مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣ أبريل ٢٠١٧
تركيا بعد "درع الفرات"

قرار تركيا إنهاء معركة "درع الفرات" نابع من أن مرحلة التمدّد العسكري انتهت، وأن أنقرة أخذت حصتها الجغرافية الكافية لحماية مصالحها القومية العليا في سورية، وفق قراءة صناع القرار في الكرملين والبيت الأبيض. لكن الأتراك المحكومين بموازين القوى المفروضة من موسكو وواشنطن غير راضين عما تم تحقيقه في ضوء تنازلات أنقرة لموسكو، سواء في حلب أو في ما يتعلق بالهدنة العسكرية التي ما زال النظام السوري يخرقها أمام أعين الكرملين.

صحيح أن "درع الفرات" حققت هدفها في دحر تنظيم الدولة الإسلامية من الحدود التركية، لكنها لم تحقق أهدافها كاملة في ما يتعلق بـ"وحدات حماية الشعب الكردي"، فمنطقة "درع الفرات"، من جرابلس، شمالي شرق حلب، إلى أعزاز في الشمال الغربي، إلى مدينة الباب في الجنوب، استطاعت تحقيق فصل جغرافي بين عفرين في الغرب، ومنبج وعين العرب ـ كوباني في الشرق، أي أنها نجحت في شطر مناطق سيطرة الوحدات الكردية شرق الفرات، لكنها فشلت في فصل مناطق الهيمنة الكردية بين شرق الفرات وغربه، إذ لم تستطع تركيا إجبار الوحدات الكردية على مغادرة منبج أو عين العرب ـ كوباني وعبور النهر نحو الشرق.

موسكو وواشنطن متفقتان على لجم الاندفاعة التركية في سورية لأسباب تتجاوز المسألة الكردية، إنها متعلقة بعدم رغبة العاصمتين بمنح تركيا أراضي واسعة ووجودا عسكريا يهدّد مخططاتهما، خصوصا أن الرؤية الاستراتيجية التركية تتباعد عن الرؤيتين الأميركية والروسية، وإن بدتا متحالفتين في الظاهر.

وقد كشفت زيارة وزير الخارجية الأميركي، أخيرا، إلى أنقرة حدود التباين بين الطرفين في الشمال السوري، كما كشف التوجه الروسي سابقا نحو عفرين، وتسليم مناطق سيطرة الأكراد لقوات النظام، غياب الثقة بين روسيا وتركيا.

قد تنجح أنقرة عبر دبلوماسية الخطوة خطوة في إنجاز تفاهم سياسي مع موسكو وواشنطن حول الشمال السوري، لكن مثل هذا التفاهم لا يلبي سوى الحدود الدنيا من مطالب الأتراك. وأمام فقدان أنقرة أوراق ضغط على العاصمتين، بدأ صناع القرار في تركيا باعتماد سياسة الاختراق من الخلف، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:

أولا: تشكيل تحالف يجمع قوى عربية فاعلة على الأرض لمواجهة هيمنة الوحدات الكردية، وقد بدأت أنقرة هذه الخطوة منذ منتصف شهر مارس/ آذار الماضي، حين جمعت في مدينة أورفة التركية قرابة خمسين عشيرة ممتدة بين الرقة والحسكة، لتشكيل جسم عشائري، ومن ثم عسكري. وليس معروفا مدى النجاح التركي في استقطاب هذه العشائر في ظل حالة التذرر التي ضربت مجمل العشائر السورية، بين مؤيد للنظام وآخر معاد له، وبين من هو متحالف مع الوحدات الكردية ومن يبحث عن مساراته الخاصة.

وإذا ما فشلت هذه العشائر لأسباب متعددة في تشكيل جسم عسكري، فإنهم، بحكم ثقلهم الديمغرافي والاجتماعي، قادرون على التخفيف من هيمنة الوحدات الكردية على محافظة الرّقة، خصوصا عقب محاولة "الاتحاد الديمقراطي" تسليم مناطق في الرقة إلى مجلس الرقة المدني الذي يتبع الإدارة الذاتية. وهنا تلعب أنقرة على إمكانية قبول الأميركان بتقاسم الأجهزة السياسية والأمنية بين مختلف المكونات، ولأجل ذلك تعد هذه العشائر لتلك اللحظة.

ثانيا: تشكيل قطب كردي يكون ندا لـ"الاتحاد الديمقراطي الكردي" وأذرعه العسكرية، والمجلس الوطني الكردي في سورية المعروف بـ"بيشمركة روج" هو أفضل من يمثل هذا الهدف. وتتم هذه العملية بالتوافق مع أربيل، خصوصا أن رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، أرسل أكرادا سوريين إلى سنجار، للاشتباك مع وحدات المقاومة التي يُدربها حزب العمال الكردستاني، لكن مشكلة هذا الخيار متعلقة بمدى قدرة أربيل على المضي في المشروع التركي، خصوصا أن البرزاني لا يستطيع تجاوز الولايات المتحدة، كما أن "بيشمركة روج أوفا" لا تمتلك العدد والسلاح الكافي لمواجهة الوحدات الكردية في سورية.

ثالثا: غض الطرف عن فصائل عسكرية تابعة للجيش الحر، للقيام بعمليات عسكرية منفردة ضد "قوات سورية الديمقراطية"، فمثل هذه العمليات ستكون خارج التفاهمات الإقليمية الدولية، ما يسمح لأنقرة بهامش من التحرك والضغط، وقد لمحت أنقرة إلى ذلك.
وفي حال فشلت سياسة الاختراق من الخلف، لن يكون أمام أنقرة سوى خيارين: اختراق الحدود السورية عسكريا نحو تل أبيض، شمالي الرقة، وإقامة إسفين جغرافي بين شرق الفرات وغربه، لكن هذه الخطوة ستضع نهاية للتفاهمات التركية مع روسيا والولايات المتحدة، وقد تكون كلفتها كبيرة على أنقرة. الاكتفاء بالواقع الحالي وما حققته "درع الفرات"، والعمل على تحقيق إنجازات اقتصادية في مناطق سيطرتها، وقد لمح الوزير تيلرسون في أنقرة إلى أن واشنطن قد تساهم في إعمار منطقة "درع الفرات". ومن شأن إعادة الإعمار وتقديم إنجازات خدمية وتشكيل هيكل سياسي مستقر أن يمنح أنقرة وجودا مستداما في المنطقة، ويثبت إنجازاتها العسكرية في بيئة قابلة للتغيير بشكل سريع.

اقرأ المزيد
٣ أبريل ٢٠١٧
مفاوضات سورية في دوامة

انتهت مفاوضات جنيف 5 مثلما انتهت سابقاتها، أي من دون أي تقدم في المباحثات على أي سلة من السلال التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا (الحكم الانتقالي، الدستور، الانتخابات، مكافحة الإرهاب)، ومن دون أي نتيجة تستحق الذكر على كل الأصعدة، وبديهي من دون تمكين أي من الطرفين المتصارعين الادعاء بتحقيق مكاسب سياسية على حساب الطرف الآخر.

واضح من ذلك أن هذه المفاوضات إن استمرت على هذا النحو ستصبح عبارة عن مجرد مفاوضات علاقات عامة ولتقطيع الوقت، وتبرئة ذمة المجتمع الدولي من المسؤولية عن الكارثة السورية ومآسي السوريين؛ تماماً مثلما حصل في تجربة الفلسطينيين في مفاوضات أوسلو (1993) مع الإسرائيليين، التي بات لها قرابة ربع قرن، وكأننا إزاء مفاوضات عبثية أخرى.

المسألة الأساسية التي يجب إدراكها والتركيز عليها أن المفاوضات في شأن مستقبل سوريا لا تجري، في حقيقة الأمر، بين الطرفين اللذين يجلسان على طاولة المفاوضات (النظام والمعارضة)، وهما لم يفعلاها أصلاً إلا في جلسات بروتوكولية أو افتتاحية، وذلك بسبب أن الأطراف الدولية والإقليمية باتت هي التي تتحكم بالصراع السوري، في القتال والهدن، في التسوية والصراع المسلح، في تقرير استمرار الصراع أو فرض الانتقال السياسي؛ هذا أولاً.

ثانياً، أن الطرفين المتصارعين لا يستطيع أي واحد منهما التغلب على الآخر، أو فرض الحل الذي يريده، إذ لم يبق للنظام الذي تآكلت قواه، ما يستطيعه في سبيل ذلك، سيما بعد أن بات واضحا أنه أضحى مرتهنا للطرفين الروسي والإيراني. في المقابل فإن المعارضة لم تستطع أن تراكم من القوى ما يسمح لها بإسقاط النظام، وإنهاء الصراع لصالحها، فلا أوضاعها تمكنها، ولا إمكانياتها تتيح لها ذلك، على نحو ما شهدنا من تطورات عسكرية في الفترة الماضية.

ثالثاً، كل ذلك يفيد بأن كلمة السر بشأن وقف الصراع الدامي في سوريا لم تصدر بعد، من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وإن هذه القوى لم تصل حتى الآن، إلى القناعة بإمكان إنفاذ مصالحها أو إقناع الأطراف الأخرى بأخذ مصالحها في عين الاعتبار.

في هذا الإطار يمكن استعراض وضعية القوى الفاعلة في الصراع السوري، أي إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة (مع غياب النظام العربي أو تشتت مواقفه). ففي ما يتعلق بإيران فهي باتت تشعر أن وجودها في سوريا بات مهدداً سيما بعد دخول روسيا وتركيا على الخط، خاصة من جهة روسيا التي تعتقد أنها هي صاحبة الكلمة الأولى في سوريا، مع اعتقادها أيضا بأنها هي التي أنقذت النظام من الانهيار وليس إيران. هذا الوضع لا يناسب السياسات الإيرانية في المنطقة، ومع كل الأثمان التي دفعتها هذه الدولة التي تمتلك الحجم الأكبر من القوى الخارجية في سوريا، مع ميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية، ومع كل الدعم المادي الذي أغدقت به على النظام.

تركيا تعتقد أن أي بحث في صيغة لسوريا المستقبل ينبغي أن يأخذ في الاعتبار مصالحها كدولة جوار واعتباراتها الأمنية، وبالأخص منها الحؤول دون قيام منطقة حكم ذاتي كردية في الشمال السوري، تحديدا في غرب الفرات، وهذا ما حاولته بإطلاقها عملية درع الفرات، أواخر الشهر الماضي، وما تحاوله من خلال ضغوطها للمشاركة في معركة إخراج داعش من الرقة.

روسيا غير متيقنة بعد ما إذا كانت مصالحها في سوريا باتت مترسخة وتلقى قبولاً من المجتمع الدولي، مع وجود منافستها القوية إيران، ثم الولايات المتحدة التي تبعث رسائل غامضة، توحي أحيانا بأنها تستدرج روسيا للمزيد من التورط في سوريا وتركها لتتدبر أمرها وحدها، في حين توحي أحيانا أخرى أنها تأخذ مصالحها بالاعتبار وأنها توكلها في إدارة الملف السوري.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن الولايات المتحدة هي الدولة التي تملك كلمة السر لوقف الصراع الجاري في سوريا، وأنها الدولة الأكثر قدرة على فرض الحل الذي تريده على مختلف الأطراف الداخليين والخارجيين، وهي الدولة التي تملك إمكانيات استثمار هذا الصراع بل وتوزيع هامش تدخّل الأطراف الآخرين، أو حصصهم من النفوذ، من مدخل الصراع أو التسوية السوريين.

بيد أن المشكلة أن الولايات المتحدة مازالت لم تحسم أمرها في هذا الأمر، وأنها غير مستعدة على ما يبدو للدخول في مساومات مع الأطراف الآخرين، ولا سيما مع روسيا بخصوص العديد من الملفات. يخشى على ضوء ذلك أننا سنشهد لاحقا جنيف 6 و7 و8 الخ وذلك بانتظار كلمة السر الأميركية.

اقرأ المزيد
٢ أبريل ٢٠١٧
كارثة التمذهب التاريخية

تقوم إيران بكل ما تستطيعه لإحداث تغيير سكاني واسع بين دمشق وبيروت، وصولا إلى القلمون الغربي، مرورا بسرغايا ومضايا وبلودان والزبداني وحدودها مع لبنان، استكمالا للتغيير السكاني بين العراق ودمشق الذي يبقي طريق طهران/ ضاحية لبنان الجنوبي مفتوحةً أمام عسكرها وحزب الله وغيره من مرتزقتها. وهناك تسريباتٌ عديدة حول تمسّك حسن نصر الله بوضع طريق دمشق/ بيروت تحت إشرافه بعد إنجاز الحل السياسي. وعقد "هدنة" مع القلمون الغربي، تمكن السكان من ممارسة حكم محلي، ليس النظام مرجعيته، بل حزب الله، الذي سيمسك بمفاصل المنطقة الأمنية والإدارية. هناك، أيضا، معلومات حول وصول إيرانيين إلى دمشق ومحيطها. ويعني استيطانهم فيهما تنظيف المنطقة عقديا وتطهيرها عرقيا، وانتفاء أي تهديد للحضور الإيراني على محور مزار الشريف/ بيروت، وطريق دمشق/ بيروت ومنطقة القلمون التي تشهد إنشاءات طوبوغرافية، لم يسبق للسوريين أن شاهدوا مثيلا لحجمها، تنفيذا لمخطط متفقٍ عليه بين الأسد وطهران، يفرغ المنطقة تدريجيا من سكانها الأصليين، أو يجبرهم على الرضوخ لما تريده إيران، من خلال تعريضهم لضغوطٍ منها تقديمهم إلى محكمة الإرهاب وإدانتهم ومصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة، ثم بيعها "بطرقٍ قانونية" إلى الإيرانيين والوافدين إليها من جنوب لبنان الذين سيشكلون، عندئذٍ، كتلة سكانية متجانسة، وكتيمة تغطي وجود الحزب والحرس الثوري بكثافة ثقلها البشري، وتحقق التبدل العقدي والبشري المطلوب لعزل المناطق المعنية عن سورية، تمهيدا لدمجها في نسيج مجتمعي/ جغرافي، يختلف عن نسيجها الراهن، انطلاقا من أساسين وضعهما بشار الأسد، وقال في أولهما إن السوري ليس من ولد وعاش في سورية ويحمل جنسيتها، بل من يدافع عن نظامها. وقال في ثانيهما إن عمليات الهدن والترحيل القسري التي طاولت تسعة ملايين مواطنة ومواطن من سورية أدت إلى "تحسين نسيج سورية الاجتماعي".

بالمعيار الأول، يصير الإيراني الذي يقتل الشعب السوري سورياً، ويغدو المواطن السوري أجنبيا يجب ترحيله بالقوة من وطنه، ونزع جنسيته، ويصير تهجير نصف الشعب "خطة وطنية" مدروسة، هدفها تحسين النسيج السكاني للبلاد. والحال لا بد من ملاحظة اندراج "الهدن" التي تفرضها الأسدية على مناطق تنفرد بها وتفتك بأهلها، ضمن الترحيل القسري الذي تفرضه بالحصار والتجويع والقصف العشوائي بالبراميل المتفجرة، وتفضي إلى إفراغ قرى وبلدات ومدن كثيرة من سكانها.

هذا التطور الذي يغير ما أنتجه تاريخ سورية على صعيد بنيتها البشرية، بقوة المذهبية الإيرانية/ الأسدية، يبدو أنه سيلاقيه، بعد اليوم، تطور سيترتب على مذهبية أحد تنظيمات الإرهاب، عنيت "جبهة النصرة" التي عقدت اتفاقا مع إيران حول ترحيل قسري لمواطنين سوريين من ريف دمشق والقلمون إلى كفريا والفوعة، ومن هاتين القريتين إلى ريف دمشق، والسؤال هو: من فوّض الجبهة بتغيير وتدمير حياة أكثر من مائة ألف مواطن يعيشون في ريف دمشق وإدلب؟ وهل أهالي كفريا والفوعة إيرانيون كي تقرّر طهران ترحيلهم عن بيئتهم التاريخية، وإخراجهم من موطنهم الأصلي، وإعطاءهم موطن سوريين آخرين، لحساباتٍ تتصل بمصالح إيران وخططها، سيكونون ضحاياها الأبديين بما تضمره من تلاعبٍ بحياة شعبهم، الذي يمثل جريمةً ضد الإنسانية، لا تقرها قوانين أو أعراف أو قيم دينية أو دنيوية، لن يبقى بعدها أحد من مواطني المنطقتين الأصليين في بيته، بسبب الضغوط التي سيتعرّض لها، وستخيره بين قبول الرحيل القسري والإعدام كإرهابي أو الانضمام إلى شبيحة النظام ومرتزقته، والقتال ضد رفاق الأمس في الجيش الحر، مثلما حدث بعد هدنٍ عديدة، حولت قسما كبيرا من مقاتلي الغوطة الغربية إلى مرتزقةٍ، يقاتلون رفاق الأمس في القابون وبرزه وجوبر والقلمون ... إلخ.

بالترحيل القسري للسكان من ريفي دمشق وإدلب، يقع اختراق قاتل، سيساعد الأسد على استعادة كل شبر من سورية، كما وعد أخيراً. والآن، من كان يصدق أن جبهة النصرة التي قضت على فصائل كاملة من الجيش الحر، بحجة التعاون مع الخارج والتهاون حيال "الرافضة"، هي التي ستتفق مع "رافضة" طهران على ترحيل سوريين من أرض سفك الآلاف منهم دماءهم كي تظل حرة؟

هذه بعض ثمار التمذهب السامة التي لا عذر لمن ينخدع بعد اليوم بها، وبمن يمارسونها؟

اقرأ المزيد
٢ أبريل ٢٠١٧
الصراع على سورية التي لا نعرفها

تؤكّد من جديد مجريات التفاوض بين النظام السوري والمعارضة في جنيف أنها مجرّد جلساتٍ غايتها صورة إعلامية تزيح الكاميرا عن المكان الحقيقي الذي يجري فيه التنازع بين الأطراف الدولية والإقليمية، في ملفاتٍ كثيرة، تستخدم فيها الحرب السورية أداة ضغط لتعزيز المكانة والنفوذ داخل سورية.

لم يعد الصراع في سورية فقط بين السلطة والمعارضة، أو بين النظام وأغلبية السوريين، بعد أن أضحى الصراع "على سورية" يسبق مسألة "الصراع في سورية" ويغلبها، إذ صار اللاعبون الخارجيون أكثر تقريرا بمصير الصراع السوري من الفاعلين الداخليين؛ أي النظام والمعارضة بكل تلاوينها وأشكالها. أكثر من ذلك، أصبح الفاعلون الداخليون مجرّد أدوات ضغط بيد الخارج، وباتوا، في نظر بعض أطياف المعارضة، بمثابة عبء على الثورة وسلاح ضدها وليس معها.

وقد كنا شهدنا، خلال السنوات الماضية، انزياحات لأدوار دول وتقدم لأخرى، وما ذلك إلا بدفعٍ من القوة الأكثر تأثيراً لتوريط هذه الدول، وجعلها في مواجهة بعضها بعضاً، داخل المساحة السورية. وعلى هذا، يمكن ملاحظة عدة متغيرات في الصراع الدولي والإقليمي على سورية:

أولاً، دخول الولايات المتحدة الأميركية على خط الصراع المباشر بأدوات عسكرية على الأرض السورية، حيث توجد قواتها، لا سيما في شمال سورية وشرقها. وبهذا، نجد أن الولايات المتحدة تعيد، في كل مرة، جدولة الأولويات، حسب ما يتفق والدور الذي ترغب به، موضحةً بذلك أنها ستبقى اللاعب الأساسي الذي يقرّر تموضعات بقية اللاعبين، بل وحصصهم داخل الملفات، أو حتى خارجها، وهي بذلك لا تمارس دورها باعتبارها "ضمير العالم"، حسب تصريح مندوبتها الدائمة في الأمم المتحدة، بل تمارس دورها العسكري في قيادة العالم، حيث رغباتها ومصالحها؛ بما فيها مصالح إسرائيل المعنية بحمايتها مباشرة.

ثانياً، إعلان تركيا وقف عملية "درع الفرات" التي بدأتها أواخر العام الماضي، بعد استنفاد أغراضها، حسب تصريحها، ولا سيما بخصوص الحؤول دون قيام منطقة حكم ذاتي كردية غرب الفرات. وعلى الأرجح، كان هذا القرار تعبيراً عن تفاهمات دولية جديدة، تعيد صياغة حجم الأدوار المسموح بها لكل الأطراف حدودياً أو داخل الأراضي السورية.

ثالثاً، فشل روسيا بفرض حل من طرف واحد من دون العودة إلى الإدارة الأميركية، على الرغم من الاتفاقات الروسية التركية الإيرانية، وهو ما استوجب تعطيل مفاوضات أستانة منتصف شهر مارس/ آذار، ولاحقاً حالة الجمود في مفاوضات جنيف 5.

رابعاً، تبلور نوع من توافق دولي وإقليمي على تحجيم دور إيران في العراق وسورية، علما أن هذا التوافق ينسجم مع طموح روسيا بالاستفراد بتقرير مصير سورية، باعتبارها منطقة نفوذ روسية.

ووفقاً لما تقدّم، إننا أمام خريطة حل جديدة، ربما تستغرق وقتاً أطول في استمرار الصراع لتصفية نفوذ الأطراف، وليس لتقوية طرفٍ على حساب آخر، كما يتصور بعض النظام، أو بعض المعارضة المسلحة، كما يجري الآن في هذه المعركة أو تلك. وقد أثبتت الأحداث، منذ معركة حلب وحتى معركة دمشق (أخيرا)، أن الانتصارات والهزائم تتساوى في معادلات الصراع الذي تم تدويله، واستخدمت الأطراف المحلية (نظام ومعارضة) فيه وقوداً في معركة التحاصص الدولية والإقليمية.

ومن المؤسف أن "المعركة" التفاوضية الحاصلة في جنيف أيضاً هي مجرد استمرار لعملية التدويل الجارية. لذا، ليست حصّة المعارضة السياسية فيها أوفر حظاً من حصة رديفتها العسكرية، حيث المنصات، بكل مسمياتها، تحولت أيضاً أدوات، كما الفصائل تميل حيث يميل هوى الداعمين الدوليين والإقليميين، وهو الآن، حسب المعطيات، ليس بصدد إنتاج حلّ، بقدر ما هو بصدد إنتاج توافق تتحاصص به الدول المعنية، على كل الملفات، من أوكرانيا إلى ملف الغاز مروراً بأمن إسرائيل وترتيبات السلام الشاملة في المنطقة، وصولا إلى الملف الأكثر سخونةً، وهو ملف إعادة الإعمار في سورية. ويذكر أن هذه هي "السلة الخامسة" التي لوح بها مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، أخيرا، ولعلها السلة الوحيدة التي يمكنها إنتاج حل يمهد لوقف المقتلة السورية الجسدية، لتبدأ بعدها حفلة التهام الجسد الاقتصادي السوري المستقبلي.

على أي حال، علمتنا السنوات الست الماضية أنه ما من ثابتٍ في العلاقات الدولية إلا المصلحة الاقتصادية، المتغيرة هي أيضاً باستمرار. ولهذا، من المبكّر معرفة طبيعة الأدوار الجديدة المنوطة بكل دولة، والتي تتقارب أو تتباعد مع مصلحة الدولة الراعية لتوزيع الأدوار والغنائم، وحتى توزيع الصراعات في المنطقة، تماشيا مع منطق أن تبقى إسرائيل آمنة، وما يجاورها دولٌ تتصارع حول حقها في الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية، وإعادة استكشاف الوسائل التي تمكن مواطنيها من سد رمق الحياة ليس أكثر، لعقود قادمة تتغير في أثنائها الأولويات، كما تموضع الدول الشقيقة والصديقة والعدوة.

وتبقى روسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، ومعهم الولايات المتحدة، تشد كل منهم الحبال وترخيها في الصراع على سورية، بينما تتحقق الفرصة المتاحة لرسم خريطة حل، ليست هي ما خرج الشعب السوري منادياً بها، وليست سورية القادمة هي سورية التي عمل عليها النظام، تدميراً وتمزيقاً أرضاً وشعباً، كما أنها ليست سورية التي يحاول كل من المعارضة والنظام الإمساك بمقاليد حكمها، وإن توهما ذلك، فهذا صراع على سورية التي لا نعرفها.

اقرأ المزيد
٢ أبريل ٢٠١٧
ترامب "يسرق" الأسد من خامنئي

ذهبت العلاقات الاميركية - الايرانية الى تصعيد متقدم خرج الى العلن في الساعات الماضية على نحو غير مسبوق منذ أعوام عدة. ومن أحدث الدلائل ما أوردته وكالة أنباء "فارس" الايرانية الرسمية تحت عنوان: "وزير الدفاع الايراني: العسكريون الاميركيون في الخليج الفارسي لصوص مسلحون". الظروف المباشرة التي جاء فيها كلام الوزير الايراني العميد حسين دهقان مرتبطة بشهادة قائد القيادة المركزية الاميركية جوزف فوتيل أمام مجلس النواب حيث عرض لنشاطات إيران في تهريب الاسلحة الى الحوثيين في اليمن وتهديد الملاحة عند مضيق هرمز ومضيق باب المندب، قائلا: "إن هدف إيران هنا هو الهيمنة الاقليمية. إنهم يريدون ان يكونوا القوة السائدة في المنطقة".


أما الظروف المتزامنة مع هذا التصعيد في العلاقات بين طهران وواشنطن فترتبط بالتصريح المفاجئ للسفيرة الاميركية لدى الامم المتحدة نيكي هايلي التي قالت إن "أولويتنا لم تعد إبعاد الاسد عن السلطة"، وهو موقف يمثل بحسب المراقبين تغييرا كبيرا عن موقف إدارة الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما من القضية. وكان من المفترض ان يثير هذا التحوّل في الموقف الاميركي إبتهاجا في طهران التي تقاتل بضراوة من أجل بقاء رئيس النظام السوري في منصبه. لكن واقع الامور يشير الى تحوّل في الميدان بما لا تشتهيه سفن الجمهورية الاسلامية، إذ نقلت وكالة أنباء الاناضول التركية عن رئيس الشؤون الاستراتيجية في "معهد الدراسات السياسية والدولية" التابع لوزارة الخارجية الايرانية مصطفى زهران في مقال نشره على موقع "ديبلوماسي إيراني" قوله ان بشار الاسد "يدير ظهره لإيران ويتجه الى روسيا". إن كلاما إيرانيا من هذا النوع ينطوي على خيبة أمل بدأت تتسرب الى المشروع الطموح للمحافظين الايرانيين والذي يسعى الى نفوذ امبراطوري يمتد من بحر قزوين الى البحر المتوسط.

لا يستطيع المرء التكهن بما سيؤول اليه التصعيد اللفظي بين إدارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب وبين المرشد الايراني الامام علي خامنئي. لكن الامر مفتوح على كل الاحتمالات بما في ذلك احتمال الاشتباك الميداني الذي هو في المرحلة الراهنة مرجّحا أن يكون غير مباشر على امتداد الساحات من اليمن الى العراق فسوريا وانتهاء بجنوب لبنان. من أجل فهم الارتياب الايراني بسلوك الاسد أكثر، تفيد معلومات ان موسكو لفتت الرئيس السوري أخيرا الى ضرورة الانضباط في مسار الحل الذي يجري صوغه بين روسيا والولايات المتحدة. وتلمّح هذه المعلومات أيضا الى أن الاشتباكات التي وصلت أخيرا الى داخل دمشق تمثل أحد أوجه الضغط الذي مارسته إدارة الرئيس فلاديمير بوتين على الاسد من خلال التراخي في الدفاع عن العاصمة السورية، مما يشكل تنبيها الى ما ستنتهي اليه الاحداث إذا ما قررت موسكو إدارة الظهر لحليفها السوري. كأننا نفهم من كلام وزير الدفاع الايراني أن الاميركيين "لصوص سرقوا الاسد أيضا"!

اقرأ المزيد
٢ أبريل ٢٠١٧
«القوميون» العرب وإيران

لم يكشف الربيع العربي، وبخاصة في سورية والعراق، جديداً تماماً في ما يتعلق بموقف «القوميين واليساريين» العرب، لكنه فضح هذا الموقف بشكل غير مسبوق. موقف هؤلاء من إيران يقدم نموذجاً عملياً أمثلته كثيرة. دونك مثلاً موقف الرئيس السوري بشار الأسد، وهو الأمين العام لـ «حزب البعث العربي الاشتراكي» في «القطر» السوري. منذ اليوم الأول لتوليه السلطة عمل الرئيس على تقوية علاقته بإيران، وأعطى هذه العلاقة أولوية على علاقاته العربية. يقال إنه فعل ذلك لأنه لم يعد مطمئناً لدعم «إخوانه» العرب، وبخاصة بعد الغزو الأميركي للعراق.

تضاعفت حاجة الأسد إلى إيران بعد وصول موجة الربيع العربي إلى سورية. وكانت الاستعانة بإيران عسكرياً ومالياً وسياسياً لمواجهة الثورة منذ يومها الأول. لم يستعن الأمين العام لحزب «البعث العربي» بأي دولة عربية، بما في ذلك العراق وهو تحت النفوذ الإيراني (بدأت الاستعانة بالميليشيات العراقية بعد صيف 2014 عندما استولت «داعش» على مدينة الموصل). الشاهد هنا أن رئيس «القطر» السوري وهو يعمل بشعار الحزب «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، لم يكن في وارد توحيد شعبه والتواصل معه بعد الزلزال. كانت أولويته العلاقة مع إيران. وانتهى الأمر به أن أعاد سورية مسرحاً لصراعات إقليمية ودولية، تعج بمختلف الجيوش والدول والميليشيات والأحزاب، وأعاد احتمال تقسيم سورية من جديد.

يمثل الأسد نموذجاً لطبقة سياسية تمسك بالقرار داخل سورية وخارجها. هناك الطبقة السياسية التي تحكم العراق منذ سقوط النظام السابق على يد الأميركيين. إيران هي القاسم المشترك بين «القطرين» السوري والعراقي. ثم هناك موقف المثقفين الذين يحسبون أنفسهم على التيارين القومي واليساري. وأمثلة هؤلاء كثيرة ينتمي أغلبها إلى ما يعرف عربياً بفسطاط «الممانعة»، وهو فسطاط يعتمد على إيران وحساباتها، وليس على «الوطن العربي» وهمومه. سأتفادى إعطاء أسماء هنا حتى لا يأخذ الحديث طابعاً شخصياً. خذ مثلاً كاتب يعتبر نفسه قومياً حتى العظم، وينتمي بثقافته ومفرداته إلى مرحلة ستينات القرن الماضي. كان رئيس تحرير لصحيفة اضطرت إلى التوقف. منذ أن انفجر الربيع العربي كانت كل مقالات هذا الكاتب تقريباً تعبر عن خوف متمكن من أن يؤدي هذا الربيع إلى تنحية روابط الهوية العربية لمصلحة الإسلام السياسي. في الوقت ذاته، وبتأثير وهج الثورات، لم يتردد في الاعتراف بأنه ليس «في الأرض العربية من أدنى مشرقها إلى أقصى مغربها نظام يستطيع الادّعاء أن ممارساته مطابقة للشعارات التي يرفعها، لا فرق بين جمهوري وملكي وجماهيري وسلطاني، ويساري اشتراكي ثوري، ويميني رجعي إمبريالي»، وهو اعتراف «للمراوغة» فرضته ظروف الثورة، أكثر منه قناعة واعية وراسخة، لأن الكاتب نفسه يعاني من ظاهرة عدم التطابق هذه. مع الجملة السابقة يتركز هاجسه على ما يسميه بـ «الملكيات المذهبة» بالنفط. وهو تعبير هجائي بصيغة حداثية لفكرة قديمة لـ«عروبيي» الستينات عن الملكيات الرجعية. يتكامل مع ذلك أنه مع خوفه على الهوية القومية العربية، تغيب إيران ودورها التخريبي المناهض للعروبة عن كل مقالاته تقريباً. كأن هذا «العروبي المعتق» لا يرى بحدقته القومية أي وجود أو دور لإيران والميليشيات الشيعية التابعة في ما يحدث في المنطقة قبل وأثناء الربيع العربي، وبخاصة في العراق وسورية.

مثال آخر مختلف لأستاذ جامعي مصري محترم في العلوم السياسية وينتمي إلى التيار الناصري، يشترك مع بقية القوميين العرب في تغييب إيران ودورها عن كتاباته، لا يريد كما يبدو تحميلها أي مسؤولية في الحرب الأهلية في كل من العراق وسورية، ولا يريد تبرئتها تماماً، وموقفه مرتبك. يتفادى هذا الأكاديمي أيضاً التركيز على الدور السعودي، ربما من باب تحقيق التوازن في موقفه من الرياض (العاصمة العربية) وطهران (العاصمة غير العربية). كتب قبل سنوات مقالة في صحيفة «المصري اليوم» يعترض فيها على زيارة الرئيس السابق محمد مرسي للسعودية في صيف 2012، وذلك باعتبارها الزيارة الأولى له خارج مصر. قدم مبررات رفضه، وكان أغربها وأكثرها تناقضاً مع خطه السياسي قوله: «كما كنت أفضل ألا يزور الرئيس المصري السعودية قبل أن تكون مصر استعادت علاقتها الدبلوماسية الكاملة مع إيران». هكذا يرهن كاتب ناصري العلاقة بين دولتين عربيتين للعلاقة مع دولة غير عربية وتلعب دوراً مناهضاً للعروبة التي يؤمن بها.

يقال أحياناً إن تفسير مثل هذه المواقف الصارخة في تناقضاتها يكمن في أن أصحابها أسرى حال كراهية نفسية مترسبة لديهم تجاه السعودية على خلفية الصراع السعودي المصري إبان ما كان يعرف بالحرب العربية الباردة في ستينات القرن الماضي، وإذا كان هذا صحيحاً، وهو احتمال وارد جداً، فإنه يعبر في أحسن الأحوال عن سذاجة سياسية وعن هشاشة الرؤية القومية قبل أي شيء آخر. ومع أن هذا عامل مشترك، إلا أنه لا يعني أن القوميين العرب كتلة واحدة، فبعضهم حين يتفادى اتخاذ موقف نقدي من إيران، إنما يفعل ذلك تفادياً لأن يؤخذ هذا على أنه تأييد للسعودية، واعتراف بأنها الطرف العربي الذي يقود المواجهة مع إيران في المنطقة. كان بإمكان هؤلاء، بالمعيار القومي، إعلان رفضهم الدور الإيراني وتوظيفه الطائفية وتحالف الأقليات لإعادة تأسيس السلطة في سورية والعراق واليمن، بما يشكل تهديداً للدولة الوطنية العربية، ولفكرة القومية العربية. في الوقت ذاته، كان بإمكانهم عدم السماح بتجيير هذا الموقف لمصلحة السعودية إذا كانوا يرون ذلك، لكنهم لم ولن يفعلوا لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه.

البعض الآخر يجمعون الانتهازية السياسية إلى النفاق القومي. لا يمكن اتهام هؤلاء بالسذاجة، لأنهم يتخذون القومية لبوساً لشيء آخر. حزب البعث السوري بقيادة الأسد، وأغلب مثقفي «الممانعة» في الشام خير معبر عن ذلك. بالنسبة إلى هؤلاء، الانتماء إلى حزب البعث ليس تماماً انتماء إلى أيديولوجيا القومية العربية كما يقولون بها، ولا للفكر الاشتراكي، هو غطاء للبحث عن مساواة ليست طبقية، بل مذهبية تكرس المذهبية بما يسمح بتحالف الأقليات أمام الأغلبية السنية في سورية، ثم على مستوى العالم العربي. أما في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي، حيث لا أغلبية سنية، بل كما يقال أغلبية شيعية، فهناك طائفية معلنة بشكل سافر لا تأخذ بفكرة تحالف الأقليات بعد.

المدهش أن كل هذا حصل ويحصل للعالم العربي بدعم وتشجيع معلن من إيران، وبعد ضجيج قومي صم الآذان ولم يفرض نفسه على الجميع كإشكال مقلق. يا ترى كيف؟ ولماذا؟

اقرأ المزيد
١ أبريل ٢٠١٧
أبواب جنيف المغلقة

أتوقع أن تنتهي الجولة الخامسة من مفاوضات جنيف السورية دون أن تحقق شيئاً في المضمون، وسيزداد شعور السوريين بالضيق مما قد يرونه عبثاً، وعلينا أن نعذر أولئك المنتظرين في مخيمات اللجوء في خيام تذروها الرياح والعواصف ويحرقها الهجير، لبارقة أمل لم تظهر بعد، ويبدو أنها لن تظهر من جنيف، وأن نصبر على من باتوا يكرهون رؤيتنا في قاعات المؤتمرات وأروقة الأمم المتحدة، ومن سيذكروننا بقول شاعرنا ابن حوران المبدع، أبي تمام «السيف أصدق إنباءً من الكتب»! ومن حقهم أن يفقدوا إيمانهم بجدية التطلع إلى حل سياسي وهم يرون النظام وحلفاءه يزعمون الموافقة على وقف إطلاق النار بينما طائراتهم تدمر القرى والمدن وتهجر السكان وتقتل البشر، وعلى ملأ من العالم فشلت اتفاقية وقف الأعمال العدائية التي وقعها لافروف وكيري في فبراير 2016 ولم تبد أي من الدولتين حرصاً على توقيع وزيري خارجيتهما. وكذلك لم يلتزم النظام وحلفاؤه باتفاقية وقف إطلاق النار التي أبرمت في ديسمبر في أستانة، بل إن النظام وحلفاءه صعدوا القصف في حمص والغوطة وفي عدد من المحافظات، وهجروا أهل الوعر، واليوم يتابعون تهجير أهل مضايا والزبداني ويخططون لتهجير أهل الغوطة، ويهدد «حزب الله» السوريين بالباصات الخضر التي تنقل السكان قسراً من بيوتهم إلى المخيمات لإحلال مستوطنين غرباء مكانهم.

وأما مشاركة النظام في مفاوضات جنيف فهي شكلية هدفها إبراز إشاعة كون النظام يبحث عن حل سياسي مع أنه يتابع الحسم العسكري، وقد أصر على أن يناقش مع الأمم المتحدة ملف الإرهاب وحده لأنه يتهم المعارضة السياسية كلها بالإرهاب، متجاهلاً أنه ارتكب أفظع الجرائم الإرهابية في تاريخ البشرية! فلم يسبق أن قصفت دولة شعبها بالكيماوي وبكل الأسلحة المحرمة، أو أبادت مدناً هي محافظاتها، ولم تتسبب دولة في التاريخ في هجرة أكثر من 60 في المئة من أبناء شعبها تشردوا في أنحاء الأرض، ويبدو النظام مستعداً لتمزيق سوريا وتقسيمها إلى دويلات متصارعة مقابل أن يحتفظ بكرسي رئاسة لم يعد لها أي حضور أو سيادة.


لقد فقد الداعمون للنظام احترامهم الشكلي له فقد بات «حزب الله» والإيرانيون يفاوضون على إخراج أهل الفوعة وكفريا من بيوتهم ونقلهم إلى الزبداني اللتين سيقوم «حزب الله» وإيران بتهجير سكانهما قسراً وعنوة على مرأى العالم كله، ليجعلوا من ريف دمشق الغربي مستعمرة شيعية هدفها حماية طريق لبنان والإحاطة بعاصمة الأمويين التاريخية برايات طائفية.

ويصمت النظام على فجيعة أخرى تحدث في شمال سوريا، حيث تذكرنا الأحداث المتلاحقة التي يسارع فيها حزب «البي يي دي» لاقتطاع محافظات سورية بذكرى مرور مئة عام على وعد بلفور، ولا أدري من هو بلفور القرن الحادي والعشرين الذي يمكن أن يكون قد وعد بعض الغلاة من الأكراد بإقامة دولة لهم في الشمال السوري، فهؤلاء يهددون اليوم بضم محافظة الرقة إليهم! وهم يقولون إنهم يريدون فيدرالية ضمن سوريا، ولكن هناك من يغريهم بالانفصال رويداً رويداً لإذكاء صراع عربي كردي لم يسبق أن حدث في تاريخ العلاقة المديدة بين الكرد والعرب. ولئن كنا نحرص على إنصاف الكرد وتمكينهم من حقوقهم السياسية والثقافية واللغوية والإدارية ولدينا في رؤية الهيئة العليا للمفاوضات بيان صريح بدعم ما سميناه القضية الكردية ضمن بوتقة القضية السورية عامة، لكننا أشد حرصاً على وحدة سوريا أرضاً وشعباً متعدد الأعراق والأطياف. ولا نقبل بحال أن يتقاسم السوريون بلادهم وأن يمزقوها إلى دويلات صغيرة متصارعة، والعجب أن يدعم النظام توجه هذا الحزب الكردي المتطرف في سلوكه وفي مطالبه، مما يجعلنا نشك بوجود خطة تقسيم سرية قد تظهر شيئاً فشيئاً، وتفسر حرص النظام على تهجير الآلاف من أهل السنة من حمص ومن دمشق وريفها إلى إدلب ونقل شيعة إدلب إلى مضايا والزبداني، والعالم صامت يتفرج.

ورغم ضعف تفاؤلي بمفاوضات جنيف أجدني حريصاً على استمرارها لمجرد أنها تجعل القضية السورية حارة وساخنة وعلى مسرح دولي كبير، وقد يكون التوقف عن مفاوضات سياسية مبرراً لجعل القضية منسية دولياً أو هامشية.

ولكنني أدرك أن أبواب جنيف مغلقة أمام الحل السياسي، ولن تفتح إلا حين يظهر اتفاق دولي يتخذه مجلس الأمن بقرار صارم دون ظهور لـ«الفيتو»، ولا ندري متى يحدث، ولكننا ندعو الله أن يكون قراراً لصالح شعبنا وألا يكون هناك وعد مثل وعد بلفور لأحد، فإن لم يكن فستبقى شلالات الدم تفيض ولن يوقفها غير حل عادل.

اقرأ المزيد
١ أبريل ٢٠١٧
ما بعد الرقة... جغرافيا سياسية جديدة!

التوجه نحو تحقيق تقدم سريع باتجاه الرقة يشكل واحداً من القضايا التي تهدف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى استثمارها لكي تُسجَّل في رصيد أرباحه الإستراتيجية، وقد بات واضحاً بحث ترامب عن مكاسب في السياسة الخارجية للتغطية على إخفاقاته في تحقيق الوعود التي أطلقها في الشؤون الداخلية. وكما بدأت معركة الموصل قبل تبيّن معالم المرحلة التي تلي القضاء على داعش، كذلك تسير المعركة في الرقة من دون الاتفاق على اليوم التالي هناك، أو على الأقل ظهور ملامح العملية السياسية في سورية ومصير نظام الأسد حيث لا تزال إدارة ترامب منكفئة عن إعادة الانخراط في ترتيباتها بقوة.

يتوقف الأمر إذاً على تفعيل الجهد الذي يقوم به التحالف الدولي لمحاربة داعش على المسارين السوري والعراقي انطلاقاً من التوجهات الجديدة التي فرضها ترامب وبعد فترة من الركود أتاحت لروسيا مد نفوذها نحو الشرق والشمال السوري والدخول إلى ملف الأكراد ومناطق نفوذهم.

القضاء على داعش في الرقة قد لا يترك فراغاً هذه المرة، وذلك مع التزاحم والتسابق بين الروس وحلفائهم من جهة وقوى التحالف الدولي من جهة ثانية، لكن لا شك في أن ذلك يترك تساؤلات حول خارطة النفوذ التي تتشكل بعد ذلك ولهذا الأمر اتصاله بعدد من المعطيات. أولاً، الشروع في معركة الرقة من دون تفاهم مع تركيا وتغييب كامل لإيران يترك اثنتين من الدول الإقليمية الفاعلة خارج إطار المكاسب المُحققة ما يعني أن إطالة أمد المعركة ستكون في مصلحتهما.

ثانياً، أن عدم التوصل إلى نزع أسباب التطرف في المنطقة سيضم عملية القضاء على داعش إلى مثيلاتها التي سبق وخبرتها الإدارات الأميركية المتعاقبة بعد احتلال العراق، وأولى هذه المسببات معالجة التوازن الطائفي والإثني بين العراقيين وإزاحة بشار الأسد عن رأس الدولة في سورية وسحب الميليشيات التي تنشرها إيران والحد من تدخلاتها.

ثالثاً، أن التداخل الديمغرافي العربي- التركماني- الكردي في مناطق الموصل والرقة يفترض ترتيب مرحلة ما بعد داعش بدءاً من القوى المحلية التي تتكفل بالتحرير وصولاً إلى الذين يمسكون بالإدارة وإعادة الإعمار، بخاصة أن الإخفاقات العسكرية التي ظهرت في الموصل والكلفة الباهظة على المدنيين تفترض التعويل على الأدوات المحلية في تغيير المعادلة أكثر مما تستوجب اتباع سياسة الأرض المحروقة.

بالتوازي مع ذلك فإن مقاربة ترامب لمحاربة «التطرف الإسلامي» تقوم على المواجهة العسكرية والإيديولوجية المستدامة والحضور العسكري المباشر الذي يحوّل الوجود الأميركي في شمال سورية إلى أمر واقع طويل الأمد ويحرّره تدريجياً من الحاجة اللوجستية لتركيا في ظل التحولات التي تشهدها داخلياً وعلى صعيد علاقاتها الدولية.

وبخلاف الموقف في العراق، فالانتهاء من داعش في سورية يساوي حسابياً ضرورة التفاهم الدولي حول نموذج الكيان الكردي في الشمال وصيغة التعايش مع العرب، وهو ما لم يعد شأناً داخلياً سورياً أو يترافق مع مسارات الحل السياسي، بخاصة أن الأكراد وضعوا في جعبتهم إمكانية التعاون العسكري المزدوج وإقامة قواعد لكل من الولايات المتحدة وروسيا في الوقت ذاته.

روسيا لا تخفي نواياها الحقيقية تجاه القبول بكيان كردي في سورية، هذه فرصتها التاريخية لكي تؤسّس لحقبة تُضعِف تركيا من جهة الشرق وتُشغلها في شكل مستدام. إضافة إلى أنها المدخل لكي يجري تبرير وجودها الطويل الأمد على قسم من الأراضي السورية في إطار الحل الفيديرالي. وقد أتى كلام مساعد وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف واضحاً حين تساءل: «لماذا توافق تركيا على كردستان العراق ولا توافق على كردستان سورية؟»، أو حين عاد ليؤكد أن ذلك «ليس من شأنهم إنما هو شأن سوري»، وأن «الشعب السوري يقرر شكل الدولة والقيادة». الأطروحة الروسية لا تنتبه إلى أن المسألة السورية برمتها باتت خارج إرادة السوريين!

تأتي هذه المقاربة في وقت تبحث موسكو عن ملاقاة الإستراتيجية الأميركية في سورية لتشريع دورها في الحملة على الإرهاب. الرسالة الحاسمة من كل ذلك تكمن في أن تركيا باتت تقف أمام كيان كردي أضحى حقيقة واقعة وهو يحظى بتوافق أميركي روسي له ركائز على الأرض هذه المرة! والأكراد أجادوا تشبيك علاقاتهم ومصالحهم مع كل الأطراف المؤثرين إضافة إلى أنهم لم يتورطوا في الانزلاق إلى مسألة التطرف الإسلامي ما أهّلهم للعب أدوار مهمة في الحرب على الإرهاب.

تركيا تتخوف من تناغم مُطرد في العلاقات بين الأكراد والعلويين تبدو تباشيره واضحة في الساحة السورية وامتداداته في الداخل التركي لديها أسس موجودة. وبالتالي فإن إبقاء تركيا خارج إطار التفاهم في الرقة لن يسهل العملية حتى لو وضع التحالف الدولي كل ثقله في المعركة، بل يُعقّدها إلى حدود بعيدة ويدفع اردوغان إلى التصرف بانفعال مع هذا التحدي. بخاصة أن في عقل العدالة والتنمية التركي أن ما يجري في سورية قد يستهدف تركيا في مرحلة لاحقة، وهذا ما أدركه «مُعلّم» أردوغان ومُؤسّس الحركة الإسلامية الحديثة نجم الدين أربكان الذي كان يردد أنه «عندما يفكر الغرب في الدخول الى سورية فهدفه الأساسي إنما يكون تركيا بالدرجة الأولى». ونشوء كيان كردي تتقاطع في داخله مصالح روسيا والولايات المتحدة ونظام الأسد لن يترك خياراً أمام أردوغان إلا مواجهته.

إمكانية أن تنجح إدارة ترامب في التوفيق بين مصالح تركيا وهدف القضاء على داعش تفترض التفاهم على معالم المرحلة المقبلة وسلّة التطمينات التي تضع ضوابط لعملية تحريك الجغرافيا السورية باتجاه الفدرلة، بخاصة أن استقرار المناطق المحررة من داعش لا يمكن فصله عن مسار العملية السياسية الجارية في جنيف ومصير نظام الأسد وميليشيات إيران واتضاح الدور الذي تلعبه روسيا في شمال سورية.

اقرأ المزيد
١ أبريل ٢٠١٧
معركة استعادة الرَّقة إذ تقترب

حُسمت الترجيحات أو تكاد، حول القوة المخوّلة للسير نحو الرقة، وتطبيق خطة (العزل)، وخوض معاركها رسميّاً، لصالح قوات سورية الديمقراطية (قسد)، والتي يحتكم الأكراد على قيادتها وتوجيهها، حيث يشكلون عمودها الفقري وعقلها المدبّر، وذلك في سعيٍ كرديٍ متواصلٍ ومحموم لقطع أي طريق على أي تدخل تركي.

تضفي معركة عزل الرقة من ثم استعادتها كثيراً من الشرعيّة والسمعة الدولية للأطراف المحليّة والإقليميّة التي ستشارك فيها، وطبيعي أنها ستوثّق العلاقة بين القوات التي على الأرض والتحالف الدولي المناهض لـ "داعش"، لذا تصر تركيا على تقويض كل ما من شأنه تقوية خصمها الكردي اللدود (وحدات حماية الشعب). وفي الأثناء، تتحدث وسائل إعلام تركيا عن حشد أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل على أهبة الاستعداد، للمشاركة في معركة الرقة، بينما تصمّ أميركا آذانها عن سماع مثل هذه الإغراءات التركية المتكرّرة، فوق ذلك أقدمت أميركا وقوات التحالف الدولي على تزويد عملية "غضب الفرات" بالإمكانات العسكرية واللوجستيّة، وعزّزت قدرات "قسد" الناريّة إثر انتقادات خبراء عسكريين أميركيين تحدثوا عن كثافة نارية محدودة، كأحد المشكلات التي ستعترض تقدم "قسد"، وتخفف من حدّة ضرباتها وتقدّمها.

لا يهدف التحالف إلى الحؤول دون مشاركةٍ تركية فحسب، بل إنه، وعبر الإنزال الجوي الأخير غربي مدينة الرقة، وبالقرب من مدينة الطبقة، قطع الطريق على مشاركة القوات الحكومية السورية أيضاً، والتي كانت تتحيّن الفرصة، للمشاركة في هذه العملية، وبالتالي، يعزّز قطع طريق حلب – الرقة بهذا الشكل من نظرية الإبقاء على قوات سورية الديمقراطية قوّة وحيدة على الأرض.

الظاهر حتى اللحظة أن خطة العزل، ومن ثم الاستعادة الأميركية تسير بخطى ثابتة، وعلى ضوء تفاهم روسي - أميركي تُدلل عليه المعطيات على الأرض، كحال عدم إزعاج القوات الكردية شمالاً، وإشغالها في معارك مع الجانب التركي، فقد حالت روسيا وأميركا من تقدم القوات التركية صوب مدينة منبج، بُعيد معارك الباب، كما نشرت روسيا قواتها ومدرَّعاتها مشفوعتين بأعلام روسية وأعلام وحدات حماية الشعب في عفرين ذات الغالبية الكردية، رداً على القصف المدفعي التركي ريف عفرين، ففي سابقةٍ باتت القوات الكردية تردُّ على مصادر النيران التركية، وهو أمر لم يكن، لولا الوجودان، الروسي والأميركي، إلى جوار القوات الكردية، بل فاقم من غضب تركيا مقتل جنديّ تركي داخل الأراضي التركية برصاص قنّاصٍ تابع لوحدات الحماية من الجهة السورية للحدود، لتسرع الخارجية التركية، وعبّر المتحدث باسمها للقول إن صور المقاتلين الروس إلى جانب المقاتلين الأكراد "مزعجة"، وإن على روسيا "احترام حساسيتنا".

يختلف إيقاع معارك الرّقة عن التي حدثت في الموصل العراقية، حيث أن قوات سورية الديمقراطية لا تثير الحساسية التي أثارتها قوات الحشد الشعبي المصبوغة طائفياً، فـ "قسد" باتت تحوي في داخلها حضوراً عربياً وازناً، وإن كانت إدارة القوات تتبع العنصر الكردي، إلا أن الحضور العربيّ يخفف من غلواء المشاعر المتخوفة من انتهاكاتٍ قد تقع على الأرض، بعيد "تحرير" المناطق من سيطرة "داعش"، فحين تمت السيطرة على منبج، ذات الغالبية العربية، لم تشهد المدينة اضطراباً داخلياً، أو عمليات نزوح لاحقة للسيطرة الكردية، الأمر الذي يزيد من مشاعر الاطمئنان لدى الجانب العربي في المقام الأوّل، ويُريح الأميركان والحلفاء من الانتقادات التي قد تطاولهم، في حال تنامت مشاعر الكراهية للقوات البريّة المدعومة أميركياً. يزيد في الافتراق بين مشهدي الرقة – الموصل، أن القوات الحاضرة على الأرض سوريّة ، بمعنى أن الوجود الإيراني في معركة الموصل يكاد ينعدم في معركة الرقة وعملية غضب الفرات، إذ لا قوات إقليمية يمكن أن تساهم في التحرير والاستثمار في المرحلة اللاحقة، فوق ذلك قد تعمد "قسد" إلى تمكين مقاتليها العرب، وحلفائها المحليين، من الظهور في المشهد العام، ما يخفف من نذر الصدام، ومن كوابيس حرب كردية – عربية، يستبعد حدوثها حال استعادة الرقة.

لا تبدو معركة الرّقة بعيدةً من حيث توقيتها، فعلى الرغم من أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) صرحت، على لسان متحدثها أن قرار الهجوم لاستعادة الرقة "لم يتخذ بعد"، في حين تصرح قيادات من "قسد" أن المعركة ستبدأ في أوائل شهر إبريل/ نيسان المقبل. ومهما يكن من أمر، تؤكد سرعة الأحداث على الأرض أن الهجوم على الرقة ليس بعيداً، إذ تعبّر استعادة القرى والنقاط المهمة حول الرقة أكثر من كلام المتحدثين.

لم يعد من الممكن الحديث عن تعطيل معركة استعادة الرّقة، كما لم يعد من الممكن إشراك قوات محلية أو إقليمية في هذه العملية، وكل ما يمكن قوله هو انتظار "أم المعارك" التي ستشهدها الرّقة المكلومة، وما ستسفر عنه من نتائج بالغة الأهمية على المشهدين، السوري والإقليمي.

اقرأ المزيد
١ أبريل ٢٠١٧
لماذا لم تنشأ قضية سوريّة؟

وفقاً للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، هناك اليوم خمسة ملايين لاجئ سوري خارج سورية، وأكثر منهم داخل سورية. أي أن نصف السوريين مقتلعون من بيوتهم، وقرابة ربعهم مقتلعون من بلدهم. أغلب الظن أن الأرقام مقتصدة، لكنْ لا بأس.

المدهش ليس العدد الضخم وحده، فآلة القتل الأسدية– الروسية– الإيرانية قادرة، بالطائرات والكيماوي والبراميل، وبالقصف والغزو على ذلك. المدهش أن هؤلاء الملايين لم يصنعوا في العالم «قضية سورية»، علماً بأن الاقتلاع السكاني، من أرمينيا ومن فلسطين ومن سواهما، لعب دوراً ملحوظاً، مادياً ورمزياً، في التأسيس لـ «قضايا» تلك الشعوب المنكوبة. وقد نشأ من القضايا ما كبر على حساب شعب القضية نفسه. المثال الفلسطيني ساطع في هذا المجال، حيث كثيراً ما سار قتل الفلسطينيين والتشدق بقضية فلسطين يداً بيد!

ما يرفع درجة الإدهاش أن النزوح السوري ترك تأثيرات كونية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. لقد صار أحد البنود في الحملات الانتخابية لعدد من بلدان أوروبا، كما بات يتصل بصعود اليمين الشعبوي فيها.

مع ذلك، لم تنشأ قضية سورية تحرك العالم، كي لا نقول: تهزه. أمر النزوح غلب عليه التعاطي التقني والإجرائي، وفي أحسن الأحوال: الإنساني. أما سياسياً وأيديولوجياً، فالنتيجة غير مشجعة.

سبب ذلك، على الأرجح، كامن في وقوع الثورة السورية خارج الثنائيات المألوفة التي انشطر حولها عالمنا العناصر، كما استقطبت كماً ضخماً من الأفكار والعواطف. فهي ما يصعب ربطه بمألوف الثنائية اليمينية– اليسارية، الأمر الذي يفسر توافق التيارات الأعرض في اليمين واليسار على موقف يتراوح بين تجاهلها السينيكي ومناهضتها اللئيمة. لقد استحالت السيطرة التأويلية على «غموض» الثورة قياساً بتلك الثنائية.

كذلك، وعلى عكس المسائل الأرمنية والفلسطينية والكردية، ليست الثورة السورية ثورة قومية، ولا الموضوع القومي مطروحاً فيها أصلاً. إنها بين سوريين عرب وسوريين عرب، على رغم التقاطع مع المشكلة الكردية في سورية التي، على أهميتها، لا تموه محط التركيز الأصلي.

فوق هذا، فالقرابة التقليدية بين الثورة الديموقراطية وحقوق الأقليات لا تصح في الثورة السورية. هنا تتبدى المشكلة من طبيعة مختلفة تماماً: الأكثرية هي نفسها الأقلية السياسية التي يقع عليها معظم القمع والاضطهاد.

والراهن أن الدور الذي لعبته الحركات الإسلامية المتطرفة في السنوات الثلاث الماضية زاد الصعوبات جميعاً. لقد صارت الثورة السورية أقل قابلية للاندراج في أي من التأويلات والثنائيات المألوفة.

صحيح أن عدداً من المثقفين السوريين بذلوا جهوداً جدية ووجيهة لربط ما يجري في بلادهم بانقسامات ومعانٍ أعرض. لكن تلك الجهود لم تجذب الاهتمام الذي تجذبه صورة لمسلحات كرديات يقاتلن «داعش»: هنا، يسهل إدراج الموضوع، وغالباً بخفة دعائية، في النضال لتحرر المرأة، وفي المعركة ضد الظلامية، وفي حق تقرير المصير. إنه قابل للإدراج في ما هو معروف ومألوف.

السبب الأهم الذي جعل الثورة السورية «غير مفهومة»، وحال دون ولادة «قضية سورية»، هو أنها تشبه الماضي الأوروبي السحيق. تشبه ثورة سبارتاكوس في روما. تشبه مطالبة العبيد بالكرامة والإنسانية. وهذا ما بات ماضياً أركيولوجياً في الغرب الذي يصنع القضايا كما يصنع الصور. والمسألة لم تصبح هكذا إلا لأن نظام الأسد بات، في العالم، ماضياً أركيولوجياً.

تتضاعف صعوبة التعرف إلى ثورة السوريين بصفتها هذه لسبب آخر: أن الغرب اليوم ليس مطمئناً تماماً إلى مستقبله. صحيح أنه غير مهدد بالرجوع إلى ما يشبه العبودية الأسدية، لكنه أيضاً غير واثق من أنه يمتلك حاضره. شعور كهذا يُضعف القدرة على التفكير والفهم، لكنه أيضاً يجفف القدرة على التعاطف.

اقرأ المزيد
١ أبريل ٢٠١٧
لم لا … و أخيراً سقط الطاغية

تقوم في الوقت الحالي قوات جيش سوريا ، الذي يضم قرابة سبعين فصيل سابق من فصائل الثورة ، بعمليات التمشيط الأخيرة في العاصمة دمشق ، بعد أن انتهت من السيطرة عليها فجر اليوم نتيجة الإنهيار التام لنظام الأسد.

و أعلنت مجموعة مختارة من تسلم دفة إدارة البلاد ، بشكل مؤقت ريثما يستتب الأمن و يتم إلقاء القبض على جميع من تورط في قتل الشعب السوري طوال السنوات الست الماضية ، و إيداعهم في مركز مخصص و بإشراف لجنة قضائية مختصة بهذا الشأن.

فيما بدأ الشعب السوري  ، الذي عانى من يوم قاسٍ و ضبابي ، غابت به الأخبار تماماً ، و كان الحاضر الأبرز هو صوت الرصاص الكثيف الذي عمّ غالبية المناطق التي كان يحتلها الأسد ، في حين نَعِم الشعب السوري في المناطق المحررة لأول يوم بهدوء تام و غياب شامل للموت.

قد لا يقنع كلامي من  ينامون في العراء أو على وقع أصوات الرصاص والقصف و أزيز الطائرات, لكن لابد منه في مثل هذا اليوم ، الذي يُمارس فيه الكذب ، و الكذب المهول ، فهو نيسان الكاذب بالعادة و بالأوضاع الجوية ، و لم لا يكون كاذباً بالواقع.


و في إطار متابعة الكذب ، حتى لا نستيقظ من هذه الكذبة الجميلة ، نمضي لنقول أن الشعب السوري بكل مكان بدأ عملية السير   في جنازة الكائن الذي تم زرعه في داخلنا طوال عقود كثيرة و سبب لنا ألما و رعبا ، و ذلك حتى نصّدق  أن الشرطي الداخلي قد رحل إلى غير رجعه وترك مكانا واسعا بجوفنا و عقلنا لتتنفس بحرية و نتكلم بأريحيه, و نقرأ ما نشاء و نحكي ما نريد و ننتقد الخطأ ونفتح حوارات و نقاشات لا يحدها خط أحمر أو هامش قاتل.

ولم لا نشكل في أذهاننا حكومة تضم وزراءً في خدمة الدولة وليس العكس و أنهم تحت الرقابة و المحاسبة و تحت سلطه القانون و أن كل واحد منهم مستعد للاستقالة عند حدوث أي خلل في مسؤولياته.

ولم لا نوسع الكذبة أكثر ، نعم بأن يكون هناك عشرة أشخاص يدخلون معترك انتخابات الرئاسة و لك الحق وانت وحدك (دون توجيه أو بصمه بالدم) أن تختار من تريد تبعا لنظرتك الشخصية ورؤيتك لبرنامجه.

ولم لا نكذب أيضاً ، بأن نتابع محاكمة السفاح و أعوانه و مساعديه وكل من قصف و قتل و دمر و شرد بمحاكمة علنية و ترى من ادعى الجبروت بالأمس يبحث عن شيئ يخبئ فيه وجهه.
ولم لا نواصل الكذب ، بأن يكون لديك شقه مفروشة وبقسط مريح و براتب عالي و أن تحظى باحترام رئيسك بالعمل تبعا لجهودك و ليس لمن يدعمك .

ولم لا ؟ و لم لا ؟

مساحه مفتوحة لك مطلق الحرية والحق في أن تستعملها كيفما شئت فأنت الهدف و الغاية و السبب بل والوسيلة في هذه الثورة .
عفوا ..... كلامي كان مجرد فاصل أو استراحة بينما تم تبديل عناصر المدفعية و الطيارين والرماة فقد حان موعد الجولة الثانية, ألقاكم في كذبة جديدة أو في السماء.

اقرأ المزيد
٣١ مارس ٢٠١٧
القتلة يواصلون أعمالهم

أعادني تعليق قصير قرأته في تغريدة في "تويتر"، مرفقاً بصورة الطفلة العراقية التي انتشرت، أخيراً، باسم موناليزا الموصل، إلى حكاية المصوّر الذي التقط إحدى أشهر صور التاريخ الفوتوغرافي.. وانتحر بعدها.

بدت الطفلة العراقية التي بالكاد نجت من مذبحة الموصل الجديدة، وهي تبتسم لعدسة المصور ابتسامة غريبة، بعيون دامعة وملامح غارقة في الأسى، في ما دلّ مظهرها الأشعث على ما كانت تعانيه في اللحظة التي استوقفت فيها المصور الفوتوغرافي، ليلتقط لها الصورة الشهيرة.

أما التعليق الذي استوقفني من بين مئات التعليقات التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، تعاطفاً مع الطفلة، ودهشة من اللحظة المفارقة التي جمدتها الفوتوغرافيا، فهو لسيدة تقول إن الطفلة كانت، في تلك اللحظة، بحاجة لمن يحتضنها، لا لمن يصوّرها.

وهذا، بالمناسبة، رأي قديم يتجدّد مع كل صورة فوتوغرافية صحافية مشابهة، وبالتحديد منذ حادثة انتحار المصور العالمي، كيفن كارتر، في يوليو/تموز 1994، تحت وطأة الشعور المتعاظم بالذنب، بسبب انحيازه لفكرة السبق الصحافي، على حساب نداء الضمير الإنساني.

كان كارتر قد صادف طفلة سودانية في أثناء تغطيته الصحافية أحوال المجاعة التي ألمّت بالسودان وأهوالها، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وهي تزحف منهكة القوى، بسبب الجوع الشديد من الكوخ الذي يسكنه ذووها إلى مقر توزيع المساعدات الغذائية، بعد أن مات كل من في الكوخ جوعاً، ولم يبق سواها، لتحاول النجاة قدر استطاعتها. وعلى الرغم من أن المسافة بين الكوخ ومقر المساعدات لا يزيد عن كيلو متر واحد، إلا أن الطفلة المسكينة لم تستطع بلوغ هدفها في النهاية، فقد كانت تزحف ببطء شديد، بعد أن وصلت إلى مرحلة الاحتضار، وكان في المشهد نسر لا يقل عنها حاجة إلى الطعام، فبقي متحيّناً فرصة الانقضاض على الطفلة، بعد أن يبتعد المصور كما يبدو، لكن المصور الذي وجد المشهد مغرياً جدا لالتقاطه صوّب عدسته ليفوز بصورةٍ، سرعان ما انتشرت في العالم، ثم فاز بجائزة بولتيزر لأفضل صورة فوتوغرافية إنسانية في ذلك العام.

لم تكن تلك الجائزة لتحمي كارتر من النقد الذي وجهه إليه كثيرون، بسبب اهتمامه بتصوير الطفلة المحتضرة، بدلا من المسارعة إلى إنقاذها من مصيرها المحتوم، على الرغم من دفاعه عن نفسه بأنه مصور، كان يمارس مهنته التي جاءت به إلى فضاء المجاعة بإخلاص شديد، وإن إنقاذ ضحايا تلك المجاعة، وهم كثيرون، لم تكن من مهامه. وقد ضاعف حدة الهجوم عليه، من كثيرين من النقاد والقراء على حد سواء، ما قيل من أنه انتظر، بعد التقاطه الصورة، ما يقرب من عشرين دقيقة، راقب فيها النسر وهو ينقضّ على الطفلة، قبل أن يغادر المكان تاركا وراءه أشلاء الجسد الصغير، وقد اختلطت بأشلاء الضمير الصحافي الميت، في صورةٍ واقعيةٍ، لم يلتقطها أحد.

لم يحتمل المصوّر الذي راجع موقفه مما حدث تحت وطأة الشعور بالندم، بعد أن ساهم الآخرون في تذكيره بإنسانيته المهدرة البقاء طويلا على قيد الحياة، فقرّر أن ينتحر، بعد أشهر قليلة من نيله الجائزة التي وضعته على محك اختيار الضمير الإنساني. على الرغم من أن هناك من دافع عنه، في المقابل، على اعتبار أن ما قام به نوع من الإنقاذ غير المباشر لأطفال آخرين، كان من المفترض أن يواجهوا مصير الطفلة، لولا أن الضوء الإعلامي الذي سلّطه كارتر وزملاؤه على المأساة ساهم في تخفيف حدّتها في النهاية.

قال، في رسالته التي تركها وراءه؛ "أنا مكتئب، أنا مُطَارَد بالذكريات الواضحة لحالات القتل والجثث والغضب والألم وأطفال جائعين أَو مجروحين، مطارد مِنْ المجانين التوّاقين لإطلاق النارِ، مِنْ الجلادين القتلة".

وواضح أن الجلادين والقتلة والمجانين التوّاقين لإطلاق النار على الضحايا الأبرياء ما زالوا يمارسون أعمالهم، على مرأى من عدسات الصحافيين والمصوّرين الفوتوغرافيين، في اختبارات مستمرة للضمير الإنساني، وهو يواجه الضمير المهني.. حيث لا ضرورة لإعلان الفائز أخيراً.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان