مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢ مارس ٢٠١٧
قنبلة موسكو الدخانية في جنيف

هل هناك فعلا جدية روسية في الضغط على النظام السوري للبحث في الانتقال السياسي في نظام الحكم في سورية؟ وهل أخذت موسكو تعطي إشارات إلى استعدادها للافتراق عن الخطة الإيرانية في بلاد الشام والتي أساسها بقاء بشار الأسد في الرئاسة إلى ما شاء الله؟ وهل بلغ التمايز الروسي- الإيراني الذي برزت مظاهره الميدانية على الأرض السورية حد تحوله سياسة مناقضة لما تنويه طهران في تنافسها مع الدب الروسي على الإمساك بالقرار السياسي السوري في إطار مشروعها في الشرق الأوسط كلاً؟

تُطرح هذه الأسئلة، وغيرها كثير، لمناسبة التركيز الإعلامي على اعتبار الضغط الروسي على وفد نظام الأسد المفاوض في جنيف4 كي يقبل بند الانتقال السياسي على جدول التفاوض بينه وبين وفد المعارضة، «بدايةً طيبة» و «تقدماً»، كما قال رئيس وفد الأخيرة نصر الحريري أول من أمس.

قيل الكثير عن الخلاف بين الروس والإيرانيين، وبين هؤلاء والأتراك... بعد دخول قوات النظام والميليشيات المدعومة من طهران إلى حلب قبل شهرين، والذي مهد له القصف الروسي العنيف لأسابيع. إلا أن بعض الاستنتاجات في هذا المجال انطلق من بعض المؤشرات الواقعية، لتضخيم التوقعات حول هذا الخلاف. واستند التضخيم إلى افتراض أن العدائية «الترامبية» لدور إيران في سورية والمنطقة مقابل المراهنة الروسية على التفاهم مع الإدارة الجديدة في واشنطن، قد تقود إلى صفقة بين الجبارين على حساب إيران. لكن واشنطن تتمهل في توضيح توجهاتها. والميدان السوري يخضع للتقلبات المتناقضة، وكل أسبوع، بل كل يوم لا يشبه الذي سبقه في رسم خريطة الوقائع العسكرية في لعبة الأمم على الرقعة السورية، والدليل ما يحصل في منبج وغرب حلب، وهكذا على المستوى السياسي.

كان من الطبيعي أن تلجأ الديبلوماسية الروسية إلى الظهور بمظهر ممارسة الضغط على النظام لقبول بحث الانتقال السياسي بنداً أساسياً في جدول أعمال جنيف، بعد إحباطها بالفيتو مع الصين، مشروع قرار مجلس الأمن إدانة النظام لاستخدامه الأسلحة الكيماوية مجدداً، وبعد أن أفقدها خرق النظام وإيران وقف النار في كل أنحاء سورية، والذي ادعت موسكو النجاح في تثبيته في آستانة1 و2، صدقيتَها كراع للاتفاق. والأرجح أن القنبلة الدخانية التي اسمها «الضغط على النظام» حول الانتقال السياسي، جاءت للتغطية على التقريرين الدوليين اللذين أذيعا فور فشل تمرير قرار مجلس الأمن، عن استخدام قوات الأسد غاز الكلور في غاراته على حلب، وعن قصفه المتعمد لقوافل الإغاثة الإنسانية التي كانت مخصصة للمحاصرين شرق حلب قبل إسقاطها منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي... في وقت تأخذ المعارضة على الروس عدم ضغطهم على النظام و «حزب الله» لتنفيذ ما تقرر في آستانة من تمرير للمساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة وللإفراج عن معتقلات في السجون... إلخ.

لم يكد وفد المعارضة ينتهي من الحديث عن التقدم بفعل الضغط الروسي، حتى قال نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف، الذي تولى المهمة، إن «الجديد هو أن أطراف جنيف وافقوا على البحث في كل المواضيع في شكل متواز»، ثم اتهمت الخارجية الروسية المعارضة بتقويض المحادثات لرفضها التعاون مع معارضتي القاهرة وموسكو المؤيدتين بقاء الأسد، فيما قال مسؤول في وفد النظام إن جدول الأعمال يتضمن 4 سلات هي الإرهاب والحكم والدستور والانتخابات، مستبعداً ضم الانتقال السياسي إلى النقاط الثلاث التي طرحها ستيفان دي ميستورا، ومصراً على تقديم بند الإرهاب الذي رفضت المعارضة مواصلة إلهاء الأسد العالم به.

ومع صحة القول إن المعارضة انتزعت للمرة الأولى بند «الانتقال السياسي» نظرياً، فإن الإصرار الروسي على «بحث متواز» لكل المواضيع يعني ربط أي تقدم في أحدها بالتقدم في غيره، لإطالة التفاوض في شأن الحكم الانتقالي الذي نص عليه القرار الدولي 2254 ، فما تضمنه الأخير من جدولة زمنية لآلية الانتقال (عملية سياسية لـ 6 أشهر تحدد جدولاً لصوغ دستور، ثم انتخابات في غضون 18 شهراً بإشراف دولي) تأخر زهاء 15 شهراً منذ صدور القرار في 18 كانون الأول (يناير) 2015.

قنبلة موسكو الدخانية إحدى المناورات المنفصلة المفاجئة، التي سرعان ما يظهر نقيضها كما عودتنا ديبلوماسيتها، والمتبقي يتكفل به وفد النظام بالاستناد إلى لغم في القرار الدولي هو أن قيام هيئة حكم انتقالية جامعة تخول سلطات تنفيذية كاملة تعتمد في تشكيلها على «الموافقة المتبادلة». وهذا باب للمماحكة غير المتناهية، في انتظار التوافق مع إدارة ترامب.

اقرأ المزيد
٢ مارس ٢٠١٧
تمثيلية المفاوضات.. سورية على طريق فلسطين

لن يتقدّم السوريون خطوة واحدة إلى الأمام في محادثات جنيف الرابعة، والتي سوف تنتهي كما انتهت مفاوضات جنيف 1 و2 و3، أي قبل أن تبدأ، وقبل أن تنهي مناقشة جدول الأعمال التي تحطمت على "صخرتها" جميع المؤتمرات التفاوضية السابقة. ربما، هذه المرة، بمنسوبٍ أقل من التهم والشتائم التي يتقنها وفد النظام، احتراما للحليف الروسي الذي وقعت عليه، للمرة الأولى، رعاية "تمثيلية" المفاوضات السورية. والسبب بسيط جدا، وأقل تعقيدا بكثير مما تدّعي الدبلوماسية الدولية، وما يريد كبارها أن يقنعوا الرأي العام السوري به، وهو لا يختلف عن السبب الذي أفشل مفاوضات الحل السياسي في فلسطين، منذ مؤتمر مدريد الشهير في 1991. نظام الأسد وحلفاؤه الأساسيون في طهران يرفضون التخلي عن السيطرة على كامل السلطة والبلاد، مهما كانت الظروف، ولأي طرفٍ كان، لأنهم يريدون، بكل بساطة، الاحتفاظ بها، تماما كما رفض نظام الاحتلال الإسرائيلي "التنازل" عن أي شبرٍ من فلسطين، وأراد ولا يزال السيطرة على جميع الأراضي الفلسطينية، وضمها بالتدريج وحرمان الفلسطينيين من أي أمل بإقامة دولة على حدود "إسرائيل".

كما كان عليه الحال في المسألة الفلسطينية، لم يكن لدى القيادة الفلسطينية بكل أجنحتها، ولا لدى الرأي العام الفلسطيني، على تعدّد اتجاهاته، أي شك في أن الولايات المتحدة هي الراعي الرئيسي لإسرائيل، والضامن لمصالحها وأمنها، وتفوّقها على عموم المنطقة العربية وغير العربية في الشرق الأوسط كله، وأن واشنطن لا يمكن أن تفعل، في أي ظرف، ما يمكن أن يسيء إلى مصالح الاحتلال الإسرائيلي. لكن، لهذا السبب بالذات، وفي ظرفٍ تضاءلت فيه الخيارات إلى حدود العدم، راهن الفلسطينيون على العلاقة الوجودية بين واشنطن وتل أبيب، من أجل تحقيق تسويةٍ تحفظ ماء الوجه، وتقبل بجزءٍ لا يكاد يذكر من فلسطين، يرضي طموح النخبة الفلسطينية، ويبرّر استمرارها ووجودها على رأس شعبٍ لا يزال أغلبه يعيش في المخيمات. ما يعني أن من مصلحة إسرائيل إيجاد حل للقضية الفلسطينية بأرخص الأثمان، ومن مصلحة الولايات المتحدة الضغط على حكومات إسرائيل، من أجل تسهيل التوصل إلى هذا الحل الذي لا يعدو أن يكون مبادرةً لحفظ ماء الوجه للسلطة الفلسطينية التي يعترفون بفائدتها في منع بروز حركات متطرّفة فلسطينية.

ويكاد الوهم ذاته الذي ربط مصير الحركة الفلسطينية بالتفاهم مع الولايات المتحدة والرهان على تماهيها مع إسرائيل، من أجل إقناعها باتباع سياسة أكثر عقلانيةً حتى بالنسبة لحفظ مصالحها ذاتها، يعود بالصورة نفسها في ما يتعلق بمراهنة سوريين كثيرين وقادة المعارضة أيضا على موسكو، وعلاقتها القوية مع نظام الأسد، والتي تريد، في نظري، أن تحولها إلى علاقاتٍ وثيقة ونهائية، لا تنافسها أي علاقات أخرى، بما يناظر الترابط الوثيق في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، للضغط على نظام الأسد وطهران، وحثهما على قبول تسويةٍ تحفظ ماء وجه معارضةٍ فقدت، كما حصل للفلسطينيين، كثيراً من حماس حلفائها السابقين ودعمهم، وغيّب أصدقاءها اليأس والخوف من التورّط معها.

في الحالتين، كانت الحصيلة صفرا. وبدل أن تكون المفاوضات وسيلةً للتوصل إلى حل للنزاع أو الصراع القائم، صارت هي المشكلة، وصار الهدف الذي يسعى إليه الأطراف، حلفاء المعارضة وأصدقاء الشعب السوري، أو من يتّسمون باسمهم، هو الجري وراء اجتماعاتٍ لا معنى ولا قيمة لها، والتأكيد على أهمية محادثاتٍ تبعد الأطراف عن القضية المطروحة للنقاش أكثر مما تقربها من إيجاد حل لها. والحال أن ما يحصل هو بالضبط تقويض أسس أي مفاوضاتٍ جدية، ووضع السوريين ومعارضتهم، كما وضع الفلسطينيون وقادتهم منذ ربع قرن، أمام خيار واحد: قبول الأمر الواقع. كل ما هنالك أن استمرار الحديث عن مفاوضاتٍ قادمة، ومؤتمرات محتملة، يفتح إمكانية تمرير فرض الأمر الواقع بالتدريج، ومن دون أن يشعر الطرف المعني، أو بالأحرى تهريب الحل العسكري الذي يتقدم وحده على الأرض، وتحويل المفاوضات إلى مخدّر من أرخص الأثمان.

لم يكن السوريون بحاجة إلى وساطة موسكو، إذا كان الهدف من المفاوضات التي تدفع إليها وتتوسط لإنجاحها، هو إعادة هيكلة النظام السوري، وإعادة الشرعية والاستقرار إليه، كما صرح مبعوث روسيا للقضية السورية ميخائيل بوغدانوف، الاثنين الماضي، في مداخلته في منتدى فالداي للحوار الاستراتيجي في موسكو، عندما انتقد "الثورات التي تسعى إلى إطاحة أنظمةٍ بدعم خارجي"، وقال إن الاحتجاجات تسمح بتقويم مشاعر المواطنين، وتتيح الفرصة لتحسين الدستور، إلا أن ذلك لا يعني ضرورة إلغاء الدستور والمطالبة برحيل السلطات الشرعية عن طريق القوة أو الثورات أو الانتفاضات، من دون انتظار إجراء انتخابات جديدة، وهذا يعني تكليف النظام الشرعي بالإصلاحات، وتنظيمه الانتخابات، أي ببساطة إلغاء جوهر المفاوضات في جنيف.

وليس هناك أي سببٍ لكي تعطي المعارضة السورية، مهما وصلت من الضعف، ولا الشعب الذي قاتل ست سنوات وحيدا، بركتهما لتعيين ممثلي منصة موسكو أو غيرها أعضاء في حكومة مشتركة مع النظام، فهؤلاء أحرار، وبإمكانهم في أي وقت أن ينضموا إلى حكومةٍ واحدة، يسمونها كما يشاؤون، حكومة وحدة وطنية أو حكومة روسية سورية، أم أي شيء آخر. ولن يقف أحد ضد خياراتهم، لكن هذه ليست الحكومة التي تمثل موقف الشعب الذي تريد أن تعبر عنه المعارضة، ولا موقع معارضةٍ قدمت آلاف الضحايا، من أجل تغيير النظام القائم، وتحرير الشعب من القهر والذل والاضطهاد. ومن الأفضل، في هذه الحالة، أن تبقى المعارضة معارضة، وتترك الروس والإيرانيين يشكلون حكومتهم الخاصة، ويضعوا على رأسها أيا من الدمى التي يثقون بها، ويستطيعون التلاعب بقراراتها، كما يشاؤون. قد يمثل هذا حلا لبقاء الأسد، وبقاء طهران ومصالحهما الفائقة، ولتوسيع نفوذ الروس وتكريس انتدابهم على سورية، لكنه لن يكون اتفاقا، ولا حلا للمسألة، ولا إنهاءً لأي نزاع.

لا ينبغي أن يخدع الروس أنفسهم، ولا أن تخدع الحكومات العربية وغير العربية التي تراهن على الروس، في مثل هذا الحل، باسم الحفاظ على إمكانية الحرب على الإرهاب، نفسها أيضا. لن يكون هناك حل، مهما حصل، وحتى لو وقّعت المعارضة على صك الاستسلام، ولن توقع، مع نظامٍ شنّ الحرب على شعبه، وقام بتدمير وطنه، وتشريد أبنائه في مختلف بقاع الأرض، ولن تكون هناك تسويةٌ ممكنةٌ مع نظامٍ قبل بأن يكون غطاء للاحتلال.

في نظري، ستستمر المفاوضات مع النظام السوري، وأولياء أمره من الإيرانيين، عقيمة، مهما تعدّدت المؤتمرات، وأعيد صياغة المبادرات لتمريرها على الرأي العام السوري. والمستفيد الوحيد من هذا العقم والفشل والتأجيل الدائم للحل قوى التطرّف التي يمقتها الجميع، لكنه يعمل على تغذيتها في كل خطوةٍ يسعى فيها إلى الإبقاء على أصل المأساة ومصدرها، وهو نظام القهر والإذلال والتعذيب والمعتقلات.

وسيخطئ أيضا الذين يسوقون من بين الحكومات العربية حلا رخيصا على طريقة المحاصصة الطائفية، يغطي على الإبقاء على نظام العبودية، أو تقاسما للسلطة مع مجرمي الحرب وأبطال الإبادة الجماعية، لأن الأغلبية الساحقة من السوريين لن تقبل، وسوف ترفض تحويلها إلى طائفةٍ وطوائف متنازعة على سلطاتٍ ومناصب وهمية. ما يريده السوريون هو الحرية.

والتسوية السياسية الوحيدة التي تقود إليها، وتفتح الطريق أمام مفاوضاتٍ حقيقية ومثمرة، ترضي تطلع السوريين إلى الحرية، هي وقف الحديث عن جميع المواضع الثانوية، وتركيز الأطراف كافة، وفي مقدمتها الدول الكبرى التي تريد الخلاص، أو على الأقل تخفيف عواقب الكارثة السورية التي لم تنته بعد، على نقطةٍ وحيدة واحدة: توفير الشروط الأمنية والسياسية التي تسمح للشعب السوري، من دون تمييز بين الطوائف والقوميات والطبقات، بتقرير مصيره من خلال انتخاباتٍ عامةٍ نزيهة وحرة وتحت إشراف دولي. وإذا كان التوصل إلى هيئةٍ انتقاليةٍ تقوم بالإعداد لهذه الانتخابات، وتضمن استمرار الدولة، وإدارة الشؤون العامة خلال سنة أو أكثر، مستحيلا بين الحكم والمعارضة، أي إذا أصر الحكم القائم على عرقلة التوصل إلى حلٍّ يفضي إلى عملية تقرير مصير، فعلى الأمم المتحدة والدول الكبرى الخمس في مجلس الأمن أن تتحمل مسؤولياتها إزاء السوريين المنكوبين، وتأخذ على عاتقها تحقيق هذه المهمة، قبل تسليم السلطة لحكومة سوريةٍ ديمقراطيةٍ، منبثقةٍ من الشعب ومعبرة عن إرادته. أمام رفض النظام وشركائه التراجع، وتردّد الدول الكبرى في مواجهة حلفاء النظام، وتفاقم الأزمة الإنسانية، وتنامي مخاطر التطرف الجديد النابع من الإحباط والبؤس والهوان، لا أعتقد أن هناك، ما لم تتغير المعطيات الدولية، أي حلّ آخر قابل للحياة.

اقرأ المزيد
١ مارس ٢٠١٧
قبل سجن تدمر وبعد سجن صيدنايا

كلما تعرفَ الرأي العام في العالم (إن صحت التسمية) على فظاعات جديدة للنظام السوري، كالتقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية عن ضحايا سجن صيدنايا، زادت قناعتي بأننا نعيش عصراً مختلاً تماماً، لا سيما لجهة حالة الشلل والتفرج التام على مأساة الشعب السوري المستمرة من قبل المجتمع الدولي.

ضمن السياق نفسه ولتعرية كل أوراق التوت عن أعنف نظام عرفه التاريخ المعاصر، عرضت قناة «العربية» أخيراً فيلماً وثائقياً عن سجن تدمر، فيلماً رهيباً، قام بتأدية الأدوار فيه سجناء لبنانيون سابقون قضوا فيه سنوات عدة.

تدمر السجن، أو سجن تدمر، لا فرق، حيث المعتقلون أرقام فقط، والسجّان هو الجلاد والحاكم والقاضي.

من فتحة صغيرة في باب المهجع يتلصص أحد المعتقلين على سلوك أحد الحراس. كان التاريخ يشير إلى 8 آذار (مارس) أي إلى «عيد» وصول البعث إلى السلطة. فقط في هذا النهار رأى المعتقل أن الطعام هو رزّ وفروج وصنوبر، بينما في بقية الأيام يحصل سجناء كثيرون على حبة بطاطا. من تلك الفتحة رأى السجين المتلصص كيف أن الحارس وقد التهم بعض لحم الفروج، تبوّل على بقية طعام السجناء.

توثيق هذه الجرائم بالمعنى الحقوقي أمر في غاية الأهمية، ولكن متى تُترجم تلك الوثائق الحقوقية إلى فعل سياسي قانوني، كي تأخذ العدالة مجراها؟ فبمقدار الرعب الذي عاشه المعتقلون يكون السؤال الموجع، الذي أراه بلا جواب بسبب الصمت عن تلك الجرائم، فكأن هذا العالم يمشي مقلوباً مع السوريين، بلا رأس قانوني أو أخلاقي.

نظامٌ مروع تاريخه مسلسل من المجازر، وبمقدار الضياع الذي يراه السوريون في سياسة أنظمة العالم المؤثرة، هناك أيضاً وجه آخر قبيح ما زال السوريون بعيدين عن فضحه وتعريته، هو أن كل هذا القمع العاري والمديد الذي مارسه النظام كان بأيدي سوريين: فالحارس الذي تبول على طعام سجناء لبنانيين في سجن تدمر سوري.

سوريون مع النظام وجدوا في بوط بشار الأسد قبلتهم، سوريون يعتقلون سوريين، يعذبون سوريين، يقتلون سوريين.

هي حقيقة عارية نتجاهلها من شدة فظاعتها. الجلادون والقناصون ورماة المدفعية والطيارون درسنا معهم في المدارس نفسها، لكنهم هم أنفسهم بعد حين رأيناهم يعملون على تثبيت ركائز استبداد النظام، فصاروا ضباطاً وعساكر ومخبرين يخدمون نظامهم المروع ويهتفون بحياة قائده.

مروعٌ حال العالم إذاً، ولكن حالنا السوري الاجتماعي والنفسي أيضاً مروع أكثر. فالانقسام الاجتماعي، الطائفي والأخلاقي يأخذ شكل التشظي.
لذلك فإن من يعّول على أي تغيير سياسي عبر المفاوضات مع هذا النظام واهم، حتى لو رغبت موسكو بوتين بذلك. فليس النظام الإيراني وحده من يعيق أي اقتراب جدي من حل سياسي، إنما أيضاً النظام وبنيته الأمنية الصارمة. فهو لا يمكن تغييره إلا عبر الكسر والإزاحة.

صدى صوت السجان في سجن تدمر ما زال يروع حياة سجناء خرجوا أحياء من هناك، وما زال صراخ سجاني صيدنايا مروعاً أيضاً.
الثورة السورية وصفت باليتيمة، ولكن من وصفها بذلك لم يشاهد هذا الخراب والإجرام الهائل الباقي في نفوس السوريين الواقفين مع النظام. ثورة يتيمة، نعم، لأن بوط النظام العسكري والأمني بوط سوري قبل أن يتدخل البوط الإيراني والروسي.

في الأدبيات السياسية عادة ما يستخدم الكتاب والصحافيون عبارات كثيرة التلخيص والدقة حين يدرسون الظواهر السياسية لأي نظام سياسي، لكن في حالة النظام السوري لا بدَ من استعارة الكثير من مصطلحات الطب النفسي. وفي العمق الجارح هذا لا بدّ أن يدرك السوريون مأساتهم الذاتية مع جلاديهم السوريين، قبل أن يبدأوا بتفقد خرائط السياسة ونقدها في محيطهم العالمي.

اقرأ المزيد
١ مارس ٢٠١٧
مآلات التجاذبات الإيرانية التركية

«لا نرغب في استمرار هذا الخطاب بين البلدين، سوف نصبر على تركيا، إلا أن للصبر حدوداً أيضاً». بهذا التصريح الذي أدلى به المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيراني يمكن أن نستشف مدى التجاذب والتصريحات النارية المتبادلة بين كل من تركيا وإيران.

نسير مع القارئ في السطور القادمة لمحاولة الكشف عن مآلات تلك التجاذبات وإسقاطاتها على علاقات البلدين مستقبلاً.

بدايةً لاشك أن هناك قوالب حاكمة لطبيعة العلاقة بين أي بلدين، تؤثر بدورها على طبيعة تلك العلاقة وهامش حركتها. وإسقاط ما تقدم على الحالة التركية الإيرانية يفضي إلى الوصول للقوالب الحاكمة التالية:

1- قوتان إقليميتان في منطقة الشرق الأوسط تمتد مصالحهما وتأثيرهما إلى خارج حدودهما الجغرافية.

2- تشابك مناطق النفوذ والمصالح، ما يؤدي إما إلى تقارب، أو نشوب خلاف (سوريا -شمال العراق).

3- علاقات ومصالح اقتصادية ترى للمستوى الاستراتيجي، وتمتد لفضاء مستقبلي رحب.

4- خلفية تاريخية ما تلبث أن تستدعي نفسها بين فينة وأخرى، لترخي بظلالها على طبيعة العلاقة بين البلدين.

القوالب الحاكمة سابقة الذكر ظلت على الدوام تؤطر لطبيعة تلك العلاقة وتجاذباتها. وبعيداً عن السير طويلاً في تاريخ العلاقة بين البلدين، يمكن الإشارة هنا إلى الفترة الأخيرة، وتحديداً السنوات العشر المنصرمة، فقد لعب الجانب الاقتصادي دوراً كبيراً في تحسين العلاقة بين البلدين يعززه هدوء ملموس في فترة من الفترات في مناطق المصالح المتشابكة مثل سوريا وشمال العراق.

وفي مقابل العقوبات الاقتصادية التي تعرض لها النظام الإيراني، بسبب البرنامج النووي، جاءت تركيا بوصفها متنفساً مهماً للنظام الإيراني لتخفيف وطأة تلك العقوبات، فزاد عدد الشركات الإيرانية العاملة في تركيا، وأصبحت البنوك التركية مساراً مهماً للتحويلات المالية الإيرانية.

انعكس ذلك على التحركات التركية سياسياً لصالح النظام الإيراني ولتحقيق تقارب بين إيران والولايات المتحدة، حيث توصلت فيما يطلق عليه بالاتفاق الثلاثي (تركيا، إيران، البرازيل) في 2010، رغبة في تعزيز المسار الاقتصادي الذي ما انفك البلدان يتطلعان لوصول التبادل التجاري فيه إلى 30 مليار دولار، والتطلع إلى أن تكون تركيا المسار الرئيس للغاز الإيراني إلى أوروبا.

ذات القالب الاقتصادي الحاكم بين البلدين ساهم ولا يزال في إدارته لتخفيف وطأة قالب التنافس الإقليمي. فبالرغم من التباين الجلي فيما يتعلق بالأزمة السورية، ظل النظام الإيراني وحاجته للمتنفس الاقتصادي التركي تدفع للتخفيف من وطأة ذلك التباين.

يتساءل القارئ، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي طرأ في الفترة الحالية لتتصاعد نبرة التصريحات بين البلدين، وهل القالب الاقتصادي سيعود من جديد لاحتواء سباق التنافس الإقليمي؟

أستذكر مع القارئ موقفاً مشابهاً لما يحدث الآن بين كل من تركيا وإيران، كان ذلك مع بداية عمليات عاصفة الحزم للتحالف العربي في اليمن، حيث أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتصريح قال فيه: «على إيران والمنظمات الإرهابية الأخرى التي تدعم الحوثيين أن تنسحب». قابله تصريح من قبل وزير الخارجية الإيراني ومطالبات من أعضاء البرلمان الإيراني بإلغاء الزيارة المرتقبة في ذلك الوقت للرئيس التركي إلى طهران. فجاءت النتيجة أن تحققت تلك الزيارة وتبعتها زيارات أخرى اهتمت كثيراً بالشأن الاقتصادي وتجاوز للخلاف السياسي.

التصريحات النارية الأخيرة بين البلدين وتصاعدها لا يمكن فصلها عن السياق الزمني والظروف المصاحبة له. فبعد الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، لُوحظ سياق مختلف في السياسة التركية التي عادت بعلاقاتها مع روسيا إلى المسار الصحيح وانفراجه مع الجانب الإسرائيلي وتخفيف لحدة الموقف بشأن مصير بشار الأسد وتنسيق أكبر مع روسيا وإيران بشأن سوريا. شجع على ذلك موقف الإدارة الأميركية السابقة، ورسائل الرئيس الأميركي الحالي حول رؤيته للشأن السوري، باعتبار أن هناك حرباً على الإرهابيين دون تمييز بينهم وبين المعارضة السورية.

ما الذي تغير إذن؟

لعل الموقف الأميركي الحالي من النظام الإيراني، وقراءته للأزمة السورية الجديدة، قد عاد بالقالب التنافسي الحاكم بين البلدين من جديد إلى السطح. فتصريح نائب الرئيس الأميركي بأن أميركا لن تتعاون مع روسيا طالما أن هذه الأخيرة تصنف جميع المعارضة السورية على أنهم إرهابيون، والحديث عن المناطق الآمنة في سوريا، مضاف إليه الزيارة الأخيرة للرئيس التركي لعدد من دول الخليج، كل ذلك دفع بالنظام الإيراني إلى تصعيد حدة التصريحات، مقارنة بالتصريحات السابقة لأردوغان.

وبغض النظر عن مآلات مع ما ستفرزه التصريحات المتبادلة بين كل من إيران وتركيا، فإن ما جاء به وزير الخارجية التركي في توصيفه للسلوك الإيراني في المنطقة، وما قاله أردوغان عند زيارته للبحرين بأن إيران تسعى إلى تقسيم العراق وسوريا وتتصرف من منطلقات قومية، هي حقائق واقعية تدفع باتجاه مزيد من التوتر في المنطقة، وبالرغم من القالب الاقتصادي الحاكم في كثير من المسائل فإنه لابد أن تكون لدول المنطقة قراءة واضحة حيال سياسة النظام الإيراني وسلوكه في المنطقة.

فمن دون أمن واستقرار لا يمكن أن تكون للاقتصاد والتنمية بيئة جاذبة.

اقرأ المزيد
١ مارس ٢٠١٧
العراق وسوريا... مرحلة ما بعد «داعش»

مع الإدارة الأميركية الجديدة بدأت فكرة جديدة تتبلور في الحرب على «داعش»، لا تقتصر على نشر المروحيات والمدفعية في الرقة والموصل وتعزيز وجود القوات الخاصة، بل تشكل جبهة أميركية خليجية تساهم في الحرب على «داعش»، شريطة أن المناطق التي تتحرر من «داعش» يجب ألا تحتلها إيران أو ميليشيات تابعة لها، هذا هو العنوان الرئيسي الذي خرجت به وثيقة موسكو وزيارة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس للخليج والعراق.

أي أن هناك اتفاقاً أميركياً روسياً تركياً خليجياً على إنهاء التمدد الإيراني في العواصم العربية، ويجب أن نكون واضحين جداً في هذه الرسالة إن أراد العالم تعاوننا للقضاء على تنظيم داعش.

مقابل أي مساهمة خليجية أو عربية في الحرب على «داعش»، سواء في العراق أو في سوريا، يجب أن تكون إيران خارج تلك المناطق، وأن تكون هذه الرسالة واضحة أكثر للحكومة العراقية، التي قال ماتيس إن أميركا ستبقى داعمة للعراق حتى بعد تحريره من «داعش»، فإذا ربطت هذا الموقف مع موقف ماتيس من إيران كالدولة الأولى الراعية للإرهاب، فأنت أمام جبهة موحدة مصرة على خروج، لا القوات الإيرانية فحسب من العراق وسوريا، بل «النفوذ» الإيراني كذلك منها، هذه رسالة ليست من دول الخليج، بل من الولايات المتحدة كذلك.

تشكيل جبهة أميركية خليجية، هو عنوان المرحلة المقبلة، تحمل شعار عروبة الأراضي المحررة من «داعش»، أصبح وشيكاً حتى يتبين للعالم حقيقة الجهة الداعمة للإرهاب ولبقاء «داعش» ومن يريد فعلاً التخلص منها، أو من يريدها ذريعة لتمدده.

خروج القوات الأجنبية والميليشيات المدعومة إيرانياً من سوريا ومن العراق هدف أساسي للمساعدة، ومرحلة ما بعد «داعش» أصبحت تناقش قبل التخلص من «داعش».

هذا ما ذكره عادل الجبير وزير الخارجية السعودي حين أعلن عن استعداد بلاده لإرسال قوات إلى سوريا لمكافحة تنظيم داعش بالتعاون مع أميركا؛ إذ نقلت صحيفة «زود دويتشه تسايتونغ» الألمانية عن الجبير قوله إن «السعودية ودولاً أخرى بالخليج أعلنوا عن الاستعداد للمشاركة بقوات خاصة بجانب الولايات المتحدة، وهناك بعض الدول من التحالف الإسلامي ضد الإرهاب والتطرف مستعدة أيضًا لإرسال قوات».

وأضاف: «سننسق مع الولايات المتحدة من أجل معرفة ما الخطة وما الضروري لتنفيذها».

يذكر أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أمر وزير الدفاع جيمس ماتيس، بعرض خطة جديدة في غضون 30 يوماً، لمكافحة تنظيم داعش.

وقال الجبير للصحيفة الألمانية إنه «يتوقع عرض هذه الخطط قريباً، موضحاً بشكل غير مباشر أنه يمكن تسليم مناطق محررة في سوريا إلى المعارضة».

وأكد أن «الفكرة الأساسية هي تحرير مناطق من تنظيم داعش، ولكن أيضاً ضمان ألا تقع هذه المناطق في قبضة (حزب الله) أو إيران أو النظام».

وفي الرابع من يناير (كانون الثاني) قال مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي: «على النظام (السوري) أن يعود إلى طاولة الحوار لإجراء مفاوضات مباشرة مع المعارضة، وذلك لتحقيق الانتقال السياسي السلمي في سوريا». وأضاف: «أيها المجتمعون يجب أن نرسل رسالة قوية نطالب فيها بأن تغادر جميع الميليشيات الأجنبية الأراضي السورية فوراً»، وكان وزير الخارجية التركي، قد شدّد على ضرورة انسحاب جميع الميليشيات من سوريا، في تصريح له نهاية العام الماضي، عقب الإعلان عما عرف بوثيقة موسكو الروسية والإيرانية والتركية، التي نتجت عنها دعوة مؤتمر «آستانة» في كازاخستان، أي أن الموقف الروسي غير معارض أبداً خروج إيران من سوريا والعراق، بل العكس، فإن ذلك يصب في مصلحته إذا أخذنا في الاعتبار أن الوجود الإيراني سيبقي على الجبهة السورية مشتعلة حتى وإن أجبرت المقاومة على تسليم سلاحها.

أما في العراق فإن الحديث عن مرحلة «ما بعد (داعش)» قد بدأ فعلاً، وحول الوضع الإيراني بالتحديد كما هو الحال في سوريا؛ لهذا سارع رئيس الوزراء العراقي السابق المالكي، لزيارة إيران في بداية شهر يناير حين استشعر بالغيوم تتجمع فوق السماء الإيرانية، سارع بالالتقاء بعلي أكبر ولايتي المستشار الدولي لخامنئي ليطمئن على مستقبله، وقال إنه جاء إلى إيران للقاء خامنئي ولبحث ما سمّاه «الأخطار المحتملة بعد (داعش)»، حسب ما نقلت وكالة «مهر» الإيرانية، في تعبير سياسي جديد على السياسة الدولية والإقليمية، وبخاصة أن الحرب على «داعش» لم تنته بعد، في العراق أو في سوريا. ولم يعرف مغزى قوله بأنه ذهب إلى إيران للبحث في الأخطار المحتملة بعد «داعش»، مع المسؤولين الإيرانيين الذين لا ينتشر التنظيم المتطرف بين ظهرانيهم، وليست لديه أي عمليات عسكرية معلنة على أرضهم، («العربية» 4 يناير).

فإن أراد العراق أن تدعم دول الخليج أمنه واستقراره بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، فإن عليه أن يتصرف حيال الانفلات الأمني الذي تتسبب فيه الميليشيات الإيرانية داخله.

اقرأ المزيد
١ مارس ٢٠١٧
التنازلات لم تنقذ «جنيف»

حاولت الحكومة الأميركية حل أزمة سوريا، واخترعت مفاوضات ثلاث مرات في جنيف تقوم على طرح سياسي متوازن، لكن محور «نظام دمشق - إيران - روسيا» أفسد المؤتمرات الثلاثة. الآن الروس مع حليفيهم ابتدعوا مؤتمرين؛ واحداً في آستانة، والثاني، ينعقد الآن، في جنيف، والبدايات تؤكد النهايات؛ فشل مكرر.

ومع أن الجميع، تقريباً، تعاون مع المشروع الروسي، بمن في ذلك تركيا ودول الخليج، وحكومة ترمب الجديدة في واشنطن، إلا أن ذلك لم يكن كافياً. إرضاءً للروس وتعاوناً مع الأمم المتحدة، تم إيقاف تمويل المعارضة بالسلاح، ومورست الضغوط على الفصائل المعتدلة منها لتقبل بحلول أقل من توقعاتها، ومنع بعض الفصائل من المشاركة، وأيدته واشنطن، وصار المبعوث الأممي دي ميستورا محامياً عن الموقف الروسي. لم ينته «جنيف 4» بعد، لكن الفشل أبرز ملامحه حتى الآن.

هذا الوضع يبين، أولاً، أنه لا يوجد على الأرض فريق منتصر، أو قوي، حتى يمكن فرضه على الجميع بدعم دولي، وهو ما حاولت إيران وروسيا فعله بفرض النظام السوري المتهالك. وثانياً، الفشل؛ لأن الحل المقترح لا يلبي الحد الأدنى من توقعات ملايين السوريين المشردين والخائفين. المشروع ركيزته الإبقاء على النظام حاكماً، يعني ذلك فرض معادلته على الأرض من تهجير وإلغاء للغالبية الباقية من السكان في داخل سوريا. الفكرة في حد ذاتها غير قابلة للصمود حتى لو وقّعت كل الفصائل عليها. إنها معادلة تريد تمكين النظام من حكم معظم سوريا بالقوة، مثل الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، باستثناء أن إسرائيل تملك نظاماً وقوة ضخمة مكنتها من المحافظة على هذا الوضع الشاذ. ومع أن الروس حاولوا إقناع عدد من فصائل المعارضة بالالتحاق بالنظام، ومكافأتهم بمقاعد في الحكومة، إلا أن الأمر يبدو لهم، وللجميع، مثل تشريع عملية اغتصاب، ولن يلتحق بالحل أحد ذو قيمة.

وما سبق طرحه من حل سياسي، وكان مرفوضاً من الطرفين آنذاك؛ النظام والمعارضة، لا يزال هو الحل العملي والبديل المعقول... نظام مشترك وليس مجرد تبعية له. ويمكن تطويره الآن، فتبقي على الرئيس، لكن تذهب سلطات الأمن والمال للمعارضة، أو يذهب الرئيس وتبقى الكراسي السيادية في يد النظام، ضمن إطار مشاركة تحميه القوى الإقليمية والدولية. المقاسمة تبنى على معادلة توازن معقولة لكلا الطرفين مصلحة في المحافظة عليها؛ إما الرئاسة، وإما صلاحيات الرئاسة، وليس كلتيهما. لدينا نموذج صامد هو «اتفاق الطائف» الذي أنهى النزاع اللبناني، وهو أكثر تعقيداً من السوري، والذي قام على خلق حلٍ تنازل فيه كل طرف. فدعوات الحرب طالبت بإلغاء حق المسيحيين في الرئاسة وسلطاتها، وتوزيعها بشكل متساو، لكنها انتهت بإعادة توزيع الصلاحيات، بقي الرئيس وراح جزء من صلاحياته للفرقاء الآخرين. من دون «الطائف» ربما استمرت الحرب، وخسر المسيحيون حصصهم هذه. ولو رفض السنة والشيعة أيضاً لجلبت الحرب مزيداً من تدخلات خارجية تديم الحرب، وكانت الساحة اللبنانية قد بدأت تشهد مزيداً من الانقسامات داخل كل طائفة. الوضع السياسي في لبنان اليوم ليس كاملاً أو رائعاً، لكن البلاد على الأقل استقرت. نزاع سوريا أقل تعقيداً، والمعارضة المدنية تقبل بالتشارك وبدستور يحمي كل الأقليات، ولديها في منظومتها تجربة جيدة، سمحت بمشاركة وترؤس السوريين من دون فوارق دينية أو عرقية. أما المعارضة الإسلامية المسلحة، فإن معظمها مرفوض من الجميع، لأنها تحمل مشروعاً دينياً وأممياً ليس في صلب مطالب الشعب السوري.

فشل مؤتمرات آستانة وجنيف سيعيد الوضع إلى الاقتتال، حتى بعد حرمان المعارضة المعتدلة من السلاح، التي اضطر بعضها للتحالف مع التنظيمات الإرهابية حماية لها بعد نفاد ذخيرتها. الفشل المكرر قد يعيد الأطراف المتصلبة للتفكير بطريقة عقلانية وواقعية، مثل إيران التي عليها أن تدرك أنه لن يسمح لها بالاستيلاء على العراق وسوريا ولبنان. لقد حدث توغلها مستفيدة من ضعف إدارة الرئيس الأميركي السابق. وهيمنتها على هذا الهلال الكبير تهدد بقية دول المنطقة وكذلك العالم، إما نتيجة لاستخدام إيران وكلاءها سلاحاً ضد خصومها في كل مكان، بمن في ذلك الأوروبيون والأميركيون، أو لأن الوضع سيستمر مضطرباً فيجذب المتطرفين إليه، وهو ما يهدد الجميع.

اقرأ المزيد
٢٨ فبراير ٢٠١٧
من جنيف 1 إلى 4 مراجعة لمسلسل المفاوضات السورية

بات للصراع السوري، إضافة إلى مساره الحربي والكارثي والمأسوي، مساره التفاوضي الطويل والمضني والمعقد أيضاً، الذي امتد بين 2012 و2017، أي خمسة أعوام، من دون أي نتيجة ترتجى، من جنيف 1 إلى 4، بما في ذلك مسار آستانة، الذي تم تدشينه الشهر الماضي.

بيد أن المشكلة في ذلك المسار التفاوضي أنه لم يأت نتيجة قناعة الطرفين المتصارعين مباشرة (أي النظام والمعارضة)، بالحوار للتوصل إلى حلول سياسية أو تفاوضية، إذ إن ذلك ليس في قاموسهما، وليس على أجندتهما، وخاصة أن النظام رفض منذ البداية، أي منذ الثورة السلمية، أيَّ حل سياسي، مفضلاً استخدام القوة العاتية في مواجهة أغلبية السوريين، حتى أنه ذهب في مرحلة الصراع المسلح إلى حد استدعاء تدخّل عسكري من دولتين (إيران وروسيا)، مع ميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية، للقتال إلى جانبه، في حين أن المعارضة توخّت منذ البداية إسقاط النظام، بغض النظر عن إمكانات ذلك من الناحية العملية. هذا أولاً. ثانياً، تم رسم المسارات التفاوضية للصراع السوري، في محطاته المتوالية، من الخارج، كتعبير عن إرادة الأطراف الدوليين والإقليميين المنخرطين فيه، بشكل أو بآخر، في محاولة منها لتقطيع الوقت، أو لإضفاء مبررات سياسية على مواقفها المترددة، أو اللاأخلاقية، إزاء مأساة الشعب السوري. وفي غضون كل ذلك، ظل المسار التفاوضي محكوماً بالإرادات الخارجية، أكثر مما هو محكوم بإرادات الطرفين المتصارعين، أو بأولوياتهما، أو بموازين القوى المتحركة أو المتغيرة بينهما. ثالثاً، الأهم أن الأطراف الدولية والإقليمية، والتي تساند كل واحد من الطرفين المتصارعين (النظام والمعارضة)، لم تشتغل على حسم الصراع، أو وقفه، للتفرغ للمفاوضة، وإنما على تسعير الصراع المسلح والإبقاء عليه، لفرض إملاءاتها على الأطراف الأخرى، من دون مبالاة بمعاناة السوريين، ولا بالأثمان الباهظة المدفوعة في هذا الصراع بأشكال مختلفة.

اللافت أن المعارضة السورية، بكل أطيافها السياسية والعسكرية، لم تشتغل على أساس أنها تدرك المعطيات المذكورة أو التداعيات الناجمة عنها على الشعب والقضية والثورة، بل إنها اشتغلت وكأن هذه مجرد تفاصيل هامشية، إذ بدت في مجمل المحطات التفاوضية فاقدة الإرادة، أو ضعيفة القدرة، فضلاً عن افتقادها الرؤية الواضحة بخصوص القضايا التفاوضية، إذا استثنينا شعارها المتعلق بـ «إسقاط النظام»، أو مطالبتها المستمرة بالاستناد إلى مرجعية بيان جنيف1، وفق تفسيرها، والرؤية التي قدمتها «الهيئة العليا للمفاوضات»، إلى الأطراف الدوليين بخصوص مستقبل سورية.

وعدا ما ذكرناه، فإن المعارضة لم تتوحد حتى على صعيد وفودها، إذ تغيرت طواقمها التفاوضية بين جنيف2 و3 و4، ما أضعف صدقيتها، وبدّد خبراتها. هكذا كان يترأس وفد المعارضة إلى جنيف 2 السيد أحمد الجربا، رئيس «الائتلاف» في حينه، يعاونه هادي البحرة كبيراً للمفاوضين. وفي جنيف3 بات العميد أسعد الزعبي رئيساً للوفد، المتشكل من «الهيئة العليا للمفاوضات» التي تأسست لهذا الغرض، وبات فيها محمد علوش (المحسوب على «جيش الإسلام») كبيراً للمفاوضين، أما في جنيف4 فقد غدا نصر الحريري رئيساً للوفد ومحمد صبرا رئيساً للمفاوضين. وربما يجدر التذكير هنا أن وفد النظام بقي على حاله في مختلف المحطات برئاسة بشار الجعفري (وحتى في مسار آستانة).

بديهي أن هذا الكلام لا ينطوي على تحميل المعارضة أي مسؤولية عن إخفاق الخيار التفاوضي، أولاً بالنظر إلى ضعفها، وافتقادها السيطرة على أوضاعها. وثانياً، لأن النظام هو المسؤول عن إخفاق هذا الخيار، مع حلفائه (إيران وروسيا). وثالثاً، لأن الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى، التي تبدو متعاطفة مع مطالب الشعب السوري بالتغيير السياسي، إما لم تحسم أمرها (كالولايات المتحدة)، أو أنها غير قادرة وحدها على فرض أجندتها (كتركيا وأوروبا والدول العربية)، لكن هذا الكلام يفيد فقط بنقد إدراكاتها وطرق عملها وخطاباتها، وعدم مراجعتها أحوالها.

والمعنى من ذلك أن المعارضة السورية ليس فقط لم تتواضع بطرح أهدافها، أو مرحلة أهدافها، من دون أن يعني ذلك تخليها عن مطلبها بإسقاط النظام وتحقيق التغيير السياسي، وإنما أيضاً لم تعمل على الموازنة بين ما ترغبه وبين إمكانياتها، فضلاً عن أنها لم تقدم البديل المقنع، في السياسة والبنية والإدارة، إن لشعبها أو للعالم، لا في المناطق «المحررة» ولا في غيرها من ميادين، بل إنها قدمت ما يثير المخاوف منها، ومن المستقبل الذي تعد به السوريين والعالم، والأنكى أنها كانت دائماً تقبل متأخرة ما كانت ترفضه من قبل.

هكذا لم تتقاطع المعارضة السورية، ممثلة بـ «المجلس الوطني» (والفصائل العسكرية) مع بيان جنيف1 (في حزيران/ يونيو 2012)، الصادر عن مجموعة العمل الدولية من أجل سورية، واعتبرت نفسها في حل من عملية التفاوض، من دون أن يعرف أحد كيف يمكنها تحقيق ما تريده، وبواسطة أي قوى أو إمكانات، سوى التعويل على التدخل الخارجي والعمل المسلح.

في مرحلة لاحقة، أي في جنيف2 (2014)، أضحت المعارضة السورية، الممثلة بكيانها الرئيس («الائتلاف الوطني»)، أكثر براغماتية في تعاطيها مع الجهود الدولية، وفي تجاوبها مع دعوات التفاوض التي أطلقها المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي آنذاك، وانخرطت في تلك المفاوضات على قاعدة بيان جنيف1، على رغم تفسيراته المتباينة، سيما أن هذا البيان جرى تدعيمه بقرار من مجلس الأمن الدولي (2118). وطبعاً، فإن هذه المفاوضات لم تجدِ نفعاً، لأن النظام ظل يركز وقتها على رفض تفسير المعارضة لبيان جنيف1، وأولوية محاربة الإرهاب. وأيضاً فقد تمحور النقاش حول حضور إيران من عدم ذلك، والتباين في موقف روسيا والولايات المتحدة من تفسير بيان جنيف، ومن مصير الأسد، ومسألة الهيئة الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة. وطبعاً لم يتم التوافق لا على وقف إطلاق النار ولا الإفراج عن المعتقلين، ولا السماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المناطق المحتاجة والخاضعة للحصار.

أما مفاوضات جنيف3 (2016)، فقد عقدت بإشراف المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، الذي عين بعد استقالة الأخضر الإبراهيمي، الذي خلف كوفي عنان في هذا المنصب، وفي ظل صعود المعارضة المسلحة، وتضعضع النظام، وهو الوضع الذي استدرج تدخلاً عسكرياً روسياً، بواسطة الطيران الحربي (أيلول/ سبتمبر 2015). والحال أنه عقدت هذه المفاوضات تحت سقف سياسي مختلف عن السابق، ووفقاً للقرار 2254، الذي تم التوافق عليه بين أطراف دولية وإقليمية (أهمها الولايات المتحدة وروسيا وتركيا والسعودية) في فيينا (أواخر 2015)، والتي توصلت إلى خطة طريق لحل سياسي في سورية (خلال 18 شهراً) بقيام حكومة مشتركة، أو هيئة حكم ذات مصداقية، من النظام والمعارضة، تشمل الجميع وغير طائفية، واعتماد مسار لصياغة دستور جديد لسورية، مع تجاهل مصير الرئيس الأسد.

لم تنجح هذه الجولة التفاوضية أيضاً، إذ أصرت المعارضة على تنفيذ الشق الإنساني من القرار 2254، لجهة فك الحصار عن المناطق المحاصرة، وإطلاق سراح المعتقلين، وتسهيل دخول مساعدات إنسانية للمحاصرين، لكن النظام لم ينفذ ذلك متسلحا بالتدخل الروسي، الذي غير المعادلات على الأرض لمصلحته.

الآن تنعقد الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، مع حلول إدارة أميركية جديدة في البيت الأبيض، وبروز نوع من التباين الروسي- الإيراني، والخصومة الأميركية- الإيرانية، ومع الدخول التركي المباشر على خط الصراع السوري، عبر عملية «درع الفرات».

لكن المؤسف أن المعارضة السورية ما زالت على حالها من الضعف والترهل والارتهان، ولم تقم بما عليها، إن لتعزيز وحدة صفها، أو لجهة طرح رؤى سياسية واضحة، أو لجهة اعتماد استراتيجية تفاوضية جديدة تُحدث فرقاً، مثل طرح فكرة دولة مواطنين، مدنية (لا طائفية ولا دينية ولا عسكرية)، في نظام ديموقراطي برلماني، وفي إطار فيدرالية على أساس جغرافي (لا إثني ولا مذهبي) تكفل عدم وجود مناطق محرومة، أو وجود مركز وأطراف، لأن النظام البرلماني والفيدرالي، في دولة ديموقراطية تكفل الفصل بين السلطات، هو الذي يضع حداً للمخاوف بشأن قيام نظام استبدادي جديد مهما كان لونه أو نوعه.

اقرأ المزيد
٢٨ فبراير ٢٠١٧
ما بعد «داعش» والغضب الإيراني

لا يحب الرئيس الإيراني حسن روحاني «البكاء الحلال»، ويكره الضحك «المحرّم»، لا لشيء إلا لأن صقور المتشددين في بلاده - برعاية «الحرس الثوري» ومرشد الجمهورية علي خامنئي - يكرهون إهدار الوقت... بنفحات سعادة. ولأن طهران منهمكة بمنازلات إقليمية، من العراق وسورية إلى اليمن، مرتبكة مع «ألغاز» إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب و «صدماته» المباغتة، يسخر المتشدّدون من ترويج روحاني للسعادة!

يتقدّم الرئيس الإيراني لأن الانتخابات باتت على الأبواب، يتوارى قاسم سليماني عن المواجهات الطاحنة مع «داعش» في العراق، لتفادي استفزاز الأميركيين. يُقلق طهران اقتراب الحسم مع التنظيم الإرهابي الذي قدّم لها هدية كبرى لترسيخ نفوذها في العراق وسورية، وتشريع دورها في «الحرب على الإرهاب». ويزعجها أكثر أن الحسابات الإقليمية تتبدّل سريعاً، وقد تحوِّل قلقها إلى صدمات «آخر العلاج...».

في سورية، تعدّدت مفترقات طرق بين إيران وروسيا التي ما زالت مصرّة على ضمان تسوية سياسية، ولو بولادة قيصرية، تريحها من عبء نشر قوات في مناطق لا يمكن النظام السوري الإمساك بها منفرداً. وليس رسالة ودّية إلى خامنئي، ميل القيصر فلاديمير بوتين - بعد رفضٍ مديد - إلى «مناطق آمنة»، لن يقبل أن تكون بحماية النظام السوري.

في العراق، لم يكن نبأً سعيداً للمتشدّدين في إيران إعلان الأميركيين وجنرالاتهم حتمية بقائهم في بلاد الرافدين، بعد سحق «داعش». فالقراءة المرجّحة لما تفعله إدارة ترامب، هي تمزيق «الصفقة الصامتة» بين طهران وواشنطن، والتي أتاحت للولايات المتحدة في عهد باراك أوباما سحب جيشها، وللجمهورية الإسلامية السيطرة على قرار بغداد، بذريعة منع تشظّي العراق، ولو كان الثمن إضعافه وإنهاكه.

وليس خبراً مريحاً للمرشد، أن تبادر السعودية إلى شراكة مع العراق في الحرب على الإرهاب، عبر إيفاد وزير الخارجية عادل الجبير إلى بغداد، وإعلان حرصها على علاقات «متميّزة» مع الجار العربي الذي نامت طهران طويلاً على «حرير» عزلته وضعفه، ليسهل لها التحكّم بمفاصل قراره السياسي والعسكري.

لعل ذلك يفسّر غضب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي لم يكتم استياءً مريراً من تجاوب بغداد مع مد السعودية يدها إلى الجار العربي الذي اكتوى سنوات طويلة بعزلته عن محيطه، وبضربات الإرهاب المتوحّش. وإذ اختار ظريف حملة مزدوجة على المملكة وتركيا، القوّتين الإقليميتين اللتين حذّرتا من الدور الإيراني في العراق وسورية، وتكريسه مذهبية لا تغذّي سوى التطرُّف والتطرُّف المضاد، فالوزير إنما وضع إشارات واضحة إلى خيبة وإحباط لدى طهران. والأكيد أن الإحباط تقدّم مع مبادرة ترامب إلى تحذير الإيرانيين من عواقب اختبار إدارته، وعزمها على التشدُّد مع عصا المتشدّدين الذين اعتادوا التلويح باليد الطويلة لـ «الحرس الثوري»، من الخليج والبحر الأحمر إلى البحر المتوسط.

تكتمل الأخبار السيئة للمرشد في اليمن، فالانقلابيون الحوثيون عاجزون عن الانكفاء إلى «كيان» يتحدّى صيغة الشرعية الجامعة، الحامية للمشروع الاتحادي. وهم عاجزون بداهة عن حسم الحرب لمصلحتهم، مهما ارتكبوا في حق المدن المحاصرة، في مسعى لإحراج التحالف.

وإذا كان العراق المثخن بجروح الإرهاب و «داعش» ونظام المحاصصة، والشرخ العميق في وحدته، ساحة مثلى للطموحات الإيرانية منذ إطاحة صدّام حسين، فالصورة القاتمة التي يرسمها سياسي عراقي عاصر حقبة صدّام والغزو الأميركي والاحتلال، لا تترك حيزاً ضئيلاً للتفاؤل بإمكان تفكيك هيمنة طهران على قرار بغداد، من دون أثمان باهظة.

وإذ يقر السياسي المخضرم بأن «عودة العرب إلى العراق تتيح نوعاً من التوازن»، يذكّر بأن مصير هذا البلد محور صراع، و «ما بعد داعش» لن يكون مخاضاً بسيطاً. فهناك «التوترات على خطوط التماس شمالاً بين الأكراد والحشد الشعبي، والمواجهة بين الطرفين محتملة، فيما التوتُّر الإيراني- الأميركي قد يقود إلى صِدام في مياه الخليج».

صورة أخرى ليست أقل سوداوية تطغى حين تسأل عن مصير نظام المحاصصة في العراق، والذي كرّس الطائفية وشجّع تفشّي الفساد، وأتاح تبخّر ثروات هائلة من أموال العراقيين. «نوري المالكي يريد العودة حاكماً منفرداً باسم الأكثرية الشيعية، ولو ادعى حرصه على الديموقراطية». يضيف السياسي الذي لمع نجمه بعد الغزو الأميركي، وخبِر حسابات «الطموحات الإيرانية»، أن عين المالكي اليوم هي «على نظام رئاسي، يؤسس لديكتاتورية حزب واحد تحت واجهة إسلامية». وبين القوى العراقية، من يفكّر بدولة كونفيديرالية في مرحلة ما بعد «داعش»، محذّراً من «الثارات الكبرى»، ما بعد معركة الموصل.

ومن طهران إلى بغداد ودمشق وصنعاء، ومن واشنطن إلى موسكو، حسم المعركة يفتح الباب على تسويات «مريرة»... فمن يضحك أولاً؟

اقرأ المزيد
٢٨ فبراير ٢٠١٧
ترامب وإيران... فات القطار

ترفع حكومات عربية عديدة سقف توقعاتها من التصريحات والتوجهات المعادية لإيران في أوساط الإدارة الأميركية الجديدة، بما يمكن أن يعيد صوغ موازين القوى الإقليمية، ويحجّم النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة.

مشكلة هذه التوقعات أنّها تتجاوز الوقائع على الأرض، وعامل الوقت الذي أصبح في خدمة السياسة الإيرانية، وتتجاهل تراجع الدور الأميركي الفعلي في المنطقة، في العراق وسورية بصورة خاصة، فضلاً عن صعود الدور الروسي الذي اقترن، منذ التدخل العسكري في سورية، بالتحالف مع إيران.

المعضلة التي لا تواجه العرب فقط، بل حتى أي نيات جدية للإدارة الأميركية للاشتباك مع إيران، تتمثل في أنّ أميركا نفسها تتحالف بصورةٍ غير مباشرة، لكنها واقعية مع الإيرانيين على الأرض، وتحديداً في العراق، ما يبدو جلياً في الحرب الحالية في الموصل، فعملياً يقصف الأميركيون من الجو، وإيران بنفوذها في العراق تجني المكاسب على الأرض، ما يجعل أي دور أميركي مناقض في العراق عسكرياً عبثياً، وسياسياً هو دور عاجز تماماً.

فات القطار، أيضاً في سورية، فالإدارة الأميركية تقدم مقاربةً غير واقعية في حربها على إيران من جهة، ونسجها التحالفات مع الروس، من جهة أخرى، في مواجهة تنظيم داعش، فالحرس الثوري الإيراني وحزب الله والمليشيات المرتبطة بها هي، أيضاً، من يجني المكاسب على الأرض، في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، ولن يتخلى الروس من دون مقابل عن إيران، وغير مستعدّين لفك تحالفهم مع إيران، طالما أنّ الأخيرة هي الموجودة على الأرض.

عملياً ومنطقياً، كلام الإدارة الأميركية المعادي لإيران غير متسق ومتناقض، وأحسب أنّ الإيرانيين لا يأخذونه على محمل الجدّ. بالنتيجة الانعكاس المباشر والأكبر له هو على التحضير للانتخابات الرئاسية الإيرانية (المرتقبة في العام المقبل) في إضعاف التيار الإصلاحي، وتعزيز وتقوية فرص مرشحي التيار المحافظ.

يمكن أن يتمحور التدخل الأميركي في التسابق مع الروس والإيرانيين في معركة الرقة، ضد تنظيم داعش، مع وجود تعقيدات التعامل مع الأتراك والأكراد في تلك المنطقة، والمنظمات الإسلامية الأخرى، بصورة خاصة ذات الطابع الإسلامي، أو في الجنوب عبر تعزيز الدعم للقوى القريبة من غرفة الموك، لكنّها تغييراتٌ ليست جوهرية، ولا نوعية على المدى القريب على الأقل، وتواجه تعقيدات متعددة.

الدولة الوحيدة التي يمكن أن يكون تأثير الأميركيين فيها هي اليمن، والصراع العسكري الحالي مع الحوثيين، وهي قد تمثل أولوية لدول الخليج، لكنها ليست بالمستوى نفسه لدى الإيرانيين، هذا من زاوية. ومن زاوية ثانية، الدعم الأميركي - إن كان - للتحالف العربي هو موضع تساؤل، في مدى قدرة الإدارة الأميركية بالفعل على إحداث تحولٍ نوعي في موازين القوى هناك، سواء في السؤال عن المصلحة الأميركية في التورّط أكثر في صراع معقد داخلي، وثانياً في طبيعة التدخل وحجمه ومستواه، ما يطرح شكوكاً جديةً حول أي نياتٍ حقيقية للتدخل في هذا الصراع.

بالنتيجة؛ لم يبن الإيرانيون نفوذهم في المنطقة من لا شيء، إذ زجّوا الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، وبنوا شبكة مليشيات فاعلة، ويخلطون بين الجانبين، الطائفي والسياسي، ولديهم قاعدة متينة من التحالفات الدولية والإقليمية، ودفعوا كلفة كبيرة، حتى خسروا جنرالات من الحرس الثوري الإيراني، وآلافاً من أنصارهم في تلك الحروب، وتعاملوا مع الملفات العراقية والسورية كأنها ملفات داخلية مشتبكة مع المصالح الحيوية الإيرانية، وما يحصدونه اليوم لن يتنازلوا عنه بسهولة، ووقائع على الأرض، وليست مجرد تصريحات صادرة عن البيت الأبيض.

من السذاجة الرهان، إذاً، على دور أميركي مفصلي، يغير هذا الواقع الجديد، إذا لم يكن هنالك تغيير جوهري في المقاربة العربية عموماً لمسائل المنطقة، أو محاولة استعادة النظام الإقليمي القديم، بديناميكياته وقواه الفاعلة، فهنالك مياه كثيرة جرت تحت الأقدام، لن تتغير بمجرد نوايا أو توجهات جديدة لدى "العم سام".

اقرأ المزيد
٢٧ فبراير ٢٠١٧
مشهد سوري متقلّب

لم يعد من الممكن متابعة المشهد السوري، والتطورات السياسية والعسكرية هناك، من زاوية التفاهمات أو التحالفات التي كانت قائمة قبل شهر، والتي وضعت تركيا وروسيا وإيران في سلة واحدة أفرزت أستانة الأول والثاني، وأوصلت إلى جنيف الرابع المعقود حالياً.
فمن الواضح أن هذه التحالفات أو التفاهمات في طريقها إلى التفكك، مع بروز دور أميركي جديد كان غائباً طوال السنوات الماضية. حتى ما يحدث في جنيف اليوم، وما حدث قبل أيام في أستانة، لا يعدو عن كونه تمريراً للوقت بانتظار اتضاح النوايا الأميركية في ما يخص الملف السوري، ومن خلفه أيضاً تعاطيها مع الملف الإيراني، وهما ملفان مرتبطان عضوياً بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، ويمكن سحبهما أيضاً على الوضعين العراقي واليمني.

قبل أيام، كانت العاصمة الكازاخستانية حاضنة لاجتماع موسع لمتابعة اتفاق أستانة السابق، القاضي بتأمين وقف إطلاق النار في الأراضي السورية. ما بين الاجتماعين فاصل زمني ليس كبيراً نسبياً، لكنه كان كافياً لإعادة خلط الأوراق، وحتى القول نسف ما كان متفقاً عليه سابقاً. مراقبة اللقاء الأخير وتطوراته توحي بهذه الأجواء، ولا سيما لجهة رفض وجود إيراني ضمن هيئة مراقبة وقف إطلاق النار، وهو رفض ضمني تركي مستجد، خصوصاً أن طهران كانت ضمن هذه الهيئة التي انبثقت بعد الاجتماع الأول، غير أن ما كان صالحاً في الفترة الماضية لا يبدو أنه ينفع اليوم، وخصوصاً مع الدخول الأميركي المفاجئ وفتحه ملفاتٍ كان الجميع قد ظن أنها أغلقت، ولا سيما في ما يخص المناطق الآمنة في سورية، وإعادة الحديث عن الاتفاق النووي مع إيران.
ل
يس سراً القول إن المناطق الآمنة في الأساس كانت حلماً تركياً، مدعوماً من كل الدول العربية التي كانت واقفةً في صف الثورة السورية، غير أنه لم يلق آذاناً صاغية من الإدارة الأميركية السابقة في عهد باراك أوباما، ما جعل تركيا تصرف النظر عنها، وتتجه إلى التحالف مع روسيا وإيران مرغمة. إلا أن الوضع يبدو متغيراً الآن، والحديث عن هذه المنطقة عاد ليطرح بقوة على الساحة الدولية، مع بدء واشنطن خطوات عملياً لتأمين تمويل إقامة هذه المنطقة والبحث عن جنسيات القوات التي ستوجد فيها. لم يعد الأمر مجرّد تكهنات أو تحليلات، بل دخل في الطور الجدّي، وهو ما دفع أنقرة، ومعها دول عربية عديدة، إلى التراجع خطوة عن موسكو وطهران، بعدما كان التقرّب إليهما الوحيد المتاح قبل شهر، في ظل إغلاق باقي الأبواب في ما يخص الملف السوري.
ي
مكن لمس هذا التراجع بوضوح من التصريحات التركية، والتي عادت لتنتقد بشدة موسكو وطهران، وهما اللتان كانتا الحليفين المفترضين لأنقرة قبل أسابيع قليلة، خصوصاً بعد التفاهم الغامض الذي عقدته الإدارة التركية مع روسيا. ومن الواضح أن أنقرة اليوم لا تبدو متمسكة بهذا التفاهم، غير أنها لم تنسحب منه نهائياً بعد، فالحذر سيد الموقف في المشهد الدولي عموماً، وفي الوضع السوري خصوصاً، بانتظار تبيان حقيقة التوجهات الأميركية. لم تعطل تركيا اجتماعات أستانة وجنيف، لكن من الجلي إن هذين الاجتماعين كانا وسيكونان فارغين من المضمون، خصوصاً في ظل عدم وجود أي دور أميركي فيهما، وهو دور لم يعد بالإمكان تجاهله في ظل الإدارة الجديدة التي تسير بخطط مخالفة تماماً كل ما يتم الحديث عنه في كازاخستان وسويسرا.

سيدخل المشهد السوري اليوم، سياسياً وعسكرياً، مرحلة من المراوحة. لا اختراقات مرتقبة، سواء في الميدان أو خلف طاولات المفاوضات، مجرد حراك فارغ من المضمون لتقطيع الوقت إلى حين ظهور الخطط الأميركية بشكلها النهائي، وعندها لكل حادث حديث.

اقرأ المزيد
٢٧ فبراير ٢٠١٧
"درع فرات" أردنية في سورية

قصف الطيران الأردني أوائل فبراير/ شباط الحالي، ولأول مرّة منذ سنة تقريباً، مواقع لتنظيم داعش في جنوب سورية، بالتزامن مع شيوع أنباء عن تفكير عمّان بعملية درع فرات أردنية، في المنطقة نفسها، وقد حصل هذا بعد أيام قليلة من زيارة العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، لموسكو وواشنطن. وقد سمع كلاماً مهماً من القيادة الروسية عن توجهات سياساتها وخلافاتها مع طهران وحشدها بل حشودها الشعبية في سورية.

لماذا تغير، أو بالأحرى تطور، الموقف الأردني؟ وما علاقة ذلك، ليس فقط بجولة الملك الخارجية، وإنما بالمتغيرات والتطورات في سورية، كما في واشنطن بعد تسلّم الرئيس المنتخب مقاليد السلطة منذ أربعة أسابيع تقريباً؟

لا شك في أن الأردن فكّر، منذ فترة طويلة، في تنفيذ عملية عسكرية على غرار "درع الفرات" في مناطق الجنوب، بالتعاون أو بالاعتماد على الجيش الحرّ لمواجهة تنظيم داعش، ومنعه من تهديد الأمن الأردني، كما لإقامة منطقة آمنة لاستيعاب اللاجئين، ولتكريس دور الأردن في القضية السورية وتسريع فرصة التوصل إلى حلّ سياسي عادل للقضية السورية، وفق إعلان جنيف نصّاً وروحاً. غير أن الأردن لا يملك مقدرات تركيا وقوتها، لكي يقوم منفرداً بتنفيذ عملية عسكرية ودعمها، وإقامة منطقة آمنة أو عازلة، وتكريس دوره سورياً رغماً عن واشنطن أو وضعها تحت الأمر الواقع، وهو بالمناسبة ما فعلته السعودية في عملية "عاصفة الحزم" في اليمن، عندما دافعت عن أمنها ومصالحها، رغماً عن إدارة أوباما ومواقفها المتناغمة مع طهران وحشودها الشعبية في طول المنطقة وعرضها.

إلى ذلك، فإن القيام بعملية على غرار "درع الفرات" لا يقتضي قوة سياسية وعسكرية فقط، وإنما اقتصادية أيضاً لجهة الإشراف على مناحي الحياة المختلفة في المناطق التي يتم طرد "داعش" منها، وتأسيس بنى تحتية جدية ومحترمة في السياق الاقتصادي الاجتماعي التعليمي الصحي الأمني تماماً، كما فعلت وتفعل تركيا في مناطق "درع الفرات"، وهو ما يعرف بنموذج جرابلس، حيث لا يتم تدمير المدن والقرى، بل تعميرها، ولا يتم تهجير أهلها والمواطنين، بل إعادتهم إليها.

تبدو الأمور والمعطيات، الآن، مختلفة في واشنطن وموسكو على حد سواء، علماً بأنه على عكس ما يبدو ظاهراً وشكلاً فقط، كانت واشنطن، وما زالت، اللاعب الرئيسي في القضية السورية، بفعلها أو سكونها، وتغاضيها عن أفعال الآخرين وممارساتهم، بضوء أخضر أو برتقالي منها، تماماً كما حصل مع موسكو وطهران.

رفضت واشنطن القديمة فكرة المنطقة الآمنة، أو أي انخراط أردني جدّي في القضية السورية، بسبب سياسة أوباما المنكفئة عن المنطقة، واتباع واشنطن سياسة مهادنة لإيران، ومتغاضية عن نشاطها وسلوكها في المنطقة عموماً، وسورية والعراق تحديداً، طالما أنه لا يتعدّى الخطوط الحمر المرسومة أميركياً، ويندرج ضمن الصفقة الشاملة التي أبرمها أوباما مع طهران عبر الاتفاق النووي، والتي تخلت طهران بموجبها عن مشروعها النووي في مقابل امبراطوريتها الشوفينية، امبراطورية الدم والوهم، كما قال يونس خالصي، مستشار الرئيس الإيراني مرة عن المنطقة. ومع ذلك، جرى دعم الأردن وتحصينه سياسياً عسكرياً اقتصادياً وأمنياً، وبذلت جهود أميركية جدية لحمايته وتقليص الآثار السلبية لمعادلة "الأسد أو نحرق سورية" التى تم تحديثها من حلفاء النظام، لتصبح "الأسد أو نحرق المنطقة".

التدخل أو الاحتلال الروسي لسورية في سبتمبر/ أيلول العام قبل الماضي تضمن تفاهماً غير معلن مع الأردن، لحظ عدم اتباع موسكو الخيار الشيشاني في المنطقة الجنوبية، بما يراكم مزيداً من الأعباء على الأردن، أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، مع موجات كثيفة أخرى من النزوح واللاجئين، في مقابل تهدئة الجبهة، والحفاظ على خطوط القتال، كما كانت قبل التدخل الروسي.

تغيرت الأمور، الآن، بشكل جذري تقريباً من واشنطن وموسكو على حد سواء، فواشنطن تريد الانخراط أكثر في سورية، للتأثير على التسوية السياسية فيها، كما لمواجهة المدّ الإيراني، وتخفيف أضرار الكارثية لاتفاق أوباما معها، و لزيادة إمكاناتها وقدراتها في مواجهة "داعش". يعتقد المتنفذون في إدارة ترامب أنه لا إمكانية لهزيمة "داعش"، من دون انخراط أكثر فاعلية في القضية السورية، ومن دون تحجيم إيران، وأدواتها وحشودها الشعبية في طول المنطقة وعرضها.

أما موسكو فتريد أيضاً تسوية سياسية على أساس مصالحها، وما فرضته من وقائع بعد تدخلها الاحتلالي، وهي فهمت طبعاً أن من المستحيل تعميم الخيار الشيشاني على كامل الأراضي السورية، وبعد ما اعتقدت أنها حصلت على علامة انتصارٍ إثر تدمير حلب، تريد العمل الآن باتجاه تسويةٍ مناسبة، وتعتقد أن وجود الأردن ضروري لعوامل جيوسياسية، ولاستغلال نفوذه وعلاقاته في المنطقة الجنوبية من سورية، وربما هي تعتقد أيضاً أن الأردن لن يطرح مطالب كثيرة أو معقدة أو يفاوض، ويناقش موسكو على الخطة نفسها، وليس فقط تنفيذ دوره فيها، وفق السيناريو المرسوم روسياً.

في كل الأحوال، سيسعى الأردن إلى أن يكون لاعباً مهماً في القضية السورية، سيتساوق مع السياسة الأميركية الجديدة. ومع تنامي خطر "داعش" على الأمن الوطني، وتزايد عملياته في العمق الأردني في الفترة الأخيرة، ستكون عمّان متحمسة لفكرة نقل المعركة إلى عمق مناطق سيطرة التنظيم في الأراضى السورية، وهذا لن يحدث في الفراغ، وإنما ضمن بيئة سياسية أمنية، تتعلق بالاعتماد على الجيش الحر، وربما وجود على الأرض للقوات الخاصة الأردنية، مع دعم سياسي وأمني وجوي من التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن.

لن تمانع روسيا، هي الأخرى، أي دور نشط للأردن، طالما أنه سيركز على مقاتلة "داعش"، ولن يهدّد النظام بشكل مباشر، أو يعرقل الخطوط العامة للتسوية السياسية التي تحاول موسكو رسمها، وفرضها على الفرقاء الآخرين، غير أن انخراطاً جديا لواشنطن في القضية السورية، وتمتين تحالفها وتعاونها مع أنقرة والرياض والدوحة في مواجهة "داعش"، والضغط باتجاه تسوية سياسية عادلة، وفق إعلان جنيف وقررات الأمم المتحدة ذات الصلة، فستكون عمان حتماً عندئذ أقرب إلى هذا الفريق، وستمتلك القدرة على مناقشة موسكو في المحدّدات والقواعد التي سعت وتسعى إلى فرضها في سورية، كما أن موسكو ستكون هي نفسها مضطرة لمراجعة سياساتها وحمايتها النظام ومهادنتها المليشيات الأجنبية المدعومة من طهران، وممارساتها المؤذية والضارة في سورية والمنطقة بشكل عام، علماً بأن الملك عبدالله الثاني سمع في موسكو كلاماً من هذا القبيل.

اقرأ المزيد
٢٧ فبراير ٢٠١٧
مفاوضات جنيف العقيمة

المفاوضات السورية في جنيف التي يقودها ستيفان دي ميستورا الديبلوماسي الأممي المحنك تظهر في شكل مسرحية بطلها مبعوث النظام السوري بشار الجعفري الذي يراهن على مستقبله. ليست مصادفة أن بداية هذه الجولة من الوقت الضائع ترافقت مع تفجيرين انتحاريين استهدفا مقرين في المربع الأمني في حمص، وقد أتاح ذلك الفرصة للمبعوث السوري ليطالب بأن يكون موضوع مكافحة الإرهاب الأول في المفاوضات التي وضع دي ميستورا خطة لها.

والمعلومات الآتية من حمص أن المربع الأمني محصن في شكل يبدو مستحيلاً دخوله إلا في حال وجود متواطئين داخله، وهذا المربع هو مركز اعتقال وتعذيب ومساءلات من قياديين في النظام لمعارضين قد يكونون أيضاً بين الضحايا. وليس مستبعداً أن تكون الأجهزة النظامية وراء مقتل رئيس جهاز الاستخبارات في حمص حسن دعبول، فمعروف أن هناك توتراً شديداً بين فروع الأجهزة التي تتحارب على تقاسم المغانم المتبقية من بلد خرّبه رأس النظام.

مفاوضات جنيف فرصة الجعفري ليقول إنه يريد الكلام على مكافحة الإرهاب، لأنه لا يريد التطرق الى المسائل السياسية التي وضعها دي ميستورا كخطة لهذه المحاولة في مسار ولد ميتاً طالما أن بشار الأسد يرفض الرحيل، وهو مصر على البقاء حتى على رقعة من بلد منقسم. والجعفري يراهن على مواقفه المتشددة للبقاء ممثلاً للنظام في نيويورك وربما يفكر في أكثر من ذلك. هل إنه يطمح الى الجلوس على كرسي الأسد يوماً ما اذا اعتبر الروس أن الأسد أصبح عبئاً عليهم. فالديبلوماسي السوري المعروف في الأوساط الروسية يسهّل على بوتين الجواب حين يسأل دائماً: أين بديل الأسد؟ ربما يراهن الجعفري على ذلك في عمق نفسه ويظهر براعته في التشدد واستمرارية النهج الأسدي في اللامفاوضة. وخطة دي ميستورا في المفاوضات مبنية على 3 موضوعات: الانتقال السياسي والدستور والانتخابات، على أن تطرح كلها معاً. وجاءت محاولة الجعفري لتأخير التطرق للموضوعات السياسية بالدعوة الى التحدث عن مكافحة الإرهاب. فلتتحدث المعارضة عن ذلك. لم لا؟ فالإرهاب أساسه النظام والجعفري هو المدافع الأقوى عنه. ولدى أركان المعارضة في جنيف الكثير من الدلائل عمن يرتكب الإرهاب في سورية ويشجع عليه. فبين الموجودين بعض الذين اعتقلوا وتم تعذيبهم في المربع الأمني في حمص تحديداً، وهم يعرفون جيداً صعوبة الوصول إليه على رغم أن المعارضين يسيطرون على حمص، ولكن وحده هذا المربع الأمني هو المحصن من النظام الذي منذ نشأته يعتمد الإجهزة لإرهاب الناس، إن في سورية أو في لبنان.

على المعارضة أن تظهر براعة أكبر في عرض مواقفها. أولاً أن تطالب بالتحدث في جميع الموضوعات معاً وليس موضوعاً بعد الآخر. وعليها أن تنظم نفسها أكثر مما هي الآن وأن تكون إطلالاتها الإعلامية أوسع وأفضل، وألا تترك المجال للجعفري ليبيع الرأي العام مواقف كاذبة، فواضح أن الأسد غير مستعد للتطرق لأي انتقال سياسي، وسبق له أن تخلص من كثيرين حوله و «رحّلهم»، خصوصاً الذين تصعد أسهمهم في الخارج، فآصف شوكت الذي قيل انه بديل قُتل، ثم تم وضع فاروق الشرع في إقامة جبرية. أما وليد المعلم فلم يعد له صوت منذ فترة والآن عهد الجعفري. الى متى؟ لا أحد يعرف. هل يكون البديل او انه سيرحل كزملائه الذين سبقوه؟ وفي أي حال، مأساة سورية لن تحل بمثل هذه المفاوضات التي لن تتقدم ولن تصل الى نتيجة إلا بقرار روسي- أميركي برحيل الأسد وإخراج إيران من سورية، وهذا ليس الواقع حالياً.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان