لعل تقرير «منظمة العفو الدولية» لم يضف الكثير من معلومات للسوريين حول ما يعرفونه وما عاشوه وعانوا منه على يد نظام الديكتاتورية البشع في سورية. وجميع السوريين يعرفون أن ما جاء في التقرير المرعب هو غيض من فيض الجرائم التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها اتساعاً وشمولية. فالسوريون خبروا هذه الجماعة وأساليبها منذ استلامها السلطة في 1970، وتعرفوا على وحشيتها وإجرامها في لبنان منذ 1976 ثم تعرضوا لها مباشرة في الثمانينات في حماة وحلب وجسر الشغور. وقد لا يكون مصادفة أن يصدر التقرير في شهر شباط (فبراير)، متزامناً مع الذكرى الخامسة والثلاثين لمذبحة حماة الكبرى عام 1982 حيث أبيد، وفقاً لأحد التقديرات، أربعون ألفاً، ما زال سبعة عشر ألفاً منهم مجهولي المصير حتى الآن.
لكن تقرير منظمة العفو الدولية الصادر يوم 6-2-2017 جاء مميزاً بأكثر من جانب:
فأولاً، هو يصدر عن أكبر وأعرق منظمة حقوق إنسان في العالم، والتي تتمتع بقدر كبير من المصداقية والحيادية والثقة،
وثانياً، قام التقرير على عدد كبير من شهادات الشهود من ضحايا وأهالٍ، واعتمد على أصحاب خبرة من محامين وموثقين لانتهاكات حقوق الإنسان بلغ عددهم أكثر من ثمانين شاهداً ومحامياً وخبيراً، فضلاً عن كمية الوثائق التي اعتمد عليها والفترة الزمنية التي غطاها،
وثالثاً، تمتع بالدقة والوضوح في شرح ما يجري داخل هذا المسلخ البشري من انتهاكات وجرائم مما يتحدى تخيل أي عقل بشري. وقد سبق أن وثقت «منظمة العفو الدولية» وعدد من المنظمات الحقوقية في تقارير سابقة جرائم التعذيب، ووصفت أكثر من عشرين طريقة تعذيب تمارسها عصابة الأسد ضد المعتقلين. ومع وجود بعض الأخطاء التقنية في الترجمة أو التفسير، فهذا التقرير كان أوضح التقارير في شرح ما يجري حقيقة في المعتقلات السورية ضد المعارضين المدنيين والسلميين.
وهناك كذلك ما يميز سجن صيدنايا باعتباره أكبر سجن عسكري في سورية، فيما تسميته الرسمية هي «السجن العسكري الأول»، إذ أنه السجن الذي بات يوضع فيه معارضو النظام بعد إغلاق سجن تدمر عام 2001. والحديث عن الجرائم في سجن صيدنايا بعد 2011 بات له بُعد آخر يتصل بإطلاق سراح المتشددين الإسلاميين منه ليعيثوا تشويهاً بثورة الشعب السوري ضد الديكتاتورية.
ولكن لعل أهم ما يميز التقرير هذا أنه يحمّل المسؤولية المباشرة لبشار الأسد عن هذه الجرائم، وبالتالي لن يمكنه بحال من الأحوال أن ينكر مسؤوليته. وحتى لو فوّض وزير الدفاع بالتوقيع عنه على هذه القرارات فإن المسؤولية المباشرة عن الجرائم تظل قانوناً ملازمة له شخصياً، خصوصاً أنه لم يذكر بالمرسوم إمكانية التفويض.
فمعظم الذين قُتلوا في سجن صيدنايا، وفق التقرير، حكمت عليهم محاكم الميدان العسكرية بالإعدام، وينصّ قانون إحداث محاكم الميدان العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي 109 لعام 1968، خصوصاً في مادته الرقم 8 على خضوع أحكام الإعدام للتصديق من قبل رئيس الدولة، أما باقي الأحكام فيجري تصديقها من قبل وزير الدفاع.
كما تنصّ المادة الرقم 7 من المرسوم المذكور على أن لا تنفذ أحكام محكمة الميدان العسكرية إلا بعد التصديق عليها من قبل المرجعية المختصة.
ومما سبق فإن هذا المرسوم يثبت بما لا يدع أي مجال للشك أن بشار الأسد قد وقع شخصياً أحكام الإعدام التي نفذت بأكثر من 13 ألف معتقل في سجن صيدنايا وحده. وهذا جزء بسيط مما يجري في المعتقلات والسجون الأمنية والعسكرية في سورية، حيث نقدر، كمنظمات حقوق إنسان، أن أكثر من ستين ألف ضحية قضوا في هذا المعتقلات بينما لا يزال أكثر من مئتي ألف مغيبين قسرياً من دون أية معلومات عنهم.
ولا يقل أهمية عن ذلك توقيت صدور هذا التقرير، مع ازدياد الجهود والضغوط الروسية على الدول المجاورة وعلى المعارضة المسلحة والسياسية للقبول بتسويق بشار الأسد وبقائه في السلطة، مع بعض التغييرات لاستهلاك الوقت وإعادة تدعيم سلطته، ومع ظهور بعض المؤشرات على وجود استجابة ولو ضعيفة لهذه الجهود، أظهرتها مؤخراً مواقف تركية وأردنية. وقد ترافق كل هذا مع محاولات البعض في أوروبا إعادة بناء بعض الجسور مع نظام مجرم، ما تمثل بزيارتين لوفدين برلمانيين أحدهما فرنسي والآخر بلجيكي، فضلاً عن بعض الغزل الترامبي.
هكذا جاء التقرير ليشكل صفعة كبيرة على وجه أصحاب هذا التفكير. فالقبول بهذا الإجرام وعدم محاسبة فاعليه يراد لهما أن يكونا ضوءاً أخضر يفتح باباً للكثيرين من المجرمين، وهو ما ستتصدى له الشعوب.
تختبر وتختزل معركة الباب في شمال سورية وما يحيط بها من مناورات وتموضعات عسكرية وسياسية، الكثير من السياسات في هذه المرحلة من المأساة السورية المتواصلة.
فانتزاع المدينة من براثن «داعش» مقدمة ضرورية وحتمية لإطلاق معركة الرقة و «التخلص» من سيطرة التنظيم على معقل يوجه منه سائر عملياته، بموازاة معارك إنهاء وجوده في الموصل العراقية. إنهاء «داعش» هو الجامع المشترك لأقطاب المجتمع الدولي المختلفين على مقاربة الأزمة السورية. ومن الباب يتقرر مصير احتمال قيام منطقة آمنة في شمال سورية بعد أن يتم توسيع المستطيل الجغرافي الذي سيطرت عليه القوات التركية التي توغلت في الميدان السوري مع «الجيش السوري الحر» ضمن عملية «درع الفرات». وفي الباب يتكرس فصل تركيا المناطق الكردية التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية شرقاً، عن تلك الواقعة غرباً، للحؤول دون اكتمال الكيان الكردي المستقل الذي يسعى إليه قادة أكراد. وبالسيطرة على الباب تتحدد هوية الجهة التي تتحكم بالحدود السورية (الشمالية الغربية) مع العراق، التي كانت الميليشيات العراقية المدعومة إيرانياً تطمح للانتقال عبرها إلى سورية بحجة المشاركة في معركة الرقة، في إطار الحدود المفتوحة التي اعتمدتها طهران لتوسيع نفوذها الإقليمي، من طريق وصلها بالميليشيات التي تدعمها في بلاد الشام.
في معركة الباب ترتسم ملامح الأدوار التي تجيزها القوى الدولية الأقوى، وهي راهناً روسيا بالدرجة الأولى وأميركا بالدرجة الثانية، للقوى الإقليمية المتنافسة والمتعارضة الأهداف في الميدان السوري، فقرار موسكو إعطاء المساحة الأكبر لأنقرة في الشمال، عبر «الباب»، يؤشر إلى نية موسكو تقليص اتكالها على الحليف الإيراني القوي ما دام الأخير يمعن في السعي إلى فرض أجندته الخاصة، المتعارضة مع الطموح الروسي لصفقة مع إدارة دونالد ترامب، قد لا تتناسب مع تصاعد التوتر الأميركي- الإيراني.
وفي الباب أيضاً يتيح تقدم جيش نظام بشار الأسد نحو المدينة بمساندة «حزب الله» وسائر الميليشيات السورية الموالية، والإيرانية، للمشاركة في محاصرتها، اختبار مدى قدرة هؤلاء جميعاً على انتزاع المبادرة من الخصم التركي من جهة، ومدى تمكن موسكو من أن تشكل وسيطاً غير مباشر للتنسيق بين دمشق وأنقرة، وبين «الجيش السوري الحر» والجيش النظامي، على حرب مشتركة ضد «داعش»، من جهة ثانية. وهو مطلب روسي يؤيده بعض الدول الأوروبية منذ سنوات، بحيث تحولت محاربة «داعش» أولوية تتفوق على بحث مرحلة الحكم الانتقالي في الحل السياسي السوري، خلال جولات التفاوض الفاشلة من جنيف إلى آستانة. بل هي كانت حجة موسكو نفسها ضد المعارضة المعتدلة التي صنفتها تنظيمات إرهابية، ما لم تشارك في مواجهة التنظيم و «النصرة» (فتح الشام).
لطالما قيل إن ولوج المرحلة الجدية في القضاء على «داعش»، والاقتراب من الخلاص منه في الرقة، يقرّبان أجَل النظام ورأسه بعدما كرّس معادلة «إما الأسد وإما الإرهاب»، فالنجاح في ضرب «داعش» ينفي مبرر وجود الأول. وإسراع الجيش النظامي إلى الاشتراك في معركة الباب هو استلحاق من الأسد لنفسه حتى يصبح شريكاً في القضاء على «داعش»، بعدما كان شريكا في انتشاره.
يتهيأ جميع الفرقاء الدوليين والإقليميين لمرحلة ما بعد حسم معركة الباب، وبالتالي لمرحلة معركة الرقة. وما بينهما سيشهد تموضعات جديدة لهؤلاء الفرقاء في الداخل السوري، بالتناغم مع التغييرات المرتقبة على الساحة الدولية، وأبرز تجلياتها اعتبار ترامب، المقبل على تقارب مع فلاديمير بوتين في مقاربة الأزمات الدولية، أن إيران دولة راعية للإرهاب، وأن عليها، مع «حزب الله»، الخروج من سورية. وقد تقتضي أولوية «التخلص» من التنظيم، كما يقول الرئيس الأميركي الجديد، أن يرسل قوات على الأرض إلى سورية، بالاتفاق مع موسكو.
في وقت قررت طهران اتباع سياسة «الصبر» للتخفيف من لغة المواجهة مع ترامب، فإن هذا التوجه لا يعني سوى التأقلم بتقديم تنازلات قد تكون سورية ميدانها، إلا إذا اقتنعت بالتخلي عن مغامرتها في اليمن.
في هذه المعمعة المرتقبة، قد يكون على المعارضة السورية أن تتحسس مصيرها وهي تخوض مفاوضات آستانة الثانية وتتهيأ لخوض مفاوضات جنيف الجديدة المنتظرة في 20 الجاري. فإما أن تغرق مرة أخرى في سقطة غياب الوحدة بين مكوناتها لمصلحة التنافس على القيادة والتزعم بين رموزها، لتحصد الخيبة، لأن انقسامها السابق أتاح للقوى الإقليمية صاحبة الأجندات الخاصة أن تضعف موقعها التفاوضي، وإما أن يقدم هؤلاء الرموز التنازلات بعضهم لبعض لمصلحة خطة موحدة للمرحلة الحساسة المقبلة.
هناك أمران يتصدران قائمة أولويات سياسة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب الخارجية: التجارة والأمن. في ما يتعلق بالتجارة، سيركز ترامب على دول مثل الصين والمكسيك واليابان، أما بالنسبة الى موضوع الأمن، فسيتوجه تركيزه الى منطقة الشرق الأوسط.
وحدد ترامب أن التهديد الأمني الرئيسي الذي يواجه الولايات المتحدة هو «إرهاب الإسلام المتطرف» وتعهد بالتحالف مع «العالم المتحضر» لمواجهته و «إزالته من على وجه الأرض».
فقد عين لقيادة فريقه للأمن القومي عسكريين متمرسين كالجنرال مايكل فلين مستشاراً للأمن القومي، والجنرال جيمس ماتيس وزيراً للدفاع. للجنرال فلين خبرة طويلة في محاربة الجماعات الإرهابية من خلال عمله كضابط استخبارات في الجيش، وماتيس كان القائد العام السابق للقيادة المركزية، وقاتل حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة» في أفغانستان والعراق. وقام ترامب بأول زيارة له كرئيس إلى مقر وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، وأخبرهم بأنهم سيكونون في طليعة الحرب على الإرهاب.
ولذا يمكننا أن نتوقع أن تقوم إدارة ترامب باستخدام كل إمكانات فروع الجيش المختلفة والاستخبارات لتكثيف الحرب على «داعش» و «القاعدة».
لكن، لا تزال هناك أسئلة كثيرة قائمة: هل سيقوم ترامب بإرسال المزيد من القوات الأميركية إلى المنطقة؟ إن الشعب الأميركي لا يزال يعارض بشدة الانتشار الواسع للقوات، لكننا قد نرى زيادة في الضربات الجوية ونشاط الاستخبارات، فضلاً عن زيادة في نشر وحدات صغيرة من القوات الخاصة. وستكون إدارة ترامب أقل تردداً من إدارة أوباما في استخدام القوة الجوية الكبيرة الحجم وتجاهل الضحايا المدنيين. وهذا يجعلها أقرب إلى النهج الروسي.
والواقع أن الموقف تجاه روسيا هو أحد المسائل الرئيسية في الإدارة الجديدة. يبدو أن ترامب يرى في روسيا شريكاً محتملاً. ولوزير الخارجية ريكس تيلرسون موقف مماثل إلى حد ما. ولكن فريقه للأمن القومي، من فلين الى ماتيس إلى مايك بومبيو رئيس وكالة الاستخبارات المركزية، يعتبرون روسيا عدو أميركا الرئيسي في العالم على المدى الطويل. فكيف ستحسم او ستترجم هذه التناقضات تجاه روسيا؟
يمثل الموقف تجاه إيران تناقضاً آخر في سياسة هذه الإدارة. فترامب وفريقه الأمني يرون أن إيران عدو يجب إضعافه وصده، وقد وجه فلين انذاراً الى إيران في الأيام الماضية. بل إن فلين، في تصاريح سابقة، ذهب إلى حد الإصرار على تغيير النظام في طهران. لكن ترامب عبّر مراراً انه قد يفضل العمل مع روسيا في سورية، ولمصلحة نظام الأسد في مواجهة معارضيه. هذا في الواقع يعني انحيازاً الى إيران في سورية. وتعمل الولايات المتحدة بالفعل مع حلفاء إيران في العراق لإبعاد «داعش» من الموصل. كيف يمكن الإدارة الجديدة أن تضعف إيران على نحو فاعل وتتصدى لتدخلاتها في الشرق الأوسط إذا كانت عملياً تتحالف معها في بلاد الشام وتقوي قبضتها من البصرة إلى بغداد، ومن الموصل إلى حلب وحماة وحمص ودمشق وبيروت؟!
كما أن ترامب تعهد خلال حملته الانتخابية بتمزيق الاتفاق النووي مع إيران في «اليوم الأول» لرئاسته. لكن ريكس تيلرسون قال إنه سيأمر بـ «مراجعة» الاتفاق – مما يعني أن الصفقة من المرجح أن تبقى في الوقت الراهن، حتى لو قامت الإدارة الجديدة بمراقبة الاتفاق بصورة أدق.
ما يقلقني أكثر من غيره هو تساؤل جوهري حول فهم ترامب وفريقه للعلاقة بين الإرهاب والإسلام. فقد قال ترامب في كلمته عند تنصيبه رئيساً إنه سيوحد العالم «المتحضر» ضد الإرهاب الإسلامي المتطرف. ما هو المقصود بالضبط من تلك الإشارة؟ فهناك العديدون في فريقه، بمن فيهم مايكل فلين وكبير الاستراتيجيين في البيت الأبيض وكبار مستشاريه ستيف بانون، فضلاً عن الكثيرين في الحركة التي يقودها ترامب، أو الحركات التي تصاعدت في أوروبا، يعتبرون أنهم في «صراع حضارات» بين «الغرب المسيحي» و «الشرق المسلم». فهم يميزون بين ما يسمونه «الحضارة المسيحية» في الغرب وبين «الحضارة الإسلامية». حتى أن فلين في كتابه «ميدان المعركة» يصف الإسلام بأنه «حضارة فاشلة»!
لقد فهم الرئيسان أوباما وبوش أن الجماعات الإرهابية مثل «داعش» و «القاعدة»، خطفت وشوهت عناصر من التراث الإسلامي وذلك بشن حرب عدمية ليس فقط ضد الغرب ولكن الأهم من ذلك ضد الدول والمجتمعات في العالم الإسلامي نفسه. كما أن الرئيسين السابقين فهما أن الدول والمجتمعات الإسلامية كانت ولا تزال الحليف الرئيسي وحجر الزاوية في الحرب على الإرهاب.
أما الخوف هنا أن يختلط الأمر في الإدارة الجديدة بين الحرب على الإرهاب ومعاداة الإسلام والمسلمين في شكل عام. وزاد هذا القلق في الأسبوع الفائت عندما أصدر الرئيس ترامب قراراً رئاسياً بمنع دخول مواطنين من سبع بلدان أكثرية مواطنيها مسلمون.
إلى جانب هذه المخاوف المرتقبة والأسئلة التي لا تزال معلقة، ما هي السيناريوات المحتملة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة؟ برأيي هناك ثلاثة سيناريوات محتملة:
السيناريو الأول هو سيناريو التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا. وهذا لم يسبق أن حدث في شكل معمق أو ثابت منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن إذا حصل فقد يؤتي ثماراً مثيرة للاهتمام. فالولايات المتحدة وروسيا يمكنهما أن تعملا معاً على هزيمة «داعش» بسرعة أكبر ومكافحة تنظيم «القاعدة». ويمكنهما التعاون والاعتماد على الحلفاء الإقليميين لإنهاء الحرب في سورية واليمن وليبيا، والعمل مع الصين وأوروبا للتركيز على إعادة بناء الدول المنهارة وإعادة التأهيل والإعمار. ويمكنهما أيضاً القيام بمراقبة مشتركة للاتفاق النووي مع إيران، وربما إيجاد طرق لإقناع أو إرغام إيران على التراجع عن سياسة تسليح الميليشيات والتدخلات الإقليمية. ولكن علينا أن نتذكر ان كلاً من بوش وأوباما بدآ رئاستهما بتفاؤل كبير حول التعاون مع روسيا، ولكن سرعان ما اصطدم هذا التفاؤل بواقع تناقض المصالح.
السيناريو الثاني قد ينتج من السيناريو الأول، وذلك أن محاولات التعاون في مرحلة أولى قد تنهار وتفسح المجال للسيناريو الثاني وهو مرحلة من التنافس بين القوى العظمى. وهذا يعيدنا بالذاكرة إلى أجواء سنوات الحرب الباردة. وفي حالة هذا السيناريو سيكون على الولايات المتحدة أن تسرع في إعادة بناء علاقاتها مع الحلفاء الإقليميين التقليديين مثل مصر والمملكة العربية السعودية وتركيا وإسرائيل وقيادة تحالف قوي للتصدي من جديد للتحالف الروسي- الإيراني في المنطقة.
والسيناريو الثالث هو أن ترامب قد يتخلى، بعد مرحلة تجارب مريرة، عن منطقة الشرق الأوسط في شكل عام ويتراجع وراء جدران «القلعة الأميركية». ويعزز احتمالات هذا السيناريو في المدى المتوسط وجود نزعة انعزالية قوية في تفكير ترامب وكذلك في مزاج أتباعه، وقد نشير الى حماسة اتباعه عندما يعد ترامب ببناء جدار يفصل أميركا عن المكسيك مثلاً. وإذا «تراجع» ترامب بهذا الشكل فقد ينسحب من الشرق الأوسط في شكل أوسع مما فعله أوباما، ويترك المنطقة آنذاك مفتوحة للصراع بين القوى الإقليمية وروسيا والجماعات الإرهابية المختلفة.
ولكن لا يزال من السابق لأوانه معرفة أي الاتجاهات والسيناريوات سيتحق، ولكن من المهم بالنسبة الى قادة المنطقة التواصل مع الإدارة الأميركية الجديدة وتوجيهها بعيداً من نزعاتها الأكثر خطورة ونحو سياسات أكثر إيجابية وأكثر إفادة لاستقرار المنطقة.
قبل أن يبدأ التصعيد الأميركي ضد إيران، كانت عوامل التباعد بين روسيا وإيران تعدّدت وتعمّقت. لم يكن قد مضى اسبوعان من عمر الادارة الأميركية الجديدة حتى دقّت طهران الباب فسمعت الجواب: تحذير رسمي، ليس فقط بالرّد على التجربة الصاروخية الإيرانية، بل بفتح ملفات العراق وتهديد الملاحة الدولية بعد الهجوم الحوثي على الفرقاطة السعودية، وكذلك رعاية الإرهاب. في المقابل يتواصل الصراع الصامت بين الروس والإيرانيين داخل سورية، بين تنازع النفوذ على المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية وعلى تثبيت وقف اطلاق النار، وبالأخص مَن له الكلمة العليا والأخيرة على نظام بشار الأسد. بديهي أن النفوذ الروسي يتقدّم بخطى ثابتة، فيما لا يزال النفوذ الإيراني قادراً على تعطيل الهدنات وتخريبها، إلا أن يقينه في شأن مستقبله السوري بات مشوباً بالشكوك والتساؤلات.
القاسم المشترك بين روسيا وأميركا، ولو شكلياً، اسمه: الحرب على الإرهاب، أو ضرب «داعش». كانت طهران سبقت موسكو وواشنطن في إعلان حربها على هذا العدو، حين وضعت «هزيمة التكفيريين» هدفاً لتدخّلها في سورية. وبعدما انتشر «داعش» بين العراق وسورية أوعزت إيران لبغداد نوري المالكي بطلب المساعدة الأميركية لصدّ المدّ الإرهابي، وما لبثت هذه العودة الأميركية أن استحثّت تدخّل روسيا «لإنقاذ» حليفها نظام الأسد سواء من الإرهابيين أو أيضاً - كما روّج الإيرانيون - من ضربة أميركية محتملة. وبين الدورَين الأميركي والروسي حاولت إيران طرح نفسها شريكة في محاربة الإرهاب، بغية إضفاء مشروعية على سياستها التدخّلية وأنشطة ميليشياتها، وحققت نجاحاً كليّاً هنا وجزئيّاً هناك، إمّا لحاجة الروس اليها في سورية أو لرغبة ادارة باراك اوباما في مجاملتها في العراق. غير أن ترتيبات «ما بعد حلب» في سورية و «ما بعد داعش» في العراق كشفت للروس والأميركيين بالتزامن أن لديهم مشكلة تقتضي تحديد دور إيران (وميليشياتها) أو الحدّ منه.
انتهت اذاً مرحلة صعود الخط البياني بالنسبة الى إيران لتبدأ مرحلة الهبوط، أما وقف الهبوط للشروع بمرحلة ثبات فيرتبط أولاً بجعل طموحاتها واقعية وثانياً بحسن سلوكها، فقد لا ينفع دهاؤها أو دفع أتباعها الى مزيد من التطرّف. إذ إن تهديدات «الحرس الثوري» بالصواريخ وغيرها، مهما كانت جدّية، تبقى محدودة باستراتيجية دفاعية تتجنّب فيها إيران تعريض أراضيها ومنشآتها وبالأخص نظامها لأي أخطار مباشرة. أصبح عليها من الآن فصاعداً أن تغيّر كل حساباتها لردود الأفعال الأميركية عمّا كانت عليه في عهد باراك أوباما. ولا بدّ لها من مراجعة تكتيك التحرّش بالقطعات البحرية الأميركية، ومن نسيان حادث احتجاز الزورقين الأميركيين (كانون الثاني/ يناير 2016) وسكوت واشنطن على إذلال بحارتهما.
ومع أن ادارة دونالد ترامب استخدمت لهجة مرتفعة في مخاطبة طهران، إلا أنها ليست متعجّلة لمواجهة حربية معها، بل مصممة على كبح الجموح الإيراني أينما استطاعت ذلك، لأن إيران تصعّد خارج أرضها وبواسطة أتباعها، وبالتالي فإن المواجهة المحتملة مرشّحة لأن تحصل حيث هناك تماس بين الطرفَين، أي في العراق، وكان في الإمكان تصوّرها في اليمن إلّا أن السيطرة على باب المندب حُسمت، لكن الإيرانيين قد يدفعون الحوثيين الى تصعيد «انتحاري» أوسع ضد السعودية للتغطية على تراجعهم في ميدي والمخا. ويجب عدم استبعاد احتمال أن يعاود الإيرانيون إشعال جبهة الجنوب اللبناني سعياً الى اجتذاب الرأي العام العربي والاستفادة معنوياً بتأكيد أن ما تتعرّض له إيران، وكل الأدوار التي قامت بها على مرّ الأعوام السابقة، انما كانت بسبب تحدّيها ومواجهتها لإسرائيل.
كلٌّ من هذه السيناريوات لا يفترض أن إيران نفسها ستتعرّض لضربة مباشرة من شأنها أن تشدّ العصب الوطني، بل يعني أنها لن تتمكّن من الحفاظ على منطقة النفوذ، أو «العواصم الأربع» التي تدّعي السيطرة عليها. ذاك أن لعبها بورقة الإرهاب قد يكون جلب لها مكاسب لكنه صار مكشوفاً، بل يقترب من الارتداد عليها. فحتى لو كانت روسيا وأميركا شاركتاها العبث بتلك الورقة ومكاسبها إلا أنهما تتطلّعان الآن الى تعاون عنوانه الرئيسي إنهاء مرحلة «داعش»، وتجدان أن إيران (وميليشياتها) عقبة يجب كسرها للانتقال الى المرحلة التالية. باتت الدولتان الكُبريان، حتى قبل بلورة أي تفاهمٍ أو تنسيقٍ جديدَين بينهما، مقتنعتَين بأن ثمة ترتيبات سياسية يجب أن تسبق أو تواكب القضاء على «داعش» وإلّا فإنه سينهض سريعاً بصيغة وشعارٍ جديدَين. وقد تأكدت روسيا بأن مشاريعها لإنهاء الصراع المسلّح أو تجميده في سورية تصطدم بالأجندة الإيرانية، فيما تيقّنت أميركا أن الحسم النهائي في الموصل لا يشكّل نهايةً للإرهاب في العراق طالما أن إيران تُجهض، عبر ميليشيات «الحشد الشعبي»، أي سعي الى اتفاق أو مصالحة سياسيَين.
في كل التقديرات، ومهما بلغت قوة الأمر الواقع واعتباراته، لا يمكن أن تستقيم حلول سياسية وفقاً للصيغ والمعادلات التي بنتها إيران، سواء باستراتيجية «تصدير الثورة» أو بأساليب الشحن والعسكرة المذهبيَين. ففي حال سورية، مثلاً، ومع افتراض أن أميركا والدول العربية والغربية المعنية قبلت ضمناً ببقاء الأسد في منصبه تسهيلاً لانطلاق مرحلة انتقالية، فإن هذه الأطراف لا يمكن أن تقبل معادلة «الأسد + إيران (وميليشياتها)»، والأكيد أن موسكو لن تتبرّع بأي ضمان لمثل هذه المعادلة. أما في العراق فإن مجرّد الاعتقاد بأن الدور الإيراني دعامة للاستقرار والسلم الأهلي خطأٌ وخطيئةٌ فادحان، فلا ميليشيات قاسم سليماني تشكّل صمّام أمان ضد عودة «داعش»، ولا تهميش إيران للجيش الوطني وهيمنتها على الأحزاب الشيعية الحاكمة يوفّران ضماناً للمصالحة والوئام ومشاركة الجميع في إعادة بناء الدولة. أبعد من ذلك، ومع افتراض أن روسيا وأميركا تبحثان عن توافق بينهما لتقسيم سورية والعراق، أو لفدرلتهما وتقاسم النفوذ بينهما ونقل بعضٍ منه الى قوى إقليمية متحفّزة (أسرائيل وإيران وتركيا)، فإن تقاسم النفوذ وتوزيعه لا يمكن أن يتمّا وفقاً للمعادلات أو للمساومات التي تخيّلتها طهران.
يبقى العراق بالنسبة الى إيران الركيزة الأساسية لأي نفوذ خارجي لها، أما سورية فيتيح موقعها اللعب بأوراق إقليمية شتى. لكن طموحات إيران، شاءت أم أبت، صارت في مواجهة مصالح الدولتين الكُبريَين. وقد ذكّرها ترامب بأن أميركا تريد حصة متناسبة مع التريليونات الثلاثة التي أنفقتها أميركا في العراق، أما فلاديمير بوتين فألزم حكومة الأسد بتعاقدات من شأنها أن تمنح روسيا تحكّماً بكل مشاريع إعادة الإعمار في سورية، ما أثار طهران، فمارست أشدّ الضغوط على الأسد للإسراع بإرسال وفد حكومي لتوقيع الاتفاقات التي منحت إيران إمكان إنشاء ميناء نفطي ومناجم فوسفات وترخيصاً لشركة هاتف نقّال. وفي الوقت نفسه، ما أن طرح مشروع الوقف الشامل لإطلاق النار حتى صار مصير الميليشيات الموالية لإيران في سورية قيد التداول، ومع الدفع الإيراني باتجاه خرق وقف النار شعرت موسكو بأن سلطتها في سورية تتعرّض لتحدٍّ غير مسبوق، وإذا كانت تسعى فعلاً الى حل سياسي جدّي مع إصرارها على وجود الأسد فإنها تواجه ضرورة الاختيار بين سورية مع الأسد من دون إيران وبين سورية من دون الأسد وإيران.
الأكيد أن إيران لن تسلّم بسهولة بأنها في صدد خسائر متوقّعة في مجمل مشروعها، ولديها أوراق لا تزال قادرة على تحريكها. فالولايات المتحدة لم تتخلَّ عن حاجتها الاستراتيجية اليها كعامل توازن اقليمي، لكن الهوس الإيراني بالهيمنة «الامبراطورية» أخلّ بكل التوازنات والمقاييس وبات يتطلّب منها أن تعيد تعريف مفهومها للنفوذ وأهداف وجودها في الدول التي شاركت في تدمير مدنها وخرّبت نسيجها الاجتماعي، فضلاً عن أهداف تدخلاتها في دول الجوار الخليجي. فالميليشيات التي زرعتها لا يُنظر اليها كعناصر مرجّحة للاستقرار بل كألغام داخلية، كما أن التداخل الذي نسجته بين ظواهر الإرهاب والأزمات الداخلية أصبح لعبة مكشوفة. لكن الأسوأ أن إيران أفسدت الطائفة التي تعوّل عليها حتى غدا شيعتها رمزاً للتغوّل والترهيب.
التقرير الذي نشرته «منظمة العفو الدولية» عن «المسلخ» الذي تحولت إليه سورية في عهد بشار الأسد، لا يشكل مفاجأة أو كشفاً بالنسبة إلى السوريين، ولا الفلسطينيين أو اللبنانيين، فهم يعرفون أكثر بكثير مما ورد فيه، وخبروا ذلك بأنفسهم، ليس فقط خلال السنوات الست للثورة، بل منذ بداية عهد الأسد الأب الذي يذكره أهل حماة وبيروت خصوصا.
إنه موجه أساساً إلى أولئك الغربيين وبعض العرب الذين يديرون رؤوسهم عن جرائم النظام السوري بذريعة أولوية قتال «داعش» ومنع تمدده إليهم، وخصوصاً دونالد ترامب، فيما تقارير استخباراتهم تؤكد أن معظم إرهابيي البغدادي تخرجوا من سجون وأجهزة النظام السوري الذي يفوقهم دموية، لكنه «يعمل» بصمت ومن دون أشرطة مصورة.
الفارق الرئيس مع «داعش» أن نظام الأسد لا يوجه تهديدات مباشرة إلى الغرب، ولا يعلن مسؤوليته عن إرسال الإرهابيين إلى دوله. إنه يبعث بهم سراً، مثلما تظهر التحقيقات في باريس وبرلين واسطنبول، ثم يفاوض على دور له في «وقف» تسربهم. فنظامه ينتمي إلى مدرسة أشد خطورةً ودهاءً من «مروجي الخلافة»، إذ يمتهن القتل والتنكيل والتهجير تحت غطاء شعارات السياسة ومبرراتها، حتى أنه يدعي قتال الإرهابيين، ويطرح نفسه شريكاً في المعركة ضدهم، فيما يوجه معاركهم ويحدد أهدافهم.
ومثلما ابتلع الغرب الطعم طوعاً في السابق، عندما نكّل نظام الأسد بجيرانه، من دون أن يقرب إسرائيل، ها هو ترامب يعض الصنارة نفسها. فمحاسبة الأسد ليست بين أولوياته، لأن المعركة ضد «داعش» مستعجلة جداً، وقد أمهل مستشاريه شهراً لوضع خطة القضاء عليه، ولا وقت لديه للنظر في أمر مئات آلاف القتلى السوريين وملايين المهجرين، ولا في أمر البراميل المتفجرة أو القنابل الكيماوية، فهذه ليست من اختصاص إدارة المقاولات في البيت الأبيض.
وإذا كان لا أمل يرجى من إيران المتورطة حتى النخاع في مقتلة السوريين بدوافع مذهبية وقومية، لا يُحسن مسؤولوها إخفاءها، ولا من روسيا التي تشارك نظام الأسد معارك الإبادة الجماعية منقادة لمصالحها وتوقها إلى استعادة «المجد» السوفياتي، فلماذا تتورط دول تتغنى بالدفاع عن حقوق الإنسان وتمثيل «العالم الحر» في إخفاء معالم المذبحة الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية؟
ألا تذكر فكرة التحالف مع الأسد ضد «داعش» بالنظرية الحمقاء التي تبناها بعض الأوروبيين لدى بروز النازية في المانيا في مطالع ثلاثينات القرن الماضي، واعتبارهم أن باستطاعتهم استخدام هتلر في إقصاء منافسهيم، قبل أن يتحول صاحب شعار الصليب المعقوف إلى كابوس للعالم كله؟
التجاهل الذي يواجه به ترامب المعارضة السورية، وتهديده بقطع المساعدات الأميركية عنها، واعتباره أن البحث في إخراج الأسد من السلطة يقارب حد «الجنون أو الحماقة»، يعني أن لا أمل في حسم المعركة ضد «داعش» مهما حشد لها الأميركيون، لأن في جعبة نظام دمشق الكثير من المجموعات الإرهابية، الجاهزة للخروج إلى العلن، كلما اقتضى الأمر.
وما لم تسعَ الولايات المتحدة وأوروبا والعالم بأسره إلى وقف مسارات القتل المستفحلة بحق السوريين، وتقديم بشار الأسد وعصابته إلى محاكمة دولية، سيظل قصر المهاجرين بؤرة لنشر الإرهاب الفعلي «الهادئ»، بل ويمنح بين الحين والآخر «شهادات حسن سلوك» أهدى آخرها إلى ترامب «الواعد»، وسيظل السوريون ضحية إرهابين متلازمين يمارسهما النظام و«داعش».
«هذا الرجل» الجالس في البيت الأبيض، كما يتحدث عنه المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، لا يحب أن يُستفزّ... استفزّ كثيرين من السياسيين والقضاة والإعلاميين في الولايات المتحدة، وقادة دول تململوا سريعاً من «نهج» الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب الذي يدير شؤون السياسة كما أدار شركاته.
ذاك الرجل الجالس في طهران، الممتن لترامب لأنه «كشف الوجه الحقيقي» لأميركا، لا يحتمِل لغة الإنذارات والوعيد مع إيران «القوة الإقليمية العالمية». يمكن الرئيس حسن روحاني أن يجرّب التلويح بجزرة مفاوضات و «شراكة» في المنطقة مع سيد البيت الأبيض، لكن الكلمة الأخيرة للمرشد الذي يرد على «الإنذارات» بحشد الشارع ضد «الشيطان الأكبر»، وتعبئة «الحرس الثوري» من مضيق هرمز إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط.
ولكن، مَنْ يستدرج الآخر إلى مواجهة؟ المرشد أم «الإمبراطور»؟ ترامب لن يكون «طيباً مثل باراك أوباما»، قال الرئيس الأميركي معلناً عملياً طي مرحلة «القوة الناعمة» لأن إدارته تعتبر إيران «أكبر داعمٍ للإرهاب». ولماذا تستعجل واشنطن مواجهة معها، قبل بدء الحوار الأميركي- الروسي لتبريد الصراعات والحروب في المنطقة؟
ذاك القيصر الجالس في الكرملين، ممسكاً بدفة الصراع في سورية، يدرك أن الحليف الإيراني «مشاغب»، يتطلع حتماً إلى حوار مع ترامب، يجنّبه انتظار ما ستنتهي إليه سيناريوات الصفقات الكبرى بين موسكو وواشنطن. لكن الارتياب المرجّح سبباً لتصعيد طهران لهجتها مع الإدارة الأميركية الجديدة التي سارعت إلى فرض عقوبات عليها، ليس ارتياباً من «العدو» وحده بل كذلك من الحليف الروسي الذي يسرّب منذ فترة «رسائل» عن استيائه من الإيرانيين وما يرتكبونه في سورية من «تطهير طائفي».
أكثر ما يخشاه الإيرانيون في عهد ترامب، منذ ذكّرهم بفضل إدارة أوباما التي حالت دون انهيار اقتصادهم (بعد رفع العقوبات)، أن تعود طهران إلى جدران العزلة، إذا اتفق «الإمبراطور» و «القيصر» على تطبيع شامل، كبداية لتفكيك قنابل النزاعات الإقليمية، وألغام التصعيد، من أوكرانيا إلى سورية إلى مصير الاتحاد الأوروبي وتجديد الحلف الأطلسي وأذرعه.
الأكيد أن ورقة الدعم التي قدّمها ترامب إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، نبأ سيئ لطهران التي بالكاد قَبِلتْ بامتعاض دوراً لتركيا في المفاوضات السورية، ولن تحتمل بقاء موطئ قدم لها في شمال العراق. والأكيد أيضاً أن الشراكة الصعبة بين الروس والإيرانيين دخلت مرحلة اهتزاز الثقة، منذ «طردت» طهران طائرات حربية روسية من قاعدة همدان في شكل «مهين»، وفق صحف في موسكو باتت تحذّر من «انتهازية» الحليف. وبعضها لاحظ أن إيران جدّدت عرضها استضافة مقاتلات القيصر في همدان، بعدما تجمّعت سحب مواجهة بين خامنئي وترامب.
ولن يكون مفاجئاً أن يلجأ المرشد مجدداً إلى سياسة حافة الهاوية مع الأميركيين، لاستدراج «صفقة» مع سيد البيت الأبيض، تعدّل الاتفاق النووي الذي تجرّع خامنئي كأسه لإنقاذ الاقتصاد الإيراني. وهذه صيغة قد تكون المخرج المتاح لحفظ ماء الوجه للرجلين. ولكن، مَنْ يضْمَنْ سقف مفاجآت ترامب؟ وماذا لو صنّفت إدارته «الحرس الثوري» منظمة «إرهابية»؟
التصنيف الذي يزداد التأييد له لدى صقور الإدارة الأميركية، يدفع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى توقُّع أيام «صعبة» لبلاده. فـ «الحرس الثوري» لدى المرشد هو «قلعة» النظام الإيراني، إذا اهتزّت بات مهدداً، وتضييق الخناق عليها بالعقوبات سيحول بين «الحرس» وبلايين الدولارات المتوقعة استثمارات في مشاريع يديرها.
ولّى زمن القوة الناعمة، قال ترامب فيما يدرك أن حلفاء إيران الروس لن يضيرهم تحجيم النفوذ الإقليمي لطهران، خطوة خطوة، بدءاً من ساحة الصراع في سورية مروراً باليمن والعراق. لن نشهد غداً قمة أميركية - روسية، ولا انسحاباً إيرانياً من سورية، ولا رفع طهران الغطاء عن الحوثيين في اليمن، ولا إحالة قاسم سليماني على التقاعد.
تحجيم أجنحة «الحلفاء» وأدوات الصراع بالوكالة، ما زال في بداية الطريق، ولإيران الحصة الكبرى.
كثيرة هي توقعات الخبراء والمراقبين بشأن التطورات المحتملة في دور كل من روسيا وإيران في سوريا، بعد أن بدأت الخلافات بينهما في الظهور. ليست جديدة هذه الخلافات التي تناول كاتب السطور جانباً منها في المقال المنشور هنا في 4 يناير الماضي تحت عنوان «روسيا وإيران في سوريا». لكنها أصبحت أكثر وضوحاً منذ أن اتجهت روسيا إلى إعادة رسم ملامح سياستها عقب الحسم العسكري في شرق حلب، وقطع خطوات أسرع باتجاه التقارب مع تركيا. وكان مؤتمر الأستانا في 23 و24 يناير الماضي المسرح الذي ظهرت عليه الخلافات بين روسيا وإيران في أوضح صورها حتى الآن.
وربما يكون توقع كل من الدولتين تنامي الخلافات بينهما في الفترة المقبلة وراء سعيهما للبدء في حجز حصص في «سوريا الجديدة» مبكراً، وكأنهما تستبقان تسوية قد تؤدي إلى تغيير في تركيب نظام الأسد حتى إذا بقي رأسه، الأمر الذي يجعل الحصول على ما تطمحان إليه صعباً أو أقل سهولة.
ولعل هذا يفسر تحرك الدولتين في اتجاهين متوازيين خلال النصف الثاني من الشهر الماضي، لتوقيع اتفاقات اقتصادية وعسكرية مع نظام الأسد. وربما تكون هذه الاتفاقات دفعة أولى في استحقاقات يتعين على النظام تأديتها مقابل وقوف روسيا وإيران معه حين كان على وشك السقوط، وخوض معارك ضارية لتعويمه واستعادة سيطرته على مساحة لم يكن متصوراً قبل عامين أنه يستطيع استرجاعها، ثم إعادة تأهيله دولياً بعد تثبيته داخلياً.
ويوحي سلوك روسيا وإيران الآن بأنهما تتعاملان مع الوضع في سوريا على أساس أنهما انتصرتا في حرب تحالفتا فيها، وجاء وقت التنافس على «غنائمها». ولأن هذه الحرب ليست تقليدية، يختلف مفهوم «الغنائم» فيها إذ تحصل كل من الدولتين عليها من حليفهما وليس من الأعداء الذين قاتلتا ضدهم، فضلاً عن أن هذه الغنائم توجد أساساً في المناطق الخاضعة لسيطرته.
ويدل محتوى الاتفاقات المبرمة حتى الآن على أولويات كل من روسيا وإيران في هذا المجال. فقد وقَّع رئيس الوزراء السوري عماد خميس، خلال زيارته لطهران في 17 يناير الماضي، عدة اتفاقات اقتصادية. لكن إيران تستطيع الاستفادة منها لأغراض أبعد من الاستغلال الاقتصادي.
فالاتفاق الذي حصلت بموجبه على امتياز إنشاء شبكة هاتف جوَّال يتيح لها عائدات مالية كبيرة ومضمونة، لكنه يمكّنها في الوقت نفسه من الحصول على معلومات تريدها عبر مراقبة اتصالات محلية ودولية. أما الاتفاق على منحها 5 آلاف هكتار لزراعتها، فيتيح فرصة لتوطين مقاتلين في الميليشيات التابعة لها وعائلاتهم عند التوصل إلى تسوية قد تتضمن إخراج هذه الميليشيات. وقل مثل ذلك عن اتفاق تشغيل مناجم الفوسفات في منطقة قريبة من مدينة تدمر، حيث سيكون بإمكانها توطين أعداد أخرى من المقاتلين التابعين لها بدعوى أنهم عمال في هذه المناجم.
كما يسهل استخدام الميناء الذي حصلت على امتياز إنشائه لتصدير النفط بموجب اتفاق رابع، لأغراض أخرى مثل إدخال أسلحة أو مقاتلين.
أما الاتفاق الذي وقعته روسيا مع نظام الأسد، ونشره موقع الوثائق الإلكترونية التابع للكرملين في 27 يناير الماضي، فيعبر عن المصلحة التي تحظى بأولوية قصوى لديها، وهي ضمان وجود قوي ومؤثر على ساحل البحر المتوسط. فقد ظل الوصول إلى «المياه الدافئة» هدفاً استراتيجياً للروس على مدى أكثر من ثلاثة قرون.
ويمنح هذا الاتفاق موسكو حق الاستخدام المجاني لقاعدة طرطوس البحرية لمدة 49 سنة قابلة للتمديد تلقائياً، ويوَّفر حصانة كاملة لقواتها ومعداتها، ويُمكنها من نشر سفن حربية، بما في ذلك النووية منها.
ويُعد هذا الاتفاق الثاني من نوعه، إذ سبقه في سبتمبر 2015 اتفاق أتاح لموسكو استخدام قاعدة حميميم الجوية التي صارت أهم مراكز الوجود العسكري والسياسي الروسي في سوريا الآن.
وليست هذه إلا بداية توزيع «غنائم» الحرب بين الدولتين اللتين تتطلعان إلى أن يكون انخراطهما فيها نقطة تحول في دور كل منهما في منطقة الشرق الأوسط بوجه عام.
تحت عنوان «سوريا: المسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسوريا» نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً طويلاً كأنه فيلم رعب لا ينتهي عن سجن صيدنايا العسكري والممارسات التي يرتكبها نظام بشار الأسد فيه.
وسائل الإعلام العالمية تناقلت الرقم المخيف الذي نتج عن عمليات الشنق الجماعي السرية التي تجري خارج أنظمة القضاء للمعتقلين المدنيين والذي قدّرته المنظمة الحقوقية بثلاثة عشر ألف شخص خلال الفترة بين أيلول/سبتمبر 2011 (عام اندلاع الثورة السورية) وكانون الأول/ديسمبر عام 2015، وتجري عمليات الإعدام مرة أو مرتين كل أسبوع حيث يشنق ما بين 20 و50 شخصاً في كل مرة ثم يجري نقل الجثث بشاحنات لتدفن في قبور جماعية.
يؤكد التقرير أن أوامر الإعدام توقع من قبل أعلى المسؤولين في الحكومة ويوافق عليها مفتي سوريا وكذلك موافقة وزير الدفاع أو رئيس هيئة الأركان كمفوضين عن الرئيس السوري، وبأن الانتهاكات داخل السجن صمّمت لإيقاع أقصى درجات المعاناة البدنية والنفسية وإهانة المعتقلين ونزع الصفة البشرية عنهم وتدمير أي شكل من أشكال الكرامة أو الأمل لديهم.
أول ما يتبادر للذهن عند قراءة التقرير هو فساد الرأي الذي أصبح، للأسف، سائداً عن وجود «حرب أهلية في سوريا» بين طرفين بحيث تتم مساواة آلة قتل طاحنة تحكم البلاد بالنار والحديد منذ خمسة عقود وتتصرف كجيش احتلال همجيّ مع الذين ثاروا عليها سلميّاً (والأغلبية الساحقة من السجناء والمشنوقين حسب التقرير هم كذلك)، أو الذين امتشقوا السلاح دفاعا عن أعراضهم وأرضهم وكرامتهم.
في الوقت الذي نُشر فيه هذا التقرير كان وفد جديد آخر من صحافيي العالم، هذه المرّة من بلجيكا، يلتقون الرئيس السوري بشار الأسد، المسؤول الأول عن هذا النموذج المصغر عن الفظاعات المهولة العامّة، ليقدّموا، بشكل أو آخر، تسويقاً جديداً له ضمن حملة علاقات عامّة كما لو كان هذا التسويق إسهاما من صحافيي وحكومات العالم في المقتلة السورية.
هذه المفارقة لا تني تتكشّف كلّ مرّة تتماهى فيها صورة الأسد مع صور المعذّبين والمهانين والمذلولين وشاحنات الجثث والعظام النافرة للقتلى والمساجين، وتنفضح واقعة أن سجون سوريا هي الوجه الحقيقي لرئيسها «الدكتور»، وأن بلاغات دبلوماسييه الأشاوس كوليد المعلم وبشار الجعفري هي نفسها كلاليب تعليق السجناء لتعذيبهم وشاحنات الموت وقذائف الغازات السامة والبراميل المتفجرة… وفي كل مرّة تهبط طائرات الصحافيين المدعوّين للمشاركة في تنظيف وتعطير المسالخ البشرية وتقديم المنبر للرئيس الطاغية ليُدلي بآرائه العجيبة، ومنها، حسب مقابلته الأخيرة إن انتخابه رئيساً لا علاقة له بأن أباه كان رئيساً. المسألة تتعلّق بمحبّة ودعم الشعب له.
لقد أصبح الأسد رئيسا إذن بدعم الشعب نفسه الذي أعدم منه في سجن واحد ثلاثة عشر ألف شخص.
حسب أحد الحراس السابقين للسجن الذين استنطقهم التقرير فإن سجن صيدنايا هو «نهاية الحياة ونهاية الإنسانية».
لكن الحقيقة أن نهاية الإنسانية هي في الممارسة المستمرة لتزيين المسلخ الذي آلت إليه سوريا تحت حكم الأسد وفي هذا يتساوى المفتي والوزير والدبلوماسي السوري مع صحافيين وسياسيين غربيين.
فيما انشغل السوريون بشرح ثغرات الدستور الذي اقترحته روسيا على وفد الفصائل العسكرية الثورية في أستانة الشهر الفائت، ومدى التعدّي الروسي في هذا المقترح على السيادة الوطنية السورية، وبالسؤال عمن هم الذين كتبوا الدستور، وهل هم "منصة حميميم"، أم شاركهم آخرون؟ وبقي السؤال الأهم: لماذا اقترح الروس هذا الدستور الآن، من دون اهتمام يذكر، فقد أخذ على أنه مجرد دفع روسي للوصول إلى حل سياسي.
يعارض الروس، منذ بدء المفاوضات في جنيف 2 فكرة الإعلان الدستوي لتأسيس المرحلة الانتقالية، تجنباً للوقوع في فراغ قانوني (يصر الروس على تسميته فراغاً دستورياً)، ويصرّون على الانتقال من خلال الدستور القائم (دستور 2012) الذي فرض في ظروف معروفة تفقده أية شرعية، بحيث يتنازل الرئيس وفق المادة 114 منه عن جزء من صلاحياته لهيئة الحكم الانتقالي التي يسعى الروس لتغييرها أيضاً إلى "حكومة مشتركة"، انطلاقا من مفهوم "حكم ذي مصداقية" المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن 2254، لكن هدف التمسك بهذا الدستور أساساً للانتقال السياسي إعادة الشرعية إلى نظام الأسد، وإبقاء الأسد رئيساً، ولو بصلاحيات محدودة، والانطلاق من هذا الدستور نحو آخر جديد يكرّس النظام.
العقبة الرئيسية أمام هذا التصور الروسي هي المعارضة السورية السياسية، ممثلةً، بشكل رئيس، في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة كما اتضح في "جنيف 2" في العام 2014، والذي أدى تمسكه بصيغة جذرية للانتقال السياسي إلى تجاوزه بمساع روسية لتشتيت المعارضة وتمزيقها، بإيجاد معارضات متعددة قريبة منها، حتى ولو لم تكن تتمتع بالمصداقية التي يتمتع بها "الائتلاف"، ولكن كثرتها ستجعل من الصعب تجاوزها. وأدت المساعي الروسية إلى تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات، انطلاقاً من بيان المجموعة الدولية لدعم سورية (ISSG) في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، إلا أن الهيئة، والتي نص بيانها التأسيسي على أن "هدف التسوية السياسية هو تأسيس نظام سياسي جديد من دون أن يكون لبشار الأسد وزمرته مكان فيه"، تمسكت، هي الأخرى، ببيان جنيف الذي يتمتع بمرجعيةٍ دوليةٍ، أساسها قرار مجلس الأمن 2118، وبتشكيل "هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات"، و"عملية سياسية لا جود لبشار الأسد فيها"، كما اتضح أيضاً في "جنيف 3" في 2016، في وثيقة الهيئة للإطار التنفيذي لبيان جنيف (22-4-2016). وحاول الروس عبر المبعوث الأممي، ستيفان ديمستورا، وعبر فريقه الاستشاري ومساعديه، إقناع المعارضة بأن الرجوع إلى دستور 2012 أفضل خطوة، وقدّم لهذا الهدف مسشاروه القانونيون للمعارضة مقترحاً تفصيلياً (على شكل دراسة) حول كيفية "تشكيل هيئة حكم انتقالي في ظل دستور 2012"، اعتماداً على المادة 114، على الرغم من أن المعارضة لم تطلبه من الأساس.
ما يريده الروس فعلياً هو إعادة الشرعية لنظام الأسد ومؤسساته، وإبقاء الأسد رئيساً أطول فترة ممكنة، ولا سبيل للوصول إلى هذه الشرعية المسترجعة إلا عبر ثلاث خطوات:
الأولى، إبقاء بشار الأسد رئيساً شرعياً في الفترة الانتقالية أطول مدة ممكنة، ما يضفي شرعية كاملة على جميع تصرفاته رئيساً في الفترة السابقة، ويسقط مفهوم الثورة من الأساس، باعتبار الثورة رفضاً جذرياً لشرعية النظام، وسعياً إلى تغييره كلياً سلميا أو بالقوة. الثانية، الحفاظ على النظام باسم الحفاظ على الدولة، وهو يتطلب احتفاظ الأسد بالسيطرة على مؤسستي الجيش والأمن، وهما فعليا ما يتجسد بهما النظام، والاكتفاء ببعض التغييرات الإصلاحية فيهما. الثالثة، عودة الأسد رئيساً منتخباً لسورية بعد المرحلة الانتقالية.
يتطلب هذا أن يضمن الروس عدم وجود عقبة لبقاء الأسد بعد المرحلة التحضيرية الانتقالية (6 شهور)، أي أن يبقى طوال الفترة الانتقالية، مهما كانت مدتها، والسماح لبشار الأسد بدخول الانتخابات الرئاسية، وهو أمر يتطلب اختصار المرحلة الانتقالية أو دمج المرحلتين بمرحلة واحدة طويلة، وهو الأفضل بالنسبة للروس الذين وجدوا فرصتهم في تغير موازين القوى على الأرض، وانشغال الأميركيين بالانتقال إلى إدارة جديدة، وحاجة الأتراك لهم لإفشال مشروع الإقليم الكردي على الشريط الحدودي الجنوبي، باعتباره خطراً يهدد الأمن القومي، وتقليص النفوذ الإيراني في سورية لإيجاد مسار تفاوضي جديد، يتجاوز المعارضة السياسية عبر الفصائل العسكرية الثورية (المعارضة المسلحة)، إذ تملك تركيا القدرة على التأثير على كثير من هذه الفصائل، وهو أمر قد يسمح بإيجاد كتلة حرجة، يمكن أن تجر معها الفصائل الأخرى، بالاستفادة من العلاقة السيئة بين العسكر والسياسيين السوريين في المعارضة، وستؤدي، بالضرورة، إلى إطاحة الهيئة العليا للمفاوضات والأجسام السياسية للثورة، وتجاوزها عقبة أمام حل سياسي يناسب روسيا في ظل انتقال الإدارة في الولايات المتحدة أولاً، ثم عدم اتضاح سياسة إدارة ترامب تجاه سورية ثانياً.
يستعجل الروس تحويل "أستانة" إلى منصة للفصائل العسكرية، وإحداث مسار جديد للتفاوض، أطلق عليه وزير الخارجية سيرغي لافروف "مسار أستانة"، وهو أمر يتيح للروس إقامة قواعد جديدة، وهي التفاوض في ظل التهديد بالقوة على الأرض، كما أنه، في أسوأ الأحوال، إن لم يصبح مساراً جديداً يكفي أنه أوجد منصة للعسكر، موازية، من حيث القوة، للهيئة العليا للمفاوضات. وبالتالي، يمكن أن تضعف مصداقيتها، وتغير في قواعد التمثيل للمعارضة، وهو أمر يساعد على تحقيق استراتيجية روسيا في إيجاد معارضات تشتّت المعارضة الأساسية، وتشوش عليها، وتسمح بإيجاد وضع قانوني لها، من خلال اعتبارها في القرارات الدولية، كما هو الحال في قرار مجلس الأمن 2254 الذي أشار إلى مجموع المنصّات التي شكلتها موسكو (القاهرة، أستانة، منتدى موسكو) باستنثاء منصة حميميم التي تمثل أكثر النسخ فجاجةً في تمثيل النظام باسم المعارضة!
الحاجة إلى هذه المنصات المتعدّدة هي حاجة روسيا إلى إضعاف صوت المعارضة الرئيسي، وتحويلها إلى طرف من أطراف متعدّدة. حاولت روسيا الإسراع بإنشاء هذا الخلط في موسكو (29 يناير/ كانون الثاني 2017) بما سمته "الوفد الموحد للمعارضة السورية"، لكن عدم ذهاب الائتلاف الهيئة العليا للمفاوضات أفشل ذلك، ومن الواضح من تركيبة المقترح الروسي للوفد الموحد أن الهدف أن يكون صوت الهيئة العليا والائتلاف منخفضاً للغاية، 2 من أصل 10، والغرض واضح، تمرير الخطة الروسية في مجلس الأمن عبر اتفاق يوقعه الطرفان، النظام و"المعارضات"، تتم المصادقة عليه في مجلس الأمن بسهولة.
واستعجل الروس طرح الدستور المقترح على وفد الفصائل العسكرية الثورية في أستانة قبل اجتماع موسكو، ووزعوا الدستور على "الوفد الموحد" في موسكو، بغرض تحويله إلى مادة للنقاش مع أو ضد، المهم أن يكون محور نقاش، وإذا ما أجريت عليه بعض التعديلات، فإن في الوسع الحفاظ على بنيته الأساسية. ويطمح الروس أن تتبنى معارضتها التي شكلتها خلال السنوات الماضية مشروع الدستور، وتمرير الدستور عبر موافقة أغلبية المعارضة من خلال قرار لمجلس الأمن، إذ يبدو أن الروس اعتقدوا بإمكانية دفع المفاوضات في مجلس الأمن عبر مسار أستانة، لكنهم وجدو ذلك شبه مستحيل، فليسوا هم اللاعب الوحيد المؤثر في سورية. هكذا اضطر الروس للتعويل على جنيف مرة أخرى، مع الإصرار على الاستفادة من المنصات التي أوجدتها، لتمرير اتفاق سياسي يتضمن الدستور. ومن المعلوم أن مسودة الدستور تمنح فرصة للأسد للبقاء في السلطة إلى 16 عاماً، المهم في الدستور نقطتان: الأولى بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية كاملة، والثانية حقه في الترشح للانتخابات بعد المرحلة الانتقالية، وهو ما يتيح له البقاء إلى "الأبد" فعليا.
لكن تمرير الدستور في اتفاق في مجلس الأمن يتطلب تجاوز عقبة نص عليها القرار 2254، وهي أن الدستور يُصاغ خلال المرحلة الانتقالية، أي بعد الاتفاق وليس قبله، فمسؤولية "الحكم ذي المصداقية" الانتقالي هي "تحديد جدول زمني" ونظام "عملية لصياغة دستور جديد"، وتجاوز العقبة هذه ممكن من خلال موافقة المعارضة على نقاش الدستور، قبل التوقيع على الاتفاق السياسي، وإمكانية أن يكون جزءا من الاتفاق، مجرّد موافقة المعارضة على ذلك يكفي، هذا هو الحد الأدني الذي يمكن أن يمثل وحده مكسباً في طرح مقترحهم للدستور.
ما يمكن أن يفشل المساعي الروسية وشركائها هو رفض الفصائل والهيئة العليا للمفاوضات والائتلاف الوطني أي مناقشة للدستور من أي نوعٍ كانت، والاستقواء بالهيئة العليا للمفاوضات والانطواء تحتها في أي مفاوضات في جنيف، باعتبارها المظلة الوحيدة للمعارضة، وعدم الحضور في جنيف إلا إذا كانت الهيئة العليا للمفاوضات هي الجهة الوحيدة مقابل النظام، إعادة بناء الوفد المفاوض بتمثيل أكبر، والإصرار على الإعلان الدستوري، وعدم قبول الانتقال السياسي اعتمادا على دستور النظام، والتمسّك بعدم قبول بقاء بشار الأسد لأي مدة في الفترة الانتقالية.
وزعت روسيا على أعضاء المعارضة السورية المسلحة الذين شاركوا في محادثات آستانة مسودة دستور جديد لسورية وضعته موسكو «لتسريع المفاوضات السياسية لإنهاء الصراع» وفقاً لمبعوث الكرملين.
والسؤال هنا: لماذا قررت روسيا أن تبدأ من نقطة بالغة الحساسية بالنسبة الى أية أمة، فأي دستور لأية دولة إنما يعكس قيمها الأساسية، وخصوصاً أن روسيا تكرر في كل مرة منذ بدء الانتفاضة السورية في عام 2011 أن الأمر متروك للشعب السوري وتصرّ في كل فرصة على أن الحل يجب أن يكون سورياً من خلال تسوية سياسية وحصرية من جانب السوريين.
ثم كيف تأتي روسيا وتقدم على صياغة «دستور سوري» وتسأل السوريين مناقشته والموافقة عليه؟
أعتقد أن كل السوريين الذين سمعوا بهذا الخبر شعروا بالإهانة، فروسيا اليوم لا تتدخل لحساب نظام الأسد وإنما تتصرف بوصفها قوة احتلال، وتستخدم القوة لفرض رغبتها العسكرية والقوة ذاتها لرغبات أحلامها السياسية.
لقد أعد هذا الدستور من جانب «خبراء روس» بعد يومين من المحادثات غير المباشرة بين المعارضة المسلحة السورية وممثلي النظام، من دون إشارة لوجود اختراق للتوصل إلى تسوية سياسية أوسع لإنهاء الحرب، ومن كان يتوقع غير ذلك؟
ثم فجأة قررت روسيا عدم التركيز على تنفيذ وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سورية حيث انتهكته حكومة الأسد كل يوم تقريباً بخاصة في منطقة وادي بردى وضواحي دمشق، ولم تعد تركز على بنود الاتفاق بين روسيا وتركيا الذي قبلته المعارضة على أمل بأن يحدث فرقاً على الأرض من خلال التطبيق الكامل لوقف إطلاق النار. بدل التركيز على ذلك فضلاً عن قضايا أخرى تشكل أولوية للسوريين اليوم مثل اللجوء والوضع الإنساني، فإن روسيا قفزت وعملت على صياغة دستور ووضعته تحت تصرف الشعب السوري.
أقرت سورية ما لا يقل عن 12 دستوراً منذ الاستقلال عام 1946، عندما انسحب آخر جندي فرنسي من الأراضي السورية، وكان الرئيس شكري القوتلي، أول رئيس لسورية بعد الاستقلال عمل على تعديل الدستور وتغيير النظام الانتخابي في عام 1949 للسماح بانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب بعد انتهاء فترة ولايته الأولى. ثم أتى حسني الزعيم بأول انقلاب عسكري يوم 30 آذار (مارس) 1949، وعلق الدستور.
في آب (أغسطس) 1949، قاد سامي الحناوي انقلاباً عسكرياً آخر، ثم دعا إلى انتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد. وصدر قانون جديد لانتخاب هذه الجمعية، وشاركت المرأة السورية في التصويت للمرة الأولى. دستور عام 1950، المعروف أيضاً باسم دستور الاستقلال، يمثل تطوراً ديموقراطياً حقيقياً في تاريخ الحياة السياسية السورية. فقد منح هذا الدستور صلاحيات واسعة لرئيس الوزراء، وفي الوقت نفسه حدّ من صلاحيات رئيس الجمهورية. وعزز الدستور أيضاً سلطة القضاة. وكذلك ديموقراطية الدولة والمؤسسات، من خلال إنشاء المحكمة الدستورية العليا. كان دستور 1950 متقدماً جداً في ما يتعلق بالحقوق والحريات العامة المبنية على أساس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948 وهو بذلك يعد أول دستور ديموقراطي في المنطقة العربية في تلك الفترة.
لذلك وحتى اليوم، فإن سوريين كثيرين - وخصوصاً المعارضة السورية- لا يزالون يعتقدون بأن دستور 1950 سيكون أفضل نموذج اليوم لعودة سورية إلى الجمهورية والديموقراطية. وهذا ما حدث في الحقيقة مرتين. بعد الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء الشيشكلي في عام 1949 علق الشيشكلي ذلك الدستور حتى صدر دستور جديد في عام 1953. واتسم هذا الدستور بوصفه الدستور الرئاسي الأول. حيث قيد صلاحيات رئيس الوزراء في الحكومة وأعطى صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس الجمهورية مبنية على أساس نظام رئاسي يشبه نظيره في الولايات المتحدة الأميركية. ومع إطاحة الانقلاب عام 1954 أعيد العمل بدستور 1950.
ومرة أخرى في عام 1958، تم تعليق الدستور عندما صوت السوريون بالغالبية للوحدة مع جمهورية مصر تحت رئاسة جمال عبد الناصر لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة. تم استبدال دستور 1950 بدستور موقت صاغه عبد الناصر في تلك الفترة. ولكن تم إلغاء هذا الدستور بعد الانفصال في عام 1961. وقررت الحكومة الجديدة عام 1962 العودة إلى دستور عام 1950 حتى تتم صياغة دستور جديد.
وبطبيعة الحال، عندما وصل حزب البعث إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري في آذار 1963 تم وقف العمل بالدستور على الفور، وفرضت حالة الطوارئ (التي لم ترفع حتى بعد اندلاع الثورة السورية في آذار 2011). وأصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة دستوراً موقتاً للبلاد عام 1964، ثم دستوراً آخر عام 1969 ودستوراً جديداً بعد أن تولى حافظ الأسد السلطة عام 1971.
وفي عام 1973، شكل حافظ الأسد لجنة لصياغة دستور دائم للبلاد. هذا الدستور الذي اعتمد عبر استفتاء شعبي، فرض أفكار ومبادئ حزب البعث على المجتمع السوري، حيث أعلن أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، وأعلن أنه الحزب الوحيد الذي يحق له ترشيح الرئيس من خلال القيادة القطرية وكان هذا بداية نظام استبدادي طويل يديره حزب البعث كغطاء لسلالة الأسد.
يتعين على روسيا أن تعرف أن لسورية تاريخاً طويلاً من المبادئ والقيم الديموقراطية وأن دستور 1950 أعطى المرأة السورية حق التصويت قبل سويسرا بعشرين عاماً، حينها كانت روسيا تحت سيطرة ستالين الذي جعل «روسيا عظيمة» والروس صغاراً جداً.
مرت ست سنوات على الانتفاضات التي اجتاحت خمس دول عربية، وفشلت كلها – بدرجات مختلفة – في تحقيق الشعارات والأهداف التي رفعتها الجماهير، وبدلاً من السعي الى تحقيق العدالة الاجتماعية والديموقراطية ودولة المواطنة انتهى ما اشتهر إعلامياً بالربيع العربي إلى العمل من أجل إنقاذ كيان الدولة ومحاربة الإرهاب وإنقاذ الاقتصاد. وكشفت كل انتفاضة عن مسارات متناقضة جاءت نتيجة طبيعية لتفاعلات معقدة داخل كل بلد عربي، وتدخلات إقليمية ودولية وضعت ما يشبه النهاية للنظام الإقليمي العربي بصورته المعروفة منذ ستينات القرن الماضي. وأكدت مسارات الربيع العربي المتعثرة أن لكل بلد طبعته الخاصة من الانتفاضة على الأنظمة القديمة، وأن من الصعب بحث ودراسة ما جرى كظاهرة واحدة، كذلك لا بد من الانتظار سنوات عدة حتى تتكشف النتائج النهائية لما جرى وأطاح الاستقرار السكوني الزائف الذي ميَّز النظام الإقليمي العربي لسنوات طويلة. لكن يظل للسؤال عن ماذا بقي من الربيع العربي أهميته ودلالاته، لا سيما أن هناك من يرى أن تلك الانتفاضات أو الهبات الشعبية لم تحقق أشياء ملموسة على أرض الواقع، فقد كانت حركات مطلبية نجحت في إطاحة بعض روؤس الأنظمة القديمة لكنها لم تؤسس نظاماً سياسياً جديداً أو تحقق العدالة الاجتماعية، كما أن نتائج الانتفاضات في ليبيا وسورية واليمن جاءت كارثية ولا تزال، وتهدد باستمرار الحروب الأهلية في البلاد الثلاثة، أو تقسيم كل دولة على أسس طائفية أو جهوية أو قبلية وفق واقع كل دولة ومعطياتها السياسية والاجتماعية.
سردية الفشل الكامل لانتفاضات العرب، تعني أن الربيع العربي وصل إلى محطته الأخيرة ولا مجال لاستكمال الحراك الثوري، وهي بذلك تتصارع مع سرديتين، الأولى: المؤامرة الخارجية في تفسير الربيع العربي ونتائجه الفوضوية، والثانية: الثورة المستمرة المطلوبة لتصحيح المسار المتعثر لانتفاضات العرب. وأعتقد أن سردية الفشل الكامل لا تتطابق مع سردية المؤامرة أو الفوضى وإن كانت الأخيرة تقول بها، كما أن سردية استكمال مسار ثورات العرب المتعثر لا تتفق وسردية الفشل النهائي لانتفاضات العرب، حيث يؤمن أصحاب المسار الثوري أن هناك موجات ثورية قادمة في دول الربيع العربي الخمس أو في غيرها من الدول العربية. وقناعتي أن كلاً من السرديات الثلاث تخفي مصالح وتحيزات خاصة، لذلك أتصور أننا في حاجة الى صياغة رؤية أكثر عقلانية وتوازن في الإجابة عن سؤال: ماذا تبقى من الربيع العربي؟ ولعل المدخل المناسب هو التمييز بين مسارات ونتائج انتفاضات كل من تونس ومصر، وما جرى في ليبيا واليمن وسورية، حيث دخلت الدول الثلاث في حروب أهلية مدمرة وانقسامات دموية وطائفية وقبلية، نجت منها مصر وتونس رغم المسار الخاص لكل منهما. لذلك من الأفضل أن تقتصر الإجابة عن كل من مصر وتونس، والانتظار حتى تستقر الأمور في سورية وليبيا واليمن، وتتبلور ملامح النظام السياسي في كل منها بعد أن تسكت البنادق والمدافع وتهدأ التدخلات الخارجية. وفي الإجابة لا يمكن التسليم بسردية الفشل الكامل لانتفاضات العرب أو موت الربيع العربي لأنها تتجاهل دروس التاريخ في شأن تراكم وانتقال الخبرات عبر الأجيال، والنتائج غير المنظورة للهبات والانتفاضات الجماهيرية، ولعل أهم ما تبقى يتمثل في أربع ظواهر:
الأولى، تأكيد قدرة الشعوب على إسقاط النظم الاستبدادية الفاسدة التي تعتمد على نخب أو قاعدة اجتماعية ضيقة من المستفيدين، وقد تبدو فكرة الخروج على السلطة وإسقاطها من قبيل البديهيات في العالم المعاصر، إلا أنها كانت في تاريخ العرب الحديث بمثابة فرضية غير قابلة للتحقق، لأنه باستثناء الثورة الشعبية في السودان عام 1964 لم تنجح الشعوب العربية في تغيير حكامها، وكان التغيير يتم من خلال موت الحاكم أو بانقلاب عسكري يأتي بنخب جديدة ربما كانت أسوأ من النخب القديمة التي أطيح بها. ولا شك في أن ربيع العرب أكد إمكانية تحرك الشعوب ضد النظم الاستبدادية وقدرتها على التحرر من الهيمنة الناعمة والخشنة لهذه الأنظمة وفرض إرادتها في التغيير حتى وإن لم يكن تغييراً شاملاً، وأظن أن الربيع العربي أرسى أفكاراً وقيماً وممارسات عملية لقدرة الشعوب على الخروج على السلطة أصبحت في ذاكرة ووعي الشعوب والنخب الحاكمة علامة فارقة ودرساً على كل الأطراف أخذه في الحسبان، بخاصة النخب العربية التي كانت تستبعد تماماً ثورة الشعوب من حساباتها.
ثانياً: بقاء عديد من المكاسب الخاصة بالحريات بخاصة حرية الصحافة والإعلام واحترام حقوق الإنسان ونزاهة الانتخابات، فقد انطلقت انتفاضات العرب الثورية داعية لإسقاط النظم «الشعب يريد إسقاط النظام». إلا أن مطلب الحريات لم يكن غائباً فقد رفع المتظاهرون شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» وهو ارتباط مهم بين الحريات والعدالة الاجتماعية أظن أنه لن يمّحي من الذاكرة الجماعية لملايين المتظاهرين في الميادين والشوارع، وأظن أنه حفر قي الثقافة السياسية العربية، كما أنه لم يكن وليد اللحظة الثورية، وإنما كان حاضراً في الخطاب السياسي العربي منذ الثمانينات بعد فشل التجارب السياسية العربية التي ادعت تحقيق العدالة الاجتماعية كشرط للحريات وحقوق الإنسان (تجارب عبدالناصر وبومدين وصدام حسين). هكذا أكدت الانتفاضات العربية الارتباط بين الحريات والعدالة الاجتماعية وحولته إلى ممارسة اجتماعية بعد أن كان مجرد خطاب نخبوي، وأعتقد أن هذا الارتهان والمطالبة الجماهيرية بتحقيقه لا يزال حاضراً في تونس ومصر، رغم الصعوبات الاقتصادية وتحديات الإرهاب، وعلى رغم أن المجال العام أكثر رحابةً وتنوعاً في تونس مقارنة بمصر. القصد أن هناك مكاسب تحققت ولا تزال حاضرة ومؤثرة تتعلق بالحريات والوعي العام والحفاظ على نزاهة الانتخابات وحرية الرأي والتعبير من خلال وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، وقد أثبتت وسائل التواصل الاجتماعي في مصر وتونس خلال الأعوام الأخيرة قدرتها على الحفاظ على فضاء عام حر ومن ثم التأثير في الأحداث وفضح بعض عمليات التضليل الإعلامي والتلاعب بالرأي العام.
ثالثاً: جسَّدت مواد الدستور في تونس ومصر وبعض التشريعات والقوانين قيم وروح الربيع العربي، ووفق تقرير مهم للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا) فقد كانت عملية صياغة الدستور في البلدين – إضافة إلى المغرب - أكثر تشاركية من التجارب السابقة، لكنها لم تخل من الشوائب، كما اختلفت مستويات التشاركية من بلد إلى آخر. والثابت أن هناك مكاسب وحقوقاً مهمة (اجتماعية وسياسية واقتصادية وتنموية) وغير مسبوقة وردت في الدستورين التونسي والمصري الصادرين عام 2014، واللذين اقترحا آليات وضمانات جيدة للحفاظ على الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية، بل وتطبيق الدستور ذاته، ما يعني أن كثيراً من أهداف وشعارات وربما أحلام ثورات العرب قد كتبت في الدستورين خصوصاً شكل نظام الحكم وسلطات الرئيس والتوزان بين السلطات، لكن يظل السؤال عن مدى الالتزام بتطبيق هذه النصوص، وهل ستظل حبراً على ورق؟ وهنا قد يقال إن بعض مواد الدستور في البلدين لا تطبق ويجري تجاهلها، لكن على أي حال، ستظل لدى الشعوب نصوص دستورية ملزمة للحكومات وعلى الأحزاب والمجتمع المدني المطالبة بتطبيق وتفعيل مواد الدستور التي يفترض أنها كتبت العقد الاجتماعي الجديد بعد انتفاضات الشعوب العربية.
رابعاً: يبقى أخيراً كسر كثير من المحرمات المسكوت عنها في الفكر العربي المعاصر، فللمرة الأولى تطرح على نطاق جماهيري واسع إشكاليات العلاقة بين الدين والسياسة، وحقوق الأقليات في الدولة الوطنية، وحقوق المرأة والشباب والمعوقين وغيرها من القضايا التي لم يكن مسموحاً بها، وأتصور أن طرح هذه الإشكاليات دفعة واحدة وفي مناخ من الاستقطاب السياسي شكل حالة من الارتباك وعدم اليقين لدى قطاعات واسعة، ربما لأنها تعرفت وللمرة الأولى الى الليبرالية والجماعات السلفية، والجهادية، كما أعيد تعريف الإرهاب والجهاد. ومهما كانت نتائج النقاش العام حول هذه الإشكاليات إلا أن المحصلة جاءت إيجابية، وبخاصة أنها حسمت تقريباً في مصر، وبالتجربة العملية، حقيقة السلوك الانتهازي لجماعة «الإخوان المسلمين» وبعض الجماعات الإسلاموية التي تتعمد الخلط بين الديني المقدس، والسياسي الدنيوي، لخداع الناخبين والوصول إلى السلطة لتحقيق مكاسب ضيقة لأعضاء الجماعة.
هدف خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المعلن، باتجاه إقامة مناطق آمنة في بلدان الحروب و"بؤر التوتر" في المنطقة هو إبقاء السكان المدنيين داخل أراضيهم أو في المناطق الحدودية مع دول الجوار، وقطع الطريق على عمليات اللجوء والهجرة غير الشرعية نحو الغرب. هو يقول إنه يريد حماية مصالح الطرفين على طريقة "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم"، بمنطق تاجر الجملة الجالس فوق بضاعته ويساوم عليها.
وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد طرح هذه المسألة، قبل ثلاث سنوات، على الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، والمجتمع الدولي، بالأهداف نفسها التي ذكرها ترامب، لكنها لم تلق آذانا صاغية. وكان أردوغان، ومن خلال مشروع كهذا، يتطلع أيضا إلى تعطيل خطط أكراد سورية في الانفصال أولا، وتشجيع أبناء عمومتهم في جنوب شرق تركيا على إعلان كيانهم المستقل ثانيا.
ما رفضه السلف يقترحه الخلف في أقل من أسبوعين على تسلمه مهام الإدارة في البيت الأبيض. ويريد الرئيس الأميركي الجديد ربما توفير الحماية لهذه المنطقة الكردية، عبر حمايتها من خطر النظام السوري الذي لم نره كثيرا يشكل خطرا عليها، لكنه، في الحقيقة، يريد حمايتها من الأتراك والعرب، لتكون نواة التمدد والانتشار الكردي الجديد، وريثما يتم العثور على العاصمة التي تليق بهذه الدويلة، الرّقة بدل القامشلي مثلا، الحلم يستحق المغامرة.
عارض الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، دائما الاقتراح التركي في سورية، وهذه المرة هو متخوف من حصول تفاهم أميركي – تركي في هذا الخصوص، لكنه قد يبدل رأيه هو الآخر، لأنه يعرف تماما أن هناك فرصه كبيرة في أن تكون هذه المناطق مركز الدفع في مشروع خططه الإقليمية ودستوره السوري: سورية بلا هوية قومية وعرقية ودينية، تجمعات سكانية في دوائر جغرافية تصغر وتكبر حسب المصالح والنفوذ، ريثما تجهز الدولة الكردية الكبرى في شقيها، التركي والإيراني.
أكراد العراق وسورية وتركيا في حالة غليان دائم. المشكلة هي على الجبهة الإيرانية. المواجهة العسكرية الأميركية الإيرانية ضرورية وحتمية إذا لإكمال مخططٍ من هذا النوع. روسيا لن تدافع عن إيران إذا ما تأكدت من نوايا ترامب حيالها، ودول كثيرة في المنطقة سترحب للتخلص من النفوذ والتمدّد والخطر الإيراني، إذا ما كان الرئيس الأميركي جادا في تهديداته. تفتيت إيران يحقق أكثر من هدفٍ لأكثر من دولة، حتى ولو كان الثمن فتح الطريق هناك أيضا أمام كيان كردي يظهر سريعا إلى العلن، ويكمل حلقة ناقصة في المشروع.
قد يعجب المخطط إسرائيل لأكثر من سبب، بشقه المتعلق في الجانب التركي من الحدود التركية السورية مثلا، حيث مثلث جزيرة ابن عمر الغني بمياه نهري دجلة والفرات (لماذا تذكّرنا فجاة مشروع أمن إسرائيل المائي، وشعارها الديني التاريخي بين الفرات والنيل؟)، على الرغم من إعلان أنقرة تمسّكها بإنجاز مهمة المضي، حتى النهاية، في عملية درع الفرات، وتطهير منطقة غرب النهر من التنظيمات الإرهابية، بعرض 95 كلم، تمتد من جرابلس شرقاً وحتى إعزاز غربًا، وبعمق يصل إلى 40 كلم، باتجاه الباب، وهي البقعة الجغرافية التي تطمح أنقرة إلى تحويلها منطقة آمنة في شمال سورية، لكن متابعين كثيرين يرون أن على حكومة حزب العدالة والتنمية أن تراجع خططها وأهدافها هناك.
وكانت أنقرة، وما زالت تقول، إن "المنطقة الآمنة" قد تكون خطوة مهمة على طريق الحل في سورية، لكن التصور الأميركي الذي يروجه ترامب في موضوع المناطق الآمنة قد يدفعها إلى مراجعة مواقفها، وربما هذا ما دفع الرئيس أردوغان إلى تبديل رأيه، والتخلي عن المشاركة في معركة الرّقة. وقد يكون إعلانه، قبل أيام، أن بلاده لن تتقدم في العمق السوري أكثر من ذلك بعد إنهاء معركة الباب قد تكون رسالةً تركية إلى موسكو وواشنطن أيضا. الخطر على تركيا بعد الآن هو أن تتحوّل المنطقة السورية الآمنة التي تريدها، وتدافع عنها، إلى مصيدةٍ تسقط هي فيها عندما تتحول إلى مستنقعات عرقية ومذهبية، تحتاج إلى الحماية الدولية.
ما أعلنه المتحدث باسم قوات سورية الديمقراطية، مثلا، إن قوات التحالف، بقيادة الولايات المتحدة التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية، زوّدت حلفاءها السوريين بمركبات مدرّعة لأول مرة، ما يوسّع الدعم منذ تنصيب دونالد ترامب. .. هل يندرج هذا السلاح الثقيل الذي اعترضت عليه تركيا دائما، ويقدمه ترامب لصالح مسلم، في إطار خطط الحرب على "داعش"، أم سيفتح الطريق أمام الكيان الكردي في سورية؟ من الذي سيوقف واشنطن وموسكو، إذا ما قرّرتا فجأة أن جنوب شرق تركيا تحول إلى بقعةٍ تهدد أمن الإقليم بأكمله، وأن أنقرة، مثل غيرها من الدول المجاورة، حان أن تدفع الثمن، هي الأخرى، جغرافيا وعرقيا، وأن تتنازل عن خيار تقديم القليل، حتى لا تدفع الكثير اذا ما قرّرت التصلب والتشدد وتعطيل أي تفاهم من هذا النوع؟
سترصد أنظمة دول المنطقة وقياداتها التحركات الأميركية الجديدة التي تضع مسألتين أساسيتين فوق كل اعتبار، إسرائيل ومصالحها الإقليمية وورقة تبحث عنها، وتستخدمها لتحقيق هذا الهدف.
تحريك ملف الدولة الكردية الكبرى بات يقترب أكثر فأكثر، وقد قال رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، دائما إن الحلم موجود، لكن الظروف الراهنة لا تساعد على ذلك. فهل اقترب موعد الفرصة التي لن تعوّض لإعادة خلط الأوراق الإقليمية، بعد قرن على تفاهمات سايكس بيكو.
التاجر الأميركي ترامب في جانب، وهو يبحث عن شريك أو شركاء له في الجانب الآخر. والمساومة، في النهاية، قد تكون أميركية – روسية، إذا ما نجحت موسكو في التمسك بمشروع دستورها السوري الذي ستقبل به دول وقوى عديدة، لأنه الخيار الأقرب اليوم لفدرلة سورية، والانسب غدا لإعلان الكونفدراليات الإقليمية، وهو مشروع إقليمي قديم جديد. ترامب في السلطة لحقبتين، مثلا، وعقد واحد يكفي لإنجاز المشروع الإسرائيلي الذي رفضه أوباما وإدارته.
يقول وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن موسكو مستعدة لدراسة تطبيق الفكرة "مع الشريك الأميركي. والإدارة الأميركية الجديدة تطرح هذه الفكرة بصيغة تختلف عن "الأفكار التي سبق أن طُرحت، في المراحل الماضية الخاصة بإنشاء منصّة معينة في الأراضي السورية لإنشاء حكومة بديلة واستخدامها منصّة انطلاق لإسقاط الحكومة".
إذا لم تتوضح سريعا فكرة ترامب، وما تهدف إليه في موضوع المناطق الآمنة، فالسيناريوهات السوداوية هي التي ستتقدم إقليميا، أين وكيف وعلى من ستطبق الخطة؟ أجواء التفاؤل التي حملها لنا ترامب في مسألة المناطق الآمنة تبدّدها مواقفه ورسائله التي يطلقها باتجاه عنصري عرقي تحريضي، فلماذا نثق بما يقول؟ قبول تركيا بالخطة الأميركية من دون حدوث التفاهم الأميركي الروسي سيطيح حتما ما بنته في الأشهر القليلة الماضية، من منظومة علاقات استراتيجية جديدة مع موسكو. لكنها لا تريد أن يكون التفاهم الأميركي الروسي على حسابها. أنقرة في وضعٍ لا تحسد عليه، إما أن تنجح في التقريب بين وجهتي النظر الأميركية والروسية في موضوع المناطق الآمنة، وتحمي مصالحها الإقليمية وعلاقتها بالدولتين، أو تختار بين أحد الشريكين، الروسي والأميركي، وهي ستكون، في أحسن الأحوال، خاسرةً، حتى لو ربحت الكثير.
تركيا أمام حقيقة إعادة ترتيب أولوياتهاuf