مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٤ فبراير ٢٠١٧
حزبُ العمّال الكردستانيّ PKK و الورطةُ السّوريّة...

لم يكنْ حزب العمال الكردستاني PKK يعتقدُ أن الأزمةَ السورية – كما يُسميها – سوف تطولُ كلّ هذه المدّة ، وأنها سوف تستهلِكُه وتستنقِعُه ، وربّما ترتشِفُه أيضاً.

جلّ ماكان يحلمُ به هو الانتعاشُ ماديّا ، ريثما يتمكنَ النظامُ من استعادة عافيته ، بعدَ مسْغَبةٍ عصفت به منذ طردهِ من سورية نهاية عام 2002 ، ولذلك تمثّل أولُ طُعمٍ له في عقودِ حمايةِ المنشآت النفطيّة في رميلان .

وحَلُمَ أيضاً بالعودةِ إلى نشاطه المعهود في الساحة السورية ، مع طموحٍ بالسماح له بالتحول إلى حزبٍ مرخصٍ يمثل الأكرادَ السوريين ، ويصادر باقي الأحزاب على السّاحة الكردية ، ويكون لوناً آخر لحزب الله اللبناني.

غير أن النظامُ لم يكن في وارد الاعتراف بأي حزبٍ خارج منظومته العقائدية ، وجلّ ماكان سوف يجودُ به على الـ pkk هو السماح له باستنزاف الكرد السوريين ، واستهلاكهم ، وقمعهم ، مقابل استنزاف تركيا عقاباً لها على مساندتها للثورة السورية ، ومن ثم بيعه مرةً أخرى مقابل تثبيت أركانه.

غير أن مجرى الأحداث خيّب آمال الطرفين ، فلا الثورةُ انتهتْ ، ولا النظامُ استعاد السيطرة على البلاد ، وغرقَ الحزبُ في معاركَ تفوق قدراته على حرب العصابات التي يجيدُها ، اضطّرته إلى سحبِ كل مخزونه من الرّجال القادرين على حمل السلاح من مقاتليه في جبال قنديل بشمالي العراق.

ومع تصاعدِ الأحداث في سورية ، وجدَ الحزب نفسه يغرق رويداً رويداً في أوحالِ النظام ، ولم يعد هناك خطٌ للعودة إلى الوراء ، فواجه الثوارَ وجهاً لوجه – بأمر النظام - أول مرة في رأس العين ، وبرر ذلك في حينها بأن من يقاتلهم إنما هم إسلاميون من بقايا القاعدة.

ومع غضّ الطرف عن انسلاخه من شعاراته التي نادى بها خلال عقود ، إلا أنه رويداً رويداً بدأت العامة تكتشف أن هذا الحزب – ومن ورائه النظام - يريد توريطها في مواجهةٍ مع الشعب السوري الثائر ، ومن ثمّ مع كل شعوب المنطقة ، فتوارى كلّ من كان في وجهه بقيةً من حياء ، وتصدّت للمهمة فئاتٌ من المجتمع لاتمتّ إلى الأخلاق بصلة.

وبين العزف على وتر القومية ، وقتال المتطرفين ، والوقوف في وجه العدو التاريخي تركيا ، استطاع أن يُجند آلاف الشباب في معاركه الخاسرة وإن بدتْ رابحةً لبعض الوقت.

استنفذَ الحزبُ كلّ إمكاناته المادية والعسكرية ، ولم يعدْ في جعبته الكثير ، ولعب على التناقضات ، ودخلَ في كل الأحلاف ، حتّى مع المُتناقِضَين ، بحيث بدا واضحاً أنه لم يعد لديه مبدأٌ يدافع عنه .

انتعشتْ أحلامُه باستلام المواقع من النظام ، ثم بالإدارةِ الذّاتية ، والفدرالية ،غير أن كلّ ذلك لم يبررْ وقوفَه إلى جانب النظام والمليشيات الطائفية الإيرانية ، التي حتى مع قتال الحزبِ إلى جانبها لم تتوقفْ عن إعدام الشباب الكرديّ في إيران.

وأخيراً سقطَ الحزبُ من قائمة الأحزاب الكردية شعبياً ، خاصةً مع التصريح الأخير لجميل بايق الذي أكد فيه عزمهم على الاستمرار في الحرب ضد الدولة التركية ،واتهامه كل مخالفٍ بالعمالة لتركيا ، في إشارة إلى زعيمه عبد الله أوجلان الذي نَقل عنه شقيقُه مطالبتَه الحكومةَ التركية بإيفادِ ممثلين عنها لإعادة حوارات السّلام.

ويعلمُ بايق أن تهديده هذا لن يلاقي التأييد المعهود سابقاً ، خاصةً مع اتّضّاح صورته الحقيقية بالوقوف إلى جانبِ تكتل القوى المدعومة من إيران ضدّ البرزاني في إقليم كردستان العراق.

وفي السّاحة السورية لن تقاتل تركيا الحزبَ ، ولن تمنَحْه هذه الفرصة ، لحشدِ الكرد السوريين خلفَه في مواجهتها ، بل سوفَ تتركه يضمحلُ وينتحرُ في معارك أخرى ، فهي تعلم أن نزوله من الجبال إلى السهول قضى على أسطورته عسكرياً و أخلاقياً.

وحتى إن انتهت الحرب - في غير صالح الـ PKK كما هو متوقع - فلن يعود مقاتلوه مرةً أخرى إلى الجبال ، فالذي جرّب المال والسلطة والتسلّط ، لن يكون في مقدوره العودة مرةً أخرى إلى مغاور قنديل.

التجربة السورية أثّرت على حزب العمال الكردستاني ، وأظهرتهُ على حقيقته البَشعة ، غير أنها سوف تكون آخر التجارب ، مثلما أن تجربة الانقلاب الفاشل في تركيا – التي قصَمت ظهره - ، مهّدت لمرحلةٍ جديدة تتمثل في خشيةِ الشعوب على مستقبلها ، من أيّة مقامرةٍ غير محسوبةِ العواقب ، في ظلّ توحّشٍ غربي يترصدُ المنطقةَ برمتها ، ليحرقَها بالحروب الأهليّة و الطّائفيّة والقوميّة.

اقرأ المزيد
٢٤ فبراير ٢٠١٧
روسيا تبدء اجراءات طرد حزب الله من مناطق نفوذه في سوريا

يبدو أن تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي التي أدلى بها منذ أيام لصحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية بما يتعلق بانسحاب ميليشيات حزب الله الارهابي ، لم تكن مجرد تصريح عابر كغيره من التصريحات ، أنما لحقته أفعال و تبلورت تلك الأفعال في ريف دمشق الغربي المعقل الأبرز لتلك الميليشيات .


كتبية تابعة للشرطة  العسكرية الروسية حطت رحالها صباح الأمس في ثكنة النبي هابيل الواقعة جنول غرب قرى و بلدات وادي بردى لتبدء بفرز عناصرها باتجاه مناطق كانت قدر ادرجتها ميليشيات حزب الله خارطتها الصفراء كسرغايا   و قرى وادي بردى ، ما لبثت أن انهت بلدة سرغايا امور التسوية مع النظام  بضمانة روسية حتى باتت بعهدتهم ليتقلص دور ميليشيات حزب الله .

تعتبر ميليشيات حزب الله الارهابي نفسها الوصي الوحيد  على مدن و بلدات ريف دمشق الممتدة من جسر بيروت مروراً بقرى وادي بردى و الزبداني حتى سرغايا مع الحدود السورية اللبنانية،  مارست تلك الميليشيات خلال فترة تواجدها في المنطقة أبشع أساليب الإكراه من قصف و تجويع لتهجير اهلها .

هجرت ميليشيات حزب الله من مدينة الزبداني لوحدها أكثر من 30 ألف نسمة ليبقى بداخلها أقل من 200 شخص محاصرين منذ دخول المدينة في أتفاق المدن  الأربعة،  و قتلت أكثر من 700 شخص في الزبداني و مضايا ،  كما و اقتلعت كافة الاشجار المتواجدة في سهل المنطقة و هدمت الأبنية هناك ضمن سياسة تغيير الملامح .


يبدو أن ميليشيات  حزب الله باتت في طريقها لمغادرة الأراضي السورية عموماً و مناطق ريف دمشق خصوصاً  ، لينتهي بذلك حلمها بتحويل تلك المناطق إلى أرضي لبنانية .

اقرأ المزيد
٢٤ فبراير ٢٠١٧
هل تنهار “جنيف ٤” على رأس ايران

يوقن جميع من يشارك حاليا في جنيف ٤ ، أن لامكان للنجاح هناك و إنما الأمر عبارة عن بعض الوقت يتم تمضيته ، في فترة التحضير للمرحلة القادمة ، والتي سوف تلي جنيف ، ولكن مضمون هذه المرحلة ضبابي ، ويقف أمام مفترق لطريقين أحدهما مؤداه إلى مواصلة دعم الأسد و ايران إلى النهاية ، أو طريق مواجهة وابعاد ايران ، ضمن معادلة معقدة ، ولكن التطورات تشي إلى أنها ليست بمستحيلة.


يدخل ملف ايران و مليشياتها و تمددها في المنطقة ، كعقدة متجددة و موسعة في الملف السوري ، سيما مع تصاعد النفوذ بشكل يجعل الخريطة الديموغرافية مهددة بالزوال تماماً و نشوء خريطة جديدة غريبة و غير مناسبة للمنطقة بحد ذاتها أو الدول المحيطة بها على اختلاف انتماءاتها الدينية .

ولعل السيناريوهات المطروحة حالياً لما بعد جنيف تصب في أحد الخيارين ، أحدهما ما نُقل يوم أمس عن تهديد ووعيد بتحويل ادلب لحلب ثانية ، و إلحاق الغوطة الشرقية بجيرانيها في محيط دمشق ، في حال ما فشل جنيف٤ ، الأمر الذي قد يكون عبارة عن كلمات اعتادت المعارضة على سماعها طوال ردح من الزمن و لم يجد له تطبيقاً على الأرض .

أما ثاني الخيارات المطروحة و بقوة أكبر ، هو خيار التوصل إلى اتفاق شبه نهائي و توافق قريب من التام ، على أن معضلة ايران هي المشكلة الأبرز و إنهاءها يشكل أولى الخطوات المرحب بها في طريق الحل ، الترحيب الصادر من جميع الأطراف لاسيما روسيا ، التي وجدت في ايران شريكاً مضارباً و مزعجاً ، اضافة لكونه غير مقبول نهائياً من الدول المحيطة ، و كذلك تلك التي تملك القرار في العالم سواء أكان سياسياً أو اقتصادياً أم تلك التي تعتبر سوقاً رائجاً لمنتجات السلاح.

تتصاعد اللهجة العنيفة ضد ايران منذ أيام ليست بقليلة ، و لكن منذ الاسبوع الفائت بدأنا نشهد حدة غير مسبوقة ، واستخدام تعابير و أوصاف لم نعهدها من عدة أطراف لاسيما تركيا و أمريكا ، اللتان اتخذتا فيما يبدو قراراً مشتركاً بعد مكالمة جمعت رئيسي البلدين ، أتبعها سلسلة من التصريحات ، التي قابلتها ايران بـ”الصبر” ذو نوع “المحدود”.

في الوقت الذي لم تقتصر الأمور على التصريحات السياسية ، اذ شهدت الأجواء في الخليج العربي حراكاً جيداً للطائرات التي تقل المسؤولين بين الدول ، و أبرزها زيارة رئيس الأركان التركي إلى الامارات ، بالتزامن مع جولة خليجية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ، تحمل في طياتها الكثير من الأسرار التي تحكم معادلة المرحلة القادمة .

التوتر الآنف الذكر ، الذي يعد متوقعاً ، ليس وحده من يرجح سيناريو“ايران العدو الجديد” ليتفوق على غيره  ، إذ حتى داخل الحلف الذي جمع الأسد و ايران و روسيا ، يظهر الشقاق بشكل كبير حتى أنه ظهر للعلن ، وأبرز أمثلته تصريحات حسن نصر الله الأخيرة بأن روسيا ليست من محور المقاومة مع وجود نقاط خلاف لم يحددها ، رافقه ظهور قوات روسية على الأرض في مناطق أبعد ما تكون ضمن الخطة الروسية ، و آخرها كان في القلمون الغربي (في محيط وادي بردى) ، تطورات تدل على بدأ روسيا بالعمل على خطة جديدة تقضي بكف يد ايران و أعوانها ، و سحب ميزة السيطرة على الأرض ، وبالطبع مع الاشارة إلى أن سلسلة المفاوضات سواء على الأرض أو في في الخارج ، التي تجري حاليا يلعب الروس دوراً محورياً ، مهمشاً أي دور لايران أو اي جهة ترتبط بالأسد .

اقرأ المزيد
٢٤ فبراير ٢٠١٧
إلى إعلاميي الثورة.. احذروا الشائعات

كثر في الآونة الأخيرة الترويج لأخبار مجهولة المصدر، ومن هذه الأخبار ما جلب لمجتمع ما أمراضاً نفسية كالهيستيريا وتفتيت الوحدة الوطنية في هذا المجتمع والتشكيك مع اضطرابات عقلية تصيب أصحاب القرار مما يؤدي إلي اتخاذ قرارات غير صائبة والإصابة بالتخبط مما يؤدي إلى الرهبة والخوف وفقدان الإنسان الثقة بنفسه وإضعاف الروح المعنوية لدى المقاتلين في الجانب العسكري، كما تنشأ النزاعات واضطرابات بين القادة والمقادين والناس.

فما هي الإشاعة ومن يروج لها وما أهداف المروج لها وما أثرها على المجتمع ؟!

الإشاعة هي خبر أو مجموعة أخبار زائفة تنتشر في المجتمع بشكل سريع و تُتداول بين العامة ظناً منهم على صحتها، دائماً ما تكون هذه الأخبار شيقة و مثيرة لفضول المجتمع والباحثين و تفتقر هذه الإشاعات عادةً إلى المصدر الموثوق الذي يحمل أدلة على صحة الأخبار، وتمثل هذه الشائعات جُزءاً كبيراً من المعلومات التي نتعامل معها.

 

الهدف من إثارة الشائعات

 

لإثارة الإشاعات أهداف ومآرب، تتنوع هذه الأهداف تماشياً مع مبتغيات مثيروها، فمنها ما هو ربحي (مادي) كما حصل في عام 2009 عندما تفجرت إشاعة مدوية في السعودية باحتواء مكائن الخياطة سنجر على مادة الزئبق الأحمر، مما أدى إلى وصول أسعار هذه الخُرد إلى مئات الآلاف من الريالات.

 

ومن الإشاعات أيضاً ما يكون خلفه أهداف سياسية وعادةً ما تحصل هذه الإشاعات في الحروب أو في الحالات الأمنية غير الاعتيادية، وتهدف هذه الإشاعات إلى تسبيب ربكة في الطرف المعني بالإشاعة كما حصل في الثورة الليبية لمعمر القذافي مثلاً عندما شاعت شائعة قوية بهروبه من ليبيا فاضطر للتصوير من أمام سيارته ليثبت للناس أنه ما زال موجوداً في ليبيا، وكذلك ما نقلته عشرات المواقع الإلكترونية عن جلطة بشار الأسد ونقله لمستشفى الشامي بدمشق وخوضها في أدق التفاصيل أجبر الأسد على الظهور بصور قديمة وأرشيفية قالت وسائل إعلامه أنها حديثة.

 

أيضاً اللعب واللهو هو من أهداف مُثيري الشائعات، والشائعات التي تقوم على هذا المبدأ عادةً ما تحوم حول المشاهير كوفاة لاعب أو حدوث حادث لفنانة وغيره من الشائعات .

 

من الشائعات من يصنعها المجتمع بنفسه خصوصاً للأمور المزمع أو المترقب حدوثها وذلك بكثرة ترديدها و السؤال عنها تنخلق شيئاً فشيئاً هذه الشائعات، كالحديث عن اتفاق بين الثوار والأسد في منطقة ما وتوقيع إتفاقية ما .

 

سبب انتشار الشائعات

 

يرجع البعض أيضاً أسباب ترديد الشائعات إلى: انعدام المعلومات، وندرة الأخبار بالنسبة للشعب، ومن هنا ينادون بضرورة تزويد الشعب بجميع الأخبار التفصيلية والدقيقة الممكنة حتى يكون على بينة مما يدور حوله من أحداث وأعمال تؤثر على حياته ومستقبله.

 

كما أن الشائعات تنتشر بصورة أكبر في المُجتمعات غير المُتعلمة أو غير الواعية، وذلك لسهولة انطلاء الأكاذيب عليهم، و قلما يُسأل عن مصدر لتوثيق ما يُتداول من معلومات، فالمجتمع الجاهل يكون بيئة خصبة ومناسبة لإراجة الشائعات.

 

أيضاً عدم وجود الطرف المخول بالرد على شائعة مُعينة يزيد لهيبها ويبعد عنها الشكوك والأقاويل .

 

في نفس الإطار نجد أن انتشار وسائل الاتصالات الحديثة تُعد سبب هام في انتشار الشائعات فهي تقوم بنشر كم هائل جداً من المعلومات في وقت يسير جداً وبكل يسر وسهولة.

 

قانون الشائعات

 

إن انعدام الأخبار وندرتها ليس بكاف لترويج الشائعة، وإنما هناك عوامل وشروط أخرى لابد من وجودها لتهيئ ظروف خلق الشائعة وترويجها.

 

من ضمنها وأهمها توافر هذان العاملان؛ الأهمية، والغموض، والمقصود هنا؛ أهمية الموضوع بالنسبة للأفراد المعنيين وغموض الأدلة الخاصة بموضوع الشائعة، وغالباً أيضاً ما نجد الشائعة تحتوي على جزء صغير من الأخبار أو الحقائق، ولكن عند ترويجها تُحاط بأجزاء خيالية بحيث يصعب فصل الحقيقة عن الخيال، أو يصعب التعرف على الحقيقة من الخيال.

 

لقد حاول كل من ألبورت وبوستمان أن يضعا قانوناً أساسياً للشائعة في شكل معادلة جبرية، ووصلا إلى أنه من الممكن وضع معادلة عن شدة الشائعة على النحو التالي:

 

شدة الشائعة = الأهمية × الغموض

 

تصنيف الشائعات

 

قامت محاولات عدة من جانب كثير من الباحثين لتصنيف الشائعات، واختلفوا حول الأسس التي يبنى عليها التقسيم، فالعلاقات الاجتماعية بين الناس متشابكة، والدوافع الذاتية متباينة من مجتمع لآخر، ومن هنا نرى أن من الصعب اقترح تصنيف عام للشائعات بحيث يمكن تطبيقه على أي مجتمع، أو ليكون قاعدة عملية يعول عليها حتى وإن أعطى للباحث أو الدارس الخيوط التي تساعده في تفهم الموضوع، ذلك لاختلاف الزاوية التي يقف عندها الباحثون دائماً، فقد يكون مثار الاهتمام الموضوع الذي تعالجة القصة الشائعة، أو الدافع الذي ورائها، أو معيار الزمن، أو الآثار الاجتماعية في الشعب سواء كانت: ضارة، أو مفيدة، أو سلبية.

 

لقد حاول بيساو أن يستخدم معيار الوقت في تصنيفه للشائعات وقسمها إلى ثلاثة أنواع :

 

الشائعة الزاحفة

 

وهي التي تروج ببطء ويتناقلها الناس همساً وبطريقة سرية تنتهي في آخر الأمر إلى أن يعرفها الجميع، أن هذا النوع من الشائعات يتضمن تلك القصص العدائية التي توجه في مجتمعنا ضد السياسيين والقادة والرموز الوطنية لمحاولة تلطيخ سمعتهم، وكذلك تلك القصص الزائفة التي تروج لعرقلة أي تقدم: اقتصادي، أو سياسي، أو اجتماعي، ويدخل في ذلك ما يقوم به المروجون من نشر تنبؤات بوقوع أحداث سيئة تمس هذه الموضوعات، ويقوم مروجو هذا النوع من الشائعات بنسخ سلسلة لا تنتهي من القصص ويستمرون في العمل على تغذيتها واستمرار نشرها.

 

شائعات العنف

 

وهي تتصف بالعنف، وتنتشر انتشار النار في الهشيم، وهذا النوع من الشائعات يغطي جماعة كبيرة جداً في وقت بالغ القصر، ومن نمط هذا النوع تلك التي تروج عن الحوادث والكوارث أو عن الانتصارات الباهرة أو الهزيمة في زمن الحرب، ولأن هذه الشائعة تبدأ بشحنة كبيرة فانها تثير العمل الفوري لأنها تستند إلى العواطف الجياشة من: الذعر، والغضب، والسرور المفاجئ.

 

الشائعات الغائصة

 

وهي التي تروج في أول الأمر ثم تغوص تحت السطح لتظهر مرة أخرى عندما تتهيأ لها الظروف بالظهور، ويكثر هذا النوع من الشائعات في القصص المماثلة التي تعاود الظهور في كل حرب و التي تصف وحشية العدو وقسوته مع الأطفال والنساء، ومثالها الحديث عن إعدام 13 ألف معتقل في سجن صيدنايا، فقد يكون خبراً حقيقياً ولكن نشره بالطريقة التي أراد لها العدو أن تنشر تؤكد وجود مآرب قوية له فيها.

 

خطر الشائعات على المجتمعات

 

للشائعات آثار نفسية وحسية بالغة، فبمقدورها القضاء على مجتمعات كاملة في حين أنها لم تُواجه من قِبل الأطراف الواعية، وتزداد خطورتها إذا كانت هُناك جهة ما تُزيد إسعار نار الشائعة طلباً لمُبتغياتها، فالشائعة ببساطة تجعل من الصواب خطأ ومن الخطأ صواب وقد يدعمها أحياناً بعض الوجهاء ورجال الدين، وبانتشارها وسيطرتها على عقول المجتمع قد تغير في السلوكيات وفي التعاطي مع أمور مُعينة بالنسبة للأفراد، وقد يصعب إبطالها أحياناً لتفشيها في المجتمع وتشرب المجتمع لها .

 

الشائعات والشغب

 

على الرغم من أن الحروب وأعمال الشغب والكوارث والأوبئة كلها مدمرة في حد ذاتها، فإن دمارها يشتد إذا أضيفت إليها الشائعات، وإن كنا لا نستطيع أن ندعي أن الشائعة هي السبب الوحيد أوالأصلي للشغب، إلا أن الشائعات تلعب دوراً مسانداً هاماً فيها.

 

إن عند حدوث الشغب تروج الشائعات أسرع من رواجها في أي وقت آخر، وهي تعكس التعصب الشديد، وأحياناً تكون كلها وليدة الخيال، فتروج الشائعات عمليات تعذيب وقتل وتلبس ثوباً جنونياً يتفق ويبرز العنف الذي يحدث ويسرع في عملية الإنتقام.

 

الشائعات والفكاهة

 

هناك علاقة بين الشائعة والفكاهة، وبالرغم من أن الشائعة عبارة عن قضية مطروحة للتصديق، وتنشر مبسطة يستسيغها الناس، فإن هناك كثيراً من القصص تنتشر على أنها شائعات وتكون من وحي الخيال الصرف. ولاتستهدف أكثر من الضحك.

 

أثر الشائعات على الروح المعنوية

 

الشائعة في مضمونها تلعب دوراً كبيراً في التأثير على معنويات الشعب، وإن اختلفت درجة تأثيرها تبعاً لنوعها والدوافع التي تكمن خلفها.

 

علاج الشائعات

 

مالحلول لمواجهة خطر الشائعات سواء النفسية أو الحسية :

 

المنطقية في التعامل مع الأخبار، والتأكد من المصدر خصوصاً مع الأخبار الحساسة و المهمة، والتوعية مع محاربة الصفحات و المنتديات التي تنشر بأسلوب الـ (نسخ لصق) أخبار بلا مصادر.

 

السيطرة على الشائعات

 

بوجه عام فإن النقاط والقواعد التالية التي تقوم في الواقع على ملاحظات فنية يمكن الاسترشاد بها في السيطرة على الشائعات، وسيجد الذين يحاولون محاربة الشائعات فائدة كبيرة في اتباعها:

 

الإيمان والثقة بالبلاغات الرسمية، إذ انه لو فقدت الجماهير الثقة في هذه البلاغات فإن الشائعات تأخذ في الإنتشار.

 

عرض الحقائق على أوسع مدى، ويجب أن تستغل الصحافة، والإذاعة والتليفزيون في تقديم أكثر ما يمكن من الأنباء، مع حذف التفاصيل التي قد ينتفع منها العدو، إن الناس تريد الحقائق فإذا لم يستطيعوا الحصول عليها فإنهم يتقبلون الشائعات.

 

الثقة في القادة والزعماء أمر جوهري في مقاومة الشائعات، فقد يتحمل الناس الرقابة على النشر أو نقص المعلومات، بل قد يحسون أن ما يسمعونه ليس إلا أكاذيب غير صحيحة إذا ما كانت لديهم ثقة بقادتهم.

 

وفي مثل هذه لأحوال يكون لدى الناس الوعي الكافي لإدراك أسباب نقص المعلومات التي لو نشرت قد تفيد العدو.

 

إن الملل والخمول ميدان خصب لخلق الشائعات وترويجها، فالعقول الفارغة يمكن أن تمتلئ بالأكاذيب، والأيدي المتعطلة تخلق ألسنة لاذعة، لذا فإن العمل والإنتاج وشغل الناس بما يعود عليهم بالنفع يساعد إلى حد كبير في مقاومة الشائعات، غالباً ما تكون الشائعات الهجومية المسمومة نتيجة دعاية العدو، أما من يقوم بترويجها فهم أولئك الذين يُعتبرون أعداء للوطن، ولذا فإن النجاح في كشف دعاية العدو بطريقة سهلة واضحة ومحاربة مروج الشائعات بكل وسيلة لهما دعامتان أساسيتان يرتكز عليها تخطيط مقاومة الشائعات.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٧
بعد مذبحة “لواء الأقصى” .. ليت “تحرير الشام” صمتت بدلاً من ...

لا أظن أن من فُجع بابنه أو ابيه أو زوجه ، سيكترث كثيراً بإعلان هيئة تحرير الشام ، عن تحقيقها النصر المؤزر على “لواء الأقصى” ، بعد أن أفضت هذه المعركة عن خسارة الثورة السورية لأكثر من ١٤٠ روحاً بأيدي المجرمين ، وجدت لنفسها طريقاً للخلاص و الخروج من مسرح الجريمة كـ “المنتصر” دون محاكمة أو محاسبة ، و إنما أقصى ما حصلوا عليه “الذل” ، وفق ما جاء في بيان هيئة تحرير الشام .

قد يكون من الأفضل على هيئة تحرير الشام أن تصمت و أن لا تتحدث بالقضية في الوقت الراهن ، وتنتظر بعضاً من الوقت حتى يخف حجم القهر و الحزن الذي يخنق المكلومين ، الذين فقدو أبنائهم ، في أشنع مجزرة تطال الجيش الحر على يد من قال في كل لحظة و ثانية، أنه جاء لنصرتهم، إذ به يبدع في قتله وحصاره و استجلاب المصائب .

تغنى بيان هيئة تحرير الشام بـ ”الثورة السورية” ، وحذر من الأخطار والمؤامرات في صف “الثورة والجهاد”، و خصصها لمن تحول من نصرة المظلوم المستضعف إلى تكفيره وقتله، و ساوى بينه و بين من وصفهم بـ” استثمار التضحيات والبطولات في ميدان السياسة والمفاوضات” ، في الوقت الذي قررت فيه إنهاء ( إنهاء كامل و مسح وجوده ) كل من قرر اللجوء للسياسية للتخفيف قدر المستطاع من آلة الموت ،  في حين تكافئ الهيئة (تحرير الشام) من يقتل لمجرد القتل و يدعي الصدق و هو مخادع ، يحارب الأخطار و هو الخطر الأكبر ، بأن تفتح له الطرق للذهاب حيث ينتمي .

ليس من حق هيئة تحرير الشام أو غيرها اتخاذ القرار عن أصحاب الدم ، و أن يقرروا عنهم إطلاق سراح المجرم و فتح الأبواب أمامه ، ولا يوجد أي مبرر لذلك ، إذ أننا هنا أمام معضلة رهيبة ، تنذر بأن أي مجرم ممكن أن يتقمص دور “لواء الأقصى” من جديد ، يفعل ما يفعل وفيما بعد يتم ترحيله إلى أي مكان يطلب .


بيان تحرير الشام الذي حمل في طياته تعابير النصر و النجاح في المهمة ، لم يتطرق إلى بأي حرف عن أكثر من ١٤٠ شهيد من الجيش الحر الذين تم تصفيتهم على يد الخوارج ، الذي كانوا أخوتهم و تحت رعايتهم وحمايتهم ، و لم يتم محاربتهم إلا عندما رفضوا بيعة الأمير و خرجوا عن عباءته، فلو لو بقوا لكانوا محميين آمنين، لو قتلوا كل من هو موجود في المناطق المحررة .


و لو تمتلك هيئة تحرير الشام ، هذه القدرة الكبيرة على الانتصار و نصرة المظلوم و إبعاد المجرمين، لتخرج من سجونها مئات السوريين الأحرار الذين اختطفتهم و اعتقلتهم طوال السنوات الماضية ، دون محاكمة أو معرفة مصيرهم، رغم أنهم جرائهم (إن وجدت) لا تعتبر شيء أمام كارثة “لواء الأقصى”.

لا يمكن أن نصمت مع الصامتين و نقرر أن الذي مضى، و إنما هناك عوائل و حقوق ، و هناك عدل يجب أن يطبق علي الجميع ، الحليف قبل العدو ، الصديق قبل الرفيق ، و إلا سيكون الشرع الذي ندعي دعمه و رفع رايته ، مشوه مهاناً بدلاً من عزه و عليائه.

الثورة السورية ثورة ولدت من رحم شعب صبور و قوي ، إن صابه و أعابه بعض البثور، لا يعني أنه ضعيف يرضى بأن جهة تتمتع ببعض القوة أن تحكمه و تسلبه حقوقه و حريته.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٧
سلاماً أيها السوريون الشرفاء

بعد تقرير استخدام الأسلحة الكيميائية وملف القتل الجماعي تحت التعذيب لآلاف المعتقلين في سجون النظام السوري التي كشفها مصور الجيش الشرعي، وقدّم عنها أكثر من 50 ألف صورة، اعترفت المنظمات الدولية الإنسانية بأصالتها، جاء تقرير منظمة العفو الدولية، الأسبوع الماضي، عن سجن صيدنايا، ليؤكد أن ما سمته "المسلخ البشري" لا ينطبق على هذا السجن وحده، وإنما يشمل سجون سورية بأكملها. وردا على تكذيب النظام وحماته من الروس التقرير ، تحدت "العفو الدولية" نظام الأسد بالسماح لها بزيارة السجون، للكشف عن حقيقة ما يجري فيها. وجاء الجواب على لسان بشار الأسد، صاحب المسلخ البشري ذاته، بأن سورية ترفض السماح بزيارة منظمات أجنبية سجونها.

هندسة الموت السورية
وبينما يغذّي التفاهم الدولي على احتواء عواقب المأساة السورية الأمل ببدء مفاوضاتٍ لن تكون بالتأكيد سهلة، لكنها صارت حتمية للخروج من المذبحة المستمرة منذ ست سنوات، تشكل قضية المعتقلين الذين يتراوح عددهم، حسب تقديرات المنظمات الإنسانية بين مئتي ألف وثلاثمئة ألف، أغلبيتهم الساحقة من المدنيين الذين تم اعتقال معظمهم على سبيل الإرهاب والترويع، ملفا رئيسيا وحاسما في هذه المفاوضات. ليس ذلك لما يمثله إنقاذ حياة أكثر هؤلاء، أو على الأقل من لايزال على قيد الحياة منهم، من مصيرهم المحتوم، ولا انسجاما مع مبادئ الحق والأخلاق التي تفرض علينا التضامن ضد أفعال منافية للإنسانية، وحاطة من قيم مجتمعاتنا وسلامتها، وإنما أكثر من ذلك لحماية السوريين والأجيال القادمة من احتمال أن تبقى الجريمة من دون عقاب، ويبقى المجرم طليقا ومستعدا للعودة إلى جرائمه، في وقتٍ تسعى أطرافٌ من المجتمع الدولي إلى تجنيبه أي عقاب، وإعادة تأهيله ليكون شريكا رئيسيا في عملية السلام، والخروج من لهيب الحرب الذي كان وراء إشعالها لمعاقبة السوريين على تظاهرات احتجاجهم.
لن يستطيع السوريون، مهما عظمت روح التسامح بينهم، تجاوز الصدمة التي سببتها تلك الأشكال غير المسبوقة من القتل الجماعي الذي يكشف عن هندسةٍ كاملةٍ للموت، مع مخططات للإبادة المنهجية بدم بارد ومع سابق تصميم. ولا تفيد التغطية على ما حصل في تجاوز هذه الصدمة، ولن تساعد على الخروج منها.

الحقيقة وحدها هي التي تشكل مدخلا للمصالحة، بمقدار ما تشكل اعترافا بالجريمة، وكشفا عن فظاعتها، وتحمل المسوؤلية السياسية والقانونية والأخلاقية.

ليس الجلادون الذين مارسوا أفعال التعذيب حتى الموت والقتل الجماعي والتمثيل بالجثث، هم وحدهم الذين كانوا يتلذّذون بشرب دماء ضحاياهم، ويتحملون مسؤولية الكارثة الإنسانية. يشاركهم في المسؤولية، كما في المتعة السادية، معلّموهم ومن أعطوا الأوامر لهم والتعليمات، وأولئك الذين دعموهم بكل الوسائل، داخل سورية وخارجها، لكن أيضا أولئك الذين صمتوا، وغضوا النظر، واعتبروا أن الأمر لا يعنيهم، أو ليس من شؤونهم. إلى هؤلاء الأخيرين بشكل خاص، وهم أي أحد، أريد أن أنقل هذه الشهادة الاستثنائية التي تغلبت على هندسة الموت، وخرجت إلى العلن، وكان من المفروض أن تبقى مخنوقةً إلى الأبد.

ليس لأي فردٍ منا حصانة في مواجهة نظام البريرية، ولا ضمانة كي لا نكون نحن أيضا في أي وقت أحد ضحاياه. إذا كانت لدينا أي إرادة للخروج من الكارثة، والعودة إلى مصاف الإنسانية، لا يمكن أن نتجاهل هذه الشهادة التي خرجت من داخل فرع التحقيق للمخابرات الجوية في مطار المزة، قرب دمشق، لا يقل شناعةً في تعامله مع السوريين عن سجن صيدنايا الدموي.

سأرتدي ملامحكم يا رفاق العذاب
كتب شاهد باسم وائل الزهراوي باسمه الصريح:
مضى يومان، وأنا مشبوح في غرفة الموت، والأصفاد كانت قد دخلت في لحم يدي، عندما أدخلوا ذاك الرجل الأربعيني بالأمس فجراً عارياً من كل شيء.

علقوه بالسقف من رجليه على غير عادتهم. كان يرتعد بشدة، لقد أدرك، بحكم أنه ضابط، ما الذي سيفعلونه به بعد قليل، دخل اثنان منهم يحملان كبلين للدبابات، وتبعهم واحدٌ منهم، يحمل قطعةً من سلك معدني شائك من النوع الذي نراه على الحدود بين الدول.
أمسكه أحدهم من شعره، وقال له .شو، سيادة المقدم، بحياتك شفتو لـ الله؟ هلق بدك تشوفو شخصي.

كانت عيونه تبكي، من دون أن يحركَ ملامح وجهه. يبكي بكبرياء لم أر مثلها في كل لحظات اللقاء مع الموت. كنت عاجزاً إلى درجة أني لم أستطع حتى البكاء معه.

أمسك المساعد السلك الشائك، وبدأ يلفهُ حول كبل الدبابة، حتى غطى كامل الكبل، فصار شكل الكبل مع الأسلاك الشائكة كوجه الموت الزؤام. وكنت قد سمعت عن آلة لِحام الحديد، ورأيت أناساً أحرقوهم بماكينة لحم الحديد. لكني لم أكن قد رأيتها أبداً قبل تلك الليلة.

دخل أحدهم، وأدخل معه آلة اللِحام. وصلها بالكهرباء. بدأت أرتجف. وكانت حركتي تزيد ألمي، لأن الأصفاد كانت تحتك بلحم يديَّ.

كبلوا له يديه للخلف. كانت أول ضربةٍ هوت على جسده العاري بالكبل الذي كانوا قد وضعوا عليه السلك الشائك، فصرخ صوتاً كأن الأرض قد صرخت معه. وفي كل ضربةٍ كانت تقع على ظهره، كانت الأشواك الحديدية تنغرس بجسده، فيشدّها المساعد المسخ، مقتلعاً بها كل ما تحمله معها من لحمه الطاهر.

وعندما كان الكبل ذو الأسلاك الشائكة يصادف معدته، كانت الأشواك الحديدية تغوص بلحمه، إلى درجة أن المساعد كان يشدّها مرتين، لتخرج وتأخذ معها قطعاً من جسده الذي كان كالوطن، يعطيهم دمه وأجزاءه، وهم يقطّعونه بأيديهم.

اقترب المساعد الثاني، وطعنه بآلة لحام الحديد، فثقب له كتفه كلها، فبدأ يتقيأ دماً. وكأن مشهد الدم كان يغريهم، فزادوا عليه بالكبل على كل أنحاء جسده، وهو يصرخ: يالله يالله مالي سواك يالله، يالله ساعدني، يارب. ولازلت أسمع صوته حتى هذه اللحظ … اقترب المسخ بآلة اللِحام، وطعنه بكتفه الثانية بقضيب اللحام، فثقب له كتفه الأخرى. فأغمي عليه، وصمت تماما.

ذهب أحدهم، وعاد ومعه عصا الكهرباء. كان المسؤول عن التعذيب هو المساعد أول نصر إسبر. قال لهم: يالله، صَحوه... ما بيطلع من هون غير عالقبر. بدي صوتوا يوصل لعند الله. بدي جربها على هادا سيدي. كنت أقرب معتقل له. نظر في عيني وقال:
إذا بتراجع وبتوسخ الأرض بعدمك هون، فهمت ولا كلب (يا كلب)، لسا بروح وبرجع بشوفك بخلقتي. ما بقى تموت ولا حيوان.

كنت أنتفض، وأنا معلق وأرجوه ألا يفعل. لم أترك شيئاً لم أتوسل به له، لكن القدر أبى إلا أن أواجه مصيري في ذاك اليوم. ضحك واقترب مني وصعقني بها في ركبتيّ. أردت أن أصرخ، لكن شيئاً ما شَلَّ فمي. شعرت كأن أحداً ما أدخل سكيناً في نقي عظامي، وكأن قلبي قد انفجر، وتجمدت عيناي، ولم أعد أرى بهما. كانت الثواني تمر كأنها سنوات. وجاء الألم أقسى من الجوع، وأعمق من الطعن، وأبعد بكثير من قدرة البكاء.

يا وطناً يحكمه الغرباء.
شهقت ولم أعد أقوى على التنفس. فبدأ يصفعني على وجهي. حتى عدت وشهقت من جديد. سمعته يقول لي: طلع (أنظر) فيني هون ولاك، طلع فيني هون. لم أكن أراه، حتى أنظر إليه. كنت ألتفت إلى الجهة الخطأً، فيصحح لي جهة رأسي بالكبل الذي أمسكه بيده الأخرى.

سألني" شو اسمك، شو اسمك ولاك عرصى؟ قلت له: أنا الرقم 1646 سيدي.
قال بعرف، بس شو اسمك ولاك، احكي:

قلت له: وائل سيدي، وائل الزهراوي سيدي. فقال أيوه، وهي لسّاك (ما زلت) متذكر اسمك. أنا، أصلا، كل الدارسين حقوق بحبن... .ثم أمسك الكبل الذي يقطر من دم المقدم، ومسحه برأسي، يريد أن ينظفه، وقال لي: أصلا كلكن دمكن متل بعض، دم وسخ.
وكم كان ما فعله عظيما، وكم كان فعلاً جميلاً من مسخ قبيح لا يعي كل ما أشعر به أبدا. وكم فرحت أني أحمل بعضاً من دم ذاك الضابط الشهيد. فقطرات الدم تلك تساويهم جميعاً عندي. وفي عمق ذاك الألم، كنت أتساءل عما يشعر به، وربع لحم جسده قد وقع تحت رأسه.

سكبوا على المقدم وعاءً من الماء. وما إن بدأ يصحو حتى صعقه المسخ بعصا الكهرباء في ظهره الذي لم يبق فيه جلد يغطي عموده الفقري. وزادوا عليه بكبل الدبابة. وبدأوا يضربونه على رأسه، والكبل الملفوف بالأسلاك الشائكه اقتلع نصف فروة جمجمته.

يا وطناً سقيتك من دمي
يا كل بقع الدم اصرخي. يا أيتها الجدران تكلمي، أخبري كل هذا العالم ماذا جرى هناك، وماذا فعلوا بنا.

يا وطناً سقيتك من دمي، وأعطيتك من لحمي وتقاسموك كالغنيمة، يا هتافاتنا التي كنت أرى فيها الحرية والإباء: أين اختفيت أين أين؟ وما لن أنساه حتى ما بعد الموت. كيف حاول في آخر لحظات حياته أن يثني جسده ويصل إلى الأصفاد التي كان معلقا بها. كانت عيناه قد عميتا وورمتا إلى درجةٍ لا توصف. ومع ذلك، يريد أن ينجو. بصق نصف أضراسه تحت رأسه. يحاول أن يقاوم الموت القادم لا محالة. ولكن. هيهات هيهات. ولات حين مناص.

ثقبوا له فخذه، وانغرس قضيب اللحام في عظامه، وأثقلوه بالكبل ذي السلك الشائك في أماكن الثقوب، وعلى رأسه، حتى غابت كل ملامحه، كما يغيب الوطن خلف أحقاب القهر، وكما يغيب الضوء، عندما ينتصر الظلام، وكما كنت أستسلم للموت، وأدعوه أن يأخذني من هناك ويأبى.

ورأيته كيف كان ُيمطر الأرض دماً، كأنه ينتقم من ظلمهم بنزفه. وشعرت أن الكون كله يمطر دماً. كان صوت تساقط دمه يشبه صوت ارتطام أكداس الجثث، حين كانوا يرمونها فوق بعضها، جثث أبناء الوطن.

المقدم الطيار 20/31، هذا رقمه واسمه وتاريخه وبطولاته وأطفاله وحياته. صرخ بكل قوته، ثم أسلم الروح هناك. هناك حين كنا نحب بعضنا إلى درجة أننا ندفن معاً في مقابر جماعية.

بعد ساعة، كان دمه قد ملأ الغرفة. فكّوا أصفاده، فوقع على الأرض جثةً لا يتحرّك. وسحبوه من رجليه، ليكون رقماً بين مئات الأرقام التي هي جبين الوطن وعزته وشرفه ورائحته.

في صباح اليوم التالي، أنزلوني. لم أكن أشعر بيدي، ولا أستطيع التحكم بكتفيّ مطلقاً. لبست سروالي الداخلي بعد سبعة عشر يوماً قضيتها عارياً. أدخلوني للجماعية الرابعة زنزانة المرضى.

عندما دخلت غرفة المرضى، كان عددنا 89 شاباً سورياً. بعد عشرة أيام، أصبحنا 62. البقية قدموا أرواحهم لكم ورحلوا. تركوا لكم كل أحلامهم وصرخاتهم ورسائلهم ودمائهم ونظراتهم قبل الموت. وهبوكم أغلى ما لديهم واستشهدوا تحت التعذيب.
لعل الأمل فيكم لا يخيب.

ومن كان صاحب حقلٍ، فلا يتسول حفنة طحين. وبعد كل تلك الأرواح، كيف يمكن أن نتخيل أن هناك سورياً حراً يمكن أن يساوم على الدم، أو يقايض على العذاب.

وبعد أن كنت هناك، ما الذي يمكن أن يبقى من حياتي سوى أن أخلص لأولئك الأحرار في أغلالهم.

سأرتدي ملامحكم، يا رفاق العذاب. سلاما عليكم أيها الشهداء الأحياء. سلاماً أيها السوريون الشرفاء.
الضابط الذي أشرف على هذه الأعمال لا يزال يمارس هوايته الدموية بانتظام في السجون السورية.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٧
"جنيف 4"... التفاوض إلى أين؟

تنعقد جولة مفاوضات سورية جديدة في جنيف، تترافق مع تجدد آمال السوريين وتطلعاتهم في إيقاف القتال وإنهاء جميع أشكال الحصار، وإطلاق سراح جميع المعتقلين أو جزء كبير منهم من المعتقلات والسجون السورية السرية والتابعة بشكل مباشر للنظام، أو تلك التابعة للمليشيات الموالية له، إلا أن الآمال والتطلعات الشعبية في تحقيق حل سياسي يشكل مقدمة لتضميد الجراح ولملمة الشتات والأحزان باتت شبه معدومة، نتيجة غياب البحث في الحلول السياسية التي تدفع السوريين إلى الخلاص من جميع أشكال الاحتلال الدولية والإقليمية والجهادية والمحلية، والتي تمثل أولى الخطوات لبناء الوطن السوري الجامع لجميع أبنائه.

فمن الواضح أن الشعب السوري قد لمس خلو المفاوضات المزمع عقدها من البحث في متطلبات جميع مكوناته ورغباتهم، لحساب طرح تطلعات ورغبات القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ورغباتها بشكل مباشر أو غير مباشر في الساحة السورية، حيث باتت هذه الجولات التفاوضية تعكس، وبشكل فج، الاستبعاد الدولي للسوريين عنها، سواء من الأطراف الداعمة للنظام السوري، وخصوصا الروس، وبشكل أقل فجاجة الإيرانيين، أو من الأتراك، وكذلك تعكس الرغبة الدولية في استحضار بعض الشخصيات والأطراف فقط عند الحاجة لإضافة بُعد سوري للمفاوضات الجارية، وخصوصاً في المفاوضات ذات الرعاية الدولية، والتي شكلت العصب الرئيسي للمفاوضات ذات الرعاية الأممية المزمع عقدها في جنيف.

إذاً هي مفاوضات دولية على سورية أو حولها، و لمزيدٍ من الدقة هي مفاوضات عمادها السيطرة والإرادة الروسية، فقد بات النجاح في عقد مفاوضات لحل الأزمة السورية أو في استقراء نتائج هذه المفاوضات مرتبطاً بشكل شبه حصري بالإرادة السياسية الروسية، والتي غالباً ما يؤدي الخطأ في قراءتها إلى بناء آمال وأوهام حول حدوث تغيير جذري في الممارسة الروسية، ومنها الوقوع اليوم في الفخ الذي نصبته الخارجية الروسية، عبر تصويرها أن الإيرانيين والنظام السوري هما الطرفان الرافضان للحل السياسي المزمع الوصول إليه عبر التفاوض، ويرغبان في الاستمرار في العمليات القتالية وفرض الحل العسكري الشامل، على الرغم من عجز التحالف الطائفي والإجرامي السوري والإيرانيين من تحقيق أي نجاحات عسكرية، من دون الغطاء الجوي الروسي منذ ما يزيد عن عام، وهو ما أكده الرئيس السوري، بشار الأسد، نفسه في أكثر من لقاء صحافي أخيرا، فقد اعتبر أن التدخل الروسي المباشر كان السبب الرئيسي في الحيلولة دون انهيار النظام السوري وحليفه الإيراني، أي أن القيادة الروسية هي من تسعى إلى فرض الحل العسكري حتى اليوم. كما تستند الخارجية الروسية إلى صورتها الوهمية المزعومة، راعية للحل السياسي في دعواتها إلى تحقيق التمثيل الأوسع للشعب السوري في جلسات التفاوض، عبر تضمين وفد المعارضة شخصيات ومنصات محسوبة أو مقربة منها، مثل منصتي موسكو والقاهرة، لتصبح موسكو الوسيط والراعي والمشكل الرسمي لجلسات التفاوض السورية وفرق التفاوض القائمة ظاهريا به، فضلا عن كونها عمليا الطرف الأكثر حسما وتأثيرا على مجريات الصراع العسكري الدائر في سورية.

كما نجحت القوة الجوية الروسية في تحجيم التطلعات الإقليمية، وخصوصا التركية، ودفعتها نحو التنسيق والتعاون مع روسيا، من أجل ضمان المصالح التركية في سورية مستقبلا، ما انعكس على قدرات ومواقف وتكتيكات الفصائل والكتائب والقوى المعارضة السورية، لتسير مرغمة من الأتراك وبعض الدول الداعمة والحليفة للأتراك نحو جلسات التفاوض الدولية والأممية منزوعة من أوراق القوى التفاوضية، وأهمها الشعبية، والتي خسرتها على مدار السنوات الثورية السابقة، نتيجة اتباعها نهج القوى الداعمة، والذي يتعارض مع تطلعات الشعب السوري الثائر وغاياته، ونتيجة سعيها إلى تحقيق مكاسب شخصية مالية وسياسية على حساب السوريين والأرض السورية. كما يبدو أنها خسرت الجزء الأكبر من قوتها العسكرية، نتيجة ضغوط وسيطرة القوى الداعمة عبر تحكمهم في موارد هذه القوى المالية والإعلامية والعسكرية. ما جعل أعضاء عديدين في وفد المعارضة السورية للمفاوضات يعبر عن هذا العجز بطريقة غير مباشرة، مثل اعتبار قرارات مجلس الأمن والتشريعات الدولية مصدر القوة التفاوضية التي تحول دون هزيمة المعارضة السياسية.

إذاً، نحن أمام جلسات تفاوض بعناوين دولية أو أممية، لكنها جميعها ذات مضمون روسي، بمعنى أن السياسة والإرادة الروسية هي المتحكّم الأول في المسار التفاوضي، وفي نجاح الحل السياسي إن أرادت ذلك، إلا أن الممارسة العسكرية الروسية لا تدع مجالا للشك في نيات موسكو في المضي في طريق الحل العسكري، عبر توسيع العمليات العسكرية المدعومة روسياً في كل من محيط دمشق ودرعا، وأحيانا على مشارف مدينة الباب السورية. لذا أقصى ما يمكن أن يقدمه الروس في جنيف، إن حدث، يتمثل في إطلاق سراح أعداد محدودة من المعتقلين، من دون أن تترافق مع آليات تمنع استمرار الممارسة ذاتها، أي الاعتقال، فهي مجرد ورقة يقدمها الروس من أجل امتصاص الأصوات الناقدة، ومن أجل تعزيز صورة الحمامة الروسية البيضاء!. كما تجدر الإشارة إلى الغياب الكامل للحضور الثوري السوري عن جميع الاجتماعات التفاوضية، وخصوصا بعد التوافق التركي - الروسي، حيث كان بعضهم يرى في تركيا الحامي، وربما الحامل السياسي للثورة السورية، نتيجة تغيّب الحركة الثورية الشعبية أو تواريها، وتواري الحناجر الثورية. ليشكل هذا الغياب النقطة الأهم في جميع الجلسات التفاوضية، ما يدفعنا إلى الإيمان بأن عملية استعادة الصوت والفعل والحضور الثوري هي المهمة الأولى من أجل الخلاص السوري من مستنقع الإجرام والاستبداد والإرهاب المستفحل في سورية. وهو السبيل الوحيد لاستعادة القضية السورية من مخالب الدب الروسي ونظرائه الدوليين.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٧
حرب ترامب وإيران التي لن تقع

توحي تهديدات الرئيس الأميركي وكبار مسؤولي إدارته لإيران، وردود طهران المتحدية، بأن البلدين يتجهان في شكل مؤكد إلى مواجهة قد تنفجر في أي لحظة. لكن الوقائع تفيد بأن دونالد ترامب وعلي خامنئي ليسا في وارد خوض حرب قد تكلفهما الكثير، وإنما يتفاوضان على رسم حدود للعلاقة بين دولتيهما، بعد تداخل نفوذهما في أكثر من «ساحة» مشتركة. فالأول لم يخرق في فرضه عقوبات إضافية إطار الاتفاق النووي المبرم، وهو الأهم بالنسبة إلى إيران، والثاني لم يتجاوز في رده الشعارات المعتادة المستخدمة طوال العقود الأربعة الماضية، والتي لم تحل من دون التوصل إلى تفاهم.

وكان ترامب توعّد خلال حملته الانتخابية بأنه «سيمزق الاتفاق النووي السيء مع إيران فور تسلمه» الرئاسة، لكنه تراجع عن تهديده وطمأن حلفاءه الأوروبيين إلى أنه سيحافظ على الاتفاق. ثم عاد ووجه «تنبيهاً» إلى طهران بسبب زعزعتها الاستقرار الإقليمي، لكنه لم يوضح حتى الآن كيفية مواجهتها وأين سيتم ذلك.

وبعد عملية الإنزال الأميركية الأخيرة الفاشلة في اليمن، سرت تكهنات بأن ترامب قد يختار هذا البلد ساحة للمواجهة الأولى مع إيران، على رغم محدودية الفعل الأميركي فيه وتركيزه على متطرفي «القاعدة». وفي حال صحّ التوقع، يكون الرئيس الأميركي يحاول بذلك استغلال فرصة قائمة، والاستفادة من قرار إقليمي سبق أي قرار دولي، بعدم ترك هذا البلد يقع في يد الإيرانيين، لما قد يشكله من اختراق للنواة الصلبة الحالية في مواجهة المشروع الإيراني.

والمقصود بالنواة الصلبة دول الخليج العربية، بما هي مركز ثقل ديني واقتصادي، بعدما انهار الجناحان الشرقي والغربي للعالم العربي، أو يكادان. ففي الشرق، ينوء العراق وسورية تحت وطأة الانقسام الطائفي والعرقي، والحرب المكلفة على داعش، فيما تقضم إيران تدريجاً من سيادتهما وتحكم قبضتها على قرارهما السياسي والعسكري. وفي الغرب، تتعثر مصر في عقبات السياسة والاقتصاد والأمن، فيما ليبيا ممزقة ومحتربة، وينشغل المغرب والجزائر بمشكلاتهما الداخلية الملحّة وخلافهما الصحراوي.

وفي ما يخص العراق، اضطر وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس أثناء زيارته بغداد قبل أيام، إلى نفي أي نية لبلاده في «مصادرة» النفط العراقي، في التفاف على تصريحات ترامب الذي قال إن على الولايات المتحدة الاستيلاء على نفط العراق، بل كان عليها أن تفعل ذلك في 2003 وإبقاء قواتها في بلاد الرافدين التي تجاهر إيران بضمها إلى «امبراطوريتها» بتسهيل من أميركا نفسها.

أما في سورية، فيدافع ترامب عن إمكان التعاون مع روسيا في محاربة «داعش» وفي إيجاد حل لأزمة النظام يبقي على الأسد. لكن الوضع على الأرض يشير إلى أن التعاون المزمع محكوم بإشراك إيران في أي ترتيبات أو تسويات، كونها تملك روابط وثيقة جداً بنظام دمشق وتنشر ميليشيات عدة صارت جزءاً أساسياً من آلة النظام العسكرية. ويصعب تصور كيف يمكن لواشنطن التوفيق بين كلامها عن الحد من النفوذ الإقليمي لإيران وبين إشراكها في الحل السوري، فضلاً عن تحقيق أهدافها في هذا البلد.

وبالتأكيد، فإن طهران التي تغلب البراغماتية الانتهازية على سلوكها رأت في تهديدات ترامب فرصة لإعادة تطهير سمعتها التي تلوثت بدماء السوريين، لذا سارعت إلى إعادة رفع شعارات العداء لأميركا، بعدما تخلت عنها في أواخر عهد أوباما، وباشر «حزب الله»، وكيلها في لبنان، الحديث عن احتمالات مواجهة جديدة مع إسرائيل، وهي «الفزاعة» الجاهزة دوما للتشكيك في أي دعوة للحد من تورطه المجرم في سورية واستفراده بلبنان.

ترامب وإيران يتقنان كلاهما لغة الصفقات والمقاولة والمواجهات عبر أطراف ثالثة، ولن يورط أي منهما نفسه في ما قد ينعكس سلباً على «منجزات» بذل جهوداً مضنية لتحقيقها، سواء الوصول إلى البيت الأبيض أو مد النفوذ إلى دول عربية، وما التصعيد الكلامي سوى واجهة للتنفيس والتفاوض لن تغير من حقيقته مناوشات هنا وهناك.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٧
إيران في مرمى ترامب

يكاد لا يمر يوم واحد لا تظهر فيه مؤشرات على أن إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب قد وضعت إيران على رأس لائحة استهدافاتها في منطقتنا، جنباً إلى جنب مع «دولة» أبي بكر البغدادي «الإسلامية» (داعش).

لا يقتصر الأمر على تصريحات أقطاب الإدارة الموجهة ضد النفوذ الإقليمي لإيران أو المتحدثة عن كون جمهورية الخامنئي «الإسلامية» هي أكبر راع للإرهاب في العالم! بل تجاوزتها إلى تحريك حاملة طائرات أمريكية إلى خليج عدن، في أعقاب استهداف سفينة سعودية من قبل مقاتلي الحوثي. وتتحدث تقارير صحافية عن سعي الإدارة الأمريكية لتشكيل تحالف عسكري عربي ـ إقليمي لمواجهة التهديدات الإيرانية، أطلق عليه «ناتو» عربي ـ إقليمي، من المفترض أن يضم مصر والسعودية والأردن ودولة الإمارات العربية وتركيا.
هذا مما يزيل استغراب شن حسن نصر الله ـ قائد الميليشيا الإيرانية في لبنان ـ هجوماً مفاجئاً على دولة الإمارات، إذا اعتبرنا هجومه على السعودية من مألوف خطاب الرجل.

الواقع إن إيران بدأت تتحرك على خطين متباعدين لاستيعاب الهجمة الترامبية: أولهما محاولة التقرب من دول الخليج، من خلال حديث وزير خارجيتها جواد ظريف عن «الانفتاح على الحوار» مع الجوار العربي الخليجي، كما من خلال زيارتي الرئيس حسن روحاني إلى كل من الكويت وسلطنة عمان. والثاني خط الابتزاز والتهديد من خلال حسن نصر الله الذي فتح النار، مجدداً، على دول الخليج، واستعاد تقليداً بات منسياً منذ سنوات في إطلاق التهديدات اللفظية ضد «عدوه» الإسرائيلي المزعوم.

على الضفة الأخرى، لا تفوت المراقب مؤشرات لافتة في الخطاب التركي ضد إيران، وظهور علامات على قرب نهاية شهر العسل القصير بين تركيا وروسيا في الموضوع السوري. فقد تلقف الأتراك فكرة المناطق الآمنة التي طرحها ترامب، وكلف فريقه بوضع تصور عملي للموضوع خلال فترة ثلاثة أشهر. أعلنت إيران صراحةً اعتراضها على هذا المشروع الذي يمنح الأمريكيين والأتراك منطقة نفوذ دائمة داخل ولايتها السورية (الخامسة والثلاثين، ودرة تاج توسعها الإقليمي)، فمن شأن تحقق ذلك أن يعرض مشروع إمبراطوريتها المفترضة للخطر، في حين سمحت لها السياسة الأمريكية السابقة في عهد باراك أوباما بأن تشط في أحلامها الإمبراطورية تلك. وجاء البيان الأمريكي بصدد مباحثات نائب الرئيس مايكل بنس ورئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم، التي تضمنت «اتفاق الجانبين على مواجهة النفوذ الإقليمي لإيران» لتُخرج إيران عن طورها تماماً، فيستدعى السفير التركي في طهران إلى وزارة الخارجية الإيرانية ويحمَّل رداً قاسياً على المواقف والتصريحات التركية الجديدة من إيران.

لم يمض على انتقال السلطة في واشنطن شهر واحد، وبتنا أمام هذا المشهد الخطير الذي يذكر بالحملات التمهيدية لشن الحروب. وفي الهدف اليوم دولة إيران. والرئيس الأمريكي دونالد ترامب يبدو، في شعبويته وارتجاليته وجهله، أخطر حتى من سلفه الجمهوري جورج دبليو بوش الذي أمضى ولايتيه في خوض غمار الحروب المدمرة في منطقتنا. ترى هل ينوي ترامب استكمال حروب بوش بضرب إيران هذه المرة؟ أم أن البراغماتية الإيرانية ستتمكن من استيعاب العدوانية الأمريكية ضدها باختيار طريق الانحناء أمام العاصفة؟ وكم سيكلفها هذا الانحناء المفترض من جموحها السابق واستثماراتها في سوريا ولبنان والعراق واليمن والبحرين؟ أم أن الأقدار ستنقذها من خلال احتمال إطاحة فضيحة مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي مايكل فلين برئاسة ترامب؟ فهذا من السيناريوهات المطروحة حالياً في الرأي العام الأمريكي الذي لا يكن قسم كبير منه الود للرئيس الجديد. وحتى لو نجا ترامب من ارتدادات هذه الفضيحة، فسيكون مضطراً، فيما تبقى من ولايته، للامتثال لثوابت السياسات الأمريكية التقليدية، أو يطاح به عند أي زلة جديدة لا تستبعد شخصيته ارتكابها.

من المحتمل أن قادة النظام في طهران يأملون بتطور الأمور في هذا الاتجاه. لكن السياسة لا تبنى على آمال، بل على تدابير وأفعال. وهو ما تحاول إيران تلمس الخيارات المتاحة للقيام به، سواء من خلال السعي لاسترضاء الجوار الخليجي بمعسول الكلام، أو هز عصا حزب الله بمسمومه، أو تهديد الجارة التركية.

الواقع أن السياسة التوسعية الإيرانية في السنوات السابقة، ومسلكها التخريبي في الدول العربية، لم يتركا لطهران أحداً يتعاطف معها في محنتها الراهنة، باستثناء أدواتها من الميليشيات الطائفية بطبيعة الحال. أما المجتمعات الشيعية في الدول العربية التي ورطتها تلك الميليشيات المؤتمرة بأوامر ولي الفقيه في استقطابات مذهبية مدمرة ضد المكونات الأخرى الشريكة، فسوف تدفع ثمن قرارات لم يكن لها يد في اتخاذها.

إيران دولة جارة تنتمي إلى العالم الإسلامي. كان المأمول أن يحميها محيطها العربي والإسلامي في وجه التهديدات الأمريكية. من المؤسف أن مشاعر العداء لإيران هي الطاغية اليوم في الرأي العام العربي على الأقل، بما في ذلك قيادات الدول. وتتحمل إيران وحدها مسؤولية ذلك من خلال سياساتها التدخلية اللامسؤولة في شؤون دول الجوار. تدخل لا أفق إيجابيا له، ولا ينطوي على مشروع جذاب، بل يقتصر على التخريب وتعميم الصراع المذهبي السني ـ الشيعي العابر للدول. وفي المأساة السورية بالذات تدخلت إيران لمصلحة نظام يدمر بلده ويقتل شعبه طوال ست سنوات، مع مساهمة الميليشيات الإيرانية متعددة الجنسيات بصورة مباشرة في جرائم القتل والتنكيل والتهجير والتخريب.

لن يكسب أحد من شعوب المنطقة من حرب أمريكية جديدة هدفها إيران هذه المرة. ولكن على نفسها جنت براقش.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٧
“درع اليرموك” في الجنوب يتم تحضيراته للانطلاق في القريب العاجل

دخلت المنطقة الجنوبية في مرحلة متقدمة جداً من اطلاق تحالف جديد و هو الأكبر ، في خطوة يمكن وصفها بأنه اعادة لتجربة الشمال السوري ، و لكن بمسمى جديد يحمل في طياته هدفاً أساسياً و هو القضاء على تنظيم الدولة ، وفق ما يشي به الاسم الذي يحمله التحالف ألا وهو “درع اليرموك”.

وتشير معلومات متقاطعة إلى قرب الإعلان عن اطلاق أكبر تجمع في المنطقة الجنوبية ، و الذي سيضم الغالبية العظمى من المكونات الثورية في المنطقة ، ضمن قالب “درع اليرموك” ، الذي يضع تنظيم الدولة هدفاً أولياً و رئيسياً له ، ضمن خطة شاملة و عامة تصل إلى حدود منطقة آمنة تبدأ بالمناطق الحدودية مع الأردن و الاحتلال الإسرائيلي، في حين تبقى المساحات المتعلقة بالعمق و المناطق التي من الممكن أن تشملها غير محددة.

وعجّل هجوم تنظيم الدولة الأخير ، قبل ثلاثة أيام ، على مناطق الجيش الحر انطلاقاً من حوض اليرموك ، من تسريع عمليات اطلاق “درع اليرموك” ، الهجوم  الذي كان بمثابة ضربة قوية جداً ، سواء من حيث حجم الخسائر الجغرافية أم البشرية أو من جهة ما خلفه من فظائع يرفض الجميع ذكرها على الإعلام، في حين لازالت فرق الإحصاء تعمل على كشف فداحة ما حدث ، وصحيح أنها أصدرت تقريراً أولياً يشير إلى أكثر من ١١٠ شهيد غالبيتهم من عناصر الجيش الحر ، لكن بيانها تضمن تحذيراً أن الأمر سيكون كارثياً بالفعل ، نتيجة الهجوم الذي كان مباغتاً و فجاً و في توقيت قاسي ، بالتزامن مع معركة “الموت ولا المذلة” التي أعادة الروح لدرعا بعد خبوها لأكثر من عام ونيف.

لاشك أن الأحاديث التي دارت قبل فترة من الزمن عن وجود منطقة آمنة بالجنوب ، برغبة إقليمية و دعم أمريكي من قبل الإدارة الجديدة ، لكن بقي توقيتها ضبابياً ، وما حدث قبل ثلاثة أيام جعل الأمر أكثر وضوحاً ، سيما أن التحضيرات اللوجستية و الإدارية و الفنية لمنطقة آمنة في الجنوب السوري ، قد قطعت أشواطاً طويلة ، حيث تتمتع درعا بتكتلات كبيرة على رأسها الجبهة الجنوبية و جيش الثورة و إضافة إلى الأعداد لما يشبه دستور لادارة المنطقة بشكل كامل (من الألف إلى الياء ) ، كما يقال ، وهي بانتظار وضعها موضع التنفيذ ، وفق ما كشفت وسائل إعلام مؤخراً.

و بالعودة إلى “درع اليرموك” ، فإن التوقيت المبدئي لإطلاقه سيكون مع بداية شهر آذار القادم أي بعد قرابة أسبوع، و لكن تبقى الكثير من التفاصيل تحمل في طياتها نوع من الأخبار غير المؤكدة ، اذ تشير المصادر إلى أن “درع اليرموك” سيضم إلى جانبه قوات من الأردن و قطر و السعودية ، في اطار التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.

في العموم لا يمكن الحديث عن مراحل تالية لـ”درع اليرموك” ، إلا بعد الانتهاء من تنظيم الدولة الهدف الأول و الأكبر للتحالف ، و لكن لابد من الإشارة إلى وجود خطة قد تكون غير واقعية بالوقت الراهن ، إذ تشير بعض المصادر أن التحالف لن يختص بمناطق تنظيم الدولة فحسب ، بل سينتقل بعدها إلى مناطق يسيطر عليها الأسد و حلفاؤه ، إذ أكدت المصادر أن المنطقة ستشمل مدينة درعا و خربة غزالة وصولاً إلى حدود ازرع ، في حين ستمتد بالجزء الصحراوي وصولاً إلى ريف حمص الجنوبي و الشرقي.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٧
السوريون في سجون جديدة!

لطالما جرى وصف حياة السوريين في ظل نظام الأسد، بأنها حياة داخل سجن كبير، والأمر في هذا الوصف، لم يقتصر على العدد الهائل الذي أقامه نظام الأسد من سجون ومعتقلات منذ أن استولى الأسد الأب على السلطة في سوريا عام 1970، فأسس مزيدًا من السجون التابعة لوزارة الداخلية في مختلف المحافظات والمدن والمناطق، بل أضاف إليها فروعًا ومفارز أمنية فيها مراكز اعتقال وتوقيف، تتبع إدارات أمنية، تبدأ من إدارة أمن الدولة، وتمتد إلى المخابرات العسكرية وشقيقتها المخابرات الجوية، وصولاً إلى إدارتي الأمن السياسي والأمن الجنائي، إضافة إلى سجون الوحدات العسكرية المنتشرة في كل المناطق والوحدات العسكرية.


لم تكن تلك السجون تعبيرًا عن تحول سوريا إلى سجن كبير؛ بل كانت جزءًا من ذلك ليس إلا، أما الأساس في ذلك التحول، فإنه كامن في صعوبات الحياة السورية وفي أنماطها الصعبة؛ فقمع الحريات الفردية والجماعية، ومنع الناس من حقوقها الفردية والاجتماعية، وانتهاك خصوصيات الفرد والمجتمع، وتقييد الحقوق في العمل والتعليم والصحة والسفر والاختيارات، وتغييب القانون، كانت أيضًا من تعبيرات تحول سوريا إلى سجن كبير.


وبخلاف ما كانت الوعود من انفتاح في السجن الكبير، في عهد الأسد الابن مع عام 2000، وإعادة تطبيع حياة السوريين؛ فقد حول نظام الأسد سوريا إلى معتقل عام ومسلخ بشري ثابت في بعض أماكنه، ومتنقل في أغلب الأماكن في السنوات الست الماضية، موزعًا القتل في كل الأنحاء السورية، بعد أن خرج السوريون محتجين على سوء أحوالهم ومعاملتهم في مارس (آذار) عام 2011، ثم استدعى لتعميم الاعتقال والقتل ميليشيات طائفية متشددة من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان، وقوات وخبراء من إيران وروسيا، إضافة إلى خطوته في إطلاق قادة متطرفين وإرهابيين من سجونه، وفتح مداخل سوريا أمام المتطرفين الإرهابيين من «القاعدة» و«داعش» وأخواتهما، ليصيروا أدوات في المقتلة السورية، التي تشير التقديرات إلى وصول ضحاياها إلى قرابة مليون شخص من القتلى، ونحو نصف مليون شخص من المعتقلين والمختفين قسرًا، والتي أشارت إليها وقائع؛ من بينها «فضيحة سيزار» المتضمنة عشرات آلاف الصور للسوريين الذين ماتوا تحت التعذيب في سجون الأسد، وتقرير منظمة العفو الدولية «أمنستي» الصادر مؤخرًا الذي قال: «50 معتقلاً يساقون إلى المشانق كل أسبوع في سجن صيدنايا بعد أن يعذبوا في طريقهم إلى الإعدام».


لقد بدا من الطبيعي في ضوء تحولات السجن السوري الكبير إلى معتقل ومسلخ، أن يلجأ السوريون إلى الهرب نحو جوارهم في حركة لجوء واسعة، سجلت في السنوات الست الماضية، أكثر من خمسة ملايين سوري، أكثر من نصفهم في تركيا وحدها، فيما تتوزع البقية على التوالي بين لبنان والأردن وأقلهم في العراق. ولئن وجد الأولون منهم ظروفًا أفضل للجوئهم، فإن التالين منهم صاروا إلى مخيمات هي أقرب إلى المعتقلات، وعشوائيات لا تقل سوءًا في أوضاعها الإنسانية والمعيشية عن الأخيرة.


ولئن استطاع بعض لاجئي دول الجوار السوري اللجوء والهجرة نحو بلدان الغرب الأوروبي، عبر انتقال أكثرهم في قوارب الموت وبواسطة مافيات الاتجار بالبشر في طرق العبور البرية، فإن كثيرين منهم صاروا إلى مخيمات أشبه بمعسكرات اعتقال ومراكز إقامة مؤقتة، تؤكد الوقائع ظروفها الصعبة وغير الإنسانية.
السوريون اليوم في أماكن اللجوء والهجرة، بل والإقامة، في أوضاع صعبة.


لقد هرب السوريون من حياتهم في السجن الكبير بعد أن تحول إلى معتقل ومسلخ، وأصبح أغلب بلدان لجوئهم وهجرتهم وإقاماتهم، سجونًا جديدة، كل واحد منها بمواصفات وشروط، لكنها تمنعهم من الحياة بصورة طبيعية، وبدل أن يعالج العالم قضيتهم، ويساعدهم في العودة إلى بلدهم، ليعيشوا حياة إنسانية وكريمة فيه، سكت عن سياسات الأسد الدموية وحلفائه في اعتقال وقتل وتشريد السوريين، وفتح سجون جديدة، تضم السوريين أينما حلوا في معظم أنحاء العالم في بلدان جديدة، وكانت تلك محصلة النظرة العوراء للمجتمع الدولي، ونتيجة عجزه، وتهافت سياساته إزاء السوريين وقضيتهم ومطالبهم بالحرية والكرامة.

اقرأ المزيد
٢٢ فبراير ٢٠١٧
سورية: جنيف مرة أخرى والآفاق ما زالت قاتمة

تتجه أنظار السوريين مرة أخرى نحو جنيف حيث يفترض أن تعقد الجولة الثالثة من المفاوضات بين وفد النظام، ووفد، إن لم نقل وفود، المعارضة، وتحت إشراف أممي وبرعاية دولية - روسية النكهة في المقام الأول. أما جنيف 1 فغاب عنه السوريون، وكانت المباحثات بين الأطراف الدولية، بخاصة الجانبين الأميركي والروسي. وتم التوافق حينئذٍ على بيان جنيف 1 في حزيران (يونيو) 2012 المستند إلى خطة كوفي أنان ذات النقاط الست المعروفة. وهو البيان الذي تحفظنا عليه في حينه، لتضمنه نقاطاً عدة غامضة، وأخرى لا تمتلك أية قابلية للتحقق في ظل غياب إرادة أميركية فاعلة للتعامل مع الموضوع بحزم وفاعلية، وعدم وجود أية رغبة روسية في التخلي عن التحالف مع نظام بشار، طالما أنه يمنحها ورقة قوية في المعادلات الإقليمية والدولية.

فدور الأسد في مستقبل سورية كان العقدة الأساسية، وما زال. وقد تعامل معه بيان جنيف 1 بموجب عقيدة الغموض «الخلّاق» الذي يبيح لكل طرف تفسير الموضوع وفق حساباته الخاصة. كما أن تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بكامل الصلاحيات وبموافقة الطرفين كان، وما زال، عصياً على أي تطبيق واقعي، لا سيما في ظل انعدام إرادة دولية ملزمة، ومن الجانب الأميركي تحديداً. ومع تيقّن الروس من هشاشة الموقف الأميركي على صعيد دعم المعارضة، بخاصة بعدما قفز أوباما من فوق الخط الأحمر الذي كان قد أعلن عنه وحدّده بنفسه، بدأوا بالترويج لفكرة تمحورت حولها استراتيجيتهم منذ البداية، وهي أن ما يهدد السوريين جميعاً، معارضة وموالاة، هو الإرهاب، ولمواجهته لا بد أن تتضافر جهود الجميع. هذا ما حاول الروس تمريره في جنيف 2 وجنيف 3. ولمّا أخفقوا في تسويق الموضوع عبر جنيف، لاذوا بأسلوب صناعة المعارضات في حميميم وآستانة وغيرهما لإجهاض مخرجات مؤتمر الرياض للمعارضة أواخر 2015 الذي عُقد بناء على توافق دولي في اجتماع فيينا.

عمل الروس بالتوازي مع تدخلهم العسكري إلى جانب النظام، على استغلال الانهيارات والخلافات والصراعات بين الفصائل المسلحة الميدانية المعارضة، كما استثمروا في متغيرات أولويات السياسة التركية، بخاصة بعد الانقلاب الفاشل. وبدأوا بنسج العلاقات مع العديد من تلك الفصائل. ثم كانت اللقاءات المعلنة بين الفصائل المعنية والجانب الروسي في أنقرة. كل ذلك مهّد الطريق لاجتماع آستانة الذي جمع ممثلي بعض الفصائل المسلحة ووفد النظام. وكان واضحاً أن الأخير شارك في الاجتماع مرغماً بضغط روسي للاستفادة من نتائج السيطرة على حلب. ومع إدراك الجانب الروسي استحالة ترتيب الأوضاع في سورية لمصلحته من دون دور فاعل أميركي، ومشاركة عربية مؤثرة، وذراً للرماد في الأعين، كان التأكيد بأن آستانة مجرد محطة تمهيدية، تركز على وقف إطلاق النار، واعتماد آلية بين الدول الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، للتحقق من التزام مختلف الأطراف بوقف إطلاق النار. أما الهدف الأبعد روسياً من آستانة فإحداث الشرخ بين الفصائل العسكرية والهيئة العليا للمفاوضات من ناحية، وبين الفصائل أنفسها من ناحية ثانية، وذلك في إطار الاستراتيجية الروسية لتفتيت المعارضة وتطويعها، تمهيداً لإعادة تشكيلها، أقله إبان استفرادها بالملف السوري.

وفي المقابل، يبدو أن الأمور على الضفة الأميركية بدأت تتبلور ملامحها بعض الشيء، ما يُستشفّ من حوادث وتحركات وتصريحات عدة لعل أبرزها استقالة مستشار الأمن القومي مايكل فلين على خلفية اتصاله بالروس، ويبدو أن الأمور لن تقف عنده بل ستشمل آخرين بهذه الصورة أو تلك. إلا أن الجوهري أننا سنشهد تشدداً أميركياً في التعامل مع روسيا، وبالتالي لن تترك المفاتيح كلها للكرملين، ليتحكّم بقواعد اللعبة وفق حساباته ومصالحه.

في هذه الأجواء، تجرى الاستعدادات للجولة الجديدة من مفاوضات جنيف التي لن تتميز عن الجولتين السابقتين، بل لن تخرج عن كونها مجرد حركة للإيحاء بوجود رغبة دولية في دفع الأطراف السورية للتوصل إلى حلٍ توافقي ينهي الصراع، ويمهد الطريق لانتقال سياسي غير واضح المعالم، قابل للتأويل بألف صيغة. وهذا ما يستنتج منه أن الأمور لم تصل بعد بين الأطراف الدولية والإقليمية المعنية إلى تفاهمات نهائية، أو أن الأمور ما زالت قيد المشاورات والأخذ والردّ. ويُشار ضمن هذا السياق إلى جولة مدير السي. آي. أي. مايك مومبيو ورئيس الأركان الأميركي جوزيف دانفورد إلى المنطقة، ما يشير إلى أن القضايا المتصلة بالجانب الأمني والعسكري في الملف السوري هي التي تُبحث راهناً، تمهيداً لقرار سياسي يضع النقاط على الحروف. وما يُستدل من المعطيات المتوافرة أن الجولة القادمة من جنيف لن تكون مؤهلة لإحداث خرق في هذا الاتجاه أو ذاك، بل سيستمر الطرفان في موقفيهما، مع إدراكهما أن الأمور الأساسية تُبحث في مكان آخر.

الاتصالات والتحركات والوقائع تعطي انطباعاً مفاده بأن المرحلة القادمة ستشهد تثبيتاً لمناطق النفوذ بين مختلف الأطراف المتصارعة، انتظاراً لما سيسفر عنه المستقبل. روسيا في عجلة من أمرها. تريد تأمين حصتها من «المولد» السوري، لكنها تدرك أنها لا تستطيع بلوغ ذلك من دون تنسيق مع الجانب الأميركي، وتفاهم مع الجانب الإسرائيلي بطبيعة الحال. كما أن تحالفها مع إيران يسجل لها وعليها. فهي في حاجة إليها تحسباً لأية مفاجآت مع الجانب الأميركي، وتدرك في الوقت عينه أن العلاقة المتميزة مع طهران لن تفيدها كثيرا، بخاصة في رفع العقبات أمام علاقات متميزة تريدها مع تركيا ومع السعودية ودول الخليج.

أما تركيا، فتريد إفهام الحليف التقليدي، الولايات المتحدة، ومعها دول الناتو بأنها ليست ضعيفة، بل تمتلك البدائل، لكنها لا تستطيع المغامرة أو المقامرة بعقود من العلاقات الاستراتيجية مع الغرب، ومن التواصل النفسي معه، إلى جانب الحجم الكبير للمصالح الاقتصادية وتداخلها. هكذا، فجنيف هذه المرة لن تكون استثناء، ولا محطة جديدة في الملف السوري، بل مجدداً فرصة للاستكشاف وكسب الوقت.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان