لا تستعجلوا هطول دموع ترامب
يحلو لبعض المتحمسين بناء آمال على تصريحات ترامب الأخيرة.. فهذا الغر في السياسة ظن أن العالم بسيطٌ مربع الزوايا، يكفي أن تضع مربعاً فوق مربع حتى تبني جداراً متيناً.. ولكن الصخور التي يصطدم بها تعيده في كل مرة لتعلم دروس جديدة. ففي سياسته الداخلية، اصطدم حتى الآن بصخرة إغلاق الحدود الأمريكية، وبالعجز عن إبطال خطة أوباما الصحية (أوباماكير).
وفي السياسة الخارجية، ظن ترامب أن بوسعه وضع يده مع روسيا بوتين لجعل محاربة داعش أولوية قصوى وتحقيق انتصارات سريعة، بمجرد زج المزيد من الطائرات والقوات ليُظهر أنه أكثر جدية من سلفه، متناسياً تعقيدات الواقع، ومسببات داعش وخلفياتها..
وقبل أسبوع فقط من ضربة خان شيخون تبارى أقطاب إدارته في إعطاء الإشارات والتصريحات الواضحة بأن رحيل الأسد لم يعد أولوية أمريكية، وأن مصير الأسد يقرره الشعب السوري (الذي هُجر نصفه ويقبع نصفه الآخر إما تحت الأنقاض، أو تحت سيطرة أجهزة الأسد من جهة، وأجهزة النصرة وأخواتها من جهة أخرى!).
وبالأمس صحا ترامب على صور خان شيخون الذي زعم أنها غيرت موقفه.. وكأن الأسد كان يرمينا قبلها بالورود والرياحين! كما صحت مندوبته في الأمم المتحدة (التي صرحت قبل خمسة أيام أن رحيل الأسد لم يعد أولوية أمريكية) لتحمل صور الضحايا في مجلس الأمن وتهدد ضمناً بعمل أحادي إذا فشلت آليات الأمم المتحدة في ردع جرائم كهذه!
يحتاج المرء إلى كم هائل من السذاجة (كيلا نقول الغباء) لكي يبني أحلاماً على إدارة بهذا المستوى من فقدان الرؤية والتخبط، والنظرة المُبسطة لتعقيدات العالم.. فحتى لو افترضنا جدلاً أن ترامب اقتنع أخيراً بضرورة الضغط عسكرياً على مجرم دمشق.. ما الذي سيحدث خلال الأسابيع القليلة المقبلة؟
سيأتي ألف مستشار ليعدد لترامب مخاطر تدخل يؤدي إلى الفوضى في سوريا، وهي فوضى لا مفر منها في غياب قوة سورية تمسك بزمام السلطة وتكون من المصداقية والاتساع والتمثيل الشعبي بحيث تمنع انهيار الأوضاع ووقوع البلد في فوضى عارمة وثارات لا نهاية لها، بل وفي سيناريوهات التقسيم الذي أصبحت أرضه ممهدة إلى حد ما. وسيسهم الروس وتُسهم إسرائيل وغيرهما في تحذيره من مغبة هذا المآل، وفي بلع غضبه المفتعل والتفكير في خيارات أقل طموحاً وأكثر واقعية. (المفارقة السوريالية هنا أن تُقدّم حكومة الاحتلال التي دمرت أكثر من نصف سوريا على أنها ضمانة لوحدة البلاد!).
وفي هذه الأثناء، ستضغط روسيا على النظام لكي ينحني قليلاً أمام العاصفة، وستستمر الفصائل المتأسلمة الممسكة بالأرض في التصرف بما يثبت للعالم كله بأنها لا تصلح لإدارة قرية صغيرة، ناهيك عن بلد متنوع ممزق.
وفي هذه الأثناء أيضاً، ستبقى النُخب السورية و"القوى السياسية" السورية (إذا صح التعبير)، غارقة في نرجسيتها وجدالها البيزنطي، غير قادرة على بناء تيار وطني عريض ومتماسك يلتقي على الأولويات الكبرى لتقديم بديل عقلاني ومقنع لهذا العالم! وفي هذا السياق، تعتبر هذه النخب والقوى أكبر مقصر بحق سوريا ومستقبلها.
رؤية ربما كانت سوداوية مريرة.. ولكن الدواء المر يبقى أفضل من المُسكّنات الخادعة؟