أعلن المتحدث باسم تنظيم «النجباء» العراقي الإيراني أنه على استعداد مع عسكره لتحرير الجولان السوري (من إسرائيل) إذا طلب منه الأسد القيام بذلك. وهذا التحدي الإيراني لإسرائيل من جهة سوريا، سبقه تحدي الأمين العام لـ«حزب الله» لإسرائيل من جهة لبنان. أما رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، والذي يحرر بلاده من «داعش» بقيادة أميركية، فقال إنه سيظل يغير على «داعش» في البوكمال بسوريا لأنه من هناك تأتي السيارات المفخخة إلى بلاده!
إنَّ كلَّ هذه التصريحات عن القدرات الإيرانية من حول سوريا وإسرائيل، تأتي عشية زيارة نتنياهو إلى روسيا، لإقناع الرئيس الروسي بتقديم اعتبارات ومصالح الأمن الإسرائيلي على المصالح والاستراتيجيات القائمة بين الروس والإيرانيين. وهذا بينما يصرِّح الأميركيون أنهم يريدون إخراج إيران من سوريا.
ويضاف إلى تعقيدات المشهد إرسال أميركا قوات من المارينز إلى منبج للحيلولة دون الصدام بين قوات «درع الفرات» المدعومة تركياً، وقوات النظام السوري. وكان الروس قد أعلنوا قبل أيام أنهم مَن سيشكلون بقواتهم حاجزاً بين الجانبين. إنما معنى هذا الآن أنَّ الجنود الأميركيين هم الذين يواجهون الجنود الروس عبر كيلومترين أو ثلاثة.
لقد بلغ التدخل الروسي في سوريا ذروته منذ شهور. وتحالف الروس مع إيران، ثم تواصلوا ونسَّقوا مع تركيا. وما دعم الأميركيين على الأرض السورية فعلاً غير الأكراد، لكنهم في الوقت الذي يصعّدون تدخلهم في سوريا، فهم مضطرون للتنسيق مع الروس، ولضبط حركة الأتراك، وصاروا الآن يضبطون حركة الإيرانيين أيضاً. وبذلك فإنَّ كلا المتنافِسَين، التركي والإيراني، صارا وراء الأميركي والروسي، وتوشك الساحة السورية أن تصبح مجالاً للتعاون بين الأميركان والروس بمعزلٍ عن الإقليميين المتنافسين.
عندما كان الأميركيون أيام إدارة أوباما شديدي الحذر والانضباط ولا يريدون التدخل أكثر في سوريا، كانوا مصرين أن لا يصبح الإسرائيليون عاملاً بالداخل السوري. أما الإسرائيليون من جانبهم فكانوا يحفظون مصالحهم دونما تدخلٍ ظاهر، لكنَّ إعلان الإيرانيين تحديهم لإسرائيل من سوريا بعد لبنان، يهدد بأن يغير الإسرائيليون تكتيكاتهم وأن يتحولوا إلى طرف في الأزمة السورية، حفظاً لأمن الدولة العبرية، كما قالوا! فهل يقنعهم الروس بعدم التدخل؟ إذا كان ذلك فعلى الروس أيضاً أن يضمنوا عدم وجود الميليشيات الإيرانية في الجولان!
ما هاجم «حزب الله» إسرائيل منذ عام 2006، لكنه الآن يعيد سيرته الأولى، ويهدد باستهداف النووي الإسرائيلي أيضاً! ويستطيع نتنياهو الدفاع عن نفسه، لكنه يريد أن يمنَّ على الأميركان والروس؛ على الأميركان بسبب اتفاقية أوباما معهم، والتي يرى ترامب ونتنياهو أنها كانت لصالحهم. وهناك الملف الآخر، ملف التدخلات الخارجية والإرهاب، وترامب يريد ضبط إيران فيه أيضاً.
أما روسيا فدأبت على التنسيق مع إسرائيل منذ دخولها إلى سوريا، والزيارات المتبادلة كثيرة. وكان التنسيق من قبل بهدف «منع التصادم» بين الطيرانَين، حيث تنصبُّ الغارات الإسرائيلية على دمشق وما حولها لجهة الحدود السورية اللبنانية. أما ما تطلبه إسرائيل الآن من الروس فهو أكثر: منع الإيرانيين وميليشياتهم من التمركز بالجولان على مقربةٍ من الجيش الإسرائيلي. يقول الخبراء العسكريون الإسرائيليون إنَّ إيران ربما كانت تخرج لستر فظائعها في سوريا، ولتبرير اضطرارها لتخفيف وجودها هناك، لكن لا بد من الاحتياط والحذر ومنع الوجود بتاتاً لكي لا يحصل ما حصل بجنوب لبنان.
لقد كان لدى إيران خصوم في سوريا أهمهم التركي. أما اليوم فهي تجد نفسها في مواجهة أميركا. والمفهوم أنّ أميركا وقفت في وجهها وفي وجه تركيا في الشمال السوري. فماذا يفعل الإيرانيون إذن؟
إنهم اليوم يهددون إسرائيل من لبنان وسوريا، ويهددون الجميع من العراق. ويجيب الأميركيون أنهم منزعجون من الاتفاقية النووية، ومن إرهاب إيران وتدخلاتها الإقليمية. فهل يحصل الصدام؟ الغالب أنه لن يحصل بسبب وجود الروس والأتراك.. وإسرائيل. وما سوف يحصل عاجلاً هو ازدياد التنسيق بين الأميركان والروس، ليس من أجل ضرب «داعش» ومنع التصادم فقط، بل ومن أجل تثبيت وقف النار والسير في الحل السياسي.
جميع الأطراف المعنيين بالحرب في الرقة أمام خيارات صعبة. الإدارة الأميركية الجديدة تحاول عبثاً حتى الآن التوفيق بين الكرد وتركيا، خصوصاً في سورية. ترغب في التعاون بين الطرفين. لكن المسألة معقدة. وهذا ما دفعها إلى دخول منبج لقطع الطريق على أي مواجهة بين الطرفين. وأرسلت وحدة مدفعية من مشاة المارينز لمساندة «قوات سورية الديموقراطية» وجلها من وحدات «الحزب الديموقراطي الكردستاني» الذي ترى إليه أنقرة ذراعاً لـ «حزب العمال» المصنف إرهابياً أميركياً وأوروبياً وتركياً بالطبع. هذه الوحدة على قلة عديدها تشي صراحة بأن واشنطن تريد توكيد قدرتها على تحرير «عاصمة الخلافة» من دون الحاجة إلى سند تركي. أو أن هذا السند يجب أن يظل في إطار قيادتها. وتريد أيضاً أن تأخذ زمام المبادرة لحسم المعركة ميدانياً، تماماً مثلما أشرفت روسيا على إنهاء معركة حلب. بالطبع لا ترغب في مشاهدة الرئيس رجب طيب أردوغان يذهب بعيداً في «شراكته» مع الرئيس فلاديمير بوتين.
الرئيس التركي هو الآخر يخوض امتحان خيارات صعبة. يعول على تصحيح العلاقات مع واشنطن بعدما شابها فتور كبير أيام إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. وقدم جملة من التصورات والخطط للتعاون في تحرير الرقة. لكنه سرعان ما فوجئ بالعلم الأميركي يرفرف في منبج. وأدرك أن للرئيس ترامب تصوراً خاصاً. بل بدأت دوائر في حكومته ترتاب في أن الولايات المتحدة ربما تعمل على إقامة منطقة آمنة للكرد السوريين شرق الفرات تسهل لها حضوراً قوياً في بلاد الشام. والأخطر أنها تعي تماماً أن قيام كردستان جديدة شمال شرقي سورية تخضع لنفوذ عبدالله أوجلان يفاقم مشكلتها مع الأكراد في الداخل وعلى الحدود. هي تتعايش مع كردستان العراق حتى الآن لأنها تعول على تنسيق واسع مع رئيس الإقليم مسعود بارزاني. فالأخير يحتاج بدوره إلى توسيع دائرة تحالفاته لمواجهة صعوبات مصيرية. إنه على خلاف مع بغداد، ومع شركاء لدودين في الإقليم من حزب الاتحاد الوطني و «حركة التغيير»، وأخيراً مع «حزب العمال» الذي بات يقتطع مساحات واسعة في سنجار ومحيطها إلى داخل سورية في مناطق سيطرة «وحدات حماية الشعب»، وينسق مع «الجيش الشعبي» العراقي. لذلك لا يجد أردوغان بديلاً من مواصلة نهج التوجه نحو روسيا التي قدمت له دعماً في حسم معركة الباب بعد أشهر صعبة لم تحرك فيها قوات التحالف الدولي ساكناً لمده بالعون اللازم. لكن مشكلته أنه لا يمكن أن يجمع بيد واحدة بين القطبين الأميركي والروسي، علماً أن الطرفين قد يقبلان على مواجهة حول الدور الإيراني في المشرق العربي كله، إذا لم يتوصلا إلى تسوية أو صفقة تبدو بعيدة المنال حتى اليوم. وهو إنما يخوض صراعاً لتقليص نفوذ طهران، ولا يمكنه المغامرة في الخروج من حلف شمال الأطلسي مهما بالغ في التقرب من موسكو وفي توتير علاقاته مع أوروبا وألمانيا بالتحديد. علماً أن الكرملين اقترح صيغة دستور جديد لسورية يمنح الكرد ما يشبه الحكم الذاتي. ومعروف أنه اقترح في مناسبات سابقة صيغة فيديرالية. وهو ما لا يروق لأنقرة.
وتضيق الخيارات أيضاً أمام الرئيس بوتين. هناك تشكيك بأن تدخل قواته العسكرية وما حقق للنظام السوري من أرجحية ميدانية لم يترجم حتى الآن قدرة على تسويق تسوية سياسية ترغم شريكيه السوري والإيراني على القبول والانصياع لمشروعه أو خططه. وهو يدرك أن أي تفاهم محتمل مع واشنطن سيدفعه إلى مواجهة مع هذين الشريكين. فالإدارة الأميركية الجديدة لن تقبل ببقاء الرئيس الأسد، وتنادي من اليوم بوجوب خروج القوات الإيرانية وميليشياتها من سورية. وهي دعوة حملها إليه أخيراً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي أعلن أنه لا يمكن القبول بأن «يحل الإرهاب الإيراني مكان إرهاب داعش والنصرة». وطالب موسكو بضمانات لمرحلة ما بعد التسوية في سورية وأولها منع الجمهورية الإسلامية من تعزيز وجودها في بلاد الشام. وهو ما لا يقدر عليه الكرملين من دون المجازفة بعلاقاته مع طهران. أي أن التفاهمات التي كانت قائمة بين الرئيس بوتين ونتانياهو حتى الآن تواجه وضعاً جديداً الآن. ولا يمكن الزعيم الروسي في التحولات الجديدة التوفيق بين مطالب إسرائيل وطموحات إيران. أبعد من ذلك كان لافتاً أن موسكو أدت دوراً وسيطاً، في اجتماع أنطاليا الثلاثي لقادة الأركان الأميركي والروسي والتركي. نأت بنفسها عما يجري في منبج لأنها لا ترغب في صدام أميركي كردي - تركي قبل اتضاح مستقبل علاقاتها مع الإدارة الجديدة. علماً أنها لم تعد تعلق آمالاً واسعة على تنسيق أو تفاهم مع واشنطن، أقله في المدى المنظور.
أما إيران فقد تكون الأكثر ارتباكاً على أبواب تحولات استراتيجية مصيرية بالنسبة إلى مستقبل دورها في الإقليم. لا ترتاح بالتأكيد إلى سماع مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، بعد تصريحات نتانياهو، تساوي بين إخراجها ووكلائها من سورية وإخراج الإرهابيين منها أو «تأمين حدود آمنة» لإسرائيل. دائرة المواجهة مع الخصوم تتسع، من الخليج إلى تركيا. وتتوجس من تفاهمات بوتين مع كل من أردوغان ونتانياهو، واحتمال تصحيح العلاقات بينه وبين نظيره الأميركي. وهي تراقب بحذر توجهات حكومة بغداد نحو واشنطن والحضور العسكري المتنامي في كل من العراق وسورية. لم يكن كافياً رؤيتها دور القوات الأميركية في الموصل حتى جاء العلم الأميركي يرفرف في منبج على بعد مئات الأمتار من انتشار قواتها وميليشياتها. وهي باختيارها التسليم على مضض للشريك الروسي لخشيتها من خسارة آخر حليف على أبواب المواجهة المقبلة، تجازف بفقدان قدرتها على إرساء دعائم مشروعها في سورية مقابل ما ترسم موسكو من تسوية سياسية لهذا البلد، وما قد يحمله الانخراط الأميركي الجديد. أما الأطراف السورية المتناحرة فخياراتها تكاد تكون معدومة، ولا تحتاج إلى توصيف. النظام حائر بين حليفين لا يرحمان لا يملك القدرة على المواجهة من دونهما، وما بقي له من قوات أصابها الانهاك بعد ست سنوات. والمعارضة على حالها من الانقسام وفقدت المبادرة أمام لعبة الكبار، وارتضت فصائل كثيرة أن تنحني أمام الضغوط الإقليمية والدولية...
أمام هذه التعقيدات والتحالفات الدقيقة والهشة في آن والخيارات شبه المستحيلة للقوى المتصارعة في الساحة السورية تبقى التسوية بعيدة. صحيح أن إدارة الرئيس ترامب أبدت تأييدها لمساعي المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، لكن الصحيح أيضاً أنها لم تكن متحمسة إلى استعجال مفاوضات جنيف الأخيرة. ولن يطرأ ما يدفعها إلى تبديل موقفها. انطلقت من فشل الصيغة السابقة من التعاون بين وزير الخارجية السابق جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف. وتريد استعادة دور أميركا في المنطقة كلها والعودة الساحة السورية في مقابل تعثر أو تباطؤ الدور الروسي. لذلك لم يأت دخول قوات أميركية منبج للحؤول دون اندفاع تركيا جنوباً وتفادي الصدام مع الوحدات الكردية فحسب. بل إن هذا الدخول معطوفاً على تعزيز وجودها بوحدة مدفعية يضيف عنصراً جديداً إلى المشهد الاستراتيجي: لا بد من حضور أكبر على الأرض قبل البحث في أي تعاون كانت موسكو ولا تزال تعرضه على واشنطن. وربما يبدأ اختبار هذا العرض مع تصعيد الحملة على الرقة. ستكون مناسبة لاختبار قدرة الكرملين على التأثير أو الضغط على إيران ونظام الرئيس بشار الأسد. فهي لا ترغب في رؤية قوات النظام وحلفائها من الإيرانيين يملأون الفراغ بعد دحر «داعش». ولا ترغب حتى في رؤية قوات تركية أيضاً.
ومعروف أن ما يعوق تعاون واشنطن مع موسكو حتى الآن هو المستجدات التي تطرأ يومياً على قضية الاتصالات بين عاملين في إدارة ترامب أو قريبين منه ومسؤولين روس أثناء الحملة الانتخابية. في أي حال إن غياب مثل هذا التعاون مع رفع وتيرة التدخل العسكري يفاقم مسار التسوية. فكثيرون في موسكو باتوا يشعرون بخيبة أمل. ويستبعدون قيام تعاون واســع بين بلادهم والولايات المتحدة. وينعكس هذا بدوره على غياب التعاون بين القوتين الكبريين والأطراف الإقليميين. من هنا يبدو أن الانخراط الأميركي قد يتصاعد في ساحة تزداد ازدحاماً وتشابكاً، خصوصاً أن إدارة ترامب لم تقدم شرحاً وافياً عن أهداف هذه الخطوة. فهل هي بداية استراتيجية واضحة لما تريده في سورية أم أن الأمر لا يعدو كونه خطوة عسكرية لمنع «داعش» من التمدد والحؤول دون صدامات في الميدان تعوق معركة تحرير الرقة. إن استئناف جولة المفاوضات في جنيف بعد أيام سيشكل امتحاناً لتوجه واشنطن التي لا شك في أنها ترغب في دور قيادي للتسوية بعد فشل الجولات الثلاث السابقة... فهل تقدم؟ وهل ترضى موسكو بمزيد من التقاسم والشراكات في سورية على حساب دورها الأساس؟ أم أن الجولة الرابعة المقبلة ستكون الأخيرة؟
كلما دخل الأميركيون بلداً لا يخرجون منه. "ثقافة" ترسّخت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وتنامت على مدار سنوات ما بعد الحرب الباردة (1947 ـ 1991) وسقوط الاتحاد السوفييتي (1991). يمكن النظر إلى خريطة الكرة الأرضية، ورؤية المواقع الأميركية، من اليابان إلى ألمانيا إلى الخليج إلى المحيط المتجمّد الجنوبي. يبقى الوجود العسكري الأميركي، في بلدان عدة في العالم، ولو بصورة "رمزية" في بعضها، من أبرز عناصر القوة التي يستمدّ منها أبناء العم سام "عظمتهم" العالمية.
لم يتغير الأميركيون قط. هم هم. دائماً وأبداً. تغيرت التكتيكات، لكن الاستراتيجية واحدة: المزيد من الانتشار العسكري في العالم. آخر بوادر هذا النوع من الانتشار بدأ في سورية. القوات الأميركية تتدفق إلى الشمال السوري، خصوصاً على تخوم منبج. ألف عنصر تقريباً باتوا على "أهبة الاستعداد للوقوف قوة ردع لمنع أي اشتباك بين الروس والأتراك وقوات سورية الديمقراطية ودرع الفرات وغيرهم"، حسبما أعلنت واشنطن قبل أيام.
في هذا النوع من الإعلان، تبقى ظلال إدارة باراك أوباما مهيمنة عسكرياً. أوباما صاحب فكرة "المستشارون العسكريون"، وهي عبارة ملطّفة، للتغطية على قراره عودة القوات الأميركية إلى العراق في الأعوام الثلاثة الماضية، بسبب نمو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). تحوّل "المستشارون" إلى تحالف دولي يؤمن التغطية الجوية والبرية للقوات العراقية الزاحفة إلى الموصل، شمالي العراق لتحريرها من "داعش".
ليس الأميركيون وحدهم في العراق، للإيرانيين تأثير سياسي، وتأثير عسكري عبر "الحشد الشعبي". الوضع في سورية أكثر تعقيداً. الأميركيون، مبدئياً، متأخرون عن الروس والأتراك والإيرانيين، لكنهم باشروا العمل في أكثر منطقة حساسة ميدانياً في الوقت الحالي: منبج.
يريد الأميركيون حالياً التحول إلى "يونيفيل" جديدة (قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان) في سورية، لكن بصلاحيات أكثر. يدركون أن تركيا أمام استحقاق سياسي ـ شعبي ـ دستوري قريب، عبر إجرائها استفتاءً في 16 أبريل/ نيسان المقبل، يسمح بتحوّل النظام إلى رئاسي. يعلمون أن الروس، غير المعتادين على النفس الطويل، بدأوا يملّون من الوضع السوري، خصوصاً أن استحقاقات عدة تنتظر موسكو، من الانتخابات الرئاسية العام المقبل، إلى كأس العالم لكرة القدم في العام المقبل أيضاً، وارتفاع الضغط الميداني في الشرق الأوكراني. مع العلم أن الروس يعتبرون أنهم كرّسوا وجودهم في الساحل السوري بقواعدهم العسكرية. أما الإيرانيون، فإن "التعاون" السابق في العراق بين واشنطن وطهران قد يفسح المجال أمام "تعاون" ما في سورية. لكن العنصر الأساسي هنا، هو حماية الأمن الإسرائيلي بالنسبة للأميركيين، تحديداً بعد إعلان حركة النجباء العراقية، ومن إيران، نيتها "تشكيل لواءٍ لتحرير الجولان السوري من الاحتلال الإسرائيلي".
مع العلم أن إعلاناً كهذا لن يتحوّل إلى واقعٍ ملموس، بل يمكن وضعه في سياق رفع سقف الشروط الإيرانية للتفاوض مع الأميركيين سورياً. فوجود أي قوة عسكرية، غير حزب الله في الجولان، يطرح الأسئلة حول الأولويات الإيرانية في سورية، على ما عداها من أولويات سورية أو لبنانية أو غيرها.
الأساس أن الوجود الأميركي سيتحول، بطبيعة الحال، إلى قواعد دائمة، وهو ما كان يريده الأميركيون منذ زمن طويل، خصوصاً أنه، منذ أكثر من عقد، تمّ طرح فكرة إقامة قواعد أميركية على السواحل اللبنانية، تحديداً بين منطقتي أدما وعمشيت (شرقي بيروت). وقيل وقتها إن قوات المارينز يتابعون عمليات بناء مبانٍ سكنية في عمشيت. لكن الأمر طُوي، ربما حتى اكتمال بناء المجمّع الجديد للسفارة الأميركية في عوكر (شرقي بيروت)، مع تخصيص واشنطن اعتماداً بقيمة مليار دولار للبناء. وقد تكون الكلفة العالية مدخلاً لاستكمال مخططات السنوات الماضية، على وقع نصائح أميركية للبنانيين بـ"اللحاق بالموجة النفطية في شرق المتوسط" التي أدت إلى عودة ملف النفط اللبناني إلى الواجهة.
عادت الولايات المتحدة إلى المسرح السوري بسرعة قياسية، وباتت الطرف الرئيسي الذي يوزع الأدوار في معركة الرقة، كي تؤكد أنه لا حل من دونها، كما هو الأمر في الحرب على "داعش" في العراق. وهناك جملة من الأسباب تشرح هذه المسألة، بعد أن ساد الظن، في نهاية عهد الإدارة السابقة، أن الانكفاء الأميركي عن المنطقة هو خلاصة تفكير استراتيجي، ولا يتعلق فقط بحسابات فريق الرئيس السابق، باراك أوباما.
أول الأسباب أن واشنطن معنيةٌ أكثر من غيرها بهزيمة "داعش" وأخواته، في الوقت الذي تبين أن روسيا ليست قادرةً على أن تنهض بأعباء دور القطب الدولي الوحيد في العالم، الذي عليه أن يملأ الفراغ الذي يمكن أن يخلفه انسحاب الولايات المتحدة من المشهد، وتكشف، من طريقة عملها في سورية، أنها دولة ليس في مقدورها تحمل مسؤولياتٍ من العيار الثقيل، بدليل أنها لم تتقدم خطوة ثانية، بعد أن منعت نظام الأسد من السقوط. وقد حاولت، منذ نهاية العام الماضي، من خلال اتفاق أنقرة لوقف إطلاق النار، ومن ثم عملية أستانة، أن تقود المسألة السورية، لكنها لم تحقق إنجازاً ملموساً، فهي، من جهة، بقيت ثابتة عند خط الدفاع عن رئيس النظام السوري بشار الأسد، ومن جهة ثانية، لم تحرز إنجازاً ملموساً لجهة وقف النار. وعليه، لم تتمكن من إقناع الأطراف الدولية المعنية بالملف السوري أنها قادرةٌ على لعب دور قيادي في هذه القضية الشائكة والمعقدة.
السبب الثاني أن الولايات المتحدة، على عكس روسيا، لا تزال تشكل مرجعية دولية، يقف إلى جانبها الاتحاد الأوروبي وكل بلدان الشرق الأوسط باستثناء إيران. أما روسيا فهي تخسر يوميا من رصيدها، بسبب عدم قدرتها على تثبيت وقف النار وبناء عملية سياسية في سورية، ويظهر أن كل مناوراتها تهدف إلى تحصين الأسد.
السبب الثالث أن أي حل لأي مسألة دولية معقدة لا تكون الولايات المتحدة طرفاً فيه، أو داعماً له، لا يمكن أن يكتب له النجاح، وهي قادرة، حتى من موقع المتفرج، أن تفشل أي معادلة دوليةٍ لا تحوز على رضاها، وقد تجلى هذا الأمر بوضوح، خلال الأسبوعين الأخيرين في سورية، حين نقلت الاهتمام إلى معركة تحرير الرقة، وصارت تتحكّم بتوزيع الأدوار.
أراد التحرك الأميركي تجاه سورية في الأسبوعين الأخيرين إعادة خلط الأوراق، والرجوع إلى الفكرة التي طرحتها واشنطن منذ حوالي عامين، أن الأولوية هي لهزيمة "داعش"، واللافت أن الأطراف التي عارضت ذلك في حينه تتسابق اليوم لتحجز مكانها في المعركة.
من غير الواضح حتى الآن دور النظام السوري في المعركة، وعلى الرغم من أنه حقق تقدما في الشهر الأخير باتجاه الرقة، بدعم من روسيا والمليشيات الكردية لحزب الاتحاد الديمقراطي، فإن فرص مشاركته في معركة الرقة تبدو ضعيفة، فالطرفان المؤهلان حتى اليوم لخوض المعركة هما الأكراد، وقوات درع الفرات المدعومة من تركيا.
يحسب نظام الأسد أن تثبيته من طرف روسيا سوف يترجم في صورة أوتوماتيكية بإعادة تأهيله دوليا، والسؤال الذي يطرح نفسه هو إذا لم تشركه الولايات المتحدة في معركة تحرير الرقة والحرب ضد "داعش"، فلماذا تساعده على الاستمرارية، لاسيما أن واشنطن ليست على طريق موسكو في سورية، وهذا ما يفسر عدم إشراك روسيا في معركة تحرير الموصل والرقة، لا بل على العكس، لا تزال روسيا متحالفةً مع إيران وحزب الله في سورية، وهو أمر لا تقبله المؤسسة العسكرية الأميركية التي هي صاحبة القرار في معركتي الرقة والموصل.
1
الأب: تفضلوا يا جماعة اشربوا القهوة.. ضيّفهم لك ابني..
الابن: آه امممم تفدّل أمّو (تفضل عمّو)!
أحد الضيوف: الله يسلمه ابنك، شو ما بيحكي عربي؟
الأب: لا والله.. لسانه ثقيل وعم يحاول يتعلم.. بيحكي كم كلمة عربي بس مكسّر.. ولكن بيفهم كلشي منحكيه!
أحد الضيوف: الله يسلمه يارب.. قديش صارلو بأمريكا دخلك؟
الأب: والله زمان.. صارلو قريب 3 سنين!!!
2
الكل يتحدث العربية..
إلا فتاة لا تجيب متحدثيها إلا بالإنجليزية بلغة ركيكة مصطنعة!
ولا تتحدث إلا بصوت مرتفع لكي يسمعه الجميع..
سَأَلَتْ عنها إحدى النسوة..
قالت: يا حسرتي على هالبنت.. والله أهلها مقصرين معها..
هي كل البنات يللي قدها ويللي ولدانين هون بأمريكا بيحكوا عربي ومحافظين على لغتهم وحافظين قرآن ماشالله.. ليش هي ما علموها أهلها العربي مع انو مالها من مواليد هون.. دخلك صحيح قديش صارلهم هون بأمريكا؟
أجابتها إحدى السيدات: صارلهم سنة ونصف!
3
كانوا ما يزالون في الفندق..
مازالوا يبحثون عن سكن يسكنون به..
انتقلوا إلى أمريكا فقط منذ عشرة أيام أو تزيد قليلاً!
سمعت الأم أن العرب هنا يتعمدون الحديث مع أطفالهم في البيت باللغة العربية حتى يتعودوا نطقها ولا ينسوها..
جاء الابن في إحدى الجمعات مع الأصدقاء وقال للأطفال الذين يلعب معهم بطريقة عفوية حتى يفهموا عليه:
come on.. let's play Tommemaa
يعني بدو يلعب طميمة (Hide & Seek)
فأجابته الأم بكل جدية وهي تبتسم بطريقة أشعرتها بلذة النصر:
لاء يا ماما يا حبيبي.. ما تحكي إنجليزي..
كم مرة قلتلك نحن هون بالبيت ما بدنا نحكي إلا عربي بس؟؟
تئبرني كلشي إلا العربي!!
والتفتت إلى الموجودين وقالت: والله هلكني هالولد.. لك ما بيحكي إلا إنجليزي (علماً أن الولد لم يكن حتى قد دخل المدرسة بعد) عم اعمل المستحيل لحتى خليه ما ينسى العربي..
شو أعمل معو يا ربي؟؟!!
...
الشاهد من القصص الحقيقية السابقة أنني رأيت أُناساً ينتظرون اللحظة المناسبة لينقضّوا بها على اللغة والعادات والتقاليد والدين والثقافة والعرف..
يعني شاهدت أمثلة كثيرة، خلصت منها إلى أن "معظم" الوافدين الجدد الذين قدموا إلى أمريكا، كان همهم هو الانسلاخ من الذات..
ورأيت "بالمجمل" أن أخلاق وعادات العرب المهاجرين القدامى في تربية أبنائهم هي أفضل من أخلاق وعادات من جاءوا حديثاً!
يعني القادمين الجدد همُّهم كيف يتحدث أبناؤهم الإنجليزية بلهجة الأميركان وعادات الأميركان (العادات السيئة فقط وليتهم أخذوا وتعلموا العادات الجيدة).. حتى إذا جلسوا بين الناس تباهوا بأن أولادهم لا يتحدثون العربية!
وتجد من ولدوا هنا وترعرعوا هنا، يتباهون بأنهم يتحدثون العربية بطلاقة ويقرؤون القرآن والله أفضل منا نحن القادمون من بلاد العرب والمسلمين، ويحفظون القرآن أفضل مما نحفظ، ويطبقون تعاليمه خيراً مما نفعل!
وتجدهم متواضعين ويحافظون على حشمتهم ولباسهم وحيائهن ودينهم..!!
والغريب أنني ما رأيت أحد من القادمين الجدد إلا ويمقت العرب ويشتم العرب ولا يريد أن يتعامل مع العرب ولا مع المسلمين وأنه يريد فقط أن يتعامل مع الأمريكان البيض الأصليين ويسكن بجوارهم.. وكأنه رشح نفسه أن يكون أفضل من يمثّل العرب أمام الأجانب!
أمثال هؤلاء هم أكثر الناس عنصريةً وتناقضاً في هذا الزمن!
بسبب الضعف الكبير الذي لحق بالقوات السورية، وأثره على سلطة النظام، تنادت عدد من القوى الإقليمية والدولية تحذر من عقد سلام في سوريا تستفيد منه القوى الداعمة، وخاصة إيران. هذا ما عبرت عنه إسرائيل، التي اعتبرت أي مشروع لإنهاء الحرب يجب ألا يسمح لإيران أن تبقى في سوريا كقوة عسكرية، وإلا اعتبرته تهديداً لأمنها. وهذه الرسالة تحدث عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأنه سيبلغها إلى الرئيس الروسي باعتبار فلاديمير بوتين هو عراب الحل السوري. يقول نتنياهو «إننا لا نعترض على ترتيبات الحل في سوريا لكننا نعترض بشدة على إمكانية وجود عسكري لإيران ووكلائها في سوريا».
والحقيقة يمثل الوجود العسكري الإيراني ووكلاؤه تهديداً خطيراً للدول الأخرى أيضاً. فالسماح لإيران، وميليشياتها من لبنانية وعراقية وغيرهما، بالبقاء في سوريا سيهدد التوازن الإقليمي، ويؤثر على أمن تركيا والعراق والأردن وكذلك الخليج. ولا يستبعد أن تقتنع إيران أخيراً بالتوصل إلى تفاهمات مع إسرائيل تنهي طبيعة دور وكلائها الذين يهددون إسرائيل مثل «حزب الله» في لبنان وحماس في غزة، لكن الخطر على البقية يظل ماثلاً لسنوات.
ووفق تصريحات مسؤوليها، من المستبعد أن تكتفي إسرائيل بأي تطمينات من جانب إيران، أو من يعبر عنها مثل الحكومة السورية، إذا جاءت مقرونة بإبقاء آلاف المقاتلين والخبراء لفترة زمنية طويلة ومن دون حل إقليمي تشارك فيه إيران وإسرائيل.
أما لماذا بدأت إسرائيل تطرح رأيها حيال مفاوضات جنيف، وهي التي سكتت طوال سنوات الحرب الست الماضية، فربما لأن معالم الحل السياسي باتت أكثر وضوحاً. وإسرائيل منذ البداية ضد أي تغيير في دمشق لأنها تعايشت مع النظام على مدى نصف قرن تقريباً، ورغم الخلاف والقطيعة، تعتبر إسرائيل جارتها سوريا أكثر أمناً وانضباطاً حتى من مصر والأردن اللذين ارتبطت معهما باتفاقيات سلام.
لكن ضعف قدرات النظام السوري العسكرية التي يريد الإيرانيون تعويضها بقوات وميليشيات من عندهم مسألة تغير المعادلة الأمنية والسياسية في المنطقة لا سوريا وحدها.
هل يمكن وقف القتال وتثبيت السلام بقوات النظام السوري مع ما يتلقاه حالياً من دعم روسي متزايد، ليس فقط في القوات القتالية بل أيضاً تمد موسكو يد العون لحليفها السوري بقوات شرطة تقوم بتنظيم السير في شوارع بعض المدن السورية؟ الأرجح أن دول المنطقة، تحديداً إسرائيل والأردن والخليج، لن تعارض تولي الروس مهمة سد الفراغ الأمني والعسكري بقواتها وقوات دولية أخرى عند الحاجة، طالما أنها لا تشمل الحرس الثوري الإيراني ولا ميليشياتها الأجنبية الأخرى. لكن هل لدى روسيا الاستعداد للقيام بهذه المهمة الضخمة، وهل ستقبل الحكومة السورية التخلي عن حليفها الإيراني؟ وهل سيرضى الإيرانيون الخروج من مولد سوريا بلا حُمُص، كما يقول المثل؟ علينا ألا ننسى أن إيران من خلال سوريا جعلت حياة الأميركيين في العراق جحيماً باستخدامها التنظيمات الإرهابية، وتفعل الشيء نفسه ضد السعوديين في اليمن، وحتى إسرائيل من خلال «حزب الله».
في نظري أن نجاح معادلة الاتفاق المحتمل في سوريا تقوم على تفسير الدور الإيراني وميليشياته والإدارة الأميركية الجديدة تتفق مع معظم دول المنطقة على ضرورة تحجيم انتشار إيران في تراب وبحار المنطقة وليس السماح لها بأن تتمدد في حزام طويل يشكل العراق وسوريا ولبنان. هذه المسألة ترتبط بشكل كبير جداً باتفاق سوريا لإنهاء الحرب هناك.
عندما انطلق الحديث عن مشروع المنطقة الآمنة شمال سوريا، قبل نحو عامين، كان الهدف الذي يتمركز حوله حينها واضحا، وهو إقامة منطقة حظر طيران على نظام الأسد، في بقعة جغرافية شمال حلب، بهدف واضح محدد، وهو حماية أرواح السكان المدنيين في تلك القرى، وفسح المجال لاستقبال مئات الآلاف من النازحين الهاربين من قصف النظام السوري، مع أهداف تركية اخرى تتلخص في محاربة التمدد الكردي جنوب حدودها.
ومنذ ذلك اليوم، ظلت عبارة المناطق الآمنة تتكرر، ولكن بمعنى مختلف، فلقد اخذت تنحرف شيئا فشيئا عن هدفها المبدئي، بل وصلت لمعنى مناقض تماما للهدف من إقامتها، فمن منطقة آمنة من نظام الاسد إلى منطقة آمنة من تنظيم «الدولة»، ومن منطقة خارجة عن سيطرة النظام جويا، إلى مناطق خاضعة جزئيا لسيطرة النظام وقواته الحليفة الكردية، ومن منطقة آمنة من القصف إلى منطقة مدمرة القرى، ومن منطقة لحماية المدنيين الى منطقة طاردة للسكان، ليس فقط أنها لم تستقبل نازحين، بل أدت العمليات العسكرية فيها (التي لم تستهدف النظام) إلى تهجير عشرات الآلاف من سكان القرى ومقتل المئات من المدنيين، في سبيل توفير الأمن لهم.
منذ بدء العمل العسكري لهذه الخطة قبل نحو عام، كان من الواضح والمعلن ان هدفها لم يعد يتعلق بالحرب على النظام، الحرب التي انطلق لأجلها الثوار، بل كان الهدف هو الحرب على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة وروسيا بمشاركة النظام السوري، الطرف الابرز المستفيد من إخراج الجهاديين من مناطق سيطرتهم، وإبدالهم بقوى مسلحة خاضعة للتفاهم مع النظام، من خلال الوسيط الروسي التركي، ولم تشرع تركيا بدعم فصائل المعارضة لاستعادة تلك المناطق إلا بعد موافقة صريحة ومعلنة من الولايات المتحدة وروسيا، وفي سبيل محاربة الكيان الكردي المتمدد جنوبا، سواء في مرحلة الدخول لجرابلس أو ما قبلها، الأمر الذي أدى ليس فقط إلى حرف هدف قوات المعارضة عن قتال النظام، بل إلى خلخلة كل جبهات المعارضة مع النظام بسحب أعداد كبيرة من عناصرها وتحويل اهتمامها واولوياتها بعيدا عن قتال قوات الاسد، دون ان يتحقق هدف تركيا بضرب إقليم روجافا الكردي، بل إنه تمدد أكثر واتصل بنهاية الأمر، ولم يجد النظام وحلفاؤه افضل من ظروف كهذه لاستعادة أبرز العقد الاستراتيجية المحيطة بشمال حلب، بدءا من فك الحصار عن قريتي نبل والزهراء الشيعيتين، ثم إكمال الإطباق على مدينة حلب شمالا بالسيطرة على طريق الكاستيلو، وصولا إلى عزل مدينة حلب عن الريف الشمالي، من خلال القوات الكردية، فبينما كانت الفصائل المعارضة المدعومة تركيا شمال حلب تقاتل لاستعادة قرى شرق بلدة اعزاز الحدودية من تنظيم الدولة، قبل مرحلة الدخول إلى جرابلس بأشهر، كانت قوات الانفصاليين الأكراد تحتل مزيدا من مدن المعارضة شمال حلب كمنغ وتل رفعت، دون أي مقاومة من الفصائل المشغولة بالحرب على الإرهاب، وحدث أن فصائل الثوار شمال حلب المدعومة تركيا خسرت كل تلك المواقع لصالح النظام ولصالح الأكراد، ولم تكن تحقق أي تقدم ملموس ضد تنظيم «الدولة»، وسيطر الأكراد على الطريق والبلدات الرئيسية بين حلب وتركيا، ليضموا مساحات جديدة، كل هذا في خطة كان من بين أهدافها إبعاد الأكراد عن جنوب تركيا. وبعد مرحلة جرابلس والتدخل المباشر التركي، احتاجت تلك القوات لاكثر من نصف عام للسيطرة على تلك المساحة المليئة بالقرى الصغيرة التي يمكن عبورها بالسيارة بأقل من نصف ساعة، ولا يوجد بها أي مدينة سوى بلدة الباب، ليقوم النظام بتحركه جنوبا ليصل مناطق الأكراد ببعضها، بل وينتقل غرب منبج ليسيطر على مناطق جديدة ويرفع علمه فوقها.
وهكذا كانت حصيلة هذه العملية المسماة بالمنطقة الآمنة، خسارة تركيا لمزيد من الاراضي جنوب حدودها لصالح تمدد جيب عفرين الكردي نحو تل رفعت ومنغ وقرى غرب اعزاز، وتمدد جيب منبج الكردي ومنع المساس به بعد عبور القوى الكردية لنهر الفرات، التي وصفها النظام يومها بالقوات الرديفة، وبالنهاية سيطرة النظام على المزيد من الأراضي غرب منبج باتجاه تلك المنطقة الآمنة من كل شيء إلا من حلفاء الأسد.
أما عن الاهداف الخاصة بحماية المدنيين، فقد تشرد عشرات الآلاف نحو مخيمات جديدة، وتدمر المزيد من القرى في ريف حلب، وقتل في الباب وحدها، وخلال ثلاثة اشهر من المعارك، سبعمئة مدني، ورفع النظام السوري علمه فوق منبج وتل رفعت، ليرحب وزير الخارجية التركي بذلك قائلا، إنه لا يمانع بسيطرة جيش النظام على منبج، إحدى اهم مدن المنطقة الآمنة التي كانت يوما هدفا لحظر جوي من طيران الاسد. ولن يكون غريبا أن نرى قوات درع الفرات تنسحب من جرابلس والباب والقرى الصغيرة بينهما وتسلمها للنظام، ليكتمل حينها مشروع المنطقة الآمنة تماما .
في وقتٍ ما تزال العمليات العسكرية مستمرة على أكثر من جبهة في سورية ضد المدن والقرى والأحياء التي تسيطر عليها المعارضة، ويسقط كل يوم عشرات الضحايا من المدنيين، في خرقٍ فاضح لاتفاقيات الهدنة العديدة التي وقعت برعاية روسية، تم جرّ المعارضة السورية العسكرية والسياسية، تحت ضغوطٍ دبلوماسية مكثفة دولية، إلى مفاوضاتٍ سياسيةٍ تفتقر لأدنى شروط النجاح. وكان من الطبيعي، في غياب أي التزاماتٍ بالتعهدات السابقة، وأي ضماناتٍ دولية واضحة، والتخبط في المرجعية القانونية والسياسية، والإملاءات الروسية، أن تتحوّل المفاوضات في أستانا وجنيف 4 إلى مناوراتٍ غرضها الرئيسي إضعاف موقف المعارضة وتثبيت مواقف النظام وحلفائه. ولذلك، بدل أن تعيد الأمل للسوريين بإمكانية التوصل إلى حلّ سياسي يلبي الحد الأدنى من تطلعاتهم، زادت هذه الجولة من المفاوضات العقيمة من إحباطهم، وعمّقت الشكوك في إمكانية أن تسفر أي مفاوضاتٍ مقبلةٍ في أستانا أو جنيف عن النتائج التي ينتظرها السوريون لوضع حد للحرب العدوانية والإعداد لسورية جديدة، يسودها السلام والإخاء والعدالة والديمقراطية، عبر عملية انتقال سياسي حقيقية. أبرزت هذه المفاوضات جملةً من الحقائق التي تهدّد بتقويض العملية السياسية برمتها، إن لم تكن قد فعلت بعد، أهمها:
أن الغاية من هذه المفاوضات لم تكن تلبية تطلعات السوريين، وضمان سيادتهم على أرضهم، واستعادة وحدتهم الوطنية، وضمان حقوقهم الأساسية، في الكرامة والحريّة وحكم العدالة والمساواة أمام القانون، وإنما تكريس المكاسب الإقليمية والعسكرية والسياسية التي حققتها أطراف التحالف المضاد للثورة ووكلاؤه الداخليون والخارجيون، ومن وراء ذلك تفاقم الصراع على تقاسم مناطق النفوذ في البلاد.
وأن نظام الأسد وحلفاءه لايزالون يصرّون على التنكر لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والتهرب من تطبيقها في الوقت الذي يسعون فيه إلى كسب الوقت، والاستمرار في تطبيق الحسم العسكري على الأرض.
ويشير جدول أعمال المفاوضات الذي تجاهل إجراءات الثقة التي لحظتها قرارات مجلس الأمن إلى حجم الاستهتار بحياة السوريين ومأساتهم، سواء ما تعلق منها بوقف القصف العشوائي أو إطلاق سراح المعتقلين أو كسر حصار التجويع أو وقف التهجير القسري وعمليات التطهير الديمغرافي لأهداف استراتيجية في أكثر من موقع ومنطقة.
ومن اللافت للنظر الدور غير النزيه الذي تلعبه الأمم المتحدة، ممثلة بمبعوثها السيد ستيفان دي ميستورا الذي تحول من وسيط إلى مفاوض رديف عن الطرف الروسي وزبائنه في طهران ودمشق، فبدل أن يتمسك بجدول الأعمال الذي صاغه هو نفسه وكان في أساس الدعوة التي وجهت إلى الأطراف، خضع لضغوط، وقبل بنقل موضوع الاٍرهاب من جدول أعمال أستانا إلى جدول المفاوضات السياسية، في وقتٍ لا يكاد يكون هناك أي خلاف، لا سوري ولا دولي، حول معالجة ملف الإرهاب. والهدف من ذلك هو السعي إلى طمس مسألة الانتقال السياسي التي هي جوهر المفاوضات، كما كان قد أعلن هو نفسه عن ذلك من قبل، وتحويلها إلى مسألة من مسائل متعدّدة، وذلك لتحرير النظام والمحتمع الدولي من المسؤولية، ورمي الفشل المحتوم لها على جميع الأطراف بالتساوي. ويصب في السياق ذاته، وللهدف نفسه، وضع جميع نقاط جدول الأعمال على سويةٍ واحدةٍ من الأهمية، وإلغاء التسلسل الزمني لمناقشتها، وطرحها بالتوازي. وأخيرا، فرض منصتي موسكو والقاهرة على المعارضة كأطراف مستقلة من أجل تعزيز الضغوط على وفد الهيئة العليا، وإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات، لصالح إعادة تأهيل النظام وحرمان السوريين من انتقال سياسي حقيقي.
لم يأت ضعف إنجازات جنيف 4 عن ضعف المعارضة أو التلاعب بأطرافها والضغط على الهيئة العليا لقبول ممثلين أقرب لموسكو وغيرها منهم لمطالب الشعب فحسب، وإنما لعوامل كثيرة، من أهمها تخبط الإدارة الأميركية الجديدة وعجزها، حتى الآن، عن بلورة رؤية واضحة في تناول ملف الشرق الأوسط عموما، والملف السوري خصوصا، وهو ما يترك جميع الأطراف الأخرى في حالة ترقبٍ وانتظار. ومنها استمرار رهان طهران والأسد على حرب استنزاف الفصائل المقاتلة المعارضة، بعد أن فقدت المبادرة في أكثر من موقع، وفي ما وراء ذلك التنافس بين روسيا وإيران على أسلوب إدارة الصراع وأجندته.
تقع مسؤولية كبيرة أيضا على أطراف المعارضة المختلفة، وبشكل خاص على ممثلي منصتي موسكو والقاهرة، في تجاوز الضغوط المختلفة التي تُمارس عليهما من داعميهما، والتوصل إلى صيغةٍ للعمل مع الهيئة العليا للمفاوضات فريقاً واحداً.
ففي غياب أي إمكانية للحسم العسكري، أو حتى السياسي، لصالح أي من الأطراف المتنازعة، السورية والدولية معا، واعتراف الجميع بضرورة العمل على تسويةٍ تضع حدا لسفك الدماء وتخرج البلاد من الكارثة، لم يعد هناك سوى خيارين متاحين. الأول هو تسويةٌ تقوم على فرضية إمكانية إضعاف المعارضة، حتى من خلال المفاوضات، إلى درجةٍ تجبرها على القبول بالالتحاق بالنظام، ما يعني بقاء النظام الديكتاتوري القائم وإعادة دمج المعارضة أو جزء منها به، مع بعض التجميل لواجهته الدستورية والسياسية هنا وهناك. والثاني إعادة دمج العناصر الخارجة من نظام العنف والطغيان الراهن في نظام ديمقراطي تعدّدي جديد، يتيح لسورية والسوريين بدء مرحلة جديدة، في قطيعةٍ كاملةٍ مع ممارسات السلطة القديمة وعقيدتها وأخلاقياتها الدموية. وليس للضغط على منصتي القاهرة وموسكو للبقاء خارج إطار الوفد الموحد للمعارضة، تحت مظلة الهيئة العليا في نظري سوى هدف واحد، هو تعظيم فرص الخيار الأول على حساب الخيار الثاني. ولا أعتقد أن أي معارض، مهما كانت درجة اعتداله ومرونته، سيكون سعيدا بمثل هذا الخيار، اللهم إلا إذا كان هو نفسه اختراقا داخل المعارضة في الأصل، بهدف تقويض أي فرصة لتغيير نظام الفساد والاستبداد.
ويشكل عدم التزام نظام الأسد وحلفائه الإقليميين والدوليين بقرارات الأمم المتحدة وباتفاقيات وقف إطلاق النار واستمرارهم في ارتكاب انتهاكاتٍ خطيرة بحق المدنيين، سواء من خلال متابعة القصف بالبراميل المتفجرة وضرب الحصار على المدن والأحياء من أجل تجويعها ورفض إطلاق سراح المعتقلين، يشكل تحديا مباشرا للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي يجد نفسه في بداية ولايته في حالة عجز كامل عن إطلاق أي مفاوضات جدية، وهو مضطر إذا لم يرد أن يفقد صدقيته منذ بداية ولايته أن يتدخل لحماية المفاوضات، وضمان استقلالها عن الأطراف المتنازعة وحيادية. وقد تحول المبعوث الأممي إلى مفاوض إضافي، أو وكيل للمفاوض الروسي ومنفذ أجندته السياسية، بل إنني أعتقد أن الوقت قد حان لكي يضع الأمين العام للأمم المتحدة حدا لهذه المهزلة التفاوضية المستمرة منذ ست سنوات من دون نتيجة ولا فائدة، ويطلق مبادرةً جديدةً تضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها. هذا واجبه، وتلك هي مسؤوليته، ولديه الشرعية كاملة أمام تقاعس الدول، ورفضها التفاهم، واستمرارها بحثا عن مصالح لا مشروعة ولا قانونية، في تدمير شعبٍ بأكمله، والقبول بأبشع جرائم القتل الجماعي والتهجير القسري والإبادة الجماعية.
يستشيط الإيرانيون غضباً مما تتجه إليه التطورات المتسارعة في سوريا، تكاد كزكزة أسنانهم ان تطغى على دوي قذائف حليفهم بشار الأسد، الذي فاجأهم بأنه يلحس تواقيعه والتزاماته معهم كما مع غيرهم، والسؤال الذي يبرز الآن: هل بدأت إيران تواجه أياماً واستحقاقات عصيبة في سوريا لم تكن تتوقعها؟
قبل أن يحط بنيامين نتنياهو أمس في موسكو ويعقد القمة السادسة مع فلاديمير بوتين في خلال عشرين شهراً، والتي ركزت على خطط اسرائيل المتفق عليها مع روسيا، لمواجهة التهديد الإيراني الذي يحاول بناء "جبهة شمالية" تمتد من الناقورة الى الجولان، كانت سفيرة أميركا في الأمم المتحدة نيكي هالي تتحدث بما يوحي بإتجاه الى حل لا يريح طهران إطلاقاً:
"ان الأمر يتعلّق على الأرجح بحلٍ سياسي الآن، وهذا يعني في الأساس ان سوريا يمكن ألا تظل ملاذاً آمناً للإرهابيين... ومن المهم ان نعمل على إخراج ايران ووكلائها من سوريا، ويجب ان نتأكد من أننا كلما أحرزنا تقدماً نؤمن الحدود لحلفائنا ايضاً".
أي حدود وأي حلفاء؟
لا داعي الى التبصير، انها المسافة الممتدة من الجولان الى الناقورة، والتي كانت أمس ملفاتها والاتفاقات السابقة في شأنها، مداراً للبحث بين بوتين ونتنياهو. وفي السياق أفادت المعلومات الواردة من موسكو انه تمت دراسة "فرض رقابة على نشاط القوات التي تديرها ايران في سوريا"، لكن موسكو نفتها لاحقاً، وكانت صحيفة "أيزفستيا"، نشرت تقريراً فيه أن نتنياهو يسعى الى تعزيز الآليات المشتركة للرقابة والرصد في المناطق القريبة من الحدود الشمالية، والى بروتوكول جديد يوفّر لإسرائيل الحصول من روسيا على المعلومات الكاملة عن كل التحركات على تلك الحدود "ويطالب بفرض رقابة دقيقة على نشاط القوات الشيعية الحليفة للأسد"!
وليس خافياً ان الاتفاقات السابقة بعد التدخل الروسي في أيلول من عام ٢٠١٥، تضمنت عدم الاعتراض على النشاط الجوي الإسرائيلي فوق الأراضي السورية والموافقة على العمليات البرية لضمان أمن اسرائيل.
من خلال كل هذا يمكن فهم ما اعلنته "حركة النجباء العراقية" وهي الميليشيا التي يديرها "الحرس الثوري" في سوريا عن تشكيل "فيلق لتحرير الجولان السوري المحتلّ... ولن نخرج من سوريا حتى خروج آخر إرهابي".
لكن المفاجأة المتصاعدة وغير المتوقعة عند الإيرانيين، انهم اكتشفوا ان الأسد يتعمّد المماطلة وتأجيل تنفيذ خمسة اتفاقات إستراتيجية كان قد وقعها معهم، وذلك بسبب تلقيه تحفظات روسية صارمة واعتراضات من قوى عسكرية داخل النظام، واذا كانت طهران قد ردت على هذا حتى الآن بوقف تزويد سوريا المشتقات النفطية وتأخير إرسال سفير جديد الى دمشق، فمن الواضح الأسد يلعب على حبال الجميع وان الحسابات السورية لإيران ستواجه أياماً صعبة!
لا يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترمب متجهاً لتكرار أخطاء سلفه باراك أوباما. تصرف الأخير على قاعدة أن الحركات المتطرفة السنية هي الداء. بين العلاجات التي اقترحها، كان التحالف الساذج مع الحركات الشيعية، ولا سميا في العراق. وكان أصل هذا التوجه يكمن في التبريد مع إيران بغية تمرير المفاوضات النووية، وهو ما استفادت منه طهران لتحقيق أهداف تتجاوز أجندة إدارة أوباما، كتعزيز اختراقاتها في الدول العربية. في ذروة الغزل الأميركي الإيراني ذكرت طهران أنها تهيمن على أربع عواصم عربية. المفارقة أن أوباما، في الجزء الأخطر من سياسته الخارجية هذا، بنى على إرث تركه له المحافظون الجدد الذين كانوا أول من نظَّر للتحالف مع الشيعة ضد السنة ما بعد جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001. أضاف أوباما إلى نظريات المحافظين الجدد الرهان على الإخوان المسلمين في مواجهة الأنظمة. في خطابه الشهير في القاهرة عام 2009، وطوال 55 دقيقة، كرر أمام جمهور حضره ممثلون عن تنظيم الإخوان المسلمين بدعوة مباشرة من واشنطن، عبارات التراث الإسلامي، والعالم الإسلامي، والدول الإسلامية، والجذور الإسلامية، والأمة الإسلامية، وغيرها من العبارات التي أطّرت رؤيته للمنطقة باعتبارها مكوناً إسلامياً لا بد من التعاطي معه بصفته الإسلامية… وحين اندلعت موجات الربيع العربي وصف المرشد الإيراني علي خامنئي الأحداث بأنها بداية ربيع إسلامي، في تقاطع مريب بين رؤيتي إيران والولايات المتحدة…
البقية تاريخ معروف!
هذا زمن انتهى مع ترمب. يبدو الرجل مدركاً، أو هكذا يرجى، أن إرهاب التنظيمات السنية لا يكافح بإرهاب الجماعات الشيعية. فلا ينفي الإرهاب إرهاباً، بل يغذيه ويتغذى منه.
بالتوازي، تصعّد واشنطن الفعل والقول تجاه الاثنين. الدخول الأميركي الميداني إلى منبج السورية وتهيئة الأرضية لتحرير الرقة من «داعش»، عاصمة خلافة أبو بكر البغدادي المزعومة، والقضم المستمر لركن «الخلافة» الثاني في الموصل، يتزامن مع تصعيد في اللهجة ضد إيران وميليشياتها.
إيران ليست حليفة الإدارة الأميركية في معركة القضاء على «داعش»؛ فهي- بحسب توصيف جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأميركي: «أكبر دولة راعية للإرهاب على مستوى العالم»، وهي بحسب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، مايكل فلين: «تهدد الاستقرار في المنطقة». وقبل أيام قالت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نكي هايلي: «علينا إخراج إيران وحلفائها من سوريا»، مؤكدة ضرورة «ألا تبقى سوريا ملاذاً للإرهابيين»، وهو موقف تدعمه المجموعة الخليجية بقيادة السعودية، بالإضافة إلى تركيا، في حين باتت موسكو تعلن بهدوء التقاءها مع هذا الهدف. ففي مقابلة مهمة مع جريدة «الحياة» قال نائب وزير الخارجية الروسي مبعوث الرئيس إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، إن ثمة نقاشات جارية مع إيران حول مستقبل وجودها ووجود ميليشياتها في سوريا، وإن كان ربط تقرير مصير هذا الوجود بالحل السياسي، وانبثاق سلطة تطلب من الإيرانيين المغادرة بمثل ما طلبت منهم التدخل!
يمكن إدراج هذا الموقف الروسي في سياق المراوغة الصرفة لولا أنه، على الأرض، يتقاطع مع جهود سياسية وعسكرية معقدة وصعبة لخلق واقع جديد في سوريا يعيق استمرار وجود الميليشيات الإيرانية وغيرها.
ففي أنطاليا، جنوب تركيا، التقى قبل أيام رؤساء أركان الجيش التركي خلوصي آكار، والأميركي جوزيف دانفورد، والروسي فاليري غيراسيموف للمرة الأولى؛ للبحث في مستقبل الحرب على «داعش». الجهود منصبّة على توحيد يافطة الفصائل المقاتلة ضد «داعش» و«النصرة» بغية ترتيب الميدان؛ تمهيداً للحل السياسي، الذي ليس له من معبر سوى الانتقال السياسي.
بموازاة هذه المسارات البطيئة أخذت إيران علماً بمساعٍ إسرائيلية أميركية جدية للجم الوجود الإيراني في سوريا، وتحجيم توسعها التخريبي في المنطقة عبر ميليشيات وأعمال إرهابية. والمعلن، أن هذه الجهود مادة أساسية في الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي نقل إلى مسؤولين إيرانيين وعرب جدية أميركا في تهديداتها لإيران. في هذا السياق، يُدرج الاستنفار الإيراني ورسائل التصعيد التي بعث بها الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله من بيروت، مدركاً أن ميليشيا «حزب الله» هي أكثر الأهداف ترجيحاً، أكان في سوريا أم في لبنان.
فتوجيه ضربة إلى إيران في العراق ليس مسألة بسيطة، وقد تكون مكلفة جداً لواشنطن. بل ثمة إدراك وتسليم بدور ونفوذ سياسي لإيران في العراق. واليمن لا يشكل في الواقع هدفاً مؤلماً لإيران، ولا سميا أن واشنطن بعثت بما يكفي من رسائل في هذه الدولة للجم طهران، كان آخرها نشر المدمرة «كول» التابعة للبحرية الأميركية قرب مضيق باب المندب قبالة جنوب غربي اليمن لحماية الممر المائي بعدما هاجم الحوثيون فرقاطة سعودية قبالة الساحل الغربي لليمن.
تبقى سوريا ولبنان، وهما الاحتمالان الأكثر رجحاناً لتوجيه ضربات فيهما مؤلمة إلى إيران، ويدفع ثمنها «حزب الله». تتراوح الأمور بين توغل عسكري إسرائيلي عند سفح الجولان السوري، وإقامة حزام أمني ينهي محاولات «حزب الله» لتأسيس وجود له على حدود إسرائيل السورية، وبين شن عملية كبيرة في لبنان ستجعل من حرب تموز 2006، بالنسبة لإسرائيل و«حزب الله» مجرد مناورة.
ما أن اندلعت الثورة السورية قبل ست سنوات حتى راحت وسائل إعلام ما يسمى بمحور الممانعة والمقاومة وعلى رأسها طبعاً إعلام النظام السوري، راحت تتهم إسرائيل بأنها وراء الثورة السورية، وبأن كل من رفع صوته ضد النظام هو عميل للصهيونية. تهمة يكررها النظام منذ عشرات السنين في وجه كل من يوجه انتقاداً ولو حتى لأسعار الفجل والخس والبطاطا في سوريا الأسد. أسهل تهمة في سوريا تجعلك تختفي وراء الشمس هي تهمة العمالة لإسرائيل. وقد استغل النظام هذه الكذبة استغلالاً بارعاً على مدى عقود، بحيث لم يعد السوريون قادرين حتى على انتقاد رئيس البلدية في القرية لتقصيره في تزويد القرية بالمياه خشية أن يتهمهم النظام بالعمالة للصهيونية والامبريالية. وبالتالي، لم يجد النظام أفضل من الشماعة الإسرائيلية لتشويه الثورة ووصمها بالخيانة والعمالة لإسرائيل.
لا شك أن إسرائيل عدوة لسوريا ومن صالحها أن يكون أعداؤها في أسوأ حال على مبدأ نابليون الشهير: إذا رأيت عدوك يدمر نفسه، فلا تقاطعه. ولو كان النظام نفسه مكان إسرائيل لربما تعامل مع الأزمة في أي بلد مجاور معاد له بنفس الطريقة النابليونية الاستغلالية.
لكن السؤال الأهم الذي يسأله كثيرون الآن بعد كل ما حصل في سوريا: هل كان من مصلحة إسرائيل التآمر على نظام الأسد وإيصاله إلى هذا الوضع الكارثي؟ ما هو السبب الجوهري الذي يجعل إسرائيل تريد أن تنتقم من النظام السوري الذي يحمي حدودها منذ خمسين عاماً كما يحمي عينيه برموشه؟ هل إذا كان لديك كلب مخلص يحمي بيتك ستقوم بالقضاء عليه؟ مستحيل، فمن عادة الناس أن تعامل كلاب الحراسة معاملة طيبة جداً مكافأة لها على خدماتها الجليلة في توفير الأمن والسلام لها.
لو كان الجيش السوري على وشك الهجوم على إسرائيل وتحرير فلسطين أو على الأقل تحرير الجولان السوري المحتل، لربما صدقنا كذبة التآمر الإسرائيلي على نظام الأسد، لكن الإسرائيليين في الجولان تفرغوا على مدى عشرات السنين لكتابة الشعر والاستماع إلى الموسيقى لأن الجولان تحول إلى أجمل وأهدأ منطقة للاستجمام في إسرائيل بعد أن منع النظام حتى العصافير أن تخترق الحدود الإسرائيلية. إن من يسمع الإعلام السوري وهو يتهم إسرائيل بالوقوف وراء الثورة السورية على النظام يأخذ الانطباع فوراً بأن الجيش السوري كان على أبواب القدس عندما ندلعت الثورة، فقامت إسرائيل بتحريض السوريين على رئيسهم كي تبعد خطر الجيش الأسدي عن المسجد الأقصى.
أرجوكم أن يجيبوني على هذه الأسئلة التالية لربما أنا مخدوع أو غابت عني حقائق خطيرة. هل كانت سوريا منذ أن حكمها النظام الحالي تشكل خطراً على إسرائيل كي تخشى منها إسرائيل وأمريكا وتتآمرا عليها لتدميرها؟ كل شيء في سوريا كان لمصلحة إسرائيل قبل الثورة. شعب مقموع ذليل لا يمكن أن يرمي حجراً على إسرائيل. وكلنا شاهدنا ماذا حصل للجنود والضباط السوريين الذين صدقوا كذبة المقاومة فحاولوا مهاجمة الحدود الإسرائيلية، فكانت النتيجة أن النظام أخفاهم وراء الشمس عقاباً لهم على مجرد تعكير صفو إسرائيل. ولا ننسى أن الطيران الإسرائيلي يطير أسبوعياً فوق قصر الرئيس دون أن يتجرأ أحد على إطلاق رشة ماء على الإسرائيليين.
هل من مصلحة إسرائيل التآمر على بلد محكوم بالحديد والنار والبسطار العسكري والمخابراتي منذ عام 1970 كما تريد إسرائيل تماماً؟ ما مصلحتها في تحريك الشعب السوري الخائف المقموع المستكين الذي لا يستطيع أن يفتح فمه إلا عند طبيب الأسنان؟ هل كانت تخاف من النهضة الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية السورية التي تنافس النهضة اليابانية كي تعرقلها وتقضي عليها؟ ألم يعمل النظام على تعطيل أي نهضة صناعية أو تكنولوجية أو حتى زراعية في سوريا تنفيذاً للمطالب الإسرائيلية؟ لو نظرت فقط إلى الشروط التعجيزية المطلوبة لفتح مدجنة دجاج في سوريا لعرفت فوراً أن مهمة النظام الأولى هي حماية إسرائيل من أي نهضة علمية يمكن أن تهدد إسرائيل لاحقاً. لقد تحولت سوريا في عهد القائد الخالد إلى أفسد دولة في العالم من أجل أن تبقى إسرائيل النموذج الأفضل في المنطقة؟
لقد هجرت معظم العقول السورية النابغة إلى الخارج لأن النظام كان يمنعها من تحقيق أحلامها وطموحاتها في البلد خدمة لإسرائيل.
هل كان لدى سوريا قبل الثورة اقتصاد عظيم يهدد الاقتصاد الإسرائيلي؟ أم كان اقتصاداً ذليلاً لا يمكن أن ينافس حتى بوركينا فاسو فما بالك أن ينافس اسرائيل هل يمكن أن تخشى إسرائيل من نظام سياسي قذر ومتسلط وطغياني وفاشي يجعل أحقر دول العالم تبدو ديمقراطية بالمقارنة معه؟ ألم يكن النظام السوري مثالياً بالنسبة لإسرائيل كي تبقى إسرائيل في نظر العالم الديمقراطية الأجمل في المنطقة؟
هل تآمرت إسرائيل على نظام الأسد فعلاً، أم انها سبب بقائه حتى الآن لأنها لم تجداً كلب حراسة أفضل منه؟
شكّل كلام السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، حول الأولويات الأميركية في سورية، تلاقياً وتناقضاً مع الأولويات الروسية كما حددها نائب وزير الخارجية الروسي مبعوث الرئيس الى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف في حديثه الى «الحياة». كلاهما اتفق على هدف إخلاء سورية من الإرهابيين كي لا تكون ملاذاً آمناً لهم بعد الآن. إنما هايلي بادرت الى تأكيد ضرورة أن «نُخرج إيران ووكلاءها» من سورية، فيما أكد بوغدانوف أن هذا قرار سيادي يُتخَذ لاحقاً طبقاً لما ترتأيه الحكومة السورية حينذاك، وهذا ينسحب على «حزب الله». هايلي تحدثت عن ضرورة أن «نقوم بتأمين حدود حلفائنا بحيث تكون لديهم الثقة بحدود آمنة»، قاصدة بذلك إسرائيل بالدرجة الأولى الى جانب العراق وتركيا. بوغدانوف ربط الضمانات لإسرائيل بمسألة احتلالها الجولان وبموضوع مزارع شبعا في لبنان، داعياً «ممثلي حكومات الأطراف للجلوس وراء طاولة مستديرة لتطبيق مبادرة السلام العربية». في هذه الأثناء، كان لافتاً عقد اجتماع ثلاثي أميركي - روسي - تركي في انطاليا ضم رئيس أركان الجيش التركي، خلوص أكار، وقائدي الجيشين الروسي، فاليري غيراسيموف، والأميركي جوزيف دانفورد، مطلع الأسبوع لبحث الملفات الإقليمية وفي طليعتها الملفان السوري والعراقي. فيما برزت تطورات ميدانية ذات أبعاد كردية داخل سورية لدى تركيا، وكذلك عبر تواجد عسكري أميركي في غرب منبج. إضافة الى ذلك، بدأت إدارة دونالد ترامب في صياغة استراتيجيتها في معركة الرقة المرتقبة والتي تريدها حاسمة في مسيرة القضاء على تنظيم «داعش» كأولوية قاطعة. كل هذا وسط تضارب الكلام عن تقسيم في سورية والعراق واليمن وليبيا وحول إعادة توحيد هذه البلاد الممزقة. وتبرز إيران والأكراد في الحديث عن التقسيم، لأسباب مختلفة كلياً. والمؤشرات الآتية من الإدارة الأميركية الجديدة تفيد بالعزم على قطع الطريق أمام أية خطط تقسيمية تلبي المشروع الإيراني في سورية والعراق، فيما المؤشرات الآتية من الحكومة الروسية تفيد بأن التعايش مع التقسيم وارد إذا فشلت التسويات السياسية التي تأخذ في الاعتبار الناحية الإيرانية.
المشهد معقد في العلاقات الأميركية - الروسية - التركية - الإيرانية بالذات في سورية والعراق والذي تغيب عنه الدول العربية الخليجية بقرار الانتظار. المسألة الكردية حاضرة جداً في هذا المشهد المعقد. فهي من جهة حيوية في الاعتبارات الأميركية والروسية على السواء، وهي من جهة أخرى وجودية في موازين العلاقات مع تركيا وكذلك مع إيران.
إدارة ترامب، كسابقتها إدارة أوباما، تقدّر العزيمة لدى الأكراد كمقاتلين جديين أثبتوا أنهم في الصف الأول في الحرب على «داعش». ولذلك فهي متمسكة بدعمهم كأداة لا يُستغنى عنها لتحقيق هدف القضاء على «داعش». ثم إن الأكراد والعشائر السنية العربية هي، في رأي إدارة ترامب، المرشح الجدي الذي يستحق الاستيلاء على الجغرافيا التي يتم تنظيفها من «داعش»، وليست إيران صاحبة مشروع «الهلال الفارسي» الممتد في الأراضي التي استولى عليها «داعش» في العراق وسورية وصولاً الى لبنان حيث «حزب الله» الذي يعلن ولاءه لطهران.
روسيا توافق الولايات المتحدة على رفع راية الأكراد، وهي كانت حريصة على إعطائهم دوراً مركزياً في مسودة دستور لسورية تحمل بموجبه اسم «الجمهورية السورية» وليس «الجمهورية العربية السورية». وبحسب مراقب مطلع «إن من يضمن الأكراد في سورية هو روسيا». وكان لافتاً ما قاله بوغدانوف في حديثه الى «الحياة» الذي نشر يوم الإثنين الماضي متحدياً تركيا ومعارضتها قيام دولة كردية في سورية إذ قال: «لماذا توافق تركيا على كردستان العراق ولا توافق على كردستان سورية؟ أعتقد أن هذا ليس من شأنهم. هذا شأن عراقي وشأن سوري. الشعب السوري، وليس الروسي أو التركي، يقرر شكل الدولة والقيادة. وهذا هو موقفنا. تغيير النظام وترتيب الأمور شأن سيادي وداخلي».
كان لافتاً أيضاً ما قاله بوغدانوف عندما طُرِح عليه سؤال حول مخاوف من التقسيم في المنطقة العربية، في إشارة الى سيناريو الدولة الكردية في العراق و «احتمالات التقسيم في العراق وسورية». بوغدانوف قاطع ليضيف «وفي اليمن وليبيا»، مؤكداً «احترام سيادة الدول» مقابل «مبدأ حقوق الشعوب في تقرير مصيرها». قال إنه «توجد أحياناً دساتير تشمل مبادئ فيديرالية أو لا مركزية، وهذا مهم لإيجاد آليات لتسوية المشكلات»، شرط «أن يكون أي مخرج على أساس قانوني ودستوري والمهم عدم الخروج عن القوانين». أشار الى ما سمعه في أربيل بأن «هناك حكومة ورئيساً وعلماً وكل صفات الدولة ونحن نريد الشيء نفسه في سورية. قلنا لهم إن هذا السؤال يجب ألّا يوجه الى روسيا لأن هذا أمر توافقي ومنصوص في الدستور العراقي. وهم اتفقوا على هذه الفكرة ونفذوها في شكل قانوني».
إذاً، روسيا منفتحة على احتمال قيام دولة كردية في سورية وليس فقط دولة كردية في العراق، أو أقله كيان كردستان كجزء من كونفيديرالية أو فيديرالية في سورية. تركيا تعارض. إيران تتخوف لكنها تساوم. فهي تخشى من أن يصل نموذج كردستان الى أراضيها حيث كرد إيران أيضاً لديهم طموحات وطنية. لكنها أيضاً تدرك أن احتفاظها بما تريده في سورية والعراق يتطلب منها الموافقة على التقسيم في سورية والعراق كي تحتفظ بمشروع «الهلال الفارسي».
إدارة ترامب واعية للأمر ولذلك يتحدث المقربون منها بلغة إعادة توحيد سورية reunification من أجل قطع الطريق على المشروع الإيراني، وكذلك من أجل استعادة تركيا من روسيا في حال فشلت فكرة الصفقة الأميركية - الروسية. يقولون أيضاً إن إعادة توحيد سورية تعني، عملياً، مغادرة بشار الأسد لأنه غير قادر وليس مؤهلاً لقيادة سورية الموحدة. هذا ما يقولونه. ما في الخفايا أمر آخر، لا سيما أن أحاديث الصفقات في بدايتها وأن تقسيم الدول العربية مطلب إسرائيلي.
الواضح في هذه المرحلة هو أن روسيا ليست جاهزة، حالياً، لصفقة مع الولايات المتحدة تضحي بموجبها بحليفها الاستراتيجي الإيراني، وهي أيضاً غير جاهزة للتضحية ببشار الأسد في هذا المنعطف. واضح أن إدارة ترامب لن ترضى بأن تحل إيران في الأراضي التي يسيطر عليها «داعش» بعد تحريرها، فهذا ليس خياراً من خياراتها. الأكراد بمفردهم غير قادرين على استلام تلك الأراضي. وتركيا خيار مستبعد تماماً. ما يدور في الكلام عن البدائل هو مزيج من الأكراد والعشائر السنية العربية وكذلك مقاتلين يتم إعدادهم ليكونوا هم «القوات على الأرض» boots on the ground. واشنطن لا توافق موسكو على تولي القوات النظامية السورية مهمة تسلّم الأراضي التي يتم إخلاؤها من «داعش». ولا بد أن هذا الموضوع كان جزءاً من الحديث الذي أجري بين كبار قادة الجيش التركي والروسي والأميركي في أنطاليا.
شرق وغرب الفرات دخلا أيضاً ضمن أحاديث القيادات العسكرية بعدما ضمنت تركيا «تنظيف» حدودها من الأكراد غرب الفرات وبعدها دخلت الولايات المتحدة ميدانياً لتردع الأتراك وتحمي الأكراد شرق الفرات. الغائب الحاضر عن اللقاء العسكري الثلاثي المهم كان إيران التي تتمسك بمناطق في سورية تضمن لها التواصل بين العراق ولبنان.
ماذا ستفعل إدارة ترامب؟ هوذا السؤال الأهم. ماذا تريد إسرائيل؟ هوذا السؤال الغامض، علماً بأنها في الماضي بنت علاقات تهادنية مع إيران اعتبرها البعض «تواطئية» مع مشروع «الهلال الفارسي»، علماً بأن اليهود والفرس لم يسبق أن دخلوا حرباً مباشرة في ما بينهم عبر التاريخ. البعض يقول إن ما تريده إسرائيل الآن هو تجريد «حزب الله» من صواريخه الى جانب تطويق القدرات الإيرانية الصاروخية التي هي خارج الاتفاق النووي مع إيران، بحسب ما تؤكد طهران.
هل ستكون هذه المسائل المهمة موضع الصفقات أو أنها ستكون فتيل الحروب؟ وإذا كانت فتيل الحروب، هل سيتم اتخاذ قرارات الحرب عبر الخاصرة الضعيفة، وهي «حزب الله» في لبنان، أو أنها ستكون نتيجة «حاجة» إدارة ترامب الى حرب لاحقة أكبر، تحوّل الأنظار عن الاضطراب الداخلي الذي يطوقها؟
الصفقة الكبرى بين الولايات المتحدة وروسيا ما زالت بعيدة جداً، بالذات في ضوء اللاثقة الأميركية بروسيا وكذلك شكوك جزء من القاعدة الشعبية الأميركية بالرئيس دونالد ترامب. إيران تبقى واجهة الاختلاف بين إدارة ترامب والحكومة الروسية حالياً، وهي قلقة لأن المؤشرات حتى الآن تفيد بأن الإدارة الأميركية الجديدة غير جاهزة أبداً لتتقبل الطموحات الإيرانية الإقليمية. ما يريحها هو أن روسيا غير جاهزة، من جهتها، لتتقبل الانفصال عن إيران، مهما تكاثر الكلام عن هذه الحتمية.
تبقى تركيا في طليعة التجاذبات الأميركية - الروسية، أقله مرحلياً، وهي بدورها قلقة من ارتكاب أخطاء تورطها. تركيا مصرة على بناء الجسور مع روسيا لكنها غير مستعدة للتخلي عن الأولوية القاطعة لها وهي انتماؤها لحلف شمال الأطلسي (ناتو). إنها تحاول الإبحار في مياه عاصفة، لذلك تتخبط، لكن سفينة النجاة لها حالياً هي شراكتها الميدانية في سورية في العزم الأميركي - الروسي المشترك على الأولوية «الداعشية». أما مشكلتها الكردية، فهي مجمّدة في مكافآت دولية للأكراد لا ترتقي الى طموحاتهم التاريخية باستثناء الإقليم الكردي في العراق.