احتلت عملية المفاوضات المشهد الرئيس في الصراع السوري، من دون أن يعني ذلك أن الأطراف المتصارعة، خصوصاً النظام والمعارضة، انتقلت تماماً، ومن الناحية العملية، من الصراع بالسلاح إلى الصراع على طاولة المفاوضات، فما زال النظام يقصف ويدمّر ويهجّر في أكثر من منطقة، من درعا حتى حي الوعر، وما زالت قوى غير سورية، أو ذات أجندة مختلفة عن أجندة الشعب السوري، تقاتل في هذا البلد.
لكن الانتقال إلى طاولة المفاوضات، مع بداية تبلور توجّه، وربما حسم، دولي وإقليمي يبشّر بانتهاء القتل والتدمير والتهجير، أمر ينبغي السعي إليه، وبذل كل الجهود في سبيله، لأن الخاسر الوحيد من ذلك كله هو شعب سورية كله، ولأن المستفيد الوحيد من ذلك هو النظام، وحلفاؤه الذين لا تهمهم سورية، ولا شعبها، إلا بقدر ما يعزّز هيمنتهم، ويرسخ وجودهم.
المفاوضات، من ناحية مبدئية، هي الطريق الصحيح لأخذ السوريين نحو الاستقرار والأمن والتغيير السياسي، لأن تحويل الصراع من السياسي إلى العسكري، والاستكانة له خياراً بديلاً ووحيداً، بدل أن يكون مجرّد وسيلة، هو الذي أوصلنا إلى هذه الحالة الكارثية التي حققت للنظام خطته بتصوير الثورة مجرد صراع عسكري بين "شرعيتها" والمتمرّدين عليها، ولأن هذا هو الملعب الذي يقوّي السلطة، ويرفع الحرج عنها، ويبرّر لها استخدام العنف. لكن خيار التفاوض ينبغي أن يعني وقف القتال والتدمير والتهجير، قولاً واحداً، وبطريقة حاسمة، وهو ما لم يركن له النظام حتى اللحظة، ونحن على بعد أيام من بدء الجولة التفاوضية الرسمية في 23 فبراير/ شباط الجاري. أيضا لا بد أن ينسجم الذهاب إلى التفاوض مع منطوق القرارات الدولية بخصوص حل القضايا الإنسانية، من أجل الانتقال للقضايا السياسية، وهذا يتطلب، بعد وقف إطلاق النار والقصف، الإفراج عن المعتقلين، ورفع الأطواق الأمنية عن المناطق المحاصرة، وإدخال المساعدات الإنسانية إليها، وعودة المهجرين إلى مناطقهم وبيوتهم التي أخرجوا منها.
ندرك جميعاً اليوم أن ذهاب الأطراف السورية إلى قاعة التفاوض الأممية، لا يعني، بالضرورة، أنهم هم من يتفاوض، ووفق المصلحة السورية الوطنية فقط، لأن ذلك، في حقيقة الأمر، هو بمثابة تعبير عن إرادة دولية وإقليمية أكثر من أنها تتأتى من مصالح السوريين وأولوياتهم، ناهيك عن أنها لا تأتي نتيجة قناعة النظام بالمفاوضات، وهو من كان انتهج أقصى الحل الأمني منذ البداية، كما أنها ليست وسيلة المعارضة في تحقيق غايتها في انتزاع سورية من استبداد النظام الحاكم الذي يفاوضها ليشاركها السلطة، في أحسن ما يمكن أن ينتج عنه هذا التفاوض، أو ليمنحها بعض صلاحياته ووزاراته، حسب الرغبة الروسية "شريكة النظام في قصف السوريين". وفي الآن ذاته، الراعية والضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي مهّد الطريق إلى جنيف، عبر ممر عاصمة كازاخستان أستانا.
أمام حقائق الواقع الميداني والدولي المأساوي، تبرز حقيقة واقع المعارضة بكل انعكاسات تشتّتها، وتشرذمها، وتدني إدراكها واقعها وقدراتها، ومساحة تأثيرها على قاعدة الثورة الشعبية من جهة، وعلى قرار الدول الفاعلة في الشأن السوري، من جهةٍ أخرى.
تتبلور هذه الصورة، أيضا، في التعاطي غير المسؤول مع موضوع تشكيل وفد التفاوض إلى جنيف، وتبادل الاتهامات ودفعها إلى التفاعل، بديلاً عن عقد مؤتمر جامع، يخفف حدة التناقض، ويجمع المعارضة، بمرجعية قوامها، العمل لتحقيق الانتقال السياسي المنشود، وإنهاء المأساة السورية وفق القرارات الدولية، وإيجاد آليةٍ لتنفيذ مخرجات التوافقات والتفاهمات السابقة واللاحقة لجولات جنيف التي تناسلت إلى جولاتٍ أربع، ربما تتزايد تناسبا مع تزايد أرقام ضحايا حربٍ لم تضع أوزارها بعد، على الرغم من كل التصريحات الإعلامية للقوى الدولية الضامنة والداعمة لوقف إطلاق النار، والانطلاق نحو "العملية السياسية" المصطلح الجديد الذي غاب عنه الحل، وفق التعبير المتداول سابقا "الحل السياسي".
من تنازل إلى آخر، مرت مسيرة قيادة المعارضة السورية في محاولةٍ منها التساوق مع تنازلاتٍ كثيرة، أجبر عليها النظام أيضاً، فمن رفض النظام التفاوض أساساً لحل الصراع إلى قبوله الدخول، على الرغم من محاولات التعطيل المستمرة، إلى قاعات التفاوض مرغماً طائعاً، وفي المقابل، من رفض المعارضة بداية بيان جنيف (2012)، ثم التمسّك به، ومن رفض التفاوض، أو حتى مجرد لقاء وفود روسية، ثم الانطلاق بحماسة إلى لقائها، بل واعتبارها مرجعية تفاوضية، وضامناً موثوقاً به، لتوزيع الحصص بين المعارضين في وفود المعارضة، وآخر ذلك "حجاج" موسكو، من قادة "الائتلاف" الذي واظب سابقا على اتهام المشاركين في اجتماعات موسكو بالارتهان لها. ومن الإصرار على وحدانية تمثيل المعارضة، من "الائتلاف" أو الهيئة التفاوضية العليا، في الجولات التفاوضية السابقة، ثم قبول الشراكة مع منصات أخرى، بل والانقسام على الذات، والتعامل وفق مبدأ المحاصصة والنسب (بين الائتلاف والهيئة والفصائل العسكرية)، بدلاً من اعتماد مبدأ الكفاءة والتخصص في انتقاء الوفد وفاعلية أعضائه، ما أربك الهيئة العليا نفسها، وجعلها تواجه وفد النظام المصغر بوفد "المعارضة" الموسع، متعدّد الرؤوس والتبعيات، والذي سيضاف له وفود المنصات الأخرى.
يأتي التفاوض اليوم في جنيف 4، كسابقه جنيف 3، تحت القصف، وفي ظل غياب رؤية واضحة لـ"سورية" التي تبحث عنها المعارضة التي عجزت عن إيجاد وسيلة لتسوية خلافاتها المتعارضة، قبل أن تحل خلافاتها مع النظام الذي يعتبر سورية حكراً له، مقيدا اسمها وشعبها باسم رئيسه.
إيران تحلم كثيراً وتصمم وتحاول إقناع كل من يجلس معها بأنها تحلم أحلاماً جميلة، وفي النهاية يتحول الحلم إلى كابوس. تحركات إيران مضحكة جداً لمن يتأمل خصوصاً جلوس وزير خارجيتها محمد جواد ظريف على طاولات الكبار في ما يخص الشأن السوري.
تذكرني هذه القصص بسائق العربة الذي لا يحمل رخصة قيادة، ويسير في طريق محفوف بالضياع، وقد تسبب سوء قيادته ببعض الحوادث والإضرار بالبيئة. يظن هذا الشخص أنه يحقق مكاسب هنا وهناك، ويضع ركاب العربة في حالة عداء مع أي طرف يحاول إخراجهم من هذه الفوضى.
فعلاً أرى تجولك في عواصم العالم كـ «شريك» في مفاوضات مضحكاً ومقززاً أيضاً، كونك تفعل ذلك ونصف شعبك يعيش تحت خط الفقر. على هذا الوزير الذي يظهَر بهندام التحضر والإيتيكيت ويُستقبَل بنوعٍ من الحفاوة، أن يدرك أن من يجلس معهم لن يبقوا له قوة ومكانة خارج حدود جمهوريته «الإسلامية». الوزير ظريف يتنقل من مكان إلى آخر، وكل ساسة وحكومات العالم يتحدثون علناً عن قص أجنحته وإعادته إلى مكانه، بما في ذلك روسيا التي ظنّ متوهماً أنها ستسمح له بموضع قدم في سورية. جلوسه اليوم بالطبع مرير، وهو يفعل ذلك من باب لعل وعسى أن يفرجها الله. لكن وبصرف النظر عن العالم، هل يعتقد هؤلاء المؤدلجون في إيران بأن العرب، وأقصد سورية واليمن وحتى لبنان، سيقبلون في بلادهم بسلطة تحتكم إلى إيران إلى الأبد؟ ألم يقرأوا التاريخ جيداً؟
منذ هبوط طائرة "إر فرانس" في مطار طهران وعلى متنها الخميني في الأول من شباط (فبراير) ١٩٧٩ وهذه الدولة تترنح ولا تعرف كيف ترتب أولوياتها. تريد أن تصبح دولة قوية ومركزية في المنطقة، لكنها لا تعتمد في تحقيق هذا الهدف على القوة والحكمة، ولا على النمو الاقتصادي بل على الأيديولوجيا فقط.
أخيراً لجأت إلى تطوير المفاعلات النووية بحجة حاجتها للطاقة، والعالم يراقب ذلك ويهددها إن هي اتجهت إلى التسليح النووي، ومع ذلك تصارع وتفاوض وتحاول الفرار من هذه التهديدات. قد أفهم أن يحاول بلد ما في توجه ما، لكن أن يستمر أربعة عقود فهذا إفلاس.
يا لها من سياسة خرقاء تلك التي تدفع بهؤلاء المعممين في هذه الاتجاهات المتشتتة، عوضاً عن بناء الداخل الإيراني، والاستفادة من قدرات شعبها الخلاق المبدع.
وبمناسبة الحديث عنها، وأقصد الأيديولوجيا، فقد يقبل المراقب تدخل الأيديولوجيا في السياسة من وقت إلى آخر من دولة عظمى كالولايات المتحدة أو بريطانيا كما يلوح لنا هذه الأيام، لأنها دول قوية، وأولوياتها محددة، وحققت منجزات كبرى في تاريخها. أقول ذلك للمقارنة فقط، أما الحقيقة على الأرض فإن السياسي هناك في الغرب ومهما بلغ به التطرف الأيديولوجي سيضطر إلى أن يقف عند حدود المواد الدستورية الصارمة.
لكن أن تتحكم الأيديولوجيا بدولة نامية وتنال بسببها العقوبات والحصار لأربعة عقود، فهذا هو المثير والمضحك وشر البلية ما يضحك.
على مدى هذه العقود الأربعة، فرّ من إيران معظم صفوتها من العقول، وها نحن نراهم في دول الغرب والشرق يمارسون التجارة والابتكار والإبداع، بل إن معظم هؤلاء قد حصل على جنسيات جديدة.
لا أقول إن الشعب الإيراني جبان ولا يستطيع الخلاص من هذا الحكم، لأنهم جربوا الخروج عليه قبل بضع سنوات بعد أن بلغ اليأس ذروته، لكن الرئيس أوباما تحديداً خذلهم عندما تجاهل تلك الحركة السلمية الكبرى التي وأدتها بنادق الحرس الثوري التي وجهوها إلى صدور شعبهم.
ماذا لو كان ظريف يجلس على طاولة لبحث التعاون مع دول الجوار وبناء تكتلات اقتصادية تعود على شعبه بالمنفعة. ماذا لو كانت إيران تتقدم دول المنطقة بالحصول على جوائز نوبل في الطب والسلام والثقافة. المشكلة أن مثل هذا الظريف يجلس هناك وأياديه ملطخة بدماء الشعب السوري العربي النقية. يجلس ويفاوض وزوارقه وسفنه الصغيرة تنقل الأسلحة وأدوات الموت لليمن الشقيق في مهمة عبثية يستحيل نجاحها. وقد حاول قبل ذلك تخريب البحرين، لكن الحسم السريع من دول المجلس أفشل مخططه. هل ستستوعب إيران خطأ توجهاتها؟ هل نتوقع ظهور إحصائيات وأرقام توضح حجم الفرص الضائعة التي لم تستغلها هذه الجمهورية على مدى الأربعين عاماً، وهو الزمن الذي شهد هذه النهضة العلمية العالمية الهائلة التي نعاصرها اليوم؟
الحقيقة أن للدول كل الدول، في العالم حالات تدرس في الجامعات للمختصين. هناك دول تنهض في أزمنة قصيرة جداً وتبهر العالم بنهضتها. هناك في المقابل دول تراوح مكانها ولا تشعر بالحاجة للنهوض إلا في أوقات متأخرة. إيران ليست هنا ولا هناك. الحالة الإيرانية هي وجود دولة تدار بعقول جاهلة متخلفة مليئة بالكراهية والأحقاد، لم تجد ما تمتطيه وتقمع من يفتح فاه معارضاً غير الدين. خرج «المطاوعة» هناك من سراديب التهميش في زمن الشاه، ليجدوا أنفسهم في الصفوف الأمامية. عاثوا في تلك البلاد الغنية الرائعة بطقوسها وطبيعتها وثرواتها فساداً قد يحتاج ربما إلى قرن كامل لإصلاح آثاره وعواقبه سواء المادية على الأرض أو البشرية. الخميني عاد لإيران من المنفى مع زمرته ليضع البلاد كلها في منفى جديد لا تزال تعيش به.
لقد قلناها مراراً لكل من كان يحاول إقناعنا بأن الثورة ستغير من سلوك النظام وتصرفاته وعقليته، قلنا إن النظام لن يتغير إلا للأسوأ فيما لو استتب الوضع له مرة أخرى. لقد حاول البعض الضحك علينا بالقول: صالحوا النظام، فلن يعود كما كان، لأن الأحداث غيرت عقليته، وستغير طريقته في الحكم. لكننا كنا نقول: أنتم مخطئون تماماً. وها هي الأيام تثبت صحة كلامنا. فقط أنظروا إلى منطقة الساحل السوري معقل النظام الأول. لقد بات حتى المؤيدون يترحمون على أيام النظام الخوالي قبل الثورة. لقد عاد الخوف والإرهاب مضاعفاً عشرات المرات حتى إلى مناطق النظام التي ساندته ووقفت معه، وقدمت عشرات الألوف من شبابها في حربه المجنونة على الشعب السوري، ومع ذلك فقد باتت مناطق النظام تشعر بالرعب من جديد بعد التدخل الروسي في سوريا، بعد أن استعاد النظام أنفاسه قليلاً. فكيف سيتصرف إذاً عندما يعود ويمسك بمفاصل السلطة الأمنية والعسكرية بشكل كامل لا سمح الله؟ لا شك أنه سيجعل كل السوريين يترحمون على الأيام الخوالي بالتأكيد. إعادة التمثال باختصار هو مثال بسيط على ما يحضره النظام لسوريا في حال انتصاره.
رجعت حليمة لعادتها القديمة والنظام يلعق جراحه: تخيلوا ماذا سيفعل إذا استعاد قوته، وماذا سيحدث للشعب الذي ثار عليه. لقد بات حتى سكان المناطق المؤيدة في الساحل السوري مسبقاً يشتكون همساً من وحشية الشبيحة الذين سلطهم النظام حتى على مناطق مؤيديه. ولطاما وصلتني رسائل كثيرة من بعض المعارف في الساحل السوري وهي تقول: تعالوا وشوفوا كيف عاد النظام أشرس وأعتى وأحقر بعشرات المرات مما كان عليه قبل الثورة. عاد لينتقم ويتنمر ويستأسد وينكل، لا بل عاد ليتفنن بالدوس على الرقاب وتأديب العباد في اللاذقية فما بالك في غيرها.
وكي يؤكد على أنه لم يندم قيد شعرة على ما فعله بالسوريين على مدى ست سنوات، ها هي مخابرات الأسد تستفز السوريين جميعاً، وتعيد تمثال حافظ الأسد إلى قلب مدينة حماة بعد أن اضطرت إلى سحبه خوفاً من هجمات المتظاهرين قبل حوالي ست سنوات. لا تقللوا من خطورة هذه الخطوة ورمزيتها، فهي رسالة صارخة من النظام إلى السوريين الحالمين بالتغيير والإصلاح بأن يسنوا أحلامهم بفتح صفحة جديدة، بل عليهم أن ينتظروا فقط البسطار المخابراتي والعسكري.
لاحظوا أنهم أعادوا تماثيل حافظ الأسد إلى حماة وليس أي تمثال آخر، وكأنهم يقولون للشعب السوري إنكم ستترحمون حتى على فترة بشار الأسد قبل الثورة التي اتسمت بقليل من الانفتاح، وستعودون إلى فترة حافظ الأسد الوحشية بكل تفاصيلها رغماً عن أنوفكم.
لا تنسوا أنهم أعادوا التمثال في ذكرى مجزرة حماة، وكأنهم يذكرون أهل المدينة والشعب السوري عموماً بأننا لن نتغير. إنه تحد صارخ لكل من رفع صوته ضد النظام، وطالب بقليل من أوكسجين الحرية. إنها صفعة قوية لأهل حماة الذين يحبون حافظ كما يحب البشر مرض السرطان، مع ذلك أعاد بشار الأسد تمثال أبيه إلى المدينة كرسالة استفزاز وإذلال لأهل المدينة وبقية المدن السورية المحروقة. لقد أراد نظام الأسد أن يقول للسوريين: لا بأس أن أبيع سوريا مقابل أن أبقى جاثماً على صدوركم. ويقول أحدهم ساخراً: هل تعلم أن أغلى تمثال في العالم هو تمثال حافظ الأسد الضخم في حماة حيث دفع بشار ثمن إعادته مدينتين تاريخيتين هما حلب للروس ودمشق للإيرانيين.
لاحظوا أن النظام أكثر اهتماماً بإعادة تأكيد سطوته وفاشيته على السوريين من الاهتمام بعذابات حتى المناطق المؤيدة، فقد تزامن الاحتفال بعودة التمثال مع أزمات معيشية خانقة في الساحل السوري حيث تطالب الناس هناك بليتر بنزين أو مازوت وساعة كهرباء وحبة دواء، لكن بدلاً من تلبية أبسط حاجيات مؤيديه، قام بشار الأسد بإعادة تمثال والده إلى حماة، مما جعل البعض يقول للمؤيدين ساخراً: «خلي تمثال حافظ الأسد يعيد لكم الكهرباء، ويؤمن لكم البنزين والمازوت والخبز». رئيس مهتم بإعادة تماثيل الحجارة لسوريا، ولا يكترث بملايين المهجرين لا بل يحرض عليهم، ماذا تتوقعون منه في مقبل الأيام؟
البعض لم يعط أهمية كبيرة لإعادة التمثال، فهي، برأيهم، ليست إلا حركة ضمن إطار الحرب النفسية ضد المعارضة لرفع معنويات الشبيحة والممانعجية الذين يذوقون ويلات حرمان جميع أشكال متطلبات الحياة في مناطق الداخل التي تقع تحت سيطرة عميل روسيا بشار …وهي حركة سخيفة تشبه على سبيل المثال لا الحصر خطاب النصر المعهود للنظام ونظرية «خلصت» بعد السيطرة على أي ضيعة أو مدينة. إن إعادة التمثال ما هي إلا إنصاف لثوار حماة الأبطال الذين حُرموا من فرحة التبول على هذا الصنم بعد إزالته. وها قد أعاده الوريث القاصر لهم…. وإن غدا لناظره لقريب، كما يتفاءل البعض.
ل
كن البعض الآخر يقول: أيها السوريون: النظام يريد أن يقول لكم: سننتقم من كل من كتب كلمة ضدنا على مدى سنوات الثورة، وستعودون جميعاً إلى زريبة القائد الخالد الذي يتحداكم بعودة تمثاله الآن إلى حماة ولاحقاً إلى كل المناطق السورية التي حطمت التماثيل. هكذا يفكر النظام وهو منهار ويلعق جراحه، فكيف سيتصرف إذا استعاد كامل عافيته الأمنية والعسكرية؟ لا تتوقعوا أي خير أيها السوريون، فعودة التمثال رسالة واضحة لكم جميعاً، وما عليكم إذا أردتم أن تنتزعوا حريتكم إلا أن تدوسوا التمثال مرة أخرى، وأن تعملوا جاهدين على منع بقية التماثيل من العودة إلى بقية الساحات والميادين السورية.
لا يفل الحديد إلا الحديد!
قبل عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، عرفت بلاد الشام نشوء القرى الأولى في التاريخ، بحسب عالم الآثار الفرنسي جاك كوفان، حيث أورد ذلك في كتابه المهم «القرى الأولى في بلاد الشام»، الذي نقله إلى العربية وقدم له المفكر الراحل إلياس مرقص.
مع نشوء تلك القرى الأولى بين الألف العاشر والألف السابع قبل الميلاد، أي قبل حضارات أوغاريت وماري وإيبلا والحضارات النهرية، أنشئت «عتبة التاريخ البشري»، أو «مقدمة التاريخ»، وتحضير الإنسان للانتقال من وضعيته كابن للطبيعة ليصير ابناً للتاريخ، وفعلاً انتقل الإنسان مع «قرانا الأولى» من كهف إلى بيت، ومن حالة إنسان القطف والصيد والقنص والافتراس إلى إنسان العمل في الزراعة وتربية الحيوانات، وبذلك وضع المداميك الأولى لانطلاق بروميثيوسيته في أنسنة الطبيعة والسيطرة عليها، وانطلقت المسيرة البشرية المعقّدة نحو الاجتماع والتحضر والمدنية وبناء الممالك والأوطان.
ومثلما كانت القرى الأولى في بلاد الشام، كما يقول كوفان، مرحلةً «كف فيها الإنسان عن كونه نوعاً قانصاً بين أنواع أخرى، واستولى آنذاك على دوره النوعي كبستاني للعالم»، رمزاً لتحول تاريخي ضخم ونوعي، فإن المسالخ البشرية المستمرة في سورية منذ ست سنوات، والتي كان مسلخ صيدنايا نسختها الأخيرة، تمثل رمزاً لعملية تحول تاريخي معاكسة، محتواها النكوص إلى «إنسان» التخريب والنهب والقتل، الذي تمثله الكائنات الميليشياوية، وقد أصبحت سمة من سمات الواقع السوري. فالكائن الميليشياوي هو «إنسان» القتل والنهب والتخريب مدفوعاً إلى حدوده القصوى.
كما أن ردود أفعال العالم المتحضر الباهتة على مسالخ سورية البشرية، وعجز المجتمع الدولي عن إيقاف تلك المقتلة غير المسبوقة، وترافق ذلك مع صعود الحركات اليمينية والشعبوية في أوروبا وأميركا، وضمور البعد الإنسي لـ «المواطن العالمي»، وفقدان الحساسية العالمية تجاه القتل، تزيد من رمزية الكارثة السورية ودلالاتها الكونية على هذا النكوص العالمي الخطير.
بكلام آخر، إن المسالخ البشرية السورية المترافقة مع القضاء على العمران والاقتصاد والاجتماع البشري، ومع الحضور الكثيف للقوى الدولية والإقليمية في الصراعات الدائرة على الجغرافيا السورية، وارتباطها بالكائنات الميليشياوية المتناسلة من أرحام المنظومات الاستبدادية الظلامية كالدولة السلطانية المحدثة والخمينية والتنظيمات القاعدية، وتزامنها مع إمساك حكام الهويّات ولوبيات المال والسلاح والنفط بمصائر البشر، وتزامنها، كذلك، مع تقاطع ظواهر ما بعد الحداثة وما قبلها في عالمنا الحالي، تجعل روح «القرى الأولى في بلاد الشام» مسألة راهنة، بوصفها روحاً موجهة ضد «إنسان» التخريب، الذي ينمو بقوة في عالمنا المعاصر.
ولم يعد خافياً أن قضية القضايا، في عالم يمسك بمفاتيح أسلحته النووية كل من ترامب وبوتين وحفيد كيم إيل سونغ، ويحاول خامنئي الإمساك ببعضها، هي بناء الإنسان كمفهوم كلي غير مستنفد في «قطعان» الهويّة. وفي الطريق الطويل إلى ذلك الهدف، لا بد من إعادة الربط والفصل انطلاقاً من بلاد الشام، ما بين الخط الذي يصل القرى الأولى فيها بديكارت وجان جاك روسو وفولتير وكانط، وبين الخط الذي يصل بين الهمجيات البدائية، التي سادت في مرحلة ما قبل التاريخ ومسلخ صيدنايا.
تكثر في زماننا الصراعات، وتشتد المحن، وتزداد التيارات الفكرية المختلفة تضارباً وتشعباً، في خضم المجهول بل في زمن الضياع.
علت منذ عقود أصوات الغلاة في عموم البلاد، وبخاصة تلك التي تشهد ثورات أو صراعات داخلية، والدول المحيطة بها، واشتعلت الخطب على المنابر أو في وسائل التواصل تدعو وتدرس الغلو باسم الحقيقة، والطريق الوحيد لخلاص الأمة المتعبة، وتقتص لنفسها نصوصاً من القرآن والسنة -كدليل على ما تقول وتعتقد- منهم على سبيل المثال أبو محمد المقدسي (المقيم في الأردن) وأبو قتادة الفلسطيني.
البعض الآخر ذهب لأبعد من ذلك، فشرع في التدريب وتنظيم الأتباع والمريدين مثل أبو القعقاع محمود قول أغاسي من مواليد 1973، والذي انطلق عام 2001 م، مع اشتعال الانتفاضة الفلسطينية، حيث ألهبت خطبه الحماسية نفوس رواد مسجد العلاء بحي الصاخور في حلب قبل أن يقتل بتهمة التنسيق مع المخابرات السورية.
وفي المعسكر المقابل انتبه البعض لهذا الخطر الكبير كالمسعري وحامد العلي وأبو يزن الشامي، مع جمهور علماء الشام وغيرهم، فكتبوا ووثقوا آرائهم في أحداث العراق والشام وغيرها.
لكن الكم الهائل من الإصدارات والتسجيلات والأفلام ذات الدقة العالية، والإخراج الإبداعي، التي ألقت الضوء على بطولات الشباب المنضوية في معسكر التشدد, أصمت الأسماع عن خطاب هؤلاء الكتاب، وجعلتهم في خانة الشك والعمالة, واتهموا في دينهم.
لم يستطع هؤلاء الوقوف في وجه الشارع العربي والإسلامي المتحمس، والباحث عن انتصار إسلامي في ركام الحروب الحديثة، ورغم أن الدول المسلمة تعاني من تلك الحروب وتخسر فيها مواردها وشبابها، إلا أن الإسلام يخرق كل الجدر، ويتسلل إلى قلوب الملايين في تلك الدول القوية المعادية له، في ذروة الضعف التي يعاني منها المسلمون حول العالم.
تطفو على السطح عدة دراسات غربية, وعلى رأسها دراسات رند الأمريكية التي تعود نشأتها إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا عام 1946، التي تأسست بإشراف سلاح الجو الأمريكي تحت اسم معهد راند ” RAND Institute.
وقد كتبت عن تقسيم العالم الإسلامي بداية إلى ثلاث فرق (المعتدلة والسلفية والراديكالية)، وأكدت أنه من الصعب الوقوف في وجه الإسلام والصدام معه مباشرة، فعمدت لخلق التناقض في بيته الداخلي تمهيداً للصراع.
أصدرت تلك المنظمة كتابا بعنوان “مواجهة الإرهاب الجديد” عام 1999م، وقد أعده مجموعة من الخبراء الأمريكيين،
ثم جاء تقرير راند عام 2004م بعنوان “العالم الإسلامي بعد الحـــادي عشر من سبتمبر، وقد مثل خطة محكمة لتوجيه الإدارة الأمريكية نحو التعامل مع العالم الإسلامي بذكاء وحذر.
ثم جاء تقريـــر عـــام 2005م “الإســـلام المـــدني الديمقراطي: الشركـــاء والمــــوارد والاستراتيجيات” وقد وصفت الإسلام بالحائط المنيع أمام محاولات التغيير، فقسمت فيه المسلمين إلى أربع أقسام (أصوليين وتقليديين وحداثيين وعلمانيين) ليسهل التعامل معهم فيما بعد وتوجيه الدعم وفق المعطيات والخطط المعدة لهم.
أكدت تلك الدراسات على إبادة الأصوليين عن طريق دعم معسكر التقليديين ببث التشكيك وتهم الخيانة بينهم، وعدم السماح لقيام أي تحالف بينهم، لأنهم سيشكلون معاً قوة لا تقاوم ولتدارك الأمر لابد من التحريش بينهم.
ثم ذهبت لتتكلم عن دعم الصوفية والشيعة لتشويه الإسلام، وتسلط الضوء على البدع والضلال التي يحرفون بها دينهم.
كل ذلك لإيصال رسالة للناس عامة, والمسلمين خاصة، تتحدث عن فشل الإسلاميين في حكم دولهم، وهشاشة نظرياتهم.
كما نوهت إلى دعم الصحفيين لتوثيق انتهاكاتهم وعملياتهم الإرهابية، وذلك في البحث عن جميع المعلومات بكافة الوسائل لتشويه سمعتهم، كما تسلط الضوء على نفاقهم وسوء أدبهم وقلّة إيمانهم، للتقليل من احترامهم وعدم السماح لهم بالظهور كأبطال وإنما كجبناء وقتلة ومجرمين،
فيسهل الطعن بهم ولا يسمح لأحد بالتعاطف معهم أو مساعدتهم.
وبعد هذا التقسيم تأتي مرحلة أخرى تعمل على ضرب المعسكرات ببعضها البعض، كما حدث في سوريا والعراق وليسقط الآلاف من القتلى في الحروب فيما ببينهم دون أن يخسر الغرب أي شيء.
ليس من الواضح على وجه التحديد متى، أو ما إذا كانت، سوف تنعقد الجولة المقبلة من «محادثات السلام» حول سوريا. وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك أمرًا واحدًا واضحًا بالفعل: المزيد والمزيد من الأطراف الضالعة في الصراع السوري يشير إلى إشارات الاستعداد المستمر لمعالجة الأسباب الأساسية لما بات يوصَف بأنه أكبر كارثة ومأساة إنسانية في القرن الجديد. ومن دون شك، فإن أحد تلك الأسباب هو السقوط السريع لإيمان وثقة الشعب السوري في نظام حكمهم، الذي أحكم قبضته على مقاليد البلاد منذ عام 1970. ولا يعني هذا أن الشعب السوري يحب نظام حكم آل الأسد، سواء كان في أحسن أو أسوأ أحواله عبر السنين الماضية.
بل إن ما يعنيه ذلك هو أن كثيرًا من السوريين، وربما السواد الأعظم منهم، كانوا على استعداد لتحمل النظام الحاكم بالطريقة نفسها التي يتحمل بها المرء سوء الأحوال الجوية. وأولئك الذين زاروا الأراضي السورية إبان عهد حافظ الأسد ثم نجله بشار، لاحظوا حالة من المشاعر السائدة التي يطلق عليها الفرنسيون اسم «desamour»، وهو مصطلح يعني شعور «اللامحبة»، الذي، في وقت من الأوقات، يؤدي إلى الكراهية العميقة.
وبالتالي، فإن هناك إجماعًا للآراء بات يتشكل، حتى في تلك الأماكن غير المتوقعة، مثل موسكو، وطهران، على أن مغادرة الرئيس بشار الأسد للسلطة لا بد منها، عند مرحلة ما، وأن تُعتَبَر من الأمور الحتمية التي لا محيص عنها.
قبل عام من الآن، اعتبرت كل من موسكو وطهران مغادرة الأسد للسلطة أمرًا غير قابل للنقاش والتفاوض. وفي هذا الوقت، أصرَّت الديمقراطيات الغربية، باستثناء عجيب من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما، على أنه شرط لا غنى عنه بالنسبة للوصول إلى التسوية السلمية. ومنذ ذلك الحين، عدّل كل طرف من الأطراف المعنية بالصراع السوري من مواقفه.
لم تعد موسكو وطهران ترفضان الحديث عن التقاعد النهائي لبشار الأسد. وعلى النقيض من ذلك، فإن لندن، والآن واشنطن، في عهد الإدارة الأميركية الجديدة، قد أرسلتا بإشارات تفيد بأنه لم تعد هناك مطالبة مباشرة بضرورة تنحي الأسد عن السلطة باعتباره شرطًا من الشروط المسبقة لتحقيق التسوية السلمية للصراع في سوريا.
الخروج الهادئ لبشار الأسد من معادلة الصراع السوري يلقى عددًا من الصعوبات القائمة. أولها طول الفترة الانتقالية المؤدية إلى خروجه التام من السلطة في البلاد. لرغبة الأسد في البقاء على رأس الحكم في سوريا حتى نهاية ولايته الرئاسية الحالية، مما يعني بقاءه في دمشق لخمس سنوات أخرى على أدنى تقدير.
وتصر القوى الغربية، على الرغم من ذلك، على ألا تتجاوز المرحلة الانتقالية 12 إلى 18 شهرًا على الأكثر.
ومن الأنباء اللطيفة أن وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون قد اقترح أنه، مع نهاية المرحلة الانتقالية، قد يُسمح لبشار الأسد بفرصة ترشيح نفسه لإعادة انتخابه رئيسًا للبلاد. وقد يبدو مقترح السيد جونسون من قبيل «ذهب الحمقى»، بسبب أنه من غير المرجح أن تسنح أية فرصة لبشار الأسد في أي انتخابات لا يشرف بنفسه عليها. ومع ذلك، فإن لفتة كهذه من شأنها تجسير الفجوة ما بين القوى الغربية والمعسكر الموالي لبشار الأسد بقيادة روسيا.
وطول المرحلة الانتقالية، مع ذلك، ليس المشكلة الوحيدة؛ فإن الأسد ومن يدعمونه ما زالوا في حاجة إلى تسوية تلك المشكلة الشائكة المتعلقة بأين، ولأي فترة، سوف يمضي الحاكم السوري المخلوع، وحاشيته، الفترة المتبقية من حياتهم. وإذا كانت المعلومات التي بحوزتنا صحيحة، فلم تعرب طهران أو موسكو عن رغبتهما في استضافة الحاشية التي سوف تكون محل جذب للعمليات الانتقامية الأكيدة من جانب أولئك الذين عانوا وبشكل رهيب من نظام حكم الأسد في السنوات الأخيرة. كذلك، فإن العثور على الدولة المضيفة التي لا بد أن تضمن سلامة الأسد وحاشيته ليس بالمهمة السهلة اليسيرة.
أما المسألة الأكثر تعقيدًا من ذلك، فتتعلق بضمان أن الأسد يريد الحصانة ضد الملاحقات القضائية المتعلقة بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وتكمن المشكلة في أن الطريقة التي تطور بها القانون الدولي فيما يخص جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية عبر العقود الثلاثة الماضية، تجعل من مثل هذه الاحتمالات أمرًا بعيدًا عن التصور والمنال.
لمدة قرن من الزمان تقريبًا، حمى مبدأ الحصانة السيادية كثيرًا من الحكومات والزعماء ضد الاتهامات بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وعلى الرغم من تآكل هذا المبدأ إبان محاكمات قادة الحزب النازي في نورمبرغ، لم يصمد ذلك المبدأ كثيرًا حتى حلول عقد التسعينات. وكان هناك إجماع للآراء على أن العدالة لا بد أن تُطبق، حتى في الدعاوى المدنية المتعلقة بالحصول على التعويضات المالية و/ أو إعادة الممتلكات المصادرة على نحو غير قانوني، في حين تجعل من المستحيل تقديم المسؤولين الحكوميين للمحاكمة القضائية.
وهناك تطور مهم آخر ألا وهو اختفاء «الإسقاط بالتقادم» كمبدأ من مبادئ القانون. وبالتالي، وبصرف النظر تمامًا عن طول فترة حياته، سوف يظل بشار الأسد هدفًا محتملاً طيلة معيشته لمواجهة المحاكمة على ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ولقد تأسس هذا المبدأ بصورته الأكثر دراماتيكية من خلال قضية تشارلز تايلور، رئيس ليبيريا الأسبق، الذي كان ضالعًا في ارتكاب جرائم الحرب في سيراليون، وقضايا الزعماء الصرب سلوبودان ميلوسيفيتش، ورادوفان كراديتش، وراتكو ميلاديتش.
وعلى الرغم من الضمانات غير الرسمية التي أعربت عنها فرنسا إلى جانب عدد من حلفائها الأفارقة، وعدد من الزعماء الأفارقة السابقين، ومن بينهم الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري، فإنها جميعها تصب في التصنيف نفسه.
كما أن هناك تغييرًا آخر يتعلق بتطورات مقاربة جديدة حيال قواعد الإثبات.
ففي بعض الحالات، على سبيل المثال محاكمة زعماء الخمير الحمر في كمبوديا، فإن الأدلة التي طُرِحت أمام المحكمة المتعلقة بجرائم الحرب المرتكبة كانت تتألف كلها تقريبًا من شهادات الأفراد الضحايا أو الناجين من الحرب، وكانت بالتالي عرضة للمزيد من التحقق والاستجواب.
وبين عامي 2012 و2013، كان هناك مشروع خاص عمل عليه ذلك المكتب فيما يتعلق بالصراع في سوريا، وجمع من خلاله كمًا هائلاً من الأدلة حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها بشار الأسد ونظامه. وفي إشارة على حسن النية نحو جمهورية إيران الإسلامية، أغلق الرئيس أوباما ذلك المشروع في عام 2013، ونقل ميزانيته إلى مشروع آخر. وعلى الرغم من ذلك، فإن الأدلة المتجمعة لدى المكتب سليمة تمامًا، ويُمكن استخدامها في أية قضايا محتملة ضد الأسد ونظامه وحاشيته.
وعملت دول أخرى، بما في ذلك الدنمارك وألمانيا، من ناحيتها، على جمع الأدلة المتعلقة بسوريا، وكان ذلك في بعض الأحيان يتم بالتعاون مع اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا. ووجهت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الاتهامات علنًا لقوات الأسد بارتكاب «الجرائم ضد الإنسانية»، التي لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها.
وقالت المستشارة الألمانية في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2016 في برلين: «إن استخدام البراميل المتفجرة والقنابل الحارقة، وحتى الأسلحة الكيميائية، لن يتم التغاضي عنه أو تجاهله. لقد تعرض السكان المدنيون إلى عمليات تجويع ممنهجة، وتعرضت المؤسسات الطبية للهجوم، وتعرض الأطباء للقتل، وتعرضت المستشفيات للتدمير»، حيث أضافت أنه حتى القوافل التابعة لمنظمة الأمم المتحدة لم تسلم من القصف والدمار.
من جانبها، نشرت اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا عددًا من التقارير، كان آخرها متعلقًا بالمذابح المنظمة للمعتقلين في السجون السورية التي يشرف عليها نظام بشار الأسد. وذكرت التقارير الصادرة عن اللجنة أن الآلاف من المعتقلين الذين كانوا قيد الاعتقال لدى الحكومة السورية قد تعرضوا للتعذيب الشديد أو القتل جراء التعذيب.
وصرح باولو بينيرو، رئيس اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا قائلاً: «تعرض كل معتقل تقريبًا من الباقين على قيد الحياة إلى التعذيب والانتهاكات التي لا يمكن تصورها»، مشيرًا إلى أن أولئك المعتقلين لدى الحكومة السورية يمكن وصفهم بأنهم «بعيدون عن الأنظار ولا يعلم بأمرهم أحد: الموت المحقق في الجمهورية العربية السورية».
أخيرا وليس آخرًا، هناك العشرات من المنظمات غير الحكومية والآلاف من الناشطين في مجال حقوق الإنسان، وكثير من المواطنين السوريين، كانوا يعملون على جمع الأدلة ويوثقونها عبر السنوات الماضية.
لم يواجه أي حاكم آخر عبر التاريخ هذا الكمّ الهائل من الأدلة التي تشير إلى دوره المباشر في المأساة. وليس السؤال ما إذا كانت تلك الأدلة سوف تؤيد قضيتها القائمة، وإنما السؤال هو: متى سوف يتحقق ذلك؟
حينما سلّمت واشنطن الشهر الماضي، وللمرة الأولى، عشر عربات مدرعة من نوع «إس يو في» إلى «قوات سورية الديموقراطية»، ثار جدلٌ حول الخطوة الأميركية: قيل إن هذا القرار اتُخذ في إدارة الرئيس باراك أوباما، و«ليس بناءً على إذن جديد من إدارة الرئيس دونالد ترامب»، كما قال بيان للبيت الأبيض. وقد علّقتْ القيادات الكردية على ذلك بالقول إن ترامب، الذي استعجل إلغاء «أوباما كير» منذ الساعات الأولى لحلوله في البيت الأبيض رئيساً، كان أيضاً قادراً على إلغاء قرار دعم الأكراد، لكنه لم يفعل، ما يعني دعمه الضمني للقرار. مع ذلك فالجواب الكردي لا يستطيع نفي ما حمله بيان البيت الأبيض من «تحوّط».
والسؤال اليوم: هل ستدعم إدارة ترمب الأكراد مثلما استثمرت فيهم إدارة أوباما؟ الجواب الأرجح هو نعم، حتى لو كان ذلك على غير رغبة من الأتراك. لكن هذا الدعم، ومراعاةً لهواجس أنقرة، على وجه الخصوص، لن يجعل الأكراد اللاعب الأهم الذي سيحرر الرقة، وقد كانت فكرة «قوات النخبة» العربية التي يقودها أحمد الجربا أداة عملية على الأرض لتخفيف الهواجس التركية وإدارة التوازنات المعقدة. اتفاق الجربا مع الأميركيين، والروس أيضاً، على أن تملأ الفراغ بعد طرد «داعش» من الرقة قواتٌ في غالبيتها عربية، وبدعم إقليمي ودولي لا تُستثنى منه تركيا.
المشهد اليوم يقول إنّ القضاء على عاصمة الخلافة للتنظيم الإرهابي لن يكون حدثاً عابراً، وسيرسم الأقوياءُ خطوطه وتفاصيله، ومن هنا فإن الدعم المطلوب لمعركة الرقة سيعني أنها معركة توافقات دولية وإقليمية في شأن أمرين: الأطراف التي ستخوض التحرير وإدارة توازنات ما بعد التحرير بين الفاعلين المحليين والإقليميين وحلفائهم الدوليين.
والأغلب أنّ «قوات النخبة» و «القوات الكردية» لن تتمكنا وحدهما من حسم المعركة في الرقة، التي سيكون النظام وإيران و «حزب الله» و «الحشد الشعبي» الأكثر استبعاداً من المشاركة فيها، أو الأقل مشاركة، وهو ما تعيه موسكو حيث تداركت الموقف المحتدم في منطقة الباب برسم خطوطٍ لمنع الاشتباك «غير المحسوب» بين قوات النظام و «حزب الله» من جهة و»الجيش الحر» المدعوم من أنقرة من جهة ثانية.
المسؤول اليوم عن ملفات سورية والعراق وإيران في مجلس الأمن القومي في إدارة ترامب هو العقيد المتقاعد جويل رايبرن، المعروف بمواقفه الوسطية حيال قضايا الشرق الأوسط. ورايبرن، الذي سبق أنْ خدم في العراق زمن حكومة نوري المالكي، كان من أشد الداعمين للتحالف الأميركي مع عشائر الأنبار، لتشكيل «الصحوات» للقضاء على «القاعدة» قبل نحو عشر سنوات.
ولنا أنْ نسأل ونرصد ونترقب إلى أيّ حدّ يمكن أنْ يستلهم رايبرن تلك التجربة مجدداً في سورية، ويقنع إدارته بجدوى استحضارها في الرقة تحديداً؟
حسناً فعلت “جبهة النصرة” أو“فتح الشام” أو “تحرير الشام” ، بالتوصل أخيراً إلى اتفاق يودي بـ”الغلاة” إلى أصلهم ، و تأمين العبور الآمن و السليم لهم ، بعد أن يتخلوا عن سلاحهم الثقيل من دبابات و ناقلات جند و مضادات الطيران و ما إلى ذلك ، مقابل فاتورة متوسطة القيمة لا تتجاوز الـ ٤٠٠ قتيل .
لاشك أن من مميزات اقتتال “الأسرة الواحدة” ، رغم أنه عنيف جداً و دموي ، هو وجود المُصلحين و القضاة و الشرعيين ، و عروض من المناظرات و المباهلات ، مع غياب المرجّح ، فالشرعي أو القاضي هنا ، لا يبحث في أمور جوهرية أم عقائدية ، و إنما ببعض الشكليات و الأسماء ، و أحقيتها بممارسة القتل بالعلن أو بالسر ، فلا خلاف في أصل القتل و مبرراته ، و إنما القضية ترتكز على "هل نعلن هذا و نتبنى أم نمارس دور الصامتين" .
يبرر محبو “جبهة النصرة” أو “فتح الشام” أو “تحرير الشام” ، الاتفاق التاريخي مع “لواء الأقصى” ، بأنه أنقذ الساحة “الشامية” من فتنة عظيمة ستودي بحياة الآلاف ، و قد نجحت “جبهة النصرة” أو “فتح الشام” أو “تحرير الشام” ، من جديد في إعادة الحياة لـ”الجهاد الشامي” ، وقطع دابر معطليه من المؤتمرين و المفاوضين الذي وجب اجتثاثهم ، و القتلة و المكفرين الذين وجب تحييدهم ، وإسكاتهم .
لا فرق بين الاجتثاث “الفج” و التعامي “الوقح” في حالتي لواء الأقصى و فصائل الجيش الحر الـ ١٦ الذين تم انهاؤهم ، إلا في قضية العقيدة و الأخوة ، وهذا ما يميز عناقيد القاعدة عن غيرها من الفصائل المنضوية تحت “الجيش الحر” ، ففي القاعدة يفزعون لبعضهم البعض و يطبقون منطوق الحديث الشريف “انصر أخاك ظالماً أو مظلوما” ، في حين أن فصائل الجيش الحر تبرع في “اصمت عن قتل شريك لو كنت أن التالي بعده” .
كل قرارات الأمم المتحدة حول القضية السورية أكدت أن السوريين وحدهم هم من يقررون مستقبل بلدهم ويختارون الحل الذي يريدونه لمحنتهم، ولكن مجريات ما يحدث تؤكد أن السوريين على رغم كل ما دفعوه ثمناً باهظاً للحرية، اغتصبت حريتهم في اتخاذ أي قرار حول مستقبلهم، فإسرائيل هي التي ترسم الخطة، وروسيا تتحرك في الفضاء، والولايات المتحدة في الخفاء، وإيران تعيث في الأرض فساداً، والأمة العربية المنكوبة تتفرج على الخطر القادم معصوبة العينين غارقة في مستنقعات دماء أبنائها. وأما أوروبا التي تدفق إليها المهاجرون واللاجئون فقد باتت محاصرة بين جنون العظمة والتوسع الروسي، وبين اضطراب السياسة الأميركية التي شعرت بأنها فقدت مكانها القيادي للعالم في عهد أوباما، وبين خطر انهيار الاتحاد الأوروبي كله، وكانت بريطانيا أول من غادره.
وأما النظام السوري الذي تحصن ضد ثورة شعبه كي لا يفقد كرسي الحكم، فقد فضل أن يسلم كرسي حكم سوريا لروسيا وإيران على أن يلبي مطالب الشعب في الحرية والكرامة. وأما الثوار الذين تعرضوا للمذابح والإبادة والتدمير والتهجير فقد وجدوا أنفسهم محاصرين من كل حدب وصوب، وصار همهم إنقاذ ما تبقى من سوريا وليس تحقيق الأهداف التي خرجوا من أجلها، وباتت المعارضة السياسية الوطنية تتعلق ببيان جنيف لعام 2012، وبالقرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن، فلا تلقى استجابة حتى من روسيا التي صاغت هذه القرارات التي قبلت بها الثورة حين تداعت عليها الأمم.
وقد تمكنت روسيا من أن تقبض على الملف السوري، وأن تتحكم وحدها بمصير السوريين، وهي تقول لهم «لسنا متمسكين بالأسد، ولكن لا يوجد له بديل»! وتصر أطراف على أن يكون الهدف الوحيد الذي تحققه الثورة السورية هو تجديد البيعة للأسد إلى الأبد، وتفكيك سوريا اجتماعياً وعرقياً ودينياً، وتحويلها إلى كيانات مبنية على الأحقاد التي ستتوارثها الأجيال، وهي تعلم أن بقاء الأسد حاكماً يعني بقاء السوريين المهجرين والنازحين مشردين خارج وطنهم، فلن يجرؤ أحد منهم على العودة لأنه يعلم أن المصالحات الوهمية لن توفر له أماناً.
ولقد فوجئت بتصريحات دي مستورا الأخيرة التي تحدث فيها عن خطته لبحث قضية الدستور والانتخابات في جولة المفاوضات المقبلة في جنيف، مستبعداً الحديث عن الانتقال السياسي الذي هو جوهر القضية، وهو بذلك يلبي إرادة روسيا التي فصّلت دستوراً للسوريين نيابة عنهم، وتريد أن تفرض الأسد عليهم بفخ الانتخابات وهي تعلم أن الأسد سيكون الفائز الوحيد، فلا أحد في الداخل السوري يجرؤ على منافسته وهو يملك كل القوى العسكرية والأمنية وتسنده قوى روسيا وإيران والميليشيات في الداخل! ولو اجتمعت قوى الأرض كلها لتجعل الانتخابات نزيهة وشفافة، فالسوري المحاصر في الداخل يعرف شمس بلاده، كما يقال. وأما السوريون المشردون في الخارج، وقد باتوا مبعثرين في شتات الأرض، فسيكون من الصعب ضمان مشاركتهم في الانتخابات، وأما المعارضة فلن تتمكن مهما توحدت قواها أن تجتمع على مرشح واحد منافس، ولا يستطيع أحد أن يمنع المئات من عشاق الشهرة والظهور من أن يرشحوا أنفسهم، وبهذا تضيع أصوات المعارضة، وهذا ما تراهن عليه روسيا في فخ الانتخابات.
وأما بحث موضوع الدستور قبل الوصول إلى رؤية الحل السياسي، فسيكون مثل اختلاف رجل وامرأة حول تسمية طفلهما القادم قبل أن يتفقا على الزواج.
لقد أعلنا في الرؤية التي قدمتها الهيئة العليا للمفاوضات أن هيئة الحكم بعد الانتقال السياسي تضع إعلاناً دستورياً مؤقتاً، وبعد انتخاب هيئة تأسيسية من مؤتمر وطني عام يتم وضع مسودة دستور، ولم يكن للشعب اعتراض على الدستور السوري سوى في بضع مواد كانت تضع السلطة كلها بيد (الحزب القائد) وتحصر الترشيح لرئاسة الجمهورية في قيادة الحزب، أما بقية مواد الدستور فلم يكن عليها اعتراض شعبي على الغالب.
ولكم تمنيت لو أن النظام يجعل إنقاذ سوريا أولاً، ولاسيما أن المعارضة تقبل بالتشاركية الكاملة معه في بناء مستقبل سوريا، وهي لا تختلف مع النظام (نظرياً) في ثوابت الدستور التي تحافظ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً ونسيجاً اجتماعياً يعتمد المواطنة ركيزة العقد الاجتماعي، فالثورة الشعبية السورية لم تقم لبناء دولة دينية، وهذا التكاثر في تنظيمات التطرف كان هدفه التغطية والتعمية على مطالب الشعب. ولكي نصل إلى اللحظة الراهنة التي يخير فيها الشعب السوري والعالم معه، بين الأسد والإرهاب، وقد كُلف تنظيم «داعش» وأمثاله بتصفية «الجيش الحر»، وبإرهاب الشعب وبقتل أهل السُّنة بخاصة بتهمة الردة، وتم تهجير الأكثرية السكانية، ولا يخفى على أحد أن «داعش» تنظيم مخابراتي عالمي، ومهمته ستنتهي حين يعلن النظام انتصاره النهائي على شعبه.
يعتبر «مؤتمر أمن ميونيخ» الذي يعقد غدًا (الجمعة)، ويستمر حتى يوم الأحد المقبل، منبرًا للحوار حول تحديات الأمن في العالم.
يوم الاثنين الماضي نشر المؤتمر تقريره السنوي، الذي سيناقش ملفاته كبار القادة. التقرير الذي يحمل عنوان: «ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام» يرسم صورة قاتمة عن عام 2017. في المقدمة كتب ولفغانغ إيشنجر، رئيس المؤتمر: يمكن القول إن البيئة الأمنية الدولية أكثر تقلبًا الآن من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية «وحذر من حدوث فراغ في السلطة ناجم عن انسحاب أميركي محتمل من المسرح الدولي، ومن تصعيد عسكري». ويوضح التقرير الأخطار التي يتعرض لها النظام العالمي، بـ«اللحظة غير الليبرالية».
اللافت أن إيشنجر يطرح مقارنة تاريخية جريئة. إذا عدنا إلى أواخر الأربعينات من القرن الماضي، خلال أزمة برلين، التي سبقت تشكيل منظمة الحلف الأطلسي، أي فترة تداعيات «خطة مارشال» الأميركية لإعادة الإعمار ما بعد الحرب، والمجاعات والمصاعب التي عانت منها أوروبا خلال فصل الشتاء من تلك السنوات، وفرض السيطرة السوفياتية على أوروبا الشرقية، يمكن القول إنها كانت فترة متقلبة جدًا.
ولفغانغ إيشنجر يجري مقارنة ما بين تلك الفترة والواقع اليوم؛ ما يؤدي إلى طرح علامات سؤال حول جزء من عنوان التقرير «ما بعد النظام». يتحدث كثير من المراقبين الدوليين عما إذا كان العالم الآن في فترة انتقالية إلى نظام عالمي جديد. يقول إيشنجر إنها أكثر فترة تقلبًا منذ الحرب العالمية الثانية. ويضيف: إن أهم الدعائم الأساسية للغرب وللنظام الليبرالي العالمي تضعف. وقد نكون على شفا عصر آخر للغرب، حيث إن قوة ليست غربية تعمل الآن على تأطير الشؤون الدولية، أحيانًا بالتوازي، أو حتى على حساب تلك الأطر المتعددة الأطراف التي وضعت أساس النظام الدولي الليبرالي منذ عام 1945، ثم يتساءل: هل نحن ندخل عالم «ما بعد النظام؟».
في التقرير إشارة قوية إلى هيمنة الخطاب الشعبوي الذي تسبب في تحول جذري، أو تجاوز توجه الديمقراطية الليبرالية والمبادئ التي تصاحبها. رأى التقرير أن دعم «الحلول التسلطية» في تصاعد بين الشعوب التي تعيش في مجتمعات ديمقراطية.
يشرح محدثي، الدبلوماسي الأوروبي، أنه من المهم أن ندرك أن البيئة الأمنية الدولية يمكن أن تتغير من خلال خطوات صغيرة، ليس من الضروري أن تكون دراماتيكية أو مثيرة، لكنها تتراكم على مدى سنوات فتصل إلى شيء كبير.
من الأمور التي حدثت عام 2016 كان الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي، فجاءت النتيجة حافزًا لإعادة النظر في العلاقات الدولية، ثم جاء انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب تأكيدًا على التغيرات التي تحدث الآن على الأرض.
في خطاب تنصيبه أعلن ترمب تغييرًا تاريخيًا في علاقات الولايات المتحدة مع الدول الأخرى، واعدًا بأن سياساته الداخلية والخارجية ستضع المصالح الأميركية في أولوياتها.
يقول محدثي «إن انتخاب دونالد ترمب رئيسًا للولايات المتحدة، أخرج إلى العلن تساؤلات عدة حول أهمية النظام الدولي كما اعتدنا أن نراه؛ إذ إن لديه مواقف تجاه الحلف الأطلسي، وتجاه الاتحاد الأوروبي تختلف عن نظرة أسلافه. لديه مواقف مختلفة تجاه روسيا قد تتصلب أكثر بعد استقالة مستشار الأمن القومي مايك فلين، لكنه سيفرق بين عقوبات مفروضة على روسيا بسبب أوكرانيا والحاجة إلى موسكو لمحاربة «داعش» والإرهاب، ثم موقفه الحازم تجاه الصين، واعتبارها المشكلة رقم واحد التي تواجهها الولايات المتحدة في العالم، وعلى الرغم من اعترافه بسياسة «الصين الواحدة»، فإن هذا لا يقلص من حجم المشكلة. «كل طروحات ترمب شملت الكثير من الافتراضات التي مارسنا الكتمان عليها ورميناها وراءنا في الهواء». قال ترمب في خطاب تنصيبه: من هذه اللحظة، سيكون التوجه: أميركا أولاً.
ويشير التقرير إلى أن ترمب في خطابه تجنب أن يذكر: «الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان»، مما يشكل تناقضًا مع أسلافه. وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة إلى القيم الليبرالية في جميع أنحاء العالم، يضيف التقرير.
يوضح لي الدبلوماسي الأوروبي: أن القضية الآن هي حول كيفية تساقط هذه الأوراق التي رماها ترمب في الهواء. لا نعرف النمط الذي سيتشكل عند ارتطامها بالأرض. لهذا؛ فإننا نمر بمرحلة من عدم اليقين في كل حال.
في التقرير فصل يحمل عنوان: «سوريا لا نهاية في الأفق». وما بدأ كمطالب احتجاجية تدعو الرئيس السوري بشار الأسد إلى التنحي، تحول إلى صراع طويل تورطت فيه جهات فاعلة محلية ومجموعات مسلحة ودول مجاورة وقوى عالمية، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، وإيران، ودول عربية. جاء في التقرير: «إن الكثير من الجهات تتدخل في الأزمة السورية في حين يحاول الغرب تدبير أموره بطريقة أو بأخرى». ربما يكون الشرق الأوسط دخل مرحلة «ما بعد الغرب»؛ لأنه نتيجة التدخلات الكثيرة في سوريا حصل تحول على طول الخط الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن على أي حال، صار لروسيا دور أكبر بكثير مما كان عليه في السابق، كما أن لإيران، حتى الآن، دورًا قويًا جدًا. إن لدى الولايات المتحدة بعض الخيارات حول كيفية الرد على ذلك، وينسحب هذا على الأوروبيين؛ لأن ما يجري هو في ملعبهم الخلفي.
يصل التقرير إلى فصل: ما بعد الحقيقة، وينصح من أجل منع هذا «النوع من العالم»، حيث: «إن لا شيء حقيقيًا، بل كل شيء ممكن» هي مهمة المجتمع ككل، مشيرًا إلى محاولات النواب في البرلمانات الغربية تجريم كل من ينشر ويوزع أضاليل. أما عن مستقبل الإرهاب فحسب التقرير، على الاتحاد الأوروبي التعاون ككتلة موحدة لمواجهة مجموعة من التحديات التي يشكلها التهديد من التطرف والإرهاب.
تقرير «مؤتمر أمن ميونيخ» يعطي لمحة عن التحديات التي تهدد بإطاحة النظام الدولي الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية التي خلفت عشرات الملايين من القتلى والمشردين في أنحاء العالم.
إن عملية التشكيك في فاعلية منظمة الحلف الأطلسي، في شكلها الحالي، أو احتمال التخلي عن التحالفات التقليدية من أجل أخرى جديدة، إنما هي تساؤلات تؤكد تحولاً، في العلاقات العالمية والإقليمية بين الدول. التقرير الذي نشر قبل انعقاد المؤتمر يوفر لقادة العالم منطلقًا للحوار بشأن التحديات الأمنية والدفاعية التي لا محالة يواجهها العالم. قال إيشنجر: «آمل ألا نبتلع الكلمات أو نقرضها: بل أن نتكلم صراحة عن خلافاتنا، وكذلك عن المصالح والقيم المشتركة».
يبدو أن تخاصم العالم مع نفسه يهدد بحرب. العالم يهتز، فهل من الممكن للاعبين الأساسيين الذين سيكون بعضهم مشاركًا في «مؤتمر أمن ميونيخ» العثور على بعض الأجوبة؟
يقول محدثي الدبلوماسي الأوروبي: رغم الهزات الداخلية التي تعرضت لها إدارة ترمب، فإن التوجه السياسي لم يتغير. لكنها لا تزال إدارة «شابة»، وسيستغرق بروز نظام دولي جديد، بعض الوقت، هذا إذا كنا نسير حقًا في هذا الاتجاه، الذي بدأ يتبلور نوعًا ما. فهل أن القوى الكبرى، الولايات المتحدة، وروسيا، والصين وغيرها من القوى الصاعدة، ستقف مع حكم القانون، وإلى جانب المؤسسات الدولية القوية؟ أم أن كل قوة ستعتبر مصالحها فوق الجميع وفوق أي شيء آخر. هذه مسألة مهمة جدًا لمعرفة ما سيكون عليه التوازن. يضيف محدثي: إن القوى الكبرى تفضل دائمًا نظامًا يناسبها، وتريد دائمًا الاستفادة من هذا النظام لمصالحها، هي استثمرت في السنوات الماضية في النظام العالمي حتى خلال الحرب الباردة.
هل سيكون الأمر نفسه في المرحلة المقبلة، أم أنه سيكون مختلفًا؟
ينهي حديثه: بالنسبة للكثير من المراقبين والخبراء وصناع القرار: أن العالم في حالة قصوى من عدم الأمان.
تطرح المفاوضات المقبلة في جنيف، التي تعتبر الرابعة بين الجولات التفاوضية، أسئلةً عدة، تخص الصراع السوري، مثلاً، هل وصلت الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في هذا الصراع إلى درجة من التوافق تسمح بوضع حد للقصف والقتل والتدمير والتهجير؟ أيضاً، هل هذه الجولة ستكون الأخيرة، أم ستعقبها جولات خامسة وسادسة و...؟ ثم هل التسويات أو الحلول المطروحة ستكون نهائية أم موقتة، كاملة أم جزئية؟ وأخيراً ماهي الخيارات الحقيقية أمام السوريين من دون تجميل في الألفاظ أو اختباء وراء المصطلحات، التي لم تنتج حتى اللحظة ولادة خيار سوري - سوري ينهي المأساة ويخلص السوريين من المتسببين بها؟
في هذه الحال، وبواقعية شديدة فنحن إذاً أمام خيارات عديدة ومختلفة، لكن ليس من بينها، مع الأسف، ما قامت من أجله الثورة، وإن كان بعض المكابرين ما زال يلقي بخطب عصماء يعود صداها إليه وحده. أما هذه الخيارات فلعل أهمها:
أولاً، خيار مسار جنيف، عبر التوصل إلى صفقة بين النظام والمعارضة برعاية دولية، وهو «البروفا» الرابعة بين الطرفين، والتي تحدث بعد خسارة المعارضة لمواقع كثيرة، بالقياس لما كانته في المراحل السابقة، بين جنيف 2 وجنيف 4، وضمن ذلك فقد استعاد النظام، بموجب الاجتماعات التي جرت بين الجولات أخيراً في آستانة، موقعه دولياً، مقابل اعترافه بالمعارضة بشقيها، العسكري الذي كان يصفه بالإرهابي، والسياسي الذي استطاع كل من النظام وروسيا أن يعمل على تشتيته وشرذمته، بإدخال جماعات محسوبة على النظام تارة، وبتعدد منصاته واختلاف مرجعياته تارة أخرى. أما المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، فهي تمر بوضع صعب، يتمثل بانقسامها على نفسها، وبالتحاصص بين أطرافها، بدل أن تكون متوافقة على تمثيل واحد ومشروع واحد يحدد ملامح وشكل سورية، التي تذهب للتفاوض عليها مع النظام، بل ومع المجتمع الدولي عموماً.
ثانياً، خيار استمرار الواقع الراهن، أي استمرار الصراع المسلح، والقصف والتدمير والتهجير، ومحاولات فرض الأمر الواقع، سواء من النظام أو فصائل المعارضة، وهو خيار لا يخدم أي حل، وهو مفروض على الثورة، بحكم أن عسكرتها أصلاً لم تكن خياراً لقوى الثورة عند اندلاعها، والتي كانت تفتخر وتتغنى بسلميتها «سلمية سلمية». وكلنا نذكر أن هذا هو الخطاب الذي جمع حوله المؤمنين بحق السوريين بالتخلص من نظام الاستبداد، وإقامة دولتهم المدنية الديموقراطية (اللاعسكرية واللادينية واللاطائفية)، لاستعادة حقوقهم كمواطنين أحرار متساوين، وذلك أمام تغول الأجهزة الأمنية عليهم، من دون أن يفهم من ذلك أن خيار العسكرة لم يكن بدفع من النظام، وباضطرار من بعض قوى المعارضة، التي وجدت نفسها معنية أمام همجية النظام وعدوانه على الشعب، بحمل السلاح دفاعاً عن المدنيين ومناطقهم، فهذا أمر وما حصل في مسارات العسكرة والأشكال التي تحكمت بها أمر آخر.
ثالثاً، خيار التوصل إلى حلول موقتة، أو مناطقية، على طريقة الهدن، على نحو ما حدث في أكثر من منطقة، وهو خيار يفرضه واقع مأساوي، حيث الحصار الذي فرضه النظام على المدن والأحياء في ظل التجويع والقصف المستمر، ثم لاحقاً التهجير الممنهج للسكان من مناطق تقع ضمن ما بات يعرف بـ «سورية المفيدة»، والمساحات الحدودية مع دول الجوار، وتحديداً لبنان، ليبقي على خطوط تواصل مع ذراعه المتمثلة بميليشا حزب الله.
رابعاً، خيار التوافق الإقليمي على فرض صيغة تسوية على السوريين، وهو الخيار الذي انتهجته الدول التي فرضت اجتماع آستانة، الشهر الماضي، والذي جمع بين وفدي النظام والمعارضة، بضمانة ورعاية الدول الفاعلة في الملف السوري، وهي روسيا وإيران (النظام) وتركيا (المعارضة) وبمراقبة اللاعب الرئيسي الذي اختار خلال السنوات السابقة مسك الخيوط وتحريك الأجندات عن بعد، بناءً على رغباته وتوافقاته وحدود صبره وهو الولايات المتحدة الأميركية.
مع ملاحظتنا لهذه الخيارات، أو السنياريوات، على أهميتها، ينبغي الانتباه إلى مسألتين، الأولى، إن كل هذه الخيارات المطروحة هي من صلب الواقع الذي نعيشه سورياً، والذي يؤكد أن الأطراف السورية سواء ذهبت إلى جنيف لتتفاوض أم لم تذهب، هي اليوم مجرد فاعل ضعيف أو تابع، تتحدد مهماتها وفق الإرادات الدولية والإقليمية الفاعلة ليس إلا. والثانية، أن الأمر لا يتعلق بموازين القوى بين المعارضة والنظام، فقط، اللذين باتا في غاية الإنهاك والاستنزاف والارتهان للخارج، وإنما يتعلق أكثر بالحل المنشود بمدى الاختلاف أو التوافق الدولي والإقليمي، على ديمومة الصراع، أو اتخاذ قرار حاسم بوقفه.
في الغضون، يفترض أن تدرك المعارضة أن تلك الخيارات محكومة، أيضاً، بأدوار أربعة لاعبين رئيسيين: الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، على التوالي، مع التبادل في موقع الطرفين الثالث والرابع، بين تركيا وإيران، وهذا ليس تفصيلاً عادياً، إذ إنه يؤثر في مستقبل سورية والشعب السوري. فكما شهدنا فإن ازدياد الدور التركي في معادلة الصراع السوري سيؤدي إلى تضاؤل الدور الإيراني، وتالياً زعزعة مكانة النظام في أي تسوية مهما بعدت أو اقتربت من هدف الثورة الأساسي، والعكس صحيح في المسألتين المطروحتين.
على ذلك فإن كل ما يمكن أن تتمخّض عنه مفاوضات جنيف4 إنما هو نتيجة واستمرار لحالة الاستنزاف بين الجانبين، أي النظام والمعارضة، غايتها تقديم أوراق اعتماد الأطراف الدولية للحل في سورية، بالاعتماد والتوافق، أيضاً، وربما قبلاً، على حل ملفات كثيرة خارج سورية. وربما أن ذلك يشمل ملف العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية والحظر.
الأرجح أننا لم نتعرف بعد إلى التغيير الحاصل وحجمه ومضمونه، وبالطبع لن يتّضح مؤدّاه إلا بعد ارتسام ملمح واقعي وعملي للتقارب الأميركي - الروسي بالنسبة إلى سورية، أو بعد تأكّد صرامة إدارة دونالد ترامب حيال إيران. لذلك، يؤخَذ الغموض وسيلة لتأويل بعض الأحداث، ومنها مثلاً أن روسيا لا تمارس ضغوطاً على نظام بشار الأسد ليفهم وإنما توجّه إليه، بواسطة الآخرين، إشارات أو ضربات، علّه يفهم أن مرحلة الخطة الإيرانية ولّت وأن مرحلة الخطة الروسية بدأت، وعليه أن يتكيّف معها. صحيح أن موسكو لم تغيّر توجهها الرئيسي المعتمد على حاجتها إلى «شرعية» الأسد، وبصفته «الحكومة السورية» التي تتعامل معها، لكن الأصحّ أنها أبلغت الكثير من الأطراف منذ بدايات تدخّلها أنها تريد اعادة جمع العسكريين، موالين وما أمكن من المنشقين ومن الميليشيات التي أنشأها الإيرانيون، في جسم جيش واحد. وبعد معركة حلب بات هدفها دفع حلفائها وخصومها إلى قبول أجندتها، أي أنها لم ترسل طائراتها وضباطها ولم تقِم قواعدها من أجل خدمة الأسد والإيرانيين.
حتى غداة جمع فصائل المعارضة المسلحة مع وفد النظام إلى طاولة واحدة في «آستانة 1»، لم يصدق الأسد والإيرانيون أن عليهم مراجعة خططهم السابقة، فبالنسبة إلى الروس انتهى الصراع الداخلي في حلب، وكل ما بعد ذلك سيكون حرباً على الجماعات الإرهابية، ومن هنا الاستعانة بتركيا، وكذلك بالأردن، وبوحدات «الجيش السوري الحرّ» المرتبطة بهاتين الدولتين. لم يكن مفهوماً جيداً ما هو الموقف الروسي من التصعيد الذي افتعله النظام والميليشيات الإيرانية في وادي بردى وأدى إلى هز الثقة باتفاق وقف النار، لكن التسوية النهائية وإن كانت مجحفة في حق أهل وادي بردى تمت بطريقة مقبولة لدى الروس الذين حبذوا دائماً «الهدنات» - «المصالحات» التي رتبها النظام في بعض نواحي الغوطة. وعشية «آستانة 2»، تعمّد النظام القيام بأوسع انتهاكات للهدنة «السارية» رسمياً، كما أرفقها بمناورات (الاحتكاك بقوات «درع الفرات» خلال اقتحامها دفاعات «داعش» في الباب، إرسال قوات لطرد «داعش» من تدمر، وخرق الهدنة في درعا...) آملاً بالضغط على الروس وإقناعهم بدعمه لاستعادة بعض المواقع. وما دفعه إلى ذلك أن «آستانة 2» يُفترض أن تكرّس «تثبيت» وقف النار وطرح «الآلية الثلاثية» لمراقبته، أي أن الروس يفعلون هذه المرة ما لم يفعلوه سابقاً: وقف نار شامل تمهيداً لمفاوضات جنيف.
ما تختلف عليه روسيا ونظام الأسد هو النظرة إلى وقف النار. فالنظام يرى في توقف القتال نهايته إلى حدٍّ ما، خصوصاً إذا كان إيذاناً باقتراب البحث في حل سياسي، وما يعمّق إحباطه أن القرار ليس قراره، أما الروس فيعتبرون وقف النار بداية مرحلة سعوا إليها وشاءت الظروف أن ينفردوا بتولي هندستها، في انتظار عودة «الشريك» الأميركي وما لديه من معطيات جديدة في التعاطي مع الملف السوري. بطبيعة الحال، ليس للمعارضة أن تتوقع تغييراً في المفهوم الروسي للحل السياسي، فهو لا يزال يتصوّر هذا الحل منبثقاً من النظام، تحديداً من حكومته، وباتت موسكو معتمدة على موافقات علنية أو مكتومة من أنقرة وعمّان والقاهرة وبدرجة أقل أو بعدم ممانعة من عواصم أخرى. ولا تضم هذه القائمة طهران، وإنْ كانت إحدى الدول «الضامنة» وقفَ النار، والأكيد أنها تجري مراجعة للمتغيرات إقليمياً ودولياً، فهي من جهة تواجه على الأرض السورية (وإلى حدٍّ ما في العراق) حقائق غير متوقّعة كما ترى للمرة الأولى أمراً واقعاً لم تصنعه ولا يناسبها، ومن جهة أخرى فإن معارضة روسيا العقوبات الأميركية ونفي سيرغي لافروف تورطها في دعم الإرهاب وسائلها للتعامل مع «الأيام الصعبة» التي أشار إليها محمد جواد ظريف لا تبدو كافية أو مناسبة لتحقيق «انتصارات» على أميركا دونالد ترامب.
بلغ نظام الأسد، وكذلك إيران، لحظة الحقيقة التي تهربا منها طويلاً ورواغا كثيراً لتأجيلها بل لتبديدها. فحتى الحل السياسي الذي يسعى إليه الحليف الروسي لا يناسبهما، حتى لو كان أدنى من طموحات المعارضة. ذاك أن الوضع الدائم، إذا كان له أن يستقرّ في سورية، لا يمكن أن يكون في تثبيت الوضع الشاذ الذي كان قائماً حتى عشية اندلاع الانتفاضة الشعبية. ومع أنه لن يكون «حكماً انتقالياً» خالصاً وفقاً لـ «جنيف 1»، كما تتمناه المعارضة، فإنه لن يكون استمرارية لحكم الأسد وبحكومته المعدلة، والأهم أن لا مجال لاستئنافه بالبنية العسكرية - الأمنية ذاتها ولا بأشخاصها أنفسهم. بدهي أن التغيير لن يكون فورياً وفجائياً، فالأوضاع التي انتهى إليها الصراع المسلح تعصى على الانضباط السريع، بل ينبغي إعطاء «المجلس العسكري» الفرصة الكاملة والوقت الطبيعي لإعادة هيكلة الجيش والأمن.
لا يعني ذلك أن حلاً كهذا بات جاهزاً، أو أن هذا ما سيتفق عليه في مفاوضات جنيف. ولعل التنبؤ المبكر لوزير الخارجية الفرنسي بأن «جنيف المقبلة» سيكون «محبطاً»، يعكس نظرة مختلف العواصم المعنية إلى المفاوضات المزمعة، إذ تعتبر أن شيئاً جوهرياً لم يتغيّر، حتى بعد معركة حلب، فبعد فوات الأوان لا يُعول على النظام لاستدراك ما لم يدركه في الأسابيع الأولى للأزمة، وبعد منع المعارضة من تحقيق أهدافها عسكرياً لا يمكن حرمانها من المطالبة بحقوقها البدهية. لكن التعارض العميق بين توقّعات المعارضة والنظام يمنع «صيغة جنيف» من إنتاج حلّ، لذلك يبدو أن موسكو، وواشنطن على الأرجح، باتتا تعتبران أن جولة جديدة في جنيف لن تجدي، بالتالي قد يميل الأميركيون إلى صيغة «صلح العسكريين» التي يحاول الروس بلورتها بالتركيز (مع الأتراك) على الفصائل المعارضة، لكنهم لن يفعّلوها إلا بعد أن تظهر «جنيف السياسيين» بأنها عديمة الفائدة، ومن الجانبين.
لعل مجرّد وجود الفصائل المسلحة في الصورة، وفي مختلف السيناريوات، إلى جانب الجيش الذي صار عملياً في كنف الروس، شكّل النبأ السيئ الذي حاولت طهران إبعاد شبحه على الدوام. انتهى موسم الأحلام، ولم يعد وجود الميليشيات الإيرانية سوى عنوان لمرحلة تشارف الأفول، وإذا كان رحيلها مطلباً طبيعياً للمعارضة فإن مشاعر رفضها ومقتها تتصاعد في أوساط الموالين وتنسحب على الأسد وأعوانه، ولم يعودوا يخفونها، ففي حماية الروس لا خوف على النظام ولا حاجة إلى وجود الإيرانيين. ومن دون أي عمل عدائي ضدهم بات هؤلاء مدركين أن مستقبلهم لم يعد مضموناً في سورية، بل إنهم يلحّون على الروس لنيل بعض الضمانات لـ «مصالح» يعتبرونها بالغة الحيوية، كالحفاظ على المنطقة الحدودية الوسطى مع لبنان تحت سيطرة «حزب الله» بذريعة أمنه في مواجهة إسرائيل. وهي المنطقة التي دعا «الحزب» النازحين منها إلى العودة إليها بضمانته، إلا أنهم يطالبون بضمانات روسية وأوروبية وأممية.
يبقى أن إيران ستواصل الرهان على فشل التقارب الأميركي - الروسي، باعتبار أنه سيبقي روسيا في حاجة موقتة إلى خدماتها في معالجة بعض جوانب الوضع السوري. إذ كان الطموح الإيراني أن تغدو ميليشياته شريكاً لا غنى عنه في الحرب على «داعش»، بل إنها راهنت على دور كهذا لإنجاز الربط الاستراتيجي من طهران إلى بغداد فدمشق فبيروت. لكن المجريات الراهنة لهذه الحرب تعطي تركيا دوراً أكبر، بسبب موقعها الحدودي ووجود قوات برية سورية لديها، ما لا تستطيع الدولتان الكبريان تجاهله. ثم إن أميركا ترامب لا تبدو مستعدة للاستعانة بإيران حتى في المواجهة مع «داعش» بل تعتبرها راعية للإرهاب. وفي أي حال باتت كل الأطراف المعنية بإضعاف «داعش» أو القضاء عليه تعتبر أن إيران بدت في الأعوام الأخيرة الطرف الوحيد المستفيد من ظهور هذا التنظيم وانتشاره.