يوزّع بشار الأسد سورية على شكل حصص لروسيا وإيران، وحتى على المليشيات الحليفة، كل الأصول الإستراتيجية والاقتصادية، من غاز ونفط وفوسفات وشركات خليوي وعقارات، ومن موانئ وقمم جبال ومواقع إستراتيجية وأراض زراعية، صارت موزّعة باتفاقيات وعقود بيع وتأجير رسمية.
وإن استقرت الأمور على هذه الشاكلة، فهذا يعني أن السوريين، موالاة ومعارضة، لن يكونوا أكثر من عمال مياومين في المصالح والاستثمارات الإيرانية والروسية، وربما يتحوّل المحظوظون منهم إلى موظفين أمنيين (سيكورتي) وحراس لتلك المنشآت، مع ملاحظة أن بعض تلك الاتفاقيات اشترطت عدم اقتراب السوريين من المواقع والمنشآت التي تديرها روسيا، بعيداً عن شكل انتماءاتهم السياسية.
بالطبع، يدرك نظام الأسد هذا الأمر جيداً، لكنه يستثمره باتجاه آخر، حيث يُعتقد أنه كلما ورّط إيران وروسيا بمشاريع لهم في سورية ضمن استمرار بقائهم في الجغرافيا السورية، وضمن أيضاً دوام حمايتهم له من أي مطالبةٍ دوليةٍ محتملة، بإحالته إلى المحاكم الدولية، نتيجة أعمال الإبادة الوحشية، والتي لن تستطيع أي دولة ونظام، عدا إيران وروسيا، وربما بعض الأنظمة القمعية، إعادة تأهيله والتعاطي معه بسبب تلك الجرائم.
يندرج كل سلوك نظام الأسد وتصرفاته وأفعاله تحت خانة الهروب من اللحظة التي يصحو فيها العالم من صدمة الحرب، ويحصي نتائجها المهولة، مئات آلاف القتلى والمخفيين، وملايين الجرحى والمعوقين والمضطربين نفسياً. ولا شك أنه لحظة توقّف صوت المدافع، لن يكون هناك سوى صوت المنظمات الدولية التي ستكشف عن آلاف المجازر والمقابر الجماعية، وتستقصي خرائط المذبحة التي يخفي نظام الأسد الجزء الكبير منها.
تشكل عملية توزيع سورية حصصا بين إيران وروسيا أحد بدائل الأسد للنجاة من مصير المحاكم الدولية، غير أن ثمة بديلا آخر، طالما سعى إلى اللعب عليه، وهو استمرار الحرب أطول فترة زمنية ممكنة. وعلى الرغم من أهمية هدف إخضاع الخصوم نهائياً، يراهن الأسد على هذا الخيار (دوام الحرب) باعتباره مخرجاً له من المصائر المحتومة. وبرأيه أن تحقيق هذا الامر ممكن، فالحرب استمرت في كولومبيا أكثر من ثلاثين عاماً، وصراع تركيا مع حزب العمال الكردستاني دام عقوداً، وفي الحالتين لم تتوقف عجلة الحياة في البلدين، كما استمتع رؤساء البلدين بعلاقات دولية جيدة وحياة شخصية لائقة.
مع استمرار الحرب أيضاً، وبذريعة استعادة كامل سورية، ربما لإعادة حصحصتها من جديد، سيضمن الأسد سكوت أنصاره وولاءهم، فهذه الفئة، بلا شك، أصيبت بجراح منهكة وقاتلة طوال سنوات الحرب، لكن سخونة الدماء منعتها من السقوط، ويخاف نظام الأسد أن يؤدي توقّف الحرب إلى برود جرحها واكتشافها كم هو عميق وقاتل.
لا أحد سمع من بشار الأسد قوله إنه انتصر في الحرب، على العكس، وفي كل تصريحاته، ما زال يتحدث بنبرةٍ تشي وكأن الحدث ما زال في أوله، بعكس حلفائه من الإيرانيين، وبخلاف حتى مؤيديه الذين احتفلوا بسقوط حلب، ولا يعكس هذا الأمر تواضعاً لم يتصف به، ولا واقعيةً ليست معهودة في الشخص الذي وصفه كل من التقاه في الأعوام السابقة بالمفصول عن الواقع، والهاذي بترّهات أغرب من الخيال.
الأدهى من ذلك كله أن الأسد لا يهادن، ولا يتعامل بأسلوب تهدئة الجبهات وتقليل الأعداء، فعلى الرغم من هجوع حدة الانتقادات الإقليمية والدولية ضد سياساته، إلا أنه لا ينفك يهاجم أوروبا وقيمها ومواقفها (تصريحاته للإعلام البلجيكي)، ولا يتعب من التطاول على تركيا ودول الخليج، وكأنه يرفض مناخات الهدوء، ويعتبرها خطراً حقيقياً عليه. لذا، يفضل دائماً ضخ مزيد من التوتر في شرايين الأزمة لتحافظ على منسوب اشتعالها.
لكن، إلى متى يستطيع بشار الأسد الاعتماد على هذه اللعبة في إدامة حكمه وإفلاته من المساءلة عن حرب الإبادة ضد السوريين؟ في الواقع، في الوقت الذي يعتقد فيه الأسد أنه يؤسس منظومة حماية كامله تقيه شر الأيام المقبلة، فإنه، ومن دون أن يدري، يقوم بتخصيب بذرة فنائه بيده، ذلك أن روسيا وإيران لن تتمكّنا من الاستفادة من مشاريعهما السورية، في ظل استمرار الأسد، وإنهما سيكونان مضطرين من أجل اعتراف الآخرين بمصالحهما واستثماراتهما في سورية إلى استبدال الأسد وإزاحته من المشهد، صحيح أنهم لن يأتوا بأحد الثائرين عليه مكانه، لكن بالنسبة للأسد كل بديل عنه هو عدو حقيقي، حتى لو كان شقيقه ماهر الأسد، وصراع والده حافظ الأسد وعمه رفعت على السلطة خير دليل على هذه الحقيقة.
من جهة أخرى، كان على بشار الأسد أن يدرك أن مفاعيل توزيع سورية آنية، ونوع من سداد الحساب بالنسبة لإيران وروسيا، وليست استثمارات مستقبلية وأبدية، تلك لها حساباتها المختلفة، وطالما أن المفاوضات قد بدأت وصار هو نفسه موضوعاً للتفاوض، فإنها إن لم تبدأ به ستنتهي به حتماً، بوصفه من عناوين الأزمة التي سيجري تفكيكها. ولن يطول الأمر كثيراً في ظل الزخم والحماسة الروسية، للوصول إلى تسوياتٍ غايتها الأساسية الاعتراف بالدور الروسي العالمي، وما عدا ذلك هامشيٌّ وقابل للتفاوض.
كان تقارب روسيا وتركيا، أخيرا، في سورية ضرورة استراتيجية لكلا الطرفين، بعدما اكتشفا، خلال فترة القطيعة السياسية التي استمرت ثمانية أشهر عقب إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، أنهما بحاجة إلى بعضهما، وأنه من دون تفاهم مشترك لن تستطيعا تحقيق أهدافهما في سورية.
تعرّضت أنقرة، في العامين الماضيين خصوصا، إلى تصدّع جيوسياسي، نتيجة انهيار ميزان القوى المحيط بها في سورية، بفعل الانكفاء الأميركي والهجوم الروسي. وترتب على ذلك ليس تراجع حضورها في الملف السوري فحسب، بل أصبح هذا الملف بعد تضخم الحالة الكردية السورية عبئا كبيرا يثقل الحكومة التركية، ويهدد أراضيها في الداخل. في المقابل، توصلت موسكو إلى قناعةٍ خلال فترة القطيعة نفسها، وهي في عز صولاتها وجولاتها العسكرية في سورية، إلى أنه من دون تفاهم مع أنقرة، فإن الجهود الروسية قد لا تتحقق، أو تحتاج على الأقل إلى فترات زمنية طويلة، لن تكون في مصلحة الكرملين.
كشفت القطيعة السياسية هذه حاجة الدولتين بعضهما إلى بعض، في ظل توتر شديد يجمعهما تجاه الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة. ومن هنا، بدأ التلاقي بين البلدين في يونيو/ حزيران الماضي، إلى أن توّج في لقاء سان بطرسبورغ بين الرئيسين، فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، في أغسطس/ آب. ولم يكن ذلك اللقاء عنوانا لعودة العلاقات السياسية فقط، بل كان بمثابة القمة الملحة التي أسست لتفاهماتٍ استراتيجية بينهما في سورية، عبرت عن نفسها أولا بدخول تركيا إلى الشمال السوري، في الرابع والعشرين من الشهر نفسه، تحت عنوان عملية "درع الفرات"، بعدما منعت أنقرة، طوال الأزمة السورية، من الدخول إلى الشمال السوري، وثانيا مع ابتعاد تركيا عن ملف حلب، وثالثا مع "إعلان موسكو" حول الهدنة العسكرية، ورابعا اجتماع أستانة.
تطلب ذلك نزول الطرفين من على شجرتهما العالية: وافقت تركيا على خفض سقف خطابها السياسي تجاه الأسد، ووافقت على هدنةٍ عسكرية، ثم وافقت على مشروع عزل جبهة فتح الشام، وغيرها من الفصائل المدرجة تحت لائحة الإرهاب، ووافقت، أخيرا، على إدخال فرقاء سياسيين جدد في وفد المعارضة للمفاوضات.
في المقابل، وافقت موسكو على الاعتراف بفصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية المدعومة من دول إقليمية، لا سيما "أحرار الشام" و "جيش الإسلام" اللذين كانا في قائمة اللوحة السوداء لروسيا، كما أكدت موسكو أن حل الأزمة السورية لا يكون إلا عبر المسار السياسي والمرجعيات التي تم التوافق عليها دوليا، ووافقت موسكو ضمنيا على ضرورة التخفيف من حدة الدور الإيراني في سورية.
شكل وقف إطلاق النار واجتماع أستانة ذروة التعاون الروسي ـ التركي. لكن، سرعان ما طفت الخلافات بين الجانبين سريعا مع الانتقال من المستوى العسكري إلى المستوى السياسي.
وقد حاول الروس، مستفيدين من الاندفاعة التركية، إضعاف المعارضة السياسية، عبر إدخال قوى أخرى، هي أقرب إلى النظام منه إلى المعارضة، في خطوةٍ تهدف إلى كسر احتكار الهيئة العليا للمفاوضات المرجعية السياسية للمفاوضات. لكن أنقرة وجدت أن المضي في المسار الروسي سيضعف حضورها السياسي في الملف السوري بشكل عام، على الرغم من حصولها على مكاسب عسكرية ذات أهمية كبيرة في حماية أمنها القومي.
هنا بدأ التباين الروسي ـ التركي، خصوصا في ما يتعلق بتوسيع وفد المفاوضات التابع للهيئة العليا للمعارضة، وأدركت تركيا أن الروس يحاولون ضعضعة الهيئة العليا للمفاوضات، عبر تقوية الفريق العسكري على حساب الفريق السياسي، أي بعبارة أخرى منح فريق أستانة العسكري قوةً تُجاري فريق الرياض، وربما تفوقه أولا، وعبر إدخال منصاتٍ سياسيةٍ أخرى ثانيا.
ومن هنا، كانت اجتماعات الهيئة العليا للمفاوضات مع الائتلاف الوطني من جهة، واجتماع الرياض من جهة أخرى، محاولة تركية ـ سعودية للتخفيف من الاندفاعة الروسية، وتلطيف مطالبها من دون المواجهة معها، أو رفض كل مطالبها. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتعداه إلى مسألة المرجعية السياسية للمفاوضات، وإذا كانت تركيا قد وافقت على إعلان أستانة الذي استبعد بيان جنيف كاملا، فإنها تحاول عرقلته بطرقٍ غير مباشرة، تاركة هذا الملف للمعارضة والرياض.
ومما ينبئ بارتفاع حدة التباينات بين الجانبين، وصول الرئيس دونالد ترامب إلى سدة البيت الأبيض في الولايات المتحدة، ومحاولته الانفتاح على تركيا، بعد جمود سياسي استحكم العلاقات التركية ـ الأميركية خلال السنوات الأخيرة من حكم باراك أوباما، وبدأ التغير الأميركي ملحوظا تجاه تركيا مع ارتفاع مستوى الدعم الجوي للتحالف الدولي عملية "درع الفرات" في مدينة الباب في الأيام الماضية. ثم جاء التنسيق بين الجانبين لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة دليلا على أهمية تركيا بالنسبة للولايات المتحدة، ليس فقط في محاربة الإرهاب، وإنما أيضا في عموم المشهد العسكري في الشمال السوري، وخصوصا فيما يتعلق بالمنطقة الآمنة التي طالما دعت إليها تركيا خلال السنوات الماضية.
قد تشكل المنطقة الآمنة بداية الافتراق الروسي ـ التركي، حيث ترفض موسكو إقامة مناطق آمنة، قبيل اكتمال المشهد العسكري في عموم سورية، وهو المشهد الذي عملت بجد على رسمه وتحديده، ولا تقبل أن تتشكل هذه المناطق في الشمال السوري، خصوصا من البوابة التركية. وقد جاء الرد من موسكو سريعا على إعلان تركيا موافقتها تحويل منطقة "درع الفرات" إلى منطقةٍ آمنة، حين أعلن مدير القسم الأوروبي الرابع في وزارة الخارجية الروسية "أن موسكو ترى أنه من غير الصحيح اعتبار أنه لا توجد لدى تركيا أهدافها الخاصة في سورية إلى جانب محاربة داعش".
المشكلة التي تواجه صناع القرار في أنقرة أن السياسة الأميركية تجاه سورية لا تزال غامضة، ولن تخاطر تركيا برمي الثمار التي حققتها من البوابة الروسية سريعا، لكنها في المقابل لن تتخلى عن إقامة المنطقة الآمنة، لأسباب كثيرة بعضها مرتبط بالشأن التركي الداخلي، وبعضها مرتبط بالشأن السوري. وستحاول تركيا تحقيق أهدافها باستخدام سياسة ناعمة ومرنة، تقرّبها من واشنطن، ولا تبعدها عن موسكو في الوقت نفسه، وهي سياسة صعبة في ظل العودة الأميركية إلى الواقع السوري، وما هو واضح إلى الآن أن التعاون التركي الروسي بلغ ذروته، وستكشف المرحلة المقبلة مدى صلابة هذا التعاون، والحدود التي قد يصل إليها.
عودة إيران امس الى مربع شعار "الموت لأميركا" الذي اعتبرته وكالة أنباء فارس ردا على تهديد أميركا لإيران بـ"الهجوم العسكري" يمثل أول معالم الطريق الذي ستسلكه الاحداث في المنطقة، بعدما كانت شعارات الترحيب بـ"الأنكل سام" شقت طريقها الى طهران إثر التوصل الى الاتفاق النووي مع واشنطن أيام الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما. حتى ان الرئيس الايراني حسن روحاني المصنّف ضمن فريق الاصلاحيين في بلاده كان صاحب الصوت المرتفع في الاحتفالات بالذكرى الثامنة والثلاثين للجمهورية الاسلامية التي أسسها الامام الخميني. فقد توعّد روحاني الولايات المتحدة بأن الايرانيين سيجعلون واشنطن "تندم" على استخدام لغة التهديد ضد إيران.
لا جدال في ان المنطقة تسير نحو التشدد الذي هو اليوم على المستوى السياسي منذرا بتحوله عسكريا. واللافت أن النظام الايراني هو الوحيد الان على المستوى الاقليمي والدولي الذي اعتمد لغة التشدد ضد واشنطن دون سائر الانظمة التي نالها ما يكفي من هجوم إدارة الرئيس الاميركي الجديد دونالد ترامب وفي طليعتها الصين وفي آخرها كوريا الشمالية. حتى ان رئيس النظام السوري بشار الاسد لم يشر الى ما يواجهه حليفه الايراني من تحديات، بل اعتبر في مقابلة مع موقع "ياهو نيوز" الالكتروني أن "التعاون في أي صراع حول العالم يحتاج الى تقارب بين الروس والاميركيين، وهذا جوهري جدا ليس فقط بالنسبة الى سوريا". لكن مجلة "الايكونوميست" البريطانية ترسم صورة قاتمة لسعي إدارة ترامب الى البحث عن "مقايضة كبرى" مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تتضمن، في ما تتضمن، موافقة موسكو على عدم التعاون مع طهران. لكن المجلة تشكك في تجاوب بوتين مع هذا الطلب.
الثابت وسط هذه التحولات هو أن المنطقة تمر بما وصفه وزير خارجية إيران بـ"الايام الصعبة". وفي رأي أوساط مثقفين شيعة في لبنان أن أتباع هذا المذهب الواقع ضمن "الهلال" الممتد من بحر قزوين حتى شواطئ المتوسط، سواء أكانوا على توافق مع النظام الايراني أم لا، هم في دائرة دفع الاثمان بالتكافل والتضامن مع المرشد الايراني. وفي اللقاء الذي عقدته مجموعة من النخب الشيعية، كانت هناك مداخلات عدة تحذّر من نتائج اللطخة التي ألحقها النظام الايراني بشيعة لبنان من خلال زج "حزب الله" في حمّام الدم السوري، وهو أمر يستحق تأسيس تحرّك شيعي لبناني ضده من أجل حماية المستقبل الشيعي في المنطقة.
ماذا لو اتجهت الاحداث نحو صراع يؤدي الى هزيمة النظام الايراني؟ في ظل هذه الفرضية تعتبر هذه الاوساط ان تغييرا كبيرا سيطرأ على المشهد في الشرق الاوسط. ولن يكون في تداعيات هذا التغيير مكاسب فورية لخصوم هذا النظام من الشيعة الذين يصنفون بالجملة أتباع المرشد ما دام صوته هو الاعلى. وهنا تقع مسؤولية على مرجعية النجف وعلى غيرها من المرجعيات قبل أن يحلّ الطوفان.
لا يريد المرء دليلاً على إجرام الديكتاتوريات العربية ووحشيتها أكثر من مطالعة أخبار سجونها ومعتقلاتها التي تحولت إلى "مسالخ" بشرية، تفوح منها رائحة الكراهية والموت والانتقام. وهو أمر ليس جديداً على أنظمة قائمة، ومستمرة فقط، بفضل آلة القمع والقتل الذي تمارسه بحق معارضيها. وعلى الرغم من الحقائق المفزعة التي أوردها تقرير حديث أصدرته منظمة العفو الدولية عن ضحايا سجن واحد فقط في سورية، هو سجن صيدنايا العسكري الذي يبعد عن العاصمة دمشق 30 كيلو متراً شمالاً، إلا أنها ليست مستغربةً على نظام قصف المدنيين في مدينة حماة بالمدفعية في فبراير/ شباط 1982 أكثر من ثلاثة أسابيع. فحسب تقرير المنظمة، فإن ما يقرب من 13 ألف شخص تم قتلهم شنقاً منذ انطلاق الثورة السورية قبل ست سنوات، حتى نهاية 2015. وهو أمر ليس غريباً علي نظامٍ قتل حتى الآن ما يقرب من نصف مليون شخص، وهجّر الملايين خارج ديارهم وقراهم.
حوالى نصف قرن من القتل والتعذيب مارسهما النظام الأسدي، سواء تحت حكم حافظ الأسد منذ بداية السبعينيات، أو تحت حكم الإبن بشار الذي استكمل مسلسل الجرائم الكئيب طوال العقدين الماضيين، وهي جرائم يرقى جميعها إلى إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية. وهي تتفوق بمراحل على مذابح ومجازر أنظمة ديكتاتورية أخرى، في المنطقة وخارجها، ليس فقط من حيث عدد الضحايا، وإنما أيضاً من حيث طرائق القتل والتعذيب وأساليبهما. فحسب تقرير "العفو الدولية"، فإن معظم حالات القتل التي جرت في صيدنايا كانت من خلال الشنق وتكسير عظام الرقبة للمعتقلين، حيث يشير التقرير، حسب تغطية "العربي الجديد"، إلى أنه كان يتم اقتياد السجناء من زنزاناتهم، وإخضاعهم لمحاكمات عشوائية، وتعذيبهم ثم "شنقهم في منتصف الليل وفي سرّية تامة"، وإلقاء جثثههم في أماكن لا يعرفها أحد. ويورد التقرير الذي استند إلى شهادات عشرات الأشخاص، سواء معتقلين أو مسؤولين سابقين عن السجن، بالإضافة إلى قضاة ومحامين، حقائق مفزعة حول كيفية معاملة المعتقلين داخل السجن. وفي واحدةٍ من أكثر الشهادات إيلاماً ما أشار إليه قاض سابق، شهد هذه الإعدامات، بأنه كان يتم إبقاء الذين تم إعدامهم معلقين حوالى 10 إلى 15 دقيقة، وأن "صغار السن من بينهم كان وزنهم أخف من أن يقتلهم (الشنق)، فكان مساعدو الضباط يشدونهم إلى الأسفل، ويحطمون أعناقهم".
كنّا نتندر على الفرق بين سورية ومصر أيام حسني مبارك بأنه مهما بلغ قمع نظام الأخير، إلا أنه يظل أكثر ديمقراطية و"ليبرالية" من نظام حافظ الأسد. والآن، يمكن التندّر بأن المعتقلات والسجون المصرية التي تحوي بداخلها ما يقرب من 40 ألف معقتل سياسي تعتبر "نُزهة" بالنسبة لمعتقلات بشار الأسد وسجونه. ولو أن كلا النظامين واحد، مع اختلافٍ في الدرجة، وليس في الأصل.
لا يمكن للأنظمة الديكتاتورية العيش بدون القمع والقتل، وهذا أصل وجودها وبقائها ابتداء، بيد أن ما يفعله نظام الأسد يتجاوز ذلك، ويصل إلى درجة جرائم كاملة ضد الإنسانية، لا تختلف عما حدث في بلدان إفريقية، مثل كينيا وكوت ديفوار وإفريقيا الوسطى، أو ما حدث في البوسنة والهرسك في أثناء الحرب الأهلية بداية التسعينات، وما حدث في مناطق أخرى من العالم. ولو أنه تمت محاسبة حافظ الأسد عن جريمته البشعة في حماة قبل 35 عاماً، لما وصلنا إلى ما يفعله ابنه الآن، والذي يحاول الروس الإبقاء عليه في السلطة، حتى يرتكب مزيداً من الجرائم والإبادة بحق من تبقى من السوريين داخل سجونه ومعتقلاته.
ليس خافيًا على أحد الوضع الاقتصادي السيئ في إيران. المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي كان يتوقع أنه خلال العشرة أشهر المقبلة ستفتح أبواب الازدهار، ويتجنب نظامه ثورة شعبية، لكن تحذير البيت الأبيض الأسبوع الماضي سوف يلقي بظلاله السوداء على آفاق الاستثمار الأجنبي في إيران، «والطلقة الأولى» لن تحفز المستثمرين على الالتزام بمشاريع جديدة في إيران التي تسعى إلى إعادة بناء قطاع النفط والغاز بعد سنوات من العقوبات.
في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، طالب الرئيس الإيراني حسن روحاني، الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، بعدم التوقيع على العقوبات الأميركية، قائلاً إنها انتهاك للاتفاق النووي، وإن أوباما «ملزم» بوضع حد للعقوبات، بعد أيام صوت مجلس الشيوخ على تمديد «قانون العقوبات» لمدة 10 سنوات.
مستشار الأمن القومي الأميركي مايكل فلين أشار عندما وجه «التحذير» إلى إيران إلى التجارب الصاروخية التي أجرتها أخيرًا، وإلى دعمها المتمردين الحوثيين في الحرب الأهلية في اليمن. في نوفمبر الماضي، أعلن رئيس الأركان الإيراني الجنرال محمد حسين باقري أن إيران في يوم ما قد تقيم قواعد بحرية لها في سوريا واليمن، أيضًا سخر من التهديدات التي أطلقها الرئيس الأميركي المنتخب آنذاك دونالد ترمب عندما تحدث عن ضرب سفن إيرانية في الخليج ومضيق هرمز وإخراج الإيرانيين من المياه، وطلب منه أن يسأل عن حالة البحارة الأميركيين الذين احتجزتهم إيران. إن الكشف عن نية إيران في إقامة قاعدة بحرية في اليمن كان القصد منه تفاقم التهديد الإيراني من الجنوب ضد المملكة العربية السعودية، وتوفر القدرة لإيران على تشكيل خطر عند مدخل البحر الأحمر، والتأثير بالتالي على ملاحة السفن في اتجاه قناة السويس وخليج إيلات في حال حدوث المواجهة.
يوم الجمعة الماضي، قال بوب كروكر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، إن التهديد الأميركي ستليه خطوات أخرى، وهذا لا يشكل انتهاكًا للاتفاق النووي. وقال كروكر الجمهوري عن ولاية تنيسي إنه يعتقد أن إدارة ترمب، في نهاية المطاف سوف تعيد التفاوض بالنسبة إلى الاتفاق القائم، «سوف ترون الجهود لتغيير الواقع».
حتى لو أخذ ذلك وقتًا، فإن العقوبات الجديدة التي أقدمت عليها إدارة ترمب سيكون لديها التأثير السلبي على المصارف التي كانت ستمول المشاريع الإيرانية، وعلى شركات النفط العملاقة التي تسعى لتطوير احتياطات إيران الضخمة من الغاز والنفط. كانت إدارة أوباما أكدت للمصارف أن بإمكانها القيام بأعمال تجارية في إيران بعد رفع العقوبات الدولية، لكن من غير المرجح أن تعطي إدارة ترمب هذا الضمان، وبالتالي فإن شركات النفط العالمية ستكون حذرة للغاية، ولا يعتقد المراقبون الاقتصاديون أن تمضي الشركات قدمًا في تنفيذ أي عقود ملزمة هذه السنة أو السنة المقبلة. ويرى هؤلاء أنه لا يمكن التقليل من شأن التأثير المحتمل للعقوبات، خصوصًا إذا سعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ تدابير تعطل قدرة الدول الأخرى على القيام بأعمال تجارية مع إيران من خلال قنوات مالية دولية.
في الأول من فبراير (شباط)، أكد وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان تجربة الصواريخ، من دون أن يذكر تاريخ التجربة، لكن مسؤولين أميركيين أشاروا إلى أنه صاروخ باليستي متوسط المدى، والتجربة جرت في الـ29 من الشهر الماضي، وفشلت في إعادة الدخول إلى الغلاف الجوي. في الثالث من الشهر الحالي غرد ترمب قائلاً إن إيران لم تقدر «لطف» أميركا معها.
عندما كان قائدًا للقيادة الوسطى كان جنرال البحرية جيمس ماتيس، وزير الدفاع الحالي، يعتبر إيران نقطة محورية في منطقة مسؤولياته. وصف كيف كان يستيقظ يوميًا على تحديات جديدة حيث يرى حملة إيران المباشرة والمنسقة لفرض نفوذها على المنطقة. شعار ماتيس المعروف: «كن مهذبًا، كن مهنيًا، لكن مع خطة لقتل كل من تلتقيه». عام 2012 قال إن أخطر التهديدات الثلاثة التي تواجه أميركا، وكان لا يزال في زيه العسكري: «هي إيران، إيران، إيران». في أبريل (نيسان) الماضي، ربط ماتيس إيران بصعود تنظيم «داعش»، قال: أنا أعتبر أن «داعش» ليس أكثر من ذريعة لإيران لاستمرار الضرر. إيران ليست عدوًا لـ«داعش»، هي تكسب من الفوضى التي يسببها. وسأل ماتيس: من هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لم تتعرض لهجوم من «داعش»؟ إنها إيران ولا أعتقد أن هذا صدفة.
من المرجح أن يشجع فريق الأمن القومي لترمب، بمن فيهم ماتيس وفلين، على اتخاذ إجراءات صارمة ضد إيران بسبب برنامج الصواريخ الباليستية، وإذا ما واصلت تمويلها للتنظيمات المتشددة التي تحركها في الدول المجاورة. صار معروفًا أن تورط إيران في الشؤون الداخلية للدول الأخرى هو أمر أساسي لرؤية الهلال الشيعي الذي يمر عبر منطقة الشرق الأوسط من طهران حتى البحر الأبيض المتوسط.
ويشرح لي مصدر أميركي مطلع أن الذين يعتقدون أنه لم يعد هناك من سبب وجيه لأن تبقى الولايات المتحدة مهتمة بالشرق الأوسط، لأنها لم تعد تعتمد على نفط المنطقة، يجب أن يلحظوا أن المراقبين عندما يتحدثون عن الشيعة والسنّة في المنطقة، يبدون كأنهم يتحدثون عن معسكرين على قدم المساواة. في الواقع، إن الشيعة في المنطقة هم أكثر عدوانية وقوة من السنّة، وأكثر اتحادًا. على الجانب الشيعي، هناك الحكومة العراقية ونظام بشار الأسد و«حزب الله»، ولديه جيش كبير وقوة شرسة، والمتمردون في اليمن وروسيا وإيران يضخون المليارات لدعم هذا الفريق. أما على الجانب السنّي، فهناك ضعف وفوضى، وبالتالي، كما يقول، إذا انسحبت أميركا، فإنه يمكن لإيران الهيمنة على المنطقة. وشرق أوسط يهيمن عليه الشيعة سيكون في الواقع أرضًا خصبة ورئيسية للإرهاب العابر للحدود الذي ينتشر في أوروبا، ويهدد الولايات المتحدة، إذ تخطط إيران للادعاء بأنها تحمي الأقليات الشيعية في كل مكان، وألم يقل ماتيس أخيرًا إن إيران أكبر دولة راعية للإرهاب؟!
يضيف محدثي: «علاوة على ذلك، كلما تحدثنا مع زعماء اليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى في آسيا، نجد أنهم يراقبون الشرق الأوسط ليحددوا كيفية اعتمادهم على أميركا كحليف. إذا تخلت أميركا عن الشرق الأوسط، فإن حلفاءها في آسيا قد يحذون حذو الفلبين في السعي إلى التموضع فوق أرضية مشتركة بين القوى الكبرى، أو حتى قد يميلون نحو الصين أو روسيا. وعندها ينتهي الدور الأميركي كرائد عالمي».
إن إيران لا تريد المواجهة مع أميركا. وهي أظهرت ترددًا غلفته بالحكمة في السابق عندما أدرجتها إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش عام 2003 في خانة «محور الشر»، يومها عرضت عبر وسطاء على واشنطن وضع كل شيء على الطاولة، حتى برنامجها النووي، مقابل معاهدة عدم اعتداء. رفضت إدارة بوش ذلك لأنها كانت تسعى لتغيير النظام.
إن دفع إيران الآن للتركيز على شؤونها الداخلية والامتناع عن استخدام القوة المسلحة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة سيساعد الولايات المتحدة في استعادة مصداقيتها كقوة عالمية. يقول المصدر الأميركي إن الشعب الأميركي غير مستعد لحرب برية أخرى في الشرق الأوسط الكبير. إن فشل أميركا في حربيها في أفغانستان والعراق سببه أنها لم تسعَ إلى هزيمة الأعداء فقط، بل أيضًا إلى المشاركة في إعادة البناء. والشيء نفسه ينطبق على إيران، إذ يمكن أن يفرض عليها أن تتوقف عن التدخل في شؤون الدول الأخرى والتخلي عن برنامج الصواريخ وعن برنامجها النووي. أما تغيير النظام فيجب أن يأتي من الداخل، إذ لا يمكن فرضه من قبل الغرب.
كأننا مقبلون على صدام بدأته إيران عندما أرادت اختبار الإدارة الأميركية الجديدة بإقدامها على تجربة الصواريخ. وصار الكل يعرف أن الشعب الإيراني يشعر بالإحباط، لأن حكومته تنفق المال لإجراء تجارب صاروخية، في حين لم تتم تلبية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية.
عندما اشتعلت النيران ودمرت أحد أهم المباني الشاهقة في طهران، سخر كثير من الإيرانيين بالقول: «لدينا صواريخ يمكن أن تصل إلى إسرائيل، لكن لا سلالم يمكن أن ترتفع حتى عشرة طوابق».
هذا يثبت أن أهم استثمار لأي رئيس أميركي للضغط على النظام الإيراني، هو الشعب الإيراني نفسه.
من المفهوم أن يلح الأتراك على الأميركيين يطالبونهم بوقف تسليح التنظيمات الكردية في سوريا، تحديدًا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، لأنهم يعتبرونها تمثل خطرًا على استقرار ووحدة تركيا نفسها. فقد اختارهم التحالف الغربي وكيله داخل سوريا لمحاربة تنظيم داعش.
الأتراك، عندما أدركوا اللعبة الكردية السورية، بادروا إلى شن معاركهم ضد «داعش» في عملية «درع الفرات»، وكذلك «جبهة النصرة»، لاحقًا، إلا أن هذا لم يوقف الاعتماد الأميركي على الكرد وتسليحهم. وعزز موقف الأكراد السوريين أن تلك الخطوة كانت مقبولة من الروس، الذين لا يَرَوْن في الحزب الكردي خصمًا للنظام السوري. كما أن روسيا وإيران سبقتا الأميركيين بتمكين الأكراد من التمدد فيما وراء مناطقهم على الحدود السورية التركية بحجة تطهيرها من الإرهابيين، وهي العملية التي أيقظت أنقرة التي رأت فيها مؤامرة لإقامة مناطق كردية معارضة على حدودها تهددها مباشرة. ومن الواضح من لعبة لوح الشطرنج السوري، أن الإيرانيين والروس نجحوا في نقل المعركة ضد أبرز خصوم نظام دمشق، أي الأتراك، وتهديد أمنهم مباشرة، الأمر الذي أسهم في تقليص الدعم التركي للمعارضة السورية.
واضحة لعبة المحور الإيراني، لكن الذي لم يكن مفهومًا التحول الأميركي نحو دعم الأكراد، وتسليحهم بقوة، رغم مخاطره على تركيا، حليفتهم في الناتو. ومع خروج إدارة باراك أوباما، ومجيء دونالد ترمب، متعهدًا بتغيير مواقف سلفه، ظهر الأمل في أن يشمل التغيير الأميركي إدارتهم للأزمة في سوريا، على الأقل تكتيكيًا إن لم يكن استراتيجيًا. ومن المبكر معرفة الأفكار والخطوات الجديدة، لكن الدعم الغربي للأكراد مستمر، والخطر من «داعش» و«النصرة» يزداد في الداخل التركي إلى جانب استقواء الأكراد بالتحالفين الروسي والأميركي في آن.
الصورة باتت أوضح لأنقرة، فالمشروع الإيراني الذي يريد أن يكون القوة الإقليمية الرئيسيّة يريد إضعافها ضمن الصراع الإقليمي وليس فقط حماية النظام السوري. وهي نتيجة طبيعية للتوسع الإيراني في الشمال العربي، العراق وسوريا ولبنان، الذي يتطلب تحييد أنقرة كونها الدولة الموازنة لإيران، وهي تحتاج إلى تعزيز نفوذها في المنطقة أكثر من ذي قبل لفرض نفسها على الإدارة الأميركية التي تعتبر طهران خصمًا لا شريكًا، بخلاف إدارة أوباما.
ولا شك أن تركيا ارتكبت سلسلة أخطاء في التعامل مع الأزمة السورية، منذ انتقال الانتفاضة السلمية إلى ثورة مسلحة. عدم التدخل العسكري في مناطق نفوذها داخل سوريا، والضغط على دمشق آنذاك نحو حل سياسي توافقي مع المعارضة، ثم أخطأت في التهاون في مواجهة المعارضة الإسلامية المتطرفة، والتعاون المتأخر مع الحكومات الدولية التي كانت تشتكي من عمليات تجنيد مواطنيها من قبل التنظيمات الإرهابية الذين يعبرون من الأراضي التركية إلى سوريا. من المتوقع أن المجتمع الدولي سيقلق ويتحرك عندما يجد أن جماعات إسلامية متطرفة بدأت تتشكل في أي مكان في العالم، ومن المحتم أنه سيتحرك لمحاربتها.
تركيا تحاول أن تداوي عدة جروح في آن؛ فهي تصر على ملاحقة أشباح تنظيم فتح الله غولن في أنحاء العالم، الذي قام بالمحاولة الانقلابية. وتشن حربًا على التنظيمات الإرهابية مثل «داعش» داخل تركيا وفِي العراق وسوريا. وإقناع الغرب بالتوقيف عن تسمين التنظيم الكردي السوري. والتوصل إلى حلول براغماتية مع الروس والإيرانيين في سوريا. إنما خيارات تركيا في القضايا الإقليمية الأكبر أصبحت تضيق، فانتصار الإيرانيين في سوريا والعراق هو على حساب أنقرة وسيجعلها في حالة قلق مستمر، حيث لا ننسى أن سوريا كانت مركز النشاطات المعادية للأميركيين في العراق طوال سنوات وجودهم هناك، استضافت: «القاعدة» و«المقاومة العراقية»، ومن أراضيها انطلقت عملياتها.
مع هذا، تبقى تركيا دولة إقليمية كبرى، تملك من الإمكانات العسكرية ما يجعلها لاعبًا قادرًا على الحسم، وهو الأمر الذي تحاشت ممارسته طوال فترة الأزمة السورية، ثم أصبح غير قابل للتفعيل بعد دخول الروس، حيث لم يعد ميزان الصراع في صالحها. وكل الأطراف الآن تنتظر الخطوات الأميركية المقبلة، هل تنهي الصراع لصالح نظام دمشق وحده على اعتبار أنه المنتصر، أم تفرض مصالحة سورية سورية لحفظ التوازن وعدم تمكين فريق إقليمي واحد من الانتصار، أم يوضع المزيد من الحطب على النار وتستمر الحرب؟
إبّان احتدام المعركة الانتخابيّة بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، ركّز الممانعون العرب نيرانهم على كلينتون. كان أكثر ما يهمّهم أنّ المرشّحة الديموقراطيّة قد تتدخّل في سوريّة وقد تطيح بشّار الأسد وسيطرته المؤسَّسة على السجون والزنازين. تاريخ وزيرة الخارجيّة الأميركيّة السابقة، بوصفها من «صقور» إدارة أوباما والحزب الديموقراطيّ، كان يضاعف عداءهم لها وخوفهم منها.
نقد ترامب المعلن لإيران، ولنظام سيطرتها الإقليميّ، كان يُقلقهم قليلاً. لكنّ «تأمّلاتهم» عن المرشّح الجمهوريّ الذي حظي بالرئاسة لاحقاً ظلّت ثانويّة في الأهميّة كما في التركيز: فأوّلاً، كان الخوف من فوز هيلاري هو الطاغي، فيما بدا من المشكوك فيه كثيراً أن يفوز منافسها. وثانياً، كان الكلام عن ترامب سريعاً ما يتجاوزه ليذهب في منحى «نظريّ» بحت: ذاك أنّ ترامب من عوارض الرأسماليّة المأزومة، أو من علامات الاستعداد الفاشيّ في الرأسماليّة، أو هو الوجه الخفيّ – إنّما الحقيقيّ! – لأميركا. وأخيراً، كان الممانعون يجدون ضمناً ما يطمئنهم في صداقة ترامب لبوتين: ذاك أنّ الروسيّ الهادئ لا بدّ أن يروّض الأميركيّ الهائج، وصديق صديقي قد يغدو صديقي.
هيلاري كانت الكابوس الفعليّ. ترامب كان همّاً نظريّاً. والتناول النظريّ هذا كان يشبه تكبير الحجر من أجل الاستنكاف عن الضرب فيه. فالأحجار الحقيقيّة لا تُضرب إلاّ على المرشّحة كلينتون.
إذاً، الاهتمام بما تراءى تدخّلاً في سوريّة فاق في أهميّته كلّ المخاوف المنسوبة إلى ترامب: العنصريّة والجنسويّة والاحتيال والتسبّب بنزاعات وربّما حروب و «تلفزيون الواقع» والتخلّف على أنواعه، ناهيك عن تمثيل قطاع من الرأسماليّة، عقاريّ وسياحيّ، لا يُعتدّ بإنتاجيّته.
لكنْ حين فاز ترامب وحلّ في البيت الأبيض، وخصوصاً بعد فرض إدارته عقوبات على إيران، ساد خطّ جديد في النقد الممانع. وهو سيتصاعد حتماً مع احتمال تصنيف «الحرس الثوريّ» منظّمة إرهابيّة. هكذا، للمرّة الأولى، بات الرجل خطراً فعليّاً، بل هو الخطر الفعليّ. فهيلاري كلينتون انهزمت فيما الروسيّ الصامت لا يبدو صالحاً للاستخدام في ترويض الأميركيّ الصاخب.
النقد «النظريّ» لم يختف بالطبع، إلاّ أنّه عثر على لحمه وشحمه: تهديد إيران وإمكان تغيير توازن القوى في سوريّة والعراق. في هذا الإطار بات يُستشهد بالمآخذ التي تؤخذ عليه، لا لأنّها خطيرة بذاتها، بل لأنّها تتجانس مع موقفه السلبيّ من... إيران. المعادلة الفعليّة أصبحت: من يعادي إيران ونظامها الإقليميّ، لا بدّ أن يكون عنصريّاً إلخ...، أو: إنّ عنصريّته وباقي صفاته تمهيد مبكر لمعاداته إيران. في المقابل: لو لم يُعادِ ترامب إيران، لأمكن هضم كلّ المآخذ النظريّة عليه، أو تسجيلها من دون اشتقاق أيّ خلاصة سياسيّة تترتّب على ذلك. والسابقة المعروفة هنا هي علاقة الممانعين بالرئيس الروسيّ: لا بأس بأن يقف الرجل مع إسرائيل ما دام واقفاً معنا في سوريّة.
ذاك أنّ القول إنّ ترامب عنصريّ يبقى بذاته قولاً فاتراً، وإلى حدّ ما حياديّاً، كالقول إنّ المياه باردة، أو إنّ حرارة الشمس قويّة. أمّا حدود النقديّة فلا تتعدّى الانزعاج من برودة الماء أو سخونة الشمس بوصفهما أكثر ممّا تحتمله الأجساد في زمن لا يتعدّى الربع ساعة. لكنّ التأويل «النظريّ» نفسه يغدو تعبويّاً ونضاليّاً وذا مهمّات مباشرة حين يتّضح الموقف السلبيّ من إيران ومن سياستها السوريّة.
إيران وسوريّة الأسد هما فعلاً «بوصلة» الممانعين. دع عنك، إذاً، ماركس وهابرماس، تشومسكي وجيجك. دع عنك فلسطين وإسرائيل والعنصريّة والجنسويّة ومكافحة التخلّف والتكفير والنهب والاستغلال... المهمّ أن يبقى المسلخ في صيدنايا شغّالاً ومزدهراً. بشّار الأسد وقاسم سليماني صادقان: إنّهما يريدان المسلخ من دون نظريّات في السلخ. الآخرون، جماعة «النظريّة»، هم أهل الكذب المحض.
لعل تقرير «منظمة العفو الدولية» لم يضف الكثير من معلومات للسوريين حول ما يعرفونه وما عاشوه وعانوا منه على يد نظام الديكتاتورية البشع في سورية. وجميع السوريين يعرفون أن ما جاء في التقرير المرعب هو غيض من فيض الجرائم التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها اتساعاً وشمولية. فالسوريون خبروا هذه الجماعة وأساليبها منذ استلامها السلطة في 1970، وتعرفوا على وحشيتها وإجرامها في لبنان منذ 1976 ثم تعرضوا لها مباشرة في الثمانينات في حماة وحلب وجسر الشغور. وقد لا يكون مصادفة أن يصدر التقرير في شهر شباط (فبراير)، متزامناً مع الذكرى الخامسة والثلاثين لمذبحة حماة الكبرى عام 1982 حيث أبيد، وفقاً لأحد التقديرات، أربعون ألفاً، ما زال سبعة عشر ألفاً منهم مجهولي المصير حتى الآن.
لكن تقرير منظمة العفو الدولية الصادر يوم 6-2-2017 جاء مميزاً بأكثر من جانب:
فأولاً، هو يصدر عن أكبر وأعرق منظمة حقوق إنسان في العالم، والتي تتمتع بقدر كبير من المصداقية والحيادية والثقة،
وثانياً، قام التقرير على عدد كبير من شهادات الشهود من ضحايا وأهالٍ، واعتمد على أصحاب خبرة من محامين وموثقين لانتهاكات حقوق الإنسان بلغ عددهم أكثر من ثمانين شاهداً ومحامياً وخبيراً، فضلاً عن كمية الوثائق التي اعتمد عليها والفترة الزمنية التي غطاها،
وثالثاً، تمتع بالدقة والوضوح في شرح ما يجري داخل هذا المسلخ البشري من انتهاكات وجرائم مما يتحدى تخيل أي عقل بشري. وقد سبق أن وثقت «منظمة العفو الدولية» وعدد من المنظمات الحقوقية في تقارير سابقة جرائم التعذيب، ووصفت أكثر من عشرين طريقة تعذيب تمارسها عصابة الأسد ضد المعتقلين. ومع وجود بعض الأخطاء التقنية في الترجمة أو التفسير، فهذا التقرير كان أوضح التقارير في شرح ما يجري حقيقة في المعتقلات السورية ضد المعارضين المدنيين والسلميين.
وهناك كذلك ما يميز سجن صيدنايا باعتباره أكبر سجن عسكري في سورية، فيما تسميته الرسمية هي «السجن العسكري الأول»، إذ أنه السجن الذي بات يوضع فيه معارضو النظام بعد إغلاق سجن تدمر عام 2001. والحديث عن الجرائم في سجن صيدنايا بعد 2011 بات له بُعد آخر يتصل بإطلاق سراح المتشددين الإسلاميين منه ليعيثوا تشويهاً بثورة الشعب السوري ضد الديكتاتورية.
ولكن لعل أهم ما يميز التقرير هذا أنه يحمّل المسؤولية المباشرة لبشار الأسد عن هذه الجرائم، وبالتالي لن يمكنه بحال من الأحوال أن ينكر مسؤوليته. وحتى لو فوّض وزير الدفاع بالتوقيع عنه على هذه القرارات فإن المسؤولية المباشرة عن الجرائم تظل قانوناً ملازمة له شخصياً، خصوصاً أنه لم يذكر بالمرسوم إمكانية التفويض.
فمعظم الذين قُتلوا في سجن صيدنايا، وفق التقرير، حكمت عليهم محاكم الميدان العسكرية بالإعدام، وينصّ قانون إحداث محاكم الميدان العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي 109 لعام 1968، خصوصاً في مادته الرقم 8 على خضوع أحكام الإعدام للتصديق من قبل رئيس الدولة، أما باقي الأحكام فيجري تصديقها من قبل وزير الدفاع.
كما تنصّ المادة الرقم 7 من المرسوم المذكور على أن لا تنفذ أحكام محكمة الميدان العسكرية إلا بعد التصديق عليها من قبل المرجعية المختصة.
ومما سبق فإن هذا المرسوم يثبت بما لا يدع أي مجال للشك أن بشار الأسد قد وقع شخصياً أحكام الإعدام التي نفذت بأكثر من 13 ألف معتقل في سجن صيدنايا وحده. وهذا جزء بسيط مما يجري في المعتقلات والسجون الأمنية والعسكرية في سورية، حيث نقدر، كمنظمات حقوق إنسان، أن أكثر من ستين ألف ضحية قضوا في هذا المعتقلات بينما لا يزال أكثر من مئتي ألف مغيبين قسرياً من دون أية معلومات عنهم.
ولا يقل أهمية عن ذلك توقيت صدور هذا التقرير، مع ازدياد الجهود والضغوط الروسية على الدول المجاورة وعلى المعارضة المسلحة والسياسية للقبول بتسويق بشار الأسد وبقائه في السلطة، مع بعض التغييرات لاستهلاك الوقت وإعادة تدعيم سلطته، ومع ظهور بعض المؤشرات على وجود استجابة ولو ضعيفة لهذه الجهود، أظهرتها مؤخراً مواقف تركية وأردنية. وقد ترافق كل هذا مع محاولات البعض في أوروبا إعادة بناء بعض الجسور مع نظام مجرم، ما تمثل بزيارتين لوفدين برلمانيين أحدهما فرنسي والآخر بلجيكي، فضلاً عن بعض الغزل الترامبي.
هكذا جاء التقرير ليشكل صفعة كبيرة على وجه أصحاب هذا التفكير. فالقبول بهذا الإجرام وعدم محاسبة فاعليه يراد لهما أن يكونا ضوءاً أخضر يفتح باباً للكثيرين من المجرمين، وهو ما ستتصدى له الشعوب.
تختبر وتختزل معركة الباب في شمال سورية وما يحيط بها من مناورات وتموضعات عسكرية وسياسية، الكثير من السياسات في هذه المرحلة من المأساة السورية المتواصلة.
فانتزاع المدينة من براثن «داعش» مقدمة ضرورية وحتمية لإطلاق معركة الرقة و «التخلص» من سيطرة التنظيم على معقل يوجه منه سائر عملياته، بموازاة معارك إنهاء وجوده في الموصل العراقية. إنهاء «داعش» هو الجامع المشترك لأقطاب المجتمع الدولي المختلفين على مقاربة الأزمة السورية. ومن الباب يتقرر مصير احتمال قيام منطقة آمنة في شمال سورية بعد أن يتم توسيع المستطيل الجغرافي الذي سيطرت عليه القوات التركية التي توغلت في الميدان السوري مع «الجيش السوري الحر» ضمن عملية «درع الفرات». وفي الباب يتكرس فصل تركيا المناطق الكردية التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية شرقاً، عن تلك الواقعة غرباً، للحؤول دون اكتمال الكيان الكردي المستقل الذي يسعى إليه قادة أكراد. وبالسيطرة على الباب تتحدد هوية الجهة التي تتحكم بالحدود السورية (الشمالية الغربية) مع العراق، التي كانت الميليشيات العراقية المدعومة إيرانياً تطمح للانتقال عبرها إلى سورية بحجة المشاركة في معركة الرقة، في إطار الحدود المفتوحة التي اعتمدتها طهران لتوسيع نفوذها الإقليمي، من طريق وصلها بالميليشيات التي تدعمها في بلاد الشام.
في معركة الباب ترتسم ملامح الأدوار التي تجيزها القوى الدولية الأقوى، وهي راهناً روسيا بالدرجة الأولى وأميركا بالدرجة الثانية، للقوى الإقليمية المتنافسة والمتعارضة الأهداف في الميدان السوري، فقرار موسكو إعطاء المساحة الأكبر لأنقرة في الشمال، عبر «الباب»، يؤشر إلى نية موسكو تقليص اتكالها على الحليف الإيراني القوي ما دام الأخير يمعن في السعي إلى فرض أجندته الخاصة، المتعارضة مع الطموح الروسي لصفقة مع إدارة دونالد ترامب، قد لا تتناسب مع تصاعد التوتر الأميركي- الإيراني.
وفي الباب أيضاً يتيح تقدم جيش نظام بشار الأسد نحو المدينة بمساندة «حزب الله» وسائر الميليشيات السورية الموالية، والإيرانية، للمشاركة في محاصرتها، اختبار مدى قدرة هؤلاء جميعاً على انتزاع المبادرة من الخصم التركي من جهة، ومدى تمكن موسكو من أن تشكل وسيطاً غير مباشر للتنسيق بين دمشق وأنقرة، وبين «الجيش السوري الحر» والجيش النظامي، على حرب مشتركة ضد «داعش»، من جهة ثانية. وهو مطلب روسي يؤيده بعض الدول الأوروبية منذ سنوات، بحيث تحولت محاربة «داعش» أولوية تتفوق على بحث مرحلة الحكم الانتقالي في الحل السياسي السوري، خلال جولات التفاوض الفاشلة من جنيف إلى آستانة. بل هي كانت حجة موسكو نفسها ضد المعارضة المعتدلة التي صنفتها تنظيمات إرهابية، ما لم تشارك في مواجهة التنظيم و «النصرة» (فتح الشام).
لطالما قيل إن ولوج المرحلة الجدية في القضاء على «داعش»، والاقتراب من الخلاص منه في الرقة، يقرّبان أجَل النظام ورأسه بعدما كرّس معادلة «إما الأسد وإما الإرهاب»، فالنجاح في ضرب «داعش» ينفي مبرر وجود الأول. وإسراع الجيش النظامي إلى الاشتراك في معركة الباب هو استلحاق من الأسد لنفسه حتى يصبح شريكاً في القضاء على «داعش»، بعدما كان شريكا في انتشاره.
يتهيأ جميع الفرقاء الدوليين والإقليميين لمرحلة ما بعد حسم معركة الباب، وبالتالي لمرحلة معركة الرقة. وما بينهما سيشهد تموضعات جديدة لهؤلاء الفرقاء في الداخل السوري، بالتناغم مع التغييرات المرتقبة على الساحة الدولية، وأبرز تجلياتها اعتبار ترامب، المقبل على تقارب مع فلاديمير بوتين في مقاربة الأزمات الدولية، أن إيران دولة راعية للإرهاب، وأن عليها، مع «حزب الله»، الخروج من سورية. وقد تقتضي أولوية «التخلص» من التنظيم، كما يقول الرئيس الأميركي الجديد، أن يرسل قوات على الأرض إلى سورية، بالاتفاق مع موسكو.
في وقت قررت طهران اتباع سياسة «الصبر» للتخفيف من لغة المواجهة مع ترامب، فإن هذا التوجه لا يعني سوى التأقلم بتقديم تنازلات قد تكون سورية ميدانها، إلا إذا اقتنعت بالتخلي عن مغامرتها في اليمن.
في هذه المعمعة المرتقبة، قد يكون على المعارضة السورية أن تتحسس مصيرها وهي تخوض مفاوضات آستانة الثانية وتتهيأ لخوض مفاوضات جنيف الجديدة المنتظرة في 20 الجاري. فإما أن تغرق مرة أخرى في سقطة غياب الوحدة بين مكوناتها لمصلحة التنافس على القيادة والتزعم بين رموزها، لتحصد الخيبة، لأن انقسامها السابق أتاح للقوى الإقليمية صاحبة الأجندات الخاصة أن تضعف موقعها التفاوضي، وإما أن يقدم هؤلاء الرموز التنازلات بعضهم لبعض لمصلحة خطة موحدة للمرحلة الحساسة المقبلة.
هناك أمران يتصدران قائمة أولويات سياسة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب الخارجية: التجارة والأمن. في ما يتعلق بالتجارة، سيركز ترامب على دول مثل الصين والمكسيك واليابان، أما بالنسبة الى موضوع الأمن، فسيتوجه تركيزه الى منطقة الشرق الأوسط.
وحدد ترامب أن التهديد الأمني الرئيسي الذي يواجه الولايات المتحدة هو «إرهاب الإسلام المتطرف» وتعهد بالتحالف مع «العالم المتحضر» لمواجهته و «إزالته من على وجه الأرض».
فقد عين لقيادة فريقه للأمن القومي عسكريين متمرسين كالجنرال مايكل فلين مستشاراً للأمن القومي، والجنرال جيمس ماتيس وزيراً للدفاع. للجنرال فلين خبرة طويلة في محاربة الجماعات الإرهابية من خلال عمله كضابط استخبارات في الجيش، وماتيس كان القائد العام السابق للقيادة المركزية، وقاتل حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة» في أفغانستان والعراق. وقام ترامب بأول زيارة له كرئيس إلى مقر وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، وأخبرهم بأنهم سيكونون في طليعة الحرب على الإرهاب.
ولذا يمكننا أن نتوقع أن تقوم إدارة ترامب باستخدام كل إمكانات فروع الجيش المختلفة والاستخبارات لتكثيف الحرب على «داعش» و «القاعدة».
لكن، لا تزال هناك أسئلة كثيرة قائمة: هل سيقوم ترامب بإرسال المزيد من القوات الأميركية إلى المنطقة؟ إن الشعب الأميركي لا يزال يعارض بشدة الانتشار الواسع للقوات، لكننا قد نرى زيادة في الضربات الجوية ونشاط الاستخبارات، فضلاً عن زيادة في نشر وحدات صغيرة من القوات الخاصة. وستكون إدارة ترامب أقل تردداً من إدارة أوباما في استخدام القوة الجوية الكبيرة الحجم وتجاهل الضحايا المدنيين. وهذا يجعلها أقرب إلى النهج الروسي.
والواقع أن الموقف تجاه روسيا هو أحد المسائل الرئيسية في الإدارة الجديدة. يبدو أن ترامب يرى في روسيا شريكاً محتملاً. ولوزير الخارجية ريكس تيلرسون موقف مماثل إلى حد ما. ولكن فريقه للأمن القومي، من فلين الى ماتيس إلى مايك بومبيو رئيس وكالة الاستخبارات المركزية، يعتبرون روسيا عدو أميركا الرئيسي في العالم على المدى الطويل. فكيف ستحسم او ستترجم هذه التناقضات تجاه روسيا؟
يمثل الموقف تجاه إيران تناقضاً آخر في سياسة هذه الإدارة. فترامب وفريقه الأمني يرون أن إيران عدو يجب إضعافه وصده، وقد وجه فلين انذاراً الى إيران في الأيام الماضية. بل إن فلين، في تصاريح سابقة، ذهب إلى حد الإصرار على تغيير النظام في طهران. لكن ترامب عبّر مراراً انه قد يفضل العمل مع روسيا في سورية، ولمصلحة نظام الأسد في مواجهة معارضيه. هذا في الواقع يعني انحيازاً الى إيران في سورية. وتعمل الولايات المتحدة بالفعل مع حلفاء إيران في العراق لإبعاد «داعش» من الموصل. كيف يمكن الإدارة الجديدة أن تضعف إيران على نحو فاعل وتتصدى لتدخلاتها في الشرق الأوسط إذا كانت عملياً تتحالف معها في بلاد الشام وتقوي قبضتها من البصرة إلى بغداد، ومن الموصل إلى حلب وحماة وحمص ودمشق وبيروت؟!
كما أن ترامب تعهد خلال حملته الانتخابية بتمزيق الاتفاق النووي مع إيران في «اليوم الأول» لرئاسته. لكن ريكس تيلرسون قال إنه سيأمر بـ «مراجعة» الاتفاق – مما يعني أن الصفقة من المرجح أن تبقى في الوقت الراهن، حتى لو قامت الإدارة الجديدة بمراقبة الاتفاق بصورة أدق.
ما يقلقني أكثر من غيره هو تساؤل جوهري حول فهم ترامب وفريقه للعلاقة بين الإرهاب والإسلام. فقد قال ترامب في كلمته عند تنصيبه رئيساً إنه سيوحد العالم «المتحضر» ضد الإرهاب الإسلامي المتطرف. ما هو المقصود بالضبط من تلك الإشارة؟ فهناك العديدون في فريقه، بمن فيهم مايكل فلين وكبير الاستراتيجيين في البيت الأبيض وكبار مستشاريه ستيف بانون، فضلاً عن الكثيرين في الحركة التي يقودها ترامب، أو الحركات التي تصاعدت في أوروبا، يعتبرون أنهم في «صراع حضارات» بين «الغرب المسيحي» و «الشرق المسلم». فهم يميزون بين ما يسمونه «الحضارة المسيحية» في الغرب وبين «الحضارة الإسلامية». حتى أن فلين في كتابه «ميدان المعركة» يصف الإسلام بأنه «حضارة فاشلة»!
لقد فهم الرئيسان أوباما وبوش أن الجماعات الإرهابية مثل «داعش» و «القاعدة»، خطفت وشوهت عناصر من التراث الإسلامي وذلك بشن حرب عدمية ليس فقط ضد الغرب ولكن الأهم من ذلك ضد الدول والمجتمعات في العالم الإسلامي نفسه. كما أن الرئيسين السابقين فهما أن الدول والمجتمعات الإسلامية كانت ولا تزال الحليف الرئيسي وحجر الزاوية في الحرب على الإرهاب.
أما الخوف هنا أن يختلط الأمر في الإدارة الجديدة بين الحرب على الإرهاب ومعاداة الإسلام والمسلمين في شكل عام. وزاد هذا القلق في الأسبوع الفائت عندما أصدر الرئيس ترامب قراراً رئاسياً بمنع دخول مواطنين من سبع بلدان أكثرية مواطنيها مسلمون.
إلى جانب هذه المخاوف المرتقبة والأسئلة التي لا تزال معلقة، ما هي السيناريوات المحتملة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة؟ برأيي هناك ثلاثة سيناريوات محتملة:
السيناريو الأول هو سيناريو التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا. وهذا لم يسبق أن حدث في شكل معمق أو ثابت منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن إذا حصل فقد يؤتي ثماراً مثيرة للاهتمام. فالولايات المتحدة وروسيا يمكنهما أن تعملا معاً على هزيمة «داعش» بسرعة أكبر ومكافحة تنظيم «القاعدة». ويمكنهما التعاون والاعتماد على الحلفاء الإقليميين لإنهاء الحرب في سورية واليمن وليبيا، والعمل مع الصين وأوروبا للتركيز على إعادة بناء الدول المنهارة وإعادة التأهيل والإعمار. ويمكنهما أيضاً القيام بمراقبة مشتركة للاتفاق النووي مع إيران، وربما إيجاد طرق لإقناع أو إرغام إيران على التراجع عن سياسة تسليح الميليشيات والتدخلات الإقليمية. ولكن علينا أن نتذكر ان كلاً من بوش وأوباما بدآ رئاستهما بتفاؤل كبير حول التعاون مع روسيا، ولكن سرعان ما اصطدم هذا التفاؤل بواقع تناقض المصالح.
السيناريو الثاني قد ينتج من السيناريو الأول، وذلك أن محاولات التعاون في مرحلة أولى قد تنهار وتفسح المجال للسيناريو الثاني وهو مرحلة من التنافس بين القوى العظمى. وهذا يعيدنا بالذاكرة إلى أجواء سنوات الحرب الباردة. وفي حالة هذا السيناريو سيكون على الولايات المتحدة أن تسرع في إعادة بناء علاقاتها مع الحلفاء الإقليميين التقليديين مثل مصر والمملكة العربية السعودية وتركيا وإسرائيل وقيادة تحالف قوي للتصدي من جديد للتحالف الروسي- الإيراني في المنطقة.
والسيناريو الثالث هو أن ترامب قد يتخلى، بعد مرحلة تجارب مريرة، عن منطقة الشرق الأوسط في شكل عام ويتراجع وراء جدران «القلعة الأميركية». ويعزز احتمالات هذا السيناريو في المدى المتوسط وجود نزعة انعزالية قوية في تفكير ترامب وكذلك في مزاج أتباعه، وقد نشير الى حماسة اتباعه عندما يعد ترامب ببناء جدار يفصل أميركا عن المكسيك مثلاً. وإذا «تراجع» ترامب بهذا الشكل فقد ينسحب من الشرق الأوسط في شكل أوسع مما فعله أوباما، ويترك المنطقة آنذاك مفتوحة للصراع بين القوى الإقليمية وروسيا والجماعات الإرهابية المختلفة.
ولكن لا يزال من السابق لأوانه معرفة أي الاتجاهات والسيناريوات سيتحق، ولكن من المهم بالنسبة الى قادة المنطقة التواصل مع الإدارة الأميركية الجديدة وتوجيهها بعيداً من نزعاتها الأكثر خطورة ونحو سياسات أكثر إيجابية وأكثر إفادة لاستقرار المنطقة.
قبل أن يبدأ التصعيد الأميركي ضد إيران، كانت عوامل التباعد بين روسيا وإيران تعدّدت وتعمّقت. لم يكن قد مضى اسبوعان من عمر الادارة الأميركية الجديدة حتى دقّت طهران الباب فسمعت الجواب: تحذير رسمي، ليس فقط بالرّد على التجربة الصاروخية الإيرانية، بل بفتح ملفات العراق وتهديد الملاحة الدولية بعد الهجوم الحوثي على الفرقاطة السعودية، وكذلك رعاية الإرهاب. في المقابل يتواصل الصراع الصامت بين الروس والإيرانيين داخل سورية، بين تنازع النفوذ على المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية وعلى تثبيت وقف اطلاق النار، وبالأخص مَن له الكلمة العليا والأخيرة على نظام بشار الأسد. بديهي أن النفوذ الروسي يتقدّم بخطى ثابتة، فيما لا يزال النفوذ الإيراني قادراً على تعطيل الهدنات وتخريبها، إلا أن يقينه في شأن مستقبله السوري بات مشوباً بالشكوك والتساؤلات.
القاسم المشترك بين روسيا وأميركا، ولو شكلياً، اسمه: الحرب على الإرهاب، أو ضرب «داعش». كانت طهران سبقت موسكو وواشنطن في إعلان حربها على هذا العدو، حين وضعت «هزيمة التكفيريين» هدفاً لتدخّلها في سورية. وبعدما انتشر «داعش» بين العراق وسورية أوعزت إيران لبغداد نوري المالكي بطلب المساعدة الأميركية لصدّ المدّ الإرهابي، وما لبثت هذه العودة الأميركية أن استحثّت تدخّل روسيا «لإنقاذ» حليفها نظام الأسد سواء من الإرهابيين أو أيضاً - كما روّج الإيرانيون - من ضربة أميركية محتملة. وبين الدورَين الأميركي والروسي حاولت إيران طرح نفسها شريكة في محاربة الإرهاب، بغية إضفاء مشروعية على سياستها التدخّلية وأنشطة ميليشياتها، وحققت نجاحاً كليّاً هنا وجزئيّاً هناك، إمّا لحاجة الروس اليها في سورية أو لرغبة ادارة باراك اوباما في مجاملتها في العراق. غير أن ترتيبات «ما بعد حلب» في سورية و «ما بعد داعش» في العراق كشفت للروس والأميركيين بالتزامن أن لديهم مشكلة تقتضي تحديد دور إيران (وميليشياتها) أو الحدّ منه.
انتهت اذاً مرحلة صعود الخط البياني بالنسبة الى إيران لتبدأ مرحلة الهبوط، أما وقف الهبوط للشروع بمرحلة ثبات فيرتبط أولاً بجعل طموحاتها واقعية وثانياً بحسن سلوكها، فقد لا ينفع دهاؤها أو دفع أتباعها الى مزيد من التطرّف. إذ إن تهديدات «الحرس الثوري» بالصواريخ وغيرها، مهما كانت جدّية، تبقى محدودة باستراتيجية دفاعية تتجنّب فيها إيران تعريض أراضيها ومنشآتها وبالأخص نظامها لأي أخطار مباشرة. أصبح عليها من الآن فصاعداً أن تغيّر كل حساباتها لردود الأفعال الأميركية عمّا كانت عليه في عهد باراك أوباما. ولا بدّ لها من مراجعة تكتيك التحرّش بالقطعات البحرية الأميركية، ومن نسيان حادث احتجاز الزورقين الأميركيين (كانون الثاني/ يناير 2016) وسكوت واشنطن على إذلال بحارتهما.
ومع أن ادارة دونالد ترامب استخدمت لهجة مرتفعة في مخاطبة طهران، إلا أنها ليست متعجّلة لمواجهة حربية معها، بل مصممة على كبح الجموح الإيراني أينما استطاعت ذلك، لأن إيران تصعّد خارج أرضها وبواسطة أتباعها، وبالتالي فإن المواجهة المحتملة مرشّحة لأن تحصل حيث هناك تماس بين الطرفَين، أي في العراق، وكان في الإمكان تصوّرها في اليمن إلّا أن السيطرة على باب المندب حُسمت، لكن الإيرانيين قد يدفعون الحوثيين الى تصعيد «انتحاري» أوسع ضد السعودية للتغطية على تراجعهم في ميدي والمخا. ويجب عدم استبعاد احتمال أن يعاود الإيرانيون إشعال جبهة الجنوب اللبناني سعياً الى اجتذاب الرأي العام العربي والاستفادة معنوياً بتأكيد أن ما تتعرّض له إيران، وكل الأدوار التي قامت بها على مرّ الأعوام السابقة، انما كانت بسبب تحدّيها ومواجهتها لإسرائيل.
كلٌّ من هذه السيناريوات لا يفترض أن إيران نفسها ستتعرّض لضربة مباشرة من شأنها أن تشدّ العصب الوطني، بل يعني أنها لن تتمكّن من الحفاظ على منطقة النفوذ، أو «العواصم الأربع» التي تدّعي السيطرة عليها. ذاك أن لعبها بورقة الإرهاب قد يكون جلب لها مكاسب لكنه صار مكشوفاً، بل يقترب من الارتداد عليها. فحتى لو كانت روسيا وأميركا شاركتاها العبث بتلك الورقة ومكاسبها إلا أنهما تتطلّعان الآن الى تعاون عنوانه الرئيسي إنهاء مرحلة «داعش»، وتجدان أن إيران (وميليشياتها) عقبة يجب كسرها للانتقال الى المرحلة التالية. باتت الدولتان الكُبريان، حتى قبل بلورة أي تفاهمٍ أو تنسيقٍ جديدَين بينهما، مقتنعتَين بأن ثمة ترتيبات سياسية يجب أن تسبق أو تواكب القضاء على «داعش» وإلّا فإنه سينهض سريعاً بصيغة وشعارٍ جديدَين. وقد تأكدت روسيا بأن مشاريعها لإنهاء الصراع المسلّح أو تجميده في سورية تصطدم بالأجندة الإيرانية، فيما تيقّنت أميركا أن الحسم النهائي في الموصل لا يشكّل نهايةً للإرهاب في العراق طالما أن إيران تُجهض، عبر ميليشيات «الحشد الشعبي»، أي سعي الى اتفاق أو مصالحة سياسيَين.
في كل التقديرات، ومهما بلغت قوة الأمر الواقع واعتباراته، لا يمكن أن تستقيم حلول سياسية وفقاً للصيغ والمعادلات التي بنتها إيران، سواء باستراتيجية «تصدير الثورة» أو بأساليب الشحن والعسكرة المذهبيَين. ففي حال سورية، مثلاً، ومع افتراض أن أميركا والدول العربية والغربية المعنية قبلت ضمناً ببقاء الأسد في منصبه تسهيلاً لانطلاق مرحلة انتقالية، فإن هذه الأطراف لا يمكن أن تقبل معادلة «الأسد + إيران (وميليشياتها)»، والأكيد أن موسكو لن تتبرّع بأي ضمان لمثل هذه المعادلة. أما في العراق فإن مجرّد الاعتقاد بأن الدور الإيراني دعامة للاستقرار والسلم الأهلي خطأٌ وخطيئةٌ فادحان، فلا ميليشيات قاسم سليماني تشكّل صمّام أمان ضد عودة «داعش»، ولا تهميش إيران للجيش الوطني وهيمنتها على الأحزاب الشيعية الحاكمة يوفّران ضماناً للمصالحة والوئام ومشاركة الجميع في إعادة بناء الدولة. أبعد من ذلك، ومع افتراض أن روسيا وأميركا تبحثان عن توافق بينهما لتقسيم سورية والعراق، أو لفدرلتهما وتقاسم النفوذ بينهما ونقل بعضٍ منه الى قوى إقليمية متحفّزة (أسرائيل وإيران وتركيا)، فإن تقاسم النفوذ وتوزيعه لا يمكن أن يتمّا وفقاً للمعادلات أو للمساومات التي تخيّلتها طهران.
يبقى العراق بالنسبة الى إيران الركيزة الأساسية لأي نفوذ خارجي لها، أما سورية فيتيح موقعها اللعب بأوراق إقليمية شتى. لكن طموحات إيران، شاءت أم أبت، صارت في مواجهة مصالح الدولتين الكُبريَين. وقد ذكّرها ترامب بأن أميركا تريد حصة متناسبة مع التريليونات الثلاثة التي أنفقتها أميركا في العراق، أما فلاديمير بوتين فألزم حكومة الأسد بتعاقدات من شأنها أن تمنح روسيا تحكّماً بكل مشاريع إعادة الإعمار في سورية، ما أثار طهران، فمارست أشدّ الضغوط على الأسد للإسراع بإرسال وفد حكومي لتوقيع الاتفاقات التي منحت إيران إمكان إنشاء ميناء نفطي ومناجم فوسفات وترخيصاً لشركة هاتف نقّال. وفي الوقت نفسه، ما أن طرح مشروع الوقف الشامل لإطلاق النار حتى صار مصير الميليشيات الموالية لإيران في سورية قيد التداول، ومع الدفع الإيراني باتجاه خرق وقف النار شعرت موسكو بأن سلطتها في سورية تتعرّض لتحدٍّ غير مسبوق، وإذا كانت تسعى فعلاً الى حل سياسي جدّي مع إصرارها على وجود الأسد فإنها تواجه ضرورة الاختيار بين سورية مع الأسد من دون إيران وبين سورية من دون الأسد وإيران.
الأكيد أن إيران لن تسلّم بسهولة بأنها في صدد خسائر متوقّعة في مجمل مشروعها، ولديها أوراق لا تزال قادرة على تحريكها. فالولايات المتحدة لم تتخلَّ عن حاجتها الاستراتيجية اليها كعامل توازن اقليمي، لكن الهوس الإيراني بالهيمنة «الامبراطورية» أخلّ بكل التوازنات والمقاييس وبات يتطلّب منها أن تعيد تعريف مفهومها للنفوذ وأهداف وجودها في الدول التي شاركت في تدمير مدنها وخرّبت نسيجها الاجتماعي، فضلاً عن أهداف تدخلاتها في دول الجوار الخليجي. فالميليشيات التي زرعتها لا يُنظر اليها كعناصر مرجّحة للاستقرار بل كألغام داخلية، كما أن التداخل الذي نسجته بين ظواهر الإرهاب والأزمات الداخلية أصبح لعبة مكشوفة. لكن الأسوأ أن إيران أفسدت الطائفة التي تعوّل عليها حتى غدا شيعتها رمزاً للتغوّل والترهيب.
التقرير الذي نشرته «منظمة العفو الدولية» عن «المسلخ» الذي تحولت إليه سورية في عهد بشار الأسد، لا يشكل مفاجأة أو كشفاً بالنسبة إلى السوريين، ولا الفلسطينيين أو اللبنانيين، فهم يعرفون أكثر بكثير مما ورد فيه، وخبروا ذلك بأنفسهم، ليس فقط خلال السنوات الست للثورة، بل منذ بداية عهد الأسد الأب الذي يذكره أهل حماة وبيروت خصوصا.
إنه موجه أساساً إلى أولئك الغربيين وبعض العرب الذين يديرون رؤوسهم عن جرائم النظام السوري بذريعة أولوية قتال «داعش» ومنع تمدده إليهم، وخصوصاً دونالد ترامب، فيما تقارير استخباراتهم تؤكد أن معظم إرهابيي البغدادي تخرجوا من سجون وأجهزة النظام السوري الذي يفوقهم دموية، لكنه «يعمل» بصمت ومن دون أشرطة مصورة.
الفارق الرئيس مع «داعش» أن نظام الأسد لا يوجه تهديدات مباشرة إلى الغرب، ولا يعلن مسؤوليته عن إرسال الإرهابيين إلى دوله. إنه يبعث بهم سراً، مثلما تظهر التحقيقات في باريس وبرلين واسطنبول، ثم يفاوض على دور له في «وقف» تسربهم. فنظامه ينتمي إلى مدرسة أشد خطورةً ودهاءً من «مروجي الخلافة»، إذ يمتهن القتل والتنكيل والتهجير تحت غطاء شعارات السياسة ومبرراتها، حتى أنه يدعي قتال الإرهابيين، ويطرح نفسه شريكاً في المعركة ضدهم، فيما يوجه معاركهم ويحدد أهدافهم.
ومثلما ابتلع الغرب الطعم طوعاً في السابق، عندما نكّل نظام الأسد بجيرانه، من دون أن يقرب إسرائيل، ها هو ترامب يعض الصنارة نفسها. فمحاسبة الأسد ليست بين أولوياته، لأن المعركة ضد «داعش» مستعجلة جداً، وقد أمهل مستشاريه شهراً لوضع خطة القضاء عليه، ولا وقت لديه للنظر في أمر مئات آلاف القتلى السوريين وملايين المهجرين، ولا في أمر البراميل المتفجرة أو القنابل الكيماوية، فهذه ليست من اختصاص إدارة المقاولات في البيت الأبيض.
وإذا كان لا أمل يرجى من إيران المتورطة حتى النخاع في مقتلة السوريين بدوافع مذهبية وقومية، لا يُحسن مسؤولوها إخفاءها، ولا من روسيا التي تشارك نظام الأسد معارك الإبادة الجماعية منقادة لمصالحها وتوقها إلى استعادة «المجد» السوفياتي، فلماذا تتورط دول تتغنى بالدفاع عن حقوق الإنسان وتمثيل «العالم الحر» في إخفاء معالم المذبحة الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية؟
ألا تذكر فكرة التحالف مع الأسد ضد «داعش» بالنظرية الحمقاء التي تبناها بعض الأوروبيين لدى بروز النازية في المانيا في مطالع ثلاثينات القرن الماضي، واعتبارهم أن باستطاعتهم استخدام هتلر في إقصاء منافسهيم، قبل أن يتحول صاحب شعار الصليب المعقوف إلى كابوس للعالم كله؟
التجاهل الذي يواجه به ترامب المعارضة السورية، وتهديده بقطع المساعدات الأميركية عنها، واعتباره أن البحث في إخراج الأسد من السلطة يقارب حد «الجنون أو الحماقة»، يعني أن لا أمل في حسم المعركة ضد «داعش» مهما حشد لها الأميركيون، لأن في جعبة نظام دمشق الكثير من المجموعات الإرهابية، الجاهزة للخروج إلى العلن، كلما اقتضى الأمر.
وما لم تسعَ الولايات المتحدة وأوروبا والعالم بأسره إلى وقف مسارات القتل المستفحلة بحق السوريين، وتقديم بشار الأسد وعصابته إلى محاكمة دولية، سيظل قصر المهاجرين بؤرة لنشر الإرهاب الفعلي «الهادئ»، بل ويمنح بين الحين والآخر «شهادات حسن سلوك» أهدى آخرها إلى ترامب «الواعد»، وسيظل السوريون ضحية إرهابين متلازمين يمارسهما النظام و«داعش».