تختلف السياسة الأميركية عن سابقتها في الموقف من إيران بالتحديد، ولكنها تُكمّل السابقة في اجتثاث "داعش" ومحاصرة النظام السوري من دون إسقاطه. وتشكل هذه النقطة عنصر توافقٍ كبيرٍ بين الروس والأميركان. يضاف إليها التنسيق الروسي مع إسرائيل، بما يخص مصالحها في سورية، وكذلك المكانة الرفيعة لإسرائيل في السياسة الأميركية، واحتمال نقل سفارتها إلى القدس. تدفع التوافقات الجديدة هذه نحو تحجيم إيران في سورية، وفي كل المنطقة العربية، ويُلحظ في ذلك أن إيران نفسها بدأت تبحث عن حلول بخصوص اليمن والبحرين، وأيضاً لتساوم على مصالحها الكبرى في سورية والعراق ولبنان، حالما تُجبر على الخروج منها.
أصبحت الساحة السورية متاحةً لكل أشكال التدخل، وتُصاغ وفقاً للصراعات الإقليمية والدولية. وهنا يصبح الكلام عن مناطق آمنة في سورية، كما قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، محط صراعٍ جديدٍ قد يُوقف التطورات التي حدثت على الساحة السورية، ابتداءً منذ اجتماعات أنقرة وسيطرة النظام على مدينة حلب، ولاحقاً انعقاد لقاء أستانة واحتمال عقد مفاوضات جنيف قريبا، وقد أعطى الروس للفصائل العسكرية دوراً سياسياً بدعوتها إلى أستانة، ووجود أفكار متداولة عن مجلسٍ عسكريٍّ تقوده روسيا، في إطار الانتقال السياسي، وهذا عكس الاتهامات التي كان يُكيلها الروس للفصائل، ومحاولتهم وضعها في إطار الفصائل الإرهابية.
كان الخلاف بين روسيا وأميركا لمسائلٍ عالميّة كثيرة، ولا يمكن اختزاله الآن في سورية أيضاً، ولهذا تُطرح قضيتا أوكرانيا وسورية معاً من جديد، وهناك مسائل أخرى بالتأكيد. وهذه يترتب عليها تغيّرات كبرى بخصوص التعارض بين سياسة ترامب والسياسة الأوروبية، وبالتالي هناك تغييرات كبيرة تطاول السياسة الأميركية عالمياً. ولا يتوقف الرئيس الأميركي الطموح عن اتخاذ قرارات جديدة، على الرغم من أنها تُواجَه برفضٍ أميركيٍّ وعالميٍّ. تعطيل بعض تلك القرارات بفعل القضاء الأميركي، كما القرار الخاص بمنع سكان سبع دول إسلامية من دخول أميركا لا يعني إيقافها بأي حالٍ.
التقليل من التغيرات الأميركية في منطقتنا أمرٌ خاطئ، فالسياسة الأميركية ترفض التمدّد الإيراني، وتعلن بوضوح شديد أن نفط العراق لأميركا، وأن التدخل الإيراني هناك يجب أن يتوقف، وهذا سيستدعي بالضرورة إمكانية شن عدة حروب في الشرق الأوسط. يُفضل هنا رؤية صمت ترامب إزاء دول الخليج، الدول التي عانت تهميشاً أميركيا في زمن الرئيس السابق، باراك أوباما، وإعطاء الأخير إيران دورا أكبر على الساحة الإقليمية.
الآن، وبخصوص مواقف أميركا في سورية، فهناك دعم كبير لقوات صالح مسلم، واحتمال التقدم ضد "داعش" بدعم أميركي بالتحديد، وهذا سيقوي الأكراد ضد تركيا في سورية، وقد يدفع كرد تركيا للثورة مجدداً، وهو ما يعني عدم أخذ أميركا الاعتراضات التركية بالاعتبار. وسيكون لتعزيز القوات الكردية في سورية تأثير كبير على الوضع الكردي في تركيا، وبالتالي، ما زالت السياسة الأميركية إزاء تركيا غير واضحة، بينما هناك تقدم كبير في العلاقات التركية الروسية، وهذا لن يكون لصالح السيطرة الأميركية على المنطقة. وبالتالي، تشكل مسألة المناطق الآمنة والدعم الأميركي للأكراد مسائل جديدة، قد تزعزع ما ذكرناه من توافقات روسية تركية؛ والقصد هنا أنه لا معنى للكلام عن مناطق آمنة، وهناك حديث يخص الحل السياسي في سورية، وكذلك هناك منطقة أصبحت تحت السيطرة التركية، وستكون نتيجتها محاصرة "داعش" أكثر فأكثر، ومنع تشكيل أي إقليم كردي متواصل.
يتخوف محللون كثيرون من مسألة المناطق الآمنة، فهي ستتيح للدول المتدخلة أن تتحكّم بمناطق ومدن سورية معينة، وستخلق دويلات متعددة متقاتلة أو محتجزة ضد الأخرى، بفضل الدول المتدخلة، لكن السؤال هل يمكن لروسيا وأميركا وتركيا أن تغامر بقواتٍ من دولها لحماية تلك الدويلات، وهل يمكن أصلاً لدولٍ كهذه أن تعيش وتستمر. طبعاً تشكيل دويلة تحت السيطرة التركية، أو في الجنوب أو الشمال، مسائل شبه مستحيلة، نظراً للكلف الكبيرة التي تترتب عليها، ولضعف المردودية منها والفائدة كذلك؛ وعكس ذلك هناك عوامل تقارب بين روسيا وأميركا وإسرائيل، وربما دول الخليج ومصر لاحقاً، وهي ستكون الأساس في صياغة شكل الحكم على سورية، وفي المنطقة بأكملها.
تساير البراغماتية الأميركية القوات الكردية للعودة مُجدّداً إلى سورية والعراق، ولتكون لاعباً أساسياً، ولتحقيق مصالحها في دول المنطقة، ولا سيما في العراق، وبالتالي، وبعد أن استخدمت إيران حجة محاربة "داعش" في العراق وسورية، فها هي تواجهه فيها. حجة محاربة "داعش" وفق السياسة الأميركية حالياً يُراد منها تحجيم إيران وإعادة الدور الأميركي للمنطقة، وإيقاف التقدم الكبير في التنسيق التركي الروسي الإسرائيلي، من دون فوائد تذكر لصالح أميركا. طبعاً هذا لا يتناقض مع الإستراتيجية الأميركية الأساسية المحدّدة بمواجهة الصين، وبالتالي، لخدمة هذه القضية تتغيّر السياسات الأميركية في منطقتنا والعالم.
خلطت التغييرات الأميركية الأوراق إزاء إيران والمناطق الآمنة؛ وهذا ما أصاب الروس والأتراك والإيرانيين بارتباكٍ شديدٍ. لم تعد المواقف الأميركية تحذيرات فقط، فهناك قرارات ضد كيانات وشخصيات تم إقرارها. إبعاد النظام السوري عن إيران هو السياسة التي تَعمل أميركا عليها، وهو ما تفعله روسيا بالتدريج. ويشعر النظام بدوره بالخطر الكبير من جرّاء تحوله إلى لعبةٍ كاملة بيد الدول العظمى، ومعرفته أن إيران مُجبرة على المساومة عليه، للحفاظ على بعض أذرعها الإقليمية، كحزب الله مثلاً.
ستسهم سياسات أميركية المتصاعدة إزاء منطقتنا بالتأكيد في تشكيل حلف جديد، كما ذكرنا، وستكون إيران أكبر الخاسرين بسببه، لكن تركيا وسورية قد تكونان أمام دويلات كردية، ستؤجج الحروب الداخلية فيهما. ولهذا، لن تنتهي الحروب بسهولة، وقد تعاني تركيا من الحرب القومية مجدّداً.
تداعيات زلزال حلب لم تتوقف. سقوط المدينة استتبع سقوط مرحلة كاملة من عمر الأزمة السورية. ولم يكن لقاء آستانة عابراً وإن اقتصر على تثبيت وقف النار. ساهم في بلورة المشهد المستجد الذي سيستكمل في الجولة المقبلة من المفاوضات في جنيف. كانت الفصائل العسكرية التي شاركت في لقاء العاصمة الكازاخية بعد التزامها وقف النار تنادي بتحرير سورية من الاحتلال الروسي والاحتلال الإيراني فإذا هي في أحسن تنسيق مع موسكو. واعترفت هذه بهم قوى معتدلة بعدما كالت لهم التهم بالارهاب. وكان قادة «الائتلاف الوطني» يبدون أقسى التشدد ويرفضون لقاء الروس. وبحثوا قبل يومين مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في تشكيل وفد المعارضة إلى الجولة المقبلة من المفاوضات. وارتضت «الهيئة العليا للمفاوضات» أخيراً أن تقتسم التمثيل مع «منصتي» موسكو والقاهرة وإن بشروط! وكانت تركيا تعلي الصوت من خارج الحدود. تتوعد وتهدد وتلوح بدعم فصائل معتدلة وغير معتدلة... فإذا هي اليوم على سكة واحدة مع روسيا. حاضرة في الميدان وتمارس ضغوطاً على الفصائل للانضباط والاصطفاف في خط التسوية الموضوعة على النار. وتستعد لتوسيع تدخلها والانخراط في معركة تحرير الرقة.
إعادة التموضع التي فرضها زلزال حلب لم تقتصر على هؤلاء الأطراف وحدهم. جميع المتصارعين في سورية وعليها يبحثون عن مواقع جديدة. لقد دخلت الأزمة مرحلة البحث عن تسوية. إيران التي كانت ولا تزال تصر على يدها العليا في بلاد الشام وتتباهى بأنها حالت دون سقوط النظام، تتوجس الآن من الصفقة الكبرى المحتملة بين الكرملين والبيت الأبيض. وأقصى ما يمكن أن تراهن عليه هو الحفاظ على ما جنت من مكاسب اقتصادية ثمناً لما قدمت، وبعض الضمانات السياسية والأمنية. قد يصبح جل طموحها وطموح ميليشياتها، إذا رأت الصفقة النور، ضمان أمن طريق دمشق - بيروت لتظل جسر تواصل، وقواعد سيطرة لـ «حزب الله» في مناطق غرب سورية محاذية للحدود مع لبنان، خصوصاً القلمون. وكذلك توفير حضور أو تمثيل في صيغة النظام المقبل خصوصاً في الدائرة المعنية بالعلاقات بين دمشق وبيروت. وهي تدرك أن أمامها فترة سماح قد لا تتجاوز شهرين أو ثلاثة، إلى حين تتضح خطة واشنطن للتعامل معها في كل مناطق انتشارها. وتخشى حتماً أن تتولى تركيا تحجيم دورها في سورية بتفاهم أميركي - روسي، على غرار ما يفعل أهل «عاصفة الحزم» في اليمن بدعم واضح من إدارة ترامب.
الأردن بدوره تحرك سريعاً للتنسيق مع القوات الروسية. وشن طيرانه غارات على مواقع لـ «تنظيم الدولة» في الجبهة الجنوبية. وكانت قيادته أبدت من زمن استعدادها للممساهمة الفاعلة في قتال «داعش»، وحتى تحرير تدمر بعد سقوطها للمرة الأولى بيد التنظيم. وألحت بلا جدوى على الإدارة الأميركية السابقة لمد سلاحها الجوي ببعض التقنيات اللازمة للغارات الليلية. وتبدي اليوم جاهزيتها لتحريك قوات «الجبهة الجنوبية» في «الجيش الحر» (تعدادها يقرب من أربعين ألف عنصر)، للمساهمة في تحرير الرقة، إلى جانب قوات تركية وخليجية عربية ومقاتلين محليين. ذلك أن «تيار الغد» الذي يرأسه أحمد الجربا جهز بالتفاهم مع الأميركيين نحو ثلاثة آلف عنصر. ويمكن مضاعفة هذا العدد من أبناء العشائر العربية في الجزيرة لتشكيل قوات كافية قادرة على الإمساك بالأرض في المدينة ومحيطها بعد هزيمة «داعش». فضلاً عن فصائل مقاتلة رعتها دول أوروبية. فلا الروس راغبون في رؤية تمدد الميليشيات المحيلة التي ترعاها إيران والنظام إلى هذه المدينة. ولا الأميركيون يقبلون بتوسع قوات دمشق إليها. ويؤشر هذا التوجه إلى بداية مشروع تركي - عربي لتطويق التمدد الإيراني، ولقطع الطريق على تهديدات «الحشد الشعبي» العراقي بعبور الحدود للمساهة في قتال «تنظيم الدولة». وقد أوفدت حكومة بن علي يلدريم وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو إلى المملكة العربية السعودية للتنسيق مع الرياض التي كانت مراراً عبرت عن رغبتها في المساهمة في تحرير الرقة. وعرضت هذه الحكومة لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مايك بومبيو خطة لتحرير المدينة من دون الاستعانة بالقوة الكردية التي تعاونت معها إدارة اوباما ومدتها بالمساعدات اللازمة، منذ معركة عين العرب (كوباني) وحتى منبج. هذه التحولات فاقمت إرباك النظام في دمشق وإثارة غضبه وغضب حلفائه، خصوصاً حيال صمت روسيا، قبلة معظم هذه التطورات.
ليس سراً أن موسكو تستعجل طي الصفحة الماضية نهائياً. وتحرص على إدارة المرحلة الجديدة وعنوانها إرساء تسوية بأي ثمن. لا يمكنها بالطبع الاستئثار وحيدة برسم الحل السياسي. هناك لاعبون آخرون، لكنها لا ترغب في شركاء منافسين. وهذا هو لب المشكلة بينها وبين طهران. ولم يعد خافياً أن استعادة «داعش» سيطرته على تدمر بقيت إلى الآن بلا رد. كان يمكن القوات الروسية أن تعتمد، كما حصل في المرة الأولى، على قوات النظام والميليشيات التي ترعاها إيران. لكنها لم تفعل إلى الآن. وكانت رفضت بقاءهم في تدمر يوم حررتها العام الماضي. ينتظر الكرملين تبلور الصورة في واشنطن. ولا يعول كثيراً على نتائج الجولة المقبلة من المفاوضات في جنيف. يعرف سلفاً أن إدارة الرئيس ترامب لا تعول كثيراً على هذه الجولة. بل لا ترغب في انعقادها ما دامت في طور درس سياستها حيال الأزمة السورية. أي أن لا توافق حتى الآن بينها وبين موسكو فلماذا إضاعة الوقت؟ أبعد من ذلك تؤشر مواقف روسيا إلى رغبة في إنهاء هذا المسار التفاوضي ولسان حالها أن تنتهي الجولة الموعودة بإعلان طي صفحة جنيف نهائياً، وكذلك إعلان فشل القوى السياسية المتناحرة في التوافق على حل سياسي. هكذا يتعزز سعيها إلى مشروع بديل طالما سعت إليه. يقوم هذا على إجراء مصالحة بين قيادة القوات النظامية وقادة الفصائل المسلحة التي التزمت وقف النار وحضرت لقاء آستانة. وهي على تواصل مع الأردن وتركيا الممسكين بجيشين كبيرين جنوباً وشاملاً. ولن يكون بمقدور فصائل أخرى الاعتراض، خصوصاً أن الإدارة الأميركية الجديدة عبرت عن عدم ثقتها بأي فصيل سياسي أو عسكري. وقررت وقف تسليحها أو مدها بالمساعدات المادية وغيرها. علماً أن الإدارة السابقة مدّت هذه الفصائل بالكثير من السلاح في الأشهر الأخيرة.
تسترشد موسكو بنموذج مصر حيث تولى العسكر إعادة تصويب الأوضاع. وتدفع باتجاه مماثل في ليبيا حيث بدأ المعنيون في الخارج يميلون إلى سيناريو مشابه، مع فتح أبواب كانت مغلقة أمام الجيش الذي يقوده المشير خليفة حفتر. ويعول الكرملين على التسوية بين المعسكرين، الجيش النظامي والفصائل المسلحة، وعلى قدرة هاتين القوتين على تشكيل جيش جديد يتولى إدارة مرحلة انتقالية تمهد لقيام نظام يرضي جميع المتصارعين المحليين والخارجيين. ويقوم على صيغة تقاسم السلطة بين الرئاسة والبرلمان. ولا يخفى أن مشروع الدستور الذي اقترحته القيادة الروسية، أياً كانت مواقف السوريين منه، طوى عملياً صفحة نظام الرئيس بشار الأسد. لكنه لم يعط في المقابل المعارضة كل ما تريد. إنها وثيقة حاولت أن تأخذ من النظام السابق نصف ما كان له لتمنحه للمعارضة. لن يرسي الكرملين نظاماً ديموقراطياً كاملاً كما تطالب الفصائل وقوى المعارضة. لن يكون «كريماً» مع هذه القوى، هو الذي لا يأبه بالمعارضين في بلاده. ولا شك في أن طي صفحة النظام السابق ورئيسه، وإن استمر بقاء الرئيس إلى حين، يسهل على ترامب خيار التفاهم مع نظيره الروسي بوتين والتنسيق معه في محاربة «داعش» وإجراء التغييرات المطلوبة في سورية. ويحل عقدة التناقض الذي يشوب موقفه. فكيف يمكن الرئيس الأميركي الجديد التوفيق بين تهديده إيران بتقليم نفوذها في المنطقة وتفضيله بقاء أو إعادة تأهيل الأسد، أكبر حلفائها، على وصول الفصائل التي تقاتله!
أما أنقرة التي تبدو هذه الأيام أكثر اندفاعاً، فهي تعول على علاقاتها الممتازة مع موسكو من جهة وعلى إعادة فتح الأبواب بينها وبين واشنطن من جهة ثانية. وستعوض الكثير مما فاتها، إذا سارت الأمور وأثمرت ديبلوماسيتها النشطة هذه الأيام. ستساهم في تقليص نفوذ إيران من جهة، وتحد من طموحات الكرد. وتمكن المعارضة السياسية أو النظام المقبل من التفاوض معهم على آلية علاقتهم بالعاصمة وحدود استقلال إدارة شؤونهم بأنفسهم. كما أن تركيا بمثل هذا الانتشار شمالاً من الباب إلى منبج والرقة لاحقاً ستعزز موقعها في العلاقة أو التفاهم مع روسيا التي لا ترغب في نشر قوات على الأرض بقدر ما تستعجل سحب وحداتها الحالية لتكتفي بالقواعد التي أقامتها وعززتها «قانونياً» منذ تدخلها في ايلول (سبتمبر) 2015. لكن هذا السيناريو الوردي الذي يسعى إليه الرئيسان فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان قد يصاب بانتكاسة. لن ينطلق قطار التسوية إذا أصرت واشنطن بالتفاهم مع أنقرةعلى إقامة مناطق آمنة. مثل هذا التطور سيفرض قيوداً على حركة قوات روسيا ويقلص من نفوذها. فهي تعول على المنصة السورية من دون منازع أو تشويش وتهديد لتوكيد عودتها قطباً دولياً، ولحجز دورها في بناء نظام إقليمي يحفظ لها إنجازاتها ومصالحها في الشرق الأوسط الكبير. فهل ينجح ترامب وأردوغان في تقديم صيغة لمنطقة آمنة لا تثير حفيظة بوتين وتهدد طوحاته ولا تدفعه إلى قلب الطاولة والعودة إلى الخيار الإيراني؟
على الرغم من أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يكاد يوزع اتهاماته وتهديداته على العالم كله، بما فيه الدول الحليفة لواشنطن، إلا أنه يمنح إيران حصة كبيرة من انتقاداته، ويتمحور هجومه عليها فيما يعتبره دعماً إيرانياً "للإرهاب"، وأنها دولة تنشر الدمار والفوضى في الشرق الأوسط. وتبدو هذه الحملة الترامبية مقدمة لمزيد من إجراءاتٍ عقابية ضد إيران، بعد أن جدّد بالفعل عقوبات سابقة كان يفترض أن يتم رفعها بعد الاتفاق النووي.
والتقطت بعض وسائل إعلام غربية الخيط، وراحت تناقش احتمالات وقوع مواجهة مسلحة، وهو ما تجاوب معه سريعاً المسؤولون الإيرانيون، بلهجة تصعيدية مضادّة، لتهيمن لغة التهديد والوعيد على مشهد التفاعلات بين البلدين.
السؤال، هل ترامب جاد فعلاً في ذلك التوجه لمعاقبة إيران، وتكبيدها كلفة سياساتها وتطلعاتها؟ هناك إجابتان: الأولى أخلاقية، تتعلق بمدى استحقاق إيران هذا. والثانية واقعية، تتعلق بقدرة ترامب على تحويل تهديده إلى إجراءات عملية.
من منظور الأخلاقية والجدارة، إذا كانت طهران جديرة بالمواجهة والحصار والعقاب، لأنها ترعى الإرهاب وتثير الفوضى والاضطراب الإقليمي، فهناك دول أخرى في المنطقة وخارجها، لا تقل عنها جدارةً في ذلك، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية نفسها. لذا، ليس شعار ترامب الذي يرفعه مسوّغاً للهجوم على إيران مقنعاً حتى لحلفاء واشنطن الغربيين أنفسهم. ليس معنى ذلك أن إيران دولة مثالية، أو تلتزم دائماً القيم والمبادئ الأخلاقية في سياساتها، لكنه يعني أن هذا البعد القيمي والأخلاقي لم يكن يوماً معيار توجيه بوصلة العلاقات بين الدول.
من ثم، ترتبط جدية ترامب في استهداف إيران مباشرة بقدرته، وليس برغبته في حشد قوة لمواجهتها. والمعروف للكافة، أن واشنطن في حالة انحدار منذ عدة سنوات، والاقتصاد الأميركي يعاني اختلالات هيكلية، كادت تعصف في عام 2008 ، ولا يزال يعاني من تبعاتها. كما أن الجيش الأميركي ليس في أحسن حالاته، نتيجة الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا والأسلحة ذات التقنيات الحديثة، على حساب العنصر البشري والكفاءة القتالية للفرد، فضلاً عن النواقص الأخلاقية والمشكلات النفسية والسلوكية التي تضرب المجتمع الأميركي، ووصلت تداعياتها إلى صفوف الجيش هناك.
وأخيراً، أعلنت واشنطن، قبل سنوات قليلة، أن مكامن التهديد الاستراتيجي لها تقبع هناك في أقصى الشرق الآسيوي، أي الصين بقدراتها وسياساتها. وبالفعل، رفعت واشنطن أيديها عن الشرق الأوسط، واكتفت بالتنسيق مع موسكو لتأمين إسرائيل. فيما هي غير معنية جدياً بالصراع العربي الإيراني الذي يمتد من سورية شمالاً إلى اليمن جنوباً. ولما كان ترامب قد أعلن، غير مرة، رغبته في تخفيف المسؤوليات العسكرية والمالية تجاه حلفاء واشنطن، بما في ذلك حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإنه عندما يفكر في التعامل مع إيران بالقوة، سواء الاقتصادية أو العسكرية، لن يسهم في تلك المواجهة، لا بالأموال ولا بالجنود.
ولمّا كانت معظم الدول العربية هي المتضرّرة فعلياً من السياسات الإيرانية، وليست واشنطن، أو حتى إسرائيل، فمن الطبيعي أن ترامب سيتجه إلى تلك الدول لتضطلع بمهمة التعامل مع طهران، كل حسب قدرتها وإمكاناتها. تقدّم دول الخليج التمويل والغطاء الاقتصادي المباشر نقدا، وغير المباشر بسياسات تسعير النفط، ودول أخرى تقدم جيوشها لتحارب، أو إعلامها ليسوّق، أو قوّتها الناعمة لتبرّر المواجهة المطلوبة أمام شعوب المنطقة.
فليذهب ترامب إلى الحرب، إن كان صادقاً، أما الدول العربية، فحاجتها ماسّة بالفعل، لكن ليس لمزيدٍ من المواجهات والحروب، وإنما إلى استراتيجية شاملة وفعالة لموازنة طموح إيران وتطويق نفوذها الذي تحقق تحت سمع واشنطن وبصرها ورضاها، من دون الوقوع مجدّداً في شرك الخداع الأميركي والتورّط في حربٍ لا تتحملها المنطقة. لن يستفيد منها سوى واشنطن وتل أبيب.
واضح أن التصعيد هو اللغة السائدة على لسان الرئيس الأميركي في وجه طهران. لكن هذه اللغة هي حتى الآن مجرد كلام وليست قرارات صالحة للتنفيذ بهدف وضع حد للتوغل الإيراني في شؤون دول المنطقة العربية. وإذا كان من حق العرب أن يطربوا لتذكير ترامب الإيرانيين بأنه لن يكون «طيباً» معهم مثلما كان باراك أوباما، في إيحاء إلى أنه سيكون أكثر شطارة وحذقاً، فإن العبرة تبقى في ما سيفعل ترامب بـ «شطارته» هذه مع إيران، وكيف السبيل لإيقافها عند حدّها ولمواجهة دورها الإقليمي.
ذلك أن ترامب سيكتشف، كما اكتشف أوباما من قبله، أن ايران طرف مباشر على الساحة في المواقع التي يعتبر الرئيس الأميركي، كما توحي تصريحاته، أنها تمثل أولوية في سياسته، وهي التي تتصل بالمواجهة مع تنظيم «داعش» للقضاء عليه. ففي الحرب على هذا التنظيم في كل من العراق أو سورية، فرضت الميليشيات والقوى الحليفة لطهران نفسها على الأرض وكأنها «حليفة» تحارب في الخندق نفسه إلى جانب القوات الأميركية أو تلك التي تحميها الولايات المتحدة، بعد أن شكلت الممارسات الطائفية لميليشيات إيران وقوداً ساهم في الأساس في إنتاج «داعش».
فوق ذلك فإن إدارة ترامب الساعية إلى التقارب مع موسكو سوف تجد العاصمة الروسية في ظل فلاديمير بوتين متقاربة مع طهران في فهم مشترك لمواجهة الإرهاب، الذي يراه بوتين مقبلاً من تنظيمات متطرفة سنّية، ويستثني من ذلك الميليشيات التي تديرها إيران، كما يستثني ارتكابات قوات نظام بشار الأسد (مع طبيعتها المذهبية الفاقعة) بحق الشعب السوري، حتى أن وزارة الخارجية الروسية وصفت التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية عن الإعدامات في سجن صيدنايا بأنه «استفزاز مقصود» يهدف إلى صب الزيت على النار في سورية. والتنسيق في العمليات العسكرية بين إيران وروسيا واضح من خلال استخدام الطائرات الروسية المجال الجوي الإيراني في طلعاتها ضد مواقع «داعش».
يضاف إلى ذلك أن لغة التصعيد «الترامبية» ضد طهران لها مردود عكسي في الداخل الإيراني، إذ إن من شأنها أن تدعم صفوف المتشددين داخل هذا النظام وتمنحهم الذريعة لقطع كل فرص الحوار مع خصوم الداخل أو أعداء الخارج. إنها تمنح الداعين إلى الانفتاح على الغرب حجة للقول إن ترامب هو «الوجه الحقيقي» لأميركا، وهو بالضبط ما أشار إليه المرشد علي خامنئي، الذي شكر ترامب على كشف هذا الوجه.
صحيح أن ما يسمى «الاعتدال» الإيراني لم ينجب شيئاً على صعيد تخفيف حدة انزلاق طهران إلى المغامرات الإقليمية، لكنه بقي ورقة صالحة للرهان عليها، طالما أن المواجهة المباشرة على ضفتي مياه الخليج هي مغامرة ذات عواقب خطيرة ومدمرة بالنسبة إلى كل الأطراف. هكذا وجدنا بعد التصعيد الأخير وجوهاً بارزة «معارضة» في إيران، احتشدت في الذكرى الثامنة والثلاثين للثورة الخمينية للتنديد بمواقف واشنطن، ومن هؤلاء مثلاً الرئيس الأسبق محمد خاتمي، الذي دعا إلى مواجهة أي تهديد يستهدف النظام أو المصالح الوطنية الإيرانية. أما الرئيس الحالي حسن روحاني فقد رد مباشرة على ترامب بالقول إن من يستخدم لغة التهديد مع إيران «سيندم على ذلك».
لن يكون سهلاً على ترامب إعادة ترتيب العلاقة الأميركية مع طهران على أسس المواجهة كما يهدد. الاتفاق النووي لا يسمح بذلك طالما أن ايران تجد من مصلحتها الالتزام بحدوده الدنيا، كما انه اتفاق يحظى بغطاء واسع، دولي على مستوى مجلس الأمن، وأوروبي من خلال الحرص الفرنسي والألماني وحتى البريطاني على الحفاظ عليه. حتى إدارة ترامب نفسها ملتزمة التنفيذ الكامل لهذا الاتفاق، كما نقلت عنها فيديريكا موغيريني، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي.
ما يمكن أن تفعل إدارة ترامب في الملف الإيراني هو تصحيح الخطأ الذي ارتكبته إدارة باراك أوباما حين لم تعمل على توظيف الاتفاق النووي لمصلحة الإقليم، بحيث تجري مقايضة استمرار الالتزام بهذا الاتفاق بوقف المغامرات الإيرانية والتدخُّلات في شؤون دول المنطقة، من سورية إلى العراق إلى لبنان، وصولاً إلى البحرين ودول الخليج.
تقرير منظمة العفو الدولية الذي وثّق 13 ألف حالة إعدام في سجن صيدنايا، خلال السنوات الخمس الماضية وحدها، مع ما رافق ذلك من أعمال التعذيب والتنكيل وكل أشكال الحط بالكرامة الإنسانية، أثار رد فعل واسعا في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية الدولية. وبعد أن وصفت المنظمة السجن بالمسلخ البشري، ونقلت صورا من الهمجية غير المسبوقة فيه عن تدمير المعتقلين نفسيا وجسديا، قال وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، إن تقارير "العفو الدولية" عن الإعدام في سورية أصابته بالغثيان. وصرح وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك إيرو، بأن هذه الوحشية لا يمكن أن تكون مستقبل سورية. وصرّح السفير الأميركي السابق لشؤون جرائم الحرب، ستيفن راب، في مقابلة مع "سي إن إن" بأن هذه الإعدامات ليست سوى جزء من قائمة تضم أكثر من 50 ألف سوري عذبوا وقتلوا على يد حكومتهم بتوجيهاتٍ من أعلى المستويات، وهي جرائم ترتكب بإشراف المؤسسة العسكرية السورية، ومؤسسات أخرى، تحت إمرة الرئيس السوري، "والأدلة التي بحوزتنا ضخمة يمكنها أن تقود إلى محاكمة واضحة وصريحة على المستوى الدولي". أما رئيس لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، باولو بينيرو، فقد صرح لـ"رويترز" "لدينا معلومات مستفيضة بشأن التفاصيل الممنهجة للمراسم المنتظمة التي يقيمونها لعمليات الإعدام الجماعي أمام حضور من المسؤولين الحكوميين".
والواقع أن هذه الإعدامات الجماعية ليست إلا فصلا من كتاب الموت الذي أصبحت صناعته البرنامج الوحيد لنظام الأسد منذ عقود، والذي رفض العالم من قبل قراءته أو حتى تصفحه، مفضلا إمعان النظر في كرافات بشار الأسد وثياب زوجته المختارة من أكبر بيوت الأزياء العالمية، بل إن الإعدامات في هذا الفصل أقلّ وحشيةً، على الرغم من هولها مما يسبقها والطريق الذي يوصل إليها، حتى أن المتظاهرين كانوا يقولون لنا إن ما يخشونه ليس الموت برصاص الجنود، وإنما الاعتقال من قوات الأمن".
لا يمكن لهذه الإعدامات المشينة إلا ان تذكّرنا، وينبغي أن تذكّرنا، بفصول الكتاب الأخرى التي لا تقل شناعةً عنها، وفي مقدمها استخدام حصار التجويع "واحداً من تكتيكات الحرب، وذلك لإجبار أهالي المدن والبلدات على الاستسلام بعد تجويعهم"، كما جاء في تصريح سابق لباولو بينييرو نفسه، والذي يتسبّب في إبادة مدن وأحياء كاملة وموت جزء من سكانها وتشريد من بقي حيا منهم، أو عن القتل الجماعي بالقصف الأعمى بجميع الأسلحة الثقيلة، وبالبراميل المتفجرة التي تتساقط على المدن السورية يوميا منذ ست سنوات، لا على التعيين، أو الهجومات بالأسلحة الكيميائية والقنابل الحارقة والغازات السامة، أو عن اصطياد الشباب من الطرقات وإجبارهم على القتال كدروع بشرية، حتى لم يعد يرى المرء في شوارع المدن السورية سوى النساء والشيوخ والاطفال، إلى جانب مرتزقة الحشود الطائفية الأجنبية.
أمام هذا الكم الهائل من الانتهاكات التي حوّلت المجزرة البشرية إلى حدثٍ يومي عادي، تركّزت الأسئلة، عن حق، على سكوت المجتمع الدولي وشلله، على الرغم مما تقدمه منظماته الإنسانية نفسها من براهين دامغة على كارثةٍ، لا يبدو أن دولاً كبرى كثيرة تشعر بالقدرة على مواجهتها أو بالمسؤولية عن إيقافها. والحقيقة أن موقف الحكومة الروسية شكل عاملا حاسما في تعطيل قرارات الأمم المتحدة، أو تفريغها من محتواها، لأسباب جيوسياسية واستراتيجية، لم يعد أحد يجهلها، وهي وضع المصالح الكبرى للدولة الروسية، وتحسين موقعها على خريطة النفوذ الدولي، وتأكيد حقها في أن تكون طرفا مرهوب الجانب، ومسموع الكلمة من أندادها من الدول الكبرى، وأن تحترم مصالحها، حتى التوسعية منها. لكن، ما كان لهذا الموقف الروسي أن يتجلى بهذه الصورة، ولا أن يستمر في تحديه جميع المواثيق والأعراف الدولية والاعتبارات الإنسانية، لو لم يصادف في مواجهته سقوطا أخلاقيا عالميا شاملا نابعا من التخلي عن قيم التضامن الإنسانية، والتواطؤ المشترك، وغير المعلن، ضد القانون والعرف الدوليين، والانكفاء على الذات، والقبول بدفع أي ثمن، بما في ذلك السير على جثث الشعوب والجماعات، ودوس روادع الدين والثقافة والبداهة العقلية، للحفاظ على مصالح خاصة قومية أو فئوية، تبدو مهدّدة أكثر فأكثر. وربما كان هذا من مظاهر الأزمة التي تمر بها المنظومة الدولية، وفي صلبها مأزق الهيمنة الدولية والرأسمالية المعولمة وتخبط سياساتها. كل الدول تشعر في هذه الأزمة بالهشاشة، ومخاطر الخسارة والتراجع، وربما فقدان السيطرة، بما في ذلك الدولة الأعظم، وكل طرفٍ يحاول أن ينقذ نفسه بأي ثمن. العالم كله، وقد تحوّل إلى جسم واحد، هو اليوم في مأزق إعادة ترتيب شؤونه وضبط علاقاته وفتح نوافذ أمل صغيرة، لطمأنة مجتمعاته.
لكن السؤال الأهم والأصعب يتعلق بنا نحن. كيف أمكن لنظام حكمٍ، أقام شرعيته على رفع شعارات الدفاع عن حقوق الشعب، وتبنى أيديولوجيات شعبوية اشتراكية وإنسانية ضد الرأسمالية والاستغلال والإقطاعية، وبرّر انقلابه على الدستور، وتخليد ديكتاتورية أبوية بالدفاع عن حقوق سورية القومية ومقاومة التوسعية الإسرائيلية، وجعل من موضوع السيادة الوطنية مسألة هوية، أن ينزلق إلى ما انزلق إليه، ويتحوّل إلى آلة قتل منهجي ومنظم لشعبه، ويحول سورية بأكملها إلى مسلخٍ تسيل فيه الدماء في كل زاويةٍ وبيت، ويفقد فيه الإنسان روحه وعقله وإنسانيته كل يوم ألف مرة. كيف فقد النظام عقله، أو هل كان يتمتع بالفعل بحدٍّ أدنى من العقلانية والعقل، أعني هنا من السياسة، أم كان منذ بدايته نظام حرب؟
سجن صيدنايا والسجون السورية جميعا ليست وحدها المسالخ البشرية في سورية. والسلخ فيها لا يقتصر على سنوات الثورة الست، فكل دائرة عسكرية أو أمنية، وكل فرقة وكتيبة أو فرع أمن، وكل مدرسة ومصنع، وكل حي أو شارع، هو مركز لسلخ الإنسان عن ذاته وكرامته وحريته وأهله وحقوقه، عن قيمه، ومحطة لتحطيمه وإعطابه، روحيا وجسديا، بكل وسيلةٍ ممكنة، وفي كل وقت. سلخه عن جلده بالمعنى الحرفي للكلمة هو التجسيد النهائي لعملية نزع الإنسانية التي أقام عليها نظام الأسد حكمه، منذ أكثر من أربعة عقود، والتي أراد من خلالها أن يحول الانسان إلى حيوان، بالمعنى البيولوجي للكلمة، ويفرغ سورية من شعب/ها، أي من ذاتها، كما يفعل تماما الآن بالعنف الشامل، حتى تكون ملكا خالصا له، بدولتها وأرضها ومن عليها. لم ير النظام في السوريين في أي لحظةٍ شيئا آخر، بشرا يجدر التعامل معهم، وإنما زوائد وحثالات وقوارض، ينبغي التخلص منهم، أو تحييدهم بأي ثمن، وفي أحسن الحالات، تكبيلهم بالقيود والأصفاد، لاستخدامهم في أعمال السخرة والخدمة المجانية.
مهم أن نسأل لماذا تخلى العالم عنا، لكن مهم، بالمقدار ذاته، أن نعرف أيضا كيف تحول "نظام حكم" إلى جزّار، وحول البلاد إلى مسالخ مفتوحة في كل مكان؟ ما هو أصل الهولوكوست الأسدي؟ كيف أصبحت الإبادة سياسةً، وصار نزع الإنسانية عقيدة ومذهبا. هذا هو السؤال الذي سأحاول الإجابة عنه في مقال لاحق.
يوزّع بشار الأسد سورية على شكل حصص لروسيا وإيران، وحتى على المليشيات الحليفة، كل الأصول الإستراتيجية والاقتصادية، من غاز ونفط وفوسفات وشركات خليوي وعقارات، ومن موانئ وقمم جبال ومواقع إستراتيجية وأراض زراعية، صارت موزّعة باتفاقيات وعقود بيع وتأجير رسمية.
وإن استقرت الأمور على هذه الشاكلة، فهذا يعني أن السوريين، موالاة ومعارضة، لن يكونوا أكثر من عمال مياومين في المصالح والاستثمارات الإيرانية والروسية، وربما يتحوّل المحظوظون منهم إلى موظفين أمنيين (سيكورتي) وحراس لتلك المنشآت، مع ملاحظة أن بعض تلك الاتفاقيات اشترطت عدم اقتراب السوريين من المواقع والمنشآت التي تديرها روسيا، بعيداً عن شكل انتماءاتهم السياسية.
بالطبع، يدرك نظام الأسد هذا الأمر جيداً، لكنه يستثمره باتجاه آخر، حيث يُعتقد أنه كلما ورّط إيران وروسيا بمشاريع لهم في سورية ضمن استمرار بقائهم في الجغرافيا السورية، وضمن أيضاً دوام حمايتهم له من أي مطالبةٍ دوليةٍ محتملة، بإحالته إلى المحاكم الدولية، نتيجة أعمال الإبادة الوحشية، والتي لن تستطيع أي دولة ونظام، عدا إيران وروسيا، وربما بعض الأنظمة القمعية، إعادة تأهيله والتعاطي معه بسبب تلك الجرائم.
يندرج كل سلوك نظام الأسد وتصرفاته وأفعاله تحت خانة الهروب من اللحظة التي يصحو فيها العالم من صدمة الحرب، ويحصي نتائجها المهولة، مئات آلاف القتلى والمخفيين، وملايين الجرحى والمعوقين والمضطربين نفسياً. ولا شك أنه لحظة توقّف صوت المدافع، لن يكون هناك سوى صوت المنظمات الدولية التي ستكشف عن آلاف المجازر والمقابر الجماعية، وتستقصي خرائط المذبحة التي يخفي نظام الأسد الجزء الكبير منها.
تشكل عملية توزيع سورية حصصا بين إيران وروسيا أحد بدائل الأسد للنجاة من مصير المحاكم الدولية، غير أن ثمة بديلا آخر، طالما سعى إلى اللعب عليه، وهو استمرار الحرب أطول فترة زمنية ممكنة. وعلى الرغم من أهمية هدف إخضاع الخصوم نهائياً، يراهن الأسد على هذا الخيار (دوام الحرب) باعتباره مخرجاً له من المصائر المحتومة. وبرأيه أن تحقيق هذا الامر ممكن، فالحرب استمرت في كولومبيا أكثر من ثلاثين عاماً، وصراع تركيا مع حزب العمال الكردستاني دام عقوداً، وفي الحالتين لم تتوقف عجلة الحياة في البلدين، كما استمتع رؤساء البلدين بعلاقات دولية جيدة وحياة شخصية لائقة.
مع استمرار الحرب أيضاً، وبذريعة استعادة كامل سورية، ربما لإعادة حصحصتها من جديد، سيضمن الأسد سكوت أنصاره وولاءهم، فهذه الفئة، بلا شك، أصيبت بجراح منهكة وقاتلة طوال سنوات الحرب، لكن سخونة الدماء منعتها من السقوط، ويخاف نظام الأسد أن يؤدي توقّف الحرب إلى برود جرحها واكتشافها كم هو عميق وقاتل.
لا أحد سمع من بشار الأسد قوله إنه انتصر في الحرب، على العكس، وفي كل تصريحاته، ما زال يتحدث بنبرةٍ تشي وكأن الحدث ما زال في أوله، بعكس حلفائه من الإيرانيين، وبخلاف حتى مؤيديه الذين احتفلوا بسقوط حلب، ولا يعكس هذا الأمر تواضعاً لم يتصف به، ولا واقعيةً ليست معهودة في الشخص الذي وصفه كل من التقاه في الأعوام السابقة بالمفصول عن الواقع، والهاذي بترّهات أغرب من الخيال.
الأدهى من ذلك كله أن الأسد لا يهادن، ولا يتعامل بأسلوب تهدئة الجبهات وتقليل الأعداء، فعلى الرغم من هجوع حدة الانتقادات الإقليمية والدولية ضد سياساته، إلا أنه لا ينفك يهاجم أوروبا وقيمها ومواقفها (تصريحاته للإعلام البلجيكي)، ولا يتعب من التطاول على تركيا ودول الخليج، وكأنه يرفض مناخات الهدوء، ويعتبرها خطراً حقيقياً عليه. لذا، يفضل دائماً ضخ مزيد من التوتر في شرايين الأزمة لتحافظ على منسوب اشتعالها.
لكن، إلى متى يستطيع بشار الأسد الاعتماد على هذه اللعبة في إدامة حكمه وإفلاته من المساءلة عن حرب الإبادة ضد السوريين؟ في الواقع، في الوقت الذي يعتقد فيه الأسد أنه يؤسس منظومة حماية كامله تقيه شر الأيام المقبلة، فإنه، ومن دون أن يدري، يقوم بتخصيب بذرة فنائه بيده، ذلك أن روسيا وإيران لن تتمكّنا من الاستفادة من مشاريعهما السورية، في ظل استمرار الأسد، وإنهما سيكونان مضطرين من أجل اعتراف الآخرين بمصالحهما واستثماراتهما في سورية إلى استبدال الأسد وإزاحته من المشهد، صحيح أنهم لن يأتوا بأحد الثائرين عليه مكانه، لكن بالنسبة للأسد كل بديل عنه هو عدو حقيقي، حتى لو كان شقيقه ماهر الأسد، وصراع والده حافظ الأسد وعمه رفعت على السلطة خير دليل على هذه الحقيقة.
من جهة أخرى، كان على بشار الأسد أن يدرك أن مفاعيل توزيع سورية آنية، ونوع من سداد الحساب بالنسبة لإيران وروسيا، وليست استثمارات مستقبلية وأبدية، تلك لها حساباتها المختلفة، وطالما أن المفاوضات قد بدأت وصار هو نفسه موضوعاً للتفاوض، فإنها إن لم تبدأ به ستنتهي به حتماً، بوصفه من عناوين الأزمة التي سيجري تفكيكها. ولن يطول الأمر كثيراً في ظل الزخم والحماسة الروسية، للوصول إلى تسوياتٍ غايتها الأساسية الاعتراف بالدور الروسي العالمي، وما عدا ذلك هامشيٌّ وقابل للتفاوض.
كان تقارب روسيا وتركيا، أخيرا، في سورية ضرورة استراتيجية لكلا الطرفين، بعدما اكتشفا، خلال فترة القطيعة السياسية التي استمرت ثمانية أشهر عقب إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، أنهما بحاجة إلى بعضهما، وأنه من دون تفاهم مشترك لن تستطيعا تحقيق أهدافهما في سورية.
تعرّضت أنقرة، في العامين الماضيين خصوصا، إلى تصدّع جيوسياسي، نتيجة انهيار ميزان القوى المحيط بها في سورية، بفعل الانكفاء الأميركي والهجوم الروسي. وترتب على ذلك ليس تراجع حضورها في الملف السوري فحسب، بل أصبح هذا الملف بعد تضخم الحالة الكردية السورية عبئا كبيرا يثقل الحكومة التركية، ويهدد أراضيها في الداخل. في المقابل، توصلت موسكو إلى قناعةٍ خلال فترة القطيعة نفسها، وهي في عز صولاتها وجولاتها العسكرية في سورية، إلى أنه من دون تفاهم مع أنقرة، فإن الجهود الروسية قد لا تتحقق، أو تحتاج على الأقل إلى فترات زمنية طويلة، لن تكون في مصلحة الكرملين.
كشفت القطيعة السياسية هذه حاجة الدولتين بعضهما إلى بعض، في ظل توتر شديد يجمعهما تجاه الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة. ومن هنا، بدأ التلاقي بين البلدين في يونيو/ حزيران الماضي، إلى أن توّج في لقاء سان بطرسبورغ بين الرئيسين، فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، في أغسطس/ آب. ولم يكن ذلك اللقاء عنوانا لعودة العلاقات السياسية فقط، بل كان بمثابة القمة الملحة التي أسست لتفاهماتٍ استراتيجية بينهما في سورية، عبرت عن نفسها أولا بدخول تركيا إلى الشمال السوري، في الرابع والعشرين من الشهر نفسه، تحت عنوان عملية "درع الفرات"، بعدما منعت أنقرة، طوال الأزمة السورية، من الدخول إلى الشمال السوري، وثانيا مع ابتعاد تركيا عن ملف حلب، وثالثا مع "إعلان موسكو" حول الهدنة العسكرية، ورابعا اجتماع أستانة.
تطلب ذلك نزول الطرفين من على شجرتهما العالية: وافقت تركيا على خفض سقف خطابها السياسي تجاه الأسد، ووافقت على هدنةٍ عسكرية، ثم وافقت على مشروع عزل جبهة فتح الشام، وغيرها من الفصائل المدرجة تحت لائحة الإرهاب، ووافقت، أخيرا، على إدخال فرقاء سياسيين جدد في وفد المعارضة للمفاوضات.
في المقابل، وافقت موسكو على الاعتراف بفصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية المدعومة من دول إقليمية، لا سيما "أحرار الشام" و "جيش الإسلام" اللذين كانا في قائمة اللوحة السوداء لروسيا، كما أكدت موسكو أن حل الأزمة السورية لا يكون إلا عبر المسار السياسي والمرجعيات التي تم التوافق عليها دوليا، ووافقت موسكو ضمنيا على ضرورة التخفيف من حدة الدور الإيراني في سورية.
شكل وقف إطلاق النار واجتماع أستانة ذروة التعاون الروسي ـ التركي. لكن، سرعان ما طفت الخلافات بين الجانبين سريعا مع الانتقال من المستوى العسكري إلى المستوى السياسي.
وقد حاول الروس، مستفيدين من الاندفاعة التركية، إضعاف المعارضة السياسية، عبر إدخال قوى أخرى، هي أقرب إلى النظام منه إلى المعارضة، في خطوةٍ تهدف إلى كسر احتكار الهيئة العليا للمفاوضات المرجعية السياسية للمفاوضات. لكن أنقرة وجدت أن المضي في المسار الروسي سيضعف حضورها السياسي في الملف السوري بشكل عام، على الرغم من حصولها على مكاسب عسكرية ذات أهمية كبيرة في حماية أمنها القومي.
هنا بدأ التباين الروسي ـ التركي، خصوصا في ما يتعلق بتوسيع وفد المفاوضات التابع للهيئة العليا للمعارضة، وأدركت تركيا أن الروس يحاولون ضعضعة الهيئة العليا للمفاوضات، عبر تقوية الفريق العسكري على حساب الفريق السياسي، أي بعبارة أخرى منح فريق أستانة العسكري قوةً تُجاري فريق الرياض، وربما تفوقه أولا، وعبر إدخال منصاتٍ سياسيةٍ أخرى ثانيا.
ومن هنا، كانت اجتماعات الهيئة العليا للمفاوضات مع الائتلاف الوطني من جهة، واجتماع الرياض من جهة أخرى، محاولة تركية ـ سعودية للتخفيف من الاندفاعة الروسية، وتلطيف مطالبها من دون المواجهة معها، أو رفض كل مطالبها. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتعداه إلى مسألة المرجعية السياسية للمفاوضات، وإذا كانت تركيا قد وافقت على إعلان أستانة الذي استبعد بيان جنيف كاملا، فإنها تحاول عرقلته بطرقٍ غير مباشرة، تاركة هذا الملف للمعارضة والرياض.
ومما ينبئ بارتفاع حدة التباينات بين الجانبين، وصول الرئيس دونالد ترامب إلى سدة البيت الأبيض في الولايات المتحدة، ومحاولته الانفتاح على تركيا، بعد جمود سياسي استحكم العلاقات التركية ـ الأميركية خلال السنوات الأخيرة من حكم باراك أوباما، وبدأ التغير الأميركي ملحوظا تجاه تركيا مع ارتفاع مستوى الدعم الجوي للتحالف الدولي عملية "درع الفرات" في مدينة الباب في الأيام الماضية. ثم جاء التنسيق بين الجانبين لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة دليلا على أهمية تركيا بالنسبة للولايات المتحدة، ليس فقط في محاربة الإرهاب، وإنما أيضا في عموم المشهد العسكري في الشمال السوري، وخصوصا فيما يتعلق بالمنطقة الآمنة التي طالما دعت إليها تركيا خلال السنوات الماضية.
قد تشكل المنطقة الآمنة بداية الافتراق الروسي ـ التركي، حيث ترفض موسكو إقامة مناطق آمنة، قبيل اكتمال المشهد العسكري في عموم سورية، وهو المشهد الذي عملت بجد على رسمه وتحديده، ولا تقبل أن تتشكل هذه المناطق في الشمال السوري، خصوصا من البوابة التركية. وقد جاء الرد من موسكو سريعا على إعلان تركيا موافقتها تحويل منطقة "درع الفرات" إلى منطقةٍ آمنة، حين أعلن مدير القسم الأوروبي الرابع في وزارة الخارجية الروسية "أن موسكو ترى أنه من غير الصحيح اعتبار أنه لا توجد لدى تركيا أهدافها الخاصة في سورية إلى جانب محاربة داعش".
المشكلة التي تواجه صناع القرار في أنقرة أن السياسة الأميركية تجاه سورية لا تزال غامضة، ولن تخاطر تركيا برمي الثمار التي حققتها من البوابة الروسية سريعا، لكنها في المقابل لن تتخلى عن إقامة المنطقة الآمنة، لأسباب كثيرة بعضها مرتبط بالشأن التركي الداخلي، وبعضها مرتبط بالشأن السوري. وستحاول تركيا تحقيق أهدافها باستخدام سياسة ناعمة ومرنة، تقرّبها من واشنطن، ولا تبعدها عن موسكو في الوقت نفسه، وهي سياسة صعبة في ظل العودة الأميركية إلى الواقع السوري، وما هو واضح إلى الآن أن التعاون التركي الروسي بلغ ذروته، وستكشف المرحلة المقبلة مدى صلابة هذا التعاون، والحدود التي قد يصل إليها.
عودة إيران امس الى مربع شعار "الموت لأميركا" الذي اعتبرته وكالة أنباء فارس ردا على تهديد أميركا لإيران بـ"الهجوم العسكري" يمثل أول معالم الطريق الذي ستسلكه الاحداث في المنطقة، بعدما كانت شعارات الترحيب بـ"الأنكل سام" شقت طريقها الى طهران إثر التوصل الى الاتفاق النووي مع واشنطن أيام الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما. حتى ان الرئيس الايراني حسن روحاني المصنّف ضمن فريق الاصلاحيين في بلاده كان صاحب الصوت المرتفع في الاحتفالات بالذكرى الثامنة والثلاثين للجمهورية الاسلامية التي أسسها الامام الخميني. فقد توعّد روحاني الولايات المتحدة بأن الايرانيين سيجعلون واشنطن "تندم" على استخدام لغة التهديد ضد إيران.
لا جدال في ان المنطقة تسير نحو التشدد الذي هو اليوم على المستوى السياسي منذرا بتحوله عسكريا. واللافت أن النظام الايراني هو الوحيد الان على المستوى الاقليمي والدولي الذي اعتمد لغة التشدد ضد واشنطن دون سائر الانظمة التي نالها ما يكفي من هجوم إدارة الرئيس الاميركي الجديد دونالد ترامب وفي طليعتها الصين وفي آخرها كوريا الشمالية. حتى ان رئيس النظام السوري بشار الاسد لم يشر الى ما يواجهه حليفه الايراني من تحديات، بل اعتبر في مقابلة مع موقع "ياهو نيوز" الالكتروني أن "التعاون في أي صراع حول العالم يحتاج الى تقارب بين الروس والاميركيين، وهذا جوهري جدا ليس فقط بالنسبة الى سوريا". لكن مجلة "الايكونوميست" البريطانية ترسم صورة قاتمة لسعي إدارة ترامب الى البحث عن "مقايضة كبرى" مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تتضمن، في ما تتضمن، موافقة موسكو على عدم التعاون مع طهران. لكن المجلة تشكك في تجاوب بوتين مع هذا الطلب.
الثابت وسط هذه التحولات هو أن المنطقة تمر بما وصفه وزير خارجية إيران بـ"الايام الصعبة". وفي رأي أوساط مثقفين شيعة في لبنان أن أتباع هذا المذهب الواقع ضمن "الهلال" الممتد من بحر قزوين حتى شواطئ المتوسط، سواء أكانوا على توافق مع النظام الايراني أم لا، هم في دائرة دفع الاثمان بالتكافل والتضامن مع المرشد الايراني. وفي اللقاء الذي عقدته مجموعة من النخب الشيعية، كانت هناك مداخلات عدة تحذّر من نتائج اللطخة التي ألحقها النظام الايراني بشيعة لبنان من خلال زج "حزب الله" في حمّام الدم السوري، وهو أمر يستحق تأسيس تحرّك شيعي لبناني ضده من أجل حماية المستقبل الشيعي في المنطقة.
ماذا لو اتجهت الاحداث نحو صراع يؤدي الى هزيمة النظام الايراني؟ في ظل هذه الفرضية تعتبر هذه الاوساط ان تغييرا كبيرا سيطرأ على المشهد في الشرق الاوسط. ولن يكون في تداعيات هذا التغيير مكاسب فورية لخصوم هذا النظام من الشيعة الذين يصنفون بالجملة أتباع المرشد ما دام صوته هو الاعلى. وهنا تقع مسؤولية على مرجعية النجف وعلى غيرها من المرجعيات قبل أن يحلّ الطوفان.
لا يريد المرء دليلاً على إجرام الديكتاتوريات العربية ووحشيتها أكثر من مطالعة أخبار سجونها ومعتقلاتها التي تحولت إلى "مسالخ" بشرية، تفوح منها رائحة الكراهية والموت والانتقام. وهو أمر ليس جديداً على أنظمة قائمة، ومستمرة فقط، بفضل آلة القمع والقتل الذي تمارسه بحق معارضيها. وعلى الرغم من الحقائق المفزعة التي أوردها تقرير حديث أصدرته منظمة العفو الدولية عن ضحايا سجن واحد فقط في سورية، هو سجن صيدنايا العسكري الذي يبعد عن العاصمة دمشق 30 كيلو متراً شمالاً، إلا أنها ليست مستغربةً على نظام قصف المدنيين في مدينة حماة بالمدفعية في فبراير/ شباط 1982 أكثر من ثلاثة أسابيع. فحسب تقرير المنظمة، فإن ما يقرب من 13 ألف شخص تم قتلهم شنقاً منذ انطلاق الثورة السورية قبل ست سنوات، حتى نهاية 2015. وهو أمر ليس غريباً علي نظامٍ قتل حتى الآن ما يقرب من نصف مليون شخص، وهجّر الملايين خارج ديارهم وقراهم.
حوالى نصف قرن من القتل والتعذيب مارسهما النظام الأسدي، سواء تحت حكم حافظ الأسد منذ بداية السبعينيات، أو تحت حكم الإبن بشار الذي استكمل مسلسل الجرائم الكئيب طوال العقدين الماضيين، وهي جرائم يرقى جميعها إلى إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية. وهي تتفوق بمراحل على مذابح ومجازر أنظمة ديكتاتورية أخرى، في المنطقة وخارجها، ليس فقط من حيث عدد الضحايا، وإنما أيضاً من حيث طرائق القتل والتعذيب وأساليبهما. فحسب تقرير "العفو الدولية"، فإن معظم حالات القتل التي جرت في صيدنايا كانت من خلال الشنق وتكسير عظام الرقبة للمعتقلين، حيث يشير التقرير، حسب تغطية "العربي الجديد"، إلى أنه كان يتم اقتياد السجناء من زنزاناتهم، وإخضاعهم لمحاكمات عشوائية، وتعذيبهم ثم "شنقهم في منتصف الليل وفي سرّية تامة"، وإلقاء جثثههم في أماكن لا يعرفها أحد. ويورد التقرير الذي استند إلى شهادات عشرات الأشخاص، سواء معتقلين أو مسؤولين سابقين عن السجن، بالإضافة إلى قضاة ومحامين، حقائق مفزعة حول كيفية معاملة المعتقلين داخل السجن. وفي واحدةٍ من أكثر الشهادات إيلاماً ما أشار إليه قاض سابق، شهد هذه الإعدامات، بأنه كان يتم إبقاء الذين تم إعدامهم معلقين حوالى 10 إلى 15 دقيقة، وأن "صغار السن من بينهم كان وزنهم أخف من أن يقتلهم (الشنق)، فكان مساعدو الضباط يشدونهم إلى الأسفل، ويحطمون أعناقهم".
كنّا نتندر على الفرق بين سورية ومصر أيام حسني مبارك بأنه مهما بلغ قمع نظام الأخير، إلا أنه يظل أكثر ديمقراطية و"ليبرالية" من نظام حافظ الأسد. والآن، يمكن التندّر بأن المعتقلات والسجون المصرية التي تحوي بداخلها ما يقرب من 40 ألف معقتل سياسي تعتبر "نُزهة" بالنسبة لمعتقلات بشار الأسد وسجونه. ولو أن كلا النظامين واحد، مع اختلافٍ في الدرجة، وليس في الأصل.
لا يمكن للأنظمة الديكتاتورية العيش بدون القمع والقتل، وهذا أصل وجودها وبقائها ابتداء، بيد أن ما يفعله نظام الأسد يتجاوز ذلك، ويصل إلى درجة جرائم كاملة ضد الإنسانية، لا تختلف عما حدث في بلدان إفريقية، مثل كينيا وكوت ديفوار وإفريقيا الوسطى، أو ما حدث في البوسنة والهرسك في أثناء الحرب الأهلية بداية التسعينات، وما حدث في مناطق أخرى من العالم. ولو أنه تمت محاسبة حافظ الأسد عن جريمته البشعة في حماة قبل 35 عاماً، لما وصلنا إلى ما يفعله ابنه الآن، والذي يحاول الروس الإبقاء عليه في السلطة، حتى يرتكب مزيداً من الجرائم والإبادة بحق من تبقى من السوريين داخل سجونه ومعتقلاته.
ليس خافيًا على أحد الوضع الاقتصادي السيئ في إيران. المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي كان يتوقع أنه خلال العشرة أشهر المقبلة ستفتح أبواب الازدهار، ويتجنب نظامه ثورة شعبية، لكن تحذير البيت الأبيض الأسبوع الماضي سوف يلقي بظلاله السوداء على آفاق الاستثمار الأجنبي في إيران، «والطلقة الأولى» لن تحفز المستثمرين على الالتزام بمشاريع جديدة في إيران التي تسعى إلى إعادة بناء قطاع النفط والغاز بعد سنوات من العقوبات.
في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، طالب الرئيس الإيراني حسن روحاني، الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، بعدم التوقيع على العقوبات الأميركية، قائلاً إنها انتهاك للاتفاق النووي، وإن أوباما «ملزم» بوضع حد للعقوبات، بعد أيام صوت مجلس الشيوخ على تمديد «قانون العقوبات» لمدة 10 سنوات.
مستشار الأمن القومي الأميركي مايكل فلين أشار عندما وجه «التحذير» إلى إيران إلى التجارب الصاروخية التي أجرتها أخيرًا، وإلى دعمها المتمردين الحوثيين في الحرب الأهلية في اليمن. في نوفمبر الماضي، أعلن رئيس الأركان الإيراني الجنرال محمد حسين باقري أن إيران في يوم ما قد تقيم قواعد بحرية لها في سوريا واليمن، أيضًا سخر من التهديدات التي أطلقها الرئيس الأميركي المنتخب آنذاك دونالد ترمب عندما تحدث عن ضرب سفن إيرانية في الخليج ومضيق هرمز وإخراج الإيرانيين من المياه، وطلب منه أن يسأل عن حالة البحارة الأميركيين الذين احتجزتهم إيران. إن الكشف عن نية إيران في إقامة قاعدة بحرية في اليمن كان القصد منه تفاقم التهديد الإيراني من الجنوب ضد المملكة العربية السعودية، وتوفر القدرة لإيران على تشكيل خطر عند مدخل البحر الأحمر، والتأثير بالتالي على ملاحة السفن في اتجاه قناة السويس وخليج إيلات في حال حدوث المواجهة.
يوم الجمعة الماضي، قال بوب كروكر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، إن التهديد الأميركي ستليه خطوات أخرى، وهذا لا يشكل انتهاكًا للاتفاق النووي. وقال كروكر الجمهوري عن ولاية تنيسي إنه يعتقد أن إدارة ترمب، في نهاية المطاف سوف تعيد التفاوض بالنسبة إلى الاتفاق القائم، «سوف ترون الجهود لتغيير الواقع».
حتى لو أخذ ذلك وقتًا، فإن العقوبات الجديدة التي أقدمت عليها إدارة ترمب سيكون لديها التأثير السلبي على المصارف التي كانت ستمول المشاريع الإيرانية، وعلى شركات النفط العملاقة التي تسعى لتطوير احتياطات إيران الضخمة من الغاز والنفط. كانت إدارة أوباما أكدت للمصارف أن بإمكانها القيام بأعمال تجارية في إيران بعد رفع العقوبات الدولية، لكن من غير المرجح أن تعطي إدارة ترمب هذا الضمان، وبالتالي فإن شركات النفط العالمية ستكون حذرة للغاية، ولا يعتقد المراقبون الاقتصاديون أن تمضي الشركات قدمًا في تنفيذ أي عقود ملزمة هذه السنة أو السنة المقبلة. ويرى هؤلاء أنه لا يمكن التقليل من شأن التأثير المحتمل للعقوبات، خصوصًا إذا سعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ تدابير تعطل قدرة الدول الأخرى على القيام بأعمال تجارية مع إيران من خلال قنوات مالية دولية.
في الأول من فبراير (شباط)، أكد وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان تجربة الصواريخ، من دون أن يذكر تاريخ التجربة، لكن مسؤولين أميركيين أشاروا إلى أنه صاروخ باليستي متوسط المدى، والتجربة جرت في الـ29 من الشهر الماضي، وفشلت في إعادة الدخول إلى الغلاف الجوي. في الثالث من الشهر الحالي غرد ترمب قائلاً إن إيران لم تقدر «لطف» أميركا معها.
عندما كان قائدًا للقيادة الوسطى كان جنرال البحرية جيمس ماتيس، وزير الدفاع الحالي، يعتبر إيران نقطة محورية في منطقة مسؤولياته. وصف كيف كان يستيقظ يوميًا على تحديات جديدة حيث يرى حملة إيران المباشرة والمنسقة لفرض نفوذها على المنطقة. شعار ماتيس المعروف: «كن مهذبًا، كن مهنيًا، لكن مع خطة لقتل كل من تلتقيه». عام 2012 قال إن أخطر التهديدات الثلاثة التي تواجه أميركا، وكان لا يزال في زيه العسكري: «هي إيران، إيران، إيران». في أبريل (نيسان) الماضي، ربط ماتيس إيران بصعود تنظيم «داعش»، قال: أنا أعتبر أن «داعش» ليس أكثر من ذريعة لإيران لاستمرار الضرر. إيران ليست عدوًا لـ«داعش»، هي تكسب من الفوضى التي يسببها. وسأل ماتيس: من هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لم تتعرض لهجوم من «داعش»؟ إنها إيران ولا أعتقد أن هذا صدفة.
من المرجح أن يشجع فريق الأمن القومي لترمب، بمن فيهم ماتيس وفلين، على اتخاذ إجراءات صارمة ضد إيران بسبب برنامج الصواريخ الباليستية، وإذا ما واصلت تمويلها للتنظيمات المتشددة التي تحركها في الدول المجاورة. صار معروفًا أن تورط إيران في الشؤون الداخلية للدول الأخرى هو أمر أساسي لرؤية الهلال الشيعي الذي يمر عبر منطقة الشرق الأوسط من طهران حتى البحر الأبيض المتوسط.
ويشرح لي مصدر أميركي مطلع أن الذين يعتقدون أنه لم يعد هناك من سبب وجيه لأن تبقى الولايات المتحدة مهتمة بالشرق الأوسط، لأنها لم تعد تعتمد على نفط المنطقة، يجب أن يلحظوا أن المراقبين عندما يتحدثون عن الشيعة والسنّة في المنطقة، يبدون كأنهم يتحدثون عن معسكرين على قدم المساواة. في الواقع، إن الشيعة في المنطقة هم أكثر عدوانية وقوة من السنّة، وأكثر اتحادًا. على الجانب الشيعي، هناك الحكومة العراقية ونظام بشار الأسد و«حزب الله»، ولديه جيش كبير وقوة شرسة، والمتمردون في اليمن وروسيا وإيران يضخون المليارات لدعم هذا الفريق. أما على الجانب السنّي، فهناك ضعف وفوضى، وبالتالي، كما يقول، إذا انسحبت أميركا، فإنه يمكن لإيران الهيمنة على المنطقة. وشرق أوسط يهيمن عليه الشيعة سيكون في الواقع أرضًا خصبة ورئيسية للإرهاب العابر للحدود الذي ينتشر في أوروبا، ويهدد الولايات المتحدة، إذ تخطط إيران للادعاء بأنها تحمي الأقليات الشيعية في كل مكان، وألم يقل ماتيس أخيرًا إن إيران أكبر دولة راعية للإرهاب؟!
يضيف محدثي: «علاوة على ذلك، كلما تحدثنا مع زعماء اليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى في آسيا، نجد أنهم يراقبون الشرق الأوسط ليحددوا كيفية اعتمادهم على أميركا كحليف. إذا تخلت أميركا عن الشرق الأوسط، فإن حلفاءها في آسيا قد يحذون حذو الفلبين في السعي إلى التموضع فوق أرضية مشتركة بين القوى الكبرى، أو حتى قد يميلون نحو الصين أو روسيا. وعندها ينتهي الدور الأميركي كرائد عالمي».
إن إيران لا تريد المواجهة مع أميركا. وهي أظهرت ترددًا غلفته بالحكمة في السابق عندما أدرجتها إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش عام 2003 في خانة «محور الشر»، يومها عرضت عبر وسطاء على واشنطن وضع كل شيء على الطاولة، حتى برنامجها النووي، مقابل معاهدة عدم اعتداء. رفضت إدارة بوش ذلك لأنها كانت تسعى لتغيير النظام.
إن دفع إيران الآن للتركيز على شؤونها الداخلية والامتناع عن استخدام القوة المسلحة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة سيساعد الولايات المتحدة في استعادة مصداقيتها كقوة عالمية. يقول المصدر الأميركي إن الشعب الأميركي غير مستعد لحرب برية أخرى في الشرق الأوسط الكبير. إن فشل أميركا في حربيها في أفغانستان والعراق سببه أنها لم تسعَ إلى هزيمة الأعداء فقط، بل أيضًا إلى المشاركة في إعادة البناء. والشيء نفسه ينطبق على إيران، إذ يمكن أن يفرض عليها أن تتوقف عن التدخل في شؤون الدول الأخرى والتخلي عن برنامج الصواريخ وعن برنامجها النووي. أما تغيير النظام فيجب أن يأتي من الداخل، إذ لا يمكن فرضه من قبل الغرب.
كأننا مقبلون على صدام بدأته إيران عندما أرادت اختبار الإدارة الأميركية الجديدة بإقدامها على تجربة الصواريخ. وصار الكل يعرف أن الشعب الإيراني يشعر بالإحباط، لأن حكومته تنفق المال لإجراء تجارب صاروخية، في حين لم تتم تلبية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية.
عندما اشتعلت النيران ودمرت أحد أهم المباني الشاهقة في طهران، سخر كثير من الإيرانيين بالقول: «لدينا صواريخ يمكن أن تصل إلى إسرائيل، لكن لا سلالم يمكن أن ترتفع حتى عشرة طوابق».
هذا يثبت أن أهم استثمار لأي رئيس أميركي للضغط على النظام الإيراني، هو الشعب الإيراني نفسه.
من المفهوم أن يلح الأتراك على الأميركيين يطالبونهم بوقف تسليح التنظيمات الكردية في سوريا، تحديدًا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، لأنهم يعتبرونها تمثل خطرًا على استقرار ووحدة تركيا نفسها. فقد اختارهم التحالف الغربي وكيله داخل سوريا لمحاربة تنظيم داعش.
الأتراك، عندما أدركوا اللعبة الكردية السورية، بادروا إلى شن معاركهم ضد «داعش» في عملية «درع الفرات»، وكذلك «جبهة النصرة»، لاحقًا، إلا أن هذا لم يوقف الاعتماد الأميركي على الكرد وتسليحهم. وعزز موقف الأكراد السوريين أن تلك الخطوة كانت مقبولة من الروس، الذين لا يَرَوْن في الحزب الكردي خصمًا للنظام السوري. كما أن روسيا وإيران سبقتا الأميركيين بتمكين الأكراد من التمدد فيما وراء مناطقهم على الحدود السورية التركية بحجة تطهيرها من الإرهابيين، وهي العملية التي أيقظت أنقرة التي رأت فيها مؤامرة لإقامة مناطق كردية معارضة على حدودها تهددها مباشرة. ومن الواضح من لعبة لوح الشطرنج السوري، أن الإيرانيين والروس نجحوا في نقل المعركة ضد أبرز خصوم نظام دمشق، أي الأتراك، وتهديد أمنهم مباشرة، الأمر الذي أسهم في تقليص الدعم التركي للمعارضة السورية.
واضحة لعبة المحور الإيراني، لكن الذي لم يكن مفهومًا التحول الأميركي نحو دعم الأكراد، وتسليحهم بقوة، رغم مخاطره على تركيا، حليفتهم في الناتو. ومع خروج إدارة باراك أوباما، ومجيء دونالد ترمب، متعهدًا بتغيير مواقف سلفه، ظهر الأمل في أن يشمل التغيير الأميركي إدارتهم للأزمة في سوريا، على الأقل تكتيكيًا إن لم يكن استراتيجيًا. ومن المبكر معرفة الأفكار والخطوات الجديدة، لكن الدعم الغربي للأكراد مستمر، والخطر من «داعش» و«النصرة» يزداد في الداخل التركي إلى جانب استقواء الأكراد بالتحالفين الروسي والأميركي في آن.
الصورة باتت أوضح لأنقرة، فالمشروع الإيراني الذي يريد أن يكون القوة الإقليمية الرئيسيّة يريد إضعافها ضمن الصراع الإقليمي وليس فقط حماية النظام السوري. وهي نتيجة طبيعية للتوسع الإيراني في الشمال العربي، العراق وسوريا ولبنان، الذي يتطلب تحييد أنقرة كونها الدولة الموازنة لإيران، وهي تحتاج إلى تعزيز نفوذها في المنطقة أكثر من ذي قبل لفرض نفسها على الإدارة الأميركية التي تعتبر طهران خصمًا لا شريكًا، بخلاف إدارة أوباما.
ولا شك أن تركيا ارتكبت سلسلة أخطاء في التعامل مع الأزمة السورية، منذ انتقال الانتفاضة السلمية إلى ثورة مسلحة. عدم التدخل العسكري في مناطق نفوذها داخل سوريا، والضغط على دمشق آنذاك نحو حل سياسي توافقي مع المعارضة، ثم أخطأت في التهاون في مواجهة المعارضة الإسلامية المتطرفة، والتعاون المتأخر مع الحكومات الدولية التي كانت تشتكي من عمليات تجنيد مواطنيها من قبل التنظيمات الإرهابية الذين يعبرون من الأراضي التركية إلى سوريا. من المتوقع أن المجتمع الدولي سيقلق ويتحرك عندما يجد أن جماعات إسلامية متطرفة بدأت تتشكل في أي مكان في العالم، ومن المحتم أنه سيتحرك لمحاربتها.
تركيا تحاول أن تداوي عدة جروح في آن؛ فهي تصر على ملاحقة أشباح تنظيم فتح الله غولن في أنحاء العالم، الذي قام بالمحاولة الانقلابية. وتشن حربًا على التنظيمات الإرهابية مثل «داعش» داخل تركيا وفِي العراق وسوريا. وإقناع الغرب بالتوقيف عن تسمين التنظيم الكردي السوري. والتوصل إلى حلول براغماتية مع الروس والإيرانيين في سوريا. إنما خيارات تركيا في القضايا الإقليمية الأكبر أصبحت تضيق، فانتصار الإيرانيين في سوريا والعراق هو على حساب أنقرة وسيجعلها في حالة قلق مستمر، حيث لا ننسى أن سوريا كانت مركز النشاطات المعادية للأميركيين في العراق طوال سنوات وجودهم هناك، استضافت: «القاعدة» و«المقاومة العراقية»، ومن أراضيها انطلقت عملياتها.
مع هذا، تبقى تركيا دولة إقليمية كبرى، تملك من الإمكانات العسكرية ما يجعلها لاعبًا قادرًا على الحسم، وهو الأمر الذي تحاشت ممارسته طوال فترة الأزمة السورية، ثم أصبح غير قابل للتفعيل بعد دخول الروس، حيث لم يعد ميزان الصراع في صالحها. وكل الأطراف الآن تنتظر الخطوات الأميركية المقبلة، هل تنهي الصراع لصالح نظام دمشق وحده على اعتبار أنه المنتصر، أم تفرض مصالحة سورية سورية لحفظ التوازن وعدم تمكين فريق إقليمي واحد من الانتصار، أم يوضع المزيد من الحطب على النار وتستمر الحرب؟
إبّان احتدام المعركة الانتخابيّة بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، ركّز الممانعون العرب نيرانهم على كلينتون. كان أكثر ما يهمّهم أنّ المرشّحة الديموقراطيّة قد تتدخّل في سوريّة وقد تطيح بشّار الأسد وسيطرته المؤسَّسة على السجون والزنازين. تاريخ وزيرة الخارجيّة الأميركيّة السابقة، بوصفها من «صقور» إدارة أوباما والحزب الديموقراطيّ، كان يضاعف عداءهم لها وخوفهم منها.
نقد ترامب المعلن لإيران، ولنظام سيطرتها الإقليميّ، كان يُقلقهم قليلاً. لكنّ «تأمّلاتهم» عن المرشّح الجمهوريّ الذي حظي بالرئاسة لاحقاً ظلّت ثانويّة في الأهميّة كما في التركيز: فأوّلاً، كان الخوف من فوز هيلاري هو الطاغي، فيما بدا من المشكوك فيه كثيراً أن يفوز منافسها. وثانياً، كان الكلام عن ترامب سريعاً ما يتجاوزه ليذهب في منحى «نظريّ» بحت: ذاك أنّ ترامب من عوارض الرأسماليّة المأزومة، أو من علامات الاستعداد الفاشيّ في الرأسماليّة، أو هو الوجه الخفيّ – إنّما الحقيقيّ! – لأميركا. وأخيراً، كان الممانعون يجدون ضمناً ما يطمئنهم في صداقة ترامب لبوتين: ذاك أنّ الروسيّ الهادئ لا بدّ أن يروّض الأميركيّ الهائج، وصديق صديقي قد يغدو صديقي.
هيلاري كانت الكابوس الفعليّ. ترامب كان همّاً نظريّاً. والتناول النظريّ هذا كان يشبه تكبير الحجر من أجل الاستنكاف عن الضرب فيه. فالأحجار الحقيقيّة لا تُضرب إلاّ على المرشّحة كلينتون.
إذاً، الاهتمام بما تراءى تدخّلاً في سوريّة فاق في أهميّته كلّ المخاوف المنسوبة إلى ترامب: العنصريّة والجنسويّة والاحتيال والتسبّب بنزاعات وربّما حروب و «تلفزيون الواقع» والتخلّف على أنواعه، ناهيك عن تمثيل قطاع من الرأسماليّة، عقاريّ وسياحيّ، لا يُعتدّ بإنتاجيّته.
لكنْ حين فاز ترامب وحلّ في البيت الأبيض، وخصوصاً بعد فرض إدارته عقوبات على إيران، ساد خطّ جديد في النقد الممانع. وهو سيتصاعد حتماً مع احتمال تصنيف «الحرس الثوريّ» منظّمة إرهابيّة. هكذا، للمرّة الأولى، بات الرجل خطراً فعليّاً، بل هو الخطر الفعليّ. فهيلاري كلينتون انهزمت فيما الروسيّ الصامت لا يبدو صالحاً للاستخدام في ترويض الأميركيّ الصاخب.
النقد «النظريّ» لم يختف بالطبع، إلاّ أنّه عثر على لحمه وشحمه: تهديد إيران وإمكان تغيير توازن القوى في سوريّة والعراق. في هذا الإطار بات يُستشهد بالمآخذ التي تؤخذ عليه، لا لأنّها خطيرة بذاتها، بل لأنّها تتجانس مع موقفه السلبيّ من... إيران. المعادلة الفعليّة أصبحت: من يعادي إيران ونظامها الإقليميّ، لا بدّ أن يكون عنصريّاً إلخ...، أو: إنّ عنصريّته وباقي صفاته تمهيد مبكر لمعاداته إيران. في المقابل: لو لم يُعادِ ترامب إيران، لأمكن هضم كلّ المآخذ النظريّة عليه، أو تسجيلها من دون اشتقاق أيّ خلاصة سياسيّة تترتّب على ذلك. والسابقة المعروفة هنا هي علاقة الممانعين بالرئيس الروسيّ: لا بأس بأن يقف الرجل مع إسرائيل ما دام واقفاً معنا في سوريّة.
ذاك أنّ القول إنّ ترامب عنصريّ يبقى بذاته قولاً فاتراً، وإلى حدّ ما حياديّاً، كالقول إنّ المياه باردة، أو إنّ حرارة الشمس قويّة. أمّا حدود النقديّة فلا تتعدّى الانزعاج من برودة الماء أو سخونة الشمس بوصفهما أكثر ممّا تحتمله الأجساد في زمن لا يتعدّى الربع ساعة. لكنّ التأويل «النظريّ» نفسه يغدو تعبويّاً ونضاليّاً وذا مهمّات مباشرة حين يتّضح الموقف السلبيّ من إيران ومن سياستها السوريّة.
إيران وسوريّة الأسد هما فعلاً «بوصلة» الممانعين. دع عنك، إذاً، ماركس وهابرماس، تشومسكي وجيجك. دع عنك فلسطين وإسرائيل والعنصريّة والجنسويّة ومكافحة التخلّف والتكفير والنهب والاستغلال... المهمّ أن يبقى المسلخ في صيدنايا شغّالاً ومزدهراً. بشّار الأسد وقاسم سليماني صادقان: إنّهما يريدان المسلخ من دون نظريّات في السلخ. الآخرون، جماعة «النظريّة»، هم أهل الكذب المحض.