أثارت العملية العسكرية التي شنتها فصائل معارضة ضد مواقع النظام السوري في مدخل دمشق، يوم الأحد الماضي، موجة ارتياح واسعة بين المعارضين السوريين. ومع ذلك، كان الملاحظ من ردود الفعل أنها اتسمت بالحذر الشديد، وعدم الرهان أن تؤدي العملية إلى إسقاط النظام الذي يضع كل ثقله في العاصمة، باعتبارها حصنه الأخير.
مصدر الارتياح أن العملية حملت عدة رسائل للنظام السوري، والأطراف الساهرة على الدفاع عنه، وحمايته من السقوط طوال ست سنوات. وقبل كل شيء، فإن أبرز ما كشفت عنه العملية هو هشاشة النظام الذي اهتز بفعل الصدمة، وظهر عليه الارتباك الميداني.
وعلى الرغم من أنه يحتفظ في محيط دمشق بقوات نخبةٍ من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، والمليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية، فإنه لم يتمكّن من صد هجوم مئات المقاتلين الذين استطاعوا التقدّم ميدانياً بسرعة شديدة.
ب
عد 24 ساعة من بدء العملية، تحوّلت إلى كر وفر، إذ شن النظام هجوماً مضاداً يوم الاثنين، استعاد من خلاله أهم المواقع التي خسرها، لكنه لم يتمكّن من الاحتفاظ بها سوى ساعات، ورجعت المعارضة لتستولي عليها، وتخلق حالة كبيرة من الارتباك داخل النظام ووسط البيئة الحاضنة وفي الشارع الدمشقي، بالإضافة إلى الخسائر العسكرية الملموسة في صفوف قوات النظام.
ال
درس الأكبر موجه للروس والإيرانيين، وهو أن إعلان تثبيت نظام الأسد والانتصار على الثورة السورية أمر غير وارد إطلاقاً، لأنه لم يعد لدى السوريين الذين قاموا من أجل الخلاص من آل الأسد ما يخسرونه. وبالتالي، لن يجدوا من بين الذين فقدوا ذويهم ودُمرت بيوتهم من يمكن أن يقبل بالحياة مع الأسد وأتباعه في بلد واحد، وإذا كانت المعارضة غير قادرة على إسقاط الأسد، فإن الأسد غير قادر على القضاء على المعارضة.
و
تلفت العملية نظر الروس إلى أن إجبار السوريين على توقيع صكوك استسلام أمر غير ممكن، فلا يوجد ممن قاتلوا النظام من يقبل رمي سلاحه، والتسليم بمشروع روسيا إعادة إنتاج الأسد، ومثال ذلك مواجهة مخطط التهجير الذي بدأ منذ عام 2012، حين وضعت روسيا الثوار أمام أحد خيارين: "المصالحة" مع الأسد بشروطه أو التهجير نحو إدلب. ومن هنا، بدأت مسيرة الحافلات الخضراء التي نقلت آلاف المقاتلين من ريف دمشق وحمص وحلب وريف اللاذقية من المقاتلين الذين رفضوا المعادلة الروسية.
على الروس أن يتوقفوا عن سياسة المكاييل المتعدّدة، فإذا أرادوا بناء عملية سلمية جادة، عليهم وقف سياسة قتل السوريين من أجل الضغط على الثورة لتقديم تنازلات، وعليهم إذا أرادوا المساهمة في حل دائم في سورية أن يتخلوا عن الأسد.
ويتمثل الدرس الثاني في أن العملية جاءت على أبواب انعقاد الجولة الخامسة من مفاوضات جنيف التي كان النظام يستعد كي يُفشلها، لأنها مرشحةٌ للدخول في جدول الأعمال الذي جرى الاتفاق عليه في جنيف 4، ولم يشكل مصدر ارتياح للنظام.
أما الدرس الثالث فهو يعيد وضع مسار أستانة على طاولة البحث جدياً، فالعملية التي قامت على أساس وقف إطلاق النار حرفها الروس عن هدفها الفعلي، ولم تتمكّن من تحقيق وقف النار بسبب استمرار خروق النظام، واستغلال التأييد الروسي من أجل استمرار عمليات التهجير من محيط دمشق وحمص.
وفي جميع الأحوال، توجه العمليات صفعة كبيرة للإيرانيين الذين كانوا السباقين إلى المشاركة في قتل السوريين، من أجل تحقيق أطماع استعمارية في سورية، تحت ذرائع دينية. وفي كل يوم يمر، يزداد إصرار الشعب السوري على محاربة إيران، بوصفها قوة احتلال، ومهما كسبت على الأرض، فإن السوريين لن يتعاطوا مها إلا كاحتلال أجنبي.
على مدار السنوات الطويلة، شنت إسرائيل عشرات الغارات في سورية، سواء قبل الأزمة أو بعدها، ووصل الأمر في بعض الغارات إلى استهداف مناطق عسكرية مهمة جدا، مثل الغارة التي استهدفت ما قالت إسرائيل إنه مفاعل نووي سري، طور البناء في دير الزور شرقي سورية في سبتمبر/ أيلول 2007، والغارة التي استهدفت مركزا للأبحاث العلمية في جمرايا خلف جبل قاسيون في يناير/ كانون الثاني 2014، ومركز البحوث العلمية في دمشق في مايو/ أيار من العام نفسه.
وبسبب التباين الحاد في موازين القوة العسكرية بين سورية وإسرائيل لصالح الأخيرة، اعتادت دمشق التصريح، بعد كل عدوان إسرائيلي، بأن الرد سيأتي في الزمان والمكان المناسبين. وفي القصف الإسرائيلي على سورية، قبل أيام، ثمّة تطوران شكلا قطيعة مع الهجمات الإسرائيلية السابقة على سورية: أن إسرائيل أعلنت رسمياً شنها غارة، وهذا لم نعتد عليه طوال السنوات الماضية، حيث كان الخبر يأتي من وسائل إعلام غربية، تعقبها تصريحات إسرائيلية شبه رسمية تؤكد وقوع الهجوم. والتطور الثاني أن سورية ردت على الهجوم الإسرائيلي، ما لم يحدث سابقا، إذ اعترضت الطائرات الإسرائيلية بصواريخ إس 200، ثم أطلقت صواريخ باتجاه إسرائيل.
لا يتعلق السؤال المركزي بالاعتراف الإسرائيلي بشن غارة على سورية، وإنما بقرار الأخيرة إطلاق صواريخ لإسقاط الطائرات الإسرائيلية، ومن ثم إطلاق صواريخ أرض ـ أرض باتجاه إسرائيل. وتشكل هذه الخطوة السورية هذه قطيعة مع التكتيك العسكري المتبع تجاه إسرائيل منذ سنوات طويلة.
هل الرد السوري مرتبط بتغيير في الاستراتيجية العسكرية، كما ذهب إليه بعضهم، على الرغم من أن هذا التغيير يتطلب تطورا تقنيا عسكريا عالي المستوى، وهو أمر غير متوفر في سورية قبل الأزمة؟ أم أن ما جرى لا يخرج عن بروباغندا إعلامية، هدفها إعادة إنتاج النظام لنفسه مقاوماً ومقاتلاً لإسرائيل؟
بطبيعة الحال، لم يكن الرد السوري العسكري ليحدث، لولا الوجود الروسي، فموسكو قد تسمح بهجوم إسرائيلي، يستهدف أسلحة مرتبطة بحزب الله، لكنها لن تسمح برد إسرائيلي على الرد السوري. وعليه، يمكن القول إن الرد العسكري السوري جاء ضمن بروباغندا إعلامية وتغيير في قواعد اللعبة في آن معا، وثمّة مؤشرات تدلّ على ذلك:
أولا، أن الصاروخ س 200، المستخدم في إسقاط الطائرات الإسرائيلية، هو من الجيل الماضي، وغير قادر على تدمير طائرات متطورة مثل إس آيه 5، أي أن سورية ليست في وارد الدخول في مواجهة مع إسرائيل، لكنها لن تسكت بعد الآن على أي اعتداء إسرائيلي.. كان الرد متواضعاً.
ثانياً، الصواريخ السورية التي وجهت إلى إسرائيل سقط أحدها فوق إربد الأردنية، ما يؤكد أنها أطلقت من على مسافةٍ جغرافيةٍ بعيدة من إسرائيل، في محاولةٍ لإعطاء الأخيرة فرصة لإسقاطها، أما الأخرى فقد اخترقت منظومة الصواريخ الإسرائيلية، لأنها متطورة، وفقا لخبراء عسكريين إسرائيليين، لكنها سقطت في أراضٍ خالية، فكانت بلا هدف عسكري.
ثالثاً، قصفت إسرائيل سورية عدة مرات منذ التدخل العسكري الروسي، ولم يحدث أي رد من سورية، بمعنى أن الرد السوري جاء، هذه المرة، بتنسيق مع روسيا التي سرعان ما استدعت السفير الإسرائيلي لديها لاستكمال المشهد.
لا يعني الرد السوري أن إسرائيل لن تشن أي هجمات داخل سورية، لكنه يعني أن مرحلة جديدة قد بدأت، وأن مفتاح المواجهات العسكرية انتقل من واشنطن إلى موسكو، على الأقل في هذه المرحلة.
كشف الرد العسكري السوري المشكلة بين روسيا وإسرائيل، وحدود التباينات والأولويات بينهما. لا تريد إسرائيل التدخل في الشأن السوري، خصوصا بعد الهيمنة الروسية، وهذا ما صرح به وزير الحرب، أفيغدور ليبرمان، بكل صراحة، لكنها لن تسمح باستمرار تدفق السلاح إلى حزب الله، وهذه مسألةٌ لا ترفضها موسكو، لكنها، في المقابل، لم تعد في وارد السماح باقتحام الأجواء السورية من دون تفاهم معها.
بعبارة أخرى، ثمة رسالة روسية إلى إسرائيل بأدوات سورية، مفادها أن التدخل الإسرائيلي يجب أن يجري وفق الإيقاع الروسي، فما جرى ليس مجرد سوء تفاهم عسكري.
أصبح عمري ست سنوات، فاجأت الكثيرين ولادتي، فالمخاض كان عسيراً والمعوقات كثيرة، أهمها الاستبداد المديد الذي كمم أفواه الناس وأخضعهم لتربية وتعبئة قاسيتين كي يحجموا عن تداول أية أفكار أو رغبات في التغيير.
كان موضع شك أن أبصر النور في سورية، بلد الاستقرار الأمني والممانعة والمقاومة، وأن أجترح حضوري من رحم منظومة تحكمها الشعارات القومية ومواجهة المخططات الامبريالية والصهيونية، وتغذيها الدعاية الرسمية بأن كل من يناهض الحكم متآمر ومندس ويرتبط بأجندة خارجية، وكان موضع استغراب نجاحي في فضح زيف هذه الادعاءات الوطنية، وتعرية سلطة لا يهمها من السيادة والاستقلال سوى ما يضمن امتيازاتها واستمرارها في الحكم!
من دوني ما كانت لتسمع شعارات صريحة تدل على أنانية التشبث بالسلطة حتى لو اضطر أصحابها إلى إحراق الوطن، وما كان ليكتشف كيف استخدمت أسلحة «المقاومة والصمود والتصدي» لتدمير المدن والأرياف وسحق حيوات البشر وأحلامهم، وكيف استسهل أهل الحكم تسليم قرارنا السيادي لقوى خارجية جرى الاستقواء بها، كروسيا وإيران وتوابعها.
كان قدري أن أنطلق وأنمو كأني أواجه مصيري وحيدة، فعلى رغم تعاطف الشعوب مع مشاهد الدمار والضحايا وحرج السياسات الرسمية من العنف السلطوي المفرط، لم ترق مواقف معظم الدول الغربية والعربية إلى شدة ما يكابده السوريون، وآثروا المراوحة بين السلبية والتردد، ربما لأن غالبيتهم تخشى التداعيات التي سيخلقها انتصاري الديموقراطي على أنظمتهم ومصالحهم، وربما لعدم ثقتهم بفرصتي في النجاح وتحسبهم من قدرة نظام مجرب أمنياً ومدجج بالسلاح والتحالفات على هزيمتي.
ولدت من دون تخطيط مسبق، بلا مرجعية أو رموز تاريخية تقودني، لم يكن لأحد دور في نشأتي سوى عزم شباب منتفض، تأثراً بشباب تونس ومصر، ضد استشراء الحرمان والقهر والفساد والتمييز، كنت أصارع ومنذ اللحظات الأولى شتى محاولات جري إلى السلاح أو إلى الأتون الطائفي وأجاهد للحفاظ على شعاري الحرية والكرامة، وعلى وجهي الوطني العريض كعابرة للمذاهب والأديان والقوميات، لكن أعترف بأنني لم أنجح في الحفاظ على سلامة قيمي وأفكاري وشعاراتي، بينما نجح النظام في دفعي، بإستفزازاته المفرطة بالعنف والطائفية نحو العنف المضاد، ومكن الدخلاء والمتشددين الاسلامويين، الذين أطلق سراحهم عامداً، كي ينالوا مني. عزز هذا الخيار الخاطئ، انسداد الأفق واستمرار العجز الأممي عن التدخل لوقف العنف وفرض حل سياسي، والأهم إخفاق المجالس والائتلافات المعارضة على تنوعها، في تنسيق نشاطاتها وتجاوز أمراضها وتشتتها، وفي التمفصل مع المكونين المدني والعسكري لضمان أفضل أداء وأقل الأخطاء والخسائر، لأقف حائرة أمام تنامي شعور المحتجين بأن التظاهرات بالصدور العارية، عاجزة عن هز أركان النظام، والأسوأ حين طاول القتل والاعتقال والتهجير عدداً غير قليل من رموزي القديمة التي عرفت بنزعتها السلمية، وبدا كأن أعدائي تواطأوا جميعهم للنيل من تلك الرموز التي كان استمرارها يغذي فرصتي في مقارعة الدخلاء والتمسك بقيمي وشعاراتي ومساري السلمي، كمشعل تمو، غياث مطر، يحيى الشربجي، خليل معتوق، عبدالعزيز الخير، باسل شحادة، فائق المير، يوسف الجادر، خلدون زين الدين، ناجي الجرف، رزان زيتونة وسميرة الخليل وغيرهم كثيرون.
عشت العامين الأخيرين بوجه ليس وجهي، وبلغة ليست لغتي، تمكنت جماعات التطرف الإسلاموي من التغلغل في صفوفي والعبث بمكوناتي وقيمي، شوهت ممارساتهم الشائنة صورتي وكثرت الأخطاء والارتكابات التي تلصق بي، ما عزز الخوف الدفين من وصولهم إلى الحكم وخطورتهم على الديموقراطية والمجتمع، وزاد الأمر تعقيداً التقدم الملح للملفات الإنسانية المتعلقة بالمعتقلين والمشوهين والنازحين واللاجئين، ونجاح التدخل العسكري الروسي بإحداث اختلال في توازن القوى لمصلحة السلطة، ما مكنه من التفرد في وضع المشاريع الكفيلة بإخماد الوجهين المسلح والسياسي للصراع الدائر.
لا يكفي تعريفي بشعاري الحرية والكرامة أو بصور الاستبسال المذهل والمقارعة المكلفة بين شعب ينتفض لنيل حقوقه ونظام لم يتوان عن استخدام أشنع وسائل القهر للحفاظ على موقعه وامتيازاته، أو بما حل بي من نكسات وانكسارات وتشوهات مع تقدم منطق العنف وتصدر الفصائل الاسلاموية المشهد، بل بما كرسته من رصيد معرفي ومفاهيم وقيم جديدة، ولنقل ثقافة بديلة تنقض كل ما هو استبدادي ووصائي، تستمد من الوعي الديموقراطي وحقوق الإنسان جذورها، وتؤسس لفصل الدين عن الدولة واستلهام الميراث التقدمي للإسلام وتفعيله بما يتناسب وروح العصر، بخاصة وقد جاءت حصيلة العامين المنصرمين محبطة ومخيبة للآمال، وأكدت الصورة النمطية للإسلام السياسي الذي لا يهمه سوى تسخير الدين لقهر وإكراه البشر وجعلهم أدوات عمياء لتطبيق رؤيته المتطرفة للشريعة الإسلامية.
وإذ أعترف بأنني لا أزال أعاني وأكابد وتكتنفني الصراعات والعثرات على طريق إعادة السياسة إلى المجتمع والتي تتعاون على تغييبها سلطة القمع والجماعات الاسلاموية، أجزم بأني لم أكن لحظة ولادتي خياراً أمام السوريين يمكنهم قبوله أو رفضه، بل رداً اضطرارياً، تاريخياً وأخلاقياً، ضد نظام استبداد وفساد أوصل المجتمع إلى حالة لا تطاق من القهر والتمييز والعوز، نظام لا يتحمل فقط، مسؤولية اندلاع مختلف الانفجارات الشعبية، بسبب أنانيته وتعنته وشدة عنفه وظلمه، وإنما أيضاً مسؤولية الأثمان والتكلفة الباهظة التي تكبدها المجتمع، وأجزم تالياً بأن كثرة الأعداء وما ينصبونه من أفخاخ لاعتراض نجاحي، لا تضعف مشروعيتي، بل تؤكدها، مثلما تؤكدها اجتهادات نقدية لم تهدأ، لاستخلاص العبر وحفز أسباب استمراري.
يخطئ من يعتقد أن الثورة لا يمكن أن تهزم أو تشوه وإن هزمت لا تعود ثورة أو لا تستحق هذا الاسم، ففي التاريخ أمثلة كثيرة عن ثورات حقيقية وشاملة ومشروعة هزمت موقتاً، والأنكى أن تلي الهزيمة مرحلة دموية وسوداء يقاسي فيها الشعب الثائر الأمرين قبل أن يتمثل الدروس وينهض من جديد.
بدأت معركة تحرير الرقة المعقل الأبرز لتنظيم «داعش» في سورية، وعملياً لم تبدأ... بدأت بالإعلان عنها إعلامياً فقط من «قوات سورية الديموقراطية» (قسد)، وهي تحالف فصائل عربية وكردية سورية مدعومة من واشنطن.
على أرض الواقع ما زالت معركة تحرير الرقة محدودة من ناحية الفعل والعمليات العسكرية على الأرض. ومرد ذلك يعود لعدة أسباب، أولها تواضع قدرات قوات «قسد» الكردية على فتح معركة واسعة ضد معقل ومركز تَحَشُّدِ تنظيم «داعش»، في تلك المنطقة التي يتوقع أن يجري على أرضها حسم أهم جولات الحرب في سورية، بالرغم من إصرار الولايات المتحدة على دفع الأكراد باتجاه زجهم في معركة الرقة، بل وتشجيعهم، حيث تروّج للموقف القائل بأن القوة الوحيدة التي تتمتع بالقدرة في أي مدى قريب هي «قوات سورية الديموقراطية التي تشكّل «وحدات حماية الشعب» جزءاً كبيراً منها. وتقترح في المرحلة الأولى من العملية، أن يتم عزل مسلحي «داعش» في الرقة عن طريق محاصرتهم، ومن ثم شن الهجوم على مواقعهم في المدينة في المرحلة الثانية. وتعتقد في الوقت ذاته أن عملية تحرير الرقة من «داعش» سيستغرق على الأرجح وقتاً أطول من تحرير الموصل.
والسبب الثاني لصعوبة معركة الرقة هو الموقف التركي، فهو الموقف الحاضر بقوة على مسرح الأحداث في الشمال السوري وعلى تخوم محافظة الرقة. فأنقرة تصنف «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي تشكّل العمود الفقري لـ «قوات سورية الديموقراطية» على أنها إرهابية، وتعتبرها امتداداً لـ «حزب العمال الكردستاني»، الذي يخوض عملية تمرد منذ عقودٍ طويلة ضد السلطات التركية، بينما تعتبرها واشنطن أفضل قوة قتالية في سورية. وأن الحالة الكردية بشكلٍ عام غير مؤتمنة من الوجهة التركية.
وثالث الأسباب، أن أنقرة ترى ضرورة تحييد الأكراد في تلك المعركة خشية سيطرتهم على أراض إضافية من سورية على المساحات الفاصلة بين تركيا وسورية، وبالتالي إمكان تشكيل كيان كردي بجغرافية مستقلة، وبالتالي فهي لا تريد رؤية المقاتلين الأكراد الذين يُشكّلون غالبية «قوات سورية الديموقراطية»، فتعزيز نفوذ الأكراد في المنطقة جغرافياً وكيانياً يُثير قلق تركيا.
ورابعها، أن التضارب حول الدور التركي في المعركة، يُدخل معركة الرقة في حالة أكثر تعقيداً من معركة الموصل التي تشارك فيها تركيا بفعالية خلافاً للحكومة المركزية ببغداد، فتركيا تدعم فصائل معارضة تشن هجمات متواترة في شمال سورية ضد تنظيم «داعش» والمقاتلين الأكراد من كل الفصائل والمجموعات في الوقت ذاته، في حين يحظى المقاتلون الأكراد بدعم أميركا التي تعتبر تركيا حليفتها الإستراتيجية. ومقابل ذلك أعربت «قوات سورية الديموقراطية» أكثر من مرة عن رفضها وجود أي دور تركي في الهجوم على الرقة، وزاد على ذلك المتحدث العسكري باسم «قوات سورية الديموقراطية» طلال سلو بقوله: «اتفقنا بشكل نهائي مع التحالف الدولي على عدم وجود أي دور لتركيا أو للفصائل المسلحة المتعاونة معها في عملية تحرير الرقة».
وخلاصة القول، إن الولايات المتحدة، كما يعتقد كثير من المراقبين، بإعلانها «أن الأكراد هم القوة الوحيدة حالياً القادرة على مهاجمة الرقة» تختصر سعيها لتوفير غطاء لدعم فكرة اعتبار سورية دولة فيدرالية.
لا تجرؤ «حركة النجباء» على تصحيح اللغة العربية التي طبعها الإيرانيون على لافتات حملتها لتعلن عن قيام «لواء تحرير جولان» (المقاومة الإسلامية – حركة النجباء). كتب الإيرانيون «الجولان» من دون «ال» التعريف، فحمل مقاتلو «حركة النجباء» الذين أخفوا وجوههم بالأسود، كالنجباء ما كُتب لهم ليحملوه. وأطلقت الفيديوهات باسم «حركة النجباء» لصفوف من المقاتلين يحملون أيضاً لافتات تقول: «إسرائيل ستزول». ثم في الثامن من الشهر الجاري، عقد سيد هاشم الموسوي الناطق باسم الحركة، مؤتمراًّ صحافياً في إيران قال فيه، إن الوحدة الجديدة هي لمساعدة النظام السوري على استرجاع مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ حرب 1967. حمّل الموسوي الحكومة السورية اتخاذ القرار: «إذا طلبت الحكومة السورية فإننا وحلفاءنا على استعداد لتحرير الجولان». قبل أن «يتم التحرير بالكامل» من المؤكد أن «لواء تحرير الجولان» يرغب مستقبلاً في مشاركة النظام في استرجاع الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة في هضبة الجولان وغير الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي، قبل «أن تبدأ حركة النجباء وحلفاؤها بتحرير كل الجولان».
إن إطلاق لواء تحرير الجولان يعكس أولويات طهران في الجنوب السوري.
تشعر إيران بأنها مضطرة للتحدي، فذلك للتسويق الداخلي، ولدى حلفائها ممن تسميهم دول المقاومة والذين وصلوا حتى فنزويلا وكوبا، وتؤكد التزامها بمحاربة إسرائيل خصوصاً مع وصول إدارة جديدة إلى واشنطن، يعرف المراقبون أن تحجيم إيران هي المسألة الأهم التي تجمع أركانها من عسكريين وسياسيين.
لعبت «حركة النجباء» دوراً مهماً في مساعدة «فيلق القدس» من «الحرس الثوري الإيراني» والقوات الموالية للنظام السوري في سقوط حلب العام الماضي.
تتحرك الميليشيات الشيعية العراقية كامتداد لنفوذ إيران، وبعد أن أقسمت على الولاء الكامل للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، تسوق هذه الميليشيات آيديولوجيا ولاية الفقيه. تتلقى «حركة النجباء» أوامرها مباشرة من اللواء قاسم سليماني قائد الفروع الخارجية للحرس الثوري الإيراني- فيلق القدس. وكانت الحركة أعلنت العام الماضي وهي المعروفة أيضاً باسم «حركة حزب الله النجباء»، أنها و«حزب الله» اللبناني، يشكلان «توأم المقاومة».
زعيم الحركة أكرم الكعبي من أكثر المقربين للقيادة الإيرانية بمن فيهم المرشد الأعلى، شارك في تأسيس جماعة «عصائب أهل الحق»، التي هي في الأساس فرع من جيش المهدي. قال عام 2015 إنه إذا أصدر خامنئي الأمر فالكعبي على استعداد للمساعدة على الإطاحة بالحكومة العراقية. في أواخر العام الماضي فتح كبار المسؤولين الإيرانيين المقربين من خامنئي أذرعتهم لاستقبال الكعبي وأقاموا له احتفالات لم يحدث لها مثيل في السابق خلال استقبالهم لأحد أتباعهم من العرب. وفي شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي عممت «حركة النجباء» استقبال خامنئي للكعبي على هامش مؤتمر عقد في طهران.
ما كشفه الموسوي عن دور لواء تحرير الجولان أنه «لن يسمح لأي أرض عربية أن تبقى في قبضة المحتل».
لم يعد سراً أن إيران تريد أن تحصل على موطئ قدم على مرتفعات الجولان، هي بررت «تدخلها» في سوريا إلى جانب النظام بأنه للدفاع عن المزارات الشيعية، ومع ذلك قال رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي إن إيران تسعى لإقامة قواعد بحرية لها في اليمن وسوريا. وكان مسؤولون إسرائيليون أشاروا علناً إلى النفوذ الإيراني المتزايد في سوريا خلال السنوات الست من الحرب إما عبر قوات الحرس الثوري، أو المقاتلين الشيعة وبالذات «حزب الله». وقال آفي ديشتر رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاعية في الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) إن إيران حاولت عدة مرات العام الماضي نقل قوات إلى مرتفعات الجولان السورية: «وقد تم رصد كل التحركات». لكنه لم يسرد تفاصيل. حسب تقارير إعلامية تبين أن إسرائيل قصفت تحركات تقف وراءها إيران لنقل قوات إلى مرتفعات الجولان. وصار معروفاً أن قادة عسكريين إيرانيين يتحركون في الجولان السورية، ويعمد الإعلام الإيراني إلى نشر هذه الأخبار بعدما يكون القادة أنهوا زياراتهم. وكان زار القنيطرة في الجزء الجنوبي- الغربي من الجولان العميد الإيراني محمد رضا نقدي رئيس «منظمة تعبئة المضطهدين» المعروفة بـ«الباسيج» التي بدورها تخضع لأوامر الحرس الثوري الإيراني. لم يكشف الإعلام متى حصلت الزيارة، لكنه نشر صوراً للنقدي من القنيطرة في شهر يوليو (تموز) الماضي.
أما الحادثة المشهورة فقد وقعت في يناير (كانون الثاني) من العام 2015 عندما قصفت صواريخ مروحية إسرائيلية عدة أهداف في المنطقة، كان بينها وفد للحرس الثوري يضم العميد علي الله دادي يرافقه القائد الميداني لـ«حزب الله» محمد عيسى، وجهاد مغنية نجل عماد مغنية، وقد قتلوا جميعاً.
«حركة النجباء» تستمد بالتأكيد القوة المعنوية من الرعاية الإيرانية لها، لكن تبقى الهوة بين قدراتها الفعلية وطموحاتها لاستعادة الجولان واسعة جداً. منذ عام 1967 والنظام السوري «يعد» بالرد على إسرائيل في الوقت المناسب، ثم إن الحرس الثوري الإيراني، المحاط في الدول التي لإيران نفوذ فيها، بميليشيات تلك الدول التي أنشأها للحد من حرية شعوب تلك الدول، ليس نداً للجيش الإسرائيلي، ثم إن لإيران حسابات دقيقة جداً عندما يتعلق الأمر مباشرة بينها وبين إسرائيل. وهي قادرة على البقاء خلف مقولتها، إنها «لا تعتدي بل تخترق». ورغم كل اتهامات إيران و«حزب الله» بأن إسرائيل تقف وراء المنظمات التي تقاتل النظام السوري، نجحت إسرائيل في إبعاد نفسها عن الآثار المدمرة للحرب السورية، لا بل انصرفت إلى عقد الصفقات العسكرية والتقنية مع الصين والهند، مطمئنة إلى أن جبهاتها مع الدول العربية هادئة إلا من مناوشات «اضطرارية»، ومع هذا هناك إدراك داخل المؤسسات الأمنية الإسرائيلية بأن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار وأنه يجب على إسرائيل إعادة النظر في استراتيجيتها. هذه التهديدات الإيرانية، ومن قبل «حركة النجباء» و«حزب الله» تخدم إسرائيل كثيراً في علاقاتها الدولية خصوصاً مع الولايات المتحدة وروسيا، لذلك ليس مستبعداً أن تصبح أكثر اعتماداً على نهج استباق الأحداث. ورأينا مؤخراً قصفها لكل قوافل الصواريخ والأسلحة التي تحاول إيران تهريبها عبر سوريا إلى «حزب الله» في لبنان، وقد تعتمد إسرائيل هجمات مباشرة على الجولان السوري إذ قبل أيام قصفت شاحنة يقودها سوري وليس إيرانياً، والحجة ستكون دائماً لإحباط زحف الحرس الثوري الإيراني إلى الجولان.
إن هضبة الجولان مفتوحة وليست شبيهة بالجنوب اللبناني الذي توفر جغرافيته مكاناً مناسباً لإخفاء مواقع إطلاق الصواريخ. لم تكتف إيران بتحريك ميليشياتها العربية التي تشدها آيديولوجيا ولاية الفقيه، فاستضافت الشهر الماضي مؤتمراً لدعم الانتفاضة الفلسطينية، وكانت المفاجأة فيه كلمة غسان بن جدو مؤسس فضائية «الميادين»، إذ قال إن أقل نسبة مشاهدة تعاني منها البرامج التي تبثها فضائيته هي عن فلسطين.
وكما كان الوصول إلى فلسطين يستدعي مسؤولي فتح، أثناء حربهم في لبنان على القول: إن طريق تحريرها يمر عبر جبال صنين اللبنانية، هكذا نرى أنه منذ سقوط حلب وفي «طريقهم إلى فلسطين»، ركز الحرس الثوري الإيراني وميليشياته على قصف المعارضة السورية، وانتشرت قواته على جبهات في شمال ووسط وجنوب سوريا، وفي درعا حيث قتل الشهر الماضي عقيد في الحرس الثوري الإيراني.
على حساب أرواح السوريين وأرواح مقاتلي الميليشيات غير الإيرانية خصوصاً العربية والأفغانية، تأمل إيران في الحصول على موطئ قدم في الجولان بهدف ردع إسرائيل والولايات المتحدة، ويمكن لها، بالتالي التمهيد لحرب جديدة بين «حزب الله» وإسرائيل في لبنان.
وزير الاستخبارات عضو مجلس الأمن الإسرائيلي قدير كاتز قال لصحيفة «جيروزاليم بوست» يوم الاثنين 13 من الجاري: «حتى لو قصف (حزب الله) إسرائيل من سوريا، فإن الجيش الإسرائيلي سيدمر لبنان». فهل وصلت الرسالة إلى إيران؟!
قبلها استعرض صدام حسين مليون جندي قال إنهم لتحرير فلسطين وكان من أمره ما كان...
في عام 2011 عندما بدأت حدة الأمور تتضح في سورية وباءت جميع المحاولات لإقناع الرئيس السوري بسلوك طريق الإصلاح والتصالح مع القوى الشعبية بالفشل، كان لي لقاء في برنامج تلفزيوني حذرت فيه من تداعيات هذه الأزمة التي لم تكن تشبه ما حصل في تلك الحقبة في مصر وليبيا واليمن.
نقلت عني وكالة «رويترز» أنني قلت أن أمام الرئيس بشار الأسد أسبوعاً فقط للبدء بالإصلاح وبعكس ذلك فسوف تتداعى الأمور ليواجه تدخلاً خارجياً يحمل في طياته الكثير من الأهوال. استغربت هذه التغطية حيث إنني لم أكن في وارد تحديد مدد معينة لأمر لا نستطيع التحكم به. أدليت بتصريح لوكالة أنباء الأناضول قلت فيه إن مهلة الأسبوع أقحمت في تصريحي حول الأوضاع. قمنا باستقصاء مصدر الخبر، إنه منقول من ملف «ديبكا» الموالي للحكومة الإسرائيلية.
نتذكر جميعاً أن الفورة الشعبية التي عمت العديد من بلدان المنطقة كانت ترفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ولكن الأمر كان مختلفاً في سورية حيث كانت المناداة على شكل «الشعب يريد إصلاح النظام». من هذا المنطلق، أجريت محاولات كثيرة من جانب الدول المعنية بالأمر ومن الجامعة العربية، وكان لتركيا دور بارز في هذا الموضوع فقد استقبلت انقرة ممثلين عن الرئاسة والحكومة السورية وتم تقديم الكثير من الملفات حول أفضل السبل لإجراء إصلاحات تلبي مطالب الشعب من قانون الانتخابات إلى قانون الأحزاب السياسية وتوالت الزيارات إلى دمشق من جانب الكثير من المسؤولين.
أذكر بألم محاولة الفرصة الأخيرة، إذ كتب الرئيس الحادي عشر للجمهورية التركية خطاباً مفصلاً إلى الرئيس السوري، وبما أني كنت أتولى مهمة كبير مستشاريه لشؤون الشرق الأوسط فقد قمت بتحرير الخطاب باللغة العربية، وكان المفروض أن أنقل هذه الرسالة شخصياً، ولكن وزير الخارجية آنذاك فضل أن يكون هو من يحمل الرسالة لتضاف زيارته الى العديد منها والتي بلغت العشرات.
لا أذيع هنا سراً، فقد تناولت الأخبار نبأ هذه الزيارة ثم محتوياتها، وكان الرئيس يقول فيها بخطاب أخوي أن الإصلاحات إذا لم تتم على الوجه المطلوب وفي زمن قريب فسيأتي الزمن الذي سيرى النظام فيه أن ما قدمه كان قليلاً جداً ومتأخراً جداً، وأن رياح التغيير ستجرفه لا محالة.
كم كنا نتمنى أن تلقى هذه المناشدات أذناً صاغية لكي لا نرى نزيف دم مؤلماً في هذه البقعة العزيزة علينا، ولكن العناد غير المبرر وتدخلات من يهمهم بقاء النظام السوري على هذه الشاكلة ومحاولة البعض أن تكون سورية حديقة خلفية لهم وأدت جميع المحاولات المبشرة بالخير وانتهى الصراع ليكون شاملاً وتبدأ عسكرة الموضوع وسحب البساط من تحت أقدام النظام السوري ليقرر الآخرون سواء في نيويورك أو في آستانة أو في جنيف كيف يضعون خريطة طريق للمستقبل السوري.
الآن وبعد مرور ست سنوات على هذا الموضوع، نرى أن جميع القوى المؤثرة في العالم تتجاذب الملف السوري ولا يحتل موقف النظام السوري في هذا الأمر إلا النذر القليل، وكأن الموضوع يهم العالم شرقاً وغرباً ولا يهم الشعب السوري المنكوب نفسه.
نحن الآن على مشارف الاقتناع بضرورة الحل السياسي من جانب جميع الأطراف، أي أننا عدنا الى المربع الأول الذي كنا ننادي فيه بعدم عسكرة الحل في سورية وتغليب الحكمة والحل السياسي لإطفاء هذه النار المشتعلة في جنبات هذه المنطقة.
الاجتماعات المتكررة في آستانة، العاصمة الجديدة لجمهورية كازخستان أظهرت للعالم أجمع أن الحل يمكن أن يكون عملياً اذا كانت هناك أطراف ضامنة لأي اتفاق يجمع عليه كل الفرقاء وفق قرار مجلس الأمن 2254. لقد أكدت الأطراف المشاركة في اجتماع آستانة الأول أن الحل لهذا الصراع المضني يمكن تحقيقه من خلال عملية سياسية.
ما أفرزه هذا الاجتماع هو تحول روسيا من قوة مساندة لأحد الأطراف عسكرياً وهجومياً الى طرف ضامن لوقف إطلاق النار، كما أدى الى تحجيم دور ايران والميليشيات المساندة لها ورجوعها الى حجمها الطبيعي الذي أرادت توسيعه في شكل أثار الريبة والشك ليس في سورية وحدها بل في عموم المنطقة.
اجتماع آستانة لم يكن إطلاقاً بديلاً لمؤتمر جنيف الذي عقد وسيتوالى عقده، ما دام الأمر لم يصل إلى النتيجة المرجوة. والمفروض أن يُجمع العالم ممثلاً بالأمم المتحدة التي يشارك ممثلها في الاجتماع على ضرورة وقف نزيف الدم والانتقال الى عملية سياسية يخرج منها السوريون بدولة مدنية قائمة على الالتزام بسيادة واستقلالية ووحدة أراضي الجمهورية العربية السورية باعتبارها دولة حضارية لا طائفية فيها.
كم يا ترى ستعقد اجتماعات لاحقة في جنيف وحبذا لو وجد العقل والتعقل طريقه لإنهاء الأزمة الطاحنة بعد كل هذه المصائب، وإلا فإن الذئاب جاهزة لافتراس الجسد السوري ونهش ما تبقى من مقوماته. المطلوب مشروع وطني سوري وحقيقي لا يجهز على مقومات الدولة وينبع من ضمير الأمة ويا حبذا لو تفهم النظام السوري أن للحقيقة وجهاً واحداً.
ألم يكن ما تم تقديمه قليلاً جداً ومتأخراً جداً؟
مع استئناف المفاوضات السورية في جنيف، يُحتمَل أن تُطرح مجدّداً مسألة تعديل وفد المعارضة. إذا لم تعاود موسكو إثارتها فقد تكلّف المبعوث الأممي بذلك، وإذا لم يفعلا فإن وفد النظام سيستغلّ الأمر للتشكيك في تمثيل الوفد الآخر للمعارضة، من قبيل إضاعة الوقت أو كسبه، وبالأخصّ للهرب من استحقاق التفاوض نفسه حتى بعدما بذل ستيفان دي ميستورا أقصى جهده لتمييع هدف «الانتقال السياسي»، وكأن مهمته ليست تنفيذ القرار 2254 بل إرضاء الروس والنظام، الذين لا يعترفون فعلياً بأي انتقال سياسي، وعملوا على تفريخ «المنصات» لئلا يعترفوا بوجود معارضة. والسؤال هنا لماذا لا تسعى موسكو إلى توحيد منصّات موسكو والقاهرة وآستانة وحميميم طالما أنها تحرص على تمثيلها، ولماذا ترفض ممثلين عن منصّتَي موسكو والقاهرة ضمّتهم «الهيئة العليا للمفاوضات» ويشكّلون ثلث وفدها المفاوض وربع بعثتها، لتصرّ على إقحام أشخاص محدّدين؟ أما الجواب فأصبح مكشوفاً، وهو أن موسكو (والنظام) كانت تريد إبقاء المعارضة كيانات مفتتة يسهل التلاعب بها، وبعدما وحّدت صفوفها استعداداً للتفاوض يُراد اختراق وفدها وتلغيمه.
في أي حال، كما لم يفلح نظام بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون في إلغاء المعارضة، كذلك لم تتوصل ضغوط روسيا على رغم استشراسها في تغيير المعادلة العسكرية إلى شطب المعارضة من المعادلة السياسية، فلا حل سياسياً من دونها. وثمّة مفارقة غريبة تكمن في أن الروس يريدون هذا الحـــل ويريدونه سريعاً، لكنهم يبادرون إليه بتكتيكات مستندة فقط إلى القوة، مظـــهرين بوضوح أن ليست لديهم رؤية سياسية، وإذا كانوا يعتقدون أن «مسودة الدستور» التي طرحوها يمكن أن تشكل تلك الرؤية فلا شك أنهم أخطأوا شكلاً وموضوعاً ومضموناً. وفيما لم يُبدوا أي اهتمـــام بالخطة المتكاملة التي عـــرضتها المعارضة للانتقال السياسي وفقاً للقرارات الدولية، ولم يطلبوا من حليفهم نظام الأسد أي خطة مشابهة بل يستخدمون ثقلـــهــم الدولي لترويج أفكار سبق للأسد أن طرحها في خطبه منذ 2011 ولم تُكسبه أي صدقية «إصلاحية»، بالتالي لم يكن لها أي تأثير في مجرى الأحداث. ولو لم يكن هناك «بيان جنيف» والقرار 2118 لما أمكن الأمم المتحدة أن تدعو إلى مفاوضات جنيف التي أخفقت في 2014، ولو لم يكن التدخل الروســـي ومشاورات «مجموعة الدعم الدولي لسورية» ثم القرار 2254 لما استطــــاعت الأمم المتحدة أن تدعو إلى جولة جديدة من التفاوض أخفقت العام الماضي وتُبذل محاولات لإنجاحها هذه السنة.
كانت جولة «جنيف 4» الأخيرة هي الأولى التي تُجرى في غياب أميركي يريد أن يؤكّد أن واشنطن لم تعد «راعية» للمفاوضات، وأنها تعتبر العملية الحالية «شأناً روسياً»، تراقبه ولا تتدخّل فيه. لذلك ضغطت موسكو عبر موفدها إلى جنيف، نائب وزير الخارجية غينادي غاتيلوف، لئلا تنتهي تلك الجولة بفشل معلن. وقد استند دي ميستورا إلى مسعى غاتيلوف ليعلن إضافة مسار رابع (أو سلة رابعة) وافقت فيه المعارضة على مناقشة قضية الإرهاب من كل جوانبها، في مقابل موافقة مبهمة على البحث في «الانتقال السياسي» لم يعلنها وفد النظام رسمياً، لكن كان غاتيلوف مَن لمّح إليها.
وهكذا أُغلقت جولة «جنيف 4» على خدعة مكشوفة، لتبدأ الجولة التالية في حقل ألغام، فكلّ مسار فيها قابل للتفجّر سريعاً. إذ تُقبل المعارضة على التفاوض انطلاقاً من المفاهيم التي تعتقد أن القرارات الدولية كرّستها نظرياً وأن المطلوب إيجاد آليات لتنفيذها، وهي وفقاً لهذا المنظور ترى أن التوافق على مبدأ «الانتقال السياسي» خطوة مفتاحية لأي اتفاق محتمل. لكن ما تكرّر في مواقف معلنة لرئيس النظام ووزير خارجية النظام ونائبه ورئيس وفده يؤكّد المؤكّد وهو أن الأسد لم يعترف بـ «بيان جنيف» (2012) ولا بأيٍّ من القرارات الدولية لكنه يتعامل معها شكلياً، بالتنسيق مع روسيا (وإيران)، بغية الالتفاف على الأهداف التي تتوخّاها وإدخال المفاوضات في متاهة التفاصيل ليتعذّر الاتفاق في أي مسار، وهو ما دعمه دي ميستورا بقوله «لا اتفاق على شيء قبل الاتفاق على كل شيء» عملاً بشرط فرضه الإسرائيليون على المفاوضات مع الفلسطينيين. وبديهي أنه يستحيل التقدّم في مسارات الدستور والانتخابات ومحاربة الإرهاب من دون اتفاق واضح في مسار «الانتقال السياسي».
لا تجهل موسكو ولا سواها أن ألف باء التفاوض على إنهاء أزمة، أصلها سياسي وتحولت صراعاً مسلّحاً، تقتضي أولاً هدنة أو تجميداً للعمليات العسكرية للمساعدة في بناء أجواء ثقة بين المتفاوضين، وبالأخص لاختبار جدية الأطراف في السعي إلى حلول سلمية وسياسية. غير أن سلوك روسيا منذ أنجزت تفاهمها مع تركيا، وبنت عليه وقف إطلاق النار، لم يُظهر في أي يوم أنها ألزمت النظام وإيران احترام الهدنة، أو أوقفت دعم خطط سابقة لهما لمواصلة توسيع سيطرتهما، بل إن طيرانها ارتكب مجازر عدة خلال مؤازرته هجمات قواتهما، كما أشرف الروس أكثر من مرّة على عمليات تهجير جديدة في وادي بردى وحي الوعر (حمص) ويضغطون لإجراء مزيد منها في الغوطة الشرقية... وبعدما فقدت اجتماعات آستانة مبرر انعقادها، إذ فشلت في تثبيت وقف النار، ظلت موسكو مصرّة على تلك الاجتماعات، متجاهلة اعتراضات تركيا على تحويلها إلى مسار تفاوضي موازٍ لمناقشة «مسودة الدستور». وبالنسبة إلى فصائل المعارضة انتهت عملياً المراهنة على أي تعهدات روسية بدعم وقف النار كوسيلة لتفعيل المفاوضات السياسية.
يقول سوريون غير منضوين في المعارضة ومواكبون للاتصالات الروسية أو مشاركون فيها، إن موسكو بلورت منذ معركة حلب مجموعة كبيرة من الفرص التي أوحت لهم بأنها تعتزم وقف الحرب وتحضير بيئة مناسبة للتفاوض، بل وجدوها في مرحلة ما مصممة ومندفعة، لكنهم فوجئوا أخيراً بتراجع وتغيير ما لبثا أن فوّتا تلك الفرص، وأهمها بحث متقدّم في إنشاء مجلس عسكري بهدف إعادة دمج عسكريين منشقّين والتهيئة لإصلاح هيكلية مؤسستَي الجيش والأمن. ويشير هؤلاء أيضاً إلى فرص أخرى قد تكون بدّدت، ومنها وقف النار الذي عُرف دولياً بأنه «مشروع روسي» أولاً وأخيراً لكن فشله دلّ إلى أن للهيبة الروسية حدوداً، ثم أنه حال دون انطلاقة جدّية لمفاوضات جنيف. ولا شك أن فرصة أخرى كبيرة ضاعت أيضاً وتمثّلت بانكشاف التناقضات الروسية - الإيرانية وضرورة البدء بتحجيم النفوذ الإيراني كوسيلة حتميّة لإنهاء الصراع في سورية. إذ يبدو أن مقاربة موسكو لمآلات الأزمة عادت بها إلى المربع الأول، فبعدما تأكد لها أن التقارب مع إدارة دونالد ترامب قد تأجّل، رأت أن تتعايش مجدّداً مع الدور الإيراني لأنها ستحتاج إليه في أي مساومة لاحقة مع أميركا.
نتيجةً لذلك استعادت التغطية الجوّية الروسية لعمليات النظام وإيران نشاطها، وبعد الاشتعال الخطير للجبهات على أطراف دمشق لا بد أن يمضي الحلفاء الثلاثة إلى ما يشبه «سيناريو حلب» لانتزاع السيطرة على الغوطة الشرقية، مع إدراكهم أنه أصعب وسيكون بالتأكيد أكثر كلفةً بشريةً. وعلى رغم أن روسيا صارت معنية بترتيب مكوثها المديد في سورية فإنها ترى ضرورة الآن لتجميد غير معلن لخطط إنهاء الصراع ريثما تتضح أمامها معالم الاستراتيجية الأميركية. وفي الانتظار تدخّل موسكو في ضبط التنافس التركي - الأسدي - الإيراني على مناطق الشمال، سواء تلك التي تستعاد من تنظيم «داعش» أو تلك التي يُفترض أن يخليها الكرد. لكنها تدعم في الوقت نفسه إخلاء مدن الغوطة الشرقية من أي وجود مسلّح للمعارضة، منسجمةً مع أطروحات الأسد بأن مَن ينتصر عسكرياً هو مَن يملي شروطه السياسية.
أصبح وضع فلسطينيي سورية واضحاً، بعد ست سنوات من الثورة، حيث تشرّد كثيرون منهم كما الشعب السوري، وعانوا من الاعتقال والقتل والتدمير، مثل كل الشعب السوري، ليبدو أن لا فرق بينهم وبين الشعب السوري، فقد جرى اتهامهم، منذ بدء الثورة في درعا، أنهم وراء ما يجري، وتعرّضت المخيمات للقصف والتدمير. وفي كل ذلك عاملان:
الأول، يتمثل في أن الشباب الفلسطيني الذي ولد في سورية، ودرس في مدارسها وعانى من الاستبداد والاعتقال، ومن ضيق الحال، بعد انهيار الوضع الاقتصادي السوري، هذا الشباب كان ينطلق من أنه معني بالتغيير ككل الشباب السوري، فهو يعيش الظروف نفسها، ويعاني من الاستبداد نفسه. ولقد ولد وعاش هنا، وأصبح جزءاً من التكوين الاجتماعي القائم، ويتأثر به بشكل شديد. لهذا، كان من الطبيعي أن يكون مع الثورة، وأن يشارك فيها منذ البدء بلا تردّد. فهو، وإن كان يُحسب فلسطينياً انتماءً، ومعني بالعودة الى فلسطين، يعيش الظرف نفسه الذي فرض عليه كما كل الشعب السوري. يعاني من التدخلات الأمنية ومن الحصار والاعتقال، وكذلك من غياب فرص العمل، أي البطالة، ومن ضعف الدخل، وكل المشكلات التي أنتجها نمط اقتصادي ريعي مافياوي، تشكّل خلال ثلاثة عقود. وهو الوضع الذي جعله في مواجهة النظام، نتيجة وضعه المعيش. ولا شك أنه كان أكثر من يتلمس زيف خطاب النظام عن فلسطين، وقمعه كل تفكير يريد السعي إلى تحريرها، وكيف أنه فكك المقاومة الفلسطينية، وأخضع جزءاً كبيراً منها، ومنعها من ممارسة دورها التحريري. وبالتالي، لم يتأثر بالخطاب "القومجي" الذي كان يتكرّر حين الحاجة فقط.
لهذا كان الانخراط في الثورة أمراً "طبيعياً"، من دون التفات إلى خطاب زائف، يتكرّر حول النظام "الممانع". كان وضعه المعيش يدفعه إلى الثورة، ككل السوريين، بلا تردّد، ولا تذكُّر أنه "من خارج البنية"، بالضبط لأنه جزءٌ من البنية التي تحكم المجتمع السوري. ولأنه أكثر من كشف خطاب النظام حول فلسطين، لأنه عانى نتيجة حلمه بفلسطين، فتعرّض شبابٌ كثيرون للاعتقال خلال العقود السابقة، بسبب فلسطين تحديداً. بالتالي، عانى بعد الثورة كل ما عاناه السوريون، الاعتقال وهناك آلاف الشباب في سجون النظام، والقتل في السجون كذلك، والحصار الشديد كما حدث لمخيم اليرموك، والتشريد بعد تدمير المخيمات.
العامل الثاني، اتهم النظام الفلسطينيين، منذ بدء الثورة في درعا، وفعل ذلك في اللاذقية، على أساس أن ما يجري هو "أفعال تخريب"، يقوم بها الفلسطينيون. لكن توضّح، خلال الثورة، أن النظام يعمل على تدمير المخيمات، واحداً تلو الآخر. بدأ بمخيم درعا، ثم ركّز على مخيم الرمل الجنوبي في اللاذقية، ثم مخيم حمص، وظهر الأمر بوضوح شديد في مخيم اليرموك، حيث حوصر وما زال، وجرى تهديم أجزاء مهمة منه، وما زال الأمر جارياً. لكن، ربما كان الأمر الذي يكشف أسباب ذلك هو حصار مخيم خان الشيح الذي لم يكن فيه مسلح واحد، ولا كان "متمرداً"، لكنه حوصر وجرى قصفه بالطائرات (السورية والروسية) والصواريخ.
بالتالي، إذا كان النظام قد منع فلسطينيي العراق من دخول سورية، وأبقاهم سنوات في صحراء التنف، إلى أن رُحّلوا إلى أميركا الجنوبية وكندا، على الرغم من أنه سمح بدخول أكثر من مليوني عراقي، فلا يمكن أن نفهم تركيزه على المخيمات، إلا انطلاقاً من التزامه بـ "القرار" الأميركي الصهيوني بترحيل كل اللاجئين الفلسطينيين القاطنين بلدان الطوق، بعيداً عنها. بمعنى أن النظام ينفّذ سياسة أميركية صهيونية، تريد ترحيل اللاجئين بعيداً. لهذا، قام بتدمير المخيمات، وفرض تهجير سكانها، ودفعهم إلى المغادرة خارج سورية، كي يموت كثيرون منهم في البحر.
لقد أدخل النظام عصاباتٍ تابعة له إلى مخيم اليرموك، تحت مسمى "الجيش الحر"، لكي يحاصر المخيم الذي كان شبابه قد عملوا على تحييده، خصوصاً أنه بات يضم سوريين كثيرين من المناطق المحيطة التي تعرضت للقصف والتدمير، وقام بتسليح عصاباته الفلسطينية منذ بدء الثورة، وأوصل الأمر إلى إدخال جبهة النصرة و"داعش"، لنصل إلى تدمير واسع للمخيم، وتهجير معظم قاطنيه.
وإذا كانت تنظيمات فلسطينية قد دعمت النظام، وقاتلت معه وما تزال، فلأنها تابعة له، أو لأنها تخاف على مصالحها. ولهذا زجّت مئات الشباب الفلسطيني في حربٍ قذرة ضد الشعب السوري. وكان واضحاً الفراق بين الشباب الفلسطيني وكل التنظيمات الفلسطينية منذ بدء الثورة، ما دفع كثيرين منهم إلى ترك تنظيماتهم والانخراط في الثورة، فهذه التنظيمات تؤسس على مصالحها، وليس على مواقف مبدئية، وقد تنازلت عن معظم فلسطين نتيجة ذلك. ولا شك أن مواقفها انعكست بشكل سيئ على فهم ما يجري في سورية لدى قطاع من الشعب الفلسطيني الذي توهم أن المعركة هي ضد الأصولية والإرهاب، كما يكرّر خطاب النظام، أو أنها مؤامرة إمبريالية، كما يكرّر أتباعه، على الرغم من أن الصراع الواقعي يوضّح أن الأمر يتعلق بثورة شعبٍ ضد نظام نهّاب واستبدادي و"بيّاع"، فيما يتعلق بالمسألة الوطنية.
كل ذلك يعرفه شباب المخيمات، ولهذا كانوا مع الثورة. وهم يعرفون أن تحرير فلسطين يبدأ بتغيير النظم التي تكيفت مع الوجود الصهيوني، وباتت في تصالح أو تريد التصالح معه. ولسورية موقع حاسم في هذا السياق، حيث من أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط النظام.
تستعد القمة العربية للالتئام خلال الأيام القليلة القادمة في الأردن، والحديث طويل والسجال أطول حول مصير نظام الأسد والميليشيات الإرهابية الإيرانية منها والعربية، ومن بينها رأس الشر «حزب الله». لذلك على قادة الدول العربية مواجهة شرور «حزب الله» وملاحقته والتنديد به كما «القاعدة» و«داعش» ومن على شاكلتهما لأن لا فارق بينهم في الهدف والعقيدة والأيديولوجيا والمنهجية الفكرية القائمة على القتل واستباحة الدماء باسم الدين.
كان الأولى بالرئيس اللبناني ميشال عون، بدلاً من دعوة مصر أخيراً إلى مبادرة لإنقاذ العالم العربي من الإرهاب، أن يدعو في بيروت «حزب الله» عن التوقف عن الإرهاب وأن يطالبه بالخروج من سورية وأن يتوقف عن إنتاج الخلايا الإرهابية في دول المنطقة.
لماذا؟ لأن فخامة الرئيس عون يدرك جيداً أنه يتحالف في لبنان مع العقل المدبر والمنفذ للإرهاب في بلاده والعالم العربي، وهو «حزب الله» اللبناني الذي يأتمر بإمرة إيران، وينفذ سياستها للتدخل بشؤون دول المنطقة ويجند الإرهابيين لتنفيذ تفجيرات واغتيالات.
العجيب أنه حينما سئل الجنرال عون خلال زيارته مصر الشهر الماضي عن حل مشكلة سلاح حزب حسن نصر الله الذي يختطف إرادة الدولة اللبنانية وقراراتها السيادية، وسياساتها الخارجية، رد بالقول: «هناك ضرورة لوجود هذا السلاح ما دام هناك أرض تحتلها إسرائيل، وما دام الجيش اللبناني لا يتمتع بالقوة الكافية لمواجهة إسرائيل». بل زاد أن سلاح حزب نصر الله يعتبر «مكملاً لعمل الجيش ولا يتعارض معه»، وهذا توريط للبنان والجيش طالما «حزب الله» يقتل أطفال ونساء سورية ويشارك في العراق واليمن، ونعلم جميعاً عدد المذابح والمجازر التي شارك فيها الحزب في سورية وغيرها.. وكأن فخامة الرئيس يريد أن ينسينا اجتياح الحزب لبيروت بالسلاح عام 2009، ومحاصرة الوسائل الإعلامية وقطع الطرقات وتعطيل المطار بالقوة والدخول في مواجهات مسلحة مع أهل بيروت، خصوصاً السنة!
وكان من الطبيعي أن تشعل تصريحات الجنرال سجالاً جديداً داخل لبنان، خصوصاً أن حزب نصر الله، والخلاف القديم/الجديد بشأن سلاحه، ودوره في الساحة السياسية اللبنانية، ودوره في القتال في صفوف نظام بشار الأسد، كان عطل تشكيل الحكومة اللبنانية شهوراً، بل أبقى المقعد الرئاسي شاغراً مدة أطول. ولمن يستغربون مواقف الجنرال وتبديل مواقفه مثلما يبدل سترته نحيلهم إلى تصريح شهير للجنرال قاله قبل أن يتحالف مع حزب حسن نصر الله في عام 2006، وهو: «حزب الله إذا بقيَ مسلحاً لن يستطيع حماية نفسه، وسيعرّض الشعب اللبناني للخطر معه». وها هو في عام 2017 يستمر في تحالفه مع الحزب ليؤكد مجدداً بـ«ضرورة وجود سلاح حزب الله لأنه مكملٌ لعمل الجيش الذي لا يتمتع بالقوة الكافية».
كان إدلاء عون بتلك المواقف بعد زيارته للسعودية، التي كان حزب نصر الله سبباً في توتر علاقتها القديمة مع لبنان، مخيباً للآمال، خصوصاً أن الرئاسة تتطلب مواقف براغماتية وسطية، لضرورة عدم إقصاء التيارات السياسية الناشطة في الحياة اللبنانية.
وكان مخيباً للآمال لأن عون بدلاً من أن يعيد إلى لبنان هويته العربية، وهو واحد من وعوده بعد تنصيبه رئيساً للبلاد، تركه في حضن حزب نصر الله. والأنكى أن الرجل، وهو قائد سابق للجيش اللبناني، وصف ذلك الجيش بأنه لا يتمتع بالقوة الكافية. ويعني ذلك ببساطة أن عهد الرئيس عون لن يشهد تعزيزاً لقدرات الجيش الوطني، وأن مشكلة سلاح حزب حسن نصر الله الإيراني باقية بلا حل، وأن اختطاف الحزب الإرهابي للإرادة السياسية للدولة اللبنانية سيبقى خميرة لعكننة الحياة السياسية، واستدامة السجالات والتوترات والصراعات في المشهد اللبناني.
لقد ظل الجنرال يحترف سياسة ترحيل حلول الأزمات منذ محاولته فرض نفسه رئيساً للحكومة في ظل الهيمنة السورية، وهو ما انتهى بسيطرة نظام حافظ الأسد على لبنان بأسره، وخروج عون إلى منفاه الباريسي. وهو ينسى أن الشعب اللبناني حين تفجر غضبه خرج بصوت واحد في قلب بيروت ولم يعد إلى بيوته إلا بعد إرغام بشار الأسد على إجلاء قواته وجواسيسه. الأكيد أنه حين يصل الغضب بالشعب اللبناني مداه من الدويلة الإيرانية داخل الدولة اللبنانية فسيهب مجدداً ليكنس سلاح حزب الله.. ويقتلع شعارات نصر الله ومن يصمت على أفعاله وإرهابه.
ماذا يقدم أو يؤخّر أن يكـون رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في واشنطن للقاء الرئيس دونالد ترامب. هل يمكن الرهان على الرجل في انتزاع العراق من إيران. بكلام أوضح هل في الإمكان استعادة العراق؟
تزداد صعوبة الرهان على استعادة العراق مع ما يجري في الموصل. لا شكّ ان استيلاء داعش على هذه المدينة العراقية العريقة صيف العام 2014، بتسهيل من حكومة نوري المالكي، كان مأساة. لكنّ ممارسات الحشد الشعبي، الذي بات جزءا من مؤسسات الدولة العراقية الجديدة بحق أهل الموصل، بات استمرارا للمأساة. هناك عملية تهجير منظّمة ومدروسة لأهل المدينة من منطلق مذهبي. تمـارس هذه العملية تحت عنوان عريض هو تحرير الموصل من داعش. يظهر كأن الحشد الشعبي هو المستفيد الأوّل من داعش، فيما العكس صحيح أيضا…
يبدو الرهان على استعادة العراق، وهو رهان أميركي ـ سعودي، مجازفة كبيرة، إلّا إذا تبيّن أنه كانت لدى المملكة ما يكفي من المعطيات كي يذهب وزير خارجيتها عادل الجبير الشهر الماضي إلى بغداد ويبحث في إمكان الانتقال إلى مرحلة جديدة في مجال ترميم العلاقات الخليجية ـ العراقية.
ما يدعو إلى عدم الإغراق في التفاؤل أن العبادي نفسه عضو في حزب الدعوة الإسلامية ذي العلاقة العضوية مع النظام الإيراني من جهة وعمق الوجود الإيراني في العراق الذي تجسّده حال ميليشيوية هي الحشد الشعبي من جهة أخرى. من شروط الرهان على استعادة العراق وضع الحشد الشعبي عند حدّه. هل هذا ممكن؟ هل في استطاعة حيدر العبادي ذلك؟
أكثر من ذلك، لا يمكن تجاهل أنّ العراق تغير جذريا منذ العام 2003، أي قبل أربعة عشر عاما بالتمام والكمال. ففي مثل هذه الأيام من ذلك العام، بدأت الحرب الأميركية على العراق بهدف إسقاط نظام صدام حسين وتشكيل نظام جديد، يكون نموذجا لما يجب أن تكون عليه دول المنطقة.
كان الحلم الأميركي يتمثّل في قيام عراق ديموقراطي تعددي على كل الصعد تقتدي به دول المنطقة. تحوّل هذا الحلم إلى كابوس. كانت المغامرة الأميركية في العراق، بمشاركة إيرانية مباشرة، وغير مباشرة، كارثة على المنطقة العربية كلّها، بما في ذلك العراق نفسه الذي بات تحت حكم ميليشيات مذهبية تابعة لأحزاب عراقية مرتبطة مباشرة بالمشروع الإيراني. هذا ليس سرّا. ليس سرّا أيضا إن زعماء هذه الميليشيات قاتلوا إلى جانب “الحرس الثوري” الإيراني في الحرب العراقية ـ الإيرانية بين عامي1980 و1988. هذا يعني بكل بساطة أن الحشد الشعبي أداة إيرانية تتحكم بالعراق. ما موقف رئيس الوزراء العراقي الموجود في واشنطن من هذا المكوّن الذي صار مؤسسة من مؤسسات الدولة العراقية، بل المؤسسة الأقوى في هذه الدولة.
على الرغم من ذلك كله لم يكن هناك مفر من الرهان على إعادة العراق إلى وضعه الطبيعي بعيدا عن إيران مجددا، لا لشيء سوى لأنه لم يكن لدى إيران ما تقدمه للعراق والعراقيين باستثناء الفقر وإنعاش الغرائز المذهبية والميليشيات وثقافتها. لكن ما لا يمكن تجاهله في الوقت ذاته أن إيران خلقت واقعا على الأرض العراقية. جعلت ميليشياتها صاحبة اليد الطولى في كلّ أنحاء البلد. استطاعت إيران تشريع هذه الميليشيات التي صارت جزءا لا يتجزّأ من مؤسسات الدولة، هذا إذا كان في الإمكان الكلام عن دولة عراقية بعد كل عمليات التطهير ذات الطابع المذهبي التي طاولت المدن والمناطق العراقية من جهة، وفي ضوء الشرخ العميق بين السنّة والشيعة وبين النظام القائم في بغداد والأكراد من جهة أخرى.
سيتوقف الكثير على من ستكون له الكلمة الأخيرة في معركة الموصل. ستلحق هزيمة بـ“داعش” في الموصل. هذا أمر أكيد. ولكن من سيكون صاحب الانتصار. الميليشيات المذهبية الموالية لإيران تحت تسمية الحشد الشعبي، أم القوات النظامية العراقية المدعومة أميركيا؟
يتوقف على نتيجة معركة الموصل ما إذا كان خروج العراق من الهيمنة الإيرانية رهانا واقعيا أم لا. ما يمكن أن يلعب دورا لمصلحة هذا الرهان أنّ الإدارة الأميركية الحالية ليست مثل إدارة باراك أوباما التي أطلقت يد إيران في كل المنطقة العربية وقررت في مرحلة معينة الاستسلام لها في العراق.
الأهم من ذلك كله، أن إيران تعاني في هذه الأيام من أزمة سياسية واقتصادية عميقة بدأت تظهر نتائجها في غير مكان من المنطقة، بما في ذلك لبنان حيث يعاني المعتاشون من “المال النظيف” من انعكاسات الفشل الإيراني. فشلت إيران فشلا مدويا في بناء اقتصاد قادر على الحياة لا يعتمد على سعر النفط والغاز. عاشت طويلا على نهب العراق، خصوصا في أيّام حكم نوري المالكي. لم يعد العراق قادرا على مساعدة نفسه بعد تبخر مئات مليارات الدولارات في سنوات حكم المالكي.
سيكون من الصعب إعادة العراق إلى العراقيين. ولكن لا بدّ من المحاولة، على الرغم من أنّ الأمل في النجاح ضئيل. العراق يستأهل المحاولة، ذلك أن سقوطه في 2003 أخلّ بالتوازن الإقليمي بشكل جذري. ما يعيشه الشرق الأوسط والخليج اليوم هو استمرار للزلزال الذي بدأ باحتلال العراق من دون تفكير عميق في الخطوة التالية.
حسنا، رحل صدام حسين ونظامه البائس، ولكن هل الميليشيات المذهبية التي تديرها إيران بديل أفضل؟ هل حيدر العبادي قادر على أن يكون لكل العراق ولكل العراقيين بثقافته المحدودة ذات الطابع المذهبي؟
لا خيار آخر غير المحاولة. الأكيد أن نتائج معركة الموصل والرحلة الأميركية لرئيس الوزراء العراقي ستكشفان ما إذا كان في استطاعة حيدر العبادي التصرف خارج الإطار الذي ترسمه إيران عن طريق الحشد الشعبي. أما الامتحان الأهم فانه سيكون القمة العربية التي يستضيفها الأردن قبل نهاية الشهر الجاري. سيُطرح في هذه القمة موضوع التدخلات الإيرانية في الشؤون العربية. لدى إيران ميليشيات مذهبية تابعة لها في سوريا ولبنان والعراق والبحرين واليمن. إضافة إلى ذلك، تحتل إيران ثلاث جزر إماراتية منذ العام 1971 وترفض أي تفاوض في شأن زوال الاحتلال، تماما كما تفعل إسرائيل في الضفة الغربية. ما الموقف العراقي الرسمي من هذه الميليشيات ومن الاحتلال الإيراني لأرض عربية، أم أنّ هذه الميليشيات هي التي تعبّر، عمليا، عن الموقف الرسمي العراقي؟
أيّام قليلة تفصل عن القمّة العربية. سيظهر هل من تـأثير للرحلة الأميـركية لحيدر العبادي وهل من ثمار للزيارة التي قام بها الوزير عـادل الجبير لبغداد. سيظهر عمليا ما إذا كان هنـاك من بقية أمل في إحياء الروح الوطنية العراقية عند السنة وعند الشيعة في العراق، وهو أمل حاولت إيران القضاء عليه نهائيا عبر جعل ميليشياتها المنضوية تحت تسمية “الحشد الشعبي” بديلا عن كل مؤسسات الدولة العـراقية على رأسهـا رئاسة مجلس الوزراء التي يفترض أن تكون قد احتكرت كل السلطات في البلد.
الروس لم يقدموا على انتشال الأسد ونظامه إلا بعد موافقة إسرائيل؛ فمن المعروف أن إسرائيل لها بالروس علاقات طبيعية إذا لم تكن وطيدة، وليس في مصلحة أي من الطرفين، لا إسرائيل ولا روسيا أن تتوتر؛ وكثيرا ما يشد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو رحاله إلى موسكو للتنسيق معهم في تدخلاتهم في المنطقة العربية.. وهذا يعني بكل وضوح أن روسيا الاتحادية نسقت مع إسرائيل قبل التدخل لإنقاذ الأسد ونظامه.
إيران يربطها بروسيا علاقات وطيدة وإن توترت بعض الشيء مؤخرا؛ وحزب الله صنيعة الولي الفقيه الإيراني، ومنه يتلقى معظم تمويله، والبقية من خلال الاتجار بالمخدرات في كل أرجاء العالم.. هذه العوامل مجتمعة تنسف أسطورة أن سلاح حزب الله هو سلاح لمقاومة إسرائيل، وحماية حدود لبنان، كما يردد اللبنانيون الموالون للحزب، وكما ردد كذلك الأسطورة ذاتها الرئيس اللبناني «ميشيل عون» في القاهرة.
الإيرانيون وصنيعتهم حزب الله يروجون هذه الأسطورة أو الذريعة، لتسليح الميليشيا الشيعية في لبنان لتكون لهم بمثابة مخلب قط لحماية نفوذهم وسيطرتهم هناك،؛ أما أن يرمي الرئيس اللبناني بثقله خلف هذا الحزب، ويتبنى رسميا ميليشيات تأتمر بأمر الولي الفقيه، فلا يمكن أن يكون ذلك منطقيا، لولا أنه يعلم يقينا أن سلاح حزب الله لا يستهدف إسرائيل كما يزعم (مجعجع) الحزب «حسن نصر الله»، ولما تجرأ على هذا التصريح، الذي جعل عمليا أي تهديد ينطلق من سراديب الحزب في بيروت هو تهديد (لبناني) رسمي؛ ومعروف أن عون قبل أن يصبح رئيسا كان حليفا للحزب، ويعمل بالتنسيق معه، وهو أقرب الزعماء اللبنانيين بمعرفة حقيقة من يستهدفهم. كل هذه المؤشرات تقول ما يلي: أولا حزب الله ومن ورائه إيران، هم مع إسرائيل (سمن على عسل)، وكل طرف يخدم الطرف الثاني؛ إيران تتخذ من عداء إسرائيل ذريعة تخدم أطماعها في المنطقة؛ وتدخل إيران دعما للرئيس الأسد وعدم استبداله بآخرين، لا تضمنهم، يصب في مصلحة إسرائيل وإيران معا. ولا يخالجني شك بأن هذا الحزب، لو كان يشكل خطرا وجوديا على إسرائيل، فلديهم من الوسائل المخابراتية، والقوة العسكرية، ناهيك عن النفوذ لدى الدول العظمى، ما يجعل لبنان، وليس ميليشيا حزب الله فحسب، أثرا بعد عين. فأمن إسرائيل، وبقاؤها، أمرٌ محسوم، ليس لدى الأمريكيين فحسب، وإنما لدى كل الدول العظمى. والعرب، خاصة المغفلين منهم، لا يتعلمون من تاريخهم مع الزعماء المزورين الذين يتخذون من قضية فلسطين ذريعة لأطماعهم وتسلطهم، صدام حسين مثالا، وقبله عبدالناصر، والآن حسن نصر الله وقبل هؤلاء عدونا الفارسي البغيض، جميعهم بلا استثناء جعلوا فلسطين بمثابة قميص عثمان وأصابع نائلة لتحقيق أهدافهم، ولأن أغلب العرب لا يقرؤون، ولا يفكرون، تنطلي عليهم النصبة ذاتها مع كل زعيم نصاب، وآخرهم ولا أظنه سيكون الأخير هذا الكذاب الأشر، الإرهابي حسن نصر الله.
شكل الهجوم المباغت الذي شنته فصائل المعارضة بقيادة «فيلق الرحمن» و «جيش الإسلام» و «هيئة تحرير الشام» على جبهة جوبر عند المدخل الشمالي لمدينة دمشق، تطوراً مهماً على صعيد العمليات العسكرية في العاصمة السورية، وقطيعة مع «الستاتيكو» العسكري الذي هيمن عليها منذ خمس سنوات.
ثمة تساؤلات كثيرة عن توقيت الهجوم وأسبابه. هل هو مرتبط بفائض في القوة لدى فصائل المعارضة بعد تحييد خلافاتها الجانبية لتحقيق انتصارات عسكرية مستدامة؟ أم أن الأمر مرتبط بتكتيك هدفه تحسين شروط التفاوض مع توجه النظام نحو فرض تسوية على حي برزة والقابون وتشرين؟
منذ نهاية عام 2012 بدأ النظام إقامة سياج عسكري - أمني في محيط دمشق، أعقبه سياج آخر بعمق نحو عشرة كيلومترات داخل الأراضي المحيطة بالعاصمة التي تتبع إدارياً ريف دمشق.
وبين هذين السياجين بقي كثير من البلدات والأحياء تحت سيطرة فصائل المعارضة من شمال غرب العاصمة (قرى وادي بردى، قدسيا، الهامة) إلى الغرب (معضمية الشام)، إلى جنوب العاصمة (داريا، ومخيم اليرموك) إلى الشرق (الغوطة الشرقية)، وانتهاء بالأحياء المطلة على البوابة الشمالية والشمالية الشرقية للعاصمة (حي جوبر، القابون، برزة، حي تشرين، التل).
استخدم النظام سياسة الحصار الخانق مع ضربات عسكرية مستمرة لإبقاء فصائل المعارضة والأهالي تحت واقع عسكري- إنساني صعب للغاية، فنجح في تحويل مناطق سيطرة المعارضة إلى جزر جغرافية منعزلة.
ومع انقلاب الموازين العسكرية لمصلحته إثر التدخل الروسي، بدأ النظام العمل على وضع تسويات خانقة في القرى والبلدات بمحيط دمشق، فبدأ بالبلدات الواقعة جنوب العاصمة وغربها ثم شمالها الغربي، بسبب خصوصيتها لـ «حزب الله» وإيران.
في شباط (فبراير) الماضي استأنف النظام حملة عسكرية واسعة على حيي القابون وتشرين لم تعرف منذ ثلاثة أعوام، تزامنت مع مفاوضات لإخراج حي برزة من المعركة، خصوصاً المناطق القريبة من القابون، قاطعاً بذلك اتفاقات الهدن التي تمت بينه وبين هذه الأحياء في عام 2014.
منع النظام العبور من حي برزة الذي يتمتع بموقع استراتيجي وإليه، لإشرافه على أوتوستراد دمشق- حمص، وقربه من مستشفى تشرين العسكري، وحي عشّ الورور، الذي يُعتبر من المناطق الموالية للنظام.
الهدف الرئيسي هو فصل حي القابون عن حيي تشرين وبرزة إلى الغرب، وفصله عن الغوطة في الشرق لقطع أي تواصل بينهما، وبالتالي قطع أهم شرايين الإمداد للغوطة الشرقية.
كانت خطة النظام تقضي بفتح معابر من الغوطة الشرقية إلى مخيم الوافدين لانتقال المدنيين فقط وترك المسلحين في الغوطة تمهيداً للعملية العسكرية الكبرى، لكن الأهالي رفضوا ذلك، فاضطر النظام إلى تعديل خططه والبدء بعزل القابون وحيي تشرين وبرزة، وفرض تسوية مجحفة قبيل الانتقال إلى معركة الغوطة الشرقية.
طالب النظام حي القابون بإغلاق أنفاق التهريب نحو الغوطة، وهو ما رفضته المعارضة، في وقت لم يغلق النظام معبر الوافدين الذي يمد الغوطة باحتياجاتها بسبب الأرباح الكبيرة التي يحصل عليها، حيث يتم بيع السلع بأسعار مضاعفة جداً لأهالي الغوطة.
وإذا أغلق النظام معبر الوافدين التابع له في مخيم الوافدين، فستكون الغوطة الشرقية قاب قوسين أو أدنى من كارثة إنسانية، ذلك أن معبر الوافدين وأنفاق التهريب شمال غرب الغوطة نحو القابون بقيت شريان الإمداد الرئيسي عقب خسارة المعارضة منطقة المرج الخصبة التي تعتبر السلة الغذائية للغوطة الشرقية.
ويشكل خروج برزة وتشرين والقابون من معادلة الصراع ضربة قاتلة للمعارضة في الغوطة الشرقية نتيجة خسارة خط الإمداد الرئيسي لها (المحروقات، الغذاء، الدواء، الذخيرة).
أمام هذه المعطيات، جاء الهجوم العسكري للمعارضة لتخفيف الضغط العسكري بعدما فقدت السيطرة على مناطق في القابون وبرزة في الآونة الأخيرة، وربط حي جوبر بحي القابون، وبالتالي ربط الأحياء المحاصرة عبر حي جوبر بالغوطة الشرقية أهم معاقل المعارضة في ريف دمشق.
لكن هذين الهدفين لا يمكن تحقيقهما إلا موقتاً، وربما لساعات، فمجمل هذه المناطق الممتدة من جوبر إلى القابون إلى برزة، هي عبارة عن جزر منعزلة محوطة بثقل عسكري كبير للنظام، ولا تستطيع المعارضة في واقعها الحالي تحقيق الترابط الجغرافي بينها، فلا تملك العديد البشري والسلاح الكفيل بتحقيق هذه الأهداف.
نعم، شكلت العملية مفاجأة للنظام وأربكته لساعات، وكشفت قدرة المعارضة على صنع المبادرة، لكن قيمة ذلك بالمعايير العسكرية لا تعدو الصفر، فالنظام استطاع السيطرة على معظم المناطق التي أخذتها المعارضة، حيث أعاد السيطرة على محور معمل «سيرونيكس»، جنوب غربي جوبر، في وقت استطاع الوصول إلى شركة الكهرباء شمال غرب جوبر، ليهيمن على مساحة واسعة، قبيل استكمال مسيره للسيطرة على المنطقة الصناعية التي تفصل القابون عن حي جوبر.
باختصار، لن تستطيع المعارضة تحقيق إنجاز نوعي يؤدي إلى تغيير في موازين القوى من شأنه أن يفك الحصار عن الغوطة الشرقية والأحياء الشرقية، إذ إن الحديث عن ربط الغوطة الشرقية بأحياء القابون وبرزة وحي تشرين أمر يبدو مستحيلاً، فأهداف المعارضة تتجاوز قدراتها العسكرية.
لكن إذا استطاعت فصائل المعارضة استيعاب هجوم النظام في معاقلها الأساسية، خصوصاً في حي جوبر والقابون، فإنها ستعزز موقعها التفاوضي حيال التسوية التي يسعى النظام إلى تحقيقها في الأحياء الثلاثة، وهذا هدف يبدو تحقيقه ممكناً.