مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٨ مارس ٢٠١٧
صراع أنقرة وطهران ومسؤولية الأكراد

في وقت سابق هددتْ أنقرة بأنها ستدخل مدينة سنجار هذا الربيع إذا لم تتمكن القوات الكردية الصديقة لها من إخراج «حزب العمال الكردستاني» من المدينة، التي تمدد فيها منذ أنْ ساعد الأقلية الإيزيدية في العراق حين اجتاح «داعش» المنطقة في 2014، ليساعد بعد ذلك الحزبُ في تشكيل «وحدات حماية سنجار» العراقية. ولا تبدو مريحةً لأنقرة نتيجةُ المواجهات التي دارت بداية هذا الشهر بين قوات «وحدات حماية سنجار» وقوات البيشمركة السورية «روج آفا» (المقربة من الديموقراطي الكردستاني برئاسة مسعود برزاني). وعدم ارتياح أنقرة ربما ينمّ عن إدراكٍ متأخرٍ لتراجعِ مكانة برزاني وتراجع قدرته على ضبط كثير من خيوط اللعبة الكردية المتشابكة. هذا يحسم من أوراق حليفته أنقرة، وهي ترى «العمال الكردستاني» يتجاوز منذ زمن عزلته في جبال قنديل، ويوسّع حضوره في إقليم كردستان، ويركّز نفوذه في نقاط استراتيجية تربط سورية بالعراق، حيث ستكون خسارة حلفاء أنقرة لسنجار فشلاً لمساعي الربط بين «روج آفا» وكردستان العراق.

وتعاظم أدوار «العمال الكردستاني» يكمن في أنّ تحالفه مع «الحشد الشعبي»، ومن ورائه طهران، مفيد للأخيرة الطامحة في معبرٍ استراتيجي بين العراق وسورية يُمكّنها من تأمين الإمدادات لحلفائها وجنودها من دون المرور بأربيل، التي أبدت الرفض مراراً في أن تكون ممراً لطهران نحو سورية. لذا، قد تكون تلعفر ساحة يؤدي فيها «العمال الكردستاني» دوراً طموحاً في الصراع على الجغرافيا بين أنقرة وطهران. فالأولى، لم تُسقط هدفها الكبير من تعزيز تحالفها مع إقليم كردستان ومن «درع الفرات» ومن الصراع على الانخراط في معركة الرقة، والموصل سابقاً، والمتمثل في تفتيت «الجغرافيا الكردية المعادية» وتقطيعها ومنع تواصلها. وستكون خسارة أنقرة مضاعفة، كما قلنا، إن لم تنجح في تأمين «تواصل الجغرافيا الكردية الصديقة» التي تصل «روج آفا» بكردستان العراق.

أما طهران فعينها على «الجغرافيا الضامنة وصولَ الدعم والإمدادات» للشركاء والوكلاء، ولن تُوقف ترغيبها للسليمانية بإنهاء اعتماد الأخيرة على الأنبوب النفطي التركي، عبر التوجّه لمشروع إيراني يستهدف نقل نفط كركوك من خلال الأراضي الإيرانية. يكرهُ الأكرادُ، وهذا حقهم، أنْ يُوصفوا بـ «بيادق» في إطار اللعبة الإقليمية والدولية، لكنّ ثمة مسؤولية قوية على القيادات والنخب الكردية، للحيلولة دون ضياع تضحياتهم ونضالهم لنيل حقوقهم، ولعل في صُلب مسؤوليتهم منعَ أنْ تُعيد المعطيات المذكورة آنفاً، إن صحّتْ ووقعتْ، «حرب الإخوة الأعداء» الأكراد، التي نشبت في سياق الصراع على رسوم النفط وعائداته في التسعينات، وهي قد تنشب اليوم لما هو أكبر من ذلك، في ظل سيولة الخرائط... وعبور الصراع الكردي - الكردي أكثر من بلد واحد.

اقرأ المزيد
٢٨ مارس ٢٠١٧
«قوة سورية في ضعفها»

كان شعار «قوة لبنان في ضعفه»، الذي طرحه وردده استقلاليون لبنانيون، يهدف إلى تحييد لبنان عن المحاور والصراعات الإقليمية، وتراكبها مع الانقسامات العمودية اللبنانية الداخلية. لكن معاندة التاريخ تحقيقَ هذا الشعار الاستقلالي اللبناني واقعياً، أفضت إلى خسارة اللبنانيين والعرب دور لبنان التنويري المفترض، في إقامة نموذج علماني ديموقراطي، يكون مُلهماً لمحيط عربي استبدادي متأخر وثيوقراطي، وبالتالي زُج لبنان في محرقة تلك الصراعات العبثية، التي دمّرت اقتصاده واجتماعه وثقافته، وأطاحت بفكرة الدور – النموذج لمصلحة الدور – المحور. يحتاج السوريون اليوم إلى تمثل مضامين شعار كهذا: «قوة سورية في ضعفها»، بوصفه شعاراً استقلالياً، يعني في أحد معانيه: تغليب فكرة سورية أولاً على فكرة سورية – المحور، بصرف النظر عن هويّة المحور المذكور، لأن الانضمام إلى محورٍ ما في «بلد – ساحة» ومنقسم عمودياً كسورية، يزيد الانقسام عمقاً واتساعاً، ويمنع تحولها إلى وطن وإلى مجتمع وإلى دولة، ويبقيها في حالتَي استنزاف وتعفّن دائمين.

ولطالما ولّدت سياسات «الدور الإقليمي» لسورية، المحمولة على ظهر المؤسستين العسكرية والأمنية، أوهام القوة في واقع كان في حاجة إلى أوهام دائمة، وغذّت وعياً جمعياً زائفاً عند «المجتمع الجماهيري»، الذي أنتجته «الدولة التسلطية» وفقاً لحاجاتها الأمنية الخالصة، وكذلك حجبت أوهام القوة تلك إمكانات تشكل وعي مناسب لدى السوريين بحاجاتهم الفعلية، المتمثلة في التنمية الاقتصادية والتعليم والصحة والاندماج الوطني والعدالة والديموقراطية وبناء الدولة الوطنية. وصار واضحاً عدم قدرة السوريين بعد هذا الدمار الرهيب، الذي أصاب عمرانهم واقتصادهم واجتماعهم وثقافتهم الوطنية، تحمّل فكرة أدوار إقليمية مرة أخرى، في مستقبلهم القريب أو البعيد. يجب أن يقتنع السوريون بأن الوطنية السورية أبقى لهم وأجدى من المشاريع ما فوق الوطنية، التي لم تجلب لهم سوى الأوهام والحروب الأهلية وتبديد الموارد والموت الرخيص على مذابح أوثان الاستبداد وأوثان العقائد والأيديولوجيات المختلفة.

ومن مضامين شعار «قوة سورية في ضعفها» تأسيس مفهومي الإنسان والمواطن في ثقافة السوريين وعلاقاتهم الاجتماعية المستقبلية، بالتعارض مع مفهومي الكائنين الأيديولوجي والميليشيوي، اللذين ينتجهما المحور الديني أو القومي أو المذهبي - المقاوم، تلك الكائنات المخرّبة الحياة والاجتماع البشري، كونها كائنات انحلّت في هويّة نسلية أو معتقدية.

ومن مضامين ذاك الشعار أيضاً نبذ العوامل التي أفضت إلى عسكرة الحياة السياسية وغير السياسية، السورية، ونجمت عن تضخيم دور الجيش وتحوله إلى مؤسسة استلاب وقهر وذبح للسوريين. إن تغليب سورية أولاً على سورية المنضوية في محور مذهبي أو أيديولوجي، يعني بناء جيش وطني غير عقائدي محترف قليل العدد، مهمته حماية الحدود الخارجية فقط، بحيث يتم وضع ضوابط وطنية صارمة، تمنع تدخله في السياسة وحياة السوريين العامة، وهذا كله يقتضي إعادة بناء رؤية سورية خالصة للصراع والتسوية مع إسرائيل، تتسق مع مهام الخروج من حالة المأزق التاريخي الراهن. ومن معاني شعار «قوة سورية في ضعفها» إقامة الحد على ثنائية «البطل – الشهيد». فلكي تنهض سورية المدمرة، لم تعد في حاجة إلى أبطال «تاريخيين» وغير تاريخيين، وإلى شهداء في سبيل قضايا معتقدية كبرى أو صغرى، ولا تحتاج إلى «مجاهدين» أو «مناضلين». فالجهاد الحقيقي في سورية النازفة هو جهاد إحلال قوى المعرفة والتنمية والسلم المجتمعي، وهو جهاد طرد عناصر الحرب الثاوية في بنى المجتمع وثقافته الاستبدادية التسلطية.

ومن معانيه أيضاً إعادة تشكيل مفهوم القوة بدلاً من أوهامها، فقوة السلطة والتسلط هي إضعاف لقوة الدولة، وقوة الدولة لا تتأتى من تضخم الجيش والأمن وهمجيتهما، بل من قوة القانون العام وشموله وسموّه واحترام الحاكم والمحكوم له، وذاك ما كان غائباً في سورية البعثية. وقوة الإيمان لا تتأتى من كثرة ميليشيات «الله» وأحزابه وكثرة الناطقين باسمه، بل من نمو ضمائر البشر الفردية ونمو أخلاقهم العامة وروحهم الإنسانية على حساب انتماءاتهم الهويّاتية، ونمو الدين كجوهر روحي وتراجعه كوثنيات وعصبيات.

وكذلك الحد من قوة الجماعات ما قبل الوطنية: الطائفية والمذهبية والإثنية وسلطة الرأي العام، لمصلحة بناء قوى المجتمع والشعب والدولة والفرد المتحرر من الجمهور-الكتلة، وأيضاً الحد من قوة الإرادات الفئوية والأوليغارشية الخاصة، لمصلحة تشكيل حوامل الفكرة العمومية التي يعبر عنها العقد الاجتماعي بوصفه إرادة عمومية فعلية.

بكلام مختصر: شعار «قوة سورية في ضعفها»، يعني الانتقال من مسار الصراع و «التكاون» والتفاني الحالي في سورية، الذي ينشر أوهام القوة الإقصائية المتمحورة على الخارج، إلى مسار التكوّن والتشكّل في أطر إنسانية ووطنية عامة هي مصدر قوة السوريين الحقيقية غير الزائفة.

اقرأ المزيد
٢٧ مارس ٢٠١٧
الحيرة الروسية

رغم ما يبدو من حضور روسي قوي في القضية السورية، يتجلى بظهور روسيا، باعتبارها المتصرف الرئيسي بواقع سوريا ومستقبلها، وتأثيرها متعدد الأبعاد في المستوى المحلي على نظام الأسد والمعارضة السياسية والعسكرية، وتزعمها للحلف الذي يجمعها مع إيران ونظام الأسد وأدواتهما وبروزها قوة رئيسية في عداد الدول المؤثرة والفاعلة في القضية السورية، فإن روسيا اليوم في حيرة، قد لا توازيها حيرة منذ اختارت الوقوف إلى جانب نظام الأسد في عام 2011، مروراً بتدخلها العسكري الواسع في سوريا أواخر عام 2015 منعاً لسقوط نظام الأسد أمام معارضيه.

الحيرة، ليست ناتج ضعف فقط، بل قد تكون نتيجة قوة. وبالأساس تعود الحيرة إلى تعدد الخيارات والتباساتها، وهذا ما يجعل روسيا في حيرة، لا تبدو موسكو قادرة على تجاوزها في الوقت الحالي، وقد يمتد زمن الحيرة الروسية لوقت أطول، طالما أن موسكو، لم تحسم أمورها، وتذهب إلى قرارات واضحة، توظف في خدمتها المعطيات السياسية والعسكرية المتاحة لها حالياً.

وقبل الذهاب إلى خيارات موسكو، التي يمكن أن تحسم حيرتها، لا بد من رؤية حجم الحضور الروسي في سوريا وحولها، حيث تتجمع مجموعة من المعطيات، لعل الأبرز فيها، أن موسكو هي الأكثر حضوراً من الناحيتين السياسية والعسكرية في سوريا، إذن هي من الناحية الأولى حليف لنظام الأسد وإيران، وما يتبع الاثنين من أدوات، وخصوصاً الميليشيات الشيعية وبينها حزب الله اللبناني، وقد بنت روسيا من خلال ضباطها المتخذين من قاعدة حميميم مركزاً لهم في سوريا، علاقات مع بنى وشخصيات محلية مؤثرة في العامين الماضيين، ثم أقامت وصلات مع قوى معارضة للنظام أو محسوبة في هذا الإطار منها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، قبل أن تمد أيديها بمشاركة تركيا لإقامة وصلات مع قوى أساسية في المعارضة المسلحة والسياسية، وبهذا أصبحت أكبر صاحب علاقات مع المتصارعين في سوريا.

وفي المستوى العسكري، تبدو موسكو بمكانتها وقوتها صاحبة أكبر تأثير في الواقع السوري، وبصورة مباشرة، فإن لموسكو قاعدة جوية في حميميم، وحضوراً في كل القواعد الجوية التابعة لنظام الأسد، ولها قاعدة بحرية في طرطوس، تدعمها قطع من الأسطول الروسي، تتوزع قبالة الساحل السوري، ويضاف إلى ذلك كله مجموعة قواعد عسكرية روسية صغيرة، تتوزع من شمال إلى جنوب المنطقة الساحلية، فيها خبراء وجنود من النخبة الروسية، وقد أثبت الوجود العسكري الروسي قوة تدمير هائلة في حربه الأخيرة للاستيلاء على حلب وإعادتها إلى سيطرة نظام الأسد أواخر العام الماضي.

وبموازاة الحضور الروسي في الوضع السوري، فإن لموسكو تأثيراً كبيراً في المحيط الإقليمي. وعدا عن العلاقات الوثيقة التي تربطها بإسرائيل، التي تجعل منهما حليفين ينسقان بصورة مباشرة ويومية مواقفهما في سوريا وحولها، فإن لموسكو روابط قوية مع الأردن في الجنوب، والعراق في الشرق، ولبنان في الغرب، تكفل في كل الأحوال، أخذ الموقف الروسي بعين الاعتبار، بل وضعه في حسابات السياسة والأمن لهذه الدول، والإبقاء على بوابات فاعلة وعاجلة لتشاور عواصم تلك البلدان مع موسكو بصدد ما يجري في سوريا وحولها، وقد طورت موسكو علاقاتها مع تركيا في الأشهر الأخيرة بعد فترة شد عنيف في علاقات الطرفين بسبب إسقاط الأتراك قاذفة روسية بعيد التدخل الروسي في سوريا عام 2015، وطور الطرفان تعاونهما في الموضوع السوري رغم اختلاف مواقفهما، الأمر الذي يعد في النهاية دعماً لموسكو المصرة على البقاء طرفاً داخلياً في الصراع السوري، وبالإجمال فإن الروس أغلقوا الدائرة المحيطة بسوريا لصالحهم، وإن كان في الإغلاق بعض الثغرات في مكان أو أكثر.

النقطة الثالثة والأخيرة بموقع موسكو في سوريا وحولها، يتصل بعلاقاتها الدولية ولا سيما مع الدول الكبرى والمؤثرة بالسياسة الدولية. فموسكو على تقارب مؤكد مع الصين في الموضوع السوري، وعبّر التقارب عن نفسه في عمليات الـ«فيتو» المزدوجة في مجلس الأمن الدولي، وآخرها كان قبل أسابيع. والآن بدا الموقف الأميركي في الموضوع السوري مختلفاً عن موقف موسكو، فإن واشنطن سكتت عن التدخل العسكري في سوريا، وما أدى إليه من نتائج سياسية وميدانية، وأعطت تفويضاً للروس في سوريا، استتبع صمتاً أوروبياً، طبقاً لنمط التبعية الأوروبية، التي لا تفعل شيئاً دون إشارات أو تصريحات أميركية بصدد ما ينبغي القيام به، أو اتخاذ قرار بصدده، ولا شك أن الصمت الأوروبي الراهن في سوريا وحولها مرده، أن إدارة الرئيس ترمب لم تعلن موقفها الواضح في سوريا، رغم بعض مؤشرات توحي باحتمالات تغيير كبير في الموقف، كما رسمته سياسات عهد أوباما الطويل.

موسكو حققت الأهم في أهدافها السورية/ الإقليمية من حضورها في سوريا، وبينها تثبيت نظام الأسد (بدرجة ما) واتفاقات تضمن نفوذها، وقواعد عسكرية، وتغلغل في بنية الداخل السوري، ولا سيما على الصعيدين السياسي والأمني، لكنها في الوقت ذاته متخوفة من وضع حلفائها سواء في منافستهم، كما يبدو عليه حال حليفها الإيراني الراغب في هيمنة مطلقة على سوريا، أو في الخوف من المستقبل، كما هو حال نظام الأسد إذا غير الروس سياساتهم الداعمة بكل قوة لوجوده.

روسيا في مرتبة الحيرة بين البقاء، حيث هي طرف إلى جانب إيران ونظام الأسد في أتون الصراع السوري، أو الذهاب إلى خط جديد ينتج تسوية تحفظ مصالحها، التي تحققت مع مراعاة تلك المصالح من أطراف خارج حلفها، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق دون أخذ مصالح الآخرين بعين الاعتبار، ولأن الأمر على هذا النحو، فإن الحيرة الروسية لا يمكن أن تستمر، خصوصاً إذا استكملت واشنطن موقفاً جديداً وجدياً في الموضوع السوري.

اقرأ المزيد
٢٧ مارس ٢٠١٧
ليست الخسارة قدرا

حدث في الأسابيع القليلة الماضية تطوران خطيران، لا بد من التوقف عندهما، وقع أحدهما شمال سورية والآخر جنوبها.

سلمت "قوات سوريا الديمقراطية"، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي .. الكردي (البايادا) قرىً حول منبج إلى الجيش الأسدي، الديمقراطي جدا مثلها، بغرض منع سقوطها في يد قوات "درع الفرات" التركية/ السورية، وتوريط أنقرة في مواجهة مع واشنطن وموسكو، عبر جعل مشروع "البايادا" شأنا دوليا منفصلا عن موقف تركيا من حزب العمال الكردستاني (البيكاكا) الذي يحتاج إلى قوة دفع دولية تعمل لإنجاحه، بوصل كانتونات غرب الفرات بشرقه جغرافيا وبشريا، واحتواء الكثافة السكانية العربية فيها، بقوة آليات تمثيل برانية، وتمثل دمجية وفاعلة.

يعتبر هذا التطور في علاقة "البايادا" مع النظام، الذي يبدو وكأنه تم بتفاهم أميركي/ روسي، تحديا لأنقرة يحتمل كثيرا أن يعرقل سعيها إلى تقرير أوضاع الكرد قرب حدودها الجنوبية، ويرغمها على مراجعة، وربما تعديل، حساباتها، مع ما سيفضي موقفها الجديد إليه من تغليب العمل السياسي طويل الأجل على العمل العسكري المباشر والحاسم، وهذا ما سيضعف، في الحالتين، دورها في مواجهة حل دي ميستورا السوري، الذي يقرّ، في أحد بنوده الاثني عشر، بضرورة إقامة مناطق "حكم ذاتي" كردي، ويرى في التوافق عليها جزءا من حل المعضلة السورية. لذلك، يضع المعارضة أمام أحد خيارين: تبني السياسات التركية حيال المسألة الكردية، أو فتح حوار مع الكرد السوريين، هدفه التوافق على ترتيب مستقبلي لعلاقاتهم مع الدولة الديمقراطية بمكوناتها المختلفة، والمحافطة على وحدة الدولة السورية أرضا وشعبا، ومنح مكوّناتها حقوقها القومية في إطار منفتح على خيارات اتحادية، أو تأخذ صورة حكم ذاتي أو لامركزي موسع. وستعني هذه الخطوة أن سياسات المعارضة تجاه المسألة الكردية لن تلتزم بالموقف التركي، وفي هذا ما فيه من إشكالات وتعقيدات، تتطلب حلولا واضحة، تبقي على علاقات استراتيجية مع الدولة الشقيقة، خصوصا أن موافقة أميركا وروسيا على تسليم مناطق حول مدينة منبج إلى الجيش الأسدي تعني أن القضية الكردية لن تترك بعد الآن للحل الذي تريده تركيا، فهل نتغاضى، نحن السوريون، عن طابعها الوطني السوري، ونحجم عن معالجتها وعزلها عن الصراعات الدولية التي تجنح نحو التلاعب بها، أم نبادر إلى التواصل مع مختلف الأطراف الكردية، مع أفضلية خاصة لتلك التي تلتزم منها بالمحافظة على وحدة الدولة والمجتمع السوريين، من دون استبعاد عرب الجزيرة السورية والمناطق الأخرى، على أن يسهم بدوره في تحديد طابع الدولة السورية.

ثمّة ظاهرة أخرى في الجنوب السوري، أنتجتها هدن النظام خلال الأشهر الماضية، هي انخراط مقاتلين سابقين ضد النظام في تنظيماتٍ تقاتل مع الروس والإيرانيين ومرتزقتهم، منها "درع القلمون" الذي أسهم في إسقاط وادي بردى، ويحارب اليوم ضد القابون وبرزه وجوبر وعربين وحرستا والغوطة الشرقية، وسيقاتل غدا ضد القلمون، لإخراج الجيش الحر من جبال المنطقة، بعد رفضه عقد هدنة مع حزب الله، وتبنيه سياسة تفاوضية ترفض اختراق النظام المنطقة.

يضم "درع القلمون" عائدين إلى "حضن الوطن"، أو منضمين سابقين إلى الثورة ومتخلفين عن الالتحاق بالجيش الأسدي، أو شبيحة منخرطين في "اللجان الشعبية"، بحجة حماية مناطقهم وسكانها من "الشبيحة". واليوم، ينتمي هؤلاء إلى العصابات الأسدية، ويحاربون الثوار بوصفهم شبيحة، يخدمون من قتل أهليهم وحصارهم وجوعهم وقصفهم بكل أنواع الأسلحة وهجرهم، من روس وأسديين وإيرانيين.

بدأت في الشمال مرحلة الخيارات شديدة القسوة التي يعني تجاهلها تهديد وحدة دولة ومجتمع بلادنا واستقلال وسيادة وطننا، وانضواءنا في علاقاتٍ وصراعاتٍ، لا تلبي مصالحنا أو تتفق معها. أما في الجنوب، فيتحول مقاتلون سابقون في سبيل الحرية إلى مرتزقة، ينصرون أعداءها ويقتلون شعبهم المطالب بها.

هل سيقف الوطنيون السوريون، من عرب وكرد وأقوام أخرى، مكتوفي الأيدي حيال ما يجري في شمال وطنهم، الذي يتحول إلى بؤرة صراع جديدة، يتكثف فيها الحضور العسكري الروسي/ الأميركي المباشر، بمخاطره وتحدياته التي لا بد من مواجهتها، وإلى متى يظل "الائتلاف" منتشيا بغيابه عن أي شأن وطني سوري، في الشمال كما في الجنوب أيضا؟

اقرأ المزيد
٢٧ مارس ٢٠١٧
هذا العالم الأعور

خمسة قتلى، وأكثر من عشرين جريحاً في هجمات متزامنة تقريبا، في لندن، وصفها رئيس وحدة مكافحة الإرهاب في شرطة لندن بأنها إرهابية، مضيفا أنها تتبع لما سماه "الإرهاب المتعلق بالإسلاميين". بدأت معها كل وسائل الإعلام في العالم المسموعة والمرئية والمقروءة، ومنها وسائل إعلام عربية، بنشر الخبر كالنار في الهشيم، ومتابعة تفاصيل الأحداث، أولاً بأول، وتغطيتها "مباشر" مدة تجاوزت الاثنتي عشرة ساعة في عدة قنوات تلفزيونية.

حدث كبير يستحق الاهتمام. فالمكان هو لندن، إحدى أهم العواصم الأوروبية، والقتلى بريطانيون وفرنسيون، والقاتل أو المهاجم، حسب التصريحات الفورية قبيل أي نوع من التحقيق، "إرهابي" مسلم.

أما ما حدث في الجهة الأخرى من العالم، في بلدة المنصورة في ريف الرقة، في اليوم نفسه، فهو حدث هامشي، يصنّف تحت بند "النيران الصديقة" أو "الخطأ غير المقصود". فالمكان هنا مجرد بلدة سورية مهملة، لا قيمة لها، والقتلى مجرد سوريين مدنيين نازحين، لا أهمية لحياتهم أو موتهم، مجرد أرقام جديدة تضاف إلى تقارير العالم ومنظمات حقوق الإنسان، ولم يتجاوز عددهم أكثر من ثلاثمائة شخص، قضوا خلال 24 ساعة. والأهم أن القاتل هو قوات التحالف الدولية الصديقة للشعب السوري، والحامية له من إرهاب "داعش"، والتي تعمل لأهداف إنسانية سامية، تتمثل في مكافحة الإرهاب الخطير الذي قد يقتل في أية لحظة خمسة أوروبيين في لندن، أو غيرها من مدن العالم الآمنة.

حتما، في عالم قذر يتشدّق بالإنسانية، لا مجال للمقارنة بين الحدثين، فالأول قادر على اجتذاب الأضواء واستدرار التعاطف من كل حكومات العالم العربية والأجنبية، أما الثاني فلا صوت له، ولا أهمية لضحاياه، ولا يستحق حتى أن يُذكر خبرا عاجلا على المحطات الفضائية، أو وسائل الإعلام عالية المهنية.

هو العالم نفسه والوسائل الإعلامية نفسها التي لم تعتبر وثيقة مهمة، كتقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) الشهر الماضي عن عمليات شنق جماعية لأكثر من 13 ألف معتقل في سجن صيدنايا السوري، حدثا يستحق النشر، أو حتى الذكر، في تغطياتها انتهاكات حقوق الإنسان، فضحاياه أيضاً لم يكونوا أكثر من "سوريين".

تتواصل الأحداث وتبعاتها حول العالم، لتكشف يوماً بعد يوم، ازدواجيةً مرعبة في تعاطي الحكومات والمنظمات الإنسانية معها، فضلاً عن ازدواجية أبشع وأقسى، تغلف تعاطي الإعلام العالمي والعربي مع تلك الأحداث. فربما يتجرأ بعضهم على التبرير للحكومات، (وهو تبرير غير صحيح بالمطلق) بأنها تعمل لمصالح شعوبها، لكن التصرّف المزدوج لوكالات الإعلام والوسائل الإعلامية المختلفة، في السنوات الماضية، يُسقط تماما أي ادعاء كاذب بامتلاك أي نوعٍ من الحيادية والشفافية والمهنية، وهو ما لا تمتلكه، ولم تمتلكه أصلاً، منابر إعلامية عربية عديدة، لكن الغربية منها كانت تتشدّق به طول الوقت، وها هي اليوم تساهم مع حكوماتها بصناعة الفزّاعة الأكبر، وإلباسها ثوب "التطرّف الإسلامي"، كما وتلعب الدور الأهم في صناعة "الإسلاموفوبيا" ونشرها، وتسويق فكرة ضرورة محاربة "الإرهاب" الذي لم يعد العالم يعرف شكلاً آخر له غير "الإسلامي"، وكأن ما يحدث في سورية اليوم، أو في مناطق كثيرة أخرى، مجرد قتل رحيم لكائنات لا حاجة له بها.

أي زيف عرّته المقتلة السورية ومآلاتها. وأي وجهٍ كشفته تلك المجزرة العلنية المستمرة منذ ست سنوات، تحت أقنعة العالم البرّاقة. وأي عدلٍ ما نزال متمسّكين بأمل إرسائه.

هذا العالم أعور، ولا أمل بشفائه، لكن هذه الشعوب المقهورة اليوم ستقف يوماً أمامه، ستقف بمواجهه تماماً، تعلن عن وجودها وتجبره على رؤيتها والاعتذار.

اقرأ المزيد
٢٦ مارس ٢٠١٧
الخطر الإيراني على الأمن الإقليمي

أثناء رحلة عمل خارجية مؤخرا سألني أحدهم لماذا ترون إيران خطرا عليكم في الخليج العربي؟ وكنت قد ذكرت له أنني كتبت، وكذلك فعل كثيرون غيري، حول مظاهر الجنون والعبثية الطائشة في ممارسات النظام الإيراني، وأن تجاهل هذا النظام للقانون الدولي والأعراف والمواثيق الدولية باتت مسألة لا خلاف عليها، ولكن يبدو أن التناول الأشمل للخطر الإيراني يحتاج إلى مزيد من التركيز، لا سيما أن فهم حدود الخطر الإيراني يتطلب فهما متكاملا لحدود هذا الخطر ومظاهره وأبعاده.

في هذا المقال أحاول تتبع هذه المظاهر وفي مقدمتها السعي الحثيث إلى فرض طوق حصار استراتيجي حول دول مجلس التعاون بشكل مباشر وغير مباشر عبر توسيع النفوذ الإيراني في دول مثل سوريا والعراق ولبنان شمالا واليمن جنوبا، وذلك من خلال وكلاء إيران الممثلين في حزب الله اللبناني والحشد الشعبي الشيعي وجماعة الحوثي، فضلا عن تمويل وتحريض جماعات مناوئة للدولة في البحرين وتأليب الشيعة في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، إضافة إلى مد النفوذ الإيراني في منطقة القرن الأفريقي بل وفي دول أخرى ذات تأثير في الأمن الوطني الخليجي مثل باكستان وأفغانستان وبعض الدول الأفريقية.

وثاني هذه المظاهر يتمثل في استخدام المردود الاقتصادي الذي ترتب على تنفيذ الاتفاق النووي الموقّع بين إيران والقوى الكبرى وتوجيه معظم الأموال والأرصدة الإيرانية المجمدة في دول العالم بعد الإفراج عن الكثير منها نحو تمويل مخططات التوسع المذهبي الإيراني.

وثالثها إطلاق يد الحرس الثوري بما يمتلكه من موروث طائفي عدائي لدول الجوار الخليجية والعربية في إدارة العلاقات الإيرانية إقليميا، حتى أن الجنرال قاسم سليماني قائد الحرس الثوري بات يعمل بصفة رسمية مستشارا عسكريا للحكومة العراقية وبات ظهوره أكثر من مرة ميدانيا في كل من العراق وسوريا مسألة مألوفة.

ورابعها تنفيذ عمليات تطهير عرقي وخطط إعادة هندسة ديموغرافية واضحة المعالم في المدن والمحافظات العراقية والسورية التي يتم تحريرها من قبضة تنظيم داعش وتسكين مهجرين شيعة من باكستان وأفغانستان وإيران ومناطق عراقية أخرى بدلا من سكانها الأصليين السنة من أجل تهيئة المجال أمام خيارات التفكيك والانفصال في كل من العراق وسوريا بهدف تغيير موازين القوى الإقليمية وتعديل هياكلها لمصلحة إيران.

وخامسها سعي إيران بشتى الطرق إلى الضغط استراتيجيا على السعودية باعتبارها ركيزة الأمن الوطني لدول مجلس التعاون، وذلك عبر مخططات ومؤامرات تتخذ أنماطا مختلفة تبدأ من التوظيف السياسي للشعائر الدينية وتنفيذ مخططات فتنة واضطراب خلال موسم الحج الذي يجمع نحو 3 ملايين مسلم في الأراضي المقدسة بمكة والمدينة من أجل إحراج السعودية والسعي بكل الطرق لإفشال جهودها في تنظيم الحج من أجل تطبيق مخطط تدويل الأماكن الإسلامية المقدسة، وتأليب الشعب السعودي ضد بعضه البعض من خلال تدبير عمليات التفجير الطائفية والحوادث التي تسببت في مقتل المئات خلال مواسم الحج الماضية بهدف إضعاف قبضة المملكة أمنيا وتنظيميا وإحراجها إقليميا ودوليا.

وسادس مظاهر الخطر الإيراني يتمثل في مواصلة احتلال الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى) والتعنت الشديد في رفض أيّ مقترحات تسوية سلمية تعرضها دولة الإمارات في مختلف المناسبات والمحافل، بما يعكس تصميم الجانب الإيراني على فرض إرادة الاحتلال على هذه الجزر التي تثبت الوثائق التاريخية كافة ملكيتها لدولة الإمارات العربية المتحدة في ما تواصل إيران ممارساتها الاحتلالية عليها، بما يتنافي مع مبادئ حسن الجوار والرغبة في التعايش السلمي بين الدول.

والأمر لم يقتصر على ذلك بل لجأ نظام طهران مؤخرا إلى الهروب من استحقاق الجزر الثلاث بترديد مزاعم لا أساس قانونيا أو تاريخيا لها، تتمثل في أحقية إيران المزعومة في جزيرتي “زاركوه”و”أريانا”في موقف يعكس تجذّر التهور والطيش في سلوكيات إيران.

سابع هذه المظاهر يكمن في امتلاك إيران آلة إعلامية جبارة مكونة من عشرات الفضائيات والصحف والمواقع والجيوش الإلكترونية التي تعمل على التحريض الطائفي وبث نار الفتنة المذهبية وإشعال الحرائق وتقويض دعائم الأمن والاستقرار في دول المنطقة.

وثامنا يأتي من حرص نظام إيران على إجراء المناورات والتدريبات واستعراض القوة العسكرية في مياه الخليج العربي بشكل دوري ينطوي على رسائل تهديد واضحة ومقصودة إلى دول الجوار بما يتنافي مع أيّ ادّعاءات حول الرغبة في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، فضلا عن الحرص على تطوير منظومات صاروخية تمثل خطرا داهما على دول مجلس التعاون كون معظم عناصر هذه المنظومات تنتمي إلى الطرازات قصيرة المدى التي تستهدف مدن دول مجلس التعاون بشكل معلن لكل متخصص أو مراقب موضوعي.

والأمر لا يقتصر على ذلك، بل هناك أيضا تهديد عقائدي طائفي يحمل شعارات تحريضية تستهدف توظيف المواطنين الشيعة في دول مجلس التعاون واستقطابهم لمصلحة الدعاية الإيرانية واستمالتهم عاطفيا لمصلحة المشروع الأيديولوجي الإيراني وتقويض ولاءات هؤلاء المواطنين لدولهم عبر آليات ومخططات مذهبية مختلفة وصولا إلى غرس بذور الفرقة والانشقاق في دول مجلس التعاون بما يسهل عملية الضغط استراتيجيا على هذه الدول.

وهناك أيضا التهديد الأمني بالاعتماد على كيانات شبه عسكرية مكونة من ميليشيات طائفية وعسكرة الشيعة في دول مثل العراق وتسليحهم وتمويل جماعات تعمل بالوكالة مثل جماعة الحوثي في اليمن وحزب الله اللبناني وغيرهما من التنظيمات التي تأتمر بأوامر المرشد الأعلى وتنفذ تعليماته التي ينقلها قادة الحرس الثوري.

وكذلك استغلال الجماعات الإرهابية السنية في تنفيذ المخطط التوسعي الإيراني عبر تمويل هذه الجماعات وتوفير المأوى لقادتها كما حدث مع تنظيم القاعدة من أجل اتخاذ هذه التنظيمات ذريعة للتدخل في دول الجوار السنية بدعوى حماية الشيعة والدفاع عنهم.

وهناك كذلك التهديد الاقتصادي الاستراتيجي فلا تكف إيران عن التهديد بإغلاق مضيق هرمز وتهديد الملاحة البحرية في هذا المضيق الحيوي الذي تمر عبره معظم صادرات النفط الخليجية إلى الخارج.

اقرأ المزيد
٢٦ مارس ٢٠١٧
هدف "جنيف 5"

بدأت يوم الجمعة 24 مارس/ آذار 2017 أعمال مؤتمر جنيف 5 الذي "اخترع" منذ ست سنوات، للبحث عن حل سياسي للحرب السورية التي أعلنها بشار الأسد، الرئيس المفترض للدولة السورية وللسوريين، ردا على الانتفاضة الشعبية التي تحولت إلى ثورة عارمة في مواجهة ما كانت تسميه الدبلوماسية الدولية الاستخدام المفرط للقوة. ولم يكن هذا الاصطلاح يعني سوى إخفاء حقيقة ما يجري بالفعل، وهو عملية سحق كامل للثورة ونشطائها، باستخدام جميع وسائل العنف الممكنة، من الرصاص الحي لردع السوريين ومنعهم من التظاهر إلى قتل نشطاء الثورة وشبابها تحت التعذيب في أقبية الموت، مرورا باستخدام أسلحة الدمار الشامل، الكيميائية وغير الكيميائية.

وتؤكد تصريحات وفد الأسد إلى المفاوضات التي تفيد بأنه، حتى لو تم الاتفاق على جدول أعمال، وهذا لم يتحقق بالفعل، فإن التفاصيل الكثيرة التي تطرحها أي سلةٍ من سلال مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، الأربع تحتاج كل منها لجدول أعمال قائم بذاته، قبل أن تبدأ، ربما بعد سنوات المفاوضات الفعلية، حول مضمون هذه السلال العجيبة، لكن مكتوب المفاوضات يتجلى بشكل أكبر من عنوان تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي تكاد حكومته تنتزع الاعتراف الدولي برعايتها، بمعزل عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لمفاوضات الحل السياسي في سورية. وهي تصريحاتٌ تقوّض هذه الجولة من المفاوضات قبل أن تبدأ.

ينتقد لافروف المعارضة على هجماتها الأخيرة، لأنها تهدد وقف النار الهش، في وقتٍ لا تزال فيه قواته تقف وراء النظام السوري، وتدعمه بكل الوسائل العسكرية في قتاله لانتزاع ما تبقى من أراضٍ تسيطر عليها المعارضة، كما فعل في حلب ووادي بردى، والآن في الغوطة الشرقية وغيرها. وهذا ما عبر عنه أيضا قائد الوحدات العسكرية التي تمركزت بالقرب من عفرين، أندريه فولكوف الذي لم يتردّد في التأكيد على أهمية الوجود العسكري المباشر في المنطقة "كي يكون العلم الروسي مرئياً. لأن الحدود التركية قريبة، وكي يفهم الجميع أننا ندعم الحكومة السورية وقواتها المسلحة، وأن وجودنا في هذه المنطقة هو لضمان السلام والأمن في المنطقة الحدودية".

وأكثر دلالة من ذلك هو التمهيد الذي يقوم به لافروف، بقصف مكثف للمعارضة بكل الوسائل ومن كل الجهات، فهو لا يزال مصرا على رفض شرعية "الهيئة العليا للمفاوضات" التي يتهمها بـ "احتكار تمثيل المعارضة"، وقيادة المفاوضات إلى "طريق مسدود". ولا يقبل أن يقتصر الأمر على إشراك مجموعتي موسكو والقاهرة، لكنه يريد مشاركة مجموعتي أستانة وحميميم اللتين هما من اختراع موسكو المباشر، بالإضافة إلى ما أسماه إشراك الأكراد، والمقصود طبعا جماعة صالح مسلم الحليفة لإيران والنظام معا.

يتصرّف الروس كقوة انتداب شرعية أو قانونية، ويعتقدون أن من حقهم أن يعيدوا تشكيل سورية على حسب أفكارهم ومصالحهم ومصالح حلفائهم، وفي مقدمهم إسرائيل. وهم يستفيدون من غض نظر الأطراف الدولية عن سياستهم في المنطقة، بعضها لافتقارها أي رؤية أو مصلحة في إيجاد مخرج من المحرقة السورية، وبعضها الآخر اعتقادا بأن روسيا هي الوحيدة التي تستطيع التخفيف من الوجود العسكري الإيراني في سورية. وهذا هو هدف إسرائيل الرئيسي، بعد أن أنجزت طهران المهمة التي أوكلت إليها بتدمير سورية، وتفجير حرب طائفية إقليمية كفيلة باستنزاف المنطقة، سياسيا واقتصاديا ودينيا، عقوداً طويلة مقبلة، من دون تمييز بين عرب وإيرانيين وأتراك وأكراد. وهي لا تخفي أنها تمتلك مخططا لإعادة بناء سورية، حسب ما تعتقد أنه الأمثل لضمان نفوذها وسيطرتها ومصالح حلفائها الإيرانيين والإسرائيليين معا. ويكاد كل عنصر من هذا المخطط يكون جاهزا، فهي صاغت دستور البلاد سلفا، وفي طريقها إلى إنشاء الفرق العسكرية الكفيلة بتحويل مليشيات النظام إلى جيش نظامي، وتريد أن تصوغ علاقات سورية الإقليمية والدولية وسياساتها، وتتحكّم بتوزيع مناطق النفوذ على الدول الصديقة، ولا تكف عن التأكيد على تشجيعها مخطط التقسيم باسم الفيدرالية، ومناطق الحكم الذاتي التي تريد أن تقدمها هدية لما تسميها الأقليات التي لم تعلن أي منها عن رغبتها بحكومة ذاتية، بمن في ذلك الكرد السوريون الذين ليسوا بالضرورة، ولا يمكن أن يختصروا، بأتباع لحزب الاتحاد الديمقراطي، أو لقوات الحماية الشعبية.

على ضوء تصريحات روسيا، وانفرادها في التدخل بشكل علني ومكشوف لصالح النظام، لا توجد أي فرصة لتحقيق خرق، أو تقدّم، ولو طفيفا في التوصل إلى حل. لا يزال الروس مصرّين على أن الحل الصحيح هو ما يرونه هم، لا ما يريده الشعب السوري الذي قدّم نصف مليون شهيد، لنزع نير الاستبداد والفساد وتغيير نظام الحكم الذي قاد إلى الخراب. وهذا الموقف يعلن بحد ذاته عن نتائج المفاوضات. والهدف الوحيد الذي يجب تحديده من المعارضة لهذه الجنيف 5، والذي ستتبعه جنيفات لا حصر لها، هو درء الضرر، لا تحقيق مكاسب وإنجازات من أي نوع. فقد أصبح من الواضح الآن أن لدى الروس خطة لإضعاف سورية وتفكيكها، بفرض أقاليم ذاتية مرتبطة بالهويات الطائفية والإثنية، وحاملة لمشروع إعادة بناء العصبيات الأهلية، ومن ورائها تشكيل النخب الجديدة على أساس الوجاهات والانتماءات القبلية والعنصرية والمذهبية، وقطع الطريق على أي مشروع لاستعادة مسار بناء المواطنة والوطنية وبسط الأمن والسلام في البلاد. والهدف إبقاء البلاد في نزاعاتٍ دائمةٍ وحرمانها من ثقلها النوعي القومي والثقافي والاجتماعي، وتقويض أي أسس لاستعادة سورية عافيتها في المستقبل، بدل لبنان واحدة سوف يتحول المشرق إلى لبنانات كثيرة، تتنازعها التناقضات والاختلافات في داخلها وبينها، وهذا ما يطمئن إسرائيل، ويضمن الأمن والسلام المديد لها على حساب خراب محيطها ودماره واقتتاله الدائم.

وإذا كان هناك فائدة للمشاركة في مؤتمرات جنيف، فهي لن تكون لتحقيق أي تقدم محتمل في الحل، وإنما لتفكيك المؤامرة الروسية، ووضع جميع الأطراف أمام الحقائق ومواجهة مشاريعهم والوقوف بحزم ضدها.

لا تملك موسكو أي صك انتداب قانوني على سورية، ولا يحق لها أن تتصرّف باعتبارها دولة منتدبة ذات صلاحيات وواجبات موكلة لها بالقانون الدولي، ولا يحق لها أن تقترح ما يدفع إلى تغيير الوقائع الوطنية الأساسية للدولة وللمجتمع، لا في بنياته السياسية ونظام حكمه، ولا في بنياته الاجتماعية. وما تقوم به هو التلاعب بالمفاوضين والمفاوضات والوثائق المرجعية، لكي تصادر نتائج المفاوضات، وتفرض مخططاتها التي لا يمكن أن يكون لها صفة أخرى غير الاستعمارية . ومن واجب الوفد المفاوض باسم المعارضة أن يدافع عن حق السوريين في تقرير مصيرهم بحرية، ويرفض أي استغلالٍ للوضع الصعب الذي يعيشه الشعب السوري، للمساس بسيادته وحقوقه الجوهرية. وعليه أن يواجه أي محاولةٍ تهدف إلى المساس بالحقوق الأساسية الدستورية، وتغيير البنية الجيوسياسية للدولة السورية.

لا ينبغي على وفد المعارضة القبول بالتنازل عن حق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه في انتخاباتٍ عامةٍ ونزيهةٍ تحت إشراف دولي، ورفض أي محاولة لتقرير مصيره في مفاوضات ينبغي أن يكون هدفها تصفية آثار الحرب العدوانية عليه، وليس مكافأة الجناة ومجرمي الحرب وأبطال الإبادة الجماعية. مهمة المفاوضات هي التوصل إلى اتفاق يضمن إعداد شروط تقرير المصير للشعب. وهذا هو مضمون المرحلة الانتقالية بالضبط. ولذلك، لا يمكن وضع دستور في هذه المرحلة، والحلول محل الشعب، وإنما يمكن التفاهم حول وثيقة مبادئ دستورية بانتظار الانتخابات لجمعية تأسيسية. وبالمثل، الشعب السوري وحده صاحب الحق في أن يقرّر شكل الدولة القادمة، ويفاوض من يريد من المكونات على حكم ذاتي أو إدارة لامركزية. وهذا لا يمنع من تشكيل حكم انتقالي، يضم المعارضة وأطرافاً في النظام، لكن ليس كصيغة ثابتة ونهائية للحكم، أي كأساس لحكومة المحاصصة الطائفية أو الإثنية، ولكن كمدخل لإعداد الشعب ليحكم نفسه بانتخابات عامة، وبغاية الانتقال نحو منظومة حكم ديمقراطية حقيقية. لا يمكن القبول بأقل من ذلك بعد ست سنوات من التضحيات وملايين المشردين والمنكوبين.

وأي وعود تقدّم من المتفاوضين السوريين، الموالين والمعارضين معا، في جنيف، أو أي التزامات يتخذونها، مع أطراف داخلية أو خارجية، بهدف فرضها منذ الآن أمرا واقعا على الشعب هي خيانة لدورهم، واعتداء على سيادة الشعب، وحقوقه الأساسية.
سورية ليست إحدى جمهوريات الاتحاد الروسي، ولن تكون. وليس لدى الروس صك انتداب قانوني دولي على سورية، يخولها أن تتصرف بحقوق السوريين، كما تتصرف قوات الانتداب والاحتلال.

اقرأ المزيد
٢٦ مارس ٢٠١٧
التحركات الإيرانية وإمكانيات التحول

تتوارد الأخبار عن اتصالات إيرانية جديدة بالكويت في سياق إمكان تحسين العلاقات مع دول الخليج العربية. وقد عبّر عن ذلك مراراً في المدة الأخيرة وزير الخارجية الإيراني.

بيد أن هذه الإشارات الواعدة بعد طواف الوزير الإيراني ببعض دول الخليج قبل شهرين، تقلِّلُ من أهميتها الخطابات النارية المتوالية للأمين العام لـ«حزب الله» في لبنان، والحزب كما هو معروف هو الذراع العسكرية والأمنية الرئيسية لإيران في الدول العربية. فخطابات أمينه العام الأخيرة لا تشير إلى تهدئة من أي نوع تجاه الدول العربية. بل تضيف عناصر جديدة للتوتر والتوتير. فبعدما اعتبره انتصاراً في حلب وشمال سوريا، عاد نصر الله لفتح الجبهة مع إسرائيل كلامياً على الأقل. وذلك إثر تصريح رئيس الجمهورية اللبنانية لفضائية مصرية إبّان زيارته للقاهرة بأنّ لبنان لا يزال محتاجاً لسلاح الحزب في الجنوب، حيث لا يكفي الجيش اللبناني ولا القوات الدولية. وعندما قيل له: وماذا عن تدخل الحزب في سوريا؟ أجاب بأنه لا يتدخل، وإنما يكافح الإرهاب. وكان لكلام رئيس الجمهورية، وخطابات نصر الله تأثيرات مباشرة؛ إذ اتخذ الأمين العام للأُمم المتحدة موقفاً مُواجهاً متهماً لبنان بأنه لا ينفذ القرار الدولي رقم 1701، ولا القرار الدولي رقم 1559. والأول خاص بحماية جنوب لبنان، حيث تساعد القوات الدولية الجيش والمفروض أن لا توجد في منطقة جنوب الليطاني قوات لميليشيا «حزب الله». أما الثاني فهو خاص بإزالة السلاح غير الشرعي من لبنان، والذي يحمله الحزب وبعض الميليشيات الفلسطينية على الحدود مع سوريا. وإلى ذلك فقد أوصى الأمين العام غوتيريس بخفض الإنفاق على القوات الدولية بالجنوب بنسبة 20%.

أما الأثر الثاني لكلام الأمين العام للحزب في تهديد إسرائيل براً وبحراً، فيتجلّى في إقبال إسرائيل على الاستيلاء على قسم من المجال البحري للبنان، والذي يعتقد الخبراء أنه يحتوي على ثروات نفطية.

وقد قال المراقبون وقتها إنّ المقصود من كلام أمين عام الحزب صرف الأنظار عن أدوار الحزب في سوريا، وإزعاج أميركا وإسرائيل نتيجةً لتردّي العلاقات بين إيران وإدارة ترامب.

وتشير الهجمات الأخيرة للمعارضة السورية المسلَّحة إلى اتجاه للميليشيات الإيرانية من شمال سوريا نحو الأردن والجولان. فقد كانت الخطة تأمين دمشق وجوارها عن طريق الاستيلاء والتهجير، وقد أُضيف إليها اتجاه الإيرانيين وميليشياتهم نحو الجولان، ونحو الحدود الأردنية. وفي الوقت نفسِه لا يزال نصر الله يعتبر التدخل في اليمن أولوية. فقد دأب منذ عام 2013 على القول إنّ تدخل الحزب وحربه على الشعب السوري أهم من قتاله السابق ضد إسرائيل. وهو منذ أكثر من عام يقول إنّ التدخل باليمن ضد السعودية أهمّ من مقاتلة إسرائيل والقتال في سوريا. وتشير التقارير والأحداث إلى أن التدخل الإيراني بالخبراء والأسلحة الجديدة زاد باليمن في الشهور الأخيرة، كما زادت محاولات استهداف الحدود السعودية. وما يزال الإيرانيون يسعون مع ميليشيات الحوثي لاستعادة ميناء المخا واستعادة ميناء ميدي. وقد صار معروفاً اتجاههم لإزعاج الملاحة في بحر العرب وبحر عُمان وباب المندب بالهجوم على سفن إغاثية سعودية وإماراتية.

وقد عاد نصر الله أخيراً إلى الهجوم على التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والذي يقاتل «داعش» في العراق وسورية، وقال إنّ موقفه هذا مبدئي. وعندما قال وزير الخارجية اللبناني إنّ لبنان حليف للولايات المتحدة التي تدعم الجيش اللبناني، وتقاتل الإرهاب، وإنّ الجيش هو الذي منع تكون إمارة لـ«داعش» في لبنان؛ ردَّ عليه نصر الله بأنه لولا الحزب لكان لبنان قد صار ساحةً للتفجيرات والسيارات المفخخة! إن لدى إيران ميليشيات وخبراء بالعراق وسوريا ولبنان واليمن. وكلها تزداد عدداً وعُدّةً في العام 2017. وقد كان الإيرانيون يصرون على أنها جميعاً ضد الإرهاب وضد الولايات المتحدة. لكنهم ومنذ قرابة العام يصرون على لسان حسن نصر الله أنها ضد السعودية بالدرجة الأُولى!

ماذا يعني هذا كلّه؟ يعني أنّ التدخلات الإيرانية إلى ازدياد وأنّ الحزب وعلى لسان أمينه العام مكلَّفٌ بمهمات جديدة أو متجددة في عدة بلدان عربية. لذلك ليس مستغرباً أن تتوارد الأنباء والتقديرات أنّ مؤتمر القمة بعمان سيتخذ قراراً بإدانة التدخلات الإيرانية في البلدان العربية، وربّما يكون هناك إصرارٌ على إدانة «حزب الله» باعتباره تنظيماً إرهابياً.

اقرأ المزيد
٢٦ مارس ٢٠١٧
بشار الأسد ولعنة التوريث

دأب الرئيس السوري بشار الأسد على ترديد أسطوانة أنه يحارب «الإرهاب»، ومن ثم فإن أهم شرط للحل في سورية، كما يقول، هو القضاء على هذا الإرهاب. حسناً، حتى لو افترضنا صحة كلام الأسد ودقته أيضاً، يبقى سؤال: لماذا فشل على مدى ست سنوات في مواجهة «الإرهاب»، فضلاً عن هزيمته؟ سيقول إن التدخلات الأجنبية هي التي تساعد «هذا الإرهاب» وتمده بأسباب القوة، وتجعل بالتالي من هزيمته أمراً يقترب من الاستحالة.

لكن الأسد، قبل غيره، هو من ينسف رؤيته هذه، لأنه كان له «فضل» السبق في الاستعانة بالتدخلات الأجنبية لمساعدته، وحمايته. بماذا يختلف في هذه الحال؟ يقف الأسد على هرم سلطة تميزت عبر تاريخها بتوحش ودموية غير مسبوقين في التعامل مع السوريين. ثم إن ضحايا هذه الدموية وذلك التوحش بعد الثورة هم الناس والمدن والأحياء في سورية كلها، وليس «الإرهابيين». بهذا يكون الأسد ونظامه أقرب إلى إرهاب الدولة التي تفتقد شرعية قبول الشعب لها اختياراً لا قسراً. المفارقة بمسطرة كلام الأسد أن الغالبية الساحقة ممن يسميهم بالإرهابيين هي من السوريين، وليست من الأجانب. في حين أن القوات الأجنبية (مقاتلين وميليشيات وعتاداً) التي تقف معه جميعهم من غير السوريين. من الذي يدافع عن سورية، وعن شعبها في هذه الحال؟ لم تأت القوات الأجنبية لحماية الشعب، وإنما لحماية الرئيس من الشعب.

ولا يغير من الأمر شيئاً ادعاء الأسد بأنه إنما استعان بالإيرانيين وميليشياتهم، ثم بالروس باسم الشرعية التي يفترض أنه ونظامه يمثلانها في سورية. فالشرعية التي لا تستطيع حماية نفسها إلا بتدخلات أجنبية، وفي مواجهة مع شعبها، إما أنها ليست شرعية أصلاً، أو أنها فقدت هذه الشرعية بفعل ما اقترفته في حق الشعب، وقادها بالتالي إلى الصدام معه. وإذا كان النظام برئيسه وتاريخه وسلوكياته على هذا النحو، فإنه يكون المسؤول الأول عن ظهور الإرهاب في سورية كرد فعل على إرهاب الدولة فيها، واستعانتها بالأجانب على ذلك.

مأزق بشار الأسد، ومأزق سورية معه، انه انفصل عن الواقع تماماً. ورث هذا الانفصال مع وراثته للنظام. وبالتالي فهو انفصال سابق على الثورة. في الوقت نفسه هو انفصال واع، وتنكر مقصود بوهم حماية نظام سياسي لا يستطيع اكتساب قبوله من الناس، بل يفرض التعايش معه ومسايرته بأدوات الأمن والرعب والإرهاب. إلى متى تستطيع فرض معادلة أمنية مثل هذه من دون إطار سياسي لها؟ هذه معادلة لا تستقيم من دون معادلة سياسية تسندها وتتكامل معها. لكن متطلب الإسناد والتكامل هذا يفرض تمويه حقيقة النظام، وهي أنه في عمقه نظام علوي، تتمسك عائلة علوية بالهيمنة عليه، في مجتمع كبير غالبيته الساحقة سنية، مع مكونات إسلامية وغير إسلامية أخرى. المفارقة القاتلة أن قيادة النظام، خصوصاً في مرحلة الأسد الابن، لم تقدر أن المجتمع السوري لم يكن لديه في الأصل اعتراض جوهري في أن يكون رئيسه علوياً، كما كان أول رئيس حكومة له بعد الاستقلال مسيحياً بروتستانتياً، وهو فارس الخوري. ومرد عدم التقدير هذا يعود لهيمنة ذهنية الأقلوية على النظام وقيادته. وهو ما يفسر أن انفصال النظام وقيادته عن الواقع انتهى به أنه انفصل عن الشعب، وبات يعتمد في بقائه على مقاتلين أجانب.

لا يستطيع الأسد والحال كذلك الاعتراف بأنه كانت هناك ثورة، وأن دموية نظامه وتوحشه حتى قبل الثورة، وتحالفاته الأجنبية هي ما فجر هذه الثورة ابتداء. بعد سقوط معادلة التعايش والمسايرة بفعل الخوف، كان لا بد من شماعة الإرهاب. فالاعتراف بالثورة هو اعتراف بنهاية الأسد ونهاية النظام الذي ورثه عن أبيه. وعدم الاعتراف هو الذي أدخل سورية نفق الحرب الأهلية. وهو نفق لا أحد يعرف، وأولهم الأسد نفسه، متى سينتهي.

المدهش، وعلى رغم كل ما حصل ويحصل، أن الأسد يتوهم أن بقاءه هو المخرج من الأزمة، بل والمخرج الوحيد. يريد أن يبقى على جماجم الناس وآثار مدنهم وقراهم التي دمرها فوق رؤوسهم. هل هذا ممكن؟ لم يعد لمثل هذا السؤال أي معنى الآن، خصوصاً أن الأسد لا يزال مصراً على الإيغال في النهج الدموي المدمر، وتطبيق مبدأ العقاب الجماعي على السوريين الذين يريد البقاء رئيساً لهم. يتوهم إمكان إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الثورة وكأن شيئاً لم يكن. بالمنطق ذاته يتظاهر بأنه لم يفقد السيطرة على مجريات الحرب، وما ستفرضه من حلول ومخارج سياسية. والحقيقة أن جيشه الذي كان يعرف بـ «الجيش العربي السوري» فقد بفعل الانشقاقات، وبتحالفه مع المقاتلين والميليشيات الأجنبية، بنيته وعقيدته الوطنيتين. تحول إلى ميليشيا أخرى من دون عقيدة، ومن دون معنويات يحفزها هدف وطني.

وسط غابة الميليشيات والمقاتلين فقدت هذه الميليشيا حتى قدرتها وربما الحافز لحماية الأسد. هذا ما يقوله الروس علناً، ويقوله الإيرانيون خلف الكواليس. هل إنكار الأسد لكل ذلك انفصال واع، أم غير واع عن الواقع؟ الأرجح أن قسوة الحرب الأهلية ومراراتها، وانتقال السيطرة إلى الأجانب جعلت من الأمر لدى الرئيس خليطاً من هذا وذاك. الرجل يقاوم السقوط. يعرف أن المقاتلين الأجانب هم الحاجز الوحيد، وليس الشعب السوري، بينه وبين هذا المآل. يحاول الهروب من قدر أنه سيكون أول وآخر وريث لحكم أبيه. إن قدر له أن يعيش سيدرك الأسد أن توريث السلطة له بتوقيتها، وبالطريقة التي تم بها، وللهدف الذي تم على أساسه كان لعنة على شكل عملية سياسية. أضعف التوريث الدولة السورية، وأدخلها لعبة طائفية ومذهبية على مستوى المنطقة وهي لعبة خاسرة للنظام السوري تحديداً. جاءت الثورة لتكشف كل ذلك، خصوصاً لفقده حكمة التعامل معها. ولأن الوريث كان من دون تاريخ أو تجربة، تفاقمت حال الضعف. لجأ إلى إيران و "حزب الله" لتعويض ذلك، فأصبح أول رئيس سوري، بل أول رئيس عربي يرهن بقاءه لميليشيا أجنبية بعد أن كانت هذه الميليشيا تعتمد في بقائها على سورية.

اقرأ المزيد
٢٥ مارس ٢٠١٧
الحريري و"خير أجناد الأرض"

لم يكن ينقص رئيس الحكومة اللبناني، سعد الحريري، إلا إدراج تعبير "خير أجناد الأرض" لوصف الجيش المصري، وتعامله مع المواطنين في أرض الكنانة. فرئيس الحكومة الزائر إلى القاهرة أغدق في المديح على الأسلوب الذي تصرف به الجيش مع الشعب المصري، في إشارة إلى ما بعد "30 يونيو"، أي ضمنياً الانقلاب العسكري ضد نتائج الانتخابات.

رأى الحريري أن مصر "قدمت النموذج الصحيح لكيفية تعامل الجيوش الوطنية مع شعوبها"، وذلك في حواره مع صحيفة الأهرام الحكومية، وهي الصحيفة التي لم تتوان عن استخدام التعبير عنواناً رئيسي للمقابلة التي تطرقت إلى أمور قد تكون أهم، ولا سيما الوساطة المصرية مع إسرائيل لوقف تهديدها لبنان. غير أن مثل هذا الأمر لا يبدو مهماً أمام شهادة البراءة التي قدمها رئيس الحكومة اللبناني للجيش المصري وقيادته من المذابح السياسية والأمنية التي ارتكبها في الانقلاب وما بعده، ولا يزال يرتكبها بأشكال مختلفة.

ألم يسبق للحريري أن سمع بمذبحة رابعة، والتي تعد الأضخم في تاريخ مصر الحديث، وربما القديم. ألم يقرأ أن عدد الضحايا لا يزال غير نهائي، ووصل، في بعض التقديرات، إلى الآلاف، وذلك نتيجة دخول الجيش على مواطنين عزل معتصمين في ساحة وسط القاهرة.

ألم يبلغه أي من مستشاريه الكثر أن لائحة المفقودين من الذين كانوا موجودين في ساحات الاعتصام لا تزال طويلة، وأن كثيرين غير معلوم إذا ما كانوا أحياء أم أمواتاً.

وبعيداً عن "رابعة" ومجزرتها الكبرى، ماذا عن الاختفاء اليومي لمواطنين مصريين واعتقالهم وزجهم في السجون، لرفضهم الحكم العسكري للبلاد. ألم يسمع الحريري عن هؤلاء الذين يُعتقلون لمجرد التعبير عن الرأي، أو الذين يوضعون على قوائم منع السفر لمجرد إبدائهم موقفاً مغايراً لما يريد السيسي ونظامه سماعه؟

وماذا عما يحصل اليوم في سيناء من تهجير للسكان على يد "خير أجناد الأرض"، كما يحلو للإعلام المصري تسمية الجيش، ألم ينقل أحد من مستشاري رئيس الحكومة اللبناني إليه صورة الوضع في شبه الجزيرة، وأخبار القتل والهدم الحادثين يومياً بذرائع أمنية، على الرغم من أن أهدافاً استراتيجية أبعد قد تكون خلف كل ما يحدث. وما رأي الحريري مثلاً في سيطرة الجيش على مفاصل الاقتصاد في البلاد، وتحكّمه بالغذاء والدواء وغيرهما من مقومات الاقتصاد على الساحة المصرية، وتقديمها للشعب على أنها "مكرمة" من الجيش المتنعم وحده بخيرات البلاد.

هل هذا هو النموذج الذي يريد الحريري تعميمه؟
لنفترض أن كل هذه الأمور لم تخطر في بال رئيس الحكومة، باعتباره كان بعيداً، طوال الفترة الماضية، عن العمل السياسي، أو معتكفاً عنه بفعل المناكفات اللبنانية الداخلية المرتبطة عضوياً بالملف السوري، والذي يوليه الحريري أهمية قصوى. غير أن المفارقة أن الملف السوري جرى التطرق إليه في الحوار مع الصحيفة المصرية، غير أن الحريري لم يرَ ضيراً في دعم نظام السيسي نظام بشار الأسد، وهو الدعم الذي لم يعد خافياً على أحد، بل وضعه في خانة أن "مصر دولة عربية كبرى لها وزنها وسياستها وموقفها مما يجري في سورية يرتكز على مصالحها وتطلعاتها".

وفق حسابات الحريري هذه، لا يمكن لوم إيران وروسيا على سبيل المثال في دعمهما وارتكابهما الجرائم في سورية، ما دامت "مصالحهما وتطلعاتهما" تحتم عليهما القيام بهذه الأمور، فما ينطبق على مصر، من وجهة النظر هذه، ينطبق على غيرها، إذ يضع هذا المنطق الديكتاتورية والإجرام في خانة "وجهة النظر".

اقرأ المزيد
٢٥ مارس ٢٠١٧
تقلب الوقائع السورية مجدداً

تقلبات المعادلة التي تتحكم بمصير سورية أخذت وتيرة متسارعة هذا الأسبوع، عبر وقائع كثيرة تزاحمت في الميدان العسكري، فالحرب السورية عوّدتنا في كل مرة ترسو الأمور على معادلة معينة خلال السنوات الماضية، على المفاجآت التي تعود فتقلب ما سبقها من أحداث بدت وكأنها ثوابت... وهكذا دواليك منذ عام 2011.

لا تلبث الوقائع تنبئ بأن النظام السوري إلى سقوط حتى يحصل ما يشير إلى ثباته، ولا تلبث التطورات العسكرية ترجح الحل السياسي حتى يتعثر هذا الحل، لأنه يقوم على نظرة أحادية الجانب، فتعود إلى الاشتعال جبهات جديدة وأخرى قديمة قيل إنها أُخمدت، فيخيب ظن من سيطر عليها من فرقاء الصراع.

القاعدة الوحيدة الصالحة للحكم على هذه الحرب المدمرة هي أنها مستمرة، وأن مصير النظام السوري برئاسة بشار الأسد يبقى مطروحاً على الطاولة ولو راجت في كل مرحلة مقولة أن الأسد باقٍ وردد ذلك حتى قادة دول غربية تفضل رحيله. بقاء الأسد يعني استمرار هذه الحرب، لأنه يستحيل تصور حل سياسي باستمراره. وهو نفسه أرسى هذه المعادلة، لأنه لم يتوقف عن تكرار، في كل مرة يحقق الروس والإيرانيون انتصاراً على المعارضة (ثم ينسبونه إلى «الجيش العربي السوري»)، أنه مصمم على استعادة كل الأراضي السورية من معارضيه، الذين يصفهم -معتدلين وتكفيريين- بالإرهابيين، على رغم جلوسه معهم للتفاوض في جنيف، فهو يدرك أن الحل السياسي يعني بالتعريف رسم مسار إنهاء حكم العائلة التي دمرت سورية وقتلت مئات الآلاف وشردت الملايين... فأي معارض سيقبل أمام المأساة بقاء الأسد في إطار الحل الذي يدعو ستيفان دي ميستورا إلى التفاوض عليه؟ وأكثر ما يخشاه أن تتقدم الدول والقوى التي تحارب «داعش» والإرهاب نحو هدفها، لأن هذا يقرّب طرح رحيله، بعد أن ربط مبرر بقائه بشعار إنهاء الإرهاب الذي ساهم هو في انتشاره وإطالة بقائه في بلاد الشام لتسويغ استمراره في السلطة، حين خيّر العالم: أنا أو «داعش».

الوقائع الجديدة (المرشحة لأن تعدَّل فيها وقائع لاحقة) تبدأ بما شهدته ضواحي دمشق من تقدم للمعارضة. ومع أن تهديد دمشق من المعارضة مجدداً يحرص القائمون به على حصره بهدف فك الحصار وتخفيف الضغط العسكري المستمر (الذي تغاضت عنه روسيا راعية وقف النار) من قوات النظام و «حزب الله» والميليشيات الإيرانية عن جوبر والغوطة الشرقية، فإن تمكُّنَ الفصائل المسلحة من إحداث تقدم في ريف حماة، و «الجيش الحر» من طرد «داعش» من غرب القلمون، أعطى هذا التطور بعداً آخر كسر «الحرم الدولي» حول استهداف العاصمة. ولا تتوقف هذه الوقائع عند تزاحم الدول الكبرى على تنفيذ الإنزالات لجيوشها، في مناطق السيطرة الكردية في الشمال السوري التي باتت موزعة بين أعلام تركيا في مدينة الباب وأميركا في منبج والحسكة، وروسيا في عفرين على آليات كل منها ومدرعاتها، في سياق التنافس على تحرير الرقة من «داعش»، باعتباره الخطوة الحاسمة على طريق القضاء على التنظيم، بعد أن تنجح عملية طرده من الموصل. فالاتجاه الأميركي نحو التسليم بأرجحية نفوذ روسيا في سورية، لم يكن يعني حتى أثناء ولاية باراك أوباما، إبعاد واشنطن بالكامل أو التسليم لفلاديمير بوتين باستخدام ورقة الدور الإيراني في بلاد الشام والإقليم، في لعبة التقاسم الدولي، ولا قبولها أن يأتيها القيصر إلى التفاوض متأبطاً ذراعي رجب طيب أردوغان والسيد علي خامنئي معاً.

من الوقائع أيضاً أن التحالف الدولي للقضاء على «داعش» والإرهاب لا يضم طهران، وتقوده واشنطن، التي أكدت أول من أمس دور السعودية والإمارات ومصر في الحرب على التنظيم، ونية إقامة «المناطق المستقرة» لإعادة النازحين.

من الوقائع الجديدة أن طهران تتهيأ للدفاع ضد سعي إدارة دونالد ترامب إلى وقف تدخلاتها الإقليمية في سورية واليمن والعراق والبحرين... عبر تصعيد انخراطها في الصراع في هذه الدول، بتسخير مزيد من الإمكانات العسكرية والمالية التي تستنزف اقتصادها الذي يتهم المرشد الأعلى علي خامنئي الرئيس حسن روحاني بالتقصير في معالجته. وتدفع طهران «حزبَ الله» إلى الساحات، ولا سيما سورية، بعد استراحة لمقاتلي الحزب إثر معارك حلب وغيرها التي كبدته الكثير من الخسائر.

لكل هذا أثره على القمة العربية في البحر الميت خلال أيام، بعد سلسلة خطوات لترتيب ما يمكن ترتيبه في البيت العربي، وبعد مبادرة المملكة العربية السعودية إلى حشد التأييد الدولي لمواجهة تدخلات إيران.

الواقعة الثابتة هي أن الشعب السوري سيبقى الضحية.

اقرأ المزيد
٢٥ مارس ٢٠١٧
قمة عمّان ومشروع ترامب للسلام

يوم الثلاثاء الماضي أقفل الجيش الأردني مختلف المعابر المؤدية الى منطقة البحر الميت حيث سيعقد مؤتمر القمة العربية يوم 29 الشهر الجاري.

الحكومة الأردنية أصدرت لهذه المناسبة 1400 بطاقة دخول وزعتها على عدد من الصحافيين المحليين والمراسلين والمصورين الأجانب. وقد استقبل العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني مطلع هذا الأسبوع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط بهدف التنسيق والتشاور حول جدول أعمال القمة المقبلة. ومن أجل تسهيل عمل المشرفين على التنظيم الداخلي، قدم أبو الغيط مجموعة وثائق تضم المقررات المهمة التي صدرت عن قمم سابقة، بدءاً من قمة أنشاص في الإسكندرية (29/5/1946) حتى القمة الأخيرة في موريتانيا العام الماضي.

وواضح من طبيعة النشاط الاستثنائي الذي يقوم به المسؤولون الأردنيون إن هناك تعليمات ملكية تقضي بإنجاح هذه القمة، إن كان من حيث عدد المشاركين... أم من حيث التعامل مع الأزمات التي تعصف بالعالم العربي.

وعلى ضوء هذا التوجه، لم يكتفِ الملك عبدالله الثاني بالدعوة التي حملها مبعوثه ناصر جودة الى العاهل المغربي الملك محمد السادس، بل سافر هو شخصياً الى طنجة عندما بلغه أن ملك المغرب متردد في الحضور. علماً أن آخر قمة حضرها العاهل المغربي كانت قمة بيروت عام 2002.

في الرياض، تؤكد المصادر الرسمية أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز سيحضر على رأس وفد رفيع المستوى، خصوصاً أن المواضيع المعدّة للنقاش تحظى باهتمامه، بدءاً بموضوع فلسطين... مروراً بأزمتي اليمن وسورية... وانتهاء بمعالجة الخلاف مع إيران حول الأمن الإقليمي.

ويبدو من برنامج القمة أن الأردن سيكون عنده ما يقوله عن اتصالات سبق أن أجراها رئيس مجلس النواب عاطف الطراونة الذي التقى الرئيس حسن روحاني في طهران، وبحث معه في إمكان إعداد تقارب على مستوى القيادة. ومن المتوقع أن ينتج ذلك اللقاء مطالبة إيران بضرورة إعلان تعهد يقضي بتعديل سياستها الخارجية، خصوصاً الجانب المتعلق بموقفها من دول الخليج.

ومع أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاول للمرة الثالثة إقناع الجامعة العربية بضرورة رفع الحظر المفروض على حضور الرئيس بشار الأسد، إلا أن محاولته لم تلقَ الصدى المطلوب. لذلك قرر إرسال ميخائيل بوغدانوف، مستشاره لشؤون الشرق الأوسط، إذ يمثل دور المراقب.

وكانت الجامعة العربية علقت حضور سورية عام 2011، ثم عادت واعترفت بالمعارضة السورية «بديلاً من النظام الذي يقتل ويهجر مواطنيه». وفي مؤتمر الدوحة جلس أحمد معاذ الخطيب، رئيس «الائتلاف الوطني» السوري، في المقعد المخصص لبشار الأسد، وكان ذلك في آذار (مارس) 2013.

رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس كان أكثر المسؤولين قلقاً على القضية التي حملها خلال جولتين عربية وأوروبية لم تكتملا بسبب الدعوة المفاجئة التي تلقاها من الرئيس عبدالفتاح السيسي. وكان ذلك عقب انقطاع طويل عن القاهرة برز أثناء سحب مندوب مصر مشروع إدانة الاستيطان من مجلس الأمن في آخر شهر من السنة الماضية. وتبعت ذلك سلسلة خلافات عابرة تجاوزها السيسي لأسباب تتعلق برغبته في لعب دور أساسي في حال طرحت الولايات المتحدة مشروع إحياء عملية السلام المعطلة.

ووعد الرئيس المصري ضيفه أبو مازن بأن القضية الفلسطينية ستكون الموضوع الأهم خلال زيارته المرتقبة لواشنطن، وبأنه سيبذل كل جهد مستطاع مع الرئيس دونالد ترامب، من أجل إنهاء النزاع وإقامة الدولة الفلسطينية.

وكان عباس اغتنم فرصة سفره الى الدوحة من أجل تدشين المدرسة الفلسطينية التي أمر بإنشائها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، لكي يزور أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وجرت خلال اللقاء مراجعة ملف المصالحة الوطنية الفلسطينية بين «فتح» وسائر المنظمات المعارضة مثل «حماس» و «الجهاد الإسلامي».

وذُكِر أن محمود عباس أبدى رغبة في استئناف الحوار مع المنظمات الأخرى وإنهاء حال الجفاء والمقاطعة. وعليه، ترك الأمر الى الشيخ تميم على أن يعالجه فور عودته من مؤتمر القمة في عمّان.

ولكن الدول العربية غير مطمئنة الى عدالة الحل السياسي الذي يطرحه الرئيس الاميركي دونالد ترامب أمام زواره، خصوصاً أنه يجرد الفلسطينيين من دورهم الأساسي. والحل في محصلته النهائية يتألف من خطوط عريضة هذه أهمها:

أولاً - بعد مرور أكثر من عشرين سنة، أثبتت المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية عقم المحاولات التي أجرتها الإدارات الأميركية من موقع المشرف والضامن لكل مسارات التسوية.

ثانياً - لهذه الأسباب وسواها، يفرض المنطق ضرورة تجميد نهج المفاوضات الثنائية، واستبدالها بصفقة أمنية، سياسية، اقتصادية تحفز الجهتَيْن المعنيتين بالنزاع، كما تغري الدول العربية بالاشتراك في وضع الحل والإشراف على ضمان تحقيقه.

ثالثاً - من أجل تنفيذ مشاركة فعلية، يجب رسم إطار لتسوية اقليمية تتألف من مسارات ثنائية، ومن تحالفات إقليمية تكون اسرائيل جزءاً منها.

ويشترط ترامب في صيغة الحل ألا تكون السلطة الفلسطينية الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وإنما تشارك معها مصر ودول مجلس التعاون الخليجي. وتقضي فكرة التجمع الاقليمي حصول إسرائيل على اتفاقات اقتصادية في مقابل قبولها بحل الدولتَيْن لشعبين.

وفي حال وافقت الدول العربية وإسرائيل على تبني هذه الصيغة، فإن ترامب يرشح صهره جارد كوشنير كمبعوث خاص لإنهاء نزاع الشرق الأوسط بالتعاون مع سفيره في تل أبيب ديفيد فريدمان.

ومن المؤكد أن الدول العربية لن توافق على هذه الصيغة التي تحلها محل الفلسطينيين في تدبير شؤونهم، إضافة الى مشاركتهم في طاولة المفاوضات.

ورأت «حماس» في دعوة الرئيس دونالد ترامب الى رئيس السلطة الفلسطينية فخاً لإقناعه بأهمية تجديد ثقته بالإدارة الأميركية، ومنحها فرصة جديدة لاستئناف المحادثات من دون شروط مسبقة، ولو اقتصر ذلك على شرط وقف بناء المستوطنات!

وهذا يعني بـ «القلم العريض» سلب الفلسطينيين كامل حقوقهم، وتجيير مسؤولية مستقبلهم الى دول عربية تنوء تحت أثقال الهموم والمتاعب التي حصدتها من حقول «الربيع العربي».

قبل افتتاح مؤتمر قمة عمّان، أثار الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش أزمة سياسية مع الفلسطينيين والدول العربية بسبب سحب تقرير عن إسرائيل أعدته ريما خلف، الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا). ويشير التقرير، الذي ساهم الخبير القانوني ريتشارد فولك بالتعاون مع الباحثة فيرجينيا تيلي في جمع معلوماته، الى حقيقة تحوّل إسرائيل الى دولة فصل عنصري (ابارتهايد).

ويبدو أن خوف الأمين العام من فقدان وظيفته، ومن انتقام الرئيس ترامب، الذي هدد بسحب ربع مساعدات المنظمة الدولية، دفعاه الى سحب التقرير من أرشيف المنظمة، الأمر الذي قابلته خلف بتقديم استقالتها.

وبين الأسباب التي ذكرتها في كتاب الاستقالة عبارة توضيح تقول: «أستقيل ببساطة لأنني أرى أن من واجبي تجاه الشعوب التي نعمل لها، وتجاه الأمم المتحدة، وتجاه نفسي، ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة تسبب كل هذه المعاناة لكل هذه الأعداد من البشر، وبناء عليه، أقدم استقالتي من الأمم المتحدة».

ومن غرائب الصدف أن ريما خلف أعادت الى ذاكرة الرأي العام قراراً مماثلاً صدر عن مؤتمر دربان عام 2001، وفيه يقول: «يشير المؤتمر بأسف عميق الى المأساة القاسية التي ألمت بالشعب الفلسطيني، والتي تتمثل في منعه من ممارسة حقه في تقرير المصير على تراب وطنه، وفي تشتت مئات الآلاف من الفلسطينيين، ومنع عودتهم الى ديارهم وإحلال المستوطنين الأجانب فيها، وفي ممارسة مختلف أشكال التمييز العنصري ضد الفلسطينيين مما يؤثر في جميع جوانب حياتهم اليومية بما يحول دون تمتعهم بأبسط حقوقهم الإنسانية على أساس المساواة».

ويكمل القرار فيقول: «ويعرب المؤتمر عن قلقه الشديد إزاء استمرار هذه الحالة وعن أسفه لرفض إسرائيل الانصياع لقرارات الأمم المتحدة في هذا الصدد».

وترتب عن تلك الإدانة انسحاب ممثلي الولايات المتحدة وإسرائيل من مؤتمر دربان، الأمر الذي انتهى بنقل القرار الى الجمعية العامة حيث تم التصويت عليه بغالبية الأصوات.

وبعد سنوات عدة، جندت إسرائيل كل إمكاناتها السياسية والإعلامية والمالية، لإلغاء قرار اعتبرته مهيناً ومسيئاً لسمعتها كبلد يزعم أنه ينشر الديموقراطية في الشرق الأوسط!

بقي أن ينصف مؤتمر عمّان ريما خلف لأن استقالتها تعتبر صفعة للمنظمة التي يرأسها موظف لا يختلف في طبعه عن سلفه الأول تريغفه لي!

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان