على الرغم من أن الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف 4 استمرت تسعة أيام متتالية، إلا أنها لم تكن، في واقع الأمر، جولة تفاوض بين الأطراف السورية، بل كانت لقاءات ومشاورات أجراها المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، بشكل منفصل، مع وفد الهيئة العليا للتفاوض، وما يُعرف بمنصتي القاهرة وموسكو، ومع وفد النظام السوري، وانتهت إلى وضعه أجندة تضمنت أربع سلال، تتعلق بمسائل الحكم والانتخابات والدستور واستراتيجية مكافحة الإرهاب، ويأمل أن يجري التفاوض عليها بالتزامن والتوازي في جولة تفاوضية خامسة، يرجح أن تعقد مع نهاية شهر مارس/ آذار الجاري.
ويمكن القول إن الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف لم تسفر عن تقدمٍ ملموس في مسار الحل السياسي الذي يمكنه أن ينهي مأساة السوريين، وأنها، مثل سابقاتها، لم يتم فيها ملامسة جوهر القضية السورية، المتمثل في الانتقال السياسي من نظام الاستبداد إلى نظامٍ يلبي طموحات السوريين في الحرية والخلاص. ولا نستطيع القول إنها رسمت ملامح الجولة المقبلة من المفاوضات وحدودها، إذ لا أحد يضمن أنها ستركز على القضايا الجوهرية الخاصة بالانتقال السياسي، بما يعني إمكانية ظهور الملامح الأولية للحل السياسي، استناداً إلى بيان جنيف في حزيران/ يونيو 2012 وقرار مجلس الأمن 2254 الصادر في ديسمبر/ كانون الأول 2015، والسبب هو عدم وجود ضمانات بأن ينخرط وفد نظام الأسد في العملية التفاوضية بشكل جاد، من دون تسويف أو مماطلة، وأن لا يعود إلى رهاناته السابقة في الحسم العسكري، استناداً إلى الدعم غير المحدود من روسيا ونظام الملالي الإيراني ومليشياته المذهبية، إضافة إلى أن هذا النظام لم يعترف، إلى يومنا هذا، بوجود طرف آخر يتمثل بالمعارضة السورية، حيث جدّد رئيس وفده إلى مفاوضات جنيف الحديث عن وجود إرهابيين بين أعضاء وفد المعارضة، وتمكّن من إدراج بند مكافحة الإرهاب بضغط روسي، لكي يعود، من خلاله، إلى محاولاته السابقة في حرف قطار التفاوض عن سكته، ويخوض فيما خاضه من تفاهاتٍ في جولات التفاوض السابقة. يضاف إلى ذلك كله أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، تحدث عن المفاوضات، وكأن عملية التفاوض في جنيف محصورة في مجرد مشاركة أعضاء من المعارضة السورية في "حكومة وحدة وطنية"، تحت رئاسة مجرم حرب ورعايته، تسبب في تدمير مدن وبلدات سورية عديدة، وخصوصا مدينة حلب، وتهجير أكثر من نصف سكان سورية، فضلاَ عن قتل أكثر من 600 ألف سوري وجرح وتشويه مئات الآخرين.
وإن كانت الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف قد عقدت على وقع الخروق الكثيرة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع في أنقرة في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016، ورعاه نظرياً كل من الروس والأتراك والإيرانيين، إلا أنه لم يتم تثبيته ولو يوما واحدا خلال جميع أيام جولة التفاوض، على الرغم من أن المبعوث الأممي قال، في اليوم الأول لانطلاق الجولة، إن الروس طلبوا من النظام السوري وقف إطلاق النار في أثناء فترة التفاوض، لكنه أضاف "في المناطق المتفق عليها"، وعنى ذلك إطلاق يد النظام، لكي يحدّد المناطق التي سيقصفها طيرانه وقتما يشاء، ولم يصدر أي شيء عن وفد الهيئة العليا، أو سواها من الأطراف، سوى مطالبات لفظية من بعض أعضائه بضرورة تثبيت وقف إطلاق النار.
واللافت أن ما يسجل، في هذه الجولة، غياب الطرف الأميركي الذي تحول من فاعل في القضية السورية إلى مراقب، إضافة إلى غياب الطرف العربي، في مقابل حضور قوي للطرف الروسي، جسده حضور وفد ترأسه نائب وزير الخارجية الروسي، غينادي غاتيلوف، الذي التقى جميع الوفود، ومارس ضغطاً قوياً على دي ميستورا لكي يدرج مسألة مكافحة الإرهاب، وما كان من الأخير إلا أن ينصاع للغضط الروسي، ويدرج الإرهاب في سلته التفاوضية الرابعة.
وليس ذلك وحسب، بل إن حديث وفد الهيئة العليا للتفاوض عن إيجابية اللقاء مع غاتيلوف، قابلته الناطقة باسم الخارجية الروسية بالحديث عن الدور السلبي الذي تقوم به الهيئة في عرقلة مسيرة التفاوض، في حين أن الجولة الرابعة برمتها لم تكن تفاوضية على الإطلاق، من حيث إنها تناولت الأمور الإجرائية التي من المفترض أن يقوم بها المبعوث الأممي قبل البدء في الجولة نفسها.
بدا واضحاً في هذه الجولة سيولة (وضعف) مواقف المعارضة السورية التي راح بعض أعضائها يتحدث عن "تنوع"، وليس خلافات بين أطرافها، ولعل وجود المنصّات بحدّ ذاته إضعاف لها، لأنه لا ينم عن التنوع بقدر ما يعبر عن اختلاف الرؤى والتصورات، وفقاً لأجندة الدولة الراعية للمنصة أو الداعمة لمجموعة هؤلاء المعارضين أو لغيرهم، حيث إن ممثل منصة موسكو تحدث علناً، ومن دون مواربة، بعد لقائه دي ميستورا، عن مسارين، أولهما "مكافحة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، وخصوصا تنظيمي داعش والنصرة"، وثانيهما الحل السياسي، مردّداً مواقف موسكو المعروفة حيال القضية السورية، وبالتالي لم يأت مع منصته إلى جنيف للتفاوض من أجل خلاص السوريين الذين أرهقتهم المجازر والجرائم، وباتوا ينامون ويصحون على وقع قصف الطائرات والصورايخ ومختلف أنواع المدافع والراجمات، بل جاء تلبية لرغبة دولة المنصة التي نصبته معارضاً شرساً للمطالب الشعب السوري وليس للنظام الأسدي.
ومع انتهاء الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، بقي وفد المعارضة بانتظار الحصول على تأكيدات أن وفد النظام لن يستخدم سلة مكافحة الإرهاب ذريعةً لإخراج المحادثات عن مسارها، وجاء محصول هذه الجولة شحيحاً، ومتوافقاً مع أنها لم تعد منذ انطلاقها بتحقيق انفراجة أو اختراق ما، وهي بالفعل لم تحقق ذلك. لكن مع انتهائها، راح كل طرف يزعم تحقيق مكاسب محدودة، فيما لم يتمكن دي ميستورا من جمع الطرفين إلى طاولة واحدة، واكتفى بلقاء كل طرف على حدة، وأبعد ما توصل إليه محاولة للاتفاق على شكل جولة التفاوض المقبلة، و"إبقاء الزخم" على الأزمة، كي لا تنسى، والحصيلة التي خرج بها هي "لا ورقة"، حدّد فيها دي ميستورا نقاطاً عامة عن سورية والسوريين، متمنياً "تحقيق تفاهم مشترك أعمق، لكيفية مضينا في الجولات المستقبلية في مناقشة كل قضية".
وقبيل انتهاء جولة التفاوض الرابعة، أعلنت موسكو عن موعد جديد لعقد اجتماع جديد في أستانة في الرابع عشر من شهر مارس/ آذار الجاري، استكمالاً لما باتت تشهده القضية السورية من جولات وتجاذبات ومشادات ما في بين جنيف وأستانة وسواهما، الأمر الذي يدعو إلى الاستشراف بأن مخاضات جديدة ستعصف بالقضية السورية، في سياق محاولات إيجاد حل سياسي لها بين القوى الراعية لمساري أستانة وجنيف... والحبل على الجرّار.
ذكّرتنا وسائل إعلام تركية، أخيرا، بعادة عثمانية قديمة، هي تركيب مطرقتين على الباب الخارجي للمنزل، واحدة كبيرة لاستخدام الرجال وأخرى صغيرة للنساء. وعلى أساس ذلك، يتم التعامل مع قارع الباب واستقباله. قرع الجنود الأتراك "الباب" في سورية، ليدخلوا بطريقة مختلفة، كلفتهم عشرات من القتلى والجرحى، وبعد ستة أشهر من استماتة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في منع الدخول التركي إلى إحدى أهم قلاعه وخط الدفاع الأخير عن الرقة.
قال أحد المسؤولين الأكراد في حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، المحسوب على صالح مسلم، والذي تصفه تركيا بالتنظيم الإرهابي، قبل أسبوعين، إن الجنود الأتراك سيجدون أنفسهم يغادرون منطقة الباب بسيارات نقل خضراء، تماما كما حدث في شرق حلب، عندما نقل آلاف المدنيين والمقاتلين إلى مناطق آمنة، في إطار تسوية سياسية تركية روسية إيرانية. وهذه رسالة تعني أن تركيا وحليفها الجيش السوري الحر سيهزمان في المدينة، وأن الوحدات الكردية، أو قوات النظام السوري المدعومة من المجموعات الإيرانية، هي التي ستدخل المكان، وتطرد تنظيم داعش منه، وتحاصر الأتراك وقوات المعارضة السورية، وهذا ما لم يتم، لكننا لا نعرف إذا ما كانت قناعة هؤلاء صالحة المفعول، أو أن ما يقولونه يتجاوز معركة الباب باتجاه مفاجأة أخرى.
حراك النظام السوري وإيران والوحدات الكردية الماركسية لم ينجح في قطع الطريق على خطة درع الفرات، بالوصول إلى الباب، وتحريرها من قبضة "داعش"، لكن هذا الثلاثي يتابع عن قرب تفاصيل قرار تركيا إرسال مزيدٍ من التعزيزات العسكرية إلى شمال سورية، وهي خطوة أبعد من أن تكون تهدف إلى دعم الوحدات العسكرية الموجودة هناك، بل التجهيز للمرحلة التالية، وهي التقدم نحو مدينة منبج لتسلمها وضمانة انسحاب الوحدات الكردية منها إلى شرق الفرات، كما سبق وتعهدت واشنطن لأنقرة. هل سيكون هناك ردّا على التحرّك التركي أم إن أنقرة حصلت على الضوء الأخضر الأميركي والروسي في منبج أيضا، وهذه كانت النقطة الغامضة حتى الأمس القريب؟
استطاعت القوات التركية، وبالتنسيق مع الجيش السوري الحر، في عملية "درع الفرات" التي أطلقتها في 24 أغسطس/ آب الماضي، وبعد 185 يوما تطهير "الباب" من "داعش". ربما أغضب إنجاز العملية واشنطن التي ردّدت دائما أن قوات حماية الشعب الكردية هي الوحيدة التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية، وأنها وحدها القادرة على دحره. وتعرف واشنطن جيدا أن أنقرة التي دخلت المدينة مضحيةً بعشرات القتلى والجرحى والخسائر المادية لن تساوم، بعد الآن، على تغيير في الخطط والاتفاقيات المتفاهم عليها، وأن الأتراك لن يتأثروا كثيرا برسالة واشنطن عبر إرسال كبار ضباطها إلى عين العرب (كوباني)، عشية الإعلان عن تحرير الباب، وفشل اقتراب بشار الأسد وصالح مسلم منها لالتقاط الصور التذكارية حتى.
تعرف واشنطن أيضاً أن تركيا لن ترضخ لأية عملية ابتزاز أو ضغوط وهمية، مثل القول إن سماح الأميركيين للأتراك بدخول منبج سيتسبب بانهيار العلاقة بين الإدارة الأميركية والأكراد، وسينعكس ربما على مستقبل عملية "غضب الفرات" الكردية في الرقة. الخطة التي تطرحها تركيا وتتمسك بها تقوم على مواجهة كل من يحاول عرقلة أي تنسيق أميركي تركي أو تركي روسي أو تفاهم ثلاثي بين هذه الدول، يشمل خطة محاربة "داعش" في الرقة ورفضها الذهاب وراء حساباتٍ أو عروض سياسية ضيقة، حتى ولو وجدت نفسها وجها لوجه أمام خط تماس مباشر مع طهران، والمحسوبين عليها في سورية.
هل تريد تركيا مثلا إقناع إدارة ترامب قبل الإعلان عن خطة وزارة الدفاع (البنتاغون) في محاربة "داعش" المرتقبة بفوائد التنسيق التركي الروسي الأميركي في الرقة، وبأنه قد يفتح الأبواب أمام تنسيق إقليمي أوسع في التعامل مع ملفات أخرى؟
هناك في تركيا من يقول إنه لو لم تذهب أنقرة، حتى النهاية، في معركة الباب، لكانت اليوم تعض أصابع الندم، وتدفع ثمن تردّدها في منع التمدّد الكردي نحو كانتون عفرين، والسقوط في مصيدة علاقتها بداعش الذي استهدف المدن التركية بعشرات العمليات الإرهابية. هناك في تركيا من يقول أيضا إن ابتعاد أنقرة عن إدارة أوباما في سياستها السورية هو الذي أوصلها إلى ما هي عليه اليوم في شمال سورية. تتحدث القيادات السياسية التركية عن استعدادها للذهاب إلى الرقة، لكنها تصر على أن الطريق إلى هناك، لا بد أن تكون عبر منبج، وهذا ما ناقشته، قبل أيام، مع نائب الرئيس الأميركي ورئيس الأركان ورئيس جهاز الاستخبارات، وهي تراهن على مصداقية أميركية وتفهم روسي، فماذا حدث؟
سيناريوهات كثيرة تتطاير في الأجواء حول ما بعد الباب. تصر تركيا على سيطرة الجيش السوري الحر على منبج، وتضييقَ الخناق على قوات صالح مسلم، ومحاصرته في شمال شرق سورية أكثر فأكثر، فهل تساوم الإدارة الاميركية على طرح التخلي عن حليفها المحلي الوحيد في سورية، في مقابل صفقات جديدة عقدتها مع تركيا؟
لم تتأخر الإجابة كثيرا.
كشفت وسائل الإعلام الدولية، أخيرا، عن الاهتمام الأميركي المتزايد بتسليح "قوات سورية الديمقراطية" وتجهيزها لمعركةٍ ما. في العلن هي معركة الرقة ضد تنظيم داعش، في الخفاء قد تكون معركة التصدي للقوات التركية في منبج، وبالتالي إبقاء مشروع ربط عفرين بالقامشلي في غرفة الإنعاش، بانتظار التحولات العسكرية والسياسية في سورية. لن يتراجع الحلم الكردي في إقامة الاقليم المستقل في شمال سورية، ما دام هناك دعم أميركي وروسي لوحدات القوى الديمقراطية، إلا إذا كان الأكراد سيقبلون بنصيحةٍ، تهبط عليهم من السماء، تدعوهم إلى إعلان كيان سياسي موحد، على الرغم من العائق الجغرافي، كما هي الحال في الضفة الغربية وقطاع غزة مثلا، أو ربط الكانتونات ببعضها، جنوب الباب، عبر خدمات مباشرة يقدمها النظام السوري لها، بهذا الخصوص، بطلب روسي أميركي.
وكانت الحسابات، في تركيا، تبني على الشكل التالي: وصول الجيش السوري الحر إلى الباب لا يعني، بعد الآن، مجرد إعادة الاعتبار إلى وحداته التي عانت من انقساماتٍ وشرذماتٍ واستهداف، بل ضرورة إشراكه في المعارك العسكرية المحتملة ضد "داعش"، لإفشال مشروع صالح مسلم الذي كان يساوم على قدراته في الجمع بين المتناقضات الكردية في سورية والعراق، ووضعها على طبق من فضة أمام اللاعبين الكبار. من هنا، تبرز مسألة تذكير تركيا بعضهم بخطتها التي تضع اللمسات الأخيرة عليها، وتهدف إلى تحريك آلاف المقاتلين العرب والأكراد الذين تدربوا في مخيماتٍ أعدت في أربيل ومناطق الحدود التركية السورية بين أورفة وغازي عنتاب وقلب الأناضول لإرسالهم إلى شرق الفرات، أي عين العرب والقامشلي، وهي المناطق التي أجبروا على مغادرتها، بسبب تهديدات حزب الاتحاد الديمقراطي وقمعه لهم. ومن أسباب زيارة مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، تركيا، أخيرا، مناقشة التفاصيل الأخيرة لهذا التحرك.
لكن التفاهمات الأميركية الروسية، أخيرا، أمام التعنت التركي في منبج جاءت سريعة وموجعة حقا. لا غبار على الحرب التركية على "داعش" في الباب، لكن موضوع تسليم منبج إلى تركيا مسألة أخرى، لا يمكن التساهل حولها. سنلتزم بوعودنا المقطوعة للأتراك بسحب الوحدات الكردية من منبج، لكننا سنسلمها لقوات النظام السوري، لأننا نحتاج إليهما معا ورقة ضغط محلي وإقليمي. منطقة آمنة تريدها تركيا في شمال غرب سورية لا بد أن تقابلها منطقة آمنة أخرى في شمال شرقها، تكون مقدمة للكيان الكردي المستقل، وعلى تركيا أن تقبل بهذا القرار الصادر عن موسكو وواشنطن، وتلتزم به.
كادت فرحة تركيا في الباب أن تكون كبيرة، لولا مفاجأة منبج التي ستدفع أنقرة إلى الرد، وخياراتها ستكون أصعب، هذه المرة، بين قبول ما يجري أو تحريك أحجار جديدة على رقعة الشطرنج السورية.
ساعة الصفر في معركة الرقة، وما تقوله أنقرة حول التفاهمات التركية الأميركية الروسية، قد تنقلب كلها رأسا على عقب، ليس بسبب قدرات "داعش" العسكرية القتالية، بل بسبب ما يحاول بعضهم فرضه على تركيا في منبج، والورقة الكردية السورية، وهي قد تتحول إلى مفاجاة أخرى للأتراك عندما نرى أن موسكو وواشنطن قرّرتا الاستفادة من الوحدات الكردية وقوات النظام السوري، بدلا من المساهمة التركية.
يتشاءم كثيرون في شأن مسار المساعي الرامية إلى إحلال السلام في سورية والتباطؤ الشديد والمشبوه في جهود الأمم المتحدة، وعلى رغم الغموض غير البنّاء في مواقف الدول والتأخر في حسم الأمور بعد الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، فإن كل الدلائل تشير إلى أن الأمور وصلت إلى مرحلة القرار والبحث عن مخارج لإيجاد حلول قريبة تكرس الأمر الواقع وتوقف الحرب، ولكنها بعيدة من السلام الكامل.
ويعلم الجميع أن أي حل لن يبصر النور من دون حصول اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا يضمن المصالح ويحد من أخطار استمرار هذه الحرب التي ستدخل عامها السابع خلال أيام، ومعها، في شكل أو في آخر، الحروب الدائرة في العراق وليبيا واليمن.
من هنا الترقُّب والحذر بانتظار ما ستؤول إليه القمة المنتظرة بين الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب والقيصر الروسي فلاديمير بوتين لمعرفة ما سيتم الاتفاق عليه من صفقات وتبادل مصالح، والتمهيد لقيام نظام عالمي جديد يحل محل نظام بائد أثبت فشله بعدما نجح في إسدال ستار من الأوهام على مختلف حروب العالم وأزماته، وفي مقدمها الشرق الأوسط، ما أضعف الأمم المتحدة وأوصلها إلى درجة الجمود التام.
هذا الاتفاق المنشود قد يهمّش أدوار بعض القوى العالمية والإقليمية، أو يحد من جموحها وتدخلاتها، لكنه لن يتمكن من إلغاء دورها في السلام والحرب. كما سيكون من الصعب إنكار وجودها في ساحات الميادين ومراكز القرار، ما يمنحها القدرة على زرع ألغام أمام طرق الحل لعرقلة مسيرته، وفي بعض الأحيان تخريبه وافتعال أحداث وإشعال نيران قد تؤدي إلى قلب المائدة على القوتين العظميين.
لهذا، من المنتظر العمل بأسلوب التدرُّج في المسيرة بدءاً من وضع آلية لوقف إطلاق النار برعاية أميركية- روسية ثم السماح بانضمام القوى الدولية المؤثرة إليها، مثل الصين ودول أوروبية، لتصل أخيراً إلى الدول العربية الرئيسية والدول الإقليمية، مثل إيران وتركيا وإسرائيل.
إلا أن هذا السيناريو أمامه عوائق عدة ومشكلات جمة ناجمة عن وجود منظمات إرهابية ومتطرفة في الميادين، يقابله ما أعلن من سياسة ترامب المتعلقة بهذه القوى، وطموحات بوتين الواضحة ومطالبته بمقايضة في أوروبا، وتحديداً في أوكرانيا والقرم.
فبالنسبة إلى إسرائيل، اتخذ ترامب الموقف المعرقل للسلام وقدم الدعم اللامحدود لجنوح اليمين الصهيوني المتطرف، ووعد بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة لتثبيت شرعية الضم. أما بالنسبة إلى موقفه المستهجن من رفض حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، فقد تراجع عنه قليلاً بقوله إن التوصل إلى هذا الحل هو في أيدي الطرفين، بعدما تبلغ بأن مثل هذه المواقف ستؤدي إلى ارتفاع حدة التوتر في المنطقة وازدياد موجات التطرّف والعنف، وأن الحل الوحيد الآمن يجب أن يقوم على إيجاد سلام شامل وعادل في الشرق الأوسط لتحقيق الاستقرار وتأمين المصالح، علماً أن أي تأخير أو تصعيد سيفتح الباب أمام انفجار واسع ويمنح المتطرفين الذرائع لتبرير أفعالهم.
بالنسبة إلى إيران، تبدو العقبات أكبر لأن طريقها معبدة بحقول الألغام بسبب تصميم ترامب على التصدي لها وإعادة النظر في الاتفاق على الملف النووي، ما ستكون له انعكاسات على المنطقة، خصوصاً في سورية ولبنان واليمن والعراق، بحيث ستكون المواجهة في ساحاتها أكثر حدة.
في المقابل، تتمثل العقبات في مطامع إيران الامبراطورية، وسعيها إلى مد نفوذها على امتداد العالمين العربي والإسلامي، وفقاً لشعار «تصدير الثورة» وما سبّبه من مواجهات وما سيشعله من فتن طائفية ومذهبية بين المسلمين السنة والشيعة.
بالنسبة إلى تركيا، ما زال موقفها متأرجحاً بين واشنطن وموسكو. وبين طهران والدول الخليجية، فقد انتقدت إيران أخيراً لسعيها إلى مد نفوذها نحو الدول العربية وتهديد أمنها، على رغم الاتفاق معها على حلول، بينها اتفاق آستانة في شأن الحرب السورية، والتعاون الاقتصادي والسياسي ومنع قيام دولة كردية مستقلة في شمال سورية.
هذا التأرجح سيؤدي إلى زيادة حدة التنافس بين الدولتين ومحاولة حصد أكبر مقدار من المكاسب قبل أن تحين ساعة القرار. كما أن سيطرة تركيا على أجزاء واسعة من شمال سورية ستمنحها دوراً أكبر في الحل ورسم خرائط جديدة وتحديد مناطق النفوذ، لكنها لن تساعد على إحلال السلام واحترام سيادة سورية ووحدة أراضيها. فالمخاوف تزداد من مؤامرة التقسيم ومن تقاسم الحصص والغنائم بعدما أمنت روسيا نصيبها وحققت مطامعها في الوصول إلى المياه الدافئة بإقامة قاعدة جوية في اللاذقية وأخرى بحرية في طرطوس، إضافة إلى عقود النفط والغاز على الساحل السوري، كما حصلت الولايات المتحدة على حصص مماثلة في الهيمنة على الثروات النفطية في شمال العراق وسورية، فضلاً عن الهيمنة السياسية.
في المقابل، تكرست سيطرة الأكراد على مناطق في الحسكة والقامشلي لتشكل عائقاً أمام الحل المنشود، ما يتطلب دراسة مطالبهم بروية وحكمة بعيداً من التشنج والتعصب، لأن فتح الباب أمام الفيديراليات والكيانات المستقلة سيؤدي إلى انهيار الدولة واستمرار الحرب إلى ما لا نهاية، وتعميم كوارث التقسيم وتساقط الدول الواحدة تلو الأخرى وكأنها أحجار لعبة الدومينو.
إلا أن أخطر معرقل للسلام، ومعه الحلول المعدة، هو وجود التنظيمات المتطرفة والإرهابية وخلاياها النائمة وسيطرتها على مناطق واسعة، على رغم مضي سنوات على بدء ما سمي»الحرب على الإرهاب». فالقضاء عليها يحتاج إلى التصميم والإرادة والتخلي عن التباطؤ والغموض المشبوه، كما يحتاج إلى وقت طويل وقيام تحالف دولي حقيقي لإنهاء المعضلة واجتثاث أسباب هذه الآفة وجذورها.
في ظل هذه الأجواء الملبدة بالغيوم السوداء، تتسارع الجهود للتوصل إلى تسويات لا تشفي ولا توصل إلى أي نتيجة إن لم يتم الوصول إلى الأعماق وفرض حلول ناجعة لإقامة سلام دائم وثابت لا يهتز عند أول هبة ريح. فكل الأحاديث والتسريبات تحكي عن حلقة مفرغة تركز على تثبيت وقف إطلاق النار في سورية أولاً، ثم في اليمن وليبيا، وحسم معركة الموصل في العراق، على أن يترك الباقي في المجهول، على أمل ترك القضايا الأساسية والحيوية للمستقبل.
وهذا ما عانينا منه منذ ٦٩ سنة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية حيث كانت المشاريع والمبادرات الأجنبية والاتفاقات، وآخرها اتفاقية أوسلو، تركز على قضايا هامشية وثانوية وتترك القضايا الأساسية والحيوية إلى مفاوضات الحل النهائي التي لا يعلم إلا الله عزّ وجل متى ستعقد ومن سيفرض الحل ويجبر إسرائيل على التخلي عن تعنتها ووقف مؤامرة التهويد والضم.
لهذا، أتفق مع مقولة أن الحلول الجزئية جاهزة للطرح بعد أن تطبخ على نار هادئة، ليس لإنهاء الحرب بل لإدارة مسيرتها المقبلة وتجميد الأوضاع القائمة كما هي على الأرض في الميادين وكواليس السياسة، في انتظار معرفة درجة حرارة لقاء ترامب - بوتين.
لكن هذا لا يمنع من الجزم بأنه إذا كانت الحلول جاهزة، فإن من الحكمة الجزم أيضاً بأن السلام بعيد المنال، دونه ألغام وعوائق وطموحات ومطامع وصراعات ومخططات خبيثة تسعى إلى استمرار الحروب وجني ثمارها على حساب الشعوب المغلوب على أمرها.
الإنسان العربي هو الذي يدفع الثمن وسيدفعه مضاعفاً إن لم يتم التوصل إلى سلام شامل ونهائي يمهد الطريق أمام الإعمار وإعادة بناء البشر والحجر ويحقق الأمن والاستقرار، فيما تتعالى في السماء نداءات الأبرياء: كفى استهتاراً بحياتنا ودمائنا وأطفالنا... وكفى حروبكم العبثية. فهل من صاحب ضمير يلبي النداء؟
احتل الجنرال محسن رضائي، القائد الأسبق للحرس الثوري الإيراني، الأمين الحالي لمجلس تشخيص مصلحة النظام، مكاناً في أخبار هذا الأسبوع بتصريحين يعكسان معاً صورة عن بعض ما يجري داخل أروقة الحكم في طهران، يتعلق أولهما بما وصفه بـ «انهيار إيران من الداخل»، وثانيهما بتهديده الولايات المتحدة بأن إيران ستجبرها على تنفيذ تعهداتها في الاتفاق النووي.
على رغم أن رضائي يشغل منصب أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام منذ عام 1997، وهو أحد مؤسسات الحكم التي بُنيت بطريقة معقّدة لتضمن سيطرة نظام الولي الفقيه على مفاصل الحكم، فإن الوصف الأكثر التصاقاً به هو قائد الحرس الثوري سابقاً. ولا يأتي هذا من فراغ، فالحرس الثوري ليس مؤسسة يلتحق بها منتسبوها لتكون محطة في حياتهم المهنية، بل أيديولوجية متشددة تحكم الشخص وتبقى هوية له مهما تنقّل في وظائف الدولة، وغالباً ما يصبح «مندوباً» للحرس في أي مكان يحل به، حاملاً معه التطرف المغلف بقداسة دينية، والمزايدة على أي صوت للتعقل والرشد باستخدام الشعارات الثورية الزاعقة.
وفي تصريحه الأول، قال رضائي الإثنين الماضي في خطاب عام: «إن سوء الإدارة والفساد والانحرافات أشبه بقنابل موقوتة، وإذا لم نواجهها فإن إيران ستنهار من الداخل». والفساد والفشل والتردّي الإداري العام ليس بالأمر الغريب في إيران، ونادراً ما تخلو ساحات المحاكم من قضايا للتربّح وسوء استخدام السلطة وسرقة المال العام التي يتورط فيها كبار مسؤولي الدولة وقادتها. وتحتل إيران مرتبة متأخرة في تقرير يخص مستويات الفساد تصدره منظمة الشفافية الدولية، وهو تقرير يحظى بصدقية كبيرة، إذ حلت إيران في المرتبة 136 من مجموع 175 دولة شملها التقرير الأخير للمنظمة. وبصورة عامة فإن الحديث عن ضعف إيران من الداخل ليس بالجديد، فالمؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل إيران مثيرة للرثاء، وسبق أن كتبتُ وكتب غيري عن هذا الأمر، لكن صدوره هذه المرة عن شخص مثل محسن رضائي يعني الكثير.
تحدث رضائي كذلك عن أن «المسؤولين يجب أن يهتموا بالداخل بقدر ما يهتمون بتوسيع نفوذ إيران الإقليمي»، وهو هنا يستخدم بصراحة ووضوح كلمة «النفوذ». وكما هو جليّ، فإن رضائي لم يدعُ إلى تقليل الاهتمام بتوسيع «النفوذ» أو نقل الاهتمام بالداخل على حساب الخارج، كما تبادر إلى أذهان بعض من تناولوا حديث رضائي. والحقيقة أن كلمة «النفوذ»، على رغم أنها ذاتها ليست بالكلمة المقبولة، هي تعبير مخفف عن كلمات أو معانٍ أدق مثل «الهيمنة» أو «التدخل» أو «السطوة».
يرتبط بحديث رضائي حوار تلفزيوني للجنرال سعيد قاسمي، انتشر قبل أيام في الإنترنت. وقاسمي قائد آخر من قادة الحرس الثوري، يتسم بأنه أكثر صراحة في إعلان الوجه الإيراني الحقيقي، وهو يعرب في اللقاء عن رغبته في أن يقاتل شخصياً في اليمن، موضحاً أن من الأمور الطيبة أن يكون الإيرانيون في سورية مدافعين عن «حرم السيدة زينب»، لكن الهيمنة على باب المندب، كما يرى قاسمي، جزء من «الدفاع عن حرم السيدة زينب»، بل إن قاسمي يدعو أيضاً إلى القتال في مضيق «جبل طارق». وهذا الحديث المهووس يعكس الرغبة الأصيلة لدى الحرس الثوري، وهو وجه إيران الحقيقي، في السيطرة على العالم العربي كاملاً كما يرسمه المثلث الجغرافي الواقع بين باب المندب ودمشق ومضيق جبل طارق.
واللافت في حديث قاسمي أنه يتحدث عن «سقوط باب المندب في يد الشيعة»، متجاوزاً فكرة المواطنة إلى الطائفة، ومؤكداً أن الشيعة في كل مكان جزء من إيران. ولم يتردد قاسمي في أن يقول ساخراً إنه من الجيد أن تقول الحكومة الإيرانية إنها لا شأن لها بالأمر، وإن يمنيين هم من قاموا بذلك، ولكن هل هناك من لا يعرف الحقيقة؟
المشترك بين حديث قاسمي وحديث رضائي هو الإشارة إلى الفساد في إيران، وإذا كان رضائي تناول الفساد السياسي والإداري فإن قاسمي تناول الفساد الأخلاقي، مشيراً إلى «المنحرفين من رجال حكومتنا الذين يسهرون مع النساء»، وأن هؤلاء هم المؤمنون بفكر التصالح الذي يُعدُّ ضعفاً. ومن هنا يمكن فهم حديث رضائي في إطار المزايدة وتسجيل المواقف، وحصار السياسيين في دائرة الاتهام، ومنع أي صوت غير صوت «الحرس الثوري» بتطرفه وهوسه من الظهور. ولذا أعتقد أنه يجب النظر إلى حديث رضائي من هذه الزاوية أكثر من سواها، وأنه وإن أوضح حقيقة الهشاشة الإيرانية وقابلية الدولة للانهيار والسقوط، يدخل في باب تغليب نبرة التطرف والتشدد، وتهديد كل من يفكر بغير طريقة «الحرس الثوري» داخل إيران.
التصريح الثاني لمحسن رضائي هذا الأسبوع جاء تعقيباً على خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الكونغرس الثلثاء الماضي، الذي قال فيه إنه فرض عقوبات على شخصيات وشركات إيرانية، وإنه سيواصل تحذير إيران. فكتب رضائي في موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» قائلاً: «إن تحذيراتكم هي عبارة عن حيل سياسية بغية التنصل من تعهداتكم في الاتفاق النووي، كن على ثقة بأننا سنقوم بعمل يجعلك تنفذ جميع تعهداتك في الاتفاق النووي بدلاً من التحذير».
التهديدات العلنية المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة ليست جديدة، واعتادت إيران التصعيد في حديثها المعلن إلى واشنطن، واتخذت منه وسيلة للإيحاء بالقوة والمنعة، على رغم أنها تقدِّم على الدوام إشارات ودّ تحرص على إخفائها، ومع ذلك يجب أن نتوقع جديداً، فدونالد ترامب، على رغم اللهجة الهادئة في خطابه الأخير، لا يبدو عازماً على ترك إيران تهنأ بما غنمته بفضل التراخي والحسابات الخاطئة لإدارة أوباما، وإيران لا تبدو مستعدة تماماً لمثل هذا التحول، وهي تخفي ذلك باللهجة العدائية وإظهار الاستعداد للمواجهة، وهنا مكمن خطر يجب أن تستعد له دول الخليج بعد حديث محسن رضائي في شكل خاص.
من المؤكد أننا في الخليج مستعدون لمواجهة سلوك إيران الذي لم يعد غريباً، وأن لدينا وسائل للردع وللرد، لكن تحذير رضائي من «عمل» يجبر ترامب على إنفاذ الاتفاق النووي قد يحمل في طياته نيات إيرانية بخلق بؤرة جديدة للتوتر والفوضى في المنطقة، من طريق الأذرع والميليشيات والواجهات السياسية التي تتخذ قراراتها بناء على ما يخدم مواقف طهران ويخفف من مآزقها في اللحظات التي يشتد فيها طوق الحصار. وقد يصل الأمر إلى إطلاق سلسلة غير مسبوقة من العمليات الإرهابية لمناطق ومنشآت حيوية، أو إذكاء صراعات طائفية تجر وراءها مواجهات وصدامات في أكثر من مكان، أو تهريب أسلحة نوعية إلى ميليشيات تابعة لها لتستخدمها ضد فصائل وجماعات أخرى بما يكسر توازنات قائمة، أو حتى العمل على إشعال حرب في واحدة من الدول التي تمتلك فيها نفوذاً.
إن الجوار العربي والخليجي هو الساحة التي قد تنفذ فيها «العمل» الذي هددت به، لتربك حسابات ترامب وتؤجل المواجهة المزمعة أو تُجبره على التعاون معها، وهو لا يحدث إلا في ظروف غير طبيعية، كما في حرب العراق عام 2003 على سبيل المثال. ومثل هذه الاحتمالات تحتاج من دول الخليج إلى مزيد من التحسب والتأهب، ووضع الخطط لمواجهة الشطط الإيراني الذي قد ينجم عن دقة الوضع الذي تجد طهران نفسها فيه الآن، بدءاً من القدرة على ردع إيران عن تنفيذ خطط معينة لإثارة مزيد من الفوضى، وانتهاء بتوجيه ردود حاسمة وفورية على أية خطوة إيرانية تتجاوز خطوطنا الحمراء.
«التعفيش» عبارة انفرد بها السوريون لوصف ما أصاب منازلهم وأحياءهم ومؤسساتهم في أعقاب سقوطها بيد النظام وشبيحته، من نهبٍ منظمٍ تتعدى أهدافه السرقة المباشرة إلى هز وخلخلة علاقة المنهوبة منازلهم ومدنهم بالمكان الذي نشأوا فيه. إنه نوع من الاغتصاب الرمزي يُقدم عليه منتصرون أشرار ويهدف للإتيان على ما تبقى من علاقة بين المهزومين وبين مطارحهم. فالمكان المُغتصب لم يعد هو نفسه الذي غادروه لتوهم. المنازل لم تعد تلك التي راكموا فيها وقائع أيامهم وذكرياتهم. لقد حل فيها آخرون. أثاثات المنزل، وحولوا غرفة النوم إلى غرفة جلوس ربما. الأسِرّة جرى استبدالها، ذاك أن من «عفش» هو غير من احتل المنزل، فالفعلان غالباً ما يفصل بينهما وقت، وغالباً ما يتولى هذا الوقت قتل ما تبقى من أثر حياة أهل المنزل.
غالباً ما يشيح المُغتصبة منازلهم وجوههم عن منازلهم التي جرى تحويلها منازل لآخرين. هذا نوع من رد الفعل يشبه إلى حد ما فعلته المرأة البوسنية التي أنجبت طفلاً من مغتصبها، فقتلته.
«التعفيش» ليس سرقة موصوفة، على ما تقول التصنيفات القانونية. «التعفيش» لحظة هستيرية، يفقد فيها المُعفِش توازناً كان تأسس فيه جراء عيشه تحت سلطة تقهر ميله الأصلي إلى السرقة. الأخلاق أيضاً قد تكون وراء امتناعنا عن السرقة، لكن أخلاق الأفراد تتهاوى في لحظة الهستيريا الجماعية، ومشهد «التعفيش» الجماعي يُحِل في الأفراد غريزة الاستحواذ محل القيم التي تعيق السرقة. وبهذا المعنى فإن سارقاً صغيراً موجود في كل واحد منا، سارقاً ينتظر أن ينبعث في أقرب غزوة تُقدم عليها العشيرة النائمة في لاوعينا.
للسوريين سبق التسمية، أي «التعفيش»، ذاك أنهم يفوقون غيرهم من «المُعفَشين» في القدرة على اجتراح العبارة من جذرها. ففي لبنان عَفشنا وعُفشنا كثيراً، لكننا ضللنا سبيل العبارة. في العراق وخلال سقوط المدن في 2003 جرى التعفيش على نحو طوفاني، فنُهبت مدن بأكملها، وسمي الفعل «سلباً» لا تعفيشاً. الأرجح أن العبارة تُشتق من خبرات أصحابها. عفش السوريين شعيرة اجتماعية دافئة، والفعل استهدف في السوريين ذاك الدفء الذي راكمه عفش منازلهم. في العراق سمي الفعل سلباً وأضفيت عليه عبارات من نوع «تسليب» وهذا امتداد لطقس الغزوات العشائرية وما يرافقها من «تسليب مشروع» تتحول فيه المسروقات إلى مغانم. أما في لبنان فلم يلتفت السارقون إلى عبارة بعينها ولم تسعف مخيلة المسلوبين أصحابها بعبارة خاصة. صديقتي الحلبية زين أخبرتني أن بعض ما تبقى من أغراض منزل أهلها في حلب بعد تعفيشه وصلهم إلى إسطنبول. صور العائلة وأوراق ووثائق ثبوتية، أعطتها زوجة مُحتل المنزل، والأرجح أنه غير مُعفشه، للجيران الذين أرسلوه إلى أهلها في إسطنبول. ولطالما ألح علي مشهد منزل أهل زين، الذي لا أعرفه، ولطالما استدرجني وهمه إلى منازل حقيقية عُفشت أمام ناظري في حروبنا اللبنانية المتعاقبة، ولعل أشدها قسوة يوم أحرق الإسرائيليون منازل حارة عائلتنا في بلدتنا في جنوب لبنان. لم أعد أذكر ما إذا كان قد سبق الحرق تعفيش، ففي حينه كان للإسرائيليين شبيحتهم المحليون أيضاً. وأذكر أنني وبعد أن انسحب الإسرائيليون وصلت إلى منزل عمتي المحروق وظننت أنه لم يعد منزلها. وهي حين عادت إليه صار منزلاً آخر غير ذاك الذي هربت منه، فاستأنفت فيه عيشاً مختلفاً.
لكن المعَفَش غير محصن من أن يكون مُعفِشاً، فها أنا انتقل من لحظة وقوفي أمام منزل عمتي شاهداً على انتزاعه منها إلى كوني شاهداً على حملة تعفيش كنت فيها مقاتلاً إلى جانب المُعفِشين. إنها حرب شرق صيدا في جنوب لبنان حيث زحفت «الأحزاب التقدمية» إلى القرى المسيحية في شرق المدينة فانتزعتها من «القوات الانعزالية» ونهبت منازلها. في حينه تحولت شوارع مدينة صيدا إلى معرض هائل لفرش المنازل. كانت الأغراض ما زالت تحمل أثراً من أصحابها، وكان أطفال المدينة يعبثون بأغراض ولوازم مرمية على الطرق وفي الفسحات غير المبنية. وامتلأت المنازل بأغراض لا تشبهها، فصرت تجد بيانو في متجرٍ لبيع لوازم البناء، وأدوات صناعة النبيذ في منزل مقاتل إسلامي يجهل طبيعة الأغراض التي عفشها.
و «التعفيش» أيضاً ليس فعلاً انتقامياً، فاللحظة التي تتيحه يذوي خلالها الوجدان الانتقامي إلى غريزة جماعية غير عاقلة، لعل أكثر ما يعبر عنها إقدام آلاف من أهل مدينة كركوك العراقية على نهب معدات مصفاة النفط في المدينة في لحظة سقوطها بيد الأميركيين، وهي معدات لا تصلح للاقتناء الفردي ولا تؤدي غير وظيفتها في نقل النفط وتكريره. والسيدة التي كانت تحمل بيدها أسطوانة انتزعتها من المصفاة في حفلة «التعفيش» الكبرى تلك قالت يومذاك إن زوجها قد يحتاج هذه الأسطوانة ذات يوم. في ذلك الوقت كانت كركوك تُعفِش نفسها، وكان انهيار كبير قد أصابها جراء سقوط النظام. وفي ذلك الوقت أتيح لنا، نحن الصحافيين، أن نعاين ماذا يعني أن ينهار نظام وسلطة وأن يفقد أناس شعورهم بأن ثمة من يقف في وجه نزواتهم. ولعل ذروة المشهد كانت حين قُذف كرسي محافظ المدينة الحديث والجلديّ إلى وسط الشارع، فصادفته امرأة عابرة، وما كان منها إلا أن جلست عليه في وسط الطريق وصرخت «أنا المحافظ».
نعم، المدن يمكنها أن تُعفش نفسها في لحظة انهيارها، فصيدا اللبنانية عقب سقوطها بأيدي الإسرائيليين في 1982، خرج أهلها من الملاجئ بعد أيام حالكة الظلام ليجدوا مدينتهم مدمرة، فغُزي ما تبقى من متاجر الأحياء واستحضرت سلعها إلى الملاجئ. في حينه كنا عدنا، نحن المقاتلين الأطفال، إلى أحضان أمهاتنا في ملاجئهن الهزيلة، وخرجت فور سقوط المدينة مع والدي من الملجأ لنشهد على حفلة نهب أحد المتاجر قام بها سكان يحاولون استدراك جوعهم المحتمل بسلع لا تؤكل. تبادلنا، والدي وأنا، نظرات لم أفهمها آنذاك، وأفكر اليوم أنها كانت جس نبض متبادلاً عما إذا كنا نستطيع مقاومة الانخراط في هذه الهستيريا الجماعية.
على رغم تواتر الاجتماعات والمفاوضات، في موسكو وآستانة وجنيف، بين أهم الأطراف المعنية بالصراع السوري، فليس من لحظة يبدو فيها الحل السياسي بعيد المنال أكثر من اللحظة الراهنة، بما هو حل يفكك آليات السيطرة الأمنية ويزيل مناخ العنف والقهر الذي خنق لأمد طويل حقوق الإنسان وبذور الحياة الديموقراطية في البلاد.
فيما مضى، وإذا كان بعض التوافق بين السياستين الأميركية والروسية قد أسس لخيار الحل السياسي عبر بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254، فالجديد هو تعزز السلبية الأميركية ووضوح المسافات الخلافية بين الأطراف الثلاثة الراعية اليوم للعملية التفاوضية، مصالح موسكو، والمطامع الإيرانية، وبينهما الحسابات التركية ومراميها، الأمر الذي يكشف ضيق فرصة الإقلاع الجدي بالمعالجة السياسية.
وفي ما مضى، إذا كان ثمة شك حول جدية واشنطن وموسكو في دعم مسار التفاوض وإرغام الفرقاء السوريين على طي صفحة الصراع الدموي، فالشك يبدو اليوم أكبر تجاه امتلاك موسكو وأنقرة وطهران دوافع حافزة وإرادة مشتركة لإخراج الحل السياسي من ركوده، بخاصة أن التباينات بينهم تتنامى مع كل خطوة تخطوها المفاوضات، ويعمق تلك التباينات لجوء دول غربية لتغذيتها في سياق التنازع والمحاصصة على المستقبل السوري، ربطاً بوصول الحرب ضد تنظيم داعش إلى مراحلها النهائية، فأنى لطهران أن تتنازل وتدعم خطة سلام لا تكرس مطامعها في سورية والمشرق العربي، بخاصة أنها تزداد توجساً من عودة صراعها المفتوح مع واشنطن بعد أن جاهر دونالد ترامب بعدائه لها وسماها بالإرهابي الأول وهدد بنقض الاتفاق النووي معها، والأسوأ ما رشح عن تقدم دور الحرس الثوري ومراكز سلطوية إيرانية دأبت على تصدير الثورة الاسلامية واستثمار البعد المذهبي لمد نفوذها في المنطقة؟ وأنى لتركيا أن تفرط بما حققته من تقدم ونفوذ في سورية، بخاصة أنها تمتلك ورقتي المعارضة المسلحة والغطاء الإسلامي السنّي، ودونهما لا يمكن لمشروع التسوية أن يحقق النجاح والاستقرار؟
والنتيجة أن سورية التي أصبحت مسرحاً للتدخلات الخارجية وميداناً لتضارب المصالح الدولية ولإدارة معارك النفوذ، أصبحت رهينة لتوافق إرادات عالمية وإقليمية باتت تقرر كل شيء، إدامة القتال أو وقفه وإنهائه، ثم حظوظ معالجته سياسياً.
«يتوهم من يعتقد بقيام مرحلة انتقالية أو تغيير للنظام»... عبارة كررها غير مسؤول سوري تعقيباً على الورقة التي قدمها ستيفان دي ميستورا متوسلاً في بعض بنودها جدولاً زمنياً للتغيير يغازل قرار مجلس الأمن 2254 ما يشير إلى حجم الهوة التي تفصل موقف أهل الحكم والخطة الأممية، وإلى حقيقة، أن النظام الذي لم يقدم أي تنازل سياسي في سنوات فشل خياره الحربي، لن يتنازل اليوم بعد نجاحه في استرداد مناطق مهمة، كمدينة حلب شمالاً، ليغدو بداهة، أكثر تصلباً لرفض الحوار وأقل استعداداً للتفاوض، فكيف الحال وهو خير من يدرك أن إطلاق العملية السياسية سيفضي إلى إعادة بناء المواقف والاصطفافات بصورة لا ترضيه وتمنعه من التوغل أكثر في خياره الحربي، وتفضح عجزه عن إعادة إنتاج بعض الشرعية والاستقرار بعد هذا الفتك والدمار وبعد الشروخ العميقة التي أحدثها في المجتمع! وكيف الحال مع تبلور مراكز أمنية وعسكرية أفرزتها الحرب المديدة، ليس لها مصلحة في أية تهدئة أو استقرار، تستمد سطوتها وامتيازاتها من استمرار الفوضى، وقادرة بما تمتلكه من إمكانات على إفشال أية عملية سياسية بالتناغم مع جماعات من الطينة ذاتها تحسب على المعارضة المسلحة!
وكيف الحال مع تنامي خشية المرتكبين السلطويين من أن يرافق الحل السياسي جردة حساب وعقاب على ما اقترفته أياديهم، ربطاً بما كشفته المعلومات والوثائق مؤخراً عن فظاعة ممارساتهم! ولا يغير هذه الحقائق بل يؤكدها استجابة النظام الخبير بتمييع المفاوضات وإغراقها بالتفاصيل، لإملاءات موسكو وقبوله شكلاً مناقشة الانتقال السياسي، ما دام يستثمر ذلك لتسعير سخريته من المعارضة والإمعان في تشويهها، ولتغطية الضربات الكثيفة في مناطق الهدن القريبة من العاصمة لإرغام أهلها على الاستسلام التام، كما يحصل اليوم في حي القابون الدمشقي.
صحيح أن أهم أطراف المعارضة السورية تنادي بالحل السياسي، وصحيح أنها غير قادرة على القبول بتسوية لا تلبي مطالب الناس في الحرية والكرامة، لكن ذلك لن يثمر ما لم ترتق بمسؤوليتها الوطنية تجاه محنة السوريين ومعاناتهم الإنسانية، وتتمثل دروس الثورة، وأوضحها نشر ثقافة تدين العنف والإكراه وتنبذ التباهي بعقلية المكاسرة والغلبة، وأهمها إطلاق المبادرات لتثقيل الوجه السياسي والمدني لقوى التغيير، ما يبدد مخاوف المجتمع الدولي ويشجعه على دعمها كبديل للنظام ويمنحها الثقة لقيادة المرحلة الانتقالية.
وبينما يتحدث الجميع عن أخطار استمرار الصراع ويروجون للخيار السياسي، فإن فرصة الحل تبقى ضعيفة ما دامت الأرضية المشتركة التي يمكن البناء عليها ضعيفة، وما دام بعض أطرافها لا يدرك طبيعة الخيارات المتوفرة أمامه ويرفض تقديم أي تنازل، وما دام رعاتها يستهترون بالمخاوف الحقيقية للسوريين، ويفتقدون تصوراً واضحاً حول جذور الصراع والأدوات الناجعة للضغط على المتحاربين وإجبارهم على ترك ميدان العنف ومنطق القهر والتدمير والإفناء.
والحال هذه، يبدو أن الصراع السوري لن يشهد في وقت قريب حلاً سياسياً جراء صعوبة التوفيق بين مصالح متعارضة تمثلها قوى إقليمية ودولية وفئات من النظام والمعارضة، زادها تعارضاً ما كرسه طول أمد الصراع والعنف المفرط من شروخ وانقسامات، وإذا لم يحض الخراب المعمم وأنين الضحايا والمعذبين، تبلور قوى ورؤى سياسية تتطلع، بعيداً من أوهام الانتصارات والحسم، نحو التشارك في بناء مستقبل جديد تحدوه دولة ديموقراطية ومجتمع مواطنة لا مكان فيه للتمييز أو لحقد وانتقام، فإن البديل هو استمرار الحرب الإقليمية والدولية على أرضنا، وربما حتى آخر قطرة دم سورية.
حتى تسيطر ألمانيا النازية على فرنسا المحتلة في الحرب العالمية الثانية جاءت بفرنسيين وصنعت منهم حكومة من دمية، سُميت بحكومة فيشي، وذلك حتى تقنع العالم بشرعية وجودها. هذا ما يفعله نظام دمشق. فهو عندما تبين له أن للمعارضة شرعية تتجاوز شرعيته لجأ إلى حيلة اختراع جماعات تدعي المعارضة، وفتح لها باب العمل في دمشق، وأرسلها للعواصم الموالية له، مثل طهران وموسكو، تفاوض بالنيابة عن المعارضة. ولأكثر من ثلاث سنوات لم يصدق أحد هذه المسرحية، التي تسمى بمنصة موسكو ومنصة القاهرة، مجرد ملحق بالنظام السوري.
نظام دمشق، من خلال روسيا، أصرّ على فرض هذه الجماعات المزورة في مفاوضات جنيف، وبعد أن وافق المبعوث الدولي على إشراكها، الآن تصر موسكو على أن تدمجها ضمن وفد المعارضة الحقيقي! وعندما رفضت المعارضة الحقيقية ضم المزورة إليها اتهمتها بتخريب المفاوضات!
ولم يعجب الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا رفض المعارضة، وقالت إن «الهيئة العليا للمفاوضات ترفض التعاون على مستوى متساوٍ مع منصة موسكو ومنصة القاهرة وتقوض بحكم الأمر الواقع الحوار».
بعد إشراك منصتي موسكو والقاهرة أصبحت مفاوضات جنيف مهزلة سياسية هي الأسوأ في التاريخ، ولا نعرف لها مثيلا، حتى حكومة فيشي المزورة كانت أكثر نزاهة منها. في رأيي لم يعد هناك معنى لاستمرار المعارضة، أي الهيئة العليا للمفاوضات، في المشاركة، بعد أن سلبوا منها كل شيء، حتى حق تمثيل أنفسهم كمعارضة.
أصبح كل شيء يمثل النظام مزوراً، فلا الجيش جيشه، ولا معارضوه الذين يصر على التفاوض معهم هم حقاً معارضوه. وقد اشتهر نظام الأسد بتلفيق الشعارات من قومية وعروبة وديمقراطية، وتزوير الانتخابات، واختراع تنظيمات مفبركة مثل «فتح الشام» نيابة عن المقاومة الفلسطينية في لبنان، و«الجهاد الإسلامي» في غزة. وعندما قرر اغتيال رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الأسبق، في عام 2005، صنع تنظيماً سماه «جند الشام»، وأنتج شريط فيديو يزعم فيه شخص اسمه أبو عدس أنه الانتحاري، وتبين للعالم لاحقاً أنها رواية مكذوبة، حيث أظهرت التحقيقات الدولية أسماء الفاعلين الحقيقيين المرتبطين بالنظام في دمشق. وفعل أكثر من ذلك في حرب العراق بعد الغزو الأميركي حيث أسس، بالتعاون مع إيران، تنظيمات ادعى أنها مقاومة إسلامية وبعثية.
هذه المنصات المعارضة، واجهات تقدم مطالب النظام وتدافع عنه، وما دامت موسكو وإيران تساندان هاتين المعارضتين فالأجدى أن توقع معهما الاتفاق في طهران وتنهي هذه المهزلة.
يتكرر سيناريوا المشهد في كل مرحة من الصراع الداخلي بين مكونات الثورة السورية العسكرية، تبدأ بين كل طرفين متخاصمين بتصرفات فردية سرعان ما تنتقل لزج الفصيلين في حرب باردة وتوعد وتدخل للعلماء والشرعيين في الحل، ومع تعنت الطرفين وعدم وجود ضوابط قضائية موحدة تلزم الطرف المعتدي بالرجوع عن عدوانه وتحاسب المسيىء على إساءته وترد المظالم والحقوق لأصحابها فإن الحل لابد له من أن يتعذر ويعود الصراع للواجهة من جديد، مع النزعة للسيطرة وتقوية النفوذ التي يمتلكها كل طرف لاسيما الفصائل الكبرى التي تتمتع بالقوة.
ومع عودة التوتر تبدأ الحرب الإعلامية التي تحاول اثبات أحقية الطرف الأول تقابلها حرب إعلامية مضادة من الطرف الآخر، فتبدأ على لسان بعض القادة والشرعيين على مواقع توتر والمناصرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وسط تسيير الأرتال والتحشدات في المناطق الرئيسية والطرقات وتجييش الكتائب والمقاتلين ضد الطرف الآخر، تليها مرحلة البيانات الرسمية التي تدعوا لتحكيم الشريعة وأي شرعيه منها ..؟؟ ، ثم تنطلق الفتاوى الشرعية لشخصيات محسوبة على هذا الطرف أو ذاك فيبدأ الشحن وتبدأ المعركة بالظهور، وتسير الأرتال ويغفل الجميع عن جبهات النظام وتبدأ حلبة الصراع في المحرر، فتحرر البلدة ربما مرات ومرات، ليس من نظام أو شبيحة او شيعة بل ممن كانوا بالأمس رفقاء سلاح وخندق وأخوة في الدين والعقيدة والثورة، فتسيل الدماء المعصومة وتنزف الجراح.
دور "قوات الفصل" في كل مرة أمر ضروري يعلنا فصيل محايد فيدخل بين الطرفين المتصارعين محاولاً الحل، وأي حل يحل وسط تعنت الطرفين وإصرار كل منهم على انه الأحق وصاحب الحق، إلا من كان ضعيفاً لا يملك قوة يجابه فيه فصائل تكتلت وأجمعت على قتله وذبحه فما عليه إلا التسلم والاستسلام، وإصدار البيانات المطالبة بتحكيم الشرع، وانتقاد الطرف المعتدي بانه رفض الشرع والتحكيم، فيزول طرف وينتصر الآخر، نصر على الثورة لا لأجلها.
ففي كل صراع شهدته المناطق المحررة بين الفصائل يتكرر نفس المشهد ونفس السيناريوا مع اختلاف الأسماء والمسميات والحجج لإنهاء فصيل تتوحد ضده عدة فصائل أخرى، وهو يستجدي الدعم من فصائل تختلف مع تلك "الأخرى" في الرؤية والمصالح والمنهج والفكر فيدور الصراع على حلبة المحرر، لايراعي أي طرف حرمة الدماء المعصومة بينهم، ولا خجل او مراعاة لذوي الشهداء ممن يترقبون اقتتال الأخوة ممن ظنوهم سيحركون الجيوش للثأر لأبنائهم، ولا منظر المجازر التي ترتكبها طائرات الأسد وروسيا بحق المدنيين تاركة أرتالهم تتحرك للقتال.
وفي كل معركة وصراع يخسر الشعب الثائر المزيد من أبنائهم وقوداً لحرب المتصارعين، فهذا بالنسية للقادة السادة أمر طبيعي وفاتورة لابد من تقديمها لإعلاء كلمة الله، ونصرة شرع الله، ونصرة الدين، ليس بقتل الأسد والميليشيات بل بقتل من هم خطر على الثورة برأيه وبتصوره، فتنظيف البيت الداخلي أولى قبل الانتقال لتحرير سوريا، وعن أي بيت داخلي بقي للثوار وأي مناطق محررة بقيت بأيدينا ...؟؟؟؟
ويختلف الصراع بين مكونين يختلفان في الفكر وبين آخرين يتفقان، ففي مراحل الصدام بين "الإسلامي" و "الحر" فالإسلامي على حق بالفطرة، فهو الأقوى وصاحب الحجة الشرعية، والقبضة العسكرية، والتحالفات العسكرية، اما "الحر" فلا قوة تدافع عنه أو تناصره، وهو عميل للغرب والشرق والجنوب حتى، يحصل على دعم أمريكي ويقاتل بسلاح صليبي، لا بد من إنهاء وجوده ولا يتطلب الامر إلا حملة إعلامية وحشد أرتال عدة والسيطرة على كامل العتاد والمقرات، أما النداءات للتحاكم للشرع فلا تلبث ان تأخذ حدها وسط تراخي الأقوى في الرد على الوساطة، إلا ويكون فصيل "الحر" قد انتهى وبات السلاح الصليبي الحرام بيده حلالاً بيد الأقوى صاحب الحجة والدليل والسيطرة.
أما صراع الفصائل "الإسلامي - الإسلامي" فله منحى آخر مختلف تماماً ولو تشابه في بعض السيناريوهات مع غيره وبعض المراحل قبل الإغراق في الدم، فلا بد من مناظرات شرعية وإثبات أحقية ولقاءات واجتماعات، وتبرير للفصائل المشابهة في الفكر، وإدخالها كطرف راعي لأي اتفاق، ثم بعد انعدام الحلول لابد من بيانات وفتاوى، وتمهل خوفاً من سفك الدماء، ثم حرب باردة قد تطول يسعى فيها طرف لاستمالة بعض مكونات الطرف الآخر، وسط تململ وتراخي وخوف من سفك الدماء "للمجاهدين" ثم يصل الحد لأقصاه وتدور رحى المعركة، تطول وتطول ويسقط فيها العشرات من الضحايا دون منتصر، فيتدخل طرف ثالث ويفضي لحل ينسحب من كان من المفترض "باغياً" بسلاحه وعتاده لمنطقة أخرى ينهي بذلك الصراع.
أما نتائج الصراع فواحدة في كل مرة فمكونات جميع هذه الفصائل ليسوا من كوكب المريخ بل هم من أبناء هذا الشعب السوري الثائر ضد نظام الأسد، من أبناء من تكاتفت كل قوى الشر ضده واجمعت على قتله، من أبناء الشعب المكلوم الذي يترقب صراعات الفصائل واحدة تلو الأخرى تقتل بعضها البعض وتزهق أرواح أبنائه، وتضيق به المساحة ويهجر ويقتل وتجهز المخيمات وسط المعاناة المريرة التي لم يكترث لها أي فصيل، وضياع الأمن وانتشار الاغتيالات والتصفيات والاعتقالات، كل ذلك والأخوة يتصارعون على أرض تضيق بهم يوماً بعد يوم، وبعد كل صراع لابد للمنتصر من معركة أو عملية ضد النظام تسهم في إعادة رفع رصيده وشعبيته..
للمرة الأولى تندفع تركيا وإيران إلى صراع سياسي مفتوح. وتطغى الاتهامات المتبادلة بينهما على شبكة مصالحهما الاقتصادية والتجارية. من قرنين تقريباً، منذ الحرب بين الامبراطوريتين مطلع القرن التاسع عشر، لم يبلغ التنافس بينهما هذا المنحى التصعيدي.
يعصب أن ينزلق البلدان إلى مواجهة عسكرية مباشرة. ثمة وكلاء على الأرض يمكن دفعهما إلى القتال، خصوصاً في كل من العراق وسورية. وهو بدأ في سنجار للتضييق على آخر معاقل الحضور التركي مع اقتراب نهاية معركة تحرير الموصل من قبضة «داعش». وقد يمتد إلى الشمال السوري كلما اقترب موعد الحملة الحاسمة على الرقة.
هذا التدهور غير المسبوق في تاريخ العلاقة بين طهران وأنقرة كان نتيجة طبيعية لتطور الأحداث في المنطقة المجاورة لكليهما. ونتيجة للمشهد الاستراتيجي الجديد في الإقليم. ولن يستقر التوتر بينهما، أو تعرف وجهته قبل أن ينجلي مسار التسوية السياسية في سورية ومعرفة طبيعة النظام المقبل في دمشق وإجراء حسابات الربح والخسارة. وقبل معرفة التداعيات التي سترافق استعادة الموصل من أيدي «دولة البغدادي». وكلا الأمرين مرتبط إلى حد كبير بسياسة الإدارة الأميركية الجديدة حيال الشرق الأوسط والجمهورية الإسلامية، وعلاقتها مع روسيا.
التوتر بين طهران وأنقرة لم يأتِ من فراغ. سبقته مقدمات قديمة وجديدة. منذ اندلاع حرب الخليج الأولى غلبت العاصمتان مصالح بلديهما الاقتصادية والتجارية على ما عداها من خلافات وتناقضات. وشكلت تركيا بوابة ومتنفساً لإيران أثناء حرب الخليج الأولى، ثم أثناء فرض العقوبات الدولية عليها بسبب برنامجـــها الـــنووي. بل كثيراً ما كانت أنقرة تنافح في مواجهة شركائها الأطلسيين لمنع الحرب على الجمهورية الإسلامية عندما كانت واشنطن تلوح بالخيار العسكري لوقـــف هذا البرنامج. وحتى عندما سقط الاتحاد السوفياتي لم يصل الأمر بين الدولتين إلى حد التوتر الحالي، على رغم تسابقهما على تركته في القوقاز ووسط آسيا. وكذلك مع اندلاع ما سمي «الربيع العربي» تنافستا على احتضان الحراك في عدد من الدول. ولكن مع اندلاع الأزمة في سورية بدأ بينهما صراع صامت. واتخذتا موقفين متناقضين معروفين لم يوقفا عجلة اتفاقاتهما الاقتصادية والتجارية.
لكن ظهور «داعش» ثم بدء الحرب الدولية للقضاء على «دولة الخلافة» رفعا وتيرة التنافس بين إيران وتركيا. لكن طهران التي نشرت ميليشياتها ووقفت إلى جانب النظام في دمشق، ثم أنشأت قوات «الحشد الشعبي» في العراق، لم تشعر بأن أنقرة ستكون قادرة على الفوز بقصب السبق. أو أنها ستكون قادرة على تغيير مجرى الأحداث في البلدين... إلى أن كان التدخل العسكري الروسي الذي شكل تهديداً لمشروع الجمهورية الإسلامية في بلاد الشام. وحد من نفوذها وقدرتها على المناورة. ثم جاء التفاهم بين الرئيس فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان ليثير حفيظتها ويفاقم هذا التهديد لدورها. وزاد الأمر تعقيداً أن إدارة الرئيس دونالد ترامب أعلنت صراحة أن من أولويات مهماتها القضاء على الإرهاب، ثم محاصرة الدور الإيراني في الإقليم. ليس في بلاد الشام فحسب بل في المنطقة كلها. أي أن العاملين الأميركي والروسي خلقا تحدياً مريراً لتمدد الجمهورية الإسلامية إلى شرق المتوسط، وسيطرتها على «العواصم العربية الأربع».
وبالتأكيد يسعى أردوغان إلى ملاقاة استراتيجية نظيره الأميركي. إنها فرصته للحد من نفوذ غريمه الإيراني. كما أن الصراع الصامت بين موسكو وطهران على سورية يدفعه إلى استغلال تفاهمه مع بوتين من أجل تمكين حضوره في الشمال السوري والتوسع جنوباً نحو الرقة.
إلى هذه المعطيات المستجدة، يواجه الرئيس أردوغان استحقاقاً كبيراً على مستوى الداخل. أفاد من المحاولة الإنقلابية الفاشلة ليرسخ أقدام حزبه في إدارة البلاد، وتبديل هوية الدولة العلمانية كلياً. وهو يستعد للاستفتاء على دستور جديد يحول النظام رئاسياً، مما يتيح له جمع معظم السلطات التنفيذية بيده والتفرد بالقرارات من دون سائر السلطات والقوى والأحزاب الأخرى. واتجه سريعاً نحو دول الخليج ليعزز قاعدة سياسته الخارجية، إلى جانب رهانه على التفاهم مع نظيريه الروسي والأميركي. إنها رسالة إلى الداخل التركي ليرفع رصيده حارساً لمصالح أهل السنة في الإقليم كله. لكنه يدرك في قرارة نفسه أنه يستخدم السلاح ذاته الذي يتهم إيران باستخدامه في بسط سيطرتها على الإقليم. وطهران في المقابل ترى أن للصبر حدوداً حيال الحملة التركية. فالقوى السياسية في الداخل تستعد هي الأخرى لمعركة الانتخابات الرئاسية وسط تجاذب كبير بين التيارين الإصلاحي والمحافظ. وكلاهما يحتاج إلى خطاب شعبي عالي اللهجة يؤكد حرصهما على المصالح العليا للبلاد وحلفائها من مكونات شيعية في المنطقة. كما أن النخبة الحاكمة في الجمهورية الإسلامية تتوجس من احتمال التفاهم بين واشنطن وموسكو. وهي تدرك أن المقايضة لن تكون على شبه جزيرة القرم. من السهل أن يوافق الكرملين على وقف مزيد من تفتيت خريطة أوكرانيا. وفي مقابل رفض المساومة على حضور روسيا في سورية وقواعدها في هذا البلد، يمكن أن يضحي برأس النظام في دمشق وتعديل دستور البلاد على نحو يشرك المزيد من القوى والمكونات في إدارة الدولة ومؤسساتها. وهذا ما يخشاه النظام الإيراني الذي استثمر الكثير وقدم تضحيات بشرية ومادية طوال سنوات للحفاظ على الحكم في دمشق. لذلك استعجلت إيران الحصول على امتيازات اقتصادية في مجال الاتصالات، وفي مناجم الفوسفات والتنقيب عن النفط والسعي إلى مرفأ على الساحل يكون شرفتها على المتوسط. مثلما استعجلت بغداد للتفاهم معاً على ربط نفط كركوك بخط من الأنابيب نحو ساحلها على الخليج، في حين لا يحتاج العراق عملياً إلى بديل من خطه التركي. وهي تعمل على إيجاد بوابة اقتصادية نحو أوروبا بديلاً من البوابة التركية. أي فتح ممر من الخليج العربي إلى البحر الأسود، يتجه صعوداً نحو أرمينيا وأذربيجان وجورجيا ثم بلغاريا واليونان.
لكن هناك سقفاً للصراع بين تركيا وإيران وحدوداً تحول دون تمكينهما من تحقيق طموحاتهما، أو الذهاب بعيداً نحو مواجهة عسكرية مباشرة، خصوصاً في بلاد الشام. صحيح أن طهران بدأت بتحريك بيدقها الكردي، فضلاً عن اعتمادها على جيش كبير من الميليشيات في كل من سورية والعراق. لكنها لا يمكنها المجازفة بتعميق الخلاف مع أنقرة بما يمكن هذه من قيادة تحالف إسلامي واسع ضدها في حين تحتاج إلى تضامن إسلامي يساهم في حمايتها من «الهجمة» الأميركية المتوقعة عليـــــها. كما لا يمكنها تغيير قواعد التفاهم الاستراتيجي مع تركيا على خنق تطلعات الكرد في الإقليم، إذا كان الأمر خرج من أيديهما أو يكاد في كردستان العراق. إضافة إلى ذلك إن تفاهماً بين الرئيسين ترامب وبوتين قد يعوق مشاريعهما في مد النفوذ على المنطقة العربيــــة. لذلك جل ما تراهن عليه الجمهورية الإسلامية هو اندلاع حرب باردة جديدة بين القوتين الدوليتين لا تجد موسكو مفراً عندها من تمـــتين تحالفها معها بمواجهة جبهة واسعة من أنقرة إلى الرياض. وكــــذلك الأمــــر بالنسبة إلى الرئيس أردوغان الذي لا يمكنه الوقوف بمواجهة تفاهم محتمل بين نظيريه الأميركي والروسي، وكلاهما يضع له اليوم حدوداً لطموحاته في المشرق العربي، وهما سيغلبان مصالحهما الاستراتيجية على أية مصالح أخرى. كما لا يمكنه، في حال لم يتوصلا إلى الصفقة المحتملة، أن يقيم داخل تحالفين متصارعين، أو على خيط رفيع من توازن هش في العلاقة بينهما. وهو يدرك حجم القضايا العالقة بينه وبين الكرملين في القوقاز وآسيا الوسطى، إضافة إلى الصراع على خطوط الغاز. ويعي أيضاً حدود قدرته على مواجهة حضور روسيا في سورية، والنفوذ العميق لإيران في العراق. فضلاً عن أن موسكو التي تكافح الإسلام السياسي تتوق إلى دور للجيش المصري في سورية يعزز قبضتها على المؤسسة العسكرية السورية التي ترتبط بعلاقات تاريخية مع نظيرتها المصرية. وإذا تحققت لها هذه الرغبة التي تشاركها فيها القاهرة أيضاً، تنتفي حاجتها إلى إيران وميليشياتها، وإلى تركيا والفصائل التي ترعاها.
الصراع المفتوح بين تركيا وإيران سيظل محكوماً بمسار التسوية السياسية في سورية، ومآل المواجهة القادمة بين واشنطن وطهران، ومستقبل العلاقات بين إدارة الرئيس ترامب والكرملين. وسيظل محكوماً بالقدرة المحدودة للطرفين على تغيير المعادلات ورسم خريطة جديدة للمصالح المتشابكة في الإقليم. ولا يمكن في النهاية تجاهل الكتلة السكانية الكبرى في المشرق العربي ومواصلة الرهان على الغياب العربي، حكومات وأنظمة وشعوباً. لذلك سيكون ذهابهما بعيداً في المواجهة إلى حافة الهاوية أو الصدام المباشر كمثل من يشعل النار في حديقة داره، أو يجازف بخسارة مكاسب يمكنه الحفاظ عليها عندما يحين زمن الصفقة الكبرى وبناء النظام الإقليمي الجديد.
لم تكن مهمَّة تركيا العسكرية في سورية خفية المرامي والغايات، فقد أعلنت أنقرة، منذ بدء عملية درع الفرات، أنَّ وجودها مقتصر على محاربة تنظيم داعش من جهة، والحيلولة دون تمدّد حزب الاتحاد الديمقراطي الطامح إلى السيطرة على كامل الشريط الحدودي مع تركيا، فإذا كانت مسألة التدخل تلك خطباً لود الرأي العام الدولي المعادي لداعش، فإن التدخل لضرب "الاتحاد الديمقراطي" وإبعاد شبحه تسعد المؤسسة العسكرية التركية والرأي العام التركي المعادي لأي مشروعٍ كرديٍّ في سورية. وفي مقابل ذلك، اعتذرت تركيا للروس فيما خص أقوال بعض مسؤوليها الذين هموا بالقول إن إحدى غايات التدخل التركي محاربة النظام، الأمر الذي يجعل من مسألة التدخل ثنائية الغايات، ولا تقبل غاياتٍ إضافية.
نجحت تركيا نسبيّاً في إفشال خطة التمدّد الكردية الرامية إلى وصل "الكانتونات" الكردية الثلاث، عبر قطعها الطريق على التقدم الذي خاضته القوات الكردية وقوات سورية الديمقراطية (قسد) باتجاه عفرين، ثالثة الأثافي في مشروع الإدارة الذاتية ثم مشروع فيدرالية شمال سورية، ذلك أن وصل الجزيرة بمدينة عين العرب (كوباني) حرّك مشعر الخطر التركي حول مصير الربط القادم بين كوباني وعفرين، ودفعها إلى اتباع سياساتٍ أكثر جذريّةً وتسارعاً.
في هذه الغضون، وفي خطوةٍ استباقية، أعلن مجلس منبج العسكري عن تسليم القرى التابعة إدارياً لمدينة منبج (إحدى أكبر مدن الشمال السوري الحدودية) إلى قوات النظام السوري، وبرعاية روسيّة، لتضمن روسيا بذلك عدم تقدّم قوات درع الفرات المشفوعة بزخم عسكري ولوجستي تركي إلى مشارف مدينة منبج، وفي البيان الذي سطَّره مجلس منبج العسكري المنضوي في قوات سورية الديمقراطية، وردت عبارة كاشفة حول غايات تسليم المناطق المحاذية مدينة الباب، والواقعة غربي منبج بأنه عمل يهدف إلى "حماية الخط الفاصل بين قوات مجلس منبج العسكري ومناطق سيطرة الجيش التركي ودرع الفرات"، ليرسم هذا القرار مجدّداً دوائر شكوك إضافية حول علاقة قوات سورية الديمقراطية بالنظام، ومن ورائها روسيا، لكن الشكوك سرعان ما تتلاشى حال الوقوف على سياسات ومواقف براغماتية عديدة لحزب الاتحاد الديمقراطي وقوات قسد التي تتغير بسرعة، حين تشعر بالخطر التركي الجارف، والذي تعتبره خطراً وجودياً؛ وما تسليم المناطق الواقعة تحت سيطرتها إلى النظام برعاية روسية إلّا تجرعاً لسم أخف وطأة من سم التقدّم التركي.
تبدو هذه الخطوة مثيرةً، ومربكة لجهة أنها تزج العلاقة الروسية - التركية إلى اختبار جديد، فالدخول التركي كان مشروطاً بألّا تعمد تركيا والقوات السورية المعارضة الموالية لتركيا إلى أي صدام مباشر مع قوات النظام، ولعل روسيا لا تدخر كبير صبرٍ حول الرد على أي اختراق عسكري يعزّز موقع قوات درع الفرات على حساب وجود النظام السوري. وعليه، أفسحت خطوة الاتحاد الديمقراطي ومجلس منبج العسكري المجال للنظام والروس في الحلول مكانها في أكثر المناطق اضطراباً كان ضرباً من البراغماتية الصرفة، على الرغم مما سينجم عن هذه الخطوة من انتقاداتٍ حادة للاتحاد الديمقراطي وقوات سورية الديمقراطية، على اعتبار أن كل كيلومتر سيطرت عليه تلك القوات كلّف مقداراً غير قليل من التضحيات البشرية والمادية، ناهيك عن فكرة تراجع المشروع القائل بتوصيل الشمال السوري. لكن، في مقابل ذلك، يسيطر السؤال العملي على خطوة "قسد" أخيرا، إذ يكون السؤال، ما البديل عن الانسحاب وتسليم تلك المناطق لقوات النظام؟ ولن تكون إجابة مفيدة إمكانية الدخول في صراع مفتوح مع الجيش التركي وقوات درع الفرات!
في إزاء ألعاب الشطرنج التي تخوضها تركيا في مواجهة خصمها، حزب الاتحاد الديمقراطي، ما الذي يمكن توقعه من تركيا للرد على هذه الخطوة الاستباقية، وهل ستتوقف تركيا عن مهمة فصل الكانتونات الكردية الثلاث، كما فعلت في تجميد التمدّد الكردي في حالة قطع الطريق على وصل كوباني بعفرين؟ الغالب أن تركيا ستسعى إلى توطيد دورها بخصوص محاربة "داعش"، وستستخدم هذه الورقة غطاءً لتقدم قواتها في المنطقة الواقعة بين الجزيرة وكوباني، لجهة فصل هذين "الكانتونين" المتصلين حالياً، فالتماس تركيا الإذن من الأميركان بإعطائها مسافة 18 كم عرضاً بالقرب من تل أبيض سيشكّل الخطة التركية البديلة عن تقدم قواتها المتعثر باتجاه منبج، ودائماً تحت شعار محاربة داعش والاشتراك في معركة الرقة.
صفوة القول، نجحت تركيا بفتح "الباب" الذي يدخل ريحاً عاتيةً، فهل سيكون بمستطاع قوات سورية الديمقراطية إغلاقه؟ يحدث ذلك في لحظة لا يعرف فيها كل طرف من أطراف الصراع في الشمال السوري نية أميركا وإستراتيجيتها، ما يفتح نافذةً للتساؤلات وأبواباً للحيرة.
في خطابه الأول أمام الكونغرس بوصفه رئيساً للولايات المتحدة، قبل أيام، طمأن دونالد ترامب حلفاء بلاده حول العالم، قائلاً: «سيجد حلفاؤنا أن أميركا، من جديد، جاهزة لتقود».
هل أميركا جاهزة فعلاً لاستعادة هذا الدور؟
في الواقع، يُظهر اختبار مرت به إدارة ترامب في شمال سورية، قبل أيام، أنها ما زالت غير جاهزة كلياً لامتحان طمأنة الحلفاء. لكن سقوطها في هذا الامتحان السوري لم ينجم بالضرورة عن عدم القدرة، بل عن العجز في تحديد من هم «الحلفاء»، أو على الأقل المفاضلة بينهم كونهم أعداء بعضهم بعضاً بمقدار ما هم حلفاء للأميركيين.
فقبل أيام كرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو «حليف» مهم للولايات المتحدة، تهديده بإرسال قوات «درع الفرات» لطرد «وحدات حماية الشعب» الكردية، وهي أيضاً «حليفة» للأميركيين، من مدينة منبج، بريف حلب. لم يكن هذا تهديده الأول، فقد أطلقه مراراً العام الماضي. في نهاية كانون الأول (ديسمبر)، سألت الكولونيل جون دوريان، الناطق باسم التحالف الدولي ضد «داعش»، عن موقف هذا التحالف من تهديد أنقرة بالزحف على منبج، فرد مشيداً بالحلفاء الأتراك وأهمية دورهم في الحرب ضد الإرهاب، لكنه لفت نظرهم إلى أن «داعش» لم يعد موجوداً في هذه المدينة بعدما طرده منها تحالف «قوات سورية الديموقراطية» الذي يضم الوحدات الكردية، في آب (أغسطس) الماضي. طالب دوريان جميع «الحلفاء» بالتركيز على عدوهم المشترك: «داعش». عندما جدد أردوغان تهديده بطرد الأكراد من منبج، قبل أيام، سألت الجنرال البريطاني روبرت جونز، وهو نائب قائد «قوة المهام المشتركة - عملية العزم الصلب»، عن موقف التحالف، فكرر العبارات نفسها التي رددها دوريان قبل شهرين ونيّف: تركيا حليفتنا ضد «داعش»، لكن هذا التنظيم ليس موجوداً في منبج، وعلى الجميع، بالتالي، توحيد جهودهم ضد «داعش» فقط.
لكن موقف التحالف لا يبدو أنه وجد آذاناً صاغية لدى الأتراك، إذ باشرت فصائل «درع الفرات» المدعومة منهم هجوماً كبيراً في ريف منبج. استهدفت تحديداً قرى يسيطر عليها فصيل «مجلس منبج العسكري» المتحالف مع الأميركيين في إطار «قوات سورية الديموقراطية»، لكن الأميركيين لم ينبسوا ببنت شفة ولم يُسجّل لهم أي تدخل للدفاع عن مناطق حلفائهم المفترضين، على رغم أن لديهم جنوداً ينتشرون إلى جانب «سورية الديموقراطية» في ريف منبج.
وعلى هذا الأساس، ليس هناك سبب يدفع إلى الاستغراب من الخطوة التي لجأ إليها «مجلس منبج» وحلفاؤه الأكراد، بعدما رأوا أن الأميركيين لم يهبّوا لوقف الهجوم التركي. فقد أعلن المجلس اتفاقاً مع روسيا يقضي بتسليم قوات الحكومة السورية القرى الواقعة على خط تماس مع الأتراك وحلفائهم في «درع الفرات»، وهو أمر أكدته وزارة الدفاع الروسية التي قالت إن الجيش السوري سيدخل مناطق الإدارة الذاتية الكردية في منبج. وإذا ما نجح الروس حقاً في وقف هجوم الأتراك على مناطق «سورية الديموقراطية»، فمن المشروع بالتالي التساؤل عما إذا كان الأميركيون فعلاً حلفاء للأكراد في سورية، أم أن روسيا هي حليفتهم الحقيقية؟
ويعيد هذا التساؤل القضية إلى نقطة البداية، أي محاولة ترامب طمأنة حلفاء أميركا. فإدارته، كما دلّت تجربة منبج، ما زالت، كما يبدو، حائرة. هل تختار الحليف التركي، وهو قوة عسكرية ضخمة ودولة مؤسسات مركزية، وصاحبة ثقل سنيّ، أم تواصل رهانها على الأكراد الذين أثبتوا، حتى الآن، أنهم قوة لا يُستهان بها في الحرب على «داعش»، لكن مشكلتهم أنهم ليسوا أكثر من «إدارة ذاتية» تتوسط محيطاً معادياً، من تركيا شمالاً، إلى إقليم كردستان العراق شرقاً، إلى «داعش» جنوباً، وفصائل «درع الفرات» غرباً، بالإضافة إلى «نصف تعايش - نصف طلاق» مع الحكومة السورية.
وهكذا، يبدو جلياً أن على إدارة ترامب أن تجترع صيغة تسمح لها بالتحالف مع عدوين لدودين، أو أن تفاضل بينهما. خطوة «مجلس منبج العسكري» بعقد الصفقة مع الروس تدل على أن ترامب لا بد أن يحسم قراره السوري قريباً. فربح الحليف التركي قد يعني في نهاية المطاف خسارة الكردي، وهو ما قد يؤثر في المعركة ضد «العدو المشترك» لجميع الحلفاء - الخصوم: «داعش».
ليس هناك من آصرة بين شعبين تعادل، في قوتها وحضورها، الآصرة التي تشد الشعبين الفلسطيني والسوري، أحدهما إلى الآخر. وليس هناك أي تاريخ آخر يجمع مواطني دولتين أشد تشابكاً وتداخلا من التاريخ الفلسطيني/ السوري، القديم منه والحديث.
هذا يعيه أعداء شعبينا من الصهاينة في فلسطين المحتلة إلى واشنطن إلى صهاينة دمشق/ طهران، الذين يتابعون لحظياً علاقة الشعبين التكاملية والجدلية، ويستميتون لإفشال نضالهما في سبيل هدفهما المشترك: الحرية. عندما ظهرت حركة فتح والمقاومة الفلسطينية واجهها عسكر طائفي، سوري وصهيوني إسرائيلي، ركّز الأول جهوده على تشويه سمعتها وتخويف السوريين من التفاعل الإيجابي معها، وعملوا للوقيعة بينهم وبين الفلسطينيين السوريين، فأصدرت وزارة داخلية الأسد تعميماتٍ متكرّرةً، طالبت فيها الأمن السياسي والشرطة بعزو كل جريمةٍ تقع في سورية إلى الفلسطينيين، وشنت مخابراته حملات قمع متعاقبة ضدهم، قوّضت مقاومتهم ضد الاحتلال من الأراضي السورية، واخترقتهم بواسطة تنظيماتٍ تجسّست عليهم أكثر مما قاتلت عدوهم، واعتقلت أو صفّت، في أحيان كثيرة، من حاولوا من مقاتلي التنظيمات الأخرى الدخول إلى الجولان. أما التبرير الذي سوّغت الأسدية سياساتها به، فاستند إلى ذريعتين مسمومتين، تقول أولاهما إن الفلسطينيين يوجّهون ضرباتٍ إلى العدو تشبه الوخز بالدبابيس، يردّ عليها بحملاتٍ موجعة، تضعف سورية واستعداداتها ليوم التحرير، فهي ضرباتٌ مشبوهة، إن لم تكن خيانية ومتفقاً عليها مع إسرائيل. وتقول ثانيتهما إن سورية قلعة المواجهة الوحيدة، فلا يحق لأي فلسطيني القيام بأي نشاط ضد اسرائيل، من دون موافقة قيادتها وإشرافها.
بالذريعتين، عمل الأسد لاحتواء ثورة فلسطين، وطالب أحد قادة "فتح" بالتحول إلى كتيبةٍ في قسم الاستطلاع التابع لجيشه، وحين تم تذكيره بطابع المقاومة الوطني، ردّ بجلافةٍ: نحن أرباب الوطنية، ونحن من سيحرّر فلسطين، بينما تعوق مقاومتكم العبثية انطلاقة التحرير وتخدم العدو.
رأى النظام الأسدي في نضال فلسطين الوطني تحديا له، قصده كشف تخاذله أمام العدو، فاعتبره موجها ضده في الداخل السوري، وإن لم يقم بعملياتٍ عسكرية فيه، ووضع له سقفا منخفضا يكتم أنفاسه، ويمنع تصاعده، ورأى في خفضه المتواصل نجاحا يريحه، فأربكه وأنهكه، وألب بقادته بعضهم ضد بعضٍ، وزايد على قوته الرئيسة "فتح ومنظمة التحرير"، وسعى إلى عزلها عربيا ودوليا، وللتشكيك بقدرتها على مواجهة العدو، بحجة أنها "حركة يمينية". وقد بلغت حماسته لإحراق " فتح" حدا جعله يكلف "يساريين" لبنانيين وعربا بتحريض البلدان الاشتراكية عليها، واتهامها بالعمالة، إنها ضد التدخل السوري في لبنان، مع أن هدفه إسرائيل (دخل الأسد باتفاق مع وزير خارجية أميركا، هنري كيسنجر، الذي وعده بحل في الجولان، إذا ضرب منظمة التحرير وأخرجها من لبنان)!.
واليوم، تبدو العلاقة التكاملية/ الجدلية بين نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني وثورة الشعب السوري ضد احتلاله أسديا واضحة كعين الشمس. صحيح أن السلطة الوطنية و"حماس" ليستا طرفا مباشرا في الصراع السوري، إلا أن إسرائيل واثقة من أن انتصار سورية سيقيم بيئة استراتيجية لن تترك لها أي خيار غير وقف الاستيطان والانصياع لحل الدولتين، وستواجهها بتحديات يصعب تجاوزها بالوسائل والسياسات التي هزمت، بمعونتها، نظم العرب عامة، والأسدي منها خصوصا. لذلك، واستباقا للأخطار، عليها تسهيل عمل الحشد الإيراني/ الارتزاقي/ الروسي الذي يساعد النظام على ضرب الثورة من جهة، وتسريع الاستيطان من جهة أخرى، والدفاع عن الأسد شخصيا في أميركا وبلدان الغرب، باعتباره حليفاً ضد عدو مشترك، لا يتردد في فعل أي شيء من شأنه تدمير وجود المجتمع الفلسطيني/ السوري وبعثرته في أصقاع العالم، اعترافا بجميل إسرائيل.
يعلم الصهاينة أن انتصار السوريين سيزيل نظاماً طائفياً خدمهم كما لن يخدم أحدا غيرهم، حكم أقلية طوائفية بأغلبية وطنية/ شعبية، اعتماداً على مؤسسة عسكرية/ أمنية، لا عمل لها غير إذلال السوريين، ومعاملتهم مخلوقاتٍ من درجة دنيا، لا يجوز أن يحكموا إلا بالعنف. هذا التداخل الوظيفي بين صهاينة دمشق وتل أبيب يغدو انتصار الثورة خطا أسديا/ إسرائيليا أحمر، لن يسمحا لها بتجاوزه، بما أنهما محكومان بآليةٍ تجعل انتصار فلسطين انتصارا لسورية، وانتصار سورية إنجازا حاسما لفلسطين، بينما رجحان كفة الأسدية انتصار للصهاينة، وخسارة جسيمة لفلسطين وشعبها.