يعتبر حجم التحديات والصعاب التي تواجه السوريين في دول اللجوء والجوار كبيرا جدا خصوصا في ظل المسؤوليات الأسرية والعمل على تكوين وإعالة أسر بأكملها، ولعل الطلّاب السوريين أيضا يواجهون صعوبات جمّة في طريق إكمال تعليمهم الجامعي أو حتى ما هو أبعد منه خصوصا مع تردي المستوى المعيشي لدى الغالبية العظمى.
تبدأ التحديات عند بعض الطلاب بصعوبة التوفيق بين الواجبات الدراسية والعمل الذي يلتزمون به لإعالة أسرهم، ولا تنتهي عند آخرين بطول فترة الانقطاع عن الدراسة والتي وصلت عند بعضهم لخمسة أعوام، ومثل ذلك الطلاب الذين فروا من سوريا خلال السنوات الماضية خوفا من الاعتقالات وخوفا من الذهاب للخدمة العسكرية الإجبارية في جيش الأسد.
كما أن الطالبات يعانين من ظروف صعبة أيضا، إذ أن العديد منهن يلتزمن بأعمال خارج البيت لإعالة أسرهن بالإضافة لأعمال منزلية يومية، فضلا عن وجود عدد لا بأس منه من الطالبات المتزوجات وحتى اللاتي أنجبن أطفالا.
كما ولا يجب إغفال الحالة النفسية السيئة لعشرات الطلاب الذين قد يسمعون في أي وقت نبأ أو خبر استشهاد أحد أقاربهم أو زملائهم القدامى في الداخل السوري، فضلا عن سوء الحالة النفسية التي تراكمت مع سنين الانقطاع والابتعاد القسري عن المقاعد الدراسية.
ولكن، سِر، امضِ، تحرّك، لا تيأس، ففي المقابل لا يمكن إنكار قدرة أي شخص على تحطيم وتذليل الصعاب مهما كَبُر حجمها، إذ أن طرق النجاح متوفرة للجميع ولكن المسير فيها بالتأكيد يحتاج لصبر ومثابرة وإرادة.
ففي كل فصل دراسي يتخرج العشرات من السوريين من جامعاتهم بمعدلات إمتيازية وجيدة، وبات التفوّق والتنافس السوري في الجامعات محط أنظار الجاليات العربية في الجامعات الأردنية مثلا، كما أن التنافس الشريف بين الطلبة السوريين أنفسهم على أشدّه.
وأبرز ما يلفت الانتباه هو التلاحم والتعاون الواضح بين غالبية الطلاب السوريين في مختلف الجامعات، وتتميز الجالية السورية بتنظيم وأداء عالي وقيام عشرات الأشخاص بأعمال تطوعية لخدمة المجتمع المحيط بهم، ويجب أن لا يتم إغفال التفاهم بين الطلاب السوريين وغيرهم من رواد الجامعات من الجنسيات الأخرى، ولا سيما الأردنية منها.
وبات حاليا أمام الطلاب اللاجئين في المملكة الأردنية فرص واسعة لمتابعة تعليمهم، حيث أطلقت جهات مختلفة منح دراسية كاملة لا يتكلّف فيها الطالب أي رسوم جامعية، حتى بل أن بعض الجهات المانحة دعمت الطلاب برواتب فصلية كافية لسد مختلف الحاجيات الدراسية تقريبا.
فجأة ومن دون سابق إنذار عادت نغمة التصعيد المتبادل على ضفتي الحدود بين لبنان وإسرائيل. التصعيد اللفظي والاستعراضي يقابله استمرار الهدوء والاستقرار في أكثر منطقتين آمنتين في الشرق الأوسط منذ نحو أحد عشر عاما، نقصد جنوب لبنان ومنطقة الجليل الإسرائيلية، فهل المنطقة أمام مشهد تفجيري جديد طرفاه إيران عبر ذراعها حزب الله من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية على الأرض اللبنانية وداخل الحدود الإسرائيلية؟
نقطة البداية في هذا المشهد التصعيدي بدأت منذ بداية الشهر الجاري، منذ أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب مواقف عدّة تجاه إيران، أوحت بوجود سياسة أميركية جديدة عنوانها الحدّ من النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، قال الرئيس الأميركي الجديد إنّه يريد الحدّ من النفوذ الإيراني في العراق، ووجّه أكثر من رسالة واضحة حيال التجارب الصاروخية الباليستية، وأعاد إيران إلى مربع العقوبات الأميركية الأول، ووجه رسالة مباشرة من على شواطئ اليمن بعد العملية الانتحارية التي استهدفت فرقاطة سعودية. كل هذه التطورات واستعراض أوراق القوة الأميركية، كان لا بد للقيادة الإيرانية أن ترد في المقابل باستعراض أوراق قوتها، وحزب الله الذي يمسك بالحدود اللبنانية مع إسرائيل، هو الأكثر قدرة على تلبية النداء الإيراني للرد على التهديدات الأميركية، ومن دون أن تتحمل إيران أيّ مسؤولية مباشرة.
على أنّ حزب الله الذي يدرك حساسية اللعبة الدولية، منذ أن غضت واشنطن النظر عن انخراطه في الحرب السورية دعما لنظام بشار الأسد، حرص على أن تكون رسائله الصوتية ضد إسرائيل ولا تقترب من أيّ موقف يمكن أن يشتم منه أيّ تهديد للمصالح الأميركية المباشرة في لبنان والمنطقة، لذا عندما نشرت وكالة رويترز الإخبارية قبل أيام نقلا عن مصدر في حزب الله أنّ الأخير يوجه تحذيرات لترامب، سارع حزب الله إلى نفي الخبر معتبرا أنّ لا أساس له من الصحة ببيان صدر عن العلاقات الإعلامية في حزب الله.
التهديدات التي أطلقها الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، كانت مدروسة أيضا تجاه إسرائيل، فهي مسبوقة دائماً بـ“إذا قامت إسرائيل بعدوان على لبنان فإنّ حزب الله سيرد”، ويكمل أنّ لدى حزب الله مفاجآت للجيش الإسرائيلي، مؤكدا أنّ معلومات إسرائيل عن إمكانيات حزب الله التسليحية والقتالية ضعيفة. لكن نصرالله وهو يستعرض في خطابه ضد إسرإئيل، كان يوجه سهامه إلى المنظومة العربية، وتحديدا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، في مواقف كشفت عن انقلاب على ما قيل عن تفاهم لبناني عبرت عنه محطة انتخاب العماد ميشال عون رئيسا ومحطة تشكيل الحكومة، وتأكيد الأطراف اللبنانية، على اختلافها، على ضرورة إعادة تنشيط العلاقة مع الدول العربية ولا سيما الدولتين المذكورتين. من هنا جاء تصعيد حزب الله ضد إسرائيل وضد الدول العربية، مع فارق استمرار الهدوء وعدم القيام بأي خطوة عسكرية ضد إسرائيل، في مقابل ضخ مستمر للمقاتلين سواء باتجاه سوريا أو غيرها من الدول العربية كما هو الحال في اليمن والعراق.
الكلفة القتالية ضد إسرائيل هي وجودية لحزب الله، فإسرائيل ردت على مفاجآت نصرالله التي لوّح بها في خطابه، بموقف من أفيجدور ليبرمان وزير الأمن الإسرائيلي قال فيه، إنّ كلّ مقومات الدولة اللبنانية ستكون هدفا لإسرائيل ولم يذكر حزب الله، وهي إشارة إلى أنّ هذه الحرب ستزيد من أعداء حزب الله أكثر ممّا ستجد تعاطفا معه. فالكل يعلم أنّ الدولة اللبنانية في أسوأ أوضاعها المالية والاقتصادية، فيما حزب الله بات يدرك أنّ التعاطف اللبناني أو العربي لن يكون متوفرا كما حصل في حرب العام 2006، لذا فإنّ بعض المراقبين يقرأون في مواقف الحزب التصعيدية الأخيرة محاولة للجم أيّ حرب إسرائيلية محتملة ضده بتشجيع من ترامب، فيما يضيف بعض المراقبين أنّ تصعيد حزب الله هو محاولة إيرانية للتذكير بأنّ لإيران دورا محوريا في حماية الاستقرار على الحدود الشمالية لإسرائيل سواء مع لبنان أو مع سوريا، وأنّ إيران تنبه إلى أنّها في حال تعرضت مصالحها ونفوذها في المنطقة العربية لأي تهديد أميركي فهي يمكن أن تذهب إلى خطوة انتحارية على الحدود الإسرائيلية.
في هذا السياق لا يمكن المرور على موقف السلطة اللبنانية من دون الإشارة إلى موقف لبنان الرسمي. حيث برز موقفان واحد عبر عنه رئيس الجمهورية المنهمك في ترتيب وضعية انتخابية برلمانية تتيح له أن يحصد حزبه التمثيل المسيحي الكاسح، وهي وضعية لا يمكن أن تتحقق له من دون رعاية حزب الله سياسيا ولوجستيا، فكان واضحا في القول إنّه إلى جانب سلاح المقاومة وضرورة بقائه في المعادلة اللبنانية لأن الجيش عاجز عن مواجهة أيّ عدوان اسرائيلي.
الموقف الآخر كان من الحكومة اللبنانية التي انتقدت مواقف نصرالله من الدول العربية واعتبرها الرئيس سعد الحريري تخريبية لمصالح لبنان وعلاقاته الأخوية مع دول الجوار، فيما جدد التأكيد سواء على طاولة الحكومة أو في خطابه من على منبر 14 فبراير، أي في ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أنّ قضية السلاح غير الشرعي لم تنته كقضية محورية يسعى إلى إنهائها في سبيل دعم خيار السلاح الشرعي من قبل مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية.
لم تذهب المواجهة الداخلية نحو مسارات الانقسام السياسي الحاد، فحزب الله اكتفى بتوجيه رسائل باتجاه الخارج، وأظهر اهتماما بعدم الانجرار إلى مواجهات داخلية، واختفى خلف موقف رئيس الجمهورية الذي بدأ بتلقي الرسائل الدولية والأميركية المعترضة على مواقفه التي تتناقض مع مقتضيات القرار الدولي رقم 1701 والتي لا تقرّ بوجود سلاح غير سلاح الشرعية اللبنانية والقوة الدولية المنتشرة منذ العام 2006 في منطقة الجنوب وإلى جانب الحدود مع إسرائيل.
يبقى أنّ المخاوف وتداعيات التصعيد الكلامي لم تكن لصالح الدولة اللبنانية، التي يفترض أنّها مع العهد الجديد، تحاول أن تستعيد بعض النشاط الاقتصادي من خلال تحفيز السياحة والاستثمار وجذب المساعدات العربية والدولية، لكن يبدو أنّ الحسابات الإيرانية تتقدم على كل الحسابات اللبنانية وعلى نظام مصالح اللبنانيين عموما، فإيران لن تقبل بأن يتم تهديد نفوذها دوليا في المنطقة العربية، وصراخ حزب الله لا يمكن إلاّ أن يكون نتيجة تحسسه لخطر تنطوي عليه مواقف الإدارة الأميركية تجاه إيران، وهو إن كان يدرك أهمية دوره اليوم كحام للحدود اللبنانية مع إسرائيل ضد أيّ محاولة مقاومة فلسطينية أو عربية أو إسلامية ضد احتلال فلسطين، فيستخدم هذه الورقة في مواجهة التطور الأميركي تجاه الحرب في اليمن، فالحياد العملي الذي اعتمدته إدارة الرئيس باراك أوباما تجاه الانقلاب الحوثي في اليمن، تبدو إدارة ترامب حاسمة أكثر من الإدارة السابقة في إنهاء الأزمة اليمنية انطلاقا من مواجهة النفوذ الإيراني في هذا البلد، ولعلّ تعزيز حضور البوارج الأميركية في مياه الخليج، هو الرسالة الأكثر وضوحا، مع ما يقابلها من تراجع استعراضات الحرس الثوري والبحرية الإيرانية التي لمست أنّ الأميركيين جادّون بتوجيه ضربة لإيران هذه المرة.
الأصوات الإيرانية المرتفعة ضد إسرائيل هذه الأيام، لم تكن هي ذاتها قبل عام، ما يؤكد أنّ التلويح بورقة حزب الله، وعقد مؤتمر دعم فلسطين هذه الأيام في طهران، والتهديد بضرب مفاعل ديمونا الإسرائيلي، ليست إلاّ محاولات خطابية مرفقة بكيل الاتهامات للنظام العربي، ولكن من دون أي استعداد لتوجيه أي رصاصة باتجاه العدو الإسرائيلي.
إيران التي غامرت بالعرب في سبيل كسب ودّ الغرب، تحاول اليوم ألا تخسر ودّ الغرب أيضا، وما أصوات نصرالله في لبنان والرئيس الإيراني حسن روحاني في الكويت وعُمان، إلاّ محاولة للحدّ من خسائرها الدولية بعدما صارت عدوا لمعظم الدول العربية، فيما الدول الكبرى غير راغبة في إعطائها المكافأة التي طمحت إليها بعد إنجازها التاريخي في المشاركة الفعالة بتدمير الدول والمجتمعات العربية فداء لغير العرب ولغير المسلمين.
خبرٌ يطرد الآخر. مصيبة تطرد الأخرى. قتلى يصرفون قتلى آخرين. مأساةٌ تحلّ مكان مصيبة. حربٌ تُنسي أخرى، وآلاف من الضحايا يمحون ذكرى ضحايا سابقين... هكذا تمرّ علينا مركباتُ قطار الأنباء بسرعة الضوء، تدوس مشاعرنا وأخلاقياتنا، وتجعلنا، لتلاحقها وتكرارها وتصاعدها، مجرّد مشاهدين نائين عمّا يجري من حولنا، ويكاد لا ينطبع على حدقات عيوننا أكثر من ثوانٍ معدودة.
وإلا فما معنى أن يمرّ تقريرُ منظمة العفو الدولية (أمنستي) أخيراً عن سجن صيدنايا، وما يجري فيه من تعذيب واغتصاب وتجويع وإعدامات، وهو ما استدعى تسميته "المسلخ البشريّ"، حيث تم القضاء على 13 ألف ضحية، كما يمرّ أيُّ خبر آخر، فلا يُشعل وسائلَ الاتصال الاجتماعية بقدر ما يشعلها مثلا نبأُ وفاة ممثل، أو نشرُ مراسلات قصة حبّ من طرف واحد بين كاتبةٍ وشاعر، أو فضيحة تتعلق بالحياة الشخصية لنجمٍ ما...؟
وسائل الإعلام نفسها، من صحف ومجلات ووكالات أنباء وإذاعات وتلفزيونات، تعاطت مع الخبر وكأنه مجرّد سبق صحفي أتى بإثباتٍ جديد لما كان يُحدس به من قبل، في حين أنه بات مؤكّدا ومعلوما من الجميع ومنذ فترة، كلُّ ما يجري هناك ويتجاوز بوحشيته الحدودَ القصوى للفظاعة والإجرام.
أما سبق أن قال لنا ذلك ملفُ "سيزار" أو "قيصر" بصوره التي هُرّبت بالآلاف (أكثر من 50 ألف صورة) وفيها تظهر بوضوح جثثُ 11 ألف سجين ممن قضوا جوعا وتعذيبا وقتلا في سجون مظلمةٍ متعفنة، ما بين 2011 و 2013؟ ألم نرهم أولئك الموتى، النساء، الشيوخ، الشبّان والصبية، الممدّدين أرضا عراة، بملامح متورّمة مشوّهة ودماء متخثرة، داخل أكفانٍ من النايلون، قبل أن يرسلوا إلى مصير آخر مجهول؟ أما كنا قد رأينا وبكينا ضحايا الكيماوي في الغوطة الشرقية، وأكثرهم من الأطفال الذين مُددوا جنبا إلى جنب، مغمضي العيون، متبسّمين كملائكة صغيرة هبطت من السماء؟ ألم تهزّنا صورة "الطفل الغريق" التي أصبحت أيقونة البؤس السوري؟
قال لنا تقريرُ منظمة العفو الدولية، بالتفصيل المملّ، ومن خلال الشهادات الحيّة لسجّانين قدماء ولمساجين نجوا وضباط أمن تفننوا بممارسة أنواع التعذيب، ما جرى ويجري في سجن صيدنايا، للمدنيين والعسكريين من معارضي النظام، أو ممن يتّهمهم النظام بمعارضته جزافا. روى كل هؤلاء كيفية تعذيبهم، إذلالهم، ضربهم، تجويعهم، اغتصابهم، تركهم يهترئون بجراحهم ودمائهم وبرازهم، في داخلٍ معتم، قذر، يتضاءل حجمُ الجحيم نفسُه أمامه. قيل كيف كانوا يساقون إلى المشانق من دون محاكماتٍ حقيقية، وكيف كانوا يتعلّقون بالصبية خفاف الوزن، كي تطقّ رقابهم لأنهم كانوا أخفّ من أن يخنقهم حبل المشنقة. حُكي الكثير. وحُكي كل شيء. ومن لم يعرف ليس له إلا أن يفتح إنترنت، وسيقع على التقرير كاملا، مترجما إلى عدة لغات.
حسنا، ثم ماذا؟ لا شيء. لا مبادرة عملية تهدف إلى محاسبة المسؤولين عن كل تلك الفظاعات المرتكبة بحق أبرياء، لا تجمعات ولا مسيرات ولا مظاهرات اعتراض، وإنما الاستمرار في سماع أخبار القصف، وإلقاء البراميل المتفجرة، والحصار والقتل والتهجير والإذلال والتجويع والتلويح ببعبع الإرهاب. وحشية ما بعدها وحشية، وقد حوّلتنا، نحن الذين في موقع الشاهِد، إلى شركاء في الجريمة. أجل، على الرغم من حزننا واستيائنا واستنكارنا ومن بلوغ بعضنا حدّ البكاء، ورؤية آخرين كوابيس متعبة أو مخيفة لأيام، نحن شهود على الجريمة، وبالتالي شركاء فيها. فنحن أولا سوف ننسى بعد قليل، ونحن ثانيا قد عوّدنا أرواحَنا، مأساة إثر مأساة، وحربًا بعد حرب، على صعود سلالم الفظاعات، بثبات وتصميم، ونحن ثالثا استبدلنا ضمائرنا بشيء من البلاستيك، بارد ويمكن تطويعه، شرط ألا يُكسر أو يعرَّض للنار. فرأفةً بضمائركم، أيها الإخوة، علّها تبقى مخدّرة، كي لا تقضي على تحالفكم مع الشيطان.
تغاضت القوى الكبرى عن استمرار الحرب في سورية طوال السنوات الست، واحتفظت، على نحوٍ صارم، بنتيجةٍ غير قابلة للاختراق، وهي منع الحسم النهائي لأي طرف، فالحل سياسي، كما جاء على ألسنة كبار قادة أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وأميركا، مع مراعاة كل العبارات البراقة والخادعة، كالدستور الجديد، والديمقراطية، والدولة المدنية، والانتقال السياسي، وهي مصطلحاتٌ عسيرة على التعريف، على الرغم من وضوحها المعجمي، في ظل غبار عسكري كثيف، وجبهات متعدّدة تكاد تغطي الجغرافيا السورية.
تحت عناوين الحل السياسي، تشكَّل وفد أستانة الثاني المعارض، مناصفة بين السياسيين والعسكريين، وأذيعت أسماء أعضائه علناً، مع ذكر ممثلي كل جهة، بينما لم يعرض الإعلام من وفد النظام إلا بشار الجعفري، باعتبار أن بنية هذا الوفد واضحة، وقد عُبِّرَ عنها قبل بدء المفاوضات بإخراج تمثال حافظ الأسد من المستودعات، ونصبه مجدّداً في إحدى ساحات حماة، الشاهدة على أكبر المظاهرات التي عرفتها سورية في تاريخها الحديث.
تكلف النظام أثماناً عسكرية باهظة في ريف حماة الشمالي، وفي داخل حماة ذاتها، منذ دخلت دباباته إليها في وقت مبكر من عام 2011، ويبدو أنه حالياً يشعر بمزيدٍ من الأمان، بسبب التفوق الجوي له، والانحسار الكبير لقوات "الدولة الإسلامية"، فلم يعر اهتماماً للمدينة التي تتضوّر حاجةً إلى مددٍ إنساني، على شكل تأمين الماء والكهرباء، وتعامى عن مشكلاتها التموينية في توفير الوقود الذي تحتاجه في موسم شديد البرودة، وهذه وظائف إدارية، يجب أن يقوم بها تلبيةً لمهامه السياسية في قيادة الدولة، لكنه عوضاً عن ذلك، مارس أسوأ ما يمكن أن تقدمه قيادةٌ لشعبها، وهو إعادة تعويم تمثال الديكتاتور الذي رفضته هذه المدينة بالذات على شكل انتفاضات شعبية عارمة منذ ثمانينيات القرن الماضي وخلال عام 2011.
كان التجاوب الدولي مع الأحداث السورية، ولا يزال، بطيئاً، وجرى ابتلاع كل المشاهد القاتمة بصمت، وكان للمؤتمرات التي عقدت تحت مسمى أصدقاء سورية صرير إعلامي أكبر بكثير من فاعليتها، فلم توازِ، في مجموعها، فيتو روسياً واحداً.
لم يبدُ على النظام أي غضب وطني، وهو يرى مناطقه ومدنه تتهاوى أمام من كان يسميهم العصابات الإرهابية المسلحة. ولم يعرض ساعتئذ أي حل، كان مصراً على معركةٍ عسكرية يحافظ بها على ما تيسر له من الأرض، مع حرصٍ خاص على العاصمة، وخطوط دفاعية مبالغ فيها حول مناطقه الساحلية، أما أداؤه السياسي فكان معاقاً ووجد في الدبلوماسية الروسية بديلاً ممتازاً، فسلمها زمام الأمور.
كان الدأب العسكري ميزة النظام طوال عهدي الأسد الأب ونجله، فقد تعاملا مع المجتمع بآلتهما العسكرية، وخطابهما الثابت المعروف، ولم يمارسا السياسة لا في الداخل ولا في الخارج، والسياسة حرفةٌ وموهبةٌ وتقاليد دولية لم يكن النظام قريباً منها يوماً، بل اعتمد في الداخل على إعلام ذي منبع وحيد، مع مصادرة الأصوات الأخرى، مهما بلغت درجة خفوتها، متكئاً على عناصره المجهزين بعناية لتجفيف أي صوتٍ معارض، ومن خلفهم سجونٌ متفاوتة الضراوة والقسوة، شكلت جزءاً من منطلقات النظام الأمنية، وأداة فاعلة في لجم المجتمع الذي قُسِّمَ إلى فئاتٍ عمرية، من الطلائع حتى الطلبة، ووضع على رأسها حزب البعث ذا الشعارات الشوفينية الجوفاء. وفي الخارج، اعتمد على المساومة ومنطق البيع والمقايضة، وتحلى بدماءٍ باردةٍ وتَرَيُّثٍ بليد إزاء أي قضية، مع خطابٍ إعلامي جاهز دوماً للشتم والتخوين وتحويل القضايا الثمينة إلى متاعٍ بخس، حين يُجْبَرُ على اتخاذ أي موقفٍ ذي جوهر سياسي.
يُستدعى النظام إلى أستانة ليمارس سياسةً لا يعرفها، فيعيد خطاباً ما زال يتردّد في الأفق، منذ تولي حافظ الأسد السلطة، فيتنكّر رجل الأمن في زي مفاوض، والضباط العسكريون في زي مستشارين، لإعادة حكايات المؤامرة الدولية، والعصابات المسلحة، وهو أسلوبٌ يحرص عليه الجعفري حرصه على هندامه الأنيق. وكل أستانة وأنتم بخير.
مائة عام من تاريخ المنطقة مكون من أقطاب ومعسكرات وأحلاف متغيرة، وما يقال عن فكرة تشكيل حلف ناتو رباعي عربي سيكون ردة فعل طبيعية أخرى ضد حلف إيران الثلاثي النشط.
وقد شبه التجمع العسكري العربي بحلف الناتو، أي منظمة حلف شمال الأطلسي، التي تشكلت في أعقاب التوسع السوفياتي، وكانت القوة العسكرية الغربية التي تقابل الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة.
كيف يمكن للسعودية والإمارات ومصر والأردن تشكيل قوة عسكرية مشتركة لمواجهة التوسع الإيراني، بعد أن مد وجوده إلى العراق وسوريا وكذلك نفوذه في لبنان واليمن؟
الدول العربية الأربع هي أساسًا متحالفة منذ فترة طويلة، وتشارك اليوم في حرب اليمن بدرجات مختلفة، بما فيها مصر. ويقاتل جيش الإمارات على الأرض هناك مع القوات السعودية منذ البداية. والأردن له ارتباط عسكري وطيد بالدول الثلاث. حتى مع هذا التعاون لا نستطيع أن نعتبر العلاقة القريبة جدًا تماثل حلف الناتو في مفهومه وطبيعة التزاماته.
وفي منطقتنا فراغ سياسي كبير واختلال في ميزان القوى العسكري الإقليمي، خاصة خلال السنوات الثماني الماضية. وقد زاده اختلالا تخفيض الولايات المتحدة التزاماتها في المنطقة، ولاحقًا توقيعها الاتفاق النووي مع إيران، الذي يمثل مصالحة ونهاية المواجهة بين البلدين. هذا الفراغ نجم عنه توسيع إيران نفوذها داخل العراق، وخوضها حربًا عسكرية كبيرة في سوريا، وتشكيلها لأول مرة جيشًا من الميليشيات جلبتهم إلى هناك. وتحاول جاهدة إبقاء الحرب مشتعلة في اليمن بدعم الانقلاب.
وما يقال عن تعاون الناتو العربي المقترح مع إسرائيل تصورات تستبق الحلف الذي لم يؤسس بعد! وحتى لو افترضنا صحة الرواية، فإن التعاون، إن بقي سريًا، يظل محدودًا ولا يعتمد عليه. وإسرائيل موجودة عادة في نزاعات المنطقة، وإن كان حضورها محدودًا وصامتًا. فهي في حرب سوريا، مرة تقصف أهدافًا لـ«حزب الله»، ومرة تهاجم جماعات لـ«داعش»، وتزود الأطراف المختلفة أحيانًا بالمعلومات التي تخدمها. وقد قال أحد الخبراء الإسرائيليين إنهم سعداء وهم يرون آلافًا من مقاتلي «حزب الله» يتورطون في الحرب في سوريا، لأنهم كانوا يختبئون تحت الأرض عندما تهاجمهم القوات الإسرائيلية في لبنان، معتمدين تكتيك حرب العصابات. اليوم هم يلعبون الدور الإسرائيلي في سوريا.
فكرة الناتو، أو التعاون العربي الرباعي، لو أصبح حقيقة سيتم الإعلان عنه ولن يكون مشروعًا سريًا كما توحي الأخبار الأخيرة. والتعاون العسكري، تحت أي مظلة، فكرة جيدة وخطوة ضرورية خاصة لو تم توسيعه إلى ما هو أكبر من ذلك. فإقامة حلف لمواجهة إيران توازن ضروري، ردًا على حلفها. فهي شكلت تجمعًا عسكريًا من ثلاث دول، العراق وسوريا إلى جانبها، إيران، وبنت تعاونًا روسيًا، يتخذ في إيران قاعدة عسكرية، ويشارك الروس بقوة مع قوات حلف الدول الثلاث في سوريا. وعززت إيران حلفها بجلب تجمع من الميليشيات المسلحة، جاءت بها من باكستان والعراق ولبنان ومن دول أخرى، وهم يقاتلون تحت رايتها في سوريا. والقوات الإيرانية، تحت اسم الخبراء، تقاتل أيضًا في العراق وتتولى إدارة المواجهات هناك.
وبالتالي فإن تأسيس حلف «ناتو» عربي، لو تحقق، يبقى ردة فعل طبيعية لحلف «وارسو» الإيراني.
قبل انطلاق الثورة السورية بوقت قصير، التقى مسؤولون أمنيون من أعلى المستويات بمعارضين معتقلين، وأخبروهم بما سيجري في سورية من فظاعات وويلات، في حال وقعت فيها ثورة، أو نزل مواطنوها إلى الشارع محتجين. قالوا ما مختصره: لن يكون ما جرى في ليبيا من دمار وقتل غير مشهد إنساني مفعم بالرّقة، بالمقارنة مع ما سنفعله بكم في سورية، بعد أن أعددنا للأمر عدته، وقرّرنا أن لا نتردّد في استعمال جميع أنواع التدابير التي تقتضيها حتمية بقاء السلطة والشعب حيث هما: الأولى في الحكم والثاني في بيت الطاعة.
قال هذا الكلام رئيس المخابرات الجوية جميل حسن الذي ذهب بعد الثورة بأيام إلى بشار الأسد طالبا إطلاق يده في الشعب، ومتعهدا أن يقتل عشرة آلاف سوري (قالت رواية أخرى إنه تعهد بقتل مليوني سوري) وأن يذهب بعد ذلك إلى محكمة الجنايات الدولية نيابة عنه وعن أرباب نظامه. وقال شيئا كهذا أو أشدّ منه بقية قادة شعب الأجهزة وأفرعها الذين تحدثوا عن خطةٍ أعدت منذ عقود لمواجهة الشغب بجميع ما في ترسانة النظام من سلاح، ولتدمير البلاد من أجل إخماد الثورة، وحجتهم أن لمن عمّرها أول مرة حق تدميرها وإعادة إعمارها من جديد، بعد إعادة الأمن والهدوء إليها، أي بعد ذبح شعبها.
ليس سرا أن قيادة النظام قرّرت مواجهة الشعب بأقصى قدر من العنف، منذ حكم الأسد الأب سورية، وأعلنت قرارها قبل الثورة بأشهر أفصحت خلالها عما ستقوم به: استخدام الجيش والمخابرات للمحافظة على السلطة بالعنف، بحجةٍ تم ترويجها خلال نصف قرن، ترى في السلطة جهةً أكثر أهمية ومحورية من الوطن، يعد إضعافها أو التخلص منها كارثةً تحل به، لأنها هي التي بنت سورية ومنحتها فرادتها الاستثنائية، ومن المحال الإتيان بسلطةٍ مماثلة، إن هي سقطت. بهذا الفهم، صارت السلطة مصلحة الوطن الأعلى، وغدا نقدها خيانة وطنية، ومثله التمرّد عليها، بل إنها تصير هي نفسها خائنةً إذا لم تردّ على المنتقدين والمتمرّدين بقدرٍ من العنف يقضي عليهم من دون هوادة. لا داعي للقول إن السيادة لا يجوز أن تكون هنا للشعب، بالنظر إلى أنها تتجسّد في صاحب السلطة، الجهة التي يتم إنتاج الشأن العام ومصالح الدولة والمجتمع العليا انطلاقا منها، وبدلالتها الشخصية. ولا بد أن تعتبر قمة السلطة وقاعدتها وحاملها في آن معا. بذلك، لا يجوز أن يبقى للمواطنين من دور غير دور قطيع يؤمر فيطيع، أليس مجرد مادة خام تشكلها يد الملهم المعصوم، القابع على رأس السلطة الذي لا يشاركه أحد في دوره وسلطاته ومكانته. ولا يحقّ لأحد من خارج دائرته حتى مخاطبته أو الوصول إليه، ولا مفرّ من أن يستطيع هو الوصول إلى أيّ كان، ما دام من مصلحة المواطن والوطن أن يكون في قبضته، هو الذي يعرفه خيرا من نفسه، ويعرف ما لا يعرفه أو يستطيع أن يعرفه سواه، ويتفوق بعصمته على أفراد شعب"ه" مجتمعين، وتصدر عنه حقيقة وطن"ه" وهوية مجتمعه، فليس في مصلحة الوطن أن يتوهم أي كان أن في وسعه التمتّع بشيء من صفاته ما فوق البشرية التي تضعه في مراتب لا يمكن أن يصل إليها غيره، فلماذا لا يُرغم من يعيشون في ظله على الخضوع من دون قيد أو شرط لإرادته، وقبول ما يصدر عنه والامتثال المطلق لأوامره؟!
في سلطةٍ هذا طابع علاقتها بشعب"ها"، لا تبقي أي هامش مهما كان طفيفا للمختلف أو المحايد، يعامل من لا يخضع لها معاملة عدو، ولا تسمح بأي قدرٍ من الحرية والتباين ـ وبالتالي التسامح، مهما كان محدودا. ويكون المبدأ الناظم لعلاقة من هم فوق مع من هم تحت، هو التالي: نحكمكم أو نقتلكم. هذا الوضع الرهيب يغرق المواطن في حال من الفصام الشامل، يصير معه مواليا في المجال العام، متمرّدا ومعاديا في مجاله الخاص، يتلهف لإخراج نفسه قبضته، ويخشى، في الوقت نفسه، التمرّد عليه، على الرغم من أنه يحلم بتقويضه بل وتدميره. من الطبيعي أن يكون هذا الوضع، المشحون بقدرٍ هائلٍ من التوتر اللاطي تحت سطح حياة يبدو راكدا ومستقرا، عرضةً للانفجار في أي وقتٍ بقوة عداء عام يسم علاقة السلطة بشعب"ها"، الذي تموت إن هو قوّض سيطرتها عليه، وتعيش من إبقائه ميتا، وترفض أي حل وسط أو تسوية معه؟ ألا يفسّر هذا نفور النظام الشديد من فكرة المصالحة الوطنية والتسوية الداخلية والوطنية للمشكلات والأزمات؟ ولماذا لاحق وطارد من قالوا بهما أو دعوا إليهما، واعتبرهم أعداءً تحمل عروضهم التصالحية بذور انهياره وموته؟
لم يتخلّ النظام يوما عن هذه الرؤية، وتصرّف دوما وكأنه يعادل الوطن أو يكون الوطن ذاته، الذي لا يبقى ويستمر، ولا يحق له أن يبقى ويستمر، إلا بقيادة مجسد النظام والوطن في شخصه "السيد الرئيس" الذي لا يحق لوطنه البقاء بعده أو بدونه، وقال أتباعه: "الأسد أو نحرق البلد"، و"الأسد أو لا أحد". في منطق السلطة: الدفاع عن شخص الرئيس هو دفاع عن الوطن والنظام في آن معا، ولا أهمية إطلاقا لما يترتّب على التمسك به وبالسلطة من نتائج على سورية وشعبها: كدمارها بيتا بيتا وشارعا شارعا، وإبادة بناتها وأبنائها شيبا وشبانا، كما يحدث فيها منذ أعوام.
في سياسةٍ هذه مفرداتها، لا يقتصر الإجرام على أفعال مادية، بل يتمثل قبل كل شيء في أفكار السلطة ونظرياتها التي تقود إلى أفعالٍ جرمية، تعتبرها مساوية للسياسة. أليس ما يجري في سورية خير دليل على أن الجريمة نمت وترعرعت في عقول حكامها، قبل أن تفتك بشعبها؟
كانت الأطماع الإيرانية، ولا تزال، تتجاوز الحد المعقول، وتهدد الأمن القومي الخليجي والعربي. غير أن رغبة إيران في إيجاد نفوذ لها في منطقة القرن الأفريقي وتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر انطلاقاً من مضيق باب المندب، كان التهديد الأبرز، مما تطلب تدخلاً مدروساً للجم مخططات إيران ووضع حد نهائي لها على المدى الطويل. لذلك تحركت دولة الإمارات في هذا الإطار، بالتوازي مع دورها الرئيس ضمن جهود قوات التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن.
لقد كانت التحديات المتصلة بإنقاذ اليمن من الانقلاب الحوثي المدعوم إيرانياً تتداخل وتتنوع، لتشمل ما يتجاوز الحدود الجغرافية للجبهات العسكرية في الداخل اليمني، وصولاً إلى أهمية قطع الطريق أمام المحاولات الإيرانية للسيطرة على الملاحة في البحر الأحمر، إلى جانب إفشال سعي إيران الدائم لدعم الحوثيين بأسلحة مهربة عبر الشريط الساحلي الغربي لليمن. ونعلم أن طهران وجدت في الجنون المذهبي لدى الحوثيين فرصة لإشاعة الفوضى في اليمن ونشر الخرافات والأوهام المرتبطة بأيديولوجيا ثورة الخميني ومن جاء بعده من الكهنة. ورأت أن تخريب أمن اليمن والجزيرة العربية لا يشفي غليلها، وطمعت في توسيع رقعة الفوضى إلى ممر باب المندب ودول القرن الأفريقي. ويبدو أن طهران لم تكن تتوقع أن دول التحالف العربي سوف تتعامل مع ما يجري في اليمن برؤية أوسع بكثير من تحرير المحافظات اليمنية من الانقلابيين الحوثيين. لأن التهديد الذي طال أمن دول الإقليم استدعى أن تكون المعركة ذات نفس أطول وذات أبعاد استراتيجية تراعي الأفق الجيوسياسي للصراع وأبعاده المحتملة.
وفي هذا الإطار اعتادت الإمارات على الإنجاز في الميدان وعدم الاهتمام بالحديث الإعلامي عن الآليات والخطوات الاستباقية ذات البعد المستقبلي، مع التركيز على إعطاء الأولوية لكل ما هو استراتيجي وجوهري في حرب استعادة اليمن إلى محيطها العربي وإنهاء التطفل الإيراني الذي أراد اختطاف جنوب الجزيرة العربية.
ومن المؤكد أن الحرب في الجبهات قادرة على حسم الصراع لمصلحة حكومة شرعية يمنية تمثل كل اليمنيين، لكن ما لم يلتفت له البعض أن الصراع مع إيران يتجاوز استخدامها للحوثيين لتخريب اليمن، إلى محاولة زعزعة الأمن الإقليمي وأمن البحر الأحمر عموماً، لذلك لاحظنا مدى انشغال الإعلام الإيراني بالدور الإماراتي في استعادة مدينة المخا الساحلية، التي يعتبر تحريرها من الانقلابيين ضمانة لتأمين مضيق باب المندب ولحرمان إيران من إمكانية تهديد الملاحة الدولية في هذا المضيق الحيوي.
وأخذت معركة «الرمح الذهبي» أبعاداً أصابت الإعلام الإيراني بالهلع، إلى درجة اعتراف طهران بالدور العسكري القوي للإمارات، لكن الصحف الإيرانية فتحت الباب للحديث حول هذا الموضوع عندما تطرقت إليه بلكنة استغراب وحسد ممزوج بالصدمة.
لم يكن دور الإمارات عبثياً في أفريقيا، وإنما تم بهدف لجم التوسع الإيراني في القرن الأفريقي، بالتوازي مع التقدم المستمر في استعادة المدن اليمنية من قبضة عملاء طهران.
كما يحسب للإمارات نجاحها في بناء علاقات مع إرتيريا والصومال قائمة على التعاون الإيجابي الذي يخدم التنمية ويسهم في إقامة مشروعات كبرى في مجال البنية التحتية، وذلك بالطبع يوفر فرص عمل مستقبلية للصوماليين والإريتريين، ويضمن تطوراً اقتصادياً مبشراً بالخير في القرن الأفريقي.
هل أحسنت إيران قراءة الرسالة الخليجية التي حملها وزير الخارجية الكويتي؟ كيف قرأت إيران الموقف الأميركي بعد استقالة مايكل فلين؟ وكيف قرأت الموقف الروسي من مؤتمر آستانة؟ والأهم كيف تقرأ الموقف الإسرائيلي؟ هل قرأته من خلال رغبة نتنياهو في استمرار بعض بنود الاتفاق النووي الذي يؤخر قيام دولة إيرانية نووية؟ أم قرأته من خلال حث إسرائيل على تقييد يد إيران في دعم حماس و«حزب الله»؟
لنتذكر فقط أن الخطاب العلني الإيراني ليس سوى جزء من السياسة الإيرانية ولا يعكس موقفها الحقيقي، فهو أداة للتفاوض تصعده إيران لإرضاء الجماهير الثورية كما تسميهم وتفاوض به من سيجلس على الطاولة معها، ولكنه لا يعني أبدًا حجم «التنازلات» التي من الممكن أن تقدمها إيران حفاظًا على بقاء نظامها ومصالحه، إن هي أجبرت على الجلوس، وهي الآن في وضع مجبرة فيه على التفاوض مع روسيا وأميركا ودول الخليج.
إنما إيران قرأت الرسالة الخليجية على أنها ضعف، وردت بأن على دول الخليج لا إيران «انتهاز الفرصة التي قد لا تتكرر». لم تفهم إيران أن تلك الرسالة ما جاءت إلا بناء على إلحاح من دول خليجية ترى ضرورة منح إيران فرصة جديدة لتعود لعقلها لمنع صدام إيراني أميركي تزيد احتمالاته يومًا تلو آخر، وذلك ليس من صالح المنطقة ككل.
إيران لا ترى إلا الزاوية الخاصة بها، فتعتقد أنه بناء على أن لها اليد الطولى في الملفات التي ترغب الدول الخليجية في حلها فذلك وضع يقوي موقفها التفاوضي ويضعف الموقف الخليجي، وكل ما تحتاجه إيران هو كسب مزيد من الوقت من خلال تحييد الموقف الخليجي بسلسلة جلسات تفاوضية طويلة تغير فيها من واقع الأمر بالقدر الذي تمنحه إياها الفرصة، وكذلك تنظر للمواقف الخليجية المتباينة على أنها فرصة لشق الصف الخليجي وزعزعة تماسكه، فكان هذا هو فحوى الرد الذي حمله روحاني لمسقط والكويت، بأن على دول الخليج لا إيران، انتهاز الفرصة التي قد تكون الأخيرة لهم!! ذلك منتهى العمى السياسي، إن صح التعبير.
وكما قرأت إيران الموقف الخليجي خطأ قرأت كذلك الموقف الأميركي خطأ، حين هللت لخبر تقديم مايكل فلين مستشار الأمن القومي استقالته، خاصة أن فلين كان قد أصدر تحذيرًا رسميًا لها بألا تلعب بالنار وتختبر حزم الرئيس الأميركي الجديد. فاعتبرت الصحف الإيرانية خبر إقالة فلين انتقامًا ربانيًا لها، تلك قراءة قاصرة، فملابسات استقالة فلين لا علاقة لها بالموقف الأميركي الجديد من إيران، بل بالعلاقة الروسية الأميركية، التي لا يجرؤ أي من الأحزاب الأميركية على التهاون معها.
إيران التي فرحت بإقالة فلين لم ترَ أن هناك طاقمًا كاملاً قادمًا كالبلدوزر تجاه التشدد معها، لا كرهًا فيها ولا حبًا في الدول العربية، إنما هي مصالح استراتيجية مهمة للولايات المتحدة ترى شريحة كبيرة من الجمهوريين ومن المؤسسة العسكرية الأميركية أنها تعرضت للتهديد نتيجة سياسة أوباما الكارثية في المنطقة نتج عنها تصاعد حدة الإرهاب وتعرض الأمن الدولي كله للخطر بسببها، وتتفق تمامًا أن إيران لها دور كبير في ذلك التصاعد، والآن جاء دور تلك الشريحة كي تعيد الأمور لنصابها.
فإذا علمنا أن ديفيد بتريوس من أبرز المرشحين لتولي المنصب خلفًا لفلين فإننا أمام رجل قال إن أموال الاتفاق النووي الإيراني هي ما يمول الحرس الثوري الإيراني، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الإدارة الأميركية تدرس تقديم مشروع اعتبار تلك المؤسسة العسكرية الرسمية الإيرانية منظمة إرهابية، فإننا أمام تطور غير مسبوق في المواجهة الأميركية الإيرانية.
وإن ذهب فلين فإن وزير الدفاع ماتيس من أشد المنتقدين للاتفاق النووي ولسياسة أوباما تجاه إيران، وكذلك هو مايك بومبيو رئيس الـ«سي آي إيه»، المعروف بموقفه المعادي لإيران وللاتفاقية النووية، والذي قال في تغريدة له على موقعه الخاص إنه يتطلع إلى «إلغاء الاتفاقية الكارثية مع أكبر دولة راعية للإرهاب»، في إشارة إلى الاتفاق النووي مع إيران.
وهذا الرجل حصل على 66 صوتًا داخل مجلس الشيوخ حين رشحه الرئيس الأميركي، رغم أن مرشح هذا المنصب لا يحتاج لغير نسبة 50 في المائة + 1 من الأصوات لكي يتم تثبيته.
إيران إذن أمام غالبية في السلطة التشريعية وغالبية حكومية أميركية تكاد تتوافق تمامًا مع التشدد تجاه سلوكيات إيران في المنطقة، هذه هي القراءة الصحيحة للموقف الأميركي الذي يجب أن تقرأه إيران.
الأهم أن الموقف الإسرائيلي وإن حبذ استمرار الاتفاق النووي فإنه مع تشديد العقوبات على إيران للحد من دعمها للمنظمات التي تعتبرها إسرائيل مهددة لأمنها.
فإذا وضعنا في الاعتبار تململ الروس من عرقلة إيران لاجتماع آستانة وتمسكها بعدم خروج «حزب الله» من سوريا، فإن إيران أمام إجماع أممي اتفق على ضرورة التصدي لها، وتلك قناعة إذن لم تعد تقتصر على دول الخليج، قد تختلف الآليات، إنما تتفق على الهدف، كانت تلك هي الرسالة الخليجية التي لم تحسن إيران قراءتها.
يمارس الرئيس اللبناني، ميشال عون، عهده الرئاسي بأريحية واضحة، مستفيداً من الدعم الواسع الذي لقيه عند انتخابه، سواء على الصعيد الداخلي أو في الخارج. يمارس الحكم على طريقته بشكل مباشر وشخصي جدا، لا يغيب عنه تاريخه وتربيته العسكرية. يتابع عن قرب الملفات والمشكلات العالقة، ويحسم في طرق معالجة بعضها الآخر، علما أنه أحاط نفسه بمجموعة من المستشارين، تتقدمهم ابنته البكر، فهو يطمئن من يلتقيه من سياسيين ووفود اقتصادية وقطاعية وشعبية مختلفة، مكثرا من الوعود القاطعة. فهو ورث ملفات جد شائكة ومعقدة، تبدأ بملف الفساد المخيف والمتفشي بقوة، مرورا بالوضع الاقتصادي المأزوم، ولا تنتهي بأشدها استعصاء على الحل، أي قانون انتخاب عصري يصحح عدالة التمثيل قبل فوات المهلة الدستورية. ومع ذلك، يعلن ويجزم بما يريد، ويطلق مواقف في السياسة الداخلية والخارجية، ليست كلها من صلاحياته، عملا بنظرية "الرئيس القوي" المحببة على قلبه.
عدا عن أنه حقق حلما انتظره 27 سنة، فإن الجنرال عون يريد أن يثبت أنه، بأدائه وقوة التعبير عما هو مقتنع به، قادر أن يستعيد مركز القرار في السلطة إلى رئاسة الجمهورية (المارونية)، عبر استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية التي انتزعت منه في اتفاق الطائف عام 1989، بعد نحو خمس عشرة سنة من حروب واقتتال داخلي بين مختلف الأفرقاء السياسية والطائفية. وهو مصمم على "استعادتها"، على الرغم من إعلانه يوم انتخابه، في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، التزامه اتفاق الطائف في خطاب القسم. وهو يخوض اليوم معركته رافعا شعار "الإصلاح والتغيير"، انطلاقا من إعادة صياغة قانون انتخابي يجسد صحة التمثيل، علما أن المسألة تتخطى رغبته، وتمس بوجود القوى السياسيو- طائفية ودورها وموقعها في السلطة وتركيبة النظام اللبناني.
وعلى الرغم من ذلك، يخوض الكباش، ويمارس دور الرئيس والمشرّع والسياسي، ويحاول حشر البرلمان والحكومة والنواب وقادة الأحزاب جميعا، فقد أعلن رفضه قانون الانتخاب المعمول به حاليا، والساري المفعول منذ عام 1960، وإن مع بعض التعديلات، ورفضه، في الوقت عينه، التمديد للبرلمان، على الرغم من أنه لم يتم إقرار قانون آخر بديل إلى غاية اليوم. ويصر، في المقابل، على اعتماد نظام يقوم على النسبية، ولا يجد حرجاً في الجزم بأنه يفضل الفراغ على التمديد لمجلس النواب. وهو الذي سبق وفرض الفراغ سنتين ونصف السنة في موقع رئاسة الجمهورية، بدعم من حزب الله، ما لم يتم انتخابه هو رئيسا. ثم يذهب إلى حد طرح فكرة الاستفتاء التي لا يلحظها الدستور(!).
وينسحب "النهج العوني" في ممارسة الحكم على أكثر القضايا الخلافية، داخليا وعربيا، فعشية قيامه بزيارة رسمية إلى مصر، فجر عبر قناة "سي بي سي" المصرية قنبلة من العيار الثقيل، معلنا من موقعه رئيساً للجمهورية شرعنة سلاح حزب الله بقوله: "طالما أن الجيش اللبناني لا يتمتع بالقوة الكافية، فنحن نشعر بضرورة وجود سلاح حزب الله، لأنه مكمل لعمل الجيش، ولا يتعارض معه". كلام أثار عاصفة ما زال يتردد صداها عربيا، قبل أن تفعل فعلها على الصعيد الداخلي. إذ كيف لقائد الجيش السابق ورئيس الجمهورية الحالي أن يعتبر جيش بلاده الشرعي ورمز السلطة وسيادتها عاجزا عن حماية البلد، وأن لبنان يحتاج إلى مليشيا لكي تدافع عن أراضيه؟! فحزب الله مليشيا غير شرعية في نظر قسم كبير من اللبنانيين، وتنظيم إرهابي بنظر عرب كثيرين وفي الخارج، وخصوصا لدول الخليج التي كانت السباقة في مباركة انتخاب عون رئيسا ودعمه، وإقناع سعد الحريري بتبني ترشيحه، علما أن عون دشن عهده بقيامه بأول زيارة عربية إلى السعودية التي كانت قد قاطعت لبنان، وجمدت مساعداتها وهبات بثلاثة مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني، احتجاجا على دور حزب الله في لبنان، وتدخله العسكري في شؤون الدول العربية، من سورية إلى العراق واليمن.
كما أن شرعنة رئيس الجمهورية سلاح حزب الله تبدو كأنها تسليم أيضا بدوره في سفك دماء الشعب السوري، وتهجير أبنائه، وقبله الشعبين العراقي واليمني. ناهيك عن استعمال سلاحه ضد اللبنانيين في أكثر من مناسبة، وخصوصا في 7 أيار/ مايو 2008، عندما اجتاح بيروت واقتحم الجبل. على الرغم من أن الرئيس - الجنرال الذي كان يومها إلى جانبه، ينكر ذلك في حديثه إلى القناة المصرية. واستطرادا، يبدو عون على تناغم أيضا مع موقف حزب الله في سورية، عندما يؤكد أن رحيل بشار الأسد سيغرق سورية في الاقتتال والفوضى، وكأن مئات آلاف القتلى الذين سقطوا حتى اليوم إنما سقطوا بسبب كوارث طبيعية.
وخلال زيارته القاهرة، زار عون أيضا جامعة الدول العربية، وقال فيها كلام رئيس جمهورية لبنان، داعيا إلى توافق العرب وتضامنهم، وطارحا نفسه وسيطا وراعيا هذا التوافق والمصالحة العربية، غير أن حليفه أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، انبرى بعد ذلك ليصب الزيت على الجسر الذي مده عون باتجاه ترميم العلاقات العربية التي يسعى إليها رئيس الجمهورية، عبر شنه هجوما على السعودية، واتهمها برعاية الإرهاب، وبأنها هي من صنع "داعش" بالتكافل والتضامن مع الولايات المتحدة وإسرائيل! فعن أي دور يسعى عون للبنان، وعن أي موقف حيادي وعدم انحياز في الخلافات العربية تكلم في خطاب القسم، وكرّره في جامعة الدول العربية وفي مقابلاته الصحافية؟ وهل نصب حزب الله فخا لحليفه الجنرال؟ وهل هذه هي السياسة التي يريد أن ينتهجها العهد الجديد، والتي سيعيد من خلالها بناء دولة المؤسسات وسيادة القانون عبر تشريع سلاح مليشياوي خارج سلطة الدولة؟ ومن يعتقد أنه سيكون نصيره في عملية الإصلاح، إذا كان قد نكث بكل الاتفاقات والوعود التي أطلقها عشية انتخابه؟ أما حزب القوات اللبنانية، حليفه المسيحي الأساسي الذي بنى كل خطابه السياسي على رفض السلاح غير الشرعي، وعلى التصدي لمواقف حزب الله، فيبدو أنه ينام على حرير وعود المقاعد الانتخابية!
ويبقى السؤال الأخير والمفصلي ما إذا كان رئيس لبنان يفضل التضامن مع من حمله إلى موقع الرئاسة تحسبا لاحتمالات المواجهة بين إيران والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، التي بدأت تباشيرها تلوح في أفق الشرق الأوسط؟
بعيداً عن نظريات المؤامرة التي جعلها البعض شماعة يعلق عليها كل فشله، ويربط بها كل الأحداث التي تدور من حوله، وبعيداً عن الغارقين في النوم ويصبحون على وقع الأحداث كأنها صدفة عابرة.
بعيداً عن هذه وتلك، يجلس البعض ليراقب الأحداث ويحلل الأمور، وفق مشاهداته وما جمعه من معلومات معتمدا على علمه وما قرأه عن تجارب الشعوب السابقة.
إن الحرب الفكرية من أخطر أنواع الحروب على الإطلاق، وخاصة تلك التي يُستخدم فيها الإعلام بشكل أساسي للسيطرة على الأمم، ويدفعها للسير وفق المخططات المعدة لها دون أن تجد مخرجا ينقذها.
دور الإعلام في السيطرة على العقول
تطورت الحروب اليوم واختلفت عما كانت عليه سابقاً أبان الحروب الصليبية، والفتوحات الإسلامية، ولا تشبه حتى الحروب العالمية الأخيرة في إخضاع أمة لأخرى، واقتيادها بقوة السلاح، لأن ضريبة الحروب التقليدية باهظة جداً، وغالبا ما ستخلق لدى الدول المعتدى عليها روح المقاومة، وتقود الجموعَ الغاضبةَ شخصيات قد تتحول لرموز في زمن قياسي، سرعان ما ستلتف حولها العوام لتقود على أرضها وبين أهلها هجمات عنيفة ضد المعتدي، وستكلف الدولَ الغازيةَ ضريبة كبيرة من السلاح والأرواح.
لذلك تعمد الأمم المتقدمة للغزو الفكري الحديث! لبلوغ مرادها والسيطرة على الأمم وسرقة مواردها.
فقد وقعت المنطقة العربية والشرق الأوسط في تلك المصيدة منذ زمن بعيد، عندما استسلمت للإعلام، وهي تحصد النتائج في هذا اليوم، ولا سيما أن أجيالها تتوارث الخلافات الدينية والعرقية في المنطقة الواحدة فتفككها، لأن مهمة تحويل ديانتها أو تغيير عرقها أصعب بكثير، وهذا ما بينته شاريل بينارد المشرفة على أبحاث: (الإسلام الديمقراطي المدني: الشركاء والمصادر والاستراتيجيات)،
فتقول: “إنَّ تحويل ديانة عَالَم بكامله ليس بالأمر السهل، إذا كانت عملية بناء أمّة مهمّة خطيرة، فإنَّ بناء الدِّين مسألة أكثر خطورة وتعقيداً منها”.
فركزت الأبحاث في المنطقة على تعزيز أسباب الخلاف وربطها بالدين أو الإثنية لتكون البيئة المناسبة للحروب الأهلية والطائفية القادمة.
فبعد ظهور الوهابية سابقاً كما أشارت تلك التقارير وعرفتها بأنَّه: ” نموذج متطرف ومتزمِّت وعدواني من الإسلام المتشدِّد، تأسس في القرن الثامن عشر الميلادي، وقد تبناه آل سعود دون غيره من أشكال الإسلام، مثل الإسلام الصوفي والإسلام الشيعي، والإسلام المعتدل بشكل عام، باعتبارها جميعها انحرافات غير صحيحة عن الدين الحقيقي “.
تأسس في الجهة الثانية نماذج أخرى، فانتشرت الصوفية في بلدان كالشام ومصر، ومن ثم الشيعة في العراق وإيران بعد قيادة الخميني ثورته هناك.
وجهت الدراسات في تلك التقارير لدعم ونشر فتاوى الحنفية لتقف بوجه الحنبلية المصدر المعتمد للفتاوى الوهابية، و التي بنت القاعدة عليها أفكارها.
برز الدعم واضحاً في الوسائل المسموعة والمرئية بالإضافة للمكتبات، فترى عشرات القنوات الفضائية, التي تبث فتاوى الشيعة المنحرفة على المشاهدين رغم العداء الظاهر وتهديدها المباشر لدول تبث تلك الأقمار وتملك تلك القنوات.
بالإضافة إلى التشديد على دعم الفئة المنفتحة من هؤلاء التقليديين ليسهل ضرب ومقاومة الفئات الأخرى، وبالتالي ستبدأ معارك طاحنة بين تلك النمازج كما يحدث الآن في سوريا والعراق وباقي البلاد.
لكن الأخطر بعد هذا التقسيم ما ورد في تقارير أخرى كالذي قدمته مؤسسة راند بعنوان “بناء شبكات مسلمة معتدلة”، الصادر عام 2007م، وكان يهدف إلى رسم خطة متكاملة لتعتمده السياسة الأمريكية في العالم أجمع، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، والجديد أو الخطير فيه أنه يضع جميع تلك الحركات الإسلامية المتناقضة المتضاربة في وجه الغرب، ويتخلى عن فكرته السابقة بدعم المعتدلين في وجه المتطرفين، بل تحولهم لعدو واحد ضد العالم الغربي،
لتنتقل طبيعة المواجهة الفكرية من مواجهة بين الإسلام والغرب، لتصبح مواجهة من نوع آخر بين العالم الغربي من ناحية والعالم المسلم من ناحية أخرى، كما حدث في الحرب الباردة التي كانت بين معسكرين شرقي وغربي.
يسلط هذا التقرير الضوء على الصراع الفكري، ويعطيه من الأهمية ما يعطى للصراع العسكري أو الأمني، ويدعو للاستفادة من تجربة الصراعات الفكرية السابقة مع التيار الشيوعي خلال فترة الحرب الباردة، ويستنسخ تلك التجربة ويبحث عن أسباب نجاحها لتستخدم تلك الوسائل والأدوات والخطط والبرامج في إدارة الصراع مع التيار الإسلامي.
من المتوقع أن تعطي تلك المقدمات نتائجها قريبا في الحرب الدائرة بعد ثورات الربيع العربي، ومهما كانت النتائج في حال انتصار أحد الأطراف, أو تم تقسيم المنطقة كما يخطط لها، فالحرب ستسحق جيل الشباب قتلاً وتشريداً وضياعاً, وستحولهم من رواد البناء إلى معاول هدم لا أكثر في الصراع الأبدي الذي بدأ في بلادهم.
احتلت عملية المفاوضات المشهد الرئيس في الصراع السوري، من دون أن يعني ذلك أن الأطراف المتصارعة، خصوصاً النظام والمعارضة، انتقلت تماماً، ومن الناحية العملية، من الصراع بالسلاح إلى الصراع على طاولة المفاوضات، فما زال النظام يقصف ويدمّر ويهجّر في أكثر من منطقة، من درعا حتى حي الوعر، وما زالت قوى غير سورية، أو ذات أجندة مختلفة عن أجندة الشعب السوري، تقاتل في هذا البلد.
لكن الانتقال إلى طاولة المفاوضات، مع بداية تبلور توجّه، وربما حسم، دولي وإقليمي يبشّر بانتهاء القتل والتدمير والتهجير، أمر ينبغي السعي إليه، وبذل كل الجهود في سبيله، لأن الخاسر الوحيد من ذلك كله هو شعب سورية كله، ولأن المستفيد الوحيد من ذلك هو النظام، وحلفاؤه الذين لا تهمهم سورية، ولا شعبها، إلا بقدر ما يعزّز هيمنتهم، ويرسخ وجودهم.
المفاوضات، من ناحية مبدئية، هي الطريق الصحيح لأخذ السوريين نحو الاستقرار والأمن والتغيير السياسي، لأن تحويل الصراع من السياسي إلى العسكري، والاستكانة له خياراً بديلاً ووحيداً، بدل أن يكون مجرّد وسيلة، هو الذي أوصلنا إلى هذه الحالة الكارثية التي حققت للنظام خطته بتصوير الثورة مجرد صراع عسكري بين "شرعيتها" والمتمرّدين عليها، ولأن هذا هو الملعب الذي يقوّي السلطة، ويرفع الحرج عنها، ويبرّر لها استخدام العنف. لكن خيار التفاوض ينبغي أن يعني وقف القتال والتدمير والتهجير، قولاً واحداً، وبطريقة حاسمة، وهو ما لم يركن له النظام حتى اللحظة، ونحن على بعد أيام من بدء الجولة التفاوضية الرسمية في 23 فبراير/ شباط الجاري. أيضا لا بد أن ينسجم الذهاب إلى التفاوض مع منطوق القرارات الدولية بخصوص حل القضايا الإنسانية، من أجل الانتقال للقضايا السياسية، وهذا يتطلب، بعد وقف إطلاق النار والقصف، الإفراج عن المعتقلين، ورفع الأطواق الأمنية عن المناطق المحاصرة، وإدخال المساعدات الإنسانية إليها، وعودة المهجرين إلى مناطقهم وبيوتهم التي أخرجوا منها.
ندرك جميعاً اليوم أن ذهاب الأطراف السورية إلى قاعة التفاوض الأممية، لا يعني، بالضرورة، أنهم هم من يتفاوض، ووفق المصلحة السورية الوطنية فقط، لأن ذلك، في حقيقة الأمر، هو بمثابة تعبير عن إرادة دولية وإقليمية أكثر من أنها تتأتى من مصالح السوريين وأولوياتهم، ناهيك عن أنها لا تأتي نتيجة قناعة النظام بالمفاوضات، وهو من كان انتهج أقصى الحل الأمني منذ البداية، كما أنها ليست وسيلة المعارضة في تحقيق غايتها في انتزاع سورية من استبداد النظام الحاكم الذي يفاوضها ليشاركها السلطة، في أحسن ما يمكن أن ينتج عنه هذا التفاوض، أو ليمنحها بعض صلاحياته ووزاراته، حسب الرغبة الروسية "شريكة النظام في قصف السوريين". وفي الآن ذاته، الراعية والضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي مهّد الطريق إلى جنيف، عبر ممر عاصمة كازاخستان أستانا.
أمام حقائق الواقع الميداني والدولي المأساوي، تبرز حقيقة واقع المعارضة بكل انعكاسات تشتّتها، وتشرذمها، وتدني إدراكها واقعها وقدراتها، ومساحة تأثيرها على قاعدة الثورة الشعبية من جهة، وعلى قرار الدول الفاعلة في الشأن السوري، من جهةٍ أخرى.
تتبلور هذه الصورة، أيضا، في التعاطي غير المسؤول مع موضوع تشكيل وفد التفاوض إلى جنيف، وتبادل الاتهامات ودفعها إلى التفاعل، بديلاً عن عقد مؤتمر جامع، يخفف حدة التناقض، ويجمع المعارضة، بمرجعية قوامها، العمل لتحقيق الانتقال السياسي المنشود، وإنهاء المأساة السورية وفق القرارات الدولية، وإيجاد آليةٍ لتنفيذ مخرجات التوافقات والتفاهمات السابقة واللاحقة لجولات جنيف التي تناسلت إلى جولاتٍ أربع، ربما تتزايد تناسبا مع تزايد أرقام ضحايا حربٍ لم تضع أوزارها بعد، على الرغم من كل التصريحات الإعلامية للقوى الدولية الضامنة والداعمة لوقف إطلاق النار، والانطلاق نحو "العملية السياسية" المصطلح الجديد الذي غاب عنه الحل، وفق التعبير المتداول سابقا "الحل السياسي".
من تنازل إلى آخر، مرت مسيرة قيادة المعارضة السورية في محاولةٍ منها التساوق مع تنازلاتٍ كثيرة، أجبر عليها النظام أيضاً، فمن رفض النظام التفاوض أساساً لحل الصراع إلى قبوله الدخول، على الرغم من محاولات التعطيل المستمرة، إلى قاعات التفاوض مرغماً طائعاً، وفي المقابل، من رفض المعارضة بداية بيان جنيف (2012)، ثم التمسّك به، ومن رفض التفاوض، أو حتى مجرد لقاء وفود روسية، ثم الانطلاق بحماسة إلى لقائها، بل واعتبارها مرجعية تفاوضية، وضامناً موثوقاً به، لتوزيع الحصص بين المعارضين في وفود المعارضة، وآخر ذلك "حجاج" موسكو، من قادة "الائتلاف" الذي واظب سابقا على اتهام المشاركين في اجتماعات موسكو بالارتهان لها. ومن الإصرار على وحدانية تمثيل المعارضة، من "الائتلاف" أو الهيئة التفاوضية العليا، في الجولات التفاوضية السابقة، ثم قبول الشراكة مع منصات أخرى، بل والانقسام على الذات، والتعامل وفق مبدأ المحاصصة والنسب (بين الائتلاف والهيئة والفصائل العسكرية)، بدلاً من اعتماد مبدأ الكفاءة والتخصص في انتقاء الوفد وفاعلية أعضائه، ما أربك الهيئة العليا نفسها، وجعلها تواجه وفد النظام المصغر بوفد "المعارضة" الموسع، متعدّد الرؤوس والتبعيات، والذي سيضاف له وفود المنصات الأخرى.
يأتي التفاوض اليوم في جنيف 4، كسابقه جنيف 3، تحت القصف، وفي ظل غياب رؤية واضحة لـ"سورية" التي تبحث عنها المعارضة التي عجزت عن إيجاد وسيلة لتسوية خلافاتها المتعارضة، قبل أن تحل خلافاتها مع النظام الذي يعتبر سورية حكراً له، مقيدا اسمها وشعبها باسم رئيسه.
إيران تحلم كثيراً وتصمم وتحاول إقناع كل من يجلس معها بأنها تحلم أحلاماً جميلة، وفي النهاية يتحول الحلم إلى كابوس. تحركات إيران مضحكة جداً لمن يتأمل خصوصاً جلوس وزير خارجيتها محمد جواد ظريف على طاولات الكبار في ما يخص الشأن السوري.
تذكرني هذه القصص بسائق العربة الذي لا يحمل رخصة قيادة، ويسير في طريق محفوف بالضياع، وقد تسبب سوء قيادته ببعض الحوادث والإضرار بالبيئة. يظن هذا الشخص أنه يحقق مكاسب هنا وهناك، ويضع ركاب العربة في حالة عداء مع أي طرف يحاول إخراجهم من هذه الفوضى.
فعلاً أرى تجولك في عواصم العالم كـ «شريك» في مفاوضات مضحكاً ومقززاً أيضاً، كونك تفعل ذلك ونصف شعبك يعيش تحت خط الفقر. على هذا الوزير الذي يظهَر بهندام التحضر والإيتيكيت ويُستقبَل بنوعٍ من الحفاوة، أن يدرك أن من يجلس معهم لن يبقوا له قوة ومكانة خارج حدود جمهوريته «الإسلامية». الوزير ظريف يتنقل من مكان إلى آخر، وكل ساسة وحكومات العالم يتحدثون علناً عن قص أجنحته وإعادته إلى مكانه، بما في ذلك روسيا التي ظنّ متوهماً أنها ستسمح له بموضع قدم في سورية. جلوسه اليوم بالطبع مرير، وهو يفعل ذلك من باب لعل وعسى أن يفرجها الله. لكن وبصرف النظر عن العالم، هل يعتقد هؤلاء المؤدلجون في إيران بأن العرب، وأقصد سورية واليمن وحتى لبنان، سيقبلون في بلادهم بسلطة تحتكم إلى إيران إلى الأبد؟ ألم يقرأوا التاريخ جيداً؟
منذ هبوط طائرة "إر فرانس" في مطار طهران وعلى متنها الخميني في الأول من شباط (فبراير) ١٩٧٩ وهذه الدولة تترنح ولا تعرف كيف ترتب أولوياتها. تريد أن تصبح دولة قوية ومركزية في المنطقة، لكنها لا تعتمد في تحقيق هذا الهدف على القوة والحكمة، ولا على النمو الاقتصادي بل على الأيديولوجيا فقط.
أخيراً لجأت إلى تطوير المفاعلات النووية بحجة حاجتها للطاقة، والعالم يراقب ذلك ويهددها إن هي اتجهت إلى التسليح النووي، ومع ذلك تصارع وتفاوض وتحاول الفرار من هذه التهديدات. قد أفهم أن يحاول بلد ما في توجه ما، لكن أن يستمر أربعة عقود فهذا إفلاس.
يا لها من سياسة خرقاء تلك التي تدفع بهؤلاء المعممين في هذه الاتجاهات المتشتتة، عوضاً عن بناء الداخل الإيراني، والاستفادة من قدرات شعبها الخلاق المبدع.
وبمناسبة الحديث عنها، وأقصد الأيديولوجيا، فقد يقبل المراقب تدخل الأيديولوجيا في السياسة من وقت إلى آخر من دولة عظمى كالولايات المتحدة أو بريطانيا كما يلوح لنا هذه الأيام، لأنها دول قوية، وأولوياتها محددة، وحققت منجزات كبرى في تاريخها. أقول ذلك للمقارنة فقط، أما الحقيقة على الأرض فإن السياسي هناك في الغرب ومهما بلغ به التطرف الأيديولوجي سيضطر إلى أن يقف عند حدود المواد الدستورية الصارمة.
لكن أن تتحكم الأيديولوجيا بدولة نامية وتنال بسببها العقوبات والحصار لأربعة عقود، فهذا هو المثير والمضحك وشر البلية ما يضحك.
على مدى هذه العقود الأربعة، فرّ من إيران معظم صفوتها من العقول، وها نحن نراهم في دول الغرب والشرق يمارسون التجارة والابتكار والإبداع، بل إن معظم هؤلاء قد حصل على جنسيات جديدة.
لا أقول إن الشعب الإيراني جبان ولا يستطيع الخلاص من هذا الحكم، لأنهم جربوا الخروج عليه قبل بضع سنوات بعد أن بلغ اليأس ذروته، لكن الرئيس أوباما تحديداً خذلهم عندما تجاهل تلك الحركة السلمية الكبرى التي وأدتها بنادق الحرس الثوري التي وجهوها إلى صدور شعبهم.
ماذا لو كان ظريف يجلس على طاولة لبحث التعاون مع دول الجوار وبناء تكتلات اقتصادية تعود على شعبه بالمنفعة. ماذا لو كانت إيران تتقدم دول المنطقة بالحصول على جوائز نوبل في الطب والسلام والثقافة. المشكلة أن مثل هذا الظريف يجلس هناك وأياديه ملطخة بدماء الشعب السوري العربي النقية. يجلس ويفاوض وزوارقه وسفنه الصغيرة تنقل الأسلحة وأدوات الموت لليمن الشقيق في مهمة عبثية يستحيل نجاحها. وقد حاول قبل ذلك تخريب البحرين، لكن الحسم السريع من دول المجلس أفشل مخططه. هل ستستوعب إيران خطأ توجهاتها؟ هل نتوقع ظهور إحصائيات وأرقام توضح حجم الفرص الضائعة التي لم تستغلها هذه الجمهورية على مدى الأربعين عاماً، وهو الزمن الذي شهد هذه النهضة العلمية العالمية الهائلة التي نعاصرها اليوم؟
الحقيقة أن للدول كل الدول، في العالم حالات تدرس في الجامعات للمختصين. هناك دول تنهض في أزمنة قصيرة جداً وتبهر العالم بنهضتها. هناك في المقابل دول تراوح مكانها ولا تشعر بالحاجة للنهوض إلا في أوقات متأخرة. إيران ليست هنا ولا هناك. الحالة الإيرانية هي وجود دولة تدار بعقول جاهلة متخلفة مليئة بالكراهية والأحقاد، لم تجد ما تمتطيه وتقمع من يفتح فاه معارضاً غير الدين. خرج «المطاوعة» هناك من سراديب التهميش في زمن الشاه، ليجدوا أنفسهم في الصفوف الأمامية. عاثوا في تلك البلاد الغنية الرائعة بطقوسها وطبيعتها وثرواتها فساداً قد يحتاج ربما إلى قرن كامل لإصلاح آثاره وعواقبه سواء المادية على الأرض أو البشرية. الخميني عاد لإيران من المنفى مع زمرته ليضع البلاد كلها في منفى جديد لا تزال تعيش به.