مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٦ فبراير ٢٠١٧
المعارضة السورية: نهاية المطاف

دخل النزاع المسلّح في سورية مرحلته الأخيرة، بعدما بدا لأمدٍ طويل وكأنه دخل نفقاً لا نهاية له. صحيح أنه لا يزال أمامه شوط ليقطع: فالقتال سيستمر على الأرجح لعام أو عامين في أنحاء مختلفة من البلاد (وستتواصل الحرب ولا شك ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»)، وستمضي قدُماً أيضاً المناورات السياسية المعقّدة التي يصعب التنبؤ بها بين القوى الخارجية، ويبقى الحل الرسمي المتفاوض عليه بعيد المنال، لكن الصحيح أيضاً أن التحوّل في الموقف التركي منذ الصيف الفائت، وضع المعارضة السورية بثبات على مسارٍ لم يعد بالإمكان قلب وجهته، حتى ولو تغيرّت السياسة التركية مجدداً. فما يلوح في الأفق الآن أمام المعارضة السورية هو خيار صعب يتأرجح بين الدمار، أو الانخراط في هيئات الدولة المركزية التي لا يزال يرئسها بشار الأسد.

يشــي المساران الديبلوماسيان الحاليان بمسار الأحداث في الآتي من الأيام، حيث تتركّز الأنظار على المحادثات المُزمع إجراؤها في جنيف في وقت لاحق من هـــذا الشهر، لكنها في الواقع لم تكن أبداً هي التي ستُشكّل يوماً المدخل إلى الحل السياسي. وأكد وزير الخارجية الأميركي جون كيري، قبل إخلاء منصبه، أن العملية التفاوضية التي دشّنتها روسيا وتركيا في الآستانة، عاصمة كازاخستان، في 23 كانون الثاني(يناير)، يجـــب ألا تحـــل مكان جنيف، وهو الموقف نفسه الذي ردّده أيضاً المبعوث الدولي الخاص ستيفان دي ميستورا الذي أضـــاف: «إننا نحن (الأمم المتحدة) الطرف الفاعل الرئيس في ما يتعـلّق بالعمليـــة السياسية». بيد أن كل هذا لم يكن أكثر مــن مجرد تمنيـــات، إذ ليـــس فـــي مقدور أي من القوى الخارجية حمل الأسد على القبول بتقاسم حقيقي للسلطة.

علاوة على ذلك، فإن التركيز على مسألة ترسيخ وقف إطلاق النار هو ما يضفي الأهمية على مسار الآستانة. وقد حاجج الكثيرون، عن حق، أن الراعيين الروسي والتركي لم ولن يتمكّنا من تجسير الهوة بين المعارضة والحكومة السوريتين في الأمد المنظور. بيد أن هؤلاء يخطئون الهدف: فمحادثات الآستانة تدل على مسار جديد في النزاع، خلقه التحوّل المفاجئ في السياسة التركية منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز(يوليو) الماضي التي دفعت الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تنفيس الأزمات الخارجية من أجل التركيز على التحديات الداخلية. وقد عنى ذلك التخلّي عن السعي إلى الإطاحة بالأسد، على رغم مواصلة الحديث العلني عن ذلك، كما عنى تطويع المعارضة السورية إلى احتياجات السياسة الداخلية والخارجية التركية.

أما بالنسبة إلى المعارضة، فإن درب الآستانة يقـود حكـماً إلى المجابهة الشاملة في شمــال غربــي ســوريـة مع المعسـكر الجهـــادي الذي التأم شـــمله أخيراً تحت راية «هيئة تحـرير الشام»، وهــو الإطـــار الشامل الجديد الذي تُهمين عليــه «جبهة فتح الشام» المعروفة سابقاً بجبهة النصرة المـــرتبطة بتنظيم القاعدة. ويعتقد مراقبون مُطلعون أن ميـــزان القوى الميدانية قد انقلب لمصلحة هذا الطرف الأخـــير، وأن الهزيمة ستحصر المعارضة في جيب صغير نسبـــياً في محاذاة الحدود التركية والكانتون الكردي في عفــــرين. هذا إضافة إلى أن رفض الانسياق إلى مواجهة مـــع هيئة تحرير الشام، سيحرم المعارضة من الحماية والدعم من قبل تركيا والولايات المتحدة ويجعلها هدفاً سهلاً لنظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين.

على رغم قتامة هذا المنظور، فإن ما قد يتبعه لاحقاً سيكون أشد مضاضة بكثير. إذ إن مسار الآستانة يتطوّر على شكل خطوات قتالية يلتزم الأفرقاء بتنفيذ كلٍ منها، فيمضون مع كل خطوة على مسار يصعب باستمرار التراجع أو التخلّي عنه. فإذا نجحت المعارضة السورية باجتياز الامتحان الأول، أي المواجهة مع المعسكر الجهادي، ستتعرّض إلى ضغوط متصاعدة لتتخذ الخطوات التالية على المسار نفسه، ما سيؤدي بالضرورة إلى إعادة الانخراط في مؤسسات الدولة التي يرأسها الأسد. هذه هي المحصلة الحقيقية للتحوّل وإعادة الاصطفاف في السياسة التركية، سواء كان ذلك مقصوداً أم لا.

لقد باتت معالم الخطوتين التاليتين واضحة للعيان. فهناك أولاً فكرة الاعتراف بمجلس محلي تقوده المعارضة في محافظة إدلب، بدعم تركي، تقبل روسيا التعامل معه بعد أن كانت قد أبدت اهتمامها باللامركزية كأحد مفاتيح الحل السياسي، عبر إعداد مقترح بهذا الشأن في آذار(مارس) 2016. كما أعربت روسيا منذ إطلاق مسار الآستانة عن استعدادها للتعامل مع المجالس المحلية في مناطق سيطرة المعارضة، بهدف تسهيل وصول المساعدات الإنسانية وإطلاق عملية إعادة بناء الاقتصاد.

يشكّل إنشاء الآليات المشتركة عنصراً أساسياً في المقاربة الروسية التي يمكن الأسد قبولها. فهو يعارض بوضوح مبدأ المشاركة في السلطة لما في ذلك من اعتراف بالمعارضة كطرف شرعي له حق المطالبة بذلك، ومن تقويض لحجة النظام بخوض حرب ضروس لإحباط هذا المطلب. غير أن التعامل مع مجلس محافظة تقوده المعارضة أمر مختلف يمكن استيعابه، طالما انخرط في هيئات الحكم المحلي التابعة للدولة، ما يشكّل إقراراً بسيادة سلطة الأسد. وهذا، على أي حال، أساس المئات من اتفاقيات «المصالحة» التي سمح بموجبها النظام للأهالي المحليين الموالين للمعارضة بالاحتفاظ بدرجة من الاستقلالية الإدارية وبالحصول على بعض الخدمات العامة والتمويل.

أما الخطوة الثانية، فهي ما يشير إليها الحديث المتكرر في أوساط المعارضة عن تشكيل «جيش ثوري وطني» موحد، ما يعني التوجّه إلى مسارٍ موازٍ يوحي بانخراط مجموعات المعارضة المسلحة في شمال غربي سورية أيضاً في مؤسسات الدولة. لا بل يشي حضور مراقبين أردنيين في جولة محادثات الآستانة الثانية في 6 شباط (فبراير) باحتمال ضم المعارضة الجنوبية كذلك إلى هذا المسار. ووفق أحد ناشطي ومحللي المعارضة المخضرمين، فقد اقترحت تركيا خضوع المجموعات المسلحة إلى حكومة انتقالية تتشكّل بعد اتفاق السلام، غير أنه لم يعد ممكناً في سياق الظروف الحالية أن تقوم مثل هذه الحكومة سوى بإشراف الأسد.

لقد خلق النظام أطراً تتيح استيعاب «الجيش» الموحّد للمعارضة والسماح له ببعض الاستقلالية التنظيمية: الفيلقان الرابع والخامس التابعان للجيش واللذان تم إنشاؤهما منذ العام 2015 لاحتواء «قوات الدفاع الوطني» والميليشيات الأخرى المدعومة من النظام، إضافة إلى التشكيلات القتالية ذات المهام الخاصة. كما سمح النظام لمقاتلي المعارضة بالبقاء والاحتفاظ بأسلحتهم بعد «المصالحات» في مناطق عدة، فقد يقبل بتوسيع هذا النموذج لاحتواء تشكيلات المعارضة العسكرية الأكبر، في إطار نوع من الحرس المحلي على صعيد المحافظة حيث تتواجد. ثم أن تأسيس فرقة نظامية جديدة تضم قوات النظام المتفرّقة في مدينة حلب في كانون الثاني (يناير)، يدل على احتمال إضافي هو تحويل قوات المعارضة في الشمال الغربي والجنوب إلى وحدات نظامية أخرى مرتبطة بأماكن جغرافية محددة.

قد تختلف تفاصيل هذا المسار العام، وهناك عوامل كثيرة قد تعرقله. فالمعارضة المسلحة قد تخسر المواجهة مع هيئة تحرير الشام، وقد ينتهز النظام ذلك الاقتتال ليتقدم داخل محافظة إدلب. وهذا سيشكّل امتحاناً قاسياً للتفاهم بين روسيا وتركيا. لكن حتى في أحسن الأحوال، ستجد المعارضة نفسها منحصرة في فضاء سياسي وعسكري وجغرافي متضائل باستمرار، وتخسر المزيد من النفوذ والقدرة على ممارسة الضغط المضاد، من دون مكاسب أو نتائج مضمونة في المقابل.

ربما تكون المرحلة الأخيرة من النزاع السوري مديدة، لكن خيارات المعارضة تضمحل بوتائر متسارعة. وقد سعى أحد مراكز الأبحاث المؤيدة للمعارضة إلى شد العزائم عبر التأكيد على أنه «على رغم أن التغيير أصبح معطى واقعياً في السياسة التركية، لكن لا يمكن أحداً أن يفرض على المعارضة تسوية مُجحفة لا تريدها». بيد أن مركزاً آخر استنتج بواقعية أكبر أن المعارضة «باتت بالفعل مهزومة استراتيجياً».

ولعل العزاء الوحيد هو أن المعارضة السياسية العريضة، والحراك الاجتماعي القاعدي، والائتلافات العابرة للطوائف والإثنيات، ستُبث فيها الروح مجدداً فقط عند انتهاء النزاع المسلح. صحيح أنه من العسير التنبؤ حول متى قد يحدث ذلك أو حتى من الصعب ضمان حدوثه، لكنه سرعان ما يعاود الظهور بصفته الأمل الوحيد لتحقيق التغيير المستقبلي في سورية.

اقرأ المزيد
١٦ فبراير ٢٠١٧
موسكو ـ واشنطن... وحقل الاختبار الإيراني

لم يتأخر الرئيس الأميركي دونالد ترمب في تطبيق وعوده الانتخابية، ففي أقل من شهرين على تسلمه السلطة تمكن من تحويل المسألة الإيرانية بشقيها النووي والإقليمي إلى قضية دولية، فأصبح الموقف من إيران مفتاحًا للتقارب مع واشنطن أو سببًا للتباين معها. هذه المعادلة تجعل موسكو التي راهنت على فوز ترمب في السباق الرئاسي من أجل انتزاع اعتراف أميركي بنفوذها ومصالحها في المحافل الدولية أمام معادلة صعبة لا يمكن الخروج منها من دون خسائر، حيث أصبح مستقبل التعاون الأميركي مع روسيا في القضايا الكبرى، وخصوصا الإرهاب، مرتبطا بتخلي موسكو عن تحالفها مع طهران.

ففي الوقت الذي تلمح إدارة ترمب إلى إمكانية المقايضة مع موسكو على سوريا شريطة أن تقوم موسكو بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا، يصل التعاون الروسي الإيراني في الشرق الأوسط إلى مرحلة تاريخية من التطابق في المواقف، خصوصا في الأزمة السورية، فموسكو التي أمنت طوال 6 سنوات التغطية الدولية للوجود الإيراني في سوريا، وتتعاون اليوم علنًا مع الميليشيات الطائفية الإيرانية التي تحارب إلى جانب الأسد، غير مستعدة للتخلي عن هذه المعادلة التي تؤمن لها كثيرًا من الأرباح السياسية والاستراتيجية بأقل تكلفة، وهي متمسكة بهذه المعادلة على الرغم من التباين في المواقف بين طهران وموسكو الذي ظهر قبل وبعد مؤتمر آستانة، إلا أنه لم يصل إلى مستوى التوتر أو الخلاف العلني. وقد حسم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الجدل عندما دعا الولايات المتحدة إلى الاعتراف بدور «حزب الله» «في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي»، وأضاف: «إنه إذا كانت أولوية الرئيس الأميركي دونالد ترمب هي محاربة الإرهاب، فإنه من الضروري الاعتراف بما قامت به القوات الجوية الروسية، وكذلك فصائل أخرى تدعمها إيران، بما فيها (حزب الله)، ولذلك سيكون من الضروري تحديد الأولويات».

ففي الوقت الذي تحشد فيه إدارة ترمب العالم من أجل اعتبار إيران أحد أكبر مصادر الإرهاب، تدعو موسكو إلى إعادة النظر في الشكوك حول إيران بخصوص دعمها للإرهاب، وتطالب موسكو بانضمامها إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب.

رغبة الرئيس الأميركي ترمب في إعادة تشكيل العلاقة مع موسكو تصطدم بحواجز ضخمة داخل إدارة البيت الأبيض ومراكز صناعة القرار الأميركي، فإدارة ترمب تنقسم إلى جناحين: واحد يرفض إعطاء موسكو دور الشريك، ويضم نائب الرئيس ووزير الدفاع ومدير المخابرات ومدير الأمن الوطني، يقابلهم دعاة التعاون الوثيق مع موسكو في القضايا الدولية، والذين يرون إمكانية فك ارتباطها مع طهران إذا حصلت على ضمانات حول مصالحها وأمنها القومي في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، ويمثل هذا التيار كبير مستشاري الرئيس، إضافة إلى وزير خارجيته، ومستشار الأمن القومي الذي قد يتسبب بمشكلة لترمب بعد أن نقلت صحيفتا واشنطن بوست ونيوريورك تايمز عن مسؤولين بارزين في واشنطن أن أجهزة الاستخبارات الأميركية استمعت إلى محادثات جرت بينه وبين السفير الروسي لدى واشنطن، وتبيّن أن الجنرال مايكل فلين نصح السفير الروسي بعدم إبداء ردة فعل على العقوبات التي فرضتها إدارة أوباما ووعده بأن الرئيس ترمب سيتمكن من مراجعتها، وهو أمر قد يفقده موقعه ويشكل انتكاسة مبكرة للمدافعين عن الشراكة مع موسكو على حساب مصالح واشنطن التقليدية في أوروبا والشرق الأوسط.(استقال فلين من منصبه أمس على هذه الخلفية - المحرر).

في المقابل فإن قائمة المطالب الروسية من الولايات المتحدة الأميركية مقابل تخليها عن إيران تتجاوز قدرة الإدارة الأميركية على تلبيتها، وعلى الرغم من رغبتها في إنشاء تحالف استراتيجي مع موسكو فإن نواياها ستصطدم بوقائع المصالح الدولية التي سوف تجبرها على الالتزام بالأمن الجماعي الأوروبي، الذي يرى في موسكو تهديدًا دائمًا له. كما أن الكرملين يدرك حجم الكلفة الباهظة لأي مواجهة مع إيران في سوريا، وهو يعترف بالتفوق الإيراني على الأرض الذي استطاع حماية النظام وتأمينه، لذلك تبدو فكرة تخليه عن إيران في سوريا شبه مستحيلة، وهو أميل إلى التعايش مع هذا النفوذ وتنظيمه، بما فيه مصلحة للطرفين.

باستثناء التصريحات المبهمة لترمب عن أهمية التقارب مع روسيا، لا توجد عوامل تعزز الثقة بين البيت الأبيض والكرملين، الذي لا يستبعد فكرة أن استفراد إيران مقدمة لاستفراده في المستقبل، لذلك تسع دبلوماسيته إلى القيام بمناورة سياسية وتكتيكية للدفاع المدروس والمحدود عنها، أو إقناعها لتقديم تنازلات مؤلمة في عدة ملفات من أجل سلامة نظامها، خصوصًا أن قيصر الكرملين يعلم خطورة استخدام الفيتو بوجه ترمب، خاصة أن حقل الاختبار الإيراني سيعيد تشكيل تحالفات المنطقة ويفرض وقائع جيو - سياسية جديدة على المنطقة والعالم.

اقرأ المزيد
١٦ فبراير ٢٠١٧
ما علاقة إسرائيل بسلاح 'حزب الله'

لا يستطيع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قول الكلام الذي قاله عن أن سلاح “حزب اللّه” “لا يتناقض مع مشروع الدولة” مبررا وجود هذا السلاح بوجود احتلال إسرائيلي. هذا عائد أساسا إلى أن الأحداث تجاوزت سلاح “حزب الله”. لم يعد مطروحا الكلام العام عن دور هذا السلاح في التصدي لإسرائيل، اللهمّ إلا إذا كان مطلوبا افتعال حرب جديدة تعود بالويلات على لبنان كما حصل تماما صيف العام 2006.

أثار الكلام الصادر عن رئيس الجمهورية ردود فعل ذهبت إلى حد وصفه بأنّه يوفّر غطاء لسلاح غير شرعي ويشكك بقدرات الجيش اللبناني في وقت تبذل جهود لإعادة الحياة إلى الهبة السعودية للمؤسسة العسكرية اللبنانية.

يحتاج هذا التوصيف الدقيق إلى توضيح. فحوى التوضيح أن الربط بين سلاح “حزب الله” وإسرائيل هو ربط في غير محلّه. إنّه ربط لا يقدّم ولا يؤخّر إذا أخذنا في الاعتبار الوظيفة الدائمة لـ“حزب الله” بصفة كونه لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، وهي وظيفة تخدم دولة معيّنة اسمها “الجمهورية الإسلامية في إيران” تمتلك مشروعا خاصا بها قائما على الاستثمار في كلّ ما من شأنه إثارة الغرائز المذهبية.

أكثر من ذلك، إن هذا الربط يظلّ خارج الموضوع المطروح بحدّة في لبنان والمنطقة، أي موضوع الدور الإيراني وخطورته. هذا عائد إلى أسباب عدّة. في مقدّمة هذه الأسباب أن إسرائيل، من وجهة نظر الأمم المتحدة، لا تحتلّ أرضا لبنانية. كانت الأمم المتحدة حاسمة وحازمة عندما أعلنت في العام 2000، أن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان هو تنفيذ للقرار الرقم 425 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في العام 1978. أما بالنسبة إلى مزارع شبعا التي لا تزال محتلة، وهي أرض لبنانية، فينطبق عليها القرار 242 الذي ينطبق أيضا على هضبة الجولان السورية المحتلّة في العام 1967.

ليس سرّا أن سوريا احتلت مزارع شبعا في العام 1956 إبان العدوان الثلاثي على مصر، وذلك بحجة أن على الجيش السوري شغل مواقع في شبعا تساعده في المواجهة في حال حصول عدوان إسرائيلي. هذا ما تؤكّده مذكرات الرئيس سامي الصلح، الذي كان يشغل في 1956 موقع رئيس الوزراء في عهد الرئيس كميل شمعون. لم يحصل هذا العدوان الإسرائيلي، لكنّ القوات السورية بقيت في مزارع شبعا التي احتلتها إسرائيل مع الجولان في حرب الأيّام الستة، عندما كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع في “سوريا – البعث” التي صارت لاحقا، بعد العام 1970 “سوريا ـ الأسد”.

رفض النظام في سوريا إلى اليوم توجيه رسالة إلى الأمم المتحدة تؤكّد أن مزارع شبعا لبنانية. لو وُجدت هذه الرسالة لكان لبنان استعاد الحجة التي تسمح له بإجبار إسرائيل على الانسحاب من تلك المنطقة التي ضمتها سوريا إليها. ولكن ما العمل عندما يكون مطلوبا خلق أعذار، ولو واهية، لتبرير بقاء سلاح “حزب الله” ذي الطابع المذهبي موجّها إلى صدور اللبنانيين بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وتنفيذ القرار 425. في الواقع، كان مطلوبا دائما سوريا وإيرانيا الربط بين الجولان ومزارع شبعا كي تبقى التجارة بهما من النوع الرائج، حتّى لو كان ذلك على حساب اللبنانيين والسوريين.

تكمن أهميّة سلاح “حزب الله” في أنّه قادر على التماهي باستمرار مع المشروع الإيراني. لم يكن هذا السلاح في يوم من الأيّام، على الرغم من وجود وجهة نظر مخالفة لدى كثيرين، في مواجهة مع إسرائيل. استخدم هذا السلاح في القضاء على أحزاب لبنانية مرتبطة باليسار تمارس المقاومة لإسرائيل. أُسكتت هذه الأحزاب باكرا قبل أن يأتي دور حركة “أمل” التي فضلت في نهاية المطاف، بعد مواجهات عنيفة سقط فيها آلاف القتلى، إيجاد صيغة تعايش مع الحزب تحت شعار ما يسمّى “الثنائية الشيعية”.

في مرحلة معيّنة، قبل الانسحاب الإسرائيلي، كان سلاح “حزب الله” الذي ورث السلاح الفلسطيني وسيلة لتحوّل الطائفة الشيعية في لبنان رهينة لدى إيران. بعد الانسحاب، صارت هناك استخدامات أخرى للسلاح في لبنان وخارج لبنان. الهدف، بكل بساطة، تحويل لبنان مستعمرة إيرانية وقاعدة تعمل منها إيران ضد دول عربية عدة، خصوصا في الخليج.

من يعرف ولو القليل عن اليمن والتطورات فيه، يدرك إلى أيّ حد هناك تورّط لـ”حزب الله” في دعم الحوثيين (أنصار الله) منذ ما يزيد على خمس عشرة سنة. لا حاجة إلى الدخول في التفاصيل اليمنية، بما في ذلك تدريب الحوثيين على شنّ عمليات عسكرية، وهو تدريب حصل في اليمن وخارجه. ولا حاجة إلى الإشارة إلى العلاقة بين “حزب الله” وما يدور في البحرين أو السعودية، وحتّى الأردن في مرحلة ما. هذه العلاقة حالت دون حضور الملك عبدالله الثاني القمّة العربية التي انعقدت في بيروت في آذار ـ مارس من العام 2002. تجاوز دور “حزب الله” الحدود اللبنانية منذ زمن بعيد. إنّه شريك في الحرب على الشعب السوري. لعب سلاحه دورا مهمّا في تهجير سوريين من أرضهم، وذلك في وقت هناك تنسيق تام في شأن سوريا بين روسيا وإسرائيل!

في الإمكان الاسترسال في الكلام عن أدوار لـ“حزب اللّه” في غير مكان، بما في ذلك السودان، كما يمكن العودة إلى دوره في مصر في عهد الرئيس حسني مبارك وتهريب السلاح إلى غزّة ومحاولة تهريب السلاح إلى الضفّة الغربية لمصلحة “حماس” وأطراف معادية للسلطة الوطنية الفلسطينية.

على هامش ذلك كلّه، لا يمكن تجاهل دور “حزب الله” في العراق، من زاوية ميليشياوية ومذهبية، وحجم العداء لكلّ ما يربط بين العرب ولبنان، خصوصا أهل الخليج الذين قرّر الحزب جعلهم يزيلون لبنان من خارطة البلدان التي يزورونها. لكنّ ما هناك حاجة إلى التذكير به دائما هو أنّ سلاح “حزب الله” استخدم في لبنان في مناسبات عدّة، وذلك على الصعيد الداخلي. من حماية المتّهمين باغتيال رفيق الحريري ورفاقه، وصولا إلى منع مجلس النواب من انتخاب رئيس للجمهورية طوال سنتين ونصف سنة، مرورا بغزوة بيروت والجبل في أيّار ـ مايو 2008.

هناك آلاف الأمثلة على الأدوار التي لعبها سلاح “حزب الله” لمصلحة نشر ثقافة الموت في لبنان. كذلك يظل مفهوما ومفيدا التذكير بأنّ سلاح “حزب الله” خرق للقرارين 1559 و1701 الصادرين عن مجلس الأمن. وافق “حزب الله” على كلّ حرف في القرار 1701 الذي أوقف “الأعمال العدائية” في صيف العام 2006 نتيجة حرب افتعلها “حزب الله” مع إسرائيل ولم يعد قادرا على الذهاب إلى النهاية، بل حوّلها إلى انتصار على لبنان. لا يزال لبنان يدفع إلى اليوم فواتير تلك الحرب، بما في ذلك فواتير الدور الذي يلعبه السلاح غير الشرعي داخل أراضيه وخارجها، والذي يهدّد كلّ مؤسسة من مؤسساته الوطنية، بما فيها الجيش وقوى الأمن.

اقرأ المزيد
١٦ فبراير ٢٠١٧
أولويات حزب المقاومة

عاد أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، الأسبوع الجاري، إلى ممارسة هوايته المفضلة في إلقاء الخطب "الحماسية" التي يحاول من خلالها تحقيق أغراض مختلفة، مثل إيصال رسائل من "السادة" في إيران إلى العالم، أو استنفار جمهوره كلما شعر ببرود "همّته"، أو التذكير بما كادوا ينسونه، وهو أنه ما زال "سيد المقاومة"، وإن اختلفت ساحاتها. استنفد نصر الله كل هذه الأغراض تقريباً، في كلمةٍ تأبينيةٍ أخيرةٍ، استغلها لتحذير الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من المسّ "بالسادة" في طهران، والتذكير "بالانتصارات" التي تحقّقها "المقاومة" في سورية والعراق واليمن، بعد أن باتت الطريق إلى القدس، لأسباب فنية يضيق المجال لشرحها، أطول مما كانت عليه في أي وقت مضى، إلى درجة أن نصر الله غفل حتى عن ذكر إسرائيل والصراع "المقدّس" معها.

لا يمكن لأي تحليلٍ رصينٍ أن يزعم بعدم وجود علاقة عدائية بين حزب الله وإسرائيل، أو أن إسرائيل لا تتحيّن الفرص للانقضاض على الحزب، وإضعاف قدراته أنّى استطاعت ذلك، بدليل غاراتها التي باتت شبه أسبوعية على مواقع الحزب وقوافله ومخازن أسلحته في سورية. لكن أي تحليل رصين لا يمكنه، في المقابل، أن يغفل كيف أن الصراع السوري كشف بجلاء أن أولوية حزب الله لم تكن يوماً في مقارعة إسرائيل، أو دعم مقاومة فلسطين، وأن هذه لم تكن سوى أداة أو وسيلة للتعمية على الهدف الاستراتيجي الأعلى للحزب، ومن ورائه "السادة" في طهران، وهو هدف طائفي بامتياز، يمكن اختصاره بتمكين إيران، بما تمثله قوميةً ومذهباً، وإنهاء قرون من حكم العرب المنطقة، بما يمثلونه قومية ومذهباً.

استدعاء التدخل العسكري الروسي في سورية، وتحول حزب الله وغيره من مليشيات إيرانية إلى قوة برية تعمل بخدمة سلاح الجو الروسي، قد قضى عملياً ونهائياً على منطوق الصراع مع إسرائيل واستخداماته الأداتية، حيث دفعت أولويات الحزب وأجندته الطائفية إلى تجاهل طبيعة العلاقة التي تربط روسيا بإسرائيل، وجعلت منه، في واقع الأمر، حليفاً لحليف عدوه المزعوم.

لا يحتاج حزب الله إلى من يكشف له عن طبيعة العلاقة التي تربط حليفه الروسي "بعدوه" الإسرائيلي، فهي مكشوفة، وليس فيها أسرار كثيرة، فقد كانت إسرائيل الوحيدة من بين حلفاء واشنطن جميعاً التي رفضت الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا بعد ضمها القرم، لا بل توثقت العلاقات الروسية - الإسرائيلية أكثر بعد التدخل الروسي في سورية، باعتبار أن هذا التدخل الذي قام على خلفية تحالف روسي - إيراني لإنقاذ النظام السوري، يخدم مصالح إسرائيل بطريقتين: الأولى لأنه موجه ضد التنظيمات الإسلامية السنية المتشددة، والثاني لأن هذا التحالف الروسي - الإيراني يجعل لروسيا دالةً أكبر على إيران وحزب الله، وينهي أي إمكانيةٍ لأن تتحوّل سورية أو لبنان قاعدة لهجمات ضد إسرائيل. فوق ذلك، تدرس إسرائيل الآن عرضاً لإنشاء شراكةٍ مع شركة غاز بروم الروسية لاستغلال حقل ليفياثان المشترك بين دول شرق المتوسط (تركيا وسورية ولبنان وإسرائيل وقبرص)، حيث تسعى روسيا إلى استغلال علاقاتها الجيدة مع هؤلاء لإنشاء كونسورتيوم بقيادتها، خصوصاً بعد أن تحولت فاعلاً رئيساً في الشأن السوري، واللبناني أيضاً، حيث لعبت موسكو دوراً رئيسياً في إيصال حليف حزب الله الجنرال ميشال عون إلى الحكم.

في عام 1986 اهتزت إدارة الرئيس رونالد ريغان على وقع فضيحة إيران - كونترا، والتي قام بموجبها مستشار الأمن القومي في ذلك الوقت، روبرت ماكفارلن، بتدبير الالتفاف على حظر الكونغرس تقديم معونات مالية لجماعة المعارضة الرئيسة (كونترا) التي كانت تقاتل الحكومة اليسارية في نيكاراغوا من خلال الإيعاز لإسرائيل ببيع أسلحة أميركية لإيران التي كانت في حربٍ مع العراق، في مقابل تحويلها ثمن هذه الأسلحة لكونترا. لم تتعاف إدارة ريغان أبداً من هذه الفضيحة، أما في إيران فلم يظهر ما يشير إلى وجود مشكلة، طالما أن الغاية كانت تتمثل في هزيمة العراق، كما تتمثل اليوم في هزيمة الشعب السوري، بما يرمز إليه قومياً ومذهبياً. ترك العرب، بتخليهم عن القضية الفلسطينية، الباب مشرعاً أمام إيران وحلفائها، لاستخدامها أداة تحاربهم بها والتعمية على حقيقة مقاصدها الطائفية، وعليهم الآن أن يستغلوا فرصة انكشاف الأجندة الإيرانية لتخليصها من هذه الأداة، عبر العودة إلى احتضان القضية الفلسطينية، والتي هي مسؤولية عربية أولاً وأخيراً.

اقرأ المزيد
١٥ فبراير ٢٠١٧
وصاية على شباب الثورة السورية

بين الانتقادات التي يوجهها من يراجعون مسار الثورة السورية وأدوار الفاعلين فيها انتقاد يقول بضرورة رفض "الوصاية السياسية والفكرية" التي يمارسها بعض رموز المعارضة على الأجيال الشابة. وينطلق أصحاب هذا الرأي من واقعةٍ يعتقدون أن صحتها ليست بحاجة إلى دليل، هي أن أصحاب الرأي وصنّاعه في المعارضة السورية قد فشلوا، إلا في أمر وحيد، هو ممارسة قدر من الوصاية على أجيالها الشابة منعها من إظهار ما هي مؤهلة له من إبداع وقدرات، لو تحرّر من الوصاية لغيّر مسار الثورة، أو حال دون ارتهانها لما ظهر فيها من أخطاء وعيوب، انتجتها بالضبط وصاية هؤلاء عليها.

هل هذا ما حدث بالفعل، وأصاب الثورة بالكوارث التي حلت بها؟ هل "الكبار" هم من لاحقوا الأجيال الشابة التي أطلقت الثورة، واعتقلوها وقتلوا وسجنوا كتلتها الرئيسة ورموزها، وفصلوها عن حاملها الأهلي الذي استمروا في سحقه إلى أن تسلح وتطيّف وتمذهب، وابتعد عن قيادة حراك الحرية السلمية الشابة، ومشى وراء قيادةٍ معاديةٍ له ولمطالبه، وأسهم بتمذهبه وتعسكره في تهميشه وملاحقة (وتصفية) رموزه وممثليه الذين نجوا من قمع النظام الأسدي وتصفياته، علما أن موتهم حدث، هذه المرة، بأيدي إرهابيي "داعش" وجبهة النصرة؟ ثم، هل كانت الأجيال الشابة مؤهلةً حقا لقيادة الثورة التي سرعان ما فقد السوريون سيطرتهم عليها، بعد أشهر من انطلاقتها، وتحولوا بقوة صراعات وتناقضات دولية إلى أداة لتصفية حسابات بين قوى خارجية إقليمية ودولية متنوعة، تلاشت أهدافها تدريجياً أمام أهدافهم، حتى صار من الواقعي القول إن الخارجي غلب الداخلي السوري، والأجنبي الوطني، والدولي المحلي، والإقليمي العربي ... إلخ. لذلك اتضح بصورةٍ متزايدة أن مجرياتها لم تعد رهن إرادتهم التي غدت رهينة خياراتٍ وقراراتٍ أملاها غيرهم عليهم، من دون أن تكون في مصلحتهم، وأن يستطيعوا الحد من تبعيتهم لها. بعد عام من الثورة، ذهب قطاع كبير من شباب المجتمع الأهلي إلى سلاح تمذهب وتعسكر، وغاب قطاع آخر ربما من شباب المجتمع المدني في السجون أو قتل أو رحل عن الوطن، وفقد تماسّه المباشر مع مواطنيه. في هذا الفراغ، وما لازمه من تمزيق للهيئة المجتمعية، بمختلف فئاتها وطبقاتها وأماكن انتشارها، أصاب الجميع عجز لم يعرفوا كيف يتجاوزونه، حال بينهم وبين تحويل تمرّدهم أو انتفاضتهم إلى ثورة، وأفشل شيئا فشيئا جهودهم لمواصلة حراكهم بوصفه تمرّدا سلمياً، مدني الهوية ديمقراطي المآل، هدفه الحرية لشعب سوري موحد.

بفقدان التمرّد هويته واستقلاليته وارتباطه مع معظم فئات الشعب، بدأ ينحدر، وبان عجزه عن التحوّل إلى ثورة. عندئذ، ظهر ما اتسمت به الأجيال الجديدة أولا، والأحزاب التقليدية ثانيا، وأخيرا النخب المثقفة المستقلة عن الأحزاب، من افتقار إلى ما كان مطلوبا وضروريا من فكر ثوري منهجي وخططي، ومن قدرة على بلورة برامج سياسية مترابطة وامتلاكها، موضوعها مجتمعنا بخصوصياته التاريخية والدينية والحضارية، وفقره الديمقراطي والمدني المديد، تستند إلى ثقافة عصرية مستقلة نسبيا، وقابلة للانغراس في المجتمع، حيث تتنامى وتنتشر في أجواء آمنة نسبيا، وتخترق قطاعات واسعة من النخب الثورية والشرائح الاجتماعية المتوسطة والعليا، ويمنحها تفعيلها القدرة على بلورة حلول ناجعة لما يواجه التمرّد من مصاعب وتحديات يعني تجاوزها والتغلب عليها تحوله إلى ثورة. صنع الشباب التمرد، وحين تطلب استمراره فترة أطول مما اعتقد الجميع، تبين أن التدخل الخارجي والانحراف المذهبي المتعسكر والعجز الذاتي عوامل ستكبح تطور حراك السوريات والسوريين إلى ثورة، وأن الانحراف الخطير الذي أصاب القطاع الأهلي أفقد التمرد جماهيره الواسعة وقوّض الحرية التي كانت حلما فغدت تحولاتها الكابوسية واقعا، لا يمكن الخروج منه، في ظل تدخلات الخارج التي أسهمت بدورها في دفع الحراك بعيدا عن الحرية والديمقراطية، بوصفهما مطلبين وإمكانيتين صارتا شيئا فشيئا افتراضيتين، ازدادتا بعدا عن مطالب الحراك، بقدر ما طال، وجافت مجرياته أحلام السوريات والسوريين.

لم تكن هناك وصاية، لأنه لم يكن هناك أوصياء من جهة، ومن يمكن فرض الوصاية عليهم من جهة أخرى. ولو كان هناك وصاية لأمكن تفادي أخطاء سياسية كثيرة حذّر "الأوصياء المزعومون" منها، لكن أحدا لم يستمع إليهم، بسبب سيطرة الشعبوية على الحراك في مرحلة مبكّرة، ولأن معظم الأوصياء كانوا من أنصار الحرية الذين رفض التمذهب والتعسكر دورهم بشدة، لأنه كان ضدهما. لقد عانى "الأوصياء" حال نبذ وعزلة، كالتي عانى منها شباب الحراك المدني، على الرغم من صلاتهما الواهية قبل الثورة، علما أن قوة الحراك وحجمه قطع صلاتهم القائمة، الضعيفة أصلا، وأخذ الشباب إلى مواقع جعلت من الصعب عليه تطوير علاقاته معهم، بينما كانوا يتعرّضون هم أنفسهم لحملات متعاقبة من العزل والتخوين: كعلمانيين يعادون ثورة أهل السنة والجماعة وعملاء للغرب الكافر والنظام الأسدي، الذي صار علمانيا مثلهم بدوره، بعد أن كان طوال عقود طائفيا/ نصيريا. في هذا الاحتجاز المزدوج الذي طاول الشباب والأوصياء على يد قوتين متكاملتين هما: النظام من جانب والتنظيمات المذهبية التي لا تقبل حلا غير عسكري، ونظاما غير مذهبي من جانب آخر، وترفض مشاركة أي خارج عنها في انتصارها الموهوم، كان من المحتم أن تتلاشى علاقة المثقفين بالحراك الذي كان يتلاشى بدوره، وأن يفشل التمرد في الحفاظ على مدنيّته وحيويته ووجوده، والمثقفون في استعادة موقعهم قبل التمرّد، وفاعليتهم باعتبارهم ممثلاً ضميرياً لمجتمعٍ فقد جميع أدوات الدفاع عن نفسه، ينكّل به نظام أكملت فظائعه ضدهم تنظيمات أخذت تمارس حيالهم سياساتٍ مطابقةً لسياساته التي لم تبزّها في القسوة والعنف والتعطش إلى القتل.

لا تكمن مأساة الثورة في وصاية ما فرضت على الأجيال الشابة، بل في ما تعرّض له هؤلاء من سحق وتشتيت وتمزيق، وواجهوه من تمذهبٍ وتعسكر، أخرجهم مبكراً من صراعٍ كان يبدو أنهم طرفه الثاني، وأن ما ينشدونه سيكون بديله المؤكد، بيد أن تقويض حراكه بدّل هذه المعادلة وحساباتها من أساسها، واستبدلها بمعادلةٍ لم يعودوا هم حدّها الثاني، بل التنظيمات المعادية للحرية ولوحدة الشعب، والتي حولت الصراع ضد الاستبداد إلى صراع سني/ علوي. لا تكمن المأساة أيضا في وجود مثقفين أوصياء على غيرهم، بل في عدم وجود مثقفين كهؤلاء، لو وجدوا لما افتقر التمرّد إلى برامج وخطط واستراتيجية ثورية، ولامتلك القدرة على حماية نفسه وتطوير وتائره وطاقاته، ولما تحول، بسهولةٍ مفاجئة، إلى تمذهب وتعسكر، ولصمد في وجه الدفق الإرهابي الذي أطلقه الأسد من سجن صيدنايا قرب دمشق، ونوري المالكي من سجن أبو غريب قرب بغداد، وسرعان ما تحول إلى سيل جارف غطت تنظيماته المناطق التي أخرج النظام منها، وغيرت أسس الصراع ضد الأسدية، ودمرت علاقات الثورة الدولية وحسّنت مواقع الأسد، إلى أن عاش الشعب تحت قصف النظام من الجو، وإجرام التنظيمات على الأرض، وكفر مواطنو البلدات التي ابتليت بجماعاتها المسلحة بكل شيء، وعادوا تدريجيا إلى النظام.

واليوم، ونحن نشهد إفلاس التعسكر والتمذهب، خصوصا بعد كارثة حلب التي تسبب بها، تصبح الحاجة ملحة إلى وضع خبرات المثقفين المنتمين إلى الشعب ومعارفهم تحت تصرف الحراك المجتمعي والشبابي الذي بدأت علامات تجدّده تلوح في الأفق، وأخذ يستعيد هويته حراكاً من أجل الحرية للشعب السوري الموحد، لكي لا يتخبط في الارتجال والشعبوية، ويغيب مجتمع الحرية عن الحاضر والمستقبل، بعد كل ما قدمه من تضحياتٍ وعاناه من عذابات. في هذه اللحظة المفصلية، من غير الجائز وطنيا انفصال المثقفين عن الحراك، ومن الضروري أن يستعيدوا دورهم، وما يمليه عليهم ولاؤهم للشعب من أنشطةٍ يضعونها في خدمته، وأن لا يسمحوا لغربتهم عنه أن تحرفه عن مقاصده النبيلة، وتضعهم في موقع التقصير والتقاعس عن أداء الواجب.

اقرأ المزيد
١٥ فبراير ٢٠١٧
روسيا في سورية بميزان ترامب

لم تبد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أي استجابات أو ردود فعل واضحة على إجراءات روسيا في سورية، والتي تصل احياناً إلى حد الطعن في الخاصرة، وذلك في ما يبدو انه رغبة من روسيا في اختبار سياسات إدارة ترامب ومعرفة ماهيتها وحدودها.

منذ سنة 2008، تاريخ غزوه جورجيا، يختبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سياسة الإدارات الأميركية تجاه روسيا عبر مواقفها الصادرة حيال تحركاته التي تنطوي غالباً إما على رفض وإدانة تلك السياسات، كما حصل في أوكرانيا، أو القبول بها كما حصل في سورية، وكان على مقتضى هذه المواقف يرسم حدود تحركاته ويكيفها، تضييقاً كي لا تلامس الخطوط الحمر الموضوعة ضمناً في حالة الرفض، وتوسيعاً للاستفادة إلى أعلى درجة من الهامش المسموح.

غير انه مع إدارة ترامب يواجه نمطاً مختلفاً من التعاطي، فعلى رغم الحماسة والاندفاع اللذين يسمان شخصية ترامب إلا أنه في الموضوع السوري لم يكشف عن طبيعة السياسات التي سيتجه إلى إقرارها وإنفاذها في ملف يكاد يستهلك الجزء الأكبر من فعاليات السياسات الدولية في العقد الأخير.

صحيح أن ترامب أكد في عدد من المرات أنه يرغب في التعاون مع روسيا في محاربة الإرهاب، لكنه لم يوضح الكيفية ولا الآليات التي يراها بهذا الخصوص، وبالعكس من ذلك اتخذ قرارات صادمة للروس، مثل إعلانه الرغبة في إقامة مناطق آمنة، ولعل الأخطر من ذلك إعلانه الصريح نيته تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة، وكل ما سبق مؤشرات ونذر سوء يفهمها الروس جيداً اكثر من سواهم.

في موضوع المناطق الأمنة يقلص ترامب النفوذ الروسي في سورية على مناطق صغيرة، ربما على طول الشريط المسمى «سورية المفيدة» ويلغي تالياً المظلة التي حاولت روسيا موضعتها على جزء من الشرق الأوسط، بما فيه أجزاء واسعة من تركيا، الجناح الجنوبي من حلف الناتو.

ويستكمل ترامب إجراءات تقليص النفوذ الروسي في مشروع محاربته للتمدّد الإيراني، ذلك ان إيران وأذرعها تشكل الأداة العسكرية لروسيا في سورية والتي من دونها لم يكن ممكناً تحقيق ما حققته، ومن دونها أيضاً ستكون روسيا امام خيارات قاسية، أسهلها العودة إلى الاحتماء وراء جدران حميميم وطرطوس.

حتى في موضوع بشار الأسد، لم يقل ترامب سوى انه لا مشكلة في بقائه، وهذه أيضاً يفهمها الروس جيداً، ذلك أن بقاء الأسد ولكن معزولاً يعني أن أميركا تطلب من روسيا تدبير شؤون الجزء الذي يسيطر عليه الأسد من سورية، بما فيه من إعادة الإعمار التي تتكلّف بحدود ترليون دولار، عدا عن تدبير شؤون الحياة المعيشية والإدارية في منطقة لا موارد فيها، لا قمح ولا نفظ وغاز، ولا يمكن الترويج فيها حتى للسياحة في بلاد صارت الخرائب تشكل معظم المشهد فيها.

وعلى عكس ما اشتهى وتمنى بوتين من أن إدارة ترامب ستتعامل معه بوصفه قوة ندية وذات مكانة دولية، لا يبدو أن سياسات ترامب تسير إلى هذا الأفق، وإلا لكانت احترمت إجراءات روسيا وترتيباتها وقامت بشرعنتها، في حين أن الحاصل هو أن إدارة ترامب تصنع خريطة تحركاتها وكأن روسيا لم تصنع شيئا منذ أيلول (سبتمبر) 2015، بل وكأن كل الجهد الذي قامت به في حلب من أجل تغيير موازين القوى وفرض سياسات أمر واقع على اميركا لم تكن سوى عملية لصوصية قامت بها موسكو وفي ظنها أنها تحصّلت على ما تريد، في حين أن إدارة ترامب تبلغها اليوم، وإن بطريقة غير مباشرة أن ذلك لم يكن سوى مباراة ودّية بهدف التسلية ولا تحمل أي طابع إستراتيجي كما أن نتائجها لا تؤخذ في الاعتبار ولا تؤثر في تراتبية اللاعبين.

هل يعني ذلك أن ترامب لا يعترف بأي إنجاز روسي في سورية ولا بأي مصالح لها في هذا البلد؟، بالطبع ليس هذا ما يريده ترامب تماماً، بقدر ما يريد القول ان سورية ليست حكراً على روسيا، فهناك أجزاء منها تشكل تماساً مباشراً مع مناطق للنفوذ الأميركي، في العراق والأردن وتركيا وإسرائيل، وهذه المناطق ليست مجرد شرائط حدودية بل لها عمق جغرافي يمتد داخل سورية، وبذلك، فإن ترامب يعترف لبوتين بحدوده الغربية في سورية، لكنه في الوقت ذاته يضع نفسه في موقع المقرّر في بقية الحدود.

ولا شك في ان هذا الأمر ينطوي على رسالة مهمة من ترامب لبوتين مفادها، أننا راقبنا استعراض قوتكم وتفحصنا أدواته ومكوناته، هو جيد إلى حد ما، لكنه لم يتجاوز مقدرات قوة إقليمية يمكن التعاون معها شريطة أن يصب ذلك التعاون في مصلحة إستراتيجيتنا الكبرى.

اقرأ المزيد
١٥ فبراير ٢٠١٧
مفترق طرق أمام السوريين

دخلت القضية السورية حالة من القلق والاضطراب إلى درجة بات معها السؤال المطروح: إلى أين يسير الأمر، هل يشير الوضع الراهن إلى مرحلة من «اقتسام النفوذ في سوريا» أم «إلى تقسيم لها»؟ والحق أن رباطاً يجمع بين السؤالين المذكورين، إضافة إلى أسئلة أخرى قد تكون دخلت في نطاق المرحلة السورية الراهنة، وأخذت تنثر الأسئلة حول المصير السوري، أي الذي يتصل بالمسألة الوطنية ديموغرافياً، وبالأحرى المرتبطة بالمسألة القومية. وبضبط أكثر اقتراباً، يبدو الأمر متصلاً بالسؤال حول ما إذا كانت مسألتا الوطنية والقومية، وذلك عبر المساءلة فيما إذا ظل تعريف سوريا بكونها الكيان الذي يضم السوريين أرضاً وشعباً أولاً، وعبر المساءلة الأخرى عما إذا كان تحديد القومية العربية بمثابتها الانتماء القومي التاريخي لسوريا.. أما السؤال الآخر فعما إن كانت الطائفية الدينية تعبيراً وجودياً عن كلتا البنيتين الوطنية والقومية.

إن تعاظم الخطاب الطائفي في هذه الأثناء لدى أوساط ثقافية وسياسية متعددة، تعبيراً عن كون الأمر لم يعد متصلاً بالأصلين الوطني والقومي اللذين برزا في الفكر العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإلى مرحلتنا هذه المعيشة، بل يمكن ملاحظة أن أحد أوجه ذلك الخطاب كان موجوداً قبل نشأة الهويتين الوطنية والقومية على مستوى التنظير المعرفي والأيديولوجي.

في مواجهة ذلك كله سيكون من الخطأ اللجوء إلى السلوك العشوائي اللاتاريخي، الذي يلجأ إليه دعاة الطائفية، من موقع أن الطائفية مقترنة بما يعتبرونه أساس الحركة التاريخية أي «الطائفة العرقية» و«العقيدة الدينية». وبالمقارنة التاريخية يمكن أن يتضح أن «العرق» لا يوجد وحيداً دون إطار اجتماعي تاريخي، وأن الدين لا يلخص الوجود الإنساني المركب والمعقد بما يختزنه من عناصر وعوامل تتحدر من المجتمع البشري فقط، وإنما يدخل في صلب ذلك «المجتمع المدني».

هكذا نتمكن من تفكيك الطائفيين الدينيين بمثابتهم دعاة طائفة دينية متحجرة ضمن رؤية لاتاريخية.

والحال أن الهوية الوطنية والانتماء التاريخي القومي لا يمكن أن يُطاح بهما عبر تفسير مضطرب لمفهومي الطائفة الدينية والانتماء القومي، فإذا مشينا على هذه الطريق الوعرة وغير المؤصلة بتدقيق، واجهنا أمامنا معطيات أخرى تقود إلى ما هو مغاير للانتماء القومي وللهوية السورية. وحيثما نلجأ إلى هذا الأسلوب الملفق نجد أنفسنا أمام ما قد يرغب في الوصول إليه المتحدثون عن «اقتسام النفوذ في سوريا» و«تقسيم سوريا»، فبغض النظر عن كون القولين المذكورين إن هما إلا صيغة ملتسبة، فإن حداً من التحليل اللغوي يظهر أن اقتسام النفوذ في سوريا إن هو إلا اقتسام لسوريا على نحو يضمن النفوذ العسكري والسياسي.. إلخ، للقوى التي مشت حتى الآن على هذا الطريق، على الرغم من خلافات تظهر هنا أو هناك لتظهر أن استراتيجيات متعددة تعمل على امتلاك سوريا أرضاً وشعباً، وإن بطرق أخرى ملتوية تقتضيها السياسات الملتوية.

حقاً، إنه مفترق معقد يعيشه السوريون أمام عملية ابتلاع أيقونة الكون، سوريا، أي التي قدمت للبشرية ما تفخر به من إنجازات وحضارات! والمفارقة الخطيرة أن الوطن العربي برمته يعيش ما يكفيه من أنواع الصراعات والاضطرابات والمشكلات العصية، ويجد نفسه وجهاً لوجه أمام مصائب كبرى مغرقة في التشاؤم، على المحورين المحلي القُطري والقومي. ويحدث ذلك دون اهتمام كافٍ من إخوة منتمين لهذا الوطن بالمصائر التي قد يجد نفسه أمامها خالي الوفاض من طاقات الدفاع والبناء! هذا ناهيك عن السعي لتفكيك العالم العربي من أي جهة أتيته.

إن مفترق الطرق الحاسم الذي يقف السوريون أمامه مرشح لمزيد من الاضطراب والبؤس، عدا القتل والتدمير والتفكيك في أقطار عربية أخرى أو مناطق مهمة أخرى. ومن ثم فإن ما يواجه الأحداث السورية يمثل مشروعاً للتفكيك المفتوح والمستمر، ولذا فإن التنبه إلى سوريا الجريحة هو أحد المداخل الحاسمة إلى حماية الوطن العربي كله.

اقرأ المزيد
١٥ فبراير ٢٠١٧
روسيا ومستقبل التحالفات

أكملتْ قوات درع الفرات، المسنودة، بشكل مباشر وفعلي، بعناصر الجيش التركي وآلياته، مهمتها التي بدأتها انطلاقاً من رأس جسر جرابلس غرباً نحو أعزاز، ووضعت تحرير مدينة الباب استراتيجيا قصيرة المدى، باعتبار الباب تطل على مدينة حلب، وتحتفظ بأواصر جغرافية قوية مع كل من جرابلس وأعزاز.

تقدّمت قوات درع الفرات ببطء، وعينها على قوات سورية الديمقراطية، وراقبتها وهي تقتحم مدينة منبج، وتقدّم مادة إعلامية لافتة، بإعلانها الحملة على الرقة. حافظت قوات الدرع على تقدمها البطيء نحو مدينة الباب، حتى أحكمت الحصار عليها. وخلال ذلك، تلقت هجومين، أحدهما من قوات النظام، والآخر كان ضربة جوية "غير مقصودة" من الطيران الروسي، فقدت خلالهما بعض العناصر العسكرية، وتم تجاوز الحادثتين بفضل التعاون الروسي التركي الكبير، والمنسَّق على مستوى الرؤساء، والذي رعى كل التحرّكات منذ بداية الدخول التركي إلى جرابلس.

يبدو التحالف التركي الروسي قوياً حتى الآن، وقد مرّ مقتل الجنود الأتراك الثلاثة وجرح زملائهم بقذيفة روسية، مرور الكرام، بعد أن سارع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للاعتذار، وتحجج بقلة التنسيق الذي يحتاج إلى تفعيل أكبر ليمنع الاحتكاكات المميتة التي يمكن أن تحصل بين جيش النظام ومليشياته وبين الجيش المنضوي تحت راية "درع الفرات". وسيشكل، بحسب ما أعلن الجانب الروسي، أوتوستراد تادف حداً فاصلاً بين الجيشين، وهو أقصى خط يمكن أن تصل إليه مليشيات النظام، وقد وصلت بالفعل، فيما يبدو الجهد العسكري والدبلوماسي نشطاً للحفاظ على الهدوء في محيط الباب، على الرغم من أنها تعج بخليط مختلف من الأعداء الذين يتربص كل منهم بالآخر.

تعرف قوات النظام أنها ممنوعة من تجاوز تادف، وتعرف قوات سوريا الديمقراطية أنها غير قادرة على الاقتراب من الباب، وقد ردت على انتصارات قوات "درع الفرات" بمزيد من النشاط في محيط الرقة، والرقة معركة الجائزة الكبرى. وكان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد هاتف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي قال إن الحديث الهاتفي دار حول مكافحة الإرهاب في الباب والرقة. عند هذه النقطة، على الجانب الروسي أن يتوقف قليلاً، ليراجع حساباته التي بدأت بالتعقد، فهو مطالَبٌ بكبح جماح جيش النظام، ومن خلفه إيران التي ترغب بمزيد من التقدّم، ولا مانع لديها من الاحتكاك العسكري مع "درع الفرات"، وهو الأمر الذي حصل بالفعل، وجرى احتواؤه. وكان أردوغان قد التقى أيضاً رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، وبرئيس المخابرات الأميركية (سي آي إيه) الذي جاء بشكل خاص إلى أنقرة. وقد تنفخ هذه المتغيرات المتلاحقة الروح في التعاون الغربي التركي في سورية، ووجود الأعداء وجهاً لوجه وبشكل مباشر داخل مدينة الباب، وعلى تخومها قد يجعل تركيا تختار المواجهة، بعد أن حصلت عملياً على الخمسة آلاف كيلو متر المنشودة، وهي مثلث جرابلس أعزاز الباب، وحمايتها من الجو قد يتيحها الوجود الأميركي، وعندها قد تصبح روسيا بمأزق عليها الخروج منه، ولن تجد إلا مزيداً من التورّط العسكري سبيلاً لمعالجة الأمر.

نشأ الحلف الروسي التركي في غياب شبه كامل للعامل الأميركي، وحضور أوروبي في الشق الإنساني فقط، وبعد أزمة دبلوماسية حادة، وجد الطرفان نفسيهما في خندق واحد. الآن وقد حصلت تركيا على معظم ما ترغب به، ولم يبقَ إلا المعركة الكبرى في الرّقة، والتي ستصر على المشاركة فيها وبقوة، وهي معركة لن تغيب عنها أميركا بأي حال، يبقى العامل الروسي موضع شك، ونحن نشاهد اهتماماً روسياً لافتاً بالمناطق الساحلية، وإصراراً مغالياً في الجهود السلمية لتقريب المعارضة والنظام.. وسيتطلب الأمر جردة حساب دبلوماسية وعسكرية قبل الانتقال إلى معركة الرقة، فمن غير المعقول أن يبقى الجيش الحر وجيش النظام، ومن خلفه مليشات إيران وقوات سورية الديمقراطية في مكان واحد، وعلى جبهة واحدة بدون أن تُجبر روسيا وتركيا على إعادة النظر بالحلف الذي تأسّس في غفلةٍ من اللاعبين الكبار.

اقرأ المزيد
١٥ فبراير ٢٠١٧
القلمون والكرم الحاتمي .. نظرة في مفاوضات اعادة أهالي القلمون لبلداتهم

فجأة، ودون توقّع مسبق، بدأ الضجيج الإعلامي حول مبادرة يقدمها حزب الله بخصوص جرود القلمون، وتختلف المبادرة كثيراً، بحسب بنودها، عن بقية المبادرات والمصالحات التي انتهت كلها بالتطهير العرقي، كما هو الحال في داريا ووادي بردى وحمص القديمة وغيرها.

تتلخص المبادرة بخروج ميليشيا حزب الله من اثنتي عشرة بلدة وقرية واقعة في تلك الجرود، وعلى رأسها بلدة يبرود ورنكوس وعسال الورد، على أن يتم تسليم إدارة المنطقة كلها إلى فصيل يُطلق عليه "سرايا أهل الشام"، وهو فصيل نشأ من توحيد عدة فصائل. كما تنص على إصدار عفو عام عن المطلوبين، وعودة لاجئي المنطقة في لبنان إلى قراهم وبلداتهم المذكورة.

ومع أن المبادرة لا تتحدث عن منطقة القصير المجاورة لمنطقة القلمون، ولا عن سكانها اللاجئين، وهم بأعداد أكبر بكثير من لاجئي القلمون، فقد تم تهجير سكانها في عام 2013 بشكل كامل أو شبه كامل. ومع أن المبادرة، لو تم تطبيقها، ستحصر المنطقة بين نارين؛ ميليشيا حزب الله من الغرب، وسلطة الأسد من الشرق، حيث تبقى، بحسب المبادرة، مسيطرةً على البلدات الواقعة على الطريق العام، كقارة ودير عطية والنبك والقسطل ومعلولا، ومع ذلك، بحسب الكرم الحاتمي، فأهل القلمون "المستقل" سيديرون شؤونهم بأنفسهم، دون تدخل من سلطة الأسد أو حزب الله، بحيث تصبح تلك المنطقة، وكأنها دولة ذات سيادة.!!. هكذا تشير بنود المبادر.

والسؤال؛ من أين جاء هذا الكرم، وفي هذا الوقت المشحون بالاحتمالات المتشابكة والغموض المبهم، والثرثرة الانتخابية اللبنانية.!؟.

هل لأن حزب الله واقع في زنقة لا يحسد عليها، حتى اضطر أن يذبح فرس حاتم الطائي إكراماً لضيوفه من أهل القلمون .

أم أن المسألة هي مجرد مسرحية لا تختلف عن آلاف المسرحيات المحلية والعالمية التي تم هندستها وإخراجها وتمثيلها بقذارة على الأرض السورية منذ ست سنوات وحتى الآن، والتي أدت إلى تدمير البلد وإبادة شعبه قتلاً وتهجيراً.!؟.

لو تجاوزنا المسرحية وتركناها لوقتها، فإنني أرى كما يرى غيري أن حزب الله يعيش" زنقة" لم يكن يتوقعها. فقد دخل إلى سورية لمساندة سلطة الأسد، والقضاء على"الإرهابيين التكفيرين"، وكان يعتقد أنه بعد شهر أو شهرين، وجولة أو جولتين، سيأتي الانتصار الأعظم" وتعود ميليشيا الحزب إلى لبنان، وراية المقاومة والممانعة ترفرف فوق هاماتها الشامخة.

كما سيعود الأسد أسداً ليزأر على شعبه من جنوب سورية وحتى شمالها، ويُدخِله إلى بيت الطاعة والخنوع، بعد أن تجرأ وأهان إرثه العائلي، ودعا إلى إسقاطه. لكن محفل العائلة المرتبط بالمحافل العالمية قررت عدم السماح بسقوط العائلة، حتى ولو تحول البلد إلى كومة من ركام، وحتى لو أدى الأمر لتسليم مفاتيح البلد إلى أكثر من طامح وطامع خارجي.

لكن الزمن طال كثيراً، ورجال الحزب الأشاوس يدخلون إلى سورية منتفخي الأوداج، ثم يعودون محملين في التوابيت إلى أزقة الضاحية.!!. ومنها تنتشر مآسيهم في روابي لبنان، وتنوح حاضنة الحزب الشيعية على أولادها، وتتبرم من تلك المهمات الجهادية.!!. ومن الدعوة المستهلكة للدفاع عن المقامات الموجودة والمختلقة.

وتبعه الشعب الإيراني بالتبرّم والتذمر بعد أن رأى أيضاً التوابيت تتوارد يوماً بعد يوم من سورية إلى قم، حيث يُصلَّى على الجثامين النافقة عند قبر الشهيد أبي لؤلؤة.!!.

وإذا تجاوزنا إحراج الحزب أمام طائفته الشيعية، والتفتنا إلى الفئات اللبنانية عموماً، لوجدنا مواقفها تتقارب من حيث المعارضة الواضحة لتدخل حزب الله في سورية، نظراً لأن الدولة اللبنانية اتبعت سياسة النأي بالنفس، وقناعتها التامة بأن حزب الله ساهم في تدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان، وهذا التدفق شكل إرباكاً إدارياً واجتماعياً. وانطلقت المطالبات بعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم. من هنا ظن الحزب أن مبادرته ستمتص جزءاً من الغضب العام، وأضاف إليها دعوته الملحاحة بضرورة التواصل بين حكومة لبنان وسلطة الأسد، وقد نالت هذه الدعوة رضى "قصر بعبدا"، حين أشار إلى أن سلاح المقاومة مكملاً لسلاح الجيش اللبناني. غير أن هذا التناغم أثار غضب الشارع السياسي والشعبي، وقد جاء أقوى رد من سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية، حين تساءل بأسلوب استنكاري: وهل يوجد حكومة في سورية حتى يتم التواصل معها، وهل يُعقل أن يقوم لبنان بإرسال الللاجئين إلى مصيرهم المجهول.!؟.

كما أن الحزب أدرك أنه في زنقة مادية، لاسيما أن ميزانيته تأتي كلها من إيران، وهذا ما يقر به السيد حسن نصر الله بـ "عضمة لسانه، حين قال في أحد خطاباته المتلاحقة: نحن وعلى المكشوف وعلى رأس السطح نقول موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران. وهذا ما أثار حفيظة الشعب الإيراني، ونفر الكثيرون واشمأزوا من الطريقة التي تتبعثر فيها أموال الشعب، لاسيما الفقراء منهم. وترجمةً لهذا النفور، بدأت إيران بقطع المساعدات عن حزب الله، حسبما ذكرت بعض الجهات الإعلامية مؤخراً.

هذه واحدة، أما الثانية، فقد انتهت مرحلة الغزل بين أميركا وإيران بانتهاء بياخة باراك أوباما وميوعته في البيت الأبيض، ومجيء دونالد ترامب الذي يذكرنا بالكاوبوي الأميركي. فهو قبل أن يجلس على كرسي الرئاسة، توجه شرقاً ليهدد إيران ويوعز من طرف خفي بالعمل على إخراجها من سوريا، هي وحاشيتها من ميليشيات مذهبية قادمة من أفغانستان والعراق واليمن، وعلى رأسها حزب الله.

ولكي تجسّ إيران نبضَ ترامب، قامت بتجربة صاروخية بعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة. ومباشرة انتفض نبض ترامب وعلت نبرته، ورد عليها بإطلاق أول رصاصة كلامية من العيار النووي الثقيل، حين وصفها بالدولة الإرهابية الأولى في العالم، وهي"تلعب بالنار"، وإنه "لن يكون طيباً معها كما كان سلفه أوباما"، وكان قبلها قد أصدر ما يشبه الفرمان السلطاني بضرورة قيام مناطق آمنة في سورية.

وبما أن إيران حكومة وشعباً ما هي إلا ظاهرة صوتية أكثر من كونها قوة فاعلة، فقد راحت تهدد أميركا وتتوعدها بالموت القادم على صهوة الصاروخ الفارسي. وفي الوقت ذاته أوعزت لحزب الله، ذراعها في المنطقة، أن يقدم هذه المبادرة الاستباقية لإنشاء منطقة تصالحية آمنة في جرود القلمون. وكأنها تقول لترامب: انظر يا ترامب، نحن أسرع منك في تنفيذ المنطقة الآمنة في جوار منطقة نفوذ وليدنا حزب الله.

وإيران تهدف في الوقت نفسه إلى طمس معالم الخناجر المطلية بدماء السوريين، وإلى تلميع صورتها ما أمكن أمام أعين ترامب الحمراء، لاسيما أن مياه العلاقة بينها وبين روسيا في الساحة السورية لا تجري في سهل منبسط.

إلا أن كل تلك الاحتمالات التي أوردناها عن أسباب كرم حزب الله الحاتمي في القلمون، يمكن أن يقابلها نوايا باطنية هدفها المماطلة والتمويه ريثما تنجلي المواقف على الساحة السورية، فإيران ومعها حزب الله لا تريد أن تخرج من سورية بصورة انهزامية واضحة المعالم، ولذلك فهي تلعب على الحبلين، فمن جهة أوعزت لحزب الله بتقديم مبادرته "الحاتمية"، ومن جهة ثانية أوعزت إلى سلطة الأسد برفض المبادرة بحجة أن منطقة القلمون ستكون وكراً للإرهابيين، بحسب ما ذكرته بعض الجهات الإعلامية.

وبين هذا وذاك، يبقى انتظار ما سيحدث في المستقبل، سيدَ الموقف، ولاسيما ونحن على أبواب مؤتمر جنيف الرابع. ولا أظنه سيكون أفضل حالاً من أشقائه الذين داست عليهم بساطير اللعبة الأممية، حتى أدت إلى تدمير وطن اسمه سورية، وإبادة شعب اسمه الشعب السوري.

اقرأ المزيد
١٤ فبراير ٢٠١٧
في استهداف الروس جنوداً أتراكاً

عندما اقتربت عقارب الساعة من التاسعة إلا ربعاً صباح التاسع من فبراير/ شباط الحالي كانت مقاتلة روسية تقلع من قاعدة حميميم السورية، لتنفذ أوامر صادرة لها بمهاجمة مجموعةٍ يفترض أنها عناصر لتنظيم داعش في قلب مدينة الباب التي تعمل القوات التركية بالتنسيق مع الجيش السوري الحر على استردادها من التنظيم منذ أشهر.

أنجز الطيار مهمته، لكنّ المستهدفَ، كما أعلن مساء اليوم نفسه، وبعد ساعات من التعتيم على العملية، كان الجنودَ الأتراكَ الموجودين في المبنى، حيث سقط منهم ثلاثة قتلى و11 جريحاً. هي العملية الثانية التي يتم فيها استهداف الجنود الأتراك هناك. الأولى في 6 ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، وسجلت ضد مجهول. وهذه هي الثانية في المكان نفسه، لكن الروس هم من نفذوها هذه المرة.

اتصال هاتفي مطول بين الرئيسين الروسي والتركي يكاد ينهي المسألة حبّياً على أنها هجوم خاطئ غير متعمد، لكن تصريحات روسية تظهر، في صباح اليوم التالي، باتجاه تصعيدي تحمّل القيادة العسكرية التركية المسؤولية بإرسال الجنود الأتراك إلى مكان من المفترض ألا يكونوا فيه.

لو كان توصيف استهداف الجنود الأتراك في مدينة الباب السورية، حقا، "نيراناً صديقة" لما كانت موسكو فجّرت نقاشا سياسيا مع أنقرة حول المسؤول عن الحادثة وأسبابها محاولة رمي الكرة على هذا النحو في ملعب الأتراك. هي ليست مسألة عابرة وخطأ فنياً، حسب الروس والأتراك، على الرغم من أن الطرفين يعملان على قطع الطريق على مزيد من التصعيد والتوتر. كيف تغامر القيادة الجوية الروسية بإعطاء أوامر لطياريها بذريعة مهاجمة مواقع لـ "داعش" في عملية من هذا النوع، وهي تعرف أن القوات التركية تخوض حرب شوارع ضد مجموعات التنظيم، وأن التنسيق العسكري مسألة محسومة في ظروفٍ من هذا النوع؟

القراءة الأولى في أسباب "الاعتداء الروسي" على الجنود الأتراك من دون التعرّض لأي موقع توجد فيه قوات الجيش السوري الحر قد تقود إلى نتيجة فورية، تتلخص بأنها عملية مقصودة مدبرة ومعدّة جيداً، سببها الانزعاج والقلق الروسي الإيراني من التحرّكات التركية الإقليمية والدولية أخيراً. وأن قرارا روسيا إيرانيا هو الذي أدى إلى توجيه هذه الرسالة المشتركة، بعد جملة من التحرّكات الإقليمية، كان مركزها أنقرة، في الأسبوعين الأخيرين، بينها الاتصال الهاتفي المطوّل بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والأميركي دونالد ترامب، ووصول رئيس جهاز الاستخبارات الأميركي الجديد، مايك بومبيو، إلى تركيا، لمناقشة ملفات ثنائية وإقليمية كثيرة، تفتح الطريق أمام عودة العلاقات التركية الأميركية إلى سابق عهدها، وهو تحرّك أميركي تزامن مع وصول وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، إلى أنقرة، وسبقه تحرّك ألماني بريطاني إماراتي رفيع، ثم توج بجولة خليجية لأردوغان تشمل البحرين والسعودية وقطر.

موسكو وطهران ستغضبان حتما عندما يسمعان المتحدّث باسم رئاسة الجمهورية التركية، إبراهيم كالين، يعلن أن بلاده قدمت خطة إلى الولايات المتحدة بخصوص كيفية طرد عناصر تنظيم داعش الإرهابي من محافظة الرقة، خصوصا إذا ما جاء ذلك من دون علم روسيا أو بالتنسيق معها. فلم لا تكون عملية مهاجمة الجنود الأتراك في الباب رسالة روسية مختصرة إلى أنقرة؟

حقيقة أخرى، في الاتجاه المعاكس هذه المرة، وهي أن يكون الدرس الأول الذي تعلمناه من عملية مهاجمة الجنود الأتراك في الباب هو أن ما يريده، ويحاول أن يفعله الرئيسان التركي والروسي، في رسم مسار العلاقات بين بلديهما، يتعارض مع رغبة قوى وأجهزة عميقة داخلية، تختلف حساباتها وقراراتها عما يقوله أردوغان وبوتين.

حمّلت أنقرة مسؤولية إسقاط المقاتلة الروسية في المتوسط في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 لجماعة الكيان الموازي، المحسوبة على فتح الله غولن التي كانت تخطط لضرب العلاقات التركية الروسية باسمها، ونيابة عن بعضهم، وهي كرّرت فعلتها هذه مع عملية اغتيال السفير الروسي، أندريه كارلوف، في أنقرة في 19 ديسمبر/ كانون الأول المنصرم. ويرى بعضهم في موسكو أنه لا بد من الرد على الأتراك الذين يتلاعبون بكرامة الروس وحضورهم الإقليمي، وأن الرد ضرورة هنا، لأن الاعتذار والأسف غير كافيين لإقناع القوميين والمتشدّدين الروس الذين أغضبهم استهداف الأتراك رموزهم العسكرية والدبلوماسية مرتين خلال أقل من عام. وها هم يستغلون الفرصة المناسبة للتحرّك، خصوصا وأن المعطيات كلها تقول إن تبرير الهجوم الجوي الروسي على هذا النحو لن يقنع أحداً.

عندما يحمّل ديمتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الكرملين، أنقرة المسؤولية المباشرة عن الحادثة، ويعلن أن موسكو نسّقت مع تركيا، ونفذت الغارة، بعد أن أخذت إحداثيات الأماكن التي يوجد فيها الجنود الأتراك منها مباشرة. وعندما يأتي كلامه هذا، بعد اتصال مطول بين بوتين وأردوغان، ناقش ما جرى باتجاه تضييق الخناق على المسألة، وقطع الطريق على تضخيمها وتحميلها سيناريوهات سوداوية مبالغ فيها، وعندما يردّ عليه رئيس الأركان التركي، خلوصي آكار، في اليوم التالي، بشكل مفصل، يفنّد المزاعم الروسية، ويقول إن الجنود الأتراك الذين تعرّضوا للقصف الروسي في مدينة الباب السورية كانوا متحصّنين في المبنى منذ أكثر من عشرة أيام، وأنّه تمّ تزويد الروس بإحداثيات الأماكن التي توجد فيها القوات التركية بشكل منتظم منذ أكثر من شهر، استناداً إلى الاتفاقية التي أبرمت بين الطرفين في 12 يناير/ كانون الثاني الماضي، فإن الموقف الروسي والرد التركي يحمل معه أكثر من تساؤل: ألم يكن الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق مشتركة تعمل أسابيع مثلا، ثم تخرج علينا بتقرير يقول إن الاعتذار الروسي الرسمي كافٍ لإغلاق الملف، وتقديم ما جرى خطأ غير متعمد، حلا مرضيا للجانبين؟ لماذا رجّح بعضهم في روسيا تحميل الأتراك المسؤولية بهذا الشكل الرسمي والعلني، من دون التريث حتى لإنجاز التحقيقات الأولية في البلدين؟ هل هي مصادفة فقط أن نرى قوات النظام السوري، بالتنسيق مع مجموعات حزب الله اللبناني، تتقدم إلى الباب، في محاولة للسيطرة عليها، وهي تعرف أن القوات التركية تريدها أن تكون جزءا من مشروع المنطقة الآمنة، وعملية درع الفرات؟ هل هناك من يخطط، مثلا، لمواجهةٍ بين القوات التركية والقوات المتقدّمة من الجنوب، غير عابئ أن تتحوّل المواجهة إلى صدام عسكري تركي إيراني، تمهد له "غارات خاطئة" من هذا النوع؟

تبني الكرملين ما قامت به المقاتلة الروسية قبل أيام، والرد التركي عبر الرئيس أردوغان الذي كرّر ما قاله رئيس الأركان في تحميل المسؤولية للروس مباشرة، يذكّرنا بما فعله رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، الذي قال دفاعا عن الضابط الذي أسقط المقاتلة الروسية إنه هو الذي أعطى الأوامر، بدلا من التريّث والتهدئة. الجناح القومي المتشدّد في البلدين أو لعب ورقة الجلوس في هذه المدرجات قد يكون هو الغالب أحيانا، والذي يترك القيادات السياسية في الجانبين أمام خيار المضي حتى النهاية وراء ما يُقال. لم يحصل الجناح القومي الروسي على الأجوبة التي يريدها حول قتل السفير كارلوف، وهي ضربة أخرى بعد إسقاط الطائرة، وكان لا بد من ارتكاب "هذا الخطأ" المقصود، والدفاع عنه بشكل علني رسمي، ربما لتتساوى الأمور، وتكتمل عملية تبادل الرسائل بين أنقرة وموسكو؟ -

اقرأ المزيد
١٤ فبراير ٢٠١٧
سورية: الثورة والحرب والدمار و... ذكرى عيد الحب

طالت مأساة سورية حتى أضحت مجرياتها ذكريات حية وجروحاً لا تندمل. كلما بهتت صور بعض سيرتها الأولى ومعاناتها الملحمية وآمالها وأخطائها وتراجعت عن الانشغال الحالي، جاءت مآسٍ جديدة تبقي الصور نابضة في البال وتصل الحاضر بالماضي القريب بخيوط من نار ودم وخراب وخيبات أمل وتعطش إلى العدالة.

تقرير جديد لمنظمة العفو الدولية ذات عنوان مرعب «المسلخ البشري» عن إجرام ممنهج في سجون النظام السوري، وبشكل خاص سجن صيدنايا الرهيب، ما زال يلغ في دماء المعتقلين المخفيين تحت رادار الرقابة القانونية والدولية لسنين ولم تكشفه أي جهة من قبل. ثم أتت المنظمة وكشفت بعد سبر وتدقيق مطولين أن ما بين ٢٠ و٥٠ معتقلاً كانوا يعدمون اسبوعياً بعد محاكمات صورية، وتدفن جثثهم في مقابر جماعية منذ بداية الثورة عام ٢٠١١. قدر تقرير منظمة العفو عدد من قضوا بهذه الطريقة الرهيبة بما بين خمسة وثلاثة عشر ألفاً من المواطنين المعتقلين تعسفياً حتى نهاية ٢٠١٥، حيث يبدو أن معظم مصادر التقرير الأساسي (أربعة حراس وقاضٍ) غادروا مواقعهم ولم يعد ممكناً لهم الشهادة على هذه الممارسات.

لكن المنظمة ترجح أن الإعدامات لم تتوقف حتى اليوم، إذ لم يتغير من شروط ارتكابها شيء. أي أن أولئك الذين قضوا في السنوات الأربع الأولى من الثورة لم يتحولوا إلى فاجعة ماضية، ربما كان بالإمكان توجيهها نحو فعاليات نضالية أو ملاحقات قانونية أو بدايات لتسكين آلام من فقدوا حبيباً أو قريباً. بل يبدو أن الفاجعة مستمرة بلا توقف في أقبية السجون المظلمة، حيث لا رقيب ولا صدى للعذابات. وتبقى أعداد الضحايا تتراكم بعد أن توقفت كل المنظمات الدولية عن تسجيلها وتمحيصها ماعدا المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي وثق ما لا يقل عن ستين ألف ضحية للتعذيب، بمن فيهم أولئك الضحايا المشوهون بطرق مرعبة الذين سجلتهم عدسة المدعو «سيزار»، والذين تراوحت تقديرات أعدادهم بين الخمسة والستة آلاف ضحية.

كذلك الحال بالنسبة للتدمير الهائل الذي أصاب مختلف أنحاء البلاد (ما عدا الساحل ووسط دمشق لأسباب واضحة). تراجعت أسماء أماكن وأحياء مثل باب عمرو ودرعا البلد وجوبر وحتى داريا، التي نكأ التدمير الشديد الذي أصابها في بدايات الثورة الشاشات والقلوب، وحلت محلها حلب القديمة ومدن صغيرة في أدلب دمرها سلاحا الجو السوري والروسي وتكالب من كانوا أخوة وأصبحوا أعداءً عليها قصفاً وتفجيراً. وغداً ربما ستزيح خرابات غيرها من الأماكن صورها السائدة اليوم لتأخذ مكانها على شاشات التلفزيون وتقارير المنظمات الدولية، وفي خطابات المشيعين والشامتين في آن. ويبقى البلد ككل وكأنه على فوهة مفرمة لا تتوقف، تقضمها قطعة قطعة وتلفظها أطلالاً وحطاماً وتجبر أهلها على النزوح والتشتت والهجرة. وعلى رغم أن بعض شركات إعادة البناء من دول مولت القتال في سورية بل شاركت فيه مباشرة، مثل إيران، قدمت مخططات لإعادة البناء في مناطق مختارة من سورية، إلا أن المهزلة لا تغيب عن أحد. فالهدم بيد وادعاء إعادة البناء باليد الأخرى ليس فقط رياء ولكنه استثمار مضاعف تجنى منه الأرباح المادية على الطالع والنازل، وتتغير نتيجته خريطة البلد الديموغرافية والأيديولوجية.

أما مأساة اللاجئين فما زالت تتفاقم باستمرار تدفقهم من مناطق مختلفة إلى ملاجئ الداخل والخارج على السواء، وإن تراجعت قدرة ورغبة دول الجوار والشتات البعيد على الاستيعاب والترحيب. بعض المناطق التي هجرت حديثاً لم تعان هذه المشكلة في السنوات السابقة، ولكنها انضمت اليوم إلى المناطق المنكوبة ولحقتها في استفراغ معظم سكانها ودمار غالبية منشآتها، بخاصة مع احتدام الكر والفر في شمال البلاد وشمالها الشرقي بين داعش والنظام وحلفائه والجهاديين المختلفين والقوات الكردية والكردية-العربية وتلك المدعومة من تركيا. يختفي خلفهم كلهم ويغذيهم مالاً وحقداً وانتقاماً وقصر نظر ممولون متباينون من أعظم الدول إلى أقربها انتماءً ممن استمرأوا اتخاذ سورية مسرحاً لتجريب سياساتهم وإستراتيجياتهم ومبتكراتهم القاتلة.

معاناة لاجئي سورية تزداد لأن ضغط الهجرة خلفهم وإغلاق أبوابها أمامهم، بخاصة بعد قرار ترامب المتعنت والمتعجرف بإيقاف برامج الهجرة السورية إلى أجل غير مسمى، وضعهم في خانة حرجة وضيقة لا يبدو أن لها مخرجاً قريباً. ولكن هذه المأساة تحولت من مشكلة سورية إلى أخرى عالمية، ولا يبدو أن مضاعفاتها الممكنة ترشد صانعي قرارات التضييق على اللاجئين الذين يتعامون عنها ويفضلون الشعبوية والعنصرية على الإنسانية والقوانين الدولية. وتكبر أجيال من الأطفال السوريين في المخيمات بلا تعليم مناسب لكي تتخرج لاحقاً إلى مدارس البؤس واليأس والضياع وربما الإرهاب.

اليوم، ونحن على أعتاب عيد الحب الذي ابتدأ غربياً وأضحى عالمياً، أود لنا أن نتذكر، ونحن نغص بذكريات الثورة السورية الحية الآلام، ذلك الرجل الحلبي المجهول الاسم الذي سحله زبانية النظام في الشوارع قبل قتله في مثل هذه الأيام من ٢٠١٣، ثم صوروا جريمتهم ونشروها على اليوتيوب. حسام عيتاني كتب في «الحياة» يومها مقالاً بعنوان «فالنتين السوري» يهصر القلب (الحياة، الجمعة ١٥/2/٢٠١٣). فهذا الرجل المدمى والمعذب وشبه العاري والمربوط من ساعديه بحبل تجره سيارة عسكرية، يرفض أن يدل القتلة على عنوانه لكي يغتصبوا زوجته مقابل السماح له بتوديعها وأطفاله قبل قتله. وهو يجيب عن طلبهم الوقح وقهقهاتهم القميئة بوصف زوجته بعبارة رائعة في شغفها وإنسانيتها العميقة ذات النكهة المحلية: «بنت عمي وتاج راسي». ويتحول هذا البطل المجهول، على رغم ميتته المذلة والشديدة الإيلام، إلى شهيد الحب الأول بلا منازع وقديسه على غرار القديس فالنتين نفسه. ويضرب بشهادته مثلاً على النبل العادي والشعبي الذي لم تتمكن سنوات القهر الأسدي الطويلة من نزعها من وجدان الإنسان السوري البسيط، الذي سيبقى نبراساً على درب جلجلة سورية الطويل في استعادتها لأمان أبنائها وكرامتهم، وحريتهم في نهاية الأمر، على رغم أنف الحاضر المزري.

اقرأ المزيد
١٤ فبراير ٢٠١٧
ما الذي تبقى للسوريين في مفاوضاتهم؟

كانت المفاوضات السورية، بين النظام والمعارضة، في مسار «جنيف» (1 و2 و3) اشتغلت على أساس بيان دولي، تم التوافق عليه في العام 2012، وقد استندت إليه مجمل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، بخصوص سورية، فإذا بها، منذ بداية هذا العام، تدخل في مسار «آستانة»، أي في مسار جديد ومغاير، يختلف في أطرافه وموضوعاته ومرجعياته عن المسار السابق؛ حتى ولو جرى اعتبار الاجتماعات التفاوضية القادمة في جنيف (أواخر هذا الشهر) باعتبارها الجولة الرابعة.

فوق ذلك فقد أضحى مشهد المفاوضات السورية بالغ التشويش والتعقيد، أكثر من قبل، إذ كان سابقاً ثمة الائتلاف الوطني، ثم «الهيئة العليا للمفاوضات» (مع أطراف أو منصّات أخرى)، فإذا بنا اليوم نرى المعارضة الرئيسية، والتي كانت سابقاً ترفض أي تشكيك بوحدانية تمثيلها للمعارضة في المفاوضات، تنقسم على نفسها، إذ بات لدينا «الائتلاف» و «الهيئة» والفصائل العسكرية، من دون أن نغفل المنافسات أو المنازعات في كل طرف منها.

هكذا، وفي خضم النقاش الحاصل في شأن هذا التحوّل، وبعيداً عن الرغبات أو التقييمات الذاتية، يفترض هنا ملاحظة المسائل الأساسية الآتية:

أولاً، إن السوريين، وهذا يشمل الطرفين المتصارعين والمعنيين مباشرة (أي النظام والمعارضة)، ليسا هما من يحدّد طبيعة المفاوضات، إذ بيّنت مفاوضات «جنيف»، في جولاتها الثلاث السابقة، التي أجريت خلال السنوات الأربع الماضية، ومفاوضات «آستانة»، التي أجريت مطلع هذا العام، أن الأطراف الخارجية، أي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، هي التي تحدد مسار المفاوضات وموضوعاتها وأولوياتها، وحتى أطرافها، مع غياب ملحوظ للدور العربي، على رغم تبايناته (لا أعتقد أن دخول الأردن على خط مفاوضات آستانة يغطي على غياب دور عربي بمعنى الكلمة).

ثانياً، هذه المفاوضات استمرت وفقاً لقاعدة دولية وإقليمية مفادها عدم تمكين أي من الطرفين التغلّب على الآخر، لا بالوسائل السياسية ولا بالعسكرية، لا النظام ولا المعارضة. ويستنتج من ذلك أن الأطراف الخارجية، سواء اعتبرت مساندة للنظام أو مساندة للمعارضة، ظلت تشتغل على أساس المحافظة على ديمومة الصراع الدامي والمدمر في سورية، الذي استنزفها، وهجّر شعبها، وقوّض إجماعاتها الداخلية، وأطاح بسيادتها، وأضعف البني الدولتية فيها، بدل الاشتغال على إنهائه. وطبعاً هذا يستثني إيران التي عملت وفقاً لأجندتها الرامية إلى تعزيز نفوذها وهيمنتها في المشرق العربي، من العراق إلى لبنان مروراً بسورية، وعلى قاعدة: «إيران أو فلتخرب البلد»، الذي يتماهي مع شعار «الأسد أو تخرب البلد». هذا يفيد، أيضاً، أن التدخل الروسي، على وحشيته وبشاعته، جرى في إطار التفاهم الدولي والإقليمي، لا سيما بعد انكشاف التباعد في الأجندة بين إيران من جهة وروسيا من جهة أخرى.

ثالثاً، لم تجر العملية التفاوضية، ولا في أي وقت، وفقاً لمعطيات الثورة، بمعانيها واستهدافاتها، المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، وإنما هي جرت وتجري وفقاً لسياسة الأمر الواقع، أي موازين القوى، والمعطيات الدولية والإقليمية المتعلقة بالصراع على سورية (وليس الصراع في سورية). وقد شهدنا أن مشروع «الهيئة العليا للمفاوضات»، الذي قدم للأطراف الدولية قبل أشهر، رضخ لهذه المسألة في نصه على الشراكة في الحكم، بين النظام والمعارضة، مع تفهم أن هذا الأمر يعني حصر الصراع بتغيير رأس السلطة، والانتهاء من نظام الأسد؛ وبالطبع فهذا أمر كبير الأهمية، وضروري، لكنه لا يلبي الحد الأدنى للأهداف التي توخاها الشعب السوري من ثورته، لا سيما بعد كل الأثمان الباهظة التي تم دفعها.

رابعاً، في حين يبدو النظام موحّداً، في خطاباته وأجندته وحتى في تشكيلته التفاوضية، كما لاحظنا، فإن المعارضة، في المقابل، تبدو غير ثابتة، وغير موحدة، لا في خطاباتها، ولا في أجندتها، وبالطبع ولا في تشكيلتها التفاوضية، كما ظهر مؤخّراً، ما يضعف صدقيتها، وفاعليتها، وهذا لا ينبثق من وجود منصّات مختلفة للمعارضة، فقط، وإنما هو ينطبق على وفد المعارضة الأساسي الذي يفترض أن «الهيئة العليا للمفاوضات» تمثله، أو تعبر عنه، إذ أن هذا التمثيل جرى كسره في مؤتمر الآستانة (الشهر الماضي) بإيلاء بعض ممثلي الفصائل العسكرية مهمة المفاوضات، ولا يهم إن جرى ذلك بالتنسيق مع الائتلاف، أو الهيئة المذكورة، إذ إننا نعرف أن هذا التنسيق هو بكل صراحة مجرد تغطية لحالة إملاء أو ارتهان خارجية.

بالمحصلة فإن المعارضة الأساسية باتت لها «منصّات» عدة، تتمثل بالهيئة العليا، والائتلاف، والفصائل العسكرية، تتنافس في ما بينها على حصة التمثيل، وحيّز المكانة، وليس على الموضوعات والقضايا.

هذا كله يكشف عن حقيقة العملية التفاوضية الجارية، بأبعادها وآفاقها، ما يطرح السؤال في شأن الانخراط في هذه العملية أو مقاطعتها، وهو سؤال مشروع ومطلوب لكن الإجابة عليه معقّدة ومشوبة بالالتباسات أيضاً.

المعضلة الأساسية في الإجابة المفترضة تنبثق من غياب البدائل، أو الخيارات، أمام المعارضة السورية، بما لها وما عليها، بخاصة في ظروف انسداد أفق الخيار العسكري، وضعف فاعلية الدول المفترض أنها مساندة للثورة السورية، وخروج الشعب السوري من معادلات الصراع، بعد التهجير والحصار، ودخول روسيا على خط الدعم العسكري المباشر للنظام.

يستنتج من ذلك أن معطيات تفاوضية هي على هذا النحو لا تضع المعارضة السورية، على ضعف بناها السياسية والعسكرية والمدنية، سوى أمام خيار واحد ينبغي أن ينبني على أساس تحجيم الخسائر والأخطار، إلى أقصى حد، بإنهاء حال التقتيل والتدمير والتهجير في البلد؛ أولاً. وثانياً، السعي للبناء على الوضع الدولي، والمتغيرات الحاصلة في الصراع على سورية، لإيجاد التقاطعات المناسبة التي تمكّن المعارضة من التعويض عن الخلل في موازين القوى، وتالياً إيجاد حل للمسألة السورية، يتأسس على رحيل نظام الأسد، كمرحلة لا بد منها لإنهاء الاستعصاء الحاصل، في الصراع الدامي الدائر منذ ستة أعوام.

بديهي أن كل ذلك يعني أن المسألة خرجت من أيدي السوريين، نظاماً ومعارضة، وأن النظام الدولي هو الذي بات يتحكّم، بصورة أكبر، ليس فقط بمسألة إنهاء القتال بين مختلف الأطراف، وإنما حتى بتشكيل سورية المستقبل. وتالياً، فإن ذلك يعني أن الموازنة هنا بين الواقع والأخلاق تحيلنا، أيضاً، على سؤال أخلاقي آخر يتعلق بجدوى استمرار المعطيات التي تسمح بالتشجيع على استمرار القتل والتدمير والتهجير في سورية، الذي أودى بشعب سورية وبثورته، في آن معاً، في حال تم تقويض العملية التفاوضية الجارية، على علاتها، أو على رغم كل التحفظات عليها.

والمشكلة هنا أن المعارضة في كل مرة تجد نفسها، في الظروف التي تحدثنا عنها، ووفق المحددات التي تحكمها، في حال ضعف وارتهان أكثر من قبل، وأنها في كل مرة ترفض ما كانت رفضته سابقاً. وللتذكير فإن هذا ما حصل سابقاً، مثلاً، في رفضها بيان جنيف، ثم في اتكائها عليه، وهو ما حصل، أيضاً، في رفضها أي مفاوضة مع الطرف الروسي، ثم في قبولها ذلك بأي ثمن، ولو كان ذلك على حساب مكانتها التمثيلية، كما حصل مثل هذا الأمر في موافقتها على تقاسم التمثيل مع المنصّات الأخرى بعد أن كانت ترفض ذلك جملة وتفصيلاً، إلا إذا كان تحت سقفها ووفقاً لمعاييرها. ومن ناحية سياسية، أيضاً، لا ننسى أن المعارضة خفضت سقفها التفاوضي التفاوضي من إصرارها على طلب «هيئة حكم انتقالية، وفقاً لبيان جنيف (2012)، إلى القبول بمجرد حكومة شراكة، ومن إسقاط النظام إلى إنهاء حكم الأسد، بعد المرحلة الانتقالية أو أثناءها.

القصد أن الصراعات السياسة لا تخاض بالشعارات والرغبات وإنما تخاض بعوامل القوة، والمكانة، والمعطيات المناسبة والمواتية، فكيف إذا كان الشعب السوري يفتقد كل ذلك، وإذا كانت معارضتهم هي على هذه الحال من التشرذم وضعف الفاعلية؟ ثم ما الذي يتبقى للسوريين، في أوضاعهم الصعبة، إذا كان الصراع الدولي والإقليمي على بلدهم هو العامل المتحكّم أو الأكثر فعالية؟

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان