إعلان وزير الدفاع التركي، فكري أشيق، أن أولوية بلاده في مسألة مدينة منبج السورية هي للمحادثات الدبلوماسية، يعني أن تركيا مازالت تفاوض حليفها المفترض، واشنطن، على تسوية سياسية للأزمة السورية، وأن الأولوية هي للخروج بهذا التفاهم، شرط أن تلتزم الإدارة الأميركية الجديدة بالتعهدات القديمة المقدمة حول انسحاب قوات سورية الديمقراطية من المدينة، وتسليم الأخيرة للقوات التركية والجيش السوري الحر، لتكون جزءاً من مشروع المنطقة الآمنة المعلنة في أعقاب انطلاق عملية درع الفرات قبل ثمانية أشهر.
الإعلام التركي المقرب من حكومة "العدالة والتنمية" كان ينشر قبل أيام تسريباتٍ عن الخطة العسكرية التركية المعدة لدخول مدينة منبج، لكن الإعلام نفسه اليوم يتحدّث عن معرفة أنقرة لصعوبة الوصول إلى ما تريد، وأنها لهذا السبب حذرة في تحديد مواقفها وخطط تحرّكها، على الرغم من إعلانها عدم التخلي عن وجود الخيار العسكري الذي سيكون آخر البدائل، كما قال الوزير التركي، في حال الوصول إلى طريقٍ مسدود، سياسياً ودبلوماسياً.
تعرف أنقرة أن ما يجري على الأرض يتعارض مع ما تقوله هي، فكل التطورات الميدانية والسياسية تتقدم في منحى آخر، تحاول إدارة ترامب فرضه على الجميع في شمال سورية:
- واشنطن تضع اللمسات الأخيرة على تشكيل جيش الرقة، وهي لن تحزن كثيراً إذا لم يشارك الأتراك في هذه المعركة، إذا لم نشأ القول إن ذلك يفرحها، لأنه سيقلب معادلات "درع الفرات" لصالح غضب الفرات هذه المرة.
- وواشنطن تردّد أنها لا تحتاج إلى وحدات البشمركة السورية التي دربتها أربيل بمعرفة أنقرة وتشجيع منها في معركة الرقة، وإنها ستكتفي بخوضها مع وحدات صالح مسلم (قوات سورية الديمقراطية).
- وهي تقرر إرسال قوات عسكرية أميركية إضافية إلى شمال سورية، يصفها النظام السوري بأنها قوات تدخل واحتلال، لكنه يفتح الطريق أمامها في إطار لعبة تحالفات واصطفاف محير، يجمع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والنظام السوري والمجموعات المحسوبة على إيران بغطاء عسكري أميركي روسي إيراني في مواجهة تركيا والجيش السوري الحر في منبج ومحيطها.
باتت خطة واشنطن في شمال سورية شبه واضحة، بعد وصول لقاءات تركية أميركية عديدة، في الأسابيع الأخيرة، إلى طريق مسدود، وفشل المحادثات العسكرية الثلاثية في أنطاليا بين قيادات الأركان التركية والروسية والأميركية، وعدم تفاهم الرئيسين، رجب طيب أردوغان وفلايدمير بوتين، في لقائهما أخيراً، على خطة تحرّك مقبولة، وترضي أميركا أيضاً حول نقطتي الخلاف الأهم: تفاصيل معركة الرقة ومن سيتسلم منبج.
تريد أميركا: - إنهاء خطة درع الفرات، وحصر حدود المساحة الجغرافية للمنطقة الآمنة التركية، بما هي عليه اليوم.
- تحويل منبج إلى قاعدة انطلاق عملياتها السياسية والعسكرية في سورية قبل تسليمها إلى حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ليضمها إلى مناطق نفوذه.
- إلزام روسيا بالتفاهم معها حول ما تقوله هي، وليس كما كانت تريد موسكو أن تفعل في تحديد مسار العمليات السياسية والعسكرية في سورية.
- محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الرقة، لكن الأولوية ستكون للضمانات والتفاهمات على حدود الكيان الكردي، والتسليم بحصته السياسية والجغرافية والدستورية.
- تسليم الملف السوري لروسيا، بعد تحقيق مطالبها تماماً كما فعلت في العراق، عندما تخلت عنه للنفوذ الإيراني.
- محاصرة المعارضة السورية بالتفاهمات الجديدة التي سيكون موضوع مصير الأسد والمرحلة الانتقالية في سورية آخر التفاصيل فيها.
يقول نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان كورتولموش، إن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي، وتتفرج على محاولة تشكيل دولة كردية على حدودها، لكنه يدرك تماماً أن العودة الأميركية السريعة والمفاجئة إلى قلب المشهد السوري لم تكن لتختار الحليف الكردي المحلي، لو لم تستغل تركيا غياب واشنطن القسري، وتحاول استغلاله باتجاه بناء فرض حالةٍ من الأمر الواقع عليها في سورية، تحرمها من المشاركة في تحضير الطبخة، وتلزمها بتناول ما يوضع أمامها على الطاولة. رفع العلم الأميركي على مداخل منبج ليس من أجل الفصل بين حليفيها، القوات التركية والكردية هناك، بل من أجل توفير الحماية الكاملة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وبالتالي الدويلة الكردية، وإفهام أنقرة أنها لا يمكن أن تحدد بمفردها من هو الإرهابي، خصوصاً إذا ما كان موالياً وحليفاً لواشنطن، ويحقق لها ما تريد.
فشل تركيا في الجمع بين واشنطن وموسكو حول تفاهمات مشتركة في سورية قد يدفع اللاعبين الدوليين إلى التفاهم بدونها هناك. لذلك، تجد نفسها اليوم وجهاً لوجه أمام قرارات خطيرة ومكلفة، قد تفتح الطريق أمامها في شمال سورية، لتصل إلى ما تريد، أو ترى نفسها محاصرة ومعزولة وراء الجدار العظيم الذي بنته على الحدود التركية السورية، لتحمي نفسها من الخطر القادم من الجنوب.
لا نعرف تماماً إذا ما كانت النقلات التركية، أخيراً، باتجاه واشنطن، مثل الإعلان عن اقتراب التوصل إلى صفقة تزويد تركيا بصواريخ إس - 400 الروسية ومبادرة أنقرة بدعوة العشائر العربية في شمال سورية للاجتماع في مدينة أورفا التركية الحدودية، لبحث سبل مواجهة نفوذ صالح مسلم في شمال سورية، وإشعال الضوء الأخضر أمام المعارضة السورية، لعدم المشاركة في لقاء أستانة، أخيراً، هي تحذيرية، وإذا ما كانت ستجد آذاناً صاغية لدى الأميركيين، لكننا نعرف أن تركيا تدفع ثمن الثقة بحليفها الأميركي الذي نصحها بالتوجه نحو مدينة الباب، لمحاربة تنظيم داعش مقابل وعودٍ لم تتحقق بسحب الوحدات الكردية من غرب الفرات إلى شرقه. سيشعل التباعد التركي الأميركي حتماً نقاشات حادة في المحافل السياسية والأمنية والعسكرية الأميركية حيال مقامرة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وفريق عمله في اختيار صالح مسلم حليفاً، بدلاً من الأتراك، ومحاولة محاصرة تركيا بلعب الورقة الروسية ضدها، إذا ما شعرت أن أنقرة تقاوم وتناور لتعطيل مخططها في سورية. وقد عاد السيناتور الأميركي، جون ماكين، الذي التقى أخيراً القيادات التركية في أنقرة، في محاولةٍ لإيجاد صيغة تفاهم ترضي الأتراك والأميركيين، عاد بيد فارغة، ليوجز المشهد على النحو التالي "أصبحنا في صف واحد مع الروس ضد حليفنا التركي".
تزداد مهمة تركيا في سورية مشقة، وهي تحمل أكثر من كرتونة بيض بين يديها. نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية في منتصف إبريل/ نيسان المقبل المفصل التاريخي في حياة تركيا والأتراك، نحو حقبة تغيير سياسي واستراتيجي واسع في الداخل والخارج، لكننا لا نعرف الكثير عن ارتداداته، بعدُ بين احتمالي نعم ولا، لدى الحليف الأميركي.
بقلم: عبد الرحمن عمار
بخطى سريعة تمت صناعة الإرهاب وإلصاقه بالإسلام وتحييد الشعوب والأديان الأخرى.. وبخطى أسرع أصبح الإرهاب محصوراً بالمسلمين السنة تحديداً، والعرب بشكل خاص، كل ذلك عبر حملات سياسية وعسكرية وإعلامية عالمية منسقة ومدروسة.
وقد بلغت الحملات ذروتها بتصنيع تنظيم الدولة ونشر مقاتليه في العراق والشام ثم في العديد من الدول العربية والأجنبية دون أن يتساءل أحد من العارفين أو الجاهلين عن تلك القدرة الخارقة التي يمتلكها التنظيم، بحيث يضرب في قارات الأرض كلها دون أن يؤثر فيه أحد، وكأنه سوبرمان يلبس طاقية الإخفاء.
كل ما يذكره العالم ويتداوله الإعلام العالمي أن " داعش " يمثل الإسلام، لذلك فهو يقتل ويسفك الدماء، والأدهى والأهم من ذلك أنه يقطع الرؤوس، ولذلك يجب القضاء عليه، أو بالأحرى القضاء على الإسلام والمسلمين، فالكل محكوم بالإرهاب.
منذ عدة سنوات امتدت تهمة الإرهاب من الحاضر إلى الماضي حتى وصلت إلى الرسول الكريم. وما الرسوم المسيئة إلا غيض من فيض من عملية التشويه العالمية المتعمدة ضد الإسلام والنبي الكريم، فالعقيدة الإسلامية، بحسب زعمهم، هي عقيدة تشجع على الإرهاب، بل هي منبع الإرهاب الفكري وصولاً إلى الإرهاب الدموي الذي يمارسه في هذه الأيام تنظيم الدولة وغيرها من التنظيمات المصنفة عندهم بالإرهابية، وهذا محض افتراء وتزييف.
وما داموا قد عادوا إلى تاريخنا واستحضروا الاتهامات الباطلة وصولاً إلى الوقت الراهن، فنحن من حقنا أن نعود إلى تاريخهم، ونستحضر أجزاء قليلة جداً من الوقائع الموثقة في أدبياتهم التاريخية، فنذكر على سبيل المثال كيف تمت إبادة الهنود الحمر على أيدي الرجل الأبيض، منذ أن داست قدما كولومبس أرض القارة الأمريكية. وقد علق أحد الكتاب ساخراً بمرارة: لو كان هنالك أية وسيلة توثيق فعالة في تلك الأيام لتسجيل وتصوير وتدوين ما فعله كولومبوس بالأرض التي نزل عليها في ذلك اليوم من عام 1492م، لمنح أبو بكر البغدادي وقادة حلف المقاومة والممانعة جوائز نوبل للسلام ".
إن كولومبس وخلفاؤه مارسوا على مدى أكثر من ثلاثة قرون أنواعاً شتى من عمليات القتل والإبادة، وقد سجلت أفلام الكاوبوي الأمريكي الكثير من هذه الممارسات، ومنها ما كان يفعله " صيادو الرؤوس "، فكل مغامر أبيض كان يتجول على أطراف القبائل الهندية، ثم يأتي برأس هندي أحمر أو أكثر، وينال جائزة مادية مغرية.
والأدهى والأمر من ذلك كان الرجل الأبيض يتعمد تسميم المياه ونشر الأمراض والأوبئة الفتاكة بين شعوب بدائية لا معرفة لها ولا قدرة على مقاومة تلك الأوبئة. ونتيجة لكل ذلك تمت إبادة تلك الشعوب الهندية بشكل شبه كامل، فبحسب المصادر الغربية كان عدد سكان الهنود الحمر في الأمريكيتين أواخر القرن الخامس عشر، أكثر من مائة مليون نسمة، وبحسب قانون النمو السكاني، فمن المفترض أن يكون العدد الآن أكثر من خمسمائة مليون نسمة، إلا أن عددهم في الوقت الراهن هو أقل من مليون نسمة، ومثلما فعل الرجل الأبيض بالهنود الحمر كذلك فعل بسكان أستراليا الأصليين.
ولو انتقلنا إلى احتلال فرنسا للمغرب العربي، ومنها الجزائر عام 1830 واعتمدنا على الكاتبة الفرنسية ( كوليت جانسون ) في سرد ما فعله الفرنسيون من فظائع لتأكد لنا مرة أخرى أن الرجل الأوروبي، دون أن نعمم، هو أسّ الإرهاب ودعاماته، وسوف نكتفي هنا بعدة أمثلة أوردتها الكاتبة لتثبيت ما نرمي إليه.
تصف الكاتبة بسخرية مرة حال المفهوم الاستعماري الفرنسي للجزائر حين تقول: إن فرنسا فتحت الجزائر وباركته المسيحية جمعاء، ومن واجبنا أن نحمل شعب الجزائر على اعتناق العقيدة الفرنسية حتى يلمسوا السعادة الروحية.!!.
وفي تقرير أرسله الجنرال روفجيو الى فرنسا يقول فيه: خرجت قوة من الجنود من مدينة الجزائر في ليل 6 إبريل عام 1832 وانقضّت قبيل الفجر على أفراد إحدى القبائل وهم نيام تحت خيامهم فذبحتهم جميعاً بغير تميّز في الأعمار والاجناس، وعاد الفرسان الفرنسيون من هذه الحملة وهم يحملون رؤوس القتلى على أسنة رماحهم ".
ويقول غيره في كتابه " رسائل جدي " دخلنا إلى مدينة " الأحراج " واستولينا عليها ففعلنا فيها ما فعلنا.. لقد كانت مذبحة شنيعة حقاً كانت الجثث منتشرة في الميادين والشوارع والخيام حتى أننا أحصينا 2300 جثة، أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لأننا لم نترك جرحاهم على قيد الحياة أبداً ".
وهنا نشير إلى أن عدد من سقطوا في المعارك التي حدثت في الجزيرة العربية بين المسلمين والمشركين خلال عشر سنوات من عمر الدعوة، لم يتجاوز ألفي قتيل، ومع ذلك لا يزال الغرب يرفع مقولته المهترئة بأن الإسلام انتشر بالسيف.
وكان الإعلام الفرنسي في ذلك الوقت ينهج نهج أولئك الجنرالات من حيث التشفي والاعتزاز بالقتل وسفك الدماء وقطع رؤوس الجزائريين. ففي أكتوبر من عام 1836 كتبت إحدى الصحف قائلة:
لقد أُرسل إلى فرنسا مؤخراً عشرون رأساً ليبلغ عدد الرؤوس التي وصلت إلى معسكر العمليات ثمانية وستين رأساً، وهى معلقة على سناكي البنادق، إنها لصفقة عظيمة وبداية طيبة تفتح لنا الطريق.. ".
وفي المنحى الإجرامي ذاته، نذكر ما جرى في المغرب عام 1950 أثناء تصوير بعض المشاهد من فيلم " الوردة السوداء "، فبحسب أحد مواقع التواصل الاجتماعي، قام الماجور الفرنسي " لويس مورين " بإعدام اثنين من المقاومين المغاربة شنقاً على الشجر، لكي يتم استخدامهم في أحد مشاهد الفيلم عوضاً عن استخدام الدمى، وبذلك يكون المشهد أكثر واقعية.!!. فالماجور المذكور كان من معجبي الممثل الأميركي " أريسون ويلز ".. بطل الفيلم.!!.
أما قياصرة روسيا وصولاً إلى بوتين، فقد مارسوا أنواعاً شتى من الإبادة ضد الشعوب الإسلامية في منطقة القوقاز وغيرها. ونكتفي بالإشارة هنا إلى أن عدد سكان الشيشان المسلم كان نحو سبعة ملايين في القرن الثامن عشر، أما اليوم فلا يزيد عن مليون ونصف إنسان. ولا نتحدث هنا عن طائرات بوتين التي دمرت الحجر وأبادت البشر في سورية، فالقوي ليس إرهابياً ولا يدان.!!. ولاسيما إذا كان الضحايا سوريين من أهل السنّة.!!.
لقد نجحت السياسة العالمية، وبمساهمة التقنيات الإعلامية الرهيبة، في أن تحصر الإرهاب بالمسلمين السنة تحديداً، أما الإسلام الشيعي فقد اصبح في منأى من هذه التهمة، وحين ترتكب الميليشيات الشيعية في العراق أو سورية جرائم كبرى بحق المدنيين العزل، فالعالم لا يهتم كثيراً لذلك، ولا توصف تلك الجرائم بالإرهابية.
من هنا يمكن أن نتساءل: مَن سمع بالعراقية " وحيدة محمد " والتي يُطلق عليها " أم هنادي ".. هذه المرأة سلطت الضوءَ على جرائمها شبكةُ سي. إن. إن الأمريكية، ربما من باب الإعجاب برجولتها.!!. فقد اعترفت بقطع رؤوس الكثير من" الإرهابيين ". كما أكدت أنها طبخت العديد من تلك الرؤوس المقطوعة، وتتباهى في صفحتها على التواصل الاجتماعي بنشر صور لها وهي تحمل رؤوساً مقطوعة.
أما إرهاب الأسد والمجازر التي ارتكبها، فلا حاجة للتذكير بها، ولكن للتدليل على عمق مأساتنا، نكتفي بما قالته لمى ابنة الطائفة العلوية، وابنة أحمد اسكندر أحمد، أشهر وزير إعلام في عهد الأسد الأب، والتي انشقت في حزيران عام 2013، بعد أن كانت مهيأة لتصبح قنصلاً دبلوماسياً في باكستان.
تقول لمى في لقاء صحفي: كنا نسكن في ضاحية الشبيحة القريبة من دمشق، ومن بيتي في تلك الضاحية كنت شاهدة على مجزرة " جديدة الفضل "، و " جديدة عرطوز " في آب 2012.. في مجزرة " جديدة الفضل" بقينا نسمع الرصاص لأربعة أيام، كان الدم طرياً على الأرض وشاهدنا كيف جمعوا الجثث وأحرقوها. لقد شممنا روائح احتراق الجثث..".
وأخيراً تقول لمى: على المرء أن يكون وحشاً كي يقدر أن يستمر مع النظام ".
ولم تستمر لمى، فقد انشقت عن النظام المحسوب عليها، وأراحت ضميرها الحي.
ومع ذلك فالإعلام الغربي والعربي الذي لا ضمير له، لم يسلط الضوء كما ينبغي على هذه الأفعال الشنيعة، ولا كيف كان العشرات من السوريين والعراقيين يُحرقون، وهم أحياء.
والسؤال المطروح: لو أن أحداً من أي تنظيم إسلامي سني فعل جزءاً بسيطاً مما فعلته " أم هنادي " وغيرها، أو مما فعله شبيحة الأسد، فكيف سيكون رد فعل الإعلام العالمي وحتى العربي نفسه.!!؟.
لم تقدّم روسيا أي مقابلٍ لمشاركة المعارضة السورية في لقاءات أستانة، المكان الذي لم يذكر في أي قرار دولي، ولم تتوافق عليه أطرف الصراع السوري، وترغب روسيا في جعله بديلا لجنيف، مكان المفاوضات الشرعية قانونيا ودوليا الذي تحمل اسمه وثيقة دولية، تقدم خريطة طريق لحل سياسيٍّ، ينهي حكم الأسد.
ولم تفهم روسيا معنى "المرونة" التي أبدتها المعارضة في أستانة، على الرغم من أنها لم تكن صحيحة أمس، وليست صحيحة اليوم أيضا، لأنها لم تقيد الروس بما التزموا به، سواء تعلق الأمر ببدء تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، أم بالوقف التام لإطلاق النار، أم بالقضم الروسي/ الأسدي لمناطق المعارضة، أم بكبح مخطط روسيا الزاحف الذي يستخدم القوة لإرغام المعارضة على القبول باحتوائها داخل النظام الأسدي، من خلال الانخراط في "حكومة وحدة وطنية"، هي بحد ذاتها مخالفة لوثيقة جنيف، وللقرارات الدولية الخاصة بتطبيقها.
حوّل الروس لقاءات أستانة عن وظيفتها المعلنة، وقلبوها إلى مكان لتطويع الفصائل وفصلها عن مرجعيتها السياسية التي يعملون لاستبدالها بمنصاتٍ، يمكن أن تصير بديلا للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ولهيئة التفاوض العليا، يتخلى عن وثيقة جنيف، بحجة قبول القرار 2254، الذي تعطله موسكو بدوره، لكي تمرّر بديلها الذي يبقي على الأسد ونظامه، ويحتوى المعارضة في إطاره.
لهذه الأسباب، كان من الطبيعي أن يقاطع وفد الفصائل لقاء أستانة الثالث، ردا على إعلان روسيٍ ينكر وجود علاقة بين أستانة ووقف إطلاق النار، الأمر الذي يجعل اللقاء هدفا منفصلا عن نتائجه أو جدول أعماله، ويتنكّر لالتزام روسيا والأسد في لقاء أستانة السابق بوقف زحفهما نحو مناطق المعارضة، وبوقف الحرب بدل تصعيدها. ويعني أن انعقاده صار إلزاميا، وأن المعارضة فقدت الحق في مغادرته أو الاعتراض على حق روسيا والأسد في مخالفة قراراته.
من الواضح أن روسيا مارست الخداع، حين قالت إن هدف أستانة هو إيجاد الأجواء المساعدة على بلوغ حلولٍ تلبي مصالح جميع الأطراف، بدءا بفرض وقف إطلاق نار شامل، يلتزم الجميع به، مع المحافظة على الأوضاع القائمة لدى الطرفين السوريين، غير أن استمرار الحرب، وانخراط طيران وجيش روسيا المكثف فيها، وما ترتب عليها في سوق وادي بردى والقابون وبرزه وحرستا ووعر حمص، أكدا أن موسكو ليست معنيةً بتنفيذ أي قرار دولي، وأن هدفها إلزام المعارضة بقبول انفرادها بحل يترجم قراءتها القرار 2254، المخالفة لنص بيان جنيف1 وروحه، إذ تنقذ النظام، وتمنع سقوط الأسد، وتقوّض أي مشاركةٍ دولية في المفاوضات، وأي مخرج متوازن يلبي مطالب الشعب السوري. بعد انفراد جيشها بممارسة قدر من قوة بدل موازين القوى، تريد دبلوماسيتها من لقاءات أستانة فصاعدا الانفراد بفرض حلّ يبدل القرارات الدولية، ويلغي حقوق السوريين.
أربك رفض الفصائل الذهاب إلى أستانة حسابات روسيا، وأكد أنها لم تنجح في وضعها تحت إبطها، وذكّرها أنها لن تحقق أهدافها بالوقوف على ساق النظام وحده، وتحتاج بشدة إلى ساق المعارضة أيضا، خصوصا بعد تكثيف حضور أميركا العسكري في الشمال السوري، الذي يصير أكثر فأكثر عقدة الصراع المحلي والإقليمي والدولي، ويتصاعد الصراع من خلالها على المنطقة وقواها من عرب وكرد وترك، ويدخل إلى مرحلة جديدة يدير الجباران فيها رهاناتهما بواسطة قواتهما العسكرية، الأمر الذي يزيد حاجة روسيا إلى المعارضة، ويمكّنها من إضعاف الموقف الروسي، إن نجحت في وضع الخطط والبرامج الضرورية لتحقيق ذلك، وصمدت في رفض الانصياع لأية ضغوط إقليمية تخدم موسكو، وترغمها على اتخاذ مواقف تتعارض مع مصالح الشعب السوري.
إذا كان هناك معارضون ذهبوا إلى أستانة، فليغادروها حالا، لأن دورهم ليس حل مشكلات روسيا السورية، ولأنه ليس من حقهم إدارة ظهورهم للوقائع التي تخدم قضيتنا، بقدر ما نعد أنفسنا للإفادة منها، بينما يعني تفاعلنا الإيجابي مع روسيا تخلينا عن دورٍ يستطيع جعل أيدي فلاديمير بوتين في وطننا أقصر من أنفه.
تريد روسيا فرض منظورها في سورية، حيث ما زالت مصممةً على بقاء بشار الأسد. لكن هل يشكّل بقاء الأسد حلاً؟ هذا ما لا يجيب الروس عليه، ولا أظن أنهم يفكرون به، لأن العنجهية التي تتحكم بهم تمنعهم من طرح هذا السؤال. يظنون أنهم قادرون على فرض الحلّ الذي يريدون، لأنهم "قوة عظمى"، وربما "أعظم من عظمى"، في عالمٍ اعتقدت أنها قادرة على أن تحكمه.
أولاً، لم يعد لدى النظام جيش، فقد تلاشى الجيش العربي السوري في خضم الصراع. لقد انشق أكثر من خمسين أو ستين ألفاً، بعد أن حسموا أمرهم أنهم مع الثورة. وقد عانى الجيش من فرار أكثر من مائتي ألف، لأنهم لا يريدون خوض الحرب ضد شعبهم، ولا يريدون قتل الشعب. وقتل ما يقارب المائة ألف جندي وضابط، وهم يقاتلون الشعب. لهذا، لم يبقَ سوى أقل من مائة ألف جندي وضابط (وربما العدد هو 70 ألفاً)، وكان بشار الأسد قد قال، صيف سنة 2015، أن حجم الجيش هو 130 ألف ضابط وجندي. وقد تكسرت "البنية الصلبة" التي اعتمد عليها النظام، منذ بدء الحرب على الثورة، أي الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، كما أن الشباب بات يهرب من الجندية الإلزامية، حتى وإنْ اقتضى ذلك الهروب خارج سورية.
ثانياً، فرضت سياسة القتل والتدمير هجرة ربع السكان تقريباً إلى خارج سورية، إضافة إلى تهجير أكثر من نصف السكان خارج مدنهم وبلداتهم وقراهم. وقتل أكثر من نصف مليون شخص، نتيجة الوحشية التي مورست. إضافة إلى من قتلوا في السجون، وهم عشرات الآلاف كذلك. وهم في الغالب من فئة الشباب.
ثالثاً، بالتالي، وفي ظل وجود بشار الأسد ومجموعته، ليس من الممكن بناء جيش يكون "حامي" النظام، حيث لن يثق من انشق أو فرّ من الجيش أو من الجندية، أو حتى اللاجئين الذين غادروا، بأن في وسعهم العودة إلى سورية. وبهذا، لن يستطيع النظام بناء جيش جديد، وهو يعتمد الآن على شبيحة (هم عماد الفرقة الرابعة وغيرها) أو على قوات حزب الله والحشد الشعبي العراقي والحرس الثوري الإيراني والمرتزقة الأفغان في فيلق زينبيون. وحتى كل هذه القوى لم تستطع منع سقوط النظام، ما حدا بروسيا إلى أن تتدخل لمنع ذلك. ولا شك في أن كل المعارك تخاض بقوى حزب الله وإيران، وبتغطية جوية روسية.
السؤال الجوهري هنا: كيف يمكن لروسيا أن تبقي بشار الأسد؟
بالتأكيد هي بحاجة إلى قوات على الأرض، وليس إلى الطيران والقصف الجوي فقط. هذا ما تقوم به أذرعة إيران الآن، لكن ذلك يعني أن على روسيا أن تقبل بمصالح إيران في سورية، وأن تخلّ باتفاقها مع الدولة الصهيونية التي تريد إبعاد إيران وإنهاء حزب الله. والمصالح هنا جوهرية، حيث تريد إيران مشاريع و"خط نفط وغاز" عبر سورية، وهو ما يتنافى مع المصلحة الروسية التي تريد التحكم بخطوط النفط والغاز. لهذا، بدأت إشارات روسية لحزب الله تطلب انسحابه من سورية، وتسمح بقصف الطيران الصهيوني له في سورية.
إذن، البديل هو قوات روسية، وهو ما بدأ منذ السيطرة على قاعدة حميميم، والمشاركة في معارك عديدة، ومن ثم إرسال "الشرطة العسكرية" إلى حلب، والقلمون. لكن ذلك سيقود حتماً مع زيادة القوات الروسية إلى تعرضها لحرب عصاباتٍ، هي ليست قادرة عليها، وسوف تقودها إلى أفغانستان جديدة. لكن العنجهية لا تسمح لها بأن تقبل "الحلّ الأسهل"، حيث ستكون دولة محتلة، برضى حتى أطراف عديدة في المعارضة. الحلّ الذي يبدأ باستبعاد بشار الأسد ومجموعته من أي حل سياسي، وتطبيق "جنيف1" الذي هو حلّ أمثل لها هي بالتحديد. حيث تعترف كل الأطراف الإقليمية والدولية بأنه يُطبق تحت إشرافها.
على كلٍّ، ربما يفيدنا الغباء الروسي.
يتفاءل السوريون بأن يكون العام السابع الذي يمر على مأساتهم عام اقتراب النهاية، وولادة عام (فيه يغاث الناس) بعد ما ذاقوا من الويلات ما لا يطاق وما يفوق التخيل من العذاب والدمار والقتل والتهجير والتشرد. وتتزامن ذكرى الثورة مع اقتراب عقد الجولة الخامسة من المفاوضات في جنيف، وكانت الرابعة قد انتهت إلى جملة من التصريحات التي استقبلها السوريون ببرود، وما تم إعلانه عن القبول بمناقشة موضوع الانتقال السياسي فقد أهميته عند ربط تقدم المفاوضات حوله بسلال ديمتسورا الأخرى (الانتخابات، الدستور) وقد أضاف الرابعة (الإرهاب) وهي السلة التي تحمل كل أنواع المتفجرات والقنابل الموقوتة القادرة على نسف أي تقدم يحققه المتفاوضون في السلال السابقة. ولم يخف ديمستورا مكيدة ربط سلة الإرهاب بالسلال الثلاث، فقد قال «إما كل شيء أو لا شيء»! ومن البدهي أن تتعثر المفاوضات حول موضوع الإرهاب على رغم كون الجميع يدينونه ويتبرؤون منه، ولكن اختلاف التفسير للإرهاب سيجعل المفاوضات أشبه بندوة سياسية من برامج الحوارات التلفزية الساخنة! فالنظام وحلفاؤه يرون كل من يحمل السلاح ضد النظام إرهابياً، والمعارضة المسلحة ترى أنها حملت السلاح للدفاع عن الشعب بعد أن صبر شهوراً على إرهاب النظام، ويرى النظام أن الميليشيات المحلية والأجنبية التي هبّت للدفاع عنه هي منظمات تعمل في إطار الشرعية، بينما يراها المعارضون والشعب السوري المشرد تنظيمات إرهابية مثل «حزب الله» وكل الميليشيات الطائفية.
وكان حرياً بديمستورا أن يعتمد ترتيب الأولويات، وأن يكون الحديث عن الانتقال السياسي وحده هو الأولوية المطلقة، وحين ينتهي إلى تنفيذ ما جاء في بيان جنيف 1 وفي القرارات الدولية حوله، ويتم إعلان هيئة حكم انتقالية تمارس صلاحياتها، يبدأ الحديث عن الانتخابات وعن جمعية تأسيسية تضع مشروع الدستور. وقد فصلت رؤية الهيئة العليا للمفاوضات سيناريو الحل وفق القرارات الأممية ووضعت خطة متكاملة لم تغفل التفاصيل، وقد شارك في بنائها مختصون في الدساتير والقوانين ونخب سياسية متعددة الرؤى، وطرحت للحوار مع العديد من تنظيمات المجتمع المدني، كما طرحت على صعيد دولي في لندن، ثم في الجمعية العامة في نيويورك.
وكنت أرجو أن يقدم النظام رؤيته لسيناريو الحل السياسي من وجهة نظره، كي يدرس الفريقان المتفاوضان الرؤيتين معاً، ولكن النظام لم يبدِ إلى الآن أية جدية في طرح الحل السياسي، ولم نسمع أكثر من الحديث عن حكومة وحدة وطنية كأن الثورة قامت من أجل إشراك بعض المعارضين في الحكومة. ولئن كانت المعارضة قد قبلت بالتشارك مع النظام في هيئة حكم انتقالي، فإن الهدف ليس تشكيل حكومة وإنما تشكيل بنية دولة مدنية ديمقراطية ينتهي فيها الاستبداد والطغيان والتغول الأمني الذي قمع الحريات وواجه الشعب بالقتل لمجرد أنه طالب بالحرية والكرامة، ولابد من أن ينتهي دور المنظومة الحاكمة التي ارتكبت من الجرائم ما لم يرتكبه حاكم في التاريخ ضد شعبه.
ومع أنني غير متفائل بأن تحقق الجولة الخامسة تقدماً في المفاوضات إلا أنني أجد الإصرار على متابعة العمل السياسي ضرورة لإبقاء القضية السورية محط أنظار العالم واهتمامه، ولكن من الواضح أن النظام ليس مضطراً للتنازل عن أي شيء عبر التفاوض، ما دامت دول كبرى في العالم تناصره، وأخرى تسكت عن مجازره، وأخرى تكتفي باستنكار إعلامي لما يفعل، وما دامت روسيا والصين تملكان حق «الفيتو» الذي يمنع عنه العقوبات وحتى الإدانة في مجلس الأمن. وهو يرى العالم يهتم بقضايا الإرهاب أولاً، ولا يعنيه كثيراً أن يزداد عدد القتلى المدنيين يومياً، وهم يموتون تحت الأنقاض وملايين السوريين يعيشون في الملاجئ والمخيمات أو مشردين على أبواب الدول! وهذا ما يدفع النظام إلى متابعة الحسم العسكري وجعل المصالحات القسرية مع التهجير والتغيير السكاني وسيلة الحل الوحيدة عنده، وروسيا تساعده، وتسعى معه لفرض الإذعان والاستسلام على المعارضة.
وأعداء الثورة السورية يدعون أنها انتهت، وقد ارتاحوا لهجرة أكثر من نصف الشعب السوري، وسيتابعون تهجير من يشكون بولائهم عبر الترهيب المستمر وعبر الاعتقال والتعذيب، ولكنهم يتجاهلون أن الحلول القسرية لم تنهِ قضية وطنية في التاريخ كله، ولاسيما أن دماء الشعب ما تزال تنزف، وسيبقى الدم يلاحق المجرمين مهما طال الأمد.
كان شهر آذار (مارس) الذي حمل شؤماً تاريخياً بعد مقتل الإمبراطور يوليوس قيصر في 15 آذار سنة 44 ق.م. يمثل مرحلة بالغة الصعوبة بالنسبة الى القوى الإقليمية والدولية.
وبما أن ذهنية الرئيس الأميركي دونالد ترامب تخضع دائماً لمعايير رجل الأعمال في صفقات الربح والخسارة، فإن سياسته الشرق أوسطية بدأت تتضح معالمها في ضوء اختيار طاقم إدارته.
ومن أجل إخضاع قراراته السياسية الى قوة تنفيذية محترفة، انتقى عسكريين للعب هذا الدور الخطير. ومن أبرز انتقاءاته في هذا المجال كان وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس، ووزير الأمن الداخلي الجنرال جون كيلي، ومستشار الأمن القومي الجنرال هيربرت ماكماستر.
وزير الدفاع الجديد (66 سنة) هو جنرال متقاعد، سبق أن قاد كتيبة المارينز خلال حرب الخليج الأولى، كما قاد فرقة من مشاة البحرية أثناء غزو العراق. وفي سنة 2010 عينته وزارة الدفاع رئيساً للقيادة الأميركية المركزية التي تشمل كل منطقة الشرق الأوسط بما فيها أفغانستان.
وواضح من الاتصالات الهاتفية التي أجراها ترامب مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، أن الرئيس الأميركي الجديد عازم على إحياء علاقات الصداقة مع دول الخليج العربي. لذلك وظـّف الوزير الجنرال ماتيس مبادرة رئيسه من أجل الاتصال بولي ولي العهد السعودي ووزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان، والتنسيق معه على برنامج بدأ بمناورة قوات بحرية مشتركة... وانتهى بزيارة رسمية للبيت الأبيض يوم الثلثاء الماضي.
وفي لقاء عمل موسع، عرض الأمير محمد بن سلمان أمام الرئيس ترامب وفريقه رؤيته للحروب المستعرة في اليمن وسورية والعراق وليبيا، منبهاً الى خطورة الاتفاق الذي عقده الرئيس السابق باراك أوباما مع طهران، الأمر الذي شكل تهديداً متواصلاً للاستقرار والأمن في الشرق الأوسط.
ورأت طهران في التغيير الذي طرأ داخل البيت الأبيض تراجعاً عن مختلف التعهدات التي قدمتها الإدارة السابقة الى وزير الخارجية محمد جواد ظريف. لذلك قرر المرشد الأعلى علي خامنئي امتحان إرادة ترامب عبر عمل عسكري نفذه «الحرس الثوري» على تجربة صاروخ يُسمى «خرم شهر». وهو صاروخ معدّل لصاروخ «عماد»، مع قوة دفع يصل مداها الى أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر. وأحدثت التجربة قلقاً مدوياً في الدول الغربية، خصوصاً أن الصاروخ يستطيع إصابة أهداف في العواصم الأوروبية، وأن تطويره لحمل رأس نووي يشكل استفزازاً لدول الحلف الأطلسي، إضافة الى دول الخليج العربي.
إيران أنكرت أن يكون الاتفاق الذي وقّعه وزير خارجيتها محمد جواد ظريف يحتوي على بند ينص على موضوع الصواريخ الباليستية. والسبب أن طهران ألغت برنامج إنتاج سلاح نووي. إذاً، ليست هناك حاجة الى صاروخ يحمل قنبلة نووية. ولكن هذا العذر لم يقنع الإدارة الأميركية التي أثارت نقاشاً حاداً في مجلس الأمن. كما لم يقنع رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو الذي سافر الى موسكو لبحث سلسلة مخاوف تتعلق بمستقبل إيران في سورية.
وقالت الصحف الإسرائيلية إن نتانياهو استعرض مع الرئيس فلاديمير بوتين عدة احتمالات تتعلق بسيطرة إيران في سورية. وتوقع أن تخرج بمكاسب جمة عقب الانتصار على «داعش» بفضل المقاتلين التابعين لإمرتها، سواء جيش إيران النظامي و «الحرس الثوري»، أو مقاتلي «حزب الله». وذكرت هذه الصحف أيضاً أن نتانياهو أعرب أمام بوتين عن اضطراره للانزلاق نحو حرب مفاجئة في حال نفذت إيران وعودها بإقامة قاعدة بحرية دائمة في ميناء طرطوس، أو في حال استعد «الحرس الثوري» مع «حزب الله» لاستعادة هضبة الجولان السورية. وذكر في معرض الشكوى أمام سيد الكرملين أن طهران أشرفت على تشكيل ميليشيا شيعية عراقية باسم «النجباء»، أعلن قائدها أن كتيبته معدة خصيصاً لتحرير الجولان.
في أحاديث أدلى بها خبراء روس شبه إجماع على أن بوتين متمسك بتحالف المصالح مع إيران، وأنه يسعى الى ضمان سيطرة بشار الأسد على سورية، أو على أجزاء كبيرة من سورية. ويبدو أن بوتين لم يعد بالتدخل لحماية الأمن الإسرائيلي، ولكنه وعد بغض النظر عن المخالفات التي تقوم بها إسرائيل لحماية مصالحها. وهذا ما حدث في السابق حول الضربات المنسوبة الى إسرائيل في الأراضي السورية ضد قوافل السلاح الإيراني المرسل الى «حزب الله».
يقول بعض المحللين إن نتائج معركة تحرير الرقة، عاصمة «داعش» في شرق سورية، ستؤثر في مصير الوجود الإيراني وطريقة انتشاره. وهم يربطون تقديراتهم بالقوى التي ستنجح في استرداد الرقة. هل هي قوى تركية بمعاونة معارضين سوريين سنّة، أم قوى كردية تعتمد على القوات الأميركية لاستعادة المدينة. ففي حال حدوث هذا الأمر فإن النتيجة ستؤدي الى إنشاء حاجز بين شيعة العراق وبين سورية التي يسيطر عليها بشار الأسد. ولكن في حال نجحت قوات بشار الأسد والمحاربون الإيرانيون في إخضاع الرقة لنفوذها، فإن إيران عند ذلك تستطيع إنشاء ممر بري يبدأ في طهران، ويمر في العراق ويمتد نحو شرق سورية... الى أن يصل الى دمشق ومن ثم لبنان. وهذا معناه تحقيق «الهلال الشيعي»!
العسكريون الذين يرسمون سياسة ترامب الخارجية يعرفون جيداً أن قوة إيران الإقليمية ناتجة من توظيف «أذرعها السياسية» في المنطقة. فهي تستعمل الحوثيين في اليمن للضغط على السعودية. وتستخدم «حزب الله» في لبنان كرافعة لتهديد إسرائيل. ولكنها في الوقت ذاته تربك الجيش النظامي وتمنع قيادته من اتخاذ أي قرار مستقل. وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا الانفصام السياسي في دور لبنان العروبي، إذ إنه عرّض الدولة لانشطار دائم حول خوفها من ارتكاب أي خطأ تجاه «حزب الله» وإيران.... وبين انحيازها المشكوك في صدقيته تجاه مبادئ الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي. وهذا ما يربك الرئيس ميشال عون، ويحرج موقفه داخل القمة العربية المقبلة التي ستعقد في عمان آخر الشهر الجاري.
وما ينطبق على اليمن ولبنان، ينطبق على سورية المرتهنة لإيران منذ اندلاع ثورة الخميني. ومن المؤكد أن هذا الوضع الانشطاري يسري على حركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي».
وقد ظهر هذا التباين في المواقف عقب استقبال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس للموفد الأميركي جيسون غرينبلات، على أمل تحريك عملية السلام المجمدة منذ سنة 2014. وصدر عن رام الله بيان يقول إن أبو مازن قد يلتقي ترامب قبل انعقاد القمة العربية في الأردن آخر هذا الشهر. لذلك أرسل عباس رئيس أجهزة استخباراته ماجد فرج الى واشنطن، بهدف استكشاف الخطة الأميركية قبل التورط في التودد للسفير الأميركي ديفيد فريدمان، الملقب بسفير إسرائيل في إسرائيل!
ويتخوف عباس من احتمال طرح مسألة نقل سفارة أميركا من تل أبيب الى القدس، وفاء لتعهد ترامب خلال حملته الانتخابية. وقد استعد للدفاع عن قناعاته بالقول إن نقل السفارة الى القدس يعني اعتراف أميركا بأن القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل. ولكن لم يخطر بباله أن ترامب أعد له مفاجأة مفادها: نقل سفارة أميركا الى القدس الغربية مقابل نقل الممثلية الأميركية لدى فلسطين الى القدس الشرقية. ومثل هذا التوازن يمكن أن يصبح مقدمة لإنشاء «قدس كبرى» مع بلدية مشتركة للفريقين.
كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» تقول إن العسكريين الثلاثة داخل الإدارة الأميركية أقنعوا الرئيس دونالد ترامب بأن الموقف السلبي الذي اتخذه سلفه اوباما طوال ثماني سنوات أعطى إيران الفرصة لتقوية «أذرعها» الممتدة من اليمن حتى لبنان. وقدموا له خطة عسكرية تبعد المواجهة مع إيران لأسباب اقتصادية، ولكنها تركز على ضرب «داعش» و «القاعدة» في أي مكان.
والثابت أن تنظيم «القاعدة» كان يتهيأ خلال الشهرين الماضيين لملء الفراغ السياسي والأمني الذي سيحدثه طرد تنظيم «داعش» من العراق وسورية والبلدان الأخرى. وكان قائد فرع اليمن قاسم الريمي - وكيل زعيم «القاعدة» في جزيرة العرب - قد تحدث باسم وريث أسامة بن لادن أيمن الظواهري، معلناً اليمن قاعدة متقدمة للنضال ضد أميركا وحلفائها.
لهذه الأسباب وسواها باشرت القوات الأميركية عملية تقليم أذرع الإرهاب عندما شنت عشرين غارة على مواقع في محافظات أبين والبيضاء وشبوة. وأكد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش» نشر قوات أميركية إضافية في سورية قبل الهجوم على الرقة. وتضم هذه القوة أربعمئة جندي التحقوا برفاق آخرين يبلغ عددهم خمسمئة يشكلون وحدة من مشاة البحرية.
والغرض من كل هذا - كما تُجمع الصحف الأميركية - ليس أكثر من تأكيد يحرص الرئيس ترامب على إبرازه أمام الرأي العام، أنه يريد الظهور بمظهر رئيس مخالف لنهج سلفه اوباما الذي رفض إصدار قرار يقضي بمشاركة قواته في أي قتال على أرض الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، يرتفع سؤال مهم يتعلق بالمدى السياسي المطلوب في حرب أميركا ضد «وكلاء» إيران في المنطقة. وهل يمكن أن تتورط القيادة العسكرية الأميركية في حرب مفتوحة مع الدولة المساندة لخصومها في المنطقة؟
على رغم التصنيف الذي أعلنه ترامب لمواطني ست دول إسلامية بينها إيران، إلا أن هذا القرار لم يمنعه من الموافقة على استكمال تصنيع ثمانين طائرة مدنية من طراز «بوينغ» كانت طهران قد اشترتها عقب رفع العقوبات الدولية عنها السنة الماضية. ومعنى هذا أن المصالح الإيرانية في نظر ترامب لا تخضع لتصنيف الممانعة، كونه يقيس الأمور بمقياس الربح والخسارة.
ولكن سلوك الإدارة الأميركية الجديدة مع إيران لا يطمئن «حزب الله» الى معاملة مماثلة، خصوصاً بعدما تأكدت إسرائيل من أن مرتفعات الجولان ستكون مادة مقايضة قبل رسم الخطوط النهائية لمنطقة الشرق الأوسط بعد سقوط «دولة داعش»!
حضرت اللغة العربية بكامل هيبتها و سطوتها ، في الخطابات المحتفلة بالثورة السورية التي أتمت عامها السادس و دخلت في سابعه ، و ترنح الخطباء أمام الكميرات بكامل أناقتهم ، فارضين علينا واجب استماعهم .
انطلق كل من قائد حركة الأحرار الاسلامية و هيئة تحرير الشام ، في خطابهما المسجل ، بكل رحابة صدر مستلين لغة تميزهم عن كل ما يحيط بهم من “رعية” ، حتى يثبتوا أنهم ليسوا منهم ولايمثلونهم ، مكررين ذات العبارات و ذات الجمل التي باتت عبارة عن “عجينة” تستخدم في كل وقت و ظرف لسد الشروخ في جسد السوريين عموماً و جمهور الثورة على وجه خصوص.
لغة مقيتة ، مليئة بضروب البلاغة و التعابير و التشابيه الشديدة الفصاحة لدرجة أنك تحتاج لمختار الصحاح و بعض من المراجع اللغوية ، لتفسيرها و فك طلاسمها ، و في ظنهم أنهم بذلك يتحولون لقادة على مستوى يفوق الحاجة و بالتالي فهم الحاكمون بلا منازع .
ذات الأهداف و الاستراتيجيات التي كرروها هنا ، و في كل مرة و مناسبة و فرصة ، تتاح لهم بالظهور على ملايين السوريين المكلومين من ظلم البشرية الأجمع ، ليخرج هؤلاء بهيباتهم و يزيدون الظلم ظلما.
لم أجد في خطابات التشكيلين أي جديد ، فالدعوة للتوحد و ضرب الأسد وحلفاءه و بالطبع تسفيه الآخر و جعله غريباً عن الأرض ، ولا أنسى الكلام عن مواضيع تخص الأمة الاسلامية ، مع التعريج على سيف الحق الذي يستلونه ولا يوجد منه إلا نسخة واحدة بيد المتحدث.
الدعاء و الابتهال ، و الرجاء من “العلماء” للاجتماع و ايجاد المخرج للثورة من عنق الزجاجة التي وجدت نفسها بها ، دون أن يكون لأحد غير “العلماء” دور في هذا الخلاص ، فلا خبراء و لا اختصاصين لهم الدور أو حتى الحق في إبداء حرف غير التأييد و الابتهال لله لحفظ السادة “العلماء”، فطالما وجدت اللحية و بضع الثقافة الفقهية ، يجعل منك مغرداً و فعالاً و ناثراً للعلم و الدراية على الأمة “الثغاء” التي تجهل كيف تذهب إلى مخدعها.
يخطىء من يظن أن الثورة هي من يخطب باسمها أو يخرج في هذا المقطع أو ذلك ، فالثورة هي الشعب بأكمله ، و بكل حالاته ، لاحاجة لأن يعتلي منصتها متعالٍ و متباهٍ في لغة ليست لغتنا ، و طريقة طرح لا جدوى منها إلا للملمة بعض من كرامة الخطباء المندثرة تحت غبار بيت أو بناء أو مسجد أو مدرسة أو مشفى ، دمره طيرانٌ ما .
كل الأطراف في المنطقة تحاول أن تعيد تموضعها، تحسباً إن تم الاتفاق على إنهاء الحرب في سوريا، وفق المشروع الروسي. هذه مرحلة مهمة ترسم الأوضاع في المنطقة وتعيد ترتيبها، لا ندري للأسوأ أم الأفضل. وواحد من أهم التطورات دخول إسرائيل على الخط، الموضوع الذي كتبت عنه قبل أيام.
فالإسرائيليون لاعبون مهمون فيما يسمونه بمناطقهم الأمنية، وهي الدول التي تحاذيهم، وإن لم يظهروا على رادار الأحداث.
يهمنا أن نعرف ما جرى في موسكو؛ لقاءات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع القيادات الروسية، وتحديداً فلاديمير بوتين، سوريا كانت موضوعها الرئيسي، وفق رواية الجانبين. نتنياهو ليس ضد الاتفاق بين الأطراف السورية المتقاتلة، وفق مشروع الروس، أي ببقاء بشار الأسد في الحكم وإعطاء المعارضة صلاحيات محدودة. بل هي الأفضل لهم، نظام ضعيف ومعارضة منهكة.
مصادر عن نتنياهو تقول إنه سافر إلى موسكو بهدف «انتزاع» تعهد من «صديقه» بوتين بشأن «ضرب» الوجود الإيراني ووجود «حزب الله» وباقي الميليشيات الموالية لطهران من سوريا. والأرجح أن كلمة «ضرب» هنا تعني فرض اتفاق سلام يجبرهم على الخروج من سوريا.
الرد «الصادم» الذي قاله بوتين لنتنياهو، وفق المصدر:
إنه لا يمكن لموسكو أن تظهر بمظهر الذي يتفق مع إسرائيل بشأن ضرورة ضرب الوجود والنفوذ الإيراني في سوريا في الوقت الراهن، لأن موسكو تعتبر أنها لا تزال «تحتاج» للدور الإيراني في سوريا «إلى حين انتهاء الحرب مع (داعش)، وإلى حين التوصل إلى حل
سياسي لسوريا».
لكننا نعرف أن الوعود المستقبلية في مثل هذه المراحل الأساسية من صنع الاتفاقيات لا يعتمد عليها، وغالباً لا تتحقق. فموسكو تعد بأنها ستقلص وجود إيران وحلفائها لاحقاً، لكن تحقيق مثل هذا الوعد يتطلب ضمانات دولية صريحة. فقوات سوريا دخلت لبنان بحجة وقف الحرب هناك عام 1976 ولم تخرج إلا عام 2005، بعد اغتيالهم عدداً كبيراً من القيادات اللبنانية من بينهم رفيق الحريري. استمرت سوريا قوة احتلال في لبنان نحو ثلاثة عقود، ومن الممكن أن تبقى إيران قوة احتلال في سوريا لزمن طويل مقبل.
ويذكر المصدر أن موسكو تتوقع من إسرائيل تقبل الطرح الروسي، من منطلق أنه سبق لموسكو أن ساعدت إسرائيل وقدمت لها إحداثيات استخبارية لتنفيذ ضربات تستهدف «حزب الله» في سوريا «عربون حسن نية روسي تجاه إسرائيل»، وهذا يؤيد رواية تقول بأن الروس هم من سلموا إسرائيل إحداثيات خلايا ابن مغنية قرب القنيطرة لاغتياله.
ويبدو أن موسكو تضع إسرائيل أمام خيار واحد، وهو القبول بالوجود الإيراني في سوريا، بحجة أنها تحتاج إليها، أو في الحقيقة لا تستطيع مواجهتها. إنما يذكر المصدر أن موسكو لا تعارض أن تلجأ إسرائيل إلى إضعاف دور «حزب الله» في سوريا، من خلال إطلاق يد إسرائيل لضرب «حزب الله» في لبنان، وأن موسكو لن تعارض هجوماً إسرائيلياً يستهدفه.
وهنا لا نفترض أن إسرائيل ستقتلع «حزب الله» من لبنان، وإنما تريد إضعافه، لأن الحزب أقوى من ذلك. الروس يَرَوْن أن هجوماً كبيراً سيدفع «حزب الله» إلى سحب وجوده من سوريا للتركيز على هجوم إسرائيلي محتمل عليه في لبنان.
وهذا يفسر عودة التهديدات الإسرائيلية ضد «حزب الله» في لبنان؛ تريد إضعافه بـ«استنزاف» المخزون الصاروخي في حرب تسيطر عليها إسرائيل. وهذا في وجهة النظر المنقولة عن الروس والإسرائيليين سيضعف وجود الإيرانيين في دمشق. ووجهة نظري أن المشروع السوري القائم على حروب خارجية سيؤدي إلى المزيد من التوتر ويوسع من دائرة الاضطرابات. من دون إلزام إيران وحلفائها بالخروج من سوريا كشرط لإنهاء الحرب، فإنها لم تنته بشكل أو آخر.
ليس دخول الحرب السورية سنتها السابعة وحده الرقم الصادم من بين أرقام أخرى لامتناهية عن نتائج مأساة العصر التي أنتجتها.
حلّت ذكرى اندلاع انتفاضة الشعب السوري السلمية على النظام الظالم في 15 آذار (مارس) 2011 مع تواريخ أخرى لها رمزيتها، لعلاقتها بما اقترفه على مر التاريخ، منها على سبيل المثال لا الحصر ذكرى 14 آذار 2005، يوم نزل أكثر من مليون لبناني إلى الشارع ومهدوا لإنهاء الوصاية السورية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في سياق الانتفاضة على 3 عقود من القهر الذي مارسته الاستخبارات التابعة للنظام السوري على اللبنانيين وطبقتهم السياسية، في محاولة لإخضاعهم وتغيير قواعد الحكم والسياسة في بلدهم. وهو قهر لم تنته فصوله بعد.
وفي 16 آذار أمس، مرت الذكرى الـ40 لاغتيال النظام السوري أحد أهم زعماء لبنان ممن أنتجتهم العروبة وطبعوا المشهد السياسي اللبناني والعربي، باستثنائيته، كرمز لرقي السياسة، كمال جنبلاط. وهو اغتيل لرفضه الالتحاق بما سماه السجن الكبير الذي صارته سورية على يد النظام.
تكثر التواريخ المتصلة بما آلت إليه بلاد الشام، خلال شهر آذار. لكن الأرقام المتصلة بأزمتها تزاحمها.
أحدثها ما أذاعته أول من أمس «يونيسيف» عن أطفال المأساة: 5.8 ملايين طفل بحاجة إلى المساعدة- 2.8 مليون موجودون في المناطق التي يصعب الوصول إليها- 280.854 في المناطق المحاصرة، و2.3 مليون لاجئون في تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر. وفي عام 2016 وحده قتل 652 طفلاً، بزيادة 20 في المئة عن العام الذي سبقه، بينما تقول إحصائيات أخرى أن عددهم منذ 6 سنوات بلغ 17411 طفلاً. تقرير المنظمة الدولية يتضمن أعداد الأطفال الذين جرى تجنيدهم للقتال من جميع الأطراف، وعدد الجرحى منهم خلال سنة، لكن يصعب توثيق عدد الذين تعرضوا للعنف الجنسي.
الإحصاءات المتحفظة تشير إلى مقتل زهاء نصف مليون سوري مدني، ويصل بعضها إلى الحديث عن مليون قتيل، إذا جرى جمع عدد القتلى من قوات النظام والتشكيلات والميليشيات العسكرية التابعة له (نحو 120 ألفاً) مع عدد قتلى الفصائل المعارضة على اختلافها، إضافة الى الفصائل الإسلامية، في ظل وجود مقابر جماعية بعضها اكتشف والآخر لم يجر اكتشافه بعد، من دون احتساب عدد القتلى من المحاربين من الميليشيات المتعددة الجنسيات، سواء المساندة للنظام أم المعارضة له... لا تشمل الإحصاءات المعلومات عن أن زهاء 45 ألفاً قضوا تحت التعذيب في سجون النظام... منهم ما وثقته منظمة العفو الدولية عن مقتل 13 ألف معتقل شنقاً في سجن صيدنايا وحده.
ومع اختلاف أرقام كلفة إعادة إعمار سورية بعدما دمرت قوات النظام وحلفائه في شكل أساسي قرى سوِّيت أبنيتها تماماً بالأرض، وأحياء مدن بأكملها، فإن بعض الفيديوات والصور الملتقطة لا تشبه دماراً بحجم الذي حصل في حروب أخرى سجل التاريخ فظاعتها. فالرقم الأدنى يتحدث عن الحاجة إلى 100 بليون دولار، والدراسات التقديرية للأمم المتحدة تشير إلى 200 بليون، فيما يذهب بعض التقديرات إلى أكثر.
أما سعر صرف الليرة فانخفض قبل أشهر قليلة 13 ضعفاً عما كان عليه عام 2011 فيما تمتلئ جيوب أركان النظام الذين يهرّبون أموالهم إلى الخارج على رغم العقوبات الغربية، ويكدس تجار الحرب المحميون ثروات خيالية.
ومع حديث رأس النظام في سورية عن السيادة وعن أن مصير سورية يقرره السوريون، يفيد موقع «خريطة الحرب السورية» بأن عديد الميليشيات الأجنبية المقاتلة إلى جانب جيش الأسد تطور كالآتي: 26 فصيلاً مقاتلاً من العراق، 8 تشكيلات وفصائل فلسطينية منتمية إلى محور المقاومة من سورية وخارجها، 5 تشكيلات عسكرية رسمية وميليشيوية إيرانية، 3 ميليشيات لبنانية، بينها «حزب الله» طبعاً، واثنتان من سوريين ولبنانيين، واثنتان من الميليشيات الأفغانية، «أنصار الله» اليمنية، «الزينبيون» الباكستانية، و «سرايا المختار» البحرينية... ما عدا 17 ميليشيا محلية وطائفية من السوريين.
ولا ضرورة لذكر عدد الجيوش الموجودة على التراب السوري، المعلنة تحت عنوان اتفاقات مع النظام والمساعدة التقنية، كالروسي والإيراني والكوري الشمالي، أو بحجة محاربة الإرهاب وحماية الحدود، مثل التركي والأميركي، أو غير المعلنة، بذريعة التدريب وغيره، مثل البريطاني والفرنسي والأردني وبعض خبراء جيوش أوروبية أخرى. الإحصاءات قد تكون غير دقيقة عن آلاف الغارات الجوية الروسية والسورية على المدنيين، وبعض الغارات على «الإرهابيين».
تعذر الحصول على عدد اتفاقات وقف النار وقرارات مجلس الأمن. والأرجح أن الميدان السوري سيفصح عن زيادة الأرقام المذكورة في 15 آذار 2018.
أُغلقت الجولة الأخيرة للمحادثات السورية المنعقدة بجنيف على ما أعتبره سفير الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا تقدماً بالمقارنة بالجولات السابقة، لأن الحكومة السورية وكذلك المعارضة قد توصلتا إلى اتفاق في شأن البنود التي يجب أن تكون ضمن أجندة المفاوضات. من المفترض أن تنعقد المفاوضات التالية في وقتٍ لاحق من هذا الشهر وسوف تشمل مسألة الإرهاب كإحدى القضايا الرئيسية المطروحة للنقاش، إضافة إلى الحكم والدستور والنظام الانتخابي.
كان إدراج مكافحة الإرهاب على الأجندة بطلبٍ من الوفد الحكومي السوري الذي كان محل اعتراض شديد في الأصل من قبل الهيئة العليا للمفاوضات لقوى المعارضة، التي اعتبرت أن هذه الإضافة هي وسيلة للنظام السوري وحلفائه لتحويل الانتباه بعيداً من مناقشة عملية الانتقال السياسي. لكن بما أن الهيئة العليا للمفاوضات تفتقر إلى الركيزة السياسية الدولية أو العسكرية الموازية لتلك التي يتمتع بها النظام وروسيا، في النهاية لم يكن لدى الهيئة خيار سوى قبول الأمر.
هذا التطور الأخير في مسار الصراع السوري هو مثال آخر على الكيفية التي بدأ فيها ميزان القوى يميل على نحوٍ متزايد في مصلحة النظام السوري وحليفته روسيا. على رغم أن روسيا قد صرّحت في الآونة الأخيرة في شأن الحاجة إلى إجراء محادثات السلام، سواء من خلال عملية آستانة أو جنيف، لكنها ما زالت بعيدة عن الجدية في شأن تسوية النزاع في سورية، بل بالأحرى هي استطاعت أن تستفيد من فرص متعددة في مجرى الصراع وأن تستخدمها لإخفاء نواياها الحقيقية.
تقرير جديد ينشره معهد تشاتام هاوس بعنوان «السياسة الغربية تجاه سورية: تطبيق الدروس المستفادة»، يؤكد أن مكانة روسيا في القضية السورية هي إلى حدٍ ما نتيجة لتراجع نسبي لموقف الغرب حول سورية. فلم يكن الخطاب الأميركي عن تغيير النظام في سورية متناسباً مع المستوى الكافي من العمل لتنفيذه، سواء ديبلوماسياً أو عسكرياً. وأصحاب المصالح الغربيون، من الاتحاد الأوروبي إلى الدول الفردية، لم يقوموا بوضع استراتيجية شاملة لإنهاء الصراع، وفضلوا تضييق إطار الملف السوري لإعطاء الأولوية لمسألة العمل العسكري ضد الجماعات الإرهابية، مع إعطاء بعض الأهمية لتوفير المساعدات الإنسانية والدعم للحكم المحلي ولكن في شكل محدود.
التراجع الغربي مهّد الطريق لروسيا لكي ترى في سورية فرصة منخفضة التكلفة لمواجهة الغرب، لا سيما بعد «الخط الأحمر» الخاص بأوباما. لم يُقابل تصويت روسيا المستمر بالفيتو في مجلس الأمن للأمم المتحدة برد فعلٍ قوي في الغرب. اليوم، روسيا نفسها تقوم بمنح الوعود التي لا توفي بها لأنها تعتمد على أنها لن تواجه مساءلة نتيجة ما تقوم به. مثلاً، أثناء محادثات آستانة في كانون الثاني (يناير)، وافقت روسيا على السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق المعارضة في سورية ولكنها في شباط (فبراير) هاجمت قوافل المساعدات.
تمكنت روسيا من تقديم سردها الخاص في شأن النزاع السوري من دون اعتراض أو الطعن من قبل الغرب الذي قام بتطبيع هذا السرد. فهي قدمت تدخلها في أيلول (سبتمبر) 2015 في سورية على أنه وسيلة لمكافحة الإرهاب، بينما في الحقيقة كانت معظم الضربات الجوية ضد الجيش السوري الحر. بررت روسيا هذا من خلال الزعم بأنه لم يوجد هناك فعلياً أي معتدلين بين المتمردين السوريين.
في الوقت نفسه، أثبت تنظيم «داعش» أنه أداة مفيدة لروسيا والنظام السوري، حيث أن غالبية هجمات داعش في سورية كانت ضد الجيش السوري الحر. كما أصبح داعش وسيلة لروسيا للتخلص من المتمردين الشيشان على أراضيها، إذ إن العديد منهم رحلوا إلى سورية للانضمام إلى داعش.
إن غالبية الجيش السوري الحر قد تم إضعافه نتيجة لهجمات روسيا والنظام السوري وداعش وبسبب انقطاع التمويل الأميركي، ما أدى إلى تدفق المقاتلين للانضمام إلى جماعات مثل جبهة فتح الشام، والتي أظهرت قدرة عسكرية أكبر وتمويلاً أفضل من الجيش السوري الحر. وجعلت هذه التداعيات من السردية الروسية نبوءةً تحقق ذاتها.
طالبت روسيا الغرب تصنيف الجماعات المتمردة بين «معتدلة» أو «متطرفة» وأصبحت القائمة الشغل الشاغل للغرب عام 2016، في حين أخذت روسيا حريتها في تطبيق تلك التسميات. فقررت أولاً أن أحرار الشام وجيش الإسلام هما من الجماعات الإرهابية. ثم دعت كلتا الجماعتين في عام 2017 إلى محادثات آستانة على أساس كونهما من الجماعات المعتدلة.
لقد كان التغير في التسميات تكتيكاً روسياً يهدف إلى إضعاف تلك الجماعات من الداخل. أحرار الشام، التي تعاني بالفعل من الخلافات الداخلية، انشقت نتيجة لدعوة آستانة من بعد قبول بعض قادتها الدعوة ورفض بعضهم الآخر لها. وفي الوقت نفسه، هددت روسيا بمحاصرة الغوطة الشرقية معقل جيش الإسلام، تزامناً مع توجيهها الدعوة إلى الجماعة للذهاب إلى آستانة. وأدت الانقسامات بين الفصائل لهجمات من قبل جبهة فتح الشام على الجيش السوري الحر، بالتالي إلى إضعاف الأخير.
التدخل الروسي في ذاته جاء سريعاً في أعقاب إعلان المملكة العربية السعودية في ربيع 2015 أنها كانت على وشك استضافة مؤتمر في الرياض لتنسيق مساعي المعارضة السورية. بحلول الوقت الذي انعقد فيه المؤتمر في كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه، والذي ضم جماعات المعارضة المختلفة التي حتى ذلك الوقت لم تكن قد تعاونت في شكل منهجي، كانت روسيا بدأت بالفعل حملتها العسكرية. ومنذ ذلك الحين، وهي تقوم باستخدام العمل العسكري في شكلٍ مستمر على الأرض باعتباره وسيلة لإضعاف المعارضة السورية سياسياً.
تم إبرام اتفاقيات متعددة لوقف النار بين النظام والجيش السوري الحر ولكنها فشلت نتيجة لاستئناف الجيش السوري التحركات العسكرية ضد الجيش الحر، ولكن روسيا اعتادت إلقاء اللوم على الجيش السوري الحر في مسألة فشل الاتفاقيات. في شباط (فبراير) 2016، كانت الهيئة العليا للمفاوضات في فيينا للمشاركة في المحادثات في حين كان يتم خرق اتفاق وقف الأعمال العدائية من قبل النظام. قاد هذا الجيش السوري الحر إلى الضغط على الهيئة العليا للمفاوضات للانسحاب من المحادثات خوفاً من فقدان الصدقية، خصوصاً أن المحادثات كانت تستند إلى نجاح هذا الاتفاق.
ومنذ ذلك الحين، تسعى روسيا في شكل منهجي لتشويه سمعة الهيئة العليا للمفاوضات، ليس فقط من خلال استخدام اتفاقيات وقف النار كوسيلة لإراحة الجيش السوري، بل أيضاً من خلال تهميش الهيئة العليا للمفاوضات. فقامت روسيا بإقصاء الهيئة في محادثات آستانة، وخلال محادثات جنيف التي تلتها، فرضت روسيا على الهيئة قبول مشاركة منصات «المعارضة الموالية» ووبخت الهيئة عندما عارضت هذا الإدراج. واتهمت روسيا في وقتٍ لاحق الهيئة العليا للمفاوضات بعرقلة المحادثات عندما اعترضت الأخيرة على إدراج مكافحة الإرهاب على أجندة جنيف.
في كل هذا، رسالة روسيا واضحة: موسكو الآن تمسك بزمام الملف السوري. حتى أنها تمكنت من الضغط على الأردن وتركيا للانحياز إليها، باستغلال هدف الأردن بتجنب أعمال القتال الفعلية على حدوده كما الاستراتيجية التركية الفاشلة تجاه الصراع السوري، والتي كانت تعتمد على الدعم السياسي والعسكري الغربي لإسقاط النظام، والذي لم يتحقق مطلقاً. وجاء الاندماج الأخير للفصائل التي كانت مدعومة من قبل الأردن وتركيا مع جبهة فتح الشام لتشكيل هيئة تحرير الشام في تحدٍ لأسيادها السابقين ليعزّز سردية روسيا حول التطرف.
على رغم أن دي ميستورا قد شدّد على أنه لا يمكن أن يكون هناك حل عسكري في سورية، وعلى رغم مباركة روسيا لعملية جنيف، فإن التطورات الموجودة على أرض الواقع تعمل لمصلحة روسيا والتي ليست بعجلة كبيرة للاتفاق على تسوية سياسية. من دون استراتيجية غربية للوقوف في وجه روسيا، فإنها ستستمر في متابعة تكتيكها لإخفاء نواياها الحقيقية في سورية.
تحط رحال كل من وفد النظام و «وفود» المعارضة من جديد في جنيف، في الأسبوع الأخير من هذا الشهر، ضمن جولة خامسة من مفاوضات يفترض أنها ستتناول الانتقال السياسي المنشود، كمقدمة لمرحلة انتقالية ينتهي فيها، ولو شكلياً، الحكم الاستبدادي القائم.
يذكر أن هذا الانتقال أضحى بمثابة واحدة من أربع «سلال»، ما يشكل رزمة، يفترض أن توضع على طاولة المفاوضات في آن معاً بالتوازي، إذ تناقش الوفود كل «سلة» منها، وستقسم الوفود بدورها إلى أربع جماعات، على فرض أن الأوضاع نضجت، عند النظام والمعارضة، للانتقال إلى مرحلة ما بعد مجرد إبداء «النيات»، التي يعتمدها المبعوث الدولي لسورية ستيفان دي ميستورا لفرض حل سياسي للصراع الدائر منذ ستة أعوام.
بيد أن ما يجدر أخذه في الاعتبار أن الجولة التفاوضية المقبلة لا تأتي ضمن معطيات جديدة، لا عند النظام ولا عند المعارضة، على رغم أنها، في الوقت ذاته، تأتي ضمن تغيرات نوعية كبيرة في تموضع القوى الدولية والإقليمية داخل الأراضي السورية من جهة، وفي سياق تغييرات في واقع العلاقات الدولية بين الدول الفاعلة أو المؤثرة في الصراع السوري من جهة أخرى، ما يعيد تأكيد حقيقة أن الحل السياسي أو العسكري ليس في أيدي السوريين، على رغم تعدد منصاتهم وولاءاتهم وجهات دعمهم، وهذا بالنسبة إلى النظام أو المعارضة على حد سواء.
إلى ذلك، من المفهوم أن يستمر النظام في تعنّته وذهابه نحو مزيد من العنف لكسب مزيد من المساحات، في ظل مساندة ومشاركة فاعلة من حلفائه الإيرانيين والروس والميليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية وغيرها، ولكن من غير المقبول أن تستمر أطراف المعارضة في تشتتها واختلاف رؤاها، مع انعكاسات ذلك على مكانتها التفاوضية، في وقت تنتزع منها الفصائل المسلحة أوراق قوتها على الأرض، بل تتحول تلك الأوراق، مع تنازع تلك الفصائل أو تقاتلها مع بعضها، إلى نقاط ضعف في أكثر من مكان من غوطة دمشق إلى جنوبها إلى شمال سورية، إذ يشير ذلك إلى افتراق الملف السياسي عن الملف العسكري، أو على الأقل عدم قدرة السياسيين على إيجاد تقاطعات نفوذ على الفصائل المسلحة.
هكذا لم تعد المفاوضات اليوم بين المعارضة السياسية والنظام، أو بين أصحاب نفوذ على مساحات كبرت أو صغرت من الخريطة السورية، أي بين النظام وفصائل معارضة مسلحة، بل هي مفاوضات بين دول باتت تبسط سيطرتها في الميدان، وعلى مسارات الصراع مع دول تتنازع معها على هذا النفوذ، ما جعل العملية التفاوضية مجرد قناع لنزاعات ومساومات دولية، تتغير معالمها عن سابقاتها من الجولات التي عقدت منذ عام 2014 وحتى نهاية الجولة الرابعة في الثالث من هذا الشهر، ولعل هذا ما يجعل دي ميستورا يقر بذلك صراحة في إحاطته إلى مجلس الأمن الدولي في 8 من الشهر الجاري بقوله «إن مستقبل سورية ليس في أيدي السوريين فحسب».
ولعل دي ميستورا في إحاطته هذه، يحاول أن يجد للسوريين منفذاً إلى طاولة التفاوض «الشكلية»، حيث يعلم الجميع أن التفاوض الحقيقي في مكان آخر وبين أطراف آخرين أيضاً، وذلك من خلال حرصه على وضع تصور كامل لما يمكن نقاشه داخل القاعات التي ستناقش «السلال» الأربع المقترحة، وهي: «الحوكمة»، وتعني إنشاء حكومة انتقالية تمثيلية وغير طائفية، وصوغ الدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب، على أن تنتهي هذه العملية في غضون 18 شهراً، وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
ولم ينس المبعوث الدولي التلويح، للمنتظرين من الدول، بأن ملف إعادة الإعمار قد يدرج أيضاً كسلة إضافية، ربما لإثارة الشهية الاقتصادية ولجلب التشجيع على تسهيل إيجاد الحلول في السلل السابقة.
في هذا السياق، من المستغرب أن بعض أوساط المعارضة يحمل دي ميستورا مسؤولية تعثر العملية التفاوضية، وتحديد جدول الأعمال، وحتى تشكيله وفد المعارضة، في حين أن الرجل هو مجرد موظف، أو مسيّر، يعكس في مواقفه، أو في تسييره العملية التفاوضية، الإرادة الدولية، وتحديداً إرادات الفاعلين الدوليين والإقليميين في مسارات الصراع السوري، وهذا على ما يبدو ما لا تدركه هذه الأوساط أو تتصرف باعتبار أنها لا تدركه.
أيضاً، تأخذ هذه الأوساط ذاتها على دي ميستورا طرحه التوازي في نقاش القضايا السياسية، في حين يفترض أن النظام هو المتضرر من فتح النقاش في كل هذه المسائل دفعة واحدة، ما يعني أن المعارضة غير مهيأة لمناقشة هذه الأمور، أو أنها لا تعي أهمية فتحها كلها في آن معاً، لكشف النظام، هذا مع إدراكنا حقيقة أن مصير المفاوضات لا يتعلق بهذه الجولة أو تلك، ولا بالمفاوضات بين النظام والمعارضة، وإنما بمدى حسم الدول الكبرى ولا سيما الولايات المتحدة موقفها، لجهة وقف الصراع السوري وإيجاد حل له. ضمن ذلك يبدو أن من مصلحة المعارضة القبول بالشروع ببحث كل الملفات، فهي لن تخسر شيئاً، سوى كشف حقيقة النظام، وعدم التسهيل عليه عملية التنصل من هذه القضايا. لكن قبول المعارضة لذلك يفترض أنها مهيأة، وأن لديها رؤية لكل ملف من الملفات المطروحة على المفاوضات، وهذا ما يدرك قادة المعارضة أنهم لم يعملوا من أجله على نحو صحيح، ليس خلال الأيام المنصرمة فقط بل خلال سنوات، حيث تتطلب هذه الرؤية الحصول على توافقات وطنية، كان من واجب «الائتلاف» العمل عليها، خلال الأربع سنوات ونصف السنة من عمره. هذا ينطبق على «الهيئة العليا للمفاوضات» أيضاً، التي كان من واجبها العمل على عقد «مؤتمر وطني» يوحد رؤية المعارضة للحل السياسي، وصوغ ورقة دستورية، وتنظيم عملية التفاوض وفق مشروع وطني يسقط المحاصصات الهوياتية، الطائفية والإثنية والفصائلية، المضرة، التي تمّ بموجبها تشكيل الوفود من أطراف المعارضة، التي تجلس تحت سقوف منصاتها، وعندها كان يمكن أن تُترك للنظام فرصة رفض هذا الترتيب، بدل أن تتبرع هي برفض ذلك عنه، أو إعلان تبرمها أو تشكيكها به.
يملك النظام كل الأسباب التي تجعل من مناقشة السلال الأربع دفعة واحدة خطراً على بقائه، الذي يعول عليه، من خلال إطالة عمر المفاوضات تارة، وتعطيلها تارة أخرى، في حين أن السير في خطوات التفاوض وفق ما وضعه المبعوث الدولي، يمكّن المعارضة من إنجاز ما عليها - في حال كانت رؤيتها متكاملة للحل السياسي- وتحقيق ما طالبت به المجتمع الدولي من التزام ضمانة ما يتم التوصل له.
ولعل الأهم الذي يجب الانتباه إليه أن التزام الفترة المحددة يقتصد الوقت الذي تمر عقاربه على أجساد السوريين حصاراً واعتقالاً وتعذيباً وتشريداً، ويدفع القوى الفاعلة الدولية والإقليمية باتجاه تحديد مواقعها النهائية على الخريطة السورية المرسومة بالدم، بأسرع وقت، وبأقل أكلاف ممكنة.
إذا لم يكن الوجود الأميركي في منبج تدخّلاً في سورية، فما عساه يكون. وإذا لم يشكّل حضور رئيس الأركان الروسي في أنطاليا، إلى جانب نظيريه الأميركي والتركي، اعترافاً بذلك التدخل، فكيف يمكن أن يُفهم. لم تصرّ موسكو على تنسيق أميركي مع بشار الأسد، لكنها لا تزال تتوقّع أو تأمل بأن يحصل. في منتصف شباط (فبراير) الماضي التقى الجنرالان جوزف دانفورد وفاليري غيراسيموف في باكو، في إطار التنسيق الأميركي-الروسي «المحدود»، حرص البنتاغون على تأكيد أنهما لم يبحثا في نشر قوات أميركية (بلغت بضعة آلاف) في سورية، ولم يكن قد حصل لقاء كهذا بينهما منذ كانون الثاني 2014، أي قبل شهر من الحدث الأوكراني. ومع أنهما أنشآ تنسيقاً محدوداً لتفادي أي احتكاك جوّي منذ التدخّل الروسي في سورية، إلا أن محاولات تطويره الى تعاون عسكري واستخباراتي، عبر اتفاق جنيف بين جون كيري - سيرغي لافروف (أيلول/ سبتمبر 2016)، لم تنجح بسبب معارضة البنتاغون والاستخبارات.
في المقابل حاول فلاديمير بوتين توجيه التطبيع الروسي- التركي، بعد الخلاف والقطيعة، نحو تطبيع أو مجرّد تنسيق بين أنقرة ودمشق، وإذ لم يتوصّل الى اقناع رجب طيب أردوغان اختار أن يستقطب تركيا في مسار آخر، وكان أن قنّنت روسيا تقاربها مع أكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي» ووفّرت تغطية لعملية «درع الفرات» التي خاضها «الجيش السوري الحرّ»، بدعم تركي، فتمكّن من إنهاء سيطرة تنظيم «داعش» غرب الفرات. بذلك تكون روسيا سهّلت عملياً التدخّل التركي في سورية واعترفت به، ومع أن الجانب الأميركي وفّر غطاءً جوّياً متقطّعاً للعملية لضرب «داعش» إلا أنه لم يبدِ ارتياحاً للتنسيق الروسي- التركي خارج اتفاقاته مع أنقرة. وأظهرت التطوّرات الأخيرة معالم التفاهمات أو التقاطعات بين الأميركيين والروس، إذ تولّوا احتواء الاحتكاكات بين قوات النظام السوري و«الجيش الحرّ»، بعد معركة الباب، وأجازوا للقوات «العربية- الكرديّة» تسليم قرى جنوب الباب الى قوات الأسد. وفيما كان أردوغان يؤكّد أن المعركة التالية ستكون لإجلاء الأكراد من منبج، إذا بقوات مدرّعة من «المارينز» تتمركز في المدينة قاطعةً الطريق على الطموح التركي.
في اجتماع انطاليا بدا الجانب الأميركي حاسماً في عزمه على الاعتماد على القوات الكردية لقتال «داعش» في الرقّة، فمع أن لديها أجندة خاصة إلا أنها تحت إمرته ومرتبطة بدعمه. وإذ بدا أن الروسي متفهّمٌ لهذا الخيار، لم يتضح الموقف الأميركي من العلاقة المؤكّدة بين نظام الأسد و «حزب الاتحاد الديموقراطي»، لذلك انطلقت تحليلات متسرّعة للجزم بأن الأميركيين مقبلون بدورهم على صيغةٍ ما للتعاون مع النظام استجابةً لضرورات تحرير الرقّة، وقد يُقدِمون على تعاون كهذا لكنهم لا يريدون أن يكون تعاوناً غير مباشر مع الإيرانيين. كل ذلك يعني أن ثمة توافقاً أميركياً– روسياً غير مصرّح به على عدم إشراك تركيا في هذه المعركة مع رسم حدود تدخّلها، وكذلك عدم إشراك إيران، ما يطيح طموحاً مهمّاً لها للبدء بتحقيق التواصل على خط طهران - بغداد - دمشق - بيروت. بقيت هناك نقاط غير محسومة تستغلها أنقرة، خصوصاً بعد لقاء بوتين- أردوغان، بمواصلة الإصرار على انسحاب الأكراد من منبج حتى لو تطلّب ذلك تسليمها الى قوات الأسد. وتستغلّها طهران بالإلحاح لدى موسكو ليكون لها دور، كذلك الأسد الذي يرى أن الترتيبات الجارية تتجاوز دوره ونظامه، فيكرّر اعتبار الأميركيين والأتراك «غزاة»، طالما أنهم لم ينسّقوا معه. وتطالب روسيا علناً بالتنسيق فيما تتعايش جيداً مع «الغزاة»، بل تمنحهم مشروعية. فالمتوقّع تزايد القوات الأميركية شمال سورية، وتأكيد قادتها أنها باقية لفترة مفتوحة بعد تحرير الرقّة. وبهذا التوجه لدى ادارة ترامب، تحت راية «دحر داعش»، لم يكن لدى بوتين ما يقدّمه لأردوغان في خلافه مع واشنطن سوى اقناعه بتغيير معطيات الوضع ودفعه باتجاه تقارب مع دمشق، لكن الرئيس التركي مدرك أنه لن يكسب شيئاً من هذه الخطوة الرامية فقط الى اجتذابه أكثر نحو روسيا ومفاقمة مشاكله مع أميركا.
على رغم أن إيران لم تتناول اللقاء العسكري في انطاليا، إلا أنها تعتبر أنه منطقياً! ما كان يجب أن يتمّ من دونها، وأن هناك حلقة مفقودة في تخطيطها لحصد ثمار تدخّلها، فهي لم تتأهّل دولياً كما تهيّأ لها (وكما زيّنت لها ادارة اوباما) غداة التوقيع على الاتفاق النووي، وليس لها في أي حال أن تتخيّل قائد «الحرس الثوري» أو «فيلق القدس» رابع الجنرالات الثلاثة. قد لا يكفي ذلك لدفع إيران الى مراجعة سياساتها وتغييرها، لكن الأمر يتعلّق بالمكانة التي تتصوّرها إيران لنفسها في المنطقة، وبالاستراتيجية التي بنتها على أساس توظيف القوى الدولية الكبرى لخدمة «تصدير الثورة»، وكذلك بالأدوات (الميليشيات) التي أنشأتها وتستخدمها لتنفيذ مشروعها وهيمنتها. ذاك أن الفارق بين الدول الإقليمية كافةً أن إيران لديها أطماع في البلدان التي اخترقتها ولم تتردّد في تخريبها ودفعها الى هاوية التقسيم، ولا يضاهيها سوى اسرائيل في الأطماع والتخريب ونيات التقسيم، أما السعودية ومصر وحتى تركيا فلا مشكلة لها مع أي حلول للأزمات اذا كانت تضمن عيش السوريين والعراقيين واليمنيّين وتعايشهم في بلدانهم، ولو متصارعين سياسياً من دون تذابح أو شحن طائفيين.
أكثر من أي مرحلة مضت، تبدو معالم المشهد السوري الآن أقرب الى رقعة شطرنج في الحركة ما قبل الأخيرة، ولا تزال نهاية اللعبة غير واضحة. وعلى غير المألوف يخوض اللاعبان الأمــيركي والروسي المواجهة متنافسَين – متواطئَين، لا يباليان بمكانة أي قطعة وفاعليتها، فكلّها عندهما بيادق سواء كانت دولاً، نظاماً وشعباً، أو تنظيماً ارهابياً. كانت تركيا وإيران تعتقدان أن اللاعبَين لن يمسّا بدوريهما لأنهما «الملِكَتان» البيضاء والسوداء على الرقعة وتحمي كلٌ منهما أحد «الملِكَين» (الشعب والنظام)، فإذا بالأولى تعاني احتواءً مربكاً وبالأخرى تترقّب بداية تهميش قد يتحوّل اقصاءً. كل ما يأمله الأسد ألا يكون أحد البيدقين المرشّحين للقتل، طالما أن معادلة «الأسد أو داعش» هي التي غيّرت مسار اللعبة، وحلمه أن يعود النقطة التي تتقاطع عندها مصالح اللاعبَين، وقــد لا تكون حساباته مخطئة هنا، فواشنطن ترامب لا تستهدفه، وروسيا لم تضغط عليه لاحترام وقف إطلاق النار بل تشاركه خروقاته وتمارس أشد الضغوط على الفصائل المسلحة لإخلاء الجبهات المتبقية تحت سيطرتها، كما حصل أخيراً في حي الوعر بحمص، وكما بات متوقّعاً في الغوطة الشرقية. لكن تفريغ مسار آستانة من جدواه، وإبقاء مسار جنيف بلا تفاوضٍ جدّي، مع استعدادات متسارعة لمعركة الرقّة تليها دير الزور مع دور مؤكّد لقوات النظام، تكون أميركا وروسيا عادتا واقعياً الى رسم خريطة «سورية المفيدة» الموسعة، كما لم يتخيّلها الأسد ولا الإيرانيون، بمعزل عن جيوب عدة في الشمال والجنوب. عشية الذكرى السابعة للانتفاضة الشعبية، يبدو هذا سيناريو لإدخال سورية في نفق جديد، مع حكم استبدادي «منتصر» لم يفقد شيئاً من قدراته الإجرامية. ثمة حلقة مفقودة تتمثّل في الخواء السياسي وحتى الانساني، وتبدو الدولتان الكبريان متقاعستَين في بلورتها وممعنتين في إهمالها، بحجة انتفاء البدائل. لكن، اذا كان ستيفان دي ميستورا المعروف بانحيازه للنظام يعتقد بأن الانتخابات غير ممكنة بوجود الأسد، فلا أحد يستطيع الإقناع بأن إعادة السيطرة الى الأسد تعني إنهاء الصراع أو يمكن أن تكون عنواناً للاستقرار.