مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣١ مارس ٢٠١٧
أسئلة مطروحة على المعارضة السورية وعلى الجماعات الكردية

كثيرة هي المسائل المسكوت عنها في الواقع السوري، ليس من باب أنها لا تقع ضمن أولويات البحث، ولكن لأن البعض يحاول التجاهل أو التأجيل، إما لإنكار هذه المسألة أو تلك، أو للحؤول دون كشف التناقضات في رؤية مختلف الأطراف إلى القضية المعنية، في حين أن الأوضاع تتطلب فتح النقاش حول مختلف المسائل، لتوضيح الاختلافات وتعميق المشتركات.

ولعل المسألة الكردية من أهم هذه القضايا المسكوت عنها أو المختلف عليها بين القوى السياسية السورية، خصوصا أنها تخضع لتجاذبات أو توظيفات متضاربة، لا تفيد الكرد، إن كجماعة قومية أو كأفراد، وتضر المسألة المحورية المتعلقة اليوم بإسقاط النظام وإرساء التحول نحو الحرية والمواطنة والديموقراطية. أي أن المسألة الكردية هي من وجهين: أولهما يتعلق بقضية المواطنة، أو غياب مكانة المواطنة في الدولة والمجتمع السوريين، بحكم طبيعة السلطة. وثانيهما يتعلق باعتبارها قضية قومية، أو قضية شعب جرى حرمانه من هويته وحقوقه، الفردية والجمعية.

يأتي هذا الكلام ونحن نشهد التجاذب الدولي والإقليمي (وحتى من طرف النظام) لتوظيف «قوات سورية الديموقراطية»، والتي عمادها «قوات حماية الشعب» الكردية (التابعة لــ «حزب الاتحاد الديموقراطي»)، في الصراع السوري، سواء ضد «داعش»، أو في إطار محاولة فرض تسوية معينة في سورية، مع النظام أو من دونه، تأخذ في عين الاعتبار إقامة منطقة حكم ذاتي للأكراد (من دون تحديد جغرافي معين)، كما يأتي هذا الكلام في ظل سعي تركيا للحؤول دون ذلك، أو لتحجيمه ما أمكن.

هذا الواقع المعقد، الذي تتضارب توظيفاته وأهدافه، يفرض على المعنيين، ومن ضمنهم الكرد، طرح أسئلة عديدة. مثلاً كيف ينظر السوريون الكرد إلى المشهد العام للحل في سورية؟ هل يعتبرون قضيتهم جزءاً من هذا المشهد؟ أم يرون أن لهم مشهداً مستقلاً تماماً؟ هل يرون أنفسهم كسوريين معنيين بالتغيير نحو المواطنة والديموقراطية في البلد؟ أم يرون أنفسهم كرداً فقط؟ أو يرون أنفسهم في تقاطع بين هاتين العمليتين، وفق صيغة دولة فدرالية أو لامركزية؟ هذه أسئلة يجب أن يجيب عليها الأكراد أنفسهم، وأن يتوافقوا عليها، وأن يقدموا رؤيتهم الخاصة إلى شركائهم السوريين، وأيضا إلى المحيط الإقليمي.

في المقابل، وبعيداً من نفي بعضهم أن للأكراد في سورية والعراق وإيران وتركيا، قضية قومية، وهي قضية محقة ومشروعة، على رغم اختلاف وجهات نظر الأنظمة الحاكمة في مقاربة عدالتها، وضرورة السعي لإيجاد حلول مناسبة لها، فإنه لا يمكن حل هذه القضية أو اختزالها بإيراد نص دستوري يتحدث عن وعد بإقامة دولة مواطنين أحرار، ودولة مؤسسات وقانون، ودولة ديموقراطية، لأن هذه الدولة ستقوم في أحد جوانبها على الأكثرية والأغلبية. لذا من حق الكرد كشعب، أو كجماعة قومية، كما من حق غيرهم، أن يحتاطوا من هذا الوضع، وأن يتحسّبوا، ومن حقهم علينا تعزيز ثقتهم بِنَا، وبالمستقبل المشترك. كما من حقنا عليهم تأكيد وحدة الأرض واعتبار التعددية القومية والدينية مصدر ثراء للدولة المدنية الديموقراطية، التي هي ليست دولة دينية ولا عسكرية ولا طائفية وإثنية.

لا أقصد التقليل من شأن المواطنة والديموقراطية وإنما اقصد أنه يجب تطعيم الديموقراطية بمبادئ دستورية عليا لا تخضع لثنائية أقلية وأكثرية، وهذا يمكن حله في ما يسمى أنظمة الديموقراطية الليبرالية، أي الأنظمة التي تقوم على أساس المواطنة الفردية، أو المواطنين الأحرار المتساوين والمستقلين. لكن هذا التحديد أيضاً لا يفي بالغرض بالنسبة إلى الأكراد، فهم شعب تعرض للاضطهاد والتجزئة عبر التاريخ، وحرم من هويته وحقه في تقرير مصيره في دولة وحتى من تنمية ثقافته. لذا يفترض بالثورة السورية، ثورة الحرية والكرامة والديموقراطية كما هو مفترض، أن تقف بجرأة لحل هذه الإشكالية التي باتت تثقل عليها، وتثير الشبهات بخصوص صدقيتها، وانسجامها مع مبادئها. وهذا يعني أن قضية الكرد، كشعب، لا يمكن اختصارها بمجرد الاعتراف بمواطنيتهم، وبمساواتهم مع المواطنين الآخرين، إذ إن ذلك يفترض أيضا الاعتراف بخصوصيتهم القومية كشعب، بلغتهم وثقافتهم، وبكل الحقوق التي تتعلق بالحق في التنظيم والتعبير، لأن ذلك يأتي من الاعتراف في الدستور بالمواطَنة الحرة والمتساوية، للجميع رجالاً ونساء، وهذا ينطبق على الأكراد، كأفراد وكجماعة قومية.

الإشكالية هنا إذن لا تتعلق بنا كسوريين، أو كمعارضة سورية، أو بأحد كياناتها، أو بالرؤيا القاصرة للمشروع الوطني الذي غاب عن معظم خطاباتنا، أو بتبعيات معارضاتنا للدول التي تدعمها، أو حتى بالمفاهيم الخاطئة التي أسسها النظام في عقول السوريين لعقود من الزمن لتغييب حقوق الكرد كمواطنين سوريين، وإنما هي تتعلق، كذلك، بالكرد أنفسهم، إذ إنهم منقسمون بخصوص ما يريدونه لمستقبلهم، بين من يرى أن الأولوية هي للمشروع القومي الكردي، العابر للبلدان، وبين من يرى أن القضية الكردية لا يمكن حلها إلا في الدول الوطنية القائمة، فضلا عن آخرين يرون أن القضية الكردية لم تعد ذات أهمية.

ما ذكرته عن اختلافات الكرد ليس للتقليل من مشروعية وعدالة قضيتهم بل للتنبيه إلى أن المسألة الكردية هي كردية أولاً. وثانياً، أن المسألة الكردية لا تتعلق بسورية وحدها، على رغم أن ما يعنيني هو الجزء المتعلق بكرد سورية، لكن في الحقيقة لا يمكن عند الحديث عن القضية الكردية تناولها ضمن حدود سورية فقط، إذ إنها تتعلق بالجماعة القومية الكردية في كل من العراق وتركيا وإيران أيضاً. وثالثاً أن قضية الكرد ذات أبعاد دولية وإقليمية وتخضع لحسابات معقدة. وعليه فهل الوضع مناسب للكرد للحديث عن دولة كردية تشمل أراض من إيران وتركيا والعراق وسورية؟ ثم كيف نحصن حلم الأكراد بدولة قومية وحق تقرير المصير من دون أن نجعل من ذلك وسيلة لهذه الدولة أو تلك لتوظيف القضية الكردية واستخدام الكرد كأداة في مشاريعها الضيقة التي لا تخدم الكرد ولا السوريين ولا العراقيين ولا الأتراك مثلاً؟

أي أن على الكرد أن يسألوا أنفسهم ماذا يريدون، وتقدير ظروفهم الذاتية ومناسبتها لذلك، وأن يتأكدوا أن العمل من أجل هذا الحلم لا يجعلهم ينفذون أو يشتغلون في خدمة أجندة إقليمية أخرى، تتلاعب بهم وتوظف قضيتهم، كما أن يتأكدوا أن ذلك لن يكون على حساب شعب سورية وثورته.

بالمقابل، إذا اختار الكرد أن الأولوية هي لانتماءاتهم في الدول الوطنية فإن من حقهم أن يطالبوا المعارضة السورية مثلا، أن تعترف بخصوصيتهم كشعب، وحقهم في التعبير عن أنفسهم، على هذا الأساس، مع تأكيد المواطنة الحرة والمتساوية، في دولة ديموقراطية. وطبعا لا أحد يمنع أحداً، وفق هذا الخيار، أن يحلم أو أن يطمح لإقامة دولة قومية مستقبلاً، لكننا نتحدث اليوم وعن الظروف الراهنة، مع تأكيد أن صيغة الدولة القومية (عربية أو كردية) باتت متقادمة وتجاوزها الزمن في عصر التكتلات الكبرى وفي عصر الدولة الأمة، أي دولة المواطنين الأحرار والمتساوين في ظل نظام ديموقراطي حيث لا توجد أقليات وأكثريات على حوامل طائفية أو دينية أو قومية.

اقرأ المزيد
٣١ مارس ٢٠١٧
الأمم المتحدة... درس في التفسير!

من المشاهد التي لفتت النظر في القمة العربية الأخيرة بالأردن، بجوار الأرض المقدسة، في فلسطين، حيث كان الاجتماع في قاعة عند البحر الميت، كلمة الأمين العام للأمم المتحدة، السياسي البرتغالي أنطونيو غوتيريس، أمام قادة العرب.

غوتيريس تحدث بما هو متوقع منه، عن قبح الحرب وحسن السلام، وعن مأساة اللاجئين جراء الحروب في ديارنا، ثم فاجأ الحضور باستشهاده بالآية السادسة من سورة (التوبة) ونطق اسم السورة بالعربية، ثم ساق معنى الآية، أو «تفسيرها» أو تأويلها، حسب قاموس علماء التفسير القدامى، وشيخهم ابن جرير الطبري.

نص الآية: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ استجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَى يَسْمَعَ كَلَام اللَهِ ثُمَ أَبلغهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ».

ساقها الأمين العام الجديد للأمم المتحدة، وهو يعلم أنه في عمق المنطقة العربية المسلمة، في لحظات توتر ديني طائفي واجتماعي هائل، حتى يقول بما معناه، ها قد احتججنا عليكم بالكتاب المقدس يا من تدعون التأسي بالقرآن. طبعاً هو هنا يخاطب الجماعات والعصابات الإرهابية، ومعهم ربما، بالحديث عن اللاجئين، من يتخاذل في إيواء اللاجئين السوريين والعراقيين.

البرتغالي غوتيريس يبدو أنه سعيد بهذا الاكتشاف، فقد سبق له الاستشهاد بهذه الآية، في فبراير (شباط) الماضي بجامعة القاهرة، مقدماً الشكر لمصر على جهودها في أزمة اللاجئين التي تعصف بالمنطقة، قائلاً إن «أبلغ ما قيل في حماية اللاجئين، ما قرأناه في سورة التوبة، حينما يقول الله في القرآن الكريم (مفسّراً بالإنجليزية) إن حماية اللاجئين ينبغي أن تقدم للمؤمنين وغير المؤمنين أيضاً، وهذا أبلغ ما قرأته بالنسبة لحماية اللاجئين».

بادرة حسنة من هذا المسؤول الدولي «المسيحي» أن يقدر الدين الإسلامي، غير أن مهمة الأمم المتحدة ليست في مثل هذه اللفتات، بل في العمل الجدّي على تكريس السلم، والعدل و«القسطاس المستقيم»، فحيث وجد العدل والرحمة، فثمة دين الله، دون الحاجة للغوص في بحار التفسير، فتلك بحار متلاطمة الأمواج، لها ربابنتها الحذقة.

هذه اللفتة من الدولي البرتغالي، ومثله الإيطالية مسؤولة الأمن والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي (فيديريكا موغيريني) التي بدأت كلمتها في قمة الأردن، بلغة عربية لا بأس بها، على مستوى المجاملات، تشير للمدى الذي وصلته مسألة الانغماس العالمي، الغربي منه خاصة، في المسألة الثقافية الفكرية الإسلامية. وكما قيل، قضية المقاومة الثقافية لخطاب التطرف والإرهاب، من داخل البيت المسلم، هي مسألة عالمية، لا تخص المسلمين فقط، مثل مسألة الاحتباس الحراري، التي تخص كل البشر.

نحن نقاتل الإرهابيين كل يوم على «تأويل» القرآن، مثلما فعل سلفنا مع الخوارج.

اقرأ المزيد
٣١ مارس ٢٠١٧
روسيا تعاني من دعم بوتين للأسد

أشاد كثيرون بالسياسة الروسية تجاه النظام السوري، حتى إنهم أشاروا إلى أن روسيا تعيد تأسيس مكانتها قوةً عظمى على أكتاف بشار الأسد. من المؤكد أن الرئيس فلاديمير بوتين يشعر بالحنين إلى ذلك الماضي القريب، ويسعى لاستعادة وضع روسيا السابق، لكن يجدر التفكير في العبء المالي الذي ستتكبده روسيا بدعم نظام قد يبقى وقد يطاح به، في مستنقع جيوسياسي اسمه الحرب الأهلية السورية؛ إذ لن يكون أمام روسيا من بديل سوى زيادة إنفاقها العسكري في المنطقة، إذا ما كانت تعتزم إعادة تأهيل نظام بشار الأسد، واستعادة وضعها السابق بين القوى العظمى.

ووفقاً لما أعلنه بوتين شخصياً، فإن روسيا أنفقت في ما بين سبتمبر (أيلول) 2015 ومارس (آذار) 2016؛ أي منذ بداية تدخلها في سوريا، ما يبلغ 484 مليون دولار. بالطبع هذا المبلغ لا يمثل حفنة مقابل ما أنفقته الولايات المتحدة في السنة الأولى من حربها في أفغانستان (33 مليار دولار)، والسنة الأولى من حربها في العراق (51 مليار دولار). لكن وضع البلدين الاقتصادي مختلف جداً. والسؤال الممكن طرحه هو: هل ستواصل روسيا لعب دورها بوصفها الحليف القوي القادر على تمكين الأسد من حكم كل سوريا، أم أن الأعباء المالية في محاربة مجموعات المعارضة السورية ومن ثم إعادة تثبيت الأسد ولاحقاً إعادة بناء المؤسسات السورية، سيكون أمراً كبيراً بالنسبة إلى موسكو؟

عندما خاضت الولايات المتحدة حربها في أفغانستان بعد الهجمات الإرهابية في سبتمبر 2001، وقف الحلف الأطلسي إلى جانبها، كما تلقت دعم الحلفاء في المنطقة. أما في الحالة الروسية والتدخل في سوريا، فالحلفاء قلة، لا بل إن العداء لعودة حكم الأسد وحّد أكثرية دول الشرق الأوسط، وكانت إيران ووكلاؤها، حليف روسيا الوحيد لهدف الإبقاء على نظام الأسد، وهذا بالتالي يثقل الالتزام الروسي ويجعل من تكلفة إعادة تشكيل حكومة للأسد، مرتفعة جداً، ثم إنه من المتوقع أن تواجه تلك الحكومة السورية وغطاؤها الروسي صعوبات متزايدة من أجل الحفاظ عليها لاحقاً.

فالحرب ما زالت مستعرة في سوريا، ثم إن الحصار الاقتصادي على إيران و«حزب الله» سيتضاعف؛ إذ لن يتكرر الخطأ الذي ارتكبته واشنطن بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في العراق، حيث أوجدت فراغاً ملأته إيران. الآن مع تصاعد الهجمات على تنظيم داعش، لن يُسمح لإيران أو لـ«حزب الله» بملء ذلك الفراغ، وهذا ما توافق عليه موسكو.

أشارت رئاسة الأركان الروسية وجهاز الأمن الفيدرالي (الاستخبارات) الروسي إلى وجود نحو 4 آلاف جندي روسي نظامي ونحو 5 آلاف مسلح من الجمهوريات السوفياتية السابقة، في سوريا. لكن، إذا راجعنا التجربة الأميركية، فإن روسيا سوف تحتاج إلى زيادة قواتها في المستقبل لمساعدة سوريا على الانتقال من الحرب إلى حكومة مستقرة محتملة. وإذا كان هدف روسيا إعادة إنشاء حكومة مستدامة تحت قيادة الأسد، فإنها لا تزال في المراحل الأولى من تحقيق هذا الهدف؛ إذ تساعد روسيا الحكومة السورية في استعادة كثير من المدن الرئيسية من أيدي من يعدّهم النظام جماعات متمردة ومنظمات إرهابية. ويوم الاثنين من الأسبوع الماضي كان الجنود الروس يشرفون على إجلاء أهالي ومقاتلي حي الوعر في حمص للذهاب إلى منطقة الباب شرق سوريا.

مما لا شك فيه أن التكاليف المالية سترتفع مع محاولة بوتين إعادة إحياء سلطة الأسد، وإذا اكتفت روسيا فقط بدعم نظام الأسد غير المستقر، عسكرياً، فإن التكاليف المالية والجيوسياسية ستظل هائلة، وستظل الحرب الأهلية السورية تكلف روسيا مليارات من الدولارات على مدى عقد من الزمان. ثم إنها للإبقاء على الأسد ستحتاج روسيا إلى قمع الأقليات والمنظمات الإرهابية والمجموعات المتمردة، كما سيتعين عليها أن تتعامل مع عمليات الدعم الهائلة التي تنصب داخل سوريا من عدة دول خليجية ومن تركيا ومن الولايات المتحدة، ومن غارات إسرائيلية، والكل يرون في الأسد تهديداً للمصالح الجيوسياسية في المنطقة (استسلامه لإيران ولروسيا).

قال لي أحد المراقبين السياسيين: إذا راجعنا جدول الإنفاق الأميركي في كل من أفغانستان والعراق، فيجب ألا نستبعد أن تنفق موسكو ما يزيد على الخمسين مليار دولار في العقد المقبل دفاعاً عن الأسد. ويضيف: هذا لا يقارن بالطبع بمبلغ 744 مليار دولار الذي أنفقته أميركا في أفغانستان، و821 مليار دولار الذي أنفقته في العراق خلال فترة 15 سنة. يقول إن أكبر عاملين محتملين لإعاقة الدعم الروسي للأسد ونظامه سيكونان خطط الإنفاق العسكري المستقبلية، والاقتصاد المحلي.

عام 2010 أعلن الرئيس بوتين عن مشروع تطوير عسكري بقيمة 343 مليار دولار لتحسين المعدات العسكرية الروسية وتحديثها بحلول عام 2020، ولتحقيق هذا الطموح، ستحتاج ميزانية الدفاع الروسية إلى زيادة بنسبة 10 في المائة بدءًا من عام 2016. لكن بسبب انخفاض أسعار النفط، والعقوبات المفروضة على الاقتصاد الروسي، وبسبب انخفاض قيمة الروبل، فإن البلاد تعاني الكثير من أجل الحفاظ على ميزانيتها الدفاعية الحالية.

أما العقبة الرئيسية الأخرى في وجه خطة النمو ورفع مستوى المؤسسة العسكرية، فسببها اعتماد الدولة على الموارد الطبيعية، وتحديداً على النفط ومنتجاته. عام 2013 كانت نسبة 54 في المائة من قيمة إجمالي مبيعات التصدير من روسيا، من النفط ومشتقاته.

مع اقتصاد يعتمد على تصدير النفط، هناك خطر استخدام المصدّرين الرئيسيين الآخرين في المنطقة للنفط على نحو استراتيجي، واستخدامه سلاحاً جيوسياسياً ضد النفوذ الروسي السلبي في سوريا. يقول محدثي: إن المملكة العربية السعودية هي أكبر مصدر للنفط في العالم، ثم إنها ودول الخليج غير مقتنعين بأنه بعد 7 سنوات من حمامات الدم وتهجير نصف الشعب السوري، يمكن أن يبقى الأسد في الحكم. يضيف محدثي: إنتاج النفط السعودي هو الأقل تكلفة، وهذا قد يجعل السعودية الأكثر قدرة على الحفاظ على أسعار النفط الحالية. ويرى أن السعودية قد لا تعمد إلى زيادة الإنتاج بشكل ملحوظ لتخفيض أسعار النفط، لكنها ستحافظ على الإنتاج الكافي للإبقاء على أسعار النفط بحدود 50 دولاراً للبرميل، ومن شأن ذلك أن يحول دون طموحات التوسع العسكري الروسي ويمنع الزيادات في ميزانية الدفاع الروسية، مما يجعل من الصعب جداً على روسيا توسيع نفوذها في سوريا لدعم نظام الأسد.

في خضم هذه الأزمة، كان لافتاً يوم الأحد الماضي حجم المظاهرات التي انطلقت في كثير من المدن الروسية ضد الفساد، والمطالبة باستقالة رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف ومحاكمته وسجنه. منذ عامين ونصف والمستوى المعيشي يتهاوى في روسيا، لكنه لم يمنع البعض من الاستمرار في الاستفادة من ثروة البلاد لمصالحهم الخاصة، ومن الصعب رؤية هؤلاء يتوقفون عن استغلال مناصبهم.

لقد تزامنت هذه المظاهرات مع وصول الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى موسكو، الذي يريد التوصل إلى اتفاقية تجارية بين إيران ودول اليورآسيا، لكن ما يهم إيران هو القطاع العسكري الروسي والخبرة والمواد النووية، كما تريد إغراء روسيا بالاستثمار في قطاع النفط في إيران.

المعروف أن لروسيا تاريخاً طويلاً في بيع الأسلحة إلى إيران، لكن عندما فرضت العقوبات على طهران امتنعت موسكو، ولو بتردد، عن بيع منظومة صواريخ «إس 300» لطهران بطلب من واشنطن. مع التهديد الأميركي بمراجعة العقوبات على إيران والاستعداد الأوروبي لتثبيت العقوبات على روسيا، يبدو أن الدولتين تريدان إثارة قلق الغرب بالرغبة في بناء علاقات عسكرية بينهما، لكن روسيا في حاجة إلى صفقات مدفوعة سلفاً، وإيران بحاجة إلى صفقات مؤجلة الدفع.

وبالنسبة لكثير من موازين القوى، من المثير رؤية روسيا تعيد الانخراط في الشرق الأوسط وفي قضاياه الجيوسياسية. ومع ذلك، فحتى الآن لم تعد روسيا قوة عظمى، فهي في عام 1990 كانت الاقتصاد الثالث في العالم، لكنها عام 2015 صارت في المرتبة السادسة على أساس الناتج المحلي الإجمالي. ولا يبدو أن وضعها يسير نحو الأفضل.

اقرأ المزيد
٣٠ مارس ٢٠١٧
اليمن بعد عامين: إيران وإدارة الفشل كأنه انتصار

كانت «عاصفة الحزم» خياراً اضطرارياً داهماً ولا مفرّ منه، وكان بينها وبين السيطرة الإيرانية الكاملة على اليمن بضع ساعات، أو بضعة أيام كحدٍّ أقصى. هذه حقيقة ينبغي ألّا تُنسى، ولو تأخّرت «العاصفة» لكانت تأكّدت نتيجتان: الأولى إقصاء الحكومة الشرعية وتكريس انقلاب أتباع إيران من حوثيين و «صالحيين» كأمر واقع وتمكينهم من بسط هيمنتهم وسلطتهم على كامل الأراضي اليمنية، والثانية تهديد مباشر للسعودية عبر منظومة إيرانية عدوانية يتموضع فيها «الحرس الثوري» والميليشيات المتعددة الجنسية لإقامة جبهة مفتوحة على حدود المملكة أكثر خطراً مما هو حاصل الآن... ولأن هذا المشروع أجهض في اللحظة الحاسمة فقد تراجعت إيران سريعاً عن الادّعاء بأن صنعاء هي العاصمة الرابعة لـ «إمبراطوريتها» وراحت تحاجج بأن الحديث عن دورها وتدخّلها «مبالغ فيه»، متذرّعة بأن لا وجود لها على الأرض، كما هو الأمر في العراق وسورية، وبأن الأزمة داخلية في أساسها ولا مجال لمعالجتها إلا بوقف الحرب على اليمن.

ثمة تحليلات وسيناريوات كثيرة، داخلية وخارجية، دفعت ولا تزال بأنه كان من الأفضل ترك المسألة لليمنيين كي يعالجوها بوسائلهم وخصوصياتهم، وأن البيئة السياسية - القبلية كانت كفيلة مع الوقت بوضع حدّ لجموح الحوثيين وإنهاء استحواذ علي عبدالله صالح وأبنائه وأنسبائه على وحدات النخبة في القوات المسلّحة. وينطلق هذا التحليل من موقفَين مبدئيَين ومشروعَين: أن الأزمة داخلية بحتة، وأن التدخّل الخارجي مرفوض. لكن أزمة 2011 لم تنتهِ إلا بتدخّل خارجي تمثّل بالمبادرة الخليجية التي كانت أيضاً دولية وما لبث مجلس الأمن أن تبنّاها. وقد عيّنت الأمم المتحدة مبعوثاً خاصاً باليمن للإشراف على الحوار الوطني، وعلى تنفيذ نتائجه وتوصياته لاحقاً للخروج من المرحلة الانتقالية. لم يكن المتدخّلون هنا يخططون للسيطرة على السلة أو على البلد، وكان يمكن هذا النوع من التدخّل أن يضع اليمن على طريق إصلاح سياسي للدولة متوافقٍ عليه، وأن يبقيه في حال تصالح مع محيطه العربي وفي منأى من الصراعات الإقليمية. وبما أن الحوار شكّل فرصة وطنية نادرة أكّد اليمنيون فيها انضباطهم والتزامهم البحث عن توافقات تسري على الجميع، فإن الانقلاب الحوثي - «الصالحي» (الطرفان شاركا في الحوار) جاء بمثابة طعنة في ظهر اليمنيين كافة، وضربة لشرعية الحكم مفهوماً وممارسة، وخذلاناً للدول التي رعت الانتقال السلس للسلطة.

الأهم أنه لم يكن في انقلابهم أي منحى تصالحي داخلي، بل كان واضحاً أنه «مباعٌ» سلفاً إلى إيران بغية اللعب على الصراعات الإقليمية، أي أنه يريد تأسيس نظام جديد بتركيبة انتهازية يعتقد كل طرف فيها أنه يوظّف الآخر ويستخدمه، بالتالي فهي تنطوي على تناقضات عضوية لا بدّ أن تتفجّر في أي وقت، عدا أنها طرحت للمرّة الأولى البعد المذهبي للحكم، فضلاً عن أنها لم تتأخّر في إظهار إقصائيتها مكوّنات أخرى مهمة. وأيّاً تكن المواقف من الأشخاص الذين يمثّلون الشرعية، رئاسةً وحكومة وجيشاً ومؤسسات، فإن العمل على إسقاطها، وهي التي لم تعتدِ على الناس ولم تبادر إلى إهانتهم والتنكيل بهم والاستخفاف بعقولهم، يبقى خطراً تاريخياً فادحاً في حق اليمن واليمنيين. فالنموذج الذي سعى إليه الحوار الوطني هو الذي يمكّن المواطنين من منح مَن يحترم الشعب والدولة الشرعية. أما النموذج الحوثي - «الصالحي» فيقترح مزيجاً من نهج التسلّط كما اتّبعه الرئيس المخلوع والنهج الميليشيوي الذي دأب فيه الحوثيون حتى قبل الانقلاب ولا يستطيعون إدامته إلا بتهميش الدولة والجيش، إضافة إلى تسليم البلد إلى إيران لتتخذه ورقة في مساوماتها الإقليمية والدولية.

بطبيعة الحال لم تكن الحرب خياراً محبّذاً لدى السعودية أو أيٍّ من دول التحالف التي شاركت في «عاصفة الحزم»، لكن المبرّرات فرضت نفسها بقوّة على رغم الإدراك المسبق للصعوبات والتعقيدات والأكلاف، ثم إن هذا الدور كان يجب أن يكون للمجتمع الدولي تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة. لكن المجتمع الدولي تخاذل بداعي الانقسامات في مجلس الأمن. صحيح أن إدارة باراك أوباما سجّلت موقفاً علنياً داعماً للسعودية في مواجهتها التهديدات، إلا أنها واصلت نهجها المجامل للحوثيين قبل الانقلاب وبعده والمبالغ في تغاضيه عن التدخّلات الإيرانية في اليمن وغيره. ولم تكن الحرب حققت شيئاً على الأرض عندما بدأت إيران تضغط على الموقف الأميركي كي يتبنّى مبدأ «وقف الحرب»، الذي كان يوازي في ذلك الوقت القبول الفعلي بالسيطرة الحوثية ونتائج الانقلاب. وبعدما بدأت المعادلة الميدانية تتغيّر باتجاه التكافؤ مطلع 2016، وأمكن ترتيب وقف النار وظروف صالحة ولو جزئياً للشروع بمفاوضات جدّية، جاء الحوثيون و «الصالحيون» إلى الكويت بأجندة ترمي إلى تجاوز المرجعيات (المبادرة الخليجية والقرارات الدولية وتوافقات الحوار الوطني) فضلاً عن رفض الشرعية لأن الاعتراف بها ينسف أي «شرعية» يدّعونها لانقلابهم ولحال السيطرة الاحتلالية التي اعتقدوا أن تفرض أمراً واقعاً لا يمكن أي تسوية سياسية أن تغيّره.

واقعياً، كانت هذه الأجندة إيرانية تدعو إلى وقف الحرب أولاً وترك الحل السياسي لليمنيين كي يتفاهموا عليه «من دون تدخّلات»، وترمي إلى قلب الأولويات والتعجيز في حال عدم التوافق على وقف الحرب. لكن الحرب لم تبدأ بـ «عاصفة الحزم»، بل بالانقلاب ذاته تحت غطاء «اتفاقي السلم والشراكة»، الذي لم يكد يوقّع - تحت الضغط والتهديد - حتى كان الحوثيون أنهوا السيطرة على صنعاء وبدأوا الزحف إلى بقية المناطق، وكان بين أوائل إنجازاتهم إطلاق الإيرانيين المعتقلين بعد ضبط سفينة تهريب أسلحة (آذار - مارس 2013). أمّا أولويات التسوية فوضعها القرار 2216 على أساس إلغاء نتائج الانقلاب في إطار احترام الشرعية والدولة والجيش. كانت مفاوضات الكويت الفرصة الأخيرة للانقلابيين كي يُظهروا استعداداً لهذا التنازل الحتمي وليؤهّلوا أنفسهم كجزء من الحكم. لكنهم أرادوا حصة في الحكومة تفوق ما يستحقّونه، من دون أن يتعهّدوا تسليم العاصمة، أما تسليم الأسلحة فلم يكن ولن يكون وارداً لديهم، كونه يعادل الاستسلام في نظرهم.

غير أن مفاوضات الكويت لم تقتصر على مناورات إيرانية لم تمرّ، بل اتسمت خصوصاً بإبداء الأطراف الدولية مزيداً من الاستعداد للخداع والتخاذل حتى لو تطلّب الأمر مكافأة الانقلابيين سعياً إلى صفقات مع إيران الخارجة لتوّها من العقوبات الدولية. فعلى هامش المفاوضات، أو «المشاورات» وفق ما أصر الحوثيون على تسميتها، دفع الجانب الأميركي باتجاه الضغط على الحكومة الشرعية، واستمرّ في ذلك من خلال اللقاءات الرباعية (الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات) ثم في المسعى الأخير للوزير جون كيري قبيل مغادرته منصبه، بغية تجريد الرئيس الشرعي من صلاحياته بعد إقالة نائبه. ولم يكن هذا العبث بتركيبة الحكومة الشرعية سوى استجابة لرغبة الانقلابيين من دون الحصول على تنازل جوهري من جانبهم لمصلحة الحل السياسي.

بعد عامين على «عاصفة الحزم»، وعلى رغم الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يتحمّل مسؤوليتها الانقلابيون في شكل رئيسي، ثمة متغيّرات أساسية. أولها أن المعادلة الميدانية لم تعد لمصلحة الحوثيين وحلفائهم، وأن جيش الحكومة الشرعية الذي بدأ من الصفر استطاع أن يقلّص سيطرة الانقلابيين إلى 15 - 20 في المئة من الأراضي كما قلّص إمكان استعادتهم زمام المبادرة. وثانيها أن في البيت الأبيض إدارة غير مهتمّة باسترضاء طهران، وحتى لو لم يتضح الموقف الأميركي الجديد بعد، إلا أنه لن يكون معنياً بتمكين إيران من باب المندب أو من الهيمنة على اليمن. وفي مختلف سيناريوات المساومة، أصبح اليمن ورقة محترقة في يد طهران، ومهما حاولت دفع الحوثيين، خصوصاً قوات صالح (وهي بالمناسبة القوات التي أشرف الأميركيون على تدريبها) لتكثّف اعتداءاتها على الأراضي السعودية، فإن مشروعها اليمني فشل وإن صوّرته على أنه لا يزال قائماً وقادراً على تحقيق انتصارات.

اقرأ المزيد
٣٠ مارس ٢٠١٧
تخبّط أميركي عشية معركة الرقة

يشتد مع اقتراب موعد الهجوم المفترض على الرقة، الارتباك الحاصل في تحالفات الولايات المتحدة في سوريـة والمنطقة، وتخبـطها في كيفيـة مراعـاة تـداخـل مـصالح حلفائها وتناقضاتهم، وكيف تحافظ على قيادتها المعركة كي يستطيع ترامب قطف ثمار حربه على «داعش» في الداخل الأميركي وفي العالم، من دون تقديم تضحيات كبيرة على الأرض.

وليس أدلّ على هذا التخبط من الغموض المحيط بمرحلة ما بعد استعادة المدينة من أيدي التنظيم المتطرف، ومن يملأ الفراغ ويمسك الأمن فيها، وما سيكون عليه وضع الرقة وجوارها في الإطار السوري الأوسع: هل تصبح جزءاً من «الكانتون» الكردي، أم تُسلّم إلى قوات المعارضة الموالية لتركيا، أم إلى القوات العربية التي تعتزم واشنطن دعوتها؟

واشنطن لا تقدم أجوبة عن هذه التساؤلات، وهي قد لا تملكها. حتى إن وسائل إعلام أميركية توقعت أن تعم «الفوضى» هذه المنطقة بعد استعادتها من «الدولة».

لكن الأميركيين واضحون على الأقل في شأن المرحلة الأولى من المعركة، فهم اختاروا القوات الكردية رأس حربة لهم، وزودوها أسلحة متطورة مع توفير الدعم الجوي الكامل، ودفعوا بالمزيد من القوات الخاصة والخبراء والمستشارين، وقد يضطرون إلى إرسال وحدات إضافية. ويعني ذلك تلقائياً تحجيم الدور التركي ومنع أي تدخل لأنقرة في المعركة ما لم تقبل بمشاركة الأكراد.

وهذا الاعتماد على «قوات سورية الديموقراطية» التي تغلب عليها «وحدات حماية الشعب»، عدوة الأتراك الذين يعتبرونها امتداداً لـ «حزب العمال الكردستاني»، دفع واشنطن إلى إرسال وزير خارجيتها إلى أنقرة اليوم لمحاولة التقليل من مخاوفها، ولجم أي محاولات للعرقلة من جانبها، والتنسيق للمرحلة التالية.

غير أن الأتراك شعروا بعد حادث عفرين، على رغم محدوديته، بأنهم قد يعلقون بين فكي كماشة: الأميركيون من جهة والروس من جهة ثانية. وهذا يعني أنهم في حاجة إلى ضمانات من واشنطن بأنها لن تدعم أو تغض الطرف عن أي محاولات لضم الجيبين الكرديين، في شرق الفرات وغربه، خصوصاً أن جهات كردية لم تتوان عن استفزاز الأتراك بالحديث عن استعداد القوات الكردية لـ «تحرير إدلب» بعد معركة الرقة، إذا ما طلب منها ذلك، في تلميح إلى أن حاجة الأميركيين إليها ستمتد إلى ما بعد تحرير الرقة، إذا كانت الولايات المتحدة ستلتزم تأكيداتها بتوسيع الحرب لتطاول «جبهة النصرة»، أي «القاعدة».

ويرجح أن يطالب الأتراك أيضاً باعتراف أميركي واضح بضرورة انتشار جيشهم في الجيب الذي يحتله حالياً في شمال سورية، لمنع التمدد الكردي، وربما بمؤازرة أميركية رمزية. وستحرص أنقرة أيضاً على ضمان دور لشركاتها في أي خطة، ولو جزئية، لإعادة الإعمار.

وإلى جانب الهمّ التركي، يواجه الأميركيون معضلة أخرى تتعلق بدور روسيا التي جلّ ما يهمها من معركة الرقة منع مئات المقاتلين المتطرفين من القوقاز الموجودين في المدينة من التسلل عائدين إلى مناطقهم، مع ما يعنيه ذلك من أخطار على أمنها القومي. وعلى رغم أن موسكو تشجع الأميركيين والأكراد على خوض المعركة، إلا أنها تفضل البقاء متفرجة بانتظار اتضاح مسارها، تماماً مثلما يفعل الإيرانيون.

وتضاف إلى ذلك كله، تهويلات «داعش» ونظام دمشق عن قرب انهيار سد الفرات والتسبب بكارثة إنسانية تفوق التصور، والأنباء المؤكدة عن خسائر بشرية ضخمة نتيجة حملة القصف الأميركية غير المنضبطة في العراق وسورية.

اقرأ المزيد
٣٠ مارس ٢٠١٧
رسائل إسرائيلية

بانصياع نظام الأسد للاتفاق الأميركي الروسي حول تسليم أسلحته الكيميائية للأمم المتحدة، يكون الشق الأمني من سياسات إسرائيل السورية قد نجح في نزع قوة "نظام الممانعة" المزعوم الافتراضية، وانتقل إلى الصراع على مستقبل سورية السياسي، بالدرجة الأولى مع إيران ومرتزقتها الذين يحتلون أجزاء كبيرة منها، ويريدون تحويلها إلى ساحة مواجهة تشكل مع جنوب لبنان جبهة واحدة ضد إسرائيل التي احتلت الجولان السوري عام 1967، وضمه برلمانها إليها رسميا عام 1981، بسبب مكانته الاستراتيجية الخاصة التي تمكّنها من تعزيز قدرتها على ردع أي تحد يكون مصدره المشرق العربي وجواره. يقول الإسرائيليون إنهم لن يقبلوا وجود إيران العسكري في المناطق المجاورة للجولان، وإن انتشار جيش ملالي طهران ومرتزقتهم في الجولان سيقضي تماما على تعايش نظام الأسد بسلام معها منذ حرب 1973، القائم على قبوله نتائج هزيمة حزيران، وتحاشيه أي صدام عسكري معها، خوفا على نظامه. رضي الأسد بهيمنة إسرائيل على سورية أمراً واقعاً، ومارس دوره الداخلي والعربي تحت رعايتها، المباشرة في لبنان وفلسطين وغير المباشرة في سورية والبلدان العربية الأخرى، على الرغم من طوفان الكلام الثورجي اليومي عن تحرير الجولان وفلسطين. ومع أن الأسد الأب وابنه استقويا بإيران، إلا أنهما حرصا دوما على إبعاد سورية عن ما تريده طهران، تحويله إلى قاعدة متقدمة لصراع ضد تل أبيب، تعود مغانمه العربية والإسلامية الاستراتيجية وغير المحدودة على ملاليها، بهيمنةٍ مضمونةٍ على مناطق واسعة من الوطن العربي، من دون توريطهم في حربٍ لا قبل لهم بها، يعلمون أن طرفها الآخر لن يقتصر على الإسرائيليين، الذين لن يقبلوا وجودا عسكريا إيرانيا في الجولان، بعد أن تم تدجين حزب الله في جنوب لبنان، وأدخله الردع الإسرائيلي إلى حقبة كلامولوجية، تشبه الزمن الجولاني الذي لا يفعل شيئا لتحريره غير إطلاق حملات رغاء كلامي عن تحريره، من دون أن يفعل شيئا لاستعادته إلى وطنه.

لا شك في أن إيران فهمت معنى غارات إسرائيل على جنرالاتها في الأرض السورية، خصوصا منها المحاذية للجولان، ولا شك في أن إسرائيل تشجعت بعدم رد الملالي عليها، وكثفت غاراتها على سلاح حزب الله، في كل مكان من سورية، تطبيقا لنهج في الردع الاستباقي القابل للتصعيد بلا حدود، وموضوعه هل تبقى هيمنة إسرائيل أم تزول أمام هيمنة إيران التي يريد الملالي تحويلها إلى سيطرةٍ على سورية لا منافس لها. هذه هي الرسالة الأولى التي لا بد أن تكون قد وصلت.

أما الرسالة الثانية، فهي تتعلق بخيارات العمل الإسرائيلي وممكناته في سورية، وهي موجهة إلى موسكو، الراغبة في تقليص حضور (ونفوذ) إيران ومرتزقتها في سورية، لكنها لن تتمكّن من فعل شيء جدي ضدها، خشية أن تختلف مع واشنطن حول المسألة السورية، وتكون بحاجة إلى عسكر إيران في صراع محتمل مع عسكر البيت الأبيض. في هذه اللحظة الحسّاسة جدا، تتقدم إسرائيل إلى واجهة المسرح، لتخبر الروس باستعدادها لزيادة حصتها من النفوذ والدور في سورية، ودعمهم في مسائل تتصل بعلاقاتهم مع واشنطن، مقابل تقليص حضور ايران ونفوذها في سورية، والتعامل معها باعتبارها جهةً ينبذها الطرفان، تنافس موسكو على سورية، وتخطط لإقامة جبهة عسكرية في الجولان، إن أبقت قواتها في سورية، فوتت على الروس فرص تموضعهم فيها وانتشارهم في جوارها.

هذا العرض الإسرائيلي بواسطة القوة المفرطة يتضمن أيضا ضدها شقا أميركيا يقول: تخضع علاقات التعاون بيننا وبين موسكو لظرفية الأحداث وتقلباتها، ولتوافق المصالح أو تضاربها. ومع أننا نريد دورا روسيا في إخراج إيران من سورية، فإننا لن نحجم عن انتهاج سياسات مستقلة عن الروس، وقد لا تعجبهم. لذلك، أبلغنا الكرملين رفضنا الالتزام بغير ما تمليه علينا مصالحنا، وأفهمناهم، وإن بطريقة غير مباشرة، أننا لا نخشى صواريخهم، عندما هدّدنا الأسد بتدمير قواعده الصاروخيه، فلا يعتقدن أحد من الآن فصاعدا أن إسرائيل تقبل أن تتقيد بما تتوهم موسكو أنها ترسمه لها من هوامش، يمنع عليها التحرك خارجها. هذا ليس صحيحا، فإسرائيل تلتزم بالتعاون إن خدمها، وترفضه إن قيد حركتها وتضارب مع مصالحها. ومثلما تعتبر سورية ساحة صراع روسي/ إيراني مضمر، فإنها أيضا ساحة صراع إسرائيلي/ روسي، أعلن عن نفسه خيرا بصور شتى، عبر التصريحات والغارات الجوية المفعمة بالتحدّي.

هناك، أخيرا رسالة ثالثة موجهة إلى أميركا، تقول إسرائيل فيها: أنتم ترابطون اليوم في الشمال السوري بقوة عسكرية كبيرة، تتكامل مع قواتكم التي ترابط شمال العراق، وتشكل معها قوة أكبر من تجمع الروس العسكري في سورية. تود غاراتنا لفت أنظاركم إلى أن موقعنا في جنوب سورية، المطل على الأردن وشبه الجزيرة العربية ومصر وشرق المتوسط، يجب أن يؤخذ في حساباتكم الكبيرة، إذا أردتم الانخراط في لعب دور جدّي ضد الكرملين وملالي طهران. اعلموا أن إسرائيل جاهزة، ولا تنسوا أن لديها جيشا بريا هو الأقوى والأكبر عدديا في المنطقة، وأنها ترى في التنسيق الاستراتيجي معكم بوابةً يمكن أن تلج عبرها، أخيرا، إلى العالم العربي، وتغدو إحدى القوى المقرّرة لراهنه ومستقبله، بفضل دورها المساند لكم ضد طهران، فاقدموا ولا تحجموا، وبادروا ولا تترددوا.

بالغارات الأخيرة، دخلت إسرائيل على خط صراعٍ يتسع بدل أن يتراجع، ويتحول إلى صراع بين الجبارين، يرجح أن تخوضه قواهما المباشرة التي تحتسب إسرائيل نفسها على إحداهما: أميركا.

اقرأ المزيد
٢٩ مارس ٢٠١٧
علاقة الحب الروسية - الإيرانية ثلاثية

إحصائياً، يعد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أكثر رئيس دولة أجنبي التقاه الرئيس الإيراني، حسن روحاني، منذ استلامه السلطة في أغسطس/ آب 2013، فالقمة التي جمعتهما، أمس الثلاثاء في موسكو، هي التاسعة بينهما في أقل من أربع سنوات. في الدليل الدبلوماسي، يشير هذا إلى مدى التطور الذي طرأ على علاقة البلدين في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد تحالفهما في سورية، لمنع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد. ويعد تسليم موسكو منظومة صواريخ إس 300 إلى إيران، العام الماضي، دليلاً آخر على استعداد روسيا الذهاب بعيداً في علاقتها بإيران، بعد أن ظلت تراوغ في تسليم المنظومة، منذ التوقيع على عقد بيعها وتسديد إيران كامل ثمنها عام 2007. ولكن، إذا نظرنا إلى أبعد من دلالات الرقم 9 الدبلوماسية، نجد أن هناك شيئاً خاصاً جداً يميز العلاقة الإيرانية الروسية عن أي علاقة بين دولتين، حيث يسعى كل طرف إلى توظيف مختلف جوانب هذه العلاقة، بما فيها الصورة الإعلامية، لخدمة مروحة واسعة من المصالح الأخرى، في إطار براغماتي، لا يخجل الطرفان من الجهر به.

هناك من دون شك مصالح جيوسياسية واقتصادية كبرى بين إيران وروسيا، تؤكدها صفقات تسلح مليارية، وعقود بناء مفاعلات نووية، ومصلحة مشتركة في منع تركيا ودول الخليج العربية من تحقيق انتصار في سورية، وغير ذلك. لكن العلاقة مع أميركا تبقى العامل الأكثر أهميةً في تقارب البلدين، أو تباعدهما.

فبعد تاريخ طويل من الشك وانعدام الثقة، يشهد عليه تأييد موسكو جميع القرارات الأممية بحق إيران بسبب برنامجها النووي، بما فيها قرار مجلس الأمن 1929 لعام 2010، والذي فرض عقوبات قاسية على إيران، قرّر الرئيس بوتين التخلي عن كل تحفظاته، والاندفاع إلى تقارب مع طهران، بعدما فقد الأمل بوعود الرئيس أوباما فتح صفحةٍ جديدة، يتم التعامل فيها مع روسيا بنديّة واحترام. وقد زاد موقف واشنطن من الأزمة الأوكرانية، وفرضها عقوبات اقتصادية على موسكو الروس اقتراباً من طهران، كما ساهم في ذلك تحول موقف الأخيرة من الربيع العربي من مرحبٍّ في البحرين، وتونس، ومصر، وإلى حد ما في ليبيا، على الرغم من تحفظها على التدخل الأطلسي، إلى موقفٍ متحفظٍ ثم عدائي تجاهه عندما وصل إلى سورية. هنا بلغ التقارب بين البلدين ذروته، خصوصاً بعد أن لبت روسيا الدعوة الإيرانية، للتدخل عسكرياً في سورية، لإنقاذها من هزيمة محقّقة خريف العام 2015.

لكن، حتى خلال هذه المرحلة التي لعبت فيها روسيا دوراً رئيساً في إنقاذ الاستثمار الإيراني في سورية، وذلك عندما مدّت يدها لإنقاذ نظام الأسد بعد استخدامه الكيماوي صيف العام 2013، صُدمت روسيا بالكشف عن الاتصالات السرية الأميركية - الإيرانية في سلطنة عُمان، والتي أسفرت عن التوصل إلى الاتفاق النووي المؤقت في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، أي بعد أقل من أربعة أشهر على استلام روحاني السلطة. كانت موسكو تخشى من نشوء اتصالات مباشرة بين طهران وواشنطن، تحرمها من الاستمرار في توظيف العلاقة مع إيران ورقة تفاوض (Wild Card) مع الغرب، تماماً كما تفعل الصين مع كوريا الشمالية، وهو ما جرى عملياً مع تطور العلاقة الشخصية بين وزيري الخارجية في حينه، جواد ظريف وجون كيري.

مع نهاية عهد أوباما، غدا الإيرانيون في موقع يستطيعون فيه المفاضلة بين القوتين العظميين، حيث أخذت كل منهما بدورها تحاول جذب إيران إلى ناحيتها. تغير هذا الوضع كلياً في عهد ترامب الذي رحبت روسيا، وربما ساهمت، بوصوله إلى السلطة، في حين توجست إيران منه شراً. لكن ترامب الذي كاد يشرخ العلاقة الروسية-الإيرانية بطريقةٍ عكسيةٍ لما حاولت فعله إدارة أوباما – أي التقارب مع روسيا وإقصاء إيران، قد ينتهي بتعزيز هذه العلاقة، إذا فشل في التغلب على ممانعة المؤسسة الحاكمة في واشنطن للتقارب مع موسكو. هذا يفسر ابتسامة روحاني العريضة في موسكو، وهو يقرأ الخيبة في وجه بوتين من فشل رهانه على ترامب في تحقيق تقارب روسي-أميركي. لهذا، من المهم دائماً النظر إلى علاقة الحب الروسية – الإيرانية، باعتبارها علاقة ثلاثية، لا ثنائية.

اقرأ المزيد
٢٩ مارس ٢٠١٧
حرب إيران الإعلامية الكبيرة

ليس خفياً على أحد أن النظام الإيراني يتبنى استراتجية واضحة المعالم في المنطقة ويسعى من خلالها للتوسع وتعزيز نفوذه ونشر آيديولوجيته خارج حدوده الجغرافية، وأن الدول العربية هي المستهدف الأول لهذه الاستراتيجية. وبغية تحقيق هذه الغاية يعمد النظام إلى استخدام وسائل عملية مختلفة عسكرية وطائفية وسياسية. ولكن يرى النظام الإيراني في الإعلام أداة فعالة تمهد الطريق لتحقيق طموحاته عبر السعي لكسب قلوب وعقول أبناء الشعوب في الشرق الأوسط وما هو أبعد من ذلك. لهذا فإنه يستثمر جهوداً وأموالاً كبيرة في مجال الإعلام. ومن أجل تحقيق ما يرنو إليه، يبذل النظام الإيراني مبالغ طائلة لتشغيل ماكينته الإعلامية في الداخل والخارج، حيث اضطر النظام مؤخرا إلى الكشف عن ميزانيته، بعد انتشار تقارير تحدثت عن مبالغ كبيرة خصصها للإذاعة والتلفزيون. هنا نشر إلى مؤسسة إعلامية إيرانية أخذت حصتها من الميزانية الإيرانية تزداد في الآونة الأخيرة، وهي هيئة الإذاعة والتلفزيون، أي المؤسسة الرئيسية التي تدر الإعلام الإيراني بمجمله. بهذه المؤسسة 46.000 موظّف بدوام كامل، وهناك عشرات آخرون بدوام جزئي، وتبلغ مزانتها 7.1 مليار دولار أميركي، وتمتلك الهيئة جامعة تضم مختلف الكليات وعدّة مدارس مهنيّة تدرب الكوادر وتؤهلهم قبل دخولهم العمل. وفي عام 2015 أنتجت هذه المؤسسة نحو 60.763 ساعة من العمل الإعلامي الموجه إلى داخل إيران وإلى الخارج.

ولهيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية 21 مكتبا في مختلف عواصم العالم، من ضمنها القاهرة وبيروت ودمشق، بالإضافة إلى بلاد عربيّة وإسلاميّة أخرى. كما لديها 30 قناة فضائيّة تبث برامجها على مدار الساعة وبشكل يومي من خلال 12 قمرا صناعيا أجنبيا، بالإضافة إلى 13 محطّة إذاعية تبث برامجها يوميا دون انقطاع لكافة أنحاء العالم بمختلف اللغات، وأهمها الإنجليزيّة والفرنسيّة والعربيّة والرّوسيّة والإسبانيّة والتركيّة والكردية والأوردو، ناهيك عن برامج بلغات أفريقية من قبيل الهوسا والسواحيلي.

كما لدى الماكينة الإعلامية الإيرانية عدّة قنوات تلفزيونية ناطقة بالعربية والإنجليزية تدرها جماعات تابعة لها، من قبيل تلفزيون «العالم» الناطق بالعربية، و«برس تي في» الناطق بالإنجليزية، في المقابل لا توجد قناة تابعة لدولة عربية ناطقة بالفارسية تقوم بالتصدي للدعاية الإيرانية عبر نقل الصورة الحقيقية إلى 75 مليون مشاهد إيراني، وكذلك إلى باقي الشعوب الناطقة بالفارسية في أفغانستان وطاجيكستان وجنوبي أوزبكستان.

تضم شبكة المحطات التلفزيونية قنوات العالم، برس تي في (الناطقة بالإنجليزية)، سحر 1 و2 و3. وجام جم 1 و2 و3 (المختصة بمخاطبة الإيرانيين في أوروبا وأميركا)، والكوثر (الناطقة بالعربية) والأفلام (تبث أفلاما مترجمة للفارسية والعربية والإنجليزية) وسبان تي في (باللغة الإسبانية)، وسحر (تبث برامجها باللغات العربية والفارسية والإنجليزية والإسبانية والبوسنية والتركية والآذرية والفرنسية).

أما فيما يتعلق بالمحطات الإذاعية، فتمتلك إيران في هذا القطاع نحو 30 محطة إذاعية تبث بثلاثين لغة مختلفة، هي الإنجليزية والبوسنية والألبانية والإيطالية والعربية والألمانية والتركية والروسية والطاليشية (قومية في شمال إيران وجمهورية أذربيجان) والأوزبكية والدارية (الفارسية الأفغانية) والتركية الآذرية والعربية والألمانية والفرنسية والسواحيلية والبشتو والإيرانية والفارسية الطاجيكية والصينية والآرامية واليابانية والهندية والبنغالية والأردية والإسبانية والكردية والجورجية والتركمانية. وكل واحدة من هذه المحطات تمتلك موقعا إلكترونيا للأخبار باللغة الخاصة بها. وهناك محطات إذاعية وتلفزيونية لا يكشف عن أسمائها، وتكون مرحلية وخاصة، تخضع مباشرة لإدارة وإشراف وحدات العمل الخارجي في حرس الثورة الإيراني، وتحديدا فيلق القدس، وتكون مهمتها أمنية، ولا يحق للموظفين الذين يتم اختيارهم للعمل فيها الحديث أو الكشف عن طبيعة عملهم أو عمل وهدف المحطة التي يعملون فيها. وقد تم تخصيص منطقة معزولة داخل الحرم الأمني لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون تضم مباني لهذه المحطات، بحيث لا يحق لأي موظف في المؤسسة الدخول إليها ما لم يكن من العاملين فيها.

وفي هذا الخضم من الواضح أن دول مجلس التعاون الخليجي وبالتحديد المملكة العربية السعودية هي الأكثر عرضة للحملة الإعلامية الإيرانية وحربها الدعائية الموجهة، الأمر الذي يشكل تهديداً خطيراً على الاستقرار والتنمية الاقتصادية والسلامة المجتمعية فيها. وتستهدف الماكينة الإعلامية الوحدة الشعبية وسلامة أراضي الكثير من البلدان العربية، بما في ذلك مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية وسوريا واليمن ولبنان والعراق وغيرها، وتحاول زعزعة أمنها واستقرارها وبث الطائفية فيها والدعاية لصالح الميليشيات التابعة لها. مع هذا، فقد أطلق انشغال الدول العربية بشؤونها الداخلية العنان لإيران أن تشغل ماكينتها الإعلامية للتأثير على الشعوب العربية، ومن جهة أخرى تواصل عمل الحكومات الإيرانية المتعاقبة لغرس الأفكار والرؤى الشوفينية المعادية للعرب في أذهان المواطنين الإيرانيين.

إيران التي تسخر ماكينتها الإعلامية لإثارة النعرات الطائفية والقومية في دول الجوار هي في واقع الأمر دولة متعدّدة اللّغات والثّقافات والمذاهب، ولكن تتخذ من المذهب الشيعي والقومية الفارسية أساسا للحكم وتقمع أبناء سائر المذاهب والقوميات، لذا فأي حملة إعلامية مضادة موجهة للداخل الإيراني ينبغي أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، لأن هذا التنوع بات نتيجة للقمع يشكل نقطة ضعف النظام الإيراني بدلا من أن يكون نقطة قوة، عليه لو تم استغلال أي جهة معادية لنظام الحكم في طهران هذه النقطة بإمكانه أن يردع النظام الإيراني، ولكن أكرر لا توجد أي مؤسسة إعلامية عربية كانت أم أجنبية موجهة للشعوب والثقافات المتعدّدة في إيران، على أقل تقدير في مجال الدفاع عن الدّيمقراطيّة والعدالة. وحقوق الإنسان.

اقرأ المزيد
٢٩ مارس ٢٠١٧
ماذا لو لم يتدخل "التحالف" في اليمن؟

تغطيات إعلامية واسعة للذكرى الثانية لحرب اليمن في معظم الصحف العربية والعالمية، تحكي قصة مسوغات إنشاء «التحالف» لدعم عودة الشرعية بقيادة المملكة العربية السعودية، وما آلت إليه الأمور حتى اليوم، والمكتسبات والخسائر، والموقف الدولي وقرار الأمم المتحدة 2216 الذي يعترف بشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي رئيساً لليمن ويطالب الانقلابيين بوضع السلاح.

لكن لم تذكر كل هذه القطع التحليلية سؤالاً افتراضياً مهماً عن ماذا لو ظلت الأمور كما هي، حينما تحالفت الأقلية الحوثية المدعومة من إيران مع فريق المعزول علي عبد الله صالح وبعض الفصائل الجنوبية وحاصروا القصر الرئاسي في صنعاء أثناء وجود الرئيس هادي، الذي نجح في الهروب إلى عدن ثم لحقوا به لاغتياله، فاستنجد بالسعودية للتدخل وحماية الشرعية، ثم غادر إلى الرياض حتى تتم مراجعة الأمور وتسويتها؟

رغم الجهود الخليجية الحثيثة في 2012 لحل الأزمة وتوزيع كعكة النفوذ بين الأطراف المتنازعة، لم ترضَ الأقلية الحوثية بعد أن أصبحت قوة عسكرية بانضمام الحرس الرئاسي لصالح، وتلقي دعم مباشر من إيران، حتى إن الرحلات الجوية بين طهران وصنعاء كانت تنقل أفراداً من الحرس الثوري الإيراني إلى اليمن تمهيداً لحشد عسكري قادم وتثبيتاً لوجود إيراني دائم في اليمن.

قبل ستة أشهر من بدء إنشاء «التحالف» الذي سمي «عاصفة الحزم»، كان الحوثيون يمارسون سلوك قطّاع الطرق؛ استولوا على مؤسسات ووزارات حكومية، واقتحموا البيوت ونهبوها في صنعاء، وحتى بعد توقيع اتفاقية السلم والشراكة، لم يتغير الأمر كثيراً، كان الحوثيون وصالح قد عزموا أمرهم على السيطرة وتهميش بقية الشركاء، ومع الاستعداد اللوجيستي الهائل الذي يمتلكه صالح من خلال سنوات طويلة من الدعاية بأنه يحارب «القاعدة» وإمداده من السعودية والولايات المتحدة بالعتاد العسكري، ومع وجود إيراني داعم للحوثي كانت المعركة بالنسبة إليهم محسومة، ولا سبب يدعوهم للتراجع.

حملت السعودية القضية اليمنية عبئاً على كتفها بعد أن سقطت صنعاء بيد المتمردين الانقلابيين، وانهارت الشرعية، وتجرأ الانقلابيون على تهديد الحدود السعودية بعد أن أخذتهم غطرسة التمكين وغرور القوة.

ببساطة يمكن تخيل الوضع في اليمن لو لم يتشكل تحالف عودة الشرعية. الهدف لن يتوقف عند الاستيلاء على اليمن، كانت هذه مقدمة لأمر جلل، يتجاوز الدولة المريضة بالفقر والغنية بالوفرة السكانية. أخطر ما يمكن أن يحصل هو التعاون مع تنظيم القاعدة، وهذا أمر وإن بدا بعيداً، لكن تثبته سوابق في عهد علي عبد الله صالح الذي مكّن قيادات «القاعدة» من الفرار من السجون ليضغط على السعودية والغرب لمزيد من الدعم، وعلينا أن لا ننسى أن صالح الذي شن حروباً ستة على الحوثيين انتهى به المطاف للتحالف معهم. وإيران التي رأت في اليمن لبنان آخر، لن تمانع في التعاون مع التنظيم الإرهابي الذي تؤوي بعض قياداته في طهران، وتعاونت معه في استهداف السعودية كما حصل في تفجير مجمع سكني للقوات الأميركية في مدينة الخبر السعودية. اليمن كان مرشحاً ليكون بؤرة لتصدير الإرهاب ليس فقط للسعودية بل لكل العالم، وأمثولة لسهولة إسقاط شرعية الدول وشرعنة الفوضى.

حينما قررت المملكة التدخل في اليمن أنشأت تحالفاً عربياً من عشر دول آمنت بهذا الخطر الذي سيعم أرجاء المنطقة، وتشكل «التحالف العسكري» من دولة الإمارات العربية المتحدة التي كانت مشاركتها حجر أساس، إضافة إلى البحرين والكويت وقطر والسودان والمغرب ومصر والأردن والصومال، كما قدمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا دعماً استخباراتياً.

عامان لم يمرا بسهولة على كل الأطراف، وقعت خسائر بشرية وبنيوية، ومع التغير الذي كان يحصل على أرض الواقع لصالح «التحالف»، تراجعت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في صيف 2016 عن التعاون الاستخباراتي. وبدا أن أوباما، الذي كان ميالاً لإيران، مقتنع بأن خسائر الحرب البشرية سببٌ كافٍ لأن يرفع يده عن الموضوع اليمني، في الوقت الذي كانت طائرات الدرون الأميركية تلاحق عناصر تنظيم القاعدة وتصفيهم رغم وقوع ضحايا مدنيين.

الحقيقة أن مدة الحرب طالت، بالنظر إلى إمكانيات «التحالف» الهائلة، وكان السبب الوحيد الذي أدى إلى إطالة أمد الحرب هو محاولة «التحالف» تجنب وقوع ضحايا مدنيين، ولكن كعادة الاستراتيجية الإيرانية التي نعرفها في لبنان وسوريا، كان الانقلابيون يتمركزون داخل المدن الآهلة بالسكان، مما صعّب على «التحالف» حسم معارك مهمة أولها تحرير العاصمة وميناء الحديدة.

ومع أن الإدارة الأميركية الجديدة متحمسة لحسم معركة اليمن لصالح الشرعية فإن «التحالف» اليوم بالنظر إلى خريطة اليمن استطاع تحرير 85 في المائة من الأراضي اليمنية، وانحسر وجود تنظيم القاعدة في مدينة المكلا. عودة الأميركيين للمشهد اليمني سيسرع من وتيرة الحسم، وهذا ما بدأ فعلياً قبل يومين حينما ضربت مدفعية الجيش الوطني ولأول مرة دار الرئاسة في صنعاء ومحيطها العسكري وميدان السبعين.

إدارة ترمب قررت مواجهة إيران في كل مناطقها، وعلى رأسها اليمن، أمّنت الحدود البحرية لمنع تهريب التمويل العسكري الإيراني للانقلابيين، وأعادت الدعم الاستخباراتي والعسكري. يرى فريق ترمب أن هزيمة الحوثيين هي ضربة موجعة للإيرانيين وحلمهم بالتوسع في المنطقة، كما أنه يعطيها الفرصة للتفرغ للقضاء على تنظيم القاعدة الذي تقلصت مناطق نفوذه.

«عاصفة الحزم» ليست معركة لعودة الشرعية فحسب، بل حماية للمنطقة من تنامي مفهوم الميليشيا العسكرية على حساب الدولة.

اقرأ المزيد
٢٩ مارس ٢٠١٧
الموصل وضحايا الحرب المقدسة

ما بين العراق وسورية ظهرت “داعش”، وكأنها وحش خرافي نزل من السماء، فادعى كل ساسات العالم النخوة، وهبّوا يُعلنون الجهاد المقدس ضد “داعش”، في سورية والعراق. وقُتِل مئات الأبرياء العراقيين في يوم واحد نتيجة غارات التحالف، وآلاف مؤلفة خلال سنين طويلة بعد غزوة بوش للعراق، وآلاف في سورية، والشعار نفسه “نحارب ‘داعش’ لننقذ الإنسانية من الإرهاب”.

يكاد المتابع لزوبعة التصريحات حول المجزرة التي ارتكبها التحالف الدولي في الموصل في 17 آذار/ مارس أن يُصدّق أن ثمة حقوق للإنسان يجري التحقيق بشأنها، أو محاولة إيجاد الحقيقة التي دفنت تحت ركام المنازل، تلك المنازل التي سقطت على رؤوس ساكنيها والمختبئين فيها، فحولتهم إلى أثر بعد عين، وإلى أرقام لجثث فحسب، ومقابر جماعية لمّت الأشلاء، وربما ذهبت يد شخص مع قدم آخر تحت التراب.

غارة للتحالف الدولي في الجانب الغربي من الموصل، بناء على إحداثيات من الحكومة العراقية، والضحية 500 مدني، ولكن سرعان ما تضاربت التصريحات، فذكرت منظمة العفو الدولية أن مئات من المدنيين العراقيين قتلوا في الموصل، وقالت إن الغارات الجوية التي شنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على مواقع تنظيم “داعش” بالمدينة العراقية، ربما تشكل انتهاكا للقانون الدولي.

أما البنتاغون، فأعلن عدم تخفيف قواعد الاشتباك في القتال ضد “داعش”، وسط رفض للإقرار بأن تكون الطائرات الأميركية قد تسببت في مقتل عشرات المدنيين غربي الموصل.، وقبل ذلك كانت الإدارة الأميركية وضعت احتمال أن تكون غاراتها هي المتسبب بتلك المجزرة، وأنها وضعت الأمر قيد التحقيق.

أما التصريحات الصادمة للعراقيين، ولكل من تابع تلك الصور والحزن الخارج من الموصل، فكانت تصريحات رئيس وزراء العراق حين قال: إن “مجزرة الموصل ادعاءات لإنقاذ داعش”، وقبل تلك التصريحات كانت منظمة العفو الدولية نشرت شهادات من بعض الناجين من تلك المجزرة الرهيبة، ولعل أبرز هذه الشهادت شهادة “وعد أحمد”، وهو أحد سكان حي الزهراء شرقي الموصل، واحد من كثير من المدنيين الذين اتبعوا نصيحة الحكومة بالبقاء في منازلهم، بحسب المنظمة. وقال وعد “اتبعنا توجيهات الحكومة التي أبلغتنا بالبقاء في منازلنا وعدم النزوح”، وأضاف “سمعنا في الإذاعة التوجيه الآتي: (على السكان الذين ليس بوسعهم فعل شيء مع داعش البقاء في منازلهم) … وكذلك أُلقيت منشورات عبر الطائرات. وكان ذلك هو سبب بقائنا في منازلنا”.

الواقع يقول اليوم، ثمة مجزرة حدثت هناك، وثمة 500 مدني قتلوا ظلمًا و”خطأ”، و”استخدام “داعش” لللمدنيين دروعًا بشرية بات أمرًا واقعًا، ولا يحتاج لإثباتات”، ومن ثم؛ الذريعة التي تستخدمها الحكومة “العراقية أو الأميركية”، بأن “داعش” هي من أجبرت السكان على المكوث في منازل انتشر عناصر التنظيم على أسطحها ليتم استهدافها، هي ذرائع واهية وضعيفة ولا تعني شيئًا، خصوصًا وأن كلتا الدولتين المسؤولتين عن ارتكاب المجزرة تراجعت عن قرار إيقاف القتال في الموصل.

وفي كلا البلدين التوأمين، سورية والعراق، يظهر سؤال جليّ بسيط: هل هبطت “داعش” من السماء فجأة؟ فبعد ثلاث سنوات في العراق و300 ألف جندي، وأكبر حملة عسكرية في العالم منذ السبعينيات، أشعرنا جورج بوش في 2007 أنه فجأة اكتشف ما كان يسمى “الدولة الإسلامية في العراق”، وأعلن حربه الضروس عليها؛ وفي سورية، وأيضًا بعد ثلاث سنوات، بدأ صراخ القادة السياسيين من أوباما في مكتبه البيضاوي وصولًا إلى بوتين في مكاتب ستالين، وما بين الامبراطورين من زعماء: “نريد محاربة داعش”. المتابع البسيط يشعر نفسه أنه أمام صف من البسطاء الطيبين السذج، ممن لم يروا خطر الإرهاب القاعدي، وتنامي دعوات وتقاطر الجهادية “الإسلاموية”. هل فعلًا يحكمنا السذج في كل العالم، أم أن البشر في القرن الواحد والعشرين باتوا أكثر سذاجة؟

لنحاول أن نخرج من أنانيتنا ولنضع نفسنا مكان الآخر، المسكين دونالد ترامب، وبعد انتصاره الإلهي في الانتخابات الأميركية، يكاد ينهي الـ 100 يوم الأولى دون إنجازات ضخمة يحتفل بها الإعلام، إنه بحاجة لإنجاز ما، وضرب الإرهاب الإسلامي كان من أهم شعاراته، أفلا يحق له بعض الانتصارات؟ في سورية لا يستطيع لوحده قطف هالات النصر على “داعش”، فصديقه الشخصي بوتين أيضًا يشاركه، وأيضا بوتين بحاجة لانتصار واضح على “داعش”، فمظاهرات الروس ضد فساد نظامه تقلقه، وليس أدرى منا -السوريين- بما يعنيه أن يقلق أحدهم.

إضافة إلى أن للأميركيين وحلفائهم في الناتو تاريخ من “العدل كبير” عند قياسه بتاريخ روسيا، فهم كانوا يدفعون للضحايا المدنيين الأفغان؛ نتيجة أخطاء نيران التحالف 2500 دولار لكل ضحية، وألف دولار لكل جريح، طبعًا هذا إن أقرت لجانهم العسكرية والقضائية بذلك. هم لم يدفعوا بعد في العراق، ولن يفعلوا في سورية، فلماذا هم ملزمون بالتعويض، بينما بوتين يُصرّ أن لا ضحايا مدنيين. ولا يخطرنّ ببالكم أن تقارنوا هذه المبالغ بنحو 8 ملايين دولار لكل ضحية من ضحايا الطائرة لوكربي، القذافي كان كريمًا، فما ذنب الأميركيين؟ ألم يصمتوا مع الأوروبيين صمتًا مطبقًا يوم أسقط بوتين طائرة الخطوط الماليزية فوق أوكرانيا في 2014، وعلى متنها 180 مسافرًا غربيًا؟

لنكن صادقين مع أنفسنا أكثر، فهم، أي: الآخرون الذين يتقاتلون فوق أرضنا ودمائنا، لن يروننا سوى أرقامًا، لكن كيف نرى أنفسنا أناسًا نعيش على هذه الأرض؟ ألن نجد بين ظهرانينا الآن من يسوّغ قتل أبرياء الموصل؟ ألم نسمع من كان يسوغ لصدام مجازر الأكراد؟ ألا زلنا نسمع من يسوغ لـ “داعش” ومن شابهها على أكبر فضائياتنا؟ ألا يوجد من يسوّغ لبشار قتل نصف مليون، وسيسوغ له مليونًا آخر؟ ألا يوجد من يسوغ قتل سوريين وعراقيين بين واقعات الحرب بين أمراء الفصائل؟

إن كنا لا نريد أن نبقى ضحايا جانبية لمعارك الآخرين ومعاركنا، يجب علينا نحن أولًا ألا نرى أي ضحية هي ضحية الضرورة، أميركا قتلت في ساعة واحدة 300 ألف ياباني، وللآن لم تعتذر رسميًا، وروسيا قتلت مئات الآلاف في حروب قيصريتها السوفياتية والبوتينية، ولم يرف لقاداتها جفن، لن نتوقف عن لوم ومحاكمة السياسة الأميركية والروسية، وكل ساسات العالم الذين يقتلون، لكن لنبدأ من بين قلوبنا ودمائنا، فلا نقبل ضحايا الضرورة والمعركة المقدسة.

اقرأ المزيد
٢٨ مارس ٢٠١٧
الحل قبل جنيف وبعده

ستيفان دي ميستورا رجل محظوظ، فهو موظف يستطيع أن يقدم استقالته في أي لحظة يرغب بها، مع احتفاظه بحق الحصول على مستحقاته كاملةً، باعتبار المشكلة ليست مشكلته، وهو مكلف بالوساطة فقط. ويبدو أخيراً أنه قد ملّ هذه المهنة، ويتطلع إلى إجازة سعيدة بعد سلسلة مضنية من الاجتماعات ورحلات الطائرات البعيدة.

في المقابل، لا يستطيع أي سوري أن يقدم استقالته من المشكلة، سواء كان عضواً في الوفود، أو مجرد شخص عادي، يتلظى تحت وطأة انقطاع الكهرباء والماء والوقود، أو يتلوى غريباً في المنافي الكريمة أو البخيلة على حد سواء، وقد وضع، بعد الفصل الخامس من مسلسل جنيف، تحت تهديد مغادرة دي ميستورا الذي كان يقوم بدور "المكوك" بين غرف المفاوضات المنفصلة التي تجلس فيها الوفود، منتظرة ردود الأطراف الأخرى.

لم يصل النضوج التفاوضي بعد إلى مرحلة المواجهة والحوار عن قرب، بدون متاريس حماية، وكل الاقتراحات التي تبادلتها الأطراف لم تكن مجديةً بمقدار كافٍ لتتقارب الطاولات مسافةَ المدى المجدي للكلمة. لذلك، ما زلنا بحاجة إلى شخصية دي ميستورا، ليشغل وضعية "كتاف المغربل".

فَشِلَ مؤتمر أستانة الذي سبق جنيف، وعلى الرغم من أن روسيا تقول إن أستانة ليست بديلاً عن جنيف، ولكنها تصر بشكل كبير على الوجود في أستانة، قبل عقد جنيف، وفشل أستانة أدى إلى فشل جنيف الحالي، فصارت نتائجه تحصيل حاصل. اشتعلت الجهات فجأة، على الرغم من إعلان وقف النار الذي لم يجرؤ أحد حتى اللحظة على القول إنه لم يعد سارياً، وأصبحت المعارضة المسلحة على أبواب دمشق، وعلى مرمى حجر من شارع فارس الخوري في قلب العاصمة، وهي تتحرّك في حماة، بنشاط عداء المائة متر، وتوشك أن تنصب مرابضها في ساحة العاصي. ولهذا الاقتراب ثمن يمكن قطافه في جنيف، لكنّ السوريين يرغبون في حل واحد ومعروف، سواء دخلت المعارضة دمشق، أو بقيت محاصرةً، وتحت تهديد الباصات الخضراء التي يطلقها مريدو النظام وإعلامه الموجه، وفشل المفاوضات هو تفصيلٌ آخر، يجب أن نجد له مفاوضات أخرى، لنتجنبه ونقنع الجميع بالجلوس والحديث مجدّداً.

الضياع في زحمة السلال والمنصات، والتعويل على هجوم أو تراجع أو تصريح ذي سقف مرتفع لكسب سنتيمترات حوارية، وانتظار نتيجة معركة، أو اثنتين، لإزاحة المفاوضات باتجاه طرفٍ ما، وجعل نصيبه أكبر، يعني أن لا حل متوفراً لدى الجهات "الداعمة للحل"، والتي تحاول اجترار العلقم نفسه الذي نتجرّعه منذ ست سنوات.

ليست المفاوضات فض اشتباك أو اتفاقيات هدنة بين أطراف دولية، تريد أن ترسم خطوطاً فاصلة، ولا يفترض في الحوار أن يكون رهينةً لمزاج دولي، أو سياسة موجة ترغب بتوجيه الدفة في مسار محدّد، والاحتكام إلى رغبةٍ دولية، غائبة، تفرض على كل الأطراف شكل الدولة التي فقدت نفسها ومقوماتها، وكل مكوّن فيها خلال الخمسين سنة الماضية، وأضحت بحاجة لحوار منعش ومنتج، وهي أمورٌ لا يبدو توفرها قريباً لا في جنيف، ولا أستانة، ولا في أي عاصمة أخرى.

قد لا يتفوه الإعلام بعبارة "فشل جنيف"، لكنه سارع إلى إعلان استقالة دي ميستورا، وما زال ينقل سير المعارك في مختلف المدن، ويركز على تباين السلال المطروحة: الإرهاب أو رحيل النظام، أو استبداله، أم سلة تعديل الدستور أو ابتكار واحد جديد، واختلال العلاقة بين روسيا وتركيا، والتقارب الأميركي الروسي المحتمل، وصعود تيارات اليمين المتطرّف على وقع العمليات الإرهابية التي تطاول الشوارع الأوروبية. كل تلك العوامل متغيرات حوارية، تنفخ في مؤتمر جنيف للسلام السوري أو تفرغه، ويضاف إليها الكثير من التجاذب الجانبي بين الأطراف الواحدة، حتى تكاد المنخفضات الجوية والعواصف الرملية تحل متغيراً جديداً.

بهذه المتغيرات، يمكن أن نحصل على مسلسلٍ لا نهائي لجنيف، يتبدل فيه كل الممثلين، ويتعاقب عليه المخرجون على المسرح نفسه، وبالمتفرجين أنفسهم.

اقرأ المزيد
٢٨ مارس ٢٠١٧
الثورة في المؤشّر العربي

صدر المؤشر العربي الذي ينجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات للعام الخامس، وهو استطلاع سنوي يروم رصد اتجاهات الرأي العام العربي، نحو مجموعة من القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وشمل استطلاع سنة 2016 من 12 بلدا عربيا 18310 مستجوبين، أُجريت معهم مقابلات شخصية وجاهية، شارك في تأمينها 840 باحثا. وهو ما يجعل منه أضخم مشروع مسحي في العالم العربي. وكانت الثورة من بين أهمّ الموضوعات التي استجلى المؤشر مواقف العرب منها، ورصد تقويمهم لها على مستويين: الأوّل متّصل بتبيّن رأيهم في حدث الربيع العربي، والثاني متعلّق بالوعي بوجهات نظرهم تجاه مآلات الثورات العربية. ففي المستوى الأوّل، أخبر معظم المواطنين العرب المستطلعة آراؤهم أنّ حركات الاحتجاج الشعبي التي شهدتها المنطقة سنة 2011 إيجابية (51 %) فيما عدّها (41 %) سلبية. وذهب مؤيّدو اندلاع حدث الثورة إلى أنها لم تكن ظاهرة اعتباطية، أو فعلا عفويا عابرا، بل كانت عملا تغييريا وسلوكا احتجاجيّا واعيا ومعبّرا، دالاّ على ضيق الناس بواقعهم وتطلّعهم إلى غد أفضل، فقد أفاد 42% بأنّهم ثاروا سنة2011 ضدّ الاستبداد والظلم، ومن أجل الديمقراطية والمساواة، وقال 25% إنّهم ثاروا ضدّ الفساد، ما يعني أنّ الثورة لم تكن مجرّد هوجة عابرة، أو مجرّد انفجار فوضوي محدود، بل كانت تحوّلا إدراكيا نوعيّا في فهم الجموع العربية الواقع المحيط بها، ووعيها بخطورة القمع وفداحة الدكتاتورية ومساوئ استشراء الفساد والمحاباة والمحسوبية، ما دفعها إلى الاحتجاج على الأنظمة القائمة والمطالبة بتغييرها. وبذلك، كانت الثورة نتيجة حراك داخلي، ووليدة تراكم أخطاء الدولة الشمولية تجاه مواطنيها، ولم تكن مؤامرة أو خيارا مسقطا من الخارج، كما تدعيه بعض وسائل الإعلام والأقلام الميّالة إلى القدح في الثورة، والتشكيك في التأييد الشعبي العارم الذي واكب اندلاعها.

أمّا المستوى الثاني من استحضار الثورة في المؤشر العربي فتعلّق باستجلاء مواقف المستجيبين من واقع الثورات العربية ومآلاتها، إذ انقسم الرأي العامّ في هذا الشأن ما بين متفائل ومتشائم؛ فأفاد ما نسبته 45% بأنّها تمرّ بمرحلة تعثّر، إلّا أنّها ستحقق أهدافها في نهاية المطاف، في مقابل 39% اعتبروا الربيع العربي قد انتهى، والأنظمة القديمة عادت إلى الحكم. ويُعدّ هذا تحوّلا لافتا للنظر، مقارنة باستطلاع 2014؛ إذ كان نحو ثلثَي الرأي العامّ العربي متفائلا بتحقيق الربيع العربي أهدافه. والواقع أنّ هذا التراجع في درجة التفاؤل مقابل ارتفاع منسوب الإحباط يفهم من منظور أنثروبولوجي بانعكاس صيرورة الثورات على مواقف المواطنين منها، فالثابت أنّ العرب كانوا يظنّون أنّ الربيع سيمتدّ في الزمان والمكان، وسيحدث نقلة جديدة في حياتهم نحو الحرّية والعدالة والكرامة والنزاهة والأمان والرفاه، لكنّ ما حصل عمليا لم يكن مستجيبا لأفق انتظارهم، بل جاء مخيّبا آمالهم ، فعلى الصعيد المعيشي ارتفعت الأسعار، وانحدر مستوى العملة المحلّية، وانتشرت البطالة، وتدهورت المقدرة الشرائية للمواطن، واستفحل الفساد بدل أن يتراجع، وتعثّر مسار العدالة الانتقالية، فساء حال المظلومين، وأفلت معظم الظالمين من العقاب، أو تمّت تبرئتهم لاحقا. وزاد الأمر قتامةً الانقلاب على الثورة في مصر بقوّة العسكر، وتحويلها إلى صراع دموي على السلطة في اليمن وليبيا، والعمل على تصفيتها في سورية عبر الاحتكام إلى البنادق والاستقواء بالأجنبي. فيما مازالت الثورة التونسية، على الرغم مما حققته من منجزات حقوقية/ سياسية مهمّة تكابد من أجل الخروج من الضائقة الاقتصادية. ومن ثمّة، بعثت هذه السيرورة المرتبكة للربيع العربي في النفوس إحساسا بشيء من الإحباط لا محالة . لكنّ ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنّ الحراك الاحتجاجي قد حقّق مكاسب، أهمّها سقوط جدار الخوف، ونهاية أسطورة الحاكم الأبدي المعصوم، واتساع مجال الحرّيات، وعودة المواطن إلى الفعل في الشأن العامّ. وفي ظلّ عدم تقديم الدولة القامعة التي استولت على الثورة بدائل ناجعة تحسّن معاش الناس وأمنهم وتضمن حقوقهم، يبقى من غير المستبعد أن تستعيد الثورة عنفوانها، وتستفيد من عثراتها السابقة. ومن المهمّ، هنا، أن تمارس القوى الثورية الحيّة تجربة النقد الذاتي الموضوعي، وتنتقل من الارتجال والانفعالية إلى توخي الواقعية والعقلانية في فهم الراهن واستشراف المستقبل.

المؤشر العربي استطلاع راهني، متجدّد، دقيق، يواكب حركة الاجتماع العربي باستجلاء آراء عيّنة واسعة من المستجيبين، ما يجعله يقدّم رؤية كاشفة للرأي الجمعي العربي، مفيدة للباحثين والثائرين وأصحاب القرار على السواء.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان