
القلمون والكرم الحاتمي .. نظرة في مفاوضات اعادة أهالي القلمون لبلداتهم
فجأة، ودون توقّع مسبق، بدأ الضجيج الإعلامي حول مبادرة يقدمها حزب الله بخصوص جرود القلمون، وتختلف المبادرة كثيراً، بحسب بنودها، عن بقية المبادرات والمصالحات التي انتهت كلها بالتطهير العرقي، كما هو الحال في داريا ووادي بردى وحمص القديمة وغيرها.
تتلخص المبادرة بخروج ميليشيا حزب الله من اثنتي عشرة بلدة وقرية واقعة في تلك الجرود، وعلى رأسها بلدة يبرود ورنكوس وعسال الورد، على أن يتم تسليم إدارة المنطقة كلها إلى فصيل يُطلق عليه "سرايا أهل الشام"، وهو فصيل نشأ من توحيد عدة فصائل. كما تنص على إصدار عفو عام عن المطلوبين، وعودة لاجئي المنطقة في لبنان إلى قراهم وبلداتهم المذكورة.
ومع أن المبادرة لا تتحدث عن منطقة القصير المجاورة لمنطقة القلمون، ولا عن سكانها اللاجئين، وهم بأعداد أكبر بكثير من لاجئي القلمون، فقد تم تهجير سكانها في عام 2013 بشكل كامل أو شبه كامل. ومع أن المبادرة، لو تم تطبيقها، ستحصر المنطقة بين نارين؛ ميليشيا حزب الله من الغرب، وسلطة الأسد من الشرق، حيث تبقى، بحسب المبادرة، مسيطرةً على البلدات الواقعة على الطريق العام، كقارة ودير عطية والنبك والقسطل ومعلولا، ومع ذلك، بحسب الكرم الحاتمي، فأهل القلمون "المستقل" سيديرون شؤونهم بأنفسهم، دون تدخل من سلطة الأسد أو حزب الله، بحيث تصبح تلك المنطقة، وكأنها دولة ذات سيادة.!!. هكذا تشير بنود المبادر.
والسؤال؛ من أين جاء هذا الكرم، وفي هذا الوقت المشحون بالاحتمالات المتشابكة والغموض المبهم، والثرثرة الانتخابية اللبنانية.!؟.
هل لأن حزب الله واقع في زنقة لا يحسد عليها، حتى اضطر أن يذبح فرس حاتم الطائي إكراماً لضيوفه من أهل القلمون .
أم أن المسألة هي مجرد مسرحية لا تختلف عن آلاف المسرحيات المحلية والعالمية التي تم هندستها وإخراجها وتمثيلها بقذارة على الأرض السورية منذ ست سنوات وحتى الآن، والتي أدت إلى تدمير البلد وإبادة شعبه قتلاً وتهجيراً.!؟.
لو تجاوزنا المسرحية وتركناها لوقتها، فإنني أرى كما يرى غيري أن حزب الله يعيش" زنقة" لم يكن يتوقعها. فقد دخل إلى سورية لمساندة سلطة الأسد، والقضاء على"الإرهابيين التكفيرين"، وكان يعتقد أنه بعد شهر أو شهرين، وجولة أو جولتين، سيأتي الانتصار الأعظم" وتعود ميليشيا الحزب إلى لبنان، وراية المقاومة والممانعة ترفرف فوق هاماتها الشامخة.
كما سيعود الأسد أسداً ليزأر على شعبه من جنوب سورية وحتى شمالها، ويُدخِله إلى بيت الطاعة والخنوع، بعد أن تجرأ وأهان إرثه العائلي، ودعا إلى إسقاطه. لكن محفل العائلة المرتبط بالمحافل العالمية قررت عدم السماح بسقوط العائلة، حتى ولو تحول البلد إلى كومة من ركام، وحتى لو أدى الأمر لتسليم مفاتيح البلد إلى أكثر من طامح وطامع خارجي.
لكن الزمن طال كثيراً، ورجال الحزب الأشاوس يدخلون إلى سورية منتفخي الأوداج، ثم يعودون محملين في التوابيت إلى أزقة الضاحية.!!. ومنها تنتشر مآسيهم في روابي لبنان، وتنوح حاضنة الحزب الشيعية على أولادها، وتتبرم من تلك المهمات الجهادية.!!. ومن الدعوة المستهلكة للدفاع عن المقامات الموجودة والمختلقة.
وتبعه الشعب الإيراني بالتبرّم والتذمر بعد أن رأى أيضاً التوابيت تتوارد يوماً بعد يوم من سورية إلى قم، حيث يُصلَّى على الجثامين النافقة عند قبر الشهيد أبي لؤلؤة.!!.
وإذا تجاوزنا إحراج الحزب أمام طائفته الشيعية، والتفتنا إلى الفئات اللبنانية عموماً، لوجدنا مواقفها تتقارب من حيث المعارضة الواضحة لتدخل حزب الله في سورية، نظراً لأن الدولة اللبنانية اتبعت سياسة النأي بالنفس، وقناعتها التامة بأن حزب الله ساهم في تدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان، وهذا التدفق شكل إرباكاً إدارياً واجتماعياً. وانطلقت المطالبات بعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم. من هنا ظن الحزب أن مبادرته ستمتص جزءاً من الغضب العام، وأضاف إليها دعوته الملحاحة بضرورة التواصل بين حكومة لبنان وسلطة الأسد، وقد نالت هذه الدعوة رضى "قصر بعبدا"، حين أشار إلى أن سلاح المقاومة مكملاً لسلاح الجيش اللبناني. غير أن هذا التناغم أثار غضب الشارع السياسي والشعبي، وقد جاء أقوى رد من سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية، حين تساءل بأسلوب استنكاري: وهل يوجد حكومة في سورية حتى يتم التواصل معها، وهل يُعقل أن يقوم لبنان بإرسال الللاجئين إلى مصيرهم المجهول.!؟.
كما أن الحزب أدرك أنه في زنقة مادية، لاسيما أن ميزانيته تأتي كلها من إيران، وهذا ما يقر به السيد حسن نصر الله بـ "عضمة لسانه، حين قال في أحد خطاباته المتلاحقة: نحن وعلى المكشوف وعلى رأس السطح نقول موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران. وهذا ما أثار حفيظة الشعب الإيراني، ونفر الكثيرون واشمأزوا من الطريقة التي تتبعثر فيها أموال الشعب، لاسيما الفقراء منهم. وترجمةً لهذا النفور، بدأت إيران بقطع المساعدات عن حزب الله، حسبما ذكرت بعض الجهات الإعلامية مؤخراً.
هذه واحدة، أما الثانية، فقد انتهت مرحلة الغزل بين أميركا وإيران بانتهاء بياخة باراك أوباما وميوعته في البيت الأبيض، ومجيء دونالد ترامب الذي يذكرنا بالكاوبوي الأميركي. فهو قبل أن يجلس على كرسي الرئاسة، توجه شرقاً ليهدد إيران ويوعز من طرف خفي بالعمل على إخراجها من سوريا، هي وحاشيتها من ميليشيات مذهبية قادمة من أفغانستان والعراق واليمن، وعلى رأسها حزب الله.
ولكي تجسّ إيران نبضَ ترامب، قامت بتجربة صاروخية بعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة. ومباشرة انتفض نبض ترامب وعلت نبرته، ورد عليها بإطلاق أول رصاصة كلامية من العيار النووي الثقيل، حين وصفها بالدولة الإرهابية الأولى في العالم، وهي"تلعب بالنار"، وإنه "لن يكون طيباً معها كما كان سلفه أوباما"، وكان قبلها قد أصدر ما يشبه الفرمان السلطاني بضرورة قيام مناطق آمنة في سورية.
وبما أن إيران حكومة وشعباً ما هي إلا ظاهرة صوتية أكثر من كونها قوة فاعلة، فقد راحت تهدد أميركا وتتوعدها بالموت القادم على صهوة الصاروخ الفارسي. وفي الوقت ذاته أوعزت لحزب الله، ذراعها في المنطقة، أن يقدم هذه المبادرة الاستباقية لإنشاء منطقة تصالحية آمنة في جرود القلمون. وكأنها تقول لترامب: انظر يا ترامب، نحن أسرع منك في تنفيذ المنطقة الآمنة في جوار منطقة نفوذ وليدنا حزب الله.
وإيران تهدف في الوقت نفسه إلى طمس معالم الخناجر المطلية بدماء السوريين، وإلى تلميع صورتها ما أمكن أمام أعين ترامب الحمراء، لاسيما أن مياه العلاقة بينها وبين روسيا في الساحة السورية لا تجري في سهل منبسط.
إلا أن كل تلك الاحتمالات التي أوردناها عن أسباب كرم حزب الله الحاتمي في القلمون، يمكن أن يقابلها نوايا باطنية هدفها المماطلة والتمويه ريثما تنجلي المواقف على الساحة السورية، فإيران ومعها حزب الله لا تريد أن تخرج من سورية بصورة انهزامية واضحة المعالم، ولذلك فهي تلعب على الحبلين، فمن جهة أوعزت لحزب الله بتقديم مبادرته "الحاتمية"، ومن جهة ثانية أوعزت إلى سلطة الأسد برفض المبادرة بحجة أن منطقة القلمون ستكون وكراً للإرهابيين، بحسب ما ذكرته بعض الجهات الإعلامية.
وبين هذا وذاك، يبقى انتظار ما سيحدث في المستقبل، سيدَ الموقف، ولاسيما ونحن على أبواب مؤتمر جنيف الرابع. ولا أظنه سيكون أفضل حالاً من أشقائه الذين داست عليهم بساطير اللعبة الأممية، حتى أدت إلى تدمير وطن اسمه سورية، وإبادة شعب اسمه الشعب السوري.