنقطعة النظير لمخاطر وتحديات كارثية، فرضت على عديد من بلدانها أعباءً ومراجعاتٍ استراتيجية ثقيلة الوطأة وغير مسبوقة، علها تحول دون انتقال الإرهاب، وخصوصاً منه الأسدي، إليها، ومن دون توريطها في حروبٍ سرية وعلنية في بلدانها، وعلى أرض سورية، يحتّمها الارتباط الجدلي بين سياسات الأسد السورية وما يعيشه المجتمع الدولي من انعكاساتٍ ناجمةٍ عنها، ويصيب علاقات وأوزان قواه من تبدلاتٍ تقوّض توازناته، وتنتهك قيمه وتشل مؤسساته، ويرجّح كثيرون أن تنتج نظاما دوليا أشد سوءا من نظامه الحالي الذي تخلق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتلاشي نظام القطبية الثنائية.
على الرغم من أستانه، وما بذله الروس والأتراك من جهد لإحداث انعطافةٍ سورية يمهد الالتزام بها لحل سياسي، أعلن بشار الجعفري، ممثل الأسدية فيها، رفض نظامه التخلي عن الحل العسكري، المستحيل سورياً وإقليميا ودوليا، كما رفض التقيد بوقف إطلاق النار، بذريعة محاربة الإرهاب، ضاربا عرض الحائط رغبة السوريين، وغيرهم من المطالبين بالسلام في وقف إراقة دماء الأبرياء، والتعاون ضد الإرهاب المزدوج، الآتي من الدولة الاستبدادية التي لا تعتمد سبيلا آخر للتعامل مع شعبها غير العنف، وذاك الذي تمارسه تنظيماتٌ مذهبيةٌ لعب الاستبداد الأسدي دورا كبيرا في تأسيسها، وكذلك التعاون لوضع حد للحل الأسدي المستحيل: منتج الفوضى والموت قرابة ستة أعوام، والمتسم بعبثيةٍ مطلقة على الصعيدين، السياسي والعسكري، وسفك بحارا من الدماء، من دون أن يكون لها إلى اليوم أي عائد سياسي.
إلى متى يبقى العالم صامتا حيال نظامٍ يرفض أي حل سياسي لمعضلةٍ تسبب بها، ويصر على حله العسكري المستحيل من جهة، والعاجز، من جهة أخرى، عن مواجهة أزمات سياسية/ اجتماعية لم يسبق لحلٍ عنيف أن نجح في التخلص منها، على الرغم من أن ناتجها الأوحد كان دوما أنهارا من دماء الأبرياء، وأزمات غطت أربع أقطار الأرض، وقوّضت عيش مواطنيها الآمنين؟
تضع الأحداث الدولية المتسارعة الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية التي يترأسها رياض حجاب، والتي تضم ممثلين من معظم كيانات المعارضة، السياسية والعسكرية، في الداخل والخارج، أمام منعطفٍ كبير، وتحدياتٍ كثيرة، إذ من شأن ذلك أن يعيد هيكلة تمثيل الكيانات السياسية المعارضة، بل وحتى إنتاج مرجعية تفاوضية جديدة، لا تأخذ في الحسبان شكل (ونسب) التمثيل التي جرى اعتمادها في أثناء تشكيل تلك الهيئة في الرياض (ديسمبر/ كانون الأول 2015).
على ذلك، أضحت هذه الهيئة التي كانت تشكلت في الرياض، قبل أكثر من عام، في مواجهة أوضاع أو تحديات جديدة، لا بد من التعامل أو التكيّف معها، أو مقاومتها، لعل أهمها يتمثل في الآتي:
أولاً، الإبقاء على الروابط القوية التي تجمعها مع فصائل المعارضة المسلحة، والتي تعتبر موسكو أنها حقّقت خرقاً كبيراً في مواقفها، من خلال العلاقة الوطيدة التي أضحت تربطها مع تركيا من جهة، ومن خلال التزام هذه الفصائل ببيان أستانة، الموقع من الحليفة والضامنة لهم تركيا من جهة أخرى.
ثانياً، التساؤل بخصوص موقع المعارضة المسلحة في إطار تحوّلها إلى قوة للمعارضة السياسية لتحقيق الانتقال السياسي، وليس الانقلاب العسكري، أو الاندماج العسكري، الذي تطمح له روسيا، بالطريقة التي تضمن لها بقاء سيطرتها على سورية، بوصفها دولة تحت الوصاية.
ثالثا، تحقيق ما صرح به المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، في 31 يناير/ كانون الثاني الماضي، حول تشكيل وفد واحد للمعارضة، والمقصود وفد يضم ممثلي المنصات التي اجتمعت في موسكو، مع وفد "الهيئة العليا"، وهو الأمر المتطابق مع بيان اجتماع موسكو (27 يناير). وهنا، يبرز التحدّي في آلية العمل التي ستتبعها للوصول إلى تفاهماتٍ لتشكيل الوفد المطلوب دولياً.
رابعاً، وقبل الوصول إلى تشكيل الوفد، لا بد من الوصول إلى ما هو أهم من الوفد الواحد، وهو الرؤية للعملية التفاوضية بكاملها، وما هو الهدف المبتغى منها؟ أي بصراحةٍ مطلقة: على ماذا سيتم التفاوض، وما هو السقف الأعلى، قبل الوصول إلى أخفض درجات السقف الأدنى الجامع الذي يتوافق عليه المتفاوضون على تباين مواقفهم، ومواقعهم؟
خامساً، كيف وما نسبة التمثيل المفترضة وآليات تنفيذها لكل التكوينات السياسية؟ وهل ستستطيع الهيئة العليا للمفاوضات أن ترمم خلافاتها مع مكوّناتها التي صارت أطرافاً في هذه المنصّات، بعد أن كانت جزءاً من الهيئة نفسها، كتيار بناء الدولة ورئيس تيار الغد ورئيس مجموعة سورية الوطن؟ وماذا عن كيانات سياسية كحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ومنصة حميميم وغيرهما؟
كل هذه التساؤلات، أو المعطيات، تضع الهيئة العليا للمفاوضات أمام مسؤولياتٍ كبيرة وكثيرة لكي ترتب صفوفها، وتوضح مواقفها، ولكي تعزّز من دور السوريين ككل في تقرير مستقبلهم، بدل أن تقرّره عنهم الدول الكبرى، أو الدول الفاعلة في الصراع السوري، بحسب أجندتها وأولوياتها.
ولعل هذه الهيئة مطالبة بإدراك الوضع الحرج الذي باتت فيه، لا سيما على ضوء متغيرات عديدة، أهمها: أولاً، تحوّل الموقف التركي نحو التنسيق مع روسيا في الملف السوري، وهو موقفٌ نجمت عنه مضاعفاتٌ أو تداعيات عديدة سياسية وميدانية، خفضت سقف المعارضة. ثانياً، انحسار مكانة فصائل المعارضة العسكرية، بعد خسارة مواقع نفوذها في مناطق عديدة، ولا سيما في حلب، وهو ما اضطرها إلى المشاركة في مؤتمر أستانة. ثالثاً، دخول فصائل المعارضة العسكرية على خط المفاوضات، بعد أن كان الأمر في يد الهيئة وحدها، من جهة المعارضة. رابعاً، افتقاد الهيئة العليا للمفاوضات، والمعارضة السورية إجمالا، أية أوراق ضغط لفرض نفسها ممثلاً وحيداً، أو ممثلاً أساسياً في المفاوضات.
على ضوء هذا الوضع، يفترض بالهيئة أن تشتغل بعقلية وطنية، مسؤولة ومرنة، بحيث تستطيع لملمة كل الكيانات والإرادات المبعثرة للمعارضة السورية، بشقيها العسكري والسياسي، الداخلي والخارجي، للمضي إلى المفاوضات نواة صلبة لمواجهة استحقاقات جنيف التفاوضية، وتحصيل ما يمكن لتجاوز أزمة المعارضة والثورة. كما مطلوب منها العمل بعقليةٍ منفتحة، تتمكّن بها من العمل مع أطراف المعارضة الأخرى التي تتفق معها بالهدف الأساسي، وهو الانتهاء من نظام الاستبداد، وإقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة مدنية وديمقراطية، بحيث تتجاوز، في ذلك، الخلافات الحالية والمصالح الحزبية أو الكيانية، من أجل المستقبل المشترك، ومن أجل مصلحة شعبنا السوري كله.
يبدو التوجه نحو إقامة مناطق آمنة في سورية متأخراً. ومن مظاهر تأخره تدفق ملايين النازحين السوريين إلى الخارج، وأعداد كبيرة إلى الداخل ممن فقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم. والأسوأ من ذلك أن غياب وجود مناطق آمنة للسوريين في وطنهم قد أدى إلى إزهاق أرواح نصف مليون ضحية، مع أعداد هائلة من المصابين والجرحى، ومئات الآلاف من المعتقلين، وقد قضى الآلاف منهم تحت التعذيب، في ما بات يُعرف بأكبر كارثة إنسانية في عالمنا منذ الحرب العالمية الثانية، هذا من دون إغفال نكبة فلسطين في العام 1948 وتشريد شعبها.
التوجه الذي أعلن عنه الرئيس دونالد ترامب، في الأيام الأولى لحلوله في البيت الأبيض، سبق أن تعرّض للرفض من الرئيس السابق، باراك أوباما، بحجة أن إقامة تلك المناطق تستلزم تهيئة تجهيزاتٍ عسكرية وإقامة حظر جوي، وكان أوباما يعتبر أن أية خطوةٍ لتقييد حركة النظام ضد شعبه، وضمان حدٍّ أدنى من الأمن للمدنيين على أنها سوف تزيد الوضع سوءاً (!)، وهو ما تذاكى فيه مسؤولون روس، عقّبوا على هذا التوجه، بالقول إن أيّة مناطق آمنة سوف تشكل خطراً على النازحين (!). علماً أن الطائرات الروسية، بالمشاركة مع طائرات النظام، سبق أن قصفت مراراً وتكراراً مخيمات وأماكن إيواء للنازحين، في ريف حلب، وفي إدلب، خلال العام 2016، وبسلوك وحشي لا مثيل له في تاريخ الحروب. بعد أن أعيتهم الحجة، لرفض هذا التوجه، طلب الروس موافقة النظام على إقامة تلك المناطق، علماً أن الهدف الأساسي منه هو حماية المدنيين من بطش النظام، لكن الأخير، على لسان وزير الخارجية وليد المعلم، سارع إلى رفض هذا التوجه (لانتهاكه السيادة .. المصونة)، من دون أن يثير هذا الرفض أصداءً تُذكر. ومن المثير للانتباه أن قوى المعارضة السورية تريثت في إبداء موقفٍ حيال هذا التوجه، علماً أن إقامة مناطق آمنة شكّل، على الدوام، مطلباً لهذه القوى، مقترناً بمطلب فرض حظر جوي.
والآن، بات هذا التوجه بين أيدي مؤسسات أمنية أميركية، إلى أن يُصار إلى تشريعه. وفي هذه الأثناء، سرّبت مصادر إعلامية أن اتصالاتٍ تجريها واشنطن مع أطراف تركية وأردنية وسعودية لهذا الغرض، علاوة على الطرف الروسي الذي يتمتع بوجود قوي على الأرض، والذي تراجع عن رفض الفكرة التي من شأن تنفيذها إحداث تغييراتٍ هي الأولى من نوعها، لجهة تقييد حركة النظام، والحؤول بينه وبين مواصلة هوايته اليومية المفضلة، وهي الفتك بشعبه، كما من شأن تنفيذ الخطوة كبح حركة "داعش" في التنكيل بالمدنيين، وصولاً إلى المنظمات الطائفية اللبنانية والعراقية، ذات الولاء الإيراني التي استمرأت التطهير العرقي والطائفي على مدى سنواتٍ، من دون أن تتعرّض هذه المليشيات للإدانة والمساءلة. ومعلوم أن الهدف الأميركي من إعلان هذا التوجه هو الحدّ من نزوح اللاجئين إلى الخارج. وفي ذلك، فإن هذا التوجه يحقق غايته، وذلك بـ "حرمان" النظام وحلفائه من قذف ملايين المدنيين إلى الخارج، من أجل تحقيق "الصفاء الطائفي" الذي سبق لرأس النظام أن تحدث عنه مُعرباً عن ارتياحه لهذه التغييرات.
على أن الخطوة، بقدر ما تثير ارتياحاً، وتفتح أفقاً لوقف معاناة السوريين، فإنها تنطوي على محاذير، يتمثل الأول منها في عدم وضوح الأهداف حتى الآن، فهل المقصود مثلاً مجرد تثبيت المقيمين على أرضهم، أم إن الهدف يشمل ضمان عودة اللاجئين إلى وطنهم في ظروف آمنة؟ بالعودة إلى مجريات الوضع قبل أربع سنوات على الأقل، استقبلت كل من تركيا والأردن ما لا يقل عن ثلاثة ملايين لاجئ سوري. وكان واضحاً، منذ البداية، أن النظام يريد التخلص من هؤلاء، وإلقاء العبء على دول الجوار. وفي ضوء ذلك، كان منطق الأمور يقضي بأن توفّر كل من تركيا والأردن بالتعاون مع الأمم المتحدة ملاذات آمنة لهؤلاء داخل وطنهم. وهو ما استنكفت عنه هاتان الدولتان، احتراماً لأحكام القانون الدولي، وبأمل أن يُصار إلى وضع حلول لمحنة اللجوء. استقبلت دول أخرى، مثل لبنان، ما لا يقل عن مليون لاجىء، وقد تعرّض هؤلاء، وما زالوا، إلى عسف شديد على الأراضي اللبنانية من أجهزة رسمية، ومن حزب الله، ووُجّهوا بتعامل طائفي وعنصري، لا نظير له في تاريخ صراعات المنطقة. ولن تكون خطوة المناطق الآمنة ذات معنى، إذا لم تضمن عودة نازحي تركيا والأردن ولبنان ومصر والعراق، بضماناتٍ أميركيةٍ وروسيةٍ وتركيةٍ وأردنيةٍ، على الأرض وفي الأجواء.
يتمثل محذور ثانٍ، كما يقول الناشط السوري فوزي غزلان، في الخشية من أن يتم تجميع نازحين عائدين أو نازحين قادمين من مناطق أخرى، في ما يشبه كانتونات بعيداً عن مناطق إقامتهم الأصلية. وبذلك، يتحوّل النازحون لاجئين بصفة دائمة في وطنهم، والفرق أن الأمم المتحدة وبعض الدول سوف ترعى وضعية لجوء هؤلاء، فيما الحل الموضوعي والحق الثابت هو في عودة الجميع إلى ديارهم. وهو أمرٌ يقف دونه حال الدمار لمساكن هؤلاء في مناطق، مثل حماة وحمص ودرعا وريف دمشق وحلب وريفها. ومغزى ذلك أنه لا يمكن للمناطق الآمنة أن تحقق الغاية المنشودة منها، بمعزلٍ عن حل سياسي شامل، وفق المرجعيات الدولية، يكون مقدمة لإعادة الإعمار، وعودة النازحين وإخلاء سبيل عشرات آلاف المعتقلين. ومن شأن حل شامل كهذا ليس فقط وقف المحنة المتطاولة، بل كذلك رفع الأعباء عن دول الجوار والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة.
كان الواجب يقضي، منذ خمس سنوات، بالضغط على النظام، لوقف حربه الدموية، والتوقف عن قذف ملايين السوريين إلى خارج الحدود، وتحميل المسؤولية عنهم لدول العالم والمنظمات الدولية. وكان الواجب يقضي بتقييد حركة النظام ومنعه من قذف البراميل المتفجرة واستخدام الأسلحة الثقيلة والأسلحة المحرّمة ضد شعبه، لكن السيد أوباما آثر الوقوف موقف المتفرّج، فيما كانت روسيا وإيران تعدّان العدة لخوض الحرب بصورة مباشرة إلى جانب النظام، لضمان أن يحقق انتصاره على شعبه بمجازر بلا عدد، وبدمار يعزّ على الحصر.
بوضع خيار المناطق الآمنة موضع التنفيذ، وبضمانات إقليمية ودولية على الأرض، لحماية هذه المناطق وقاطنيها وجعلها آمنة بالفعل، والتقدّم، بموازاة ذلك، نحو حل سياسي جدي، وفقاً لمرجعية جنيف1 وقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة، فإنه يمكن اعتبار أن الأسرة الدولية بدأت تتحمل مسؤوليتها في تقييد حركتي النظام وإيران، وفي إعادة البناء الشامل، وفي جعل سورية وطناً آمناً ومزدهراً لشعبها، لا مجرد مناطق آمنة.