عندما تدعوك امرأة مغرمة بك لتناول الطعام من مطبخها، ومن صنع يديها، لا تشك أبدا أن مذاق أطباقها سيكون أكثر بلاغة مما لو كتبت إليك رسائل حب، وربما ستفرش لك الورود من الباب إلى الباب؛ لكن هذا لا ينطبق على من يريد إقناعنا، من أحزاب الإسلام السياسي ودعاة ولاية الفقيه الإيراني وعطشى السلطة الذين يعانون الجفاف منذ قرون ومعهم رهط من المظلومين الجدد الأثرياء، بأنه بصدد إعداد طبخة جديدة تتكون من أفضل وأطيب وأشهى أنواع الحكم الديمقراطي كمناسبة لنبذ الماضي القريب بوعود وتتبيلات محبة صادقة تعوض المكائد والدسائس التي غالبا ما انتهت بالتسمم كالعادة.
14 عاما من غياب سماحة الدين الإسلامي في ظل حكم ساسة يتوضؤون 5 مرات بدماء الضحايا من الشعب العراقي، ومعها النوافل أيضا ثقة منهم باستمرار شعوذة السلطة.
في حالة اللادولة واللاسيادة تنمو طحالب الميليشيات والسرقات والمافيات وجيش من المرتشين والفاسدين والمحتالين والمزورين مع غياب للقانون إلا في حالات الاستجابة لمشاريع كبرى.
يحضر القانون برفقة جوقة منشدين لتوفير غطاء لأسوأ ما يشهده العراق في قادم أيامه، تمهيدا لحشده السياسي بعد تمرير قوانينهم الخاصة التي تم فيها زجه بالمهمات الخاصة للحرس الثوري الإيراني بما جنبهم ردود الأفعال الدولية والإقليمية رغم أنها مكشوفة وعارية.
كيف نصف نظام الحكم في العراق، إسلامي وهو لا يمت للإسلام بصلة رغم عناوين الأحزاب، وليس بنظام علماني أو ليبرالي، ودون رشد لأنه لم يبلغ سن الفطام والشبع، معظم قادته يحملون على أكتافهم وزر الخيانة العظمى الموثقة والمثبتة بالاحتلال، حقائق دامغة وأقوال مسجلة لبدائية ووحشية مطلقة زرعت الإبادات المجتمعية المتقابلة والتشفي بالموت والإقدام على ارتكاب المجازر تحت أنظار العالم وإعلامه؛ نظام حكم بلا برامج أو واقعية سياسية أو بناء لجسور ثقة مع محيطه أو مع المجتمع الدولي، فقراء تحولوا مع استلام السلطة إلى أغنياء تتندر عليهم الصحافة وتستذكرهم الدول التي كانوا يتقاضون منها منح الرعايا وتمنع بعضهم من شراء معالمها لمعرفتها وتدقيقها بمصادر أموالهم المشبوهة.
يستوردون، بانتقاء غريب، أحداث الماضي البعيد ويزجون بها كعثرات أمام مستقبل الشعب، ولا أقول شعبهم، ويطلبون منه مع كل دورة انتخابية التجديد لهم بعد أن يستعرضوا له مشاريع ومسودات الحياة الفاضلة وهم أول من ينتهكونها ويتجاوزونها، في تعاط هجين لاستغلال الشعائر الدينية والطقوس والتعصب لإمداد وتغذية مقاييسهم الثابتة ولو على حساب البسطاء الذين يتبعونهم وهم مغمضو العيون باعتبارهم معممين وبالتالي مقدسين.
ولا نذهب بعيدا إلى شواهد من تاريخ التعصب للتوجهات الدينية وانقساماتها حتى داخل المعتقدات والتعاليم غير السماوية، فتنظيم الدولة الإسلامية بيننا وتنظيم ولاية الفقيه بيننا، أي إن الإرهاب بيننا ونحيا في مأزقه وتشظياته، فبماذا يختلف الإرهاب عن فكرة الظلم في الحكم إن في إدارة دولة أو إدارة دائرة عامة أو حتى شركة خاصة أو مدرسة بنظام تعليمي متخلف يعتمد الضرب والإهانة والتربية بالخوف والإذلال، ماذا نقدم لأجيالنا؟
تنشط العديد من الدول في حاضرنا بتأسيس رؤاها وذلك بجلب واستقدام المستقبل إلى الحاضر ليأخذه معه محركا ودافعا وبثبات يتحقق في التعليم واستثمار الإنسان كوسيلة وغاية؛ ماذا سننتج من جيل المخيمات والنزوح والعذابات وذاكرة الاحتقار المتعمد الذي تنتهجه حكومات وأحزاب تفرخ الإرهاب في مداجن سياسات التجويع ومعسكرات التشريد والطائفية وأيضا الفقر والإهمال والبطالة وفقدان الرغبة في الحياة تحت ظلال خناجر دستور جاهزة للإشهار عند الحاجة.
سياسيون يتباكون على ضربة لم تحدث لمفاعل نووي إيراني، لأنه المفاعل النووي الذي سيحمي بلاد المسلمين من المطامع الإسرائيلية في التمدد من النيل إلى الفرات؛ متناسين أن إيران استهدفت المفاعل النووي العراقي لكنها لم تستطع تدميره، كان ذلك قبل فترة من العدوان الصهيوني على مفاعل تموز في بغداد في 7 يونيو 1981؛ دلالات وإشارات ممانعة أصبحت مثار صمت بعد سخرية طويلة تحولت في يومنا هذا إلى غضب لم تكتمل بعد تداعياته رغم بلوغه مرحلة الجنون؛ في الأمر تتمة.
العراق هل هو أميركي أم إيراني أم الحقيقة تتمثل في استحواذ الإرهاب عليه؟
يمكن أن يكون بلدا لكل التسميات والأقوام والمزاجات والقوى السياسية والمذهبية والقومية، لكنه بكل تأكيد ليس عراقا لأهله، والعبرة دائما بالحكام فهم الذين يأخذون بيد الشعب، وهم أخذوه لكن إلى نظام رسخ عن سبق وإصرار دوامة العنف المستدام، ودفاع حيدر العبادي رئيس الوزراء، في ملتقى السليمانية الخامس عن مرحلة ما بعد داعش، عن الحشد الشعبي وسلاحه، وإدانته للسلاح خارج سيطرة الدولة بما يقترب من تعداده السابق للفصائل التي كان يصفها بالخارجة عن القانون وبلغت 100 ميليشيا سرعان ما برمجها كقوات عسكرية بإمرته، وهو يدري أنها لا تأتمر بأوامره، وهناك مستجدات لا تنقطع لميليشيات، حتى خارج منظومة هيئة الحشد الشعبي، تقاتل خارج الحدود ستجد لها مكانا شاغرا وبفارغ الصبر سيتم ملء الفراغ.
مصطلح “الفضائيين” في العراق شائع ومتداول ويقصدون به منتسبي الجيش خصوصا والذين يستلمون الرواتب دون أن يكون لهم وجود فعلي وعملي، وهو جزء من قضايا الفساد المالي التي تم الكشف عنها، وعزا بعضهم احتلال الموصل وغيرها من المدن إلى عدم وجود المقاتلين كما هي الأعداد المسجلة في قوائم الرواتب؛ في هكذا نظام أصبح الشعب تائها في فضاء دولة لا تحكمها جاذبية الوطن ومصالح البلاد والناس وغدهم.
الغارة الأميركية الإعلامية لحملة المرشح الجمهوري دونالد ترامب قبل انتخابه رئيسا لم تعد إعلامية، وبرنامجه في القضاء على الإرهاب العالمي بدأ يتموضع في سوريا وبوضوح أكبر في العراق وذلك بزيادة القوات ونشرها دون ضجيج وعلى ودفعات وبأماكن متفرقة، والأخبار صادمة بكل تأكيد للإرهاب الداعشي المتواجد على أطراف محافظة الأنبار في مدن عانة وراوة والقائم، والاستعدادات والترقب للمعارك حاضرة في تهيئة الحشود العشائرية ومنها من لا علاقة له بالحشد الشعبي الطائفي ويقاتل مع القوات العسكرية لتحرير مناطقه.
رد الفعل يأتي من بعض قادة الحشد بالرفض لمشاركة أعداد إضافية من القوات الأميركية في الحرب ضد الإرهاب، رغم أن الأميركيين يشاركون في الدعم الجوي الكبير الفاعل في معركة الموصل وكذلك في إسناد القطعات الأرضية. لماذا التوجس من الحرب الحاسمة على الإرهاب؟ الجواب في الصراع الأميركي القادم مع إيران، الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم، وهي حرب سيخوضها الحرس الثوري الإيراني لكن وقودها من العراقيين من منتسبي الحشد، وهو وقود متوفر ورخيص وتحت الطلب وبأمر الولي الفقيه طبعا.
المشهد يبدو تصعيدا أميركيا سيقابله طبعا تصعيد إيراني. أدوات إيران وأذرعها بإنتاج واسع على الأرض العراقية، لكن التصعيد في العراق سيكون أولا انتخابيا وذلك بخصم النسبة العربية منه؛ أما ما نلمسه من تقارب في العلاقات بين العراق والعرب فهو مجرد ابتسامة لقناع إيراني ربما لمرة واحدة إذا أسعفه الزمن ضمن سياسة الملالي الذين سيكشرون عن أنياب مشروعهم الإمبراطوري ضد العرب كما فعلوا دائما بتعبيد الطريق لعرابهم نوري المالكي أو أحد قادة ميليشياتهم لتسلم السلطة. أميركا بدأت بالتواجد الدائم لمحاربة الإرهاب في العراق، وهناك من ساسة العراق مازال يرى أن الحل لا يأتي إلا من داخل أقبية الأغلبية السياسية الطائفية؛ للعراق بقية، بقية من عروبته ومن شعبه الصابر.
هذا أسبوع مهم للدبلوماسية السعودية... تعزيز العلاقة مع الصين، أكبر مستورد للبترول في العالم، وفتح صفحة جديدة مع الرئيس الجديد الأميركي دونالد ترمب لإصلاح ما أفسده الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي تقارب مع إيران ضد مصالح وأمن الخليج والسعودية.
والسعودية التي وجدت نفسها في زاوية ضيقة نتيجة الحروب والتبدلات الجيوسياسية، والنفطية أيضاً، تشن حملة دفاع مضادة... الملك سلمان بن عبد العزيز يجتمع مع القيادة في الصين التي طلبت التوسط لإيران التي أصبحت تنشد المصالحة، في الوقت نفسه التقى الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد، بالرئيس الأميركي.
وعن اجتماع البيت الأبيض وصفه متحدث سعودي لشبكة «بلومبيرغ»، بأنه «نقطة تحول تاريخية... وأن اللقاء أعاد الأمور إلى مسارها الصحيح وشكّل نقلة كبيرة للعلاقات بين البلدين في المجالات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية كافة». والإشارة هنا واضحة إلى إعادة الأمور التي أفسدها أوباما إلى مسارها، وإعادة العلاقة الخاصة بين البلدين التي بنيت على تفاهمات الاجتماع بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت على الطراد «كوينسي»، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
قيل رسمياً القليل عن اجتماع محمد بن سلمان مع ترمب، الذي لم يمر على رئاسته سوى أقل من شهرين، إلا أن البيت الأبيض أظهر اهتماماً كبيراً. فالرئيس، الذي قدم موعد الاجتماع قبل موعده بيومين، أشرك معه أركان البيت الأبيض، بما فيهم نائب الرئيس. وما صدر، بصفة غير رسمية، يوضح أن واشنطن بدلت سياستها تجاه إيران، وأنها لن تقف مكتوفة اليدين حيال نشاطاتها الإرهابية. ومنذ أسابيع تبنت إدارة ترمب موقفاً مختلفاً عن أوباما، حيث سمحت بشحن الذخيرة للقوات السعودية، وتقديم المعلومات الاستخباراتية لدعمها في اليمن.
لقد مرت السعودية بفترة مضطربة في علاقتها مع واشنطن خلال فترة الرئيس السابق أوباما، بل إن المنطقة كلها مرت بمرحلة مضطربة لا مثيل لها في تاريخها، حيث شجع انفتاحه على إيران توسعها عسكرياً في العراق وسوريا واليمن. ومن مضاعفات سياسته الفوضى التي عمت المنطقة. رحلة الأمير محمد بن سلمان ضمن موضوعاتها إقناع ترمب بعلاقة جديدة تنشد تصحيح الوضع، ومواجهة هيمنة إيران. وكذلك مواجهة الإرهاب، العدو المشترك للجميع، بمحاربته جماعياً. واقتصاديا، أشار متحدث في الوفد إلى أن الجانب الأميركي راغب في تعزيز المشاركة في مشروعات الرؤية الاقتصادية.
وفِي الصين لم تكن إيران الوجبة الوحيدة على قائمة الملك والرئيس، وبخاصة أن العلاقات جيدة في النفط، والاقتصاد، والتعاون العسكري، وفي ملفات حساسة، من أهمها التعاون الأمني. وهناك مشروع الصين الواعد والمثير، طريق الحرير، اقتصادي عملاق له إشكالات سياسية معقدة، نتيجة أنه يمر بمناطق نزاعات. ومن الخيارات المُحتملة له، أن يتخذ هذا الطريق من الأراضي السعودية ممراً أو يكون درباً موازياً.
وكل المعلومات التي تصدر عن بكين تبين أنها ماضية في تعزيز حضورها بهدوء عجيب، في مناطق غرب آسيا وشرق أفريقيا. فالصين، اليوم، هي القوة الاقتصادية العالمية الثانية بعد الولايات المتحدة، وتحتاج، ككل الدول الكبرى، إلى الموارد الأولية، ومصادر الطاقة، وتأمين ممرات تجارتها، وحماية استثماراتها ومصالحها. والصين، بخلاف بقية الدول الكبرى، لا تعتمد سياسة النفوذ بالوجود العسكري، بل تستخدم نفوذها الاقتصادي لفرض مواقفها أو حماية مصالحها.
أمام العالم، نموذجان في منطقة الشرق الأوسط؛ واحد يعرض رغبته في تعزيز علاقاته بالتعاون التنموي والاقتصادي، ونموذج يستخدم الحروب والإرهاب وسيلة لفرض علاقاته.
بنظرة طائرٍ يمر فوق سوريا، على فَرضِ أنه محميٌّ من الطائرات والقذائف، سيقول: ليت ما كان لم يكن، فإنها كانت "محميّةٌ" طبيعية جيّدة لمعيشة الكائنات الحية، عدا الإنسان.
أصعب من دمار البيوت على رؤوس أصحابها، أنها خاوية فأهلها هم جدرانها وأعمدتها مهما تهاوَتْ، أقسى من انعدام طُرق الحياة، أن بعضًا من الناس لم يعودوا معنيين بالبحث عنها، أشد قهرًا من ظروف الاعتقال، المنتظرات لأي خبرٍ عن المُعتقل وليس انتظار عودته، أكثر بُعدًا من الموت، أولئك المختطفين أو المختفين، فلا العزاء يُعزّي فاقديهم، ولا الانتظار يخفف غيابهم، أفظعُ من الهزيمة، أن لا تعرف عدوّك.
نعم، ليت كل ذلك لم يكن، فما من أحدٍ يسعى إلى أن يُقتل أهله، ويُهدم البيت وأصحابه تحت أنقاضه، وأن يموت الناسُ جوعًا ـ وهذا ليس مجازًاـ، وأن تضطرب أنفاس الخلائق ولو للحظة بالغازات السامة، وأن ينشأ جيلٌ لا يعرف مبادئ العلم والتفكير، عداك عن كل المصائب الأخرى، وهذه من البَدَهيّات التي لا نقاش فيها، ولكن لماذا ما زال الناس يصرّون على معايشة كل هذه المآسي والآلام؟! لماذا خرج الناس وهم يعلمون أنهم سيُقتلون، ثم خرجوا وهم يُقتلون، ثم خرجوا بعد أن قُتلوا، ثم خرجوا على قاداتهم، وما زالوا يقاوِمون بما أوتوا؟، لماذا يُصرّون على دفع هذه الأثمان من جيوبهم لا من جيوب سواهم، من نفوسهم ونفوس أبنائهم، من دمائهم التي جرت أكثر من مياههم، لماذا كل هذا؟ لأن اتفاقًا ضمنيًا بين الناس يقول لهم: كل ثانيةٍ نتراجع فيها ثمنها سنواتٌ من الخنوع والخضوع، لأن الناس لن تُسلّمَ أمرها لطاغيةٍ ولا لمحتل، مرةً ثانية.
إذا كان الصدام مع النظام قد جلب للناس كل هذه المصائب، فإنه كالمخاض موجِعٌ ولازمٌ، فحتميّة الصدامات بين الناس والسلطات القمعية تبشّر بالمصائب والآلام، وهذا ما اعتمده نظام الأسد، أن يقول للناس في كل مكان: "هذه مصائر الصدامات معنا"، ولعل أنظمة أخرى أعانته على ذلك لإيصال هذه الرسالة، ومنها المجتمع الدولي "المُتحضّر" الذي ترك الناس أمام مصائرهم، ووقّع على قرار إعدامم ودفن مستقبلهم متحججًا بألاعيب وشماعاتٍ سئم الأطفال من انتقادها وردها على مُطلِقيها.
تنوّعت المواقف بين السوريين في ذكرى انطلاق الثورة، ولعل هذه السنة كانت الأوضح على اختلاف المواقف بينهم أو على المزيد من إلقاء حجارة الرجم عليها، وهذا يؤكِّدُ أن لا مقدّس الآن، وكل شيء عُرضة للمراجعة والتفنيد، وربما كان عام 2016 أسوأ ما مرّ على الثورة والبلاد، وهذا ربطٌ جيّد، فكلما رأينا الثورة منتعشة تأمّلنا بمستقبل البلاد، والعكس بالعكس، فهو اعترافٌ ضمنيٌ بأهمية الثورة ومآلاتها.
ليتها لم تكن، يحقّ لأي متألمٍ أن يقولها، نعم ليت هذا الصدام لم يكن، ولكن صمامات الأمان بين السلطة والناس كانت مهترئة، تصدّأت من عفن الطغاة وأعوانهم ـ مشايخ ومفكرين ووجهاء ـ فكان ما كان.
ليتها لم تكن، يحق لأي مخذولٍ قولها، وهو الذي رأى مَن اغتنوا مِنْ جُرحه، وسكنوا مِنْ تشرّده، وشبعوا مِن جوعه، لكن المحاولات الفاشلة لا تعني النهاية أبدًا، وخاصة أن الناس لم تُهزم، وعادةً الناس لا يُهزمون.
ليتها لم تكن، تلك السلطة / العصابة، التي تقتل من يحلمون وتصلبهم على جدران جبروتها، تحاصر الناس ثم تطلب من عجوزٍ أن يُقلد صوت الكلب كي يأخذ رغيف خبز لعياله ـ كما حدث في مخيم اليرموك ـ، هذه السلطة التي ليتها لم تكن، كي لا نتصادم معها هذا الصدام الهائل.
ست سنوات من الموتِ الفائضِ والعناد، لا بد أن الثوار ـ جميع الثوارـ قد أخطؤوا بأماكن وأصابوا في أخرى، فثورات الكريستال خيالٌ علميٌ أمام واقعٍ كهذا، ولا بد أن الانحرافات كثيرة، ولا بد أن "الصف الأول لم يتجذّر"، ولا بد ولا بد ..، ولكن، أعرفُ سيدةً ما زالت تخبِزُ للناسِ، وتنسج صوفًا، وتصلّي، وتقدّم للأمل المقطوعِ من الأشجار .. أغانيها، تلك الثورة.
"في ذكرى الثورة السورية"
كان هناك رجل عربيّ أصيل..
شهمٌ كريمٌ وفارس مقدام ومغوار..
له في المعارك صولات وجولات..
ذو شأن عظيم..
كان وجيهاً في قومه..
كان أكبرهم سناً.. وأفضلهم حكمة وأكثرهم خبرة..
كان لا يردّ سائلاً ولا فقيراً ولا محتاجاً..
كان يقري الضيف ويكرم الغريب ويحسن معاملة الصغير قبل الكبير..
يحترم الجميع.. ويحب الجميع..
جاءت عصابة من خارج المدينة..
احتلت المدينة وأعدمت كل وجهائها..
أبقت على هذا الرجل..
ولكنها سجنته.. وعذبته..
دخلت بيته..
وعبثت بأشيائه الخاصة وبأوراقه..
لبست ثيابه وسرقت هويته..
غيرت كل شيء..
غيرت ملامح البيت وملامح المدينة..
لم ينكر على هذه العصابة أحدٌ شيئاً مما فعلته..
فأعجبها الحال فسكنت بيت الرجل..
واغتصبت زوجته وقتلت جميع ابناءه..
ومازلت تعذب الرجل كل حين..!
أنجبت الأم المغتصبة طفلاً صغيرا معتقلاً..
قاموا بتقييده إلى سرير أمه منذ ولادته..
ومنعوا الجميع من رؤيته أو الحديث معه..
يرمون له فتات طعامهم وبقايا فضلاتهم حتى يبقى على قيد الحياة لا أكثر!
ما أرادوا له خيراً وما أرادوا له حياة..
أبقوه فقط لكي يخبروا العالم أن لديهم طفل بحاجة إلى مساعدة..
وقاموا بجمع التبرعات والمساعدات على اسم هذا الصبي المعتقل!
بقي هذا الطفل مقيداً إلى سريره قرابة الخمسون عاماً..!!
أبوه ينازع..
ما يزال تحت التعذيب..
أمه باتت عجوزة..
لا تقوى على شيء..
ومغتصبوها يعيثون فساداً في البيت وفِي البلاد..
قرر هذا الطفل "الكهل" أن يفك وثاقه بيديه..
قرر أن يقوم..
قرر أن ينهض ليأخذ بثأر أبيه وأمه..
فك قيوده فجأة وقام..
قام.. ولكنه لم يكن قد تعلم المشي بعد!!
خمسون عاماً لم يجرب خلالها الحياة..
وفجأة انطلق إلى العالم الذي كان ينظر إلى عجوزٍ في الخمسين من العمر.. ولكنه لا يعرف المشي ولا يعرف حتى الكلام!
لم يستطع هذا الكهل أن يقف..
حاول أن يستند إلى شخص يقف بجانبه.. تعود أن يراه دائماً من الشباك.. إنه جاره..
فما كان من الجار إلا أن أدار ظهره لهذا العجوز فوقع على الأرض..
تمالك نفسه ووقف من جديد..
حاول المشي فتعثر..
حاول الكلام فتلعثم..
مد يده للجميع..
فأدار الجميع ظهورهم له..
وقع من جديد..
أراد أن يخبر العالم بما كان يفعله المجرمون به.. وما كان يفعله في أبيه وأمه من قبله.. فما استطاع الكلام..
وما وجد من يريد الاستماع أصلاً..
حاول أن يذكرهم من هو أبوه!
وكيف كان أبوه يكرمهم ويحميهم ويحل مشاكلهم في أوقات أزماتهم.. فوجدهم له منكرون!
قرر أن يعتمد على نفسه ويتعلم المشي والكلام..
أمه مقيدة هي الأخرى ولا تقوى على الحراك..
أبوه ينازع في المعتقل وقد يكون فارق الحياة!
لا بد أن ينهض..
لا بد أن يستجير بأحد..
لا بد أن يطلب المساعدة لأبيه وأمه..
قام..
وبكل إصرار وعزيمة..
مشي خطوته الأولى..
فالثانية..
فالثالثة..
بدأت الابتسامة ترتسم على شفتيه العجوزين.. ابتسامة نصرٍ لطفلٍ قد تعلم المشي لتوّه..
انتبه بعض الجيران..
قاموا بتنبيه المغتصب..
المنتبه أصلاً والذي كان يخشى هذه اللحظة..
فما كان من الجميع إلا أن تحلقوا حول هذا العجوز الطفل وانهالوا عليه ضرباً ورفساً بكل ما ملكوا من قوة ومن وسائل..
يقوم المسكين ويقع..
والجميع يضربه بلا هوادة وبلا شفقة وبلا رحمة..
لم يكتفوا بذلك..
لاحقاً.. اكتشف هذا الكهل الطفل أن الجميع كان يعرف بقصته..
والجميع كان يشاهد مأساته..
والجميع كان يبارك لمغتصبي أمه ويهنؤوهم على فحولتهم ورجولتهم!
والجميع كان لا يريده أن يقوم.. بل كان يتمنى له الموت..!!
نفس الأشخاص الذين ساعدهم أبوه من قبل..
نفس الجيران الذين أكرمهم أبوه من قبل..
هم من قاموا بطعن هذا الطفل ومساعدة مغتصبي أمه..!!
ستّ عجاف..
ستّ شداد..
ستّ ثقال..
سيعقبهن فرج من الله..
هي اليد التي ستمتد لتغيث هذا الطفل المظلوم أخيراً..
يوماً ما..
وقبل أن يأتي الطوفان ليقتلع الجميع..
سيطلب الجميع من هذا الطفل أن يسامحه..
وسيطلب من هذا الطفل أن يساعده..
وسيطلب من هذا الطفل أن يعينه..
حينها..
هو الوحيد الذي سيكون قوياً..
وهو الوحيد الذي سيكون خبيراً..
وهو الوحيد الذي سيمد يد العون لتلك الأيدي الغادرة التي لطالما غدرت به..
وهو الوحيد الذي سيبقى على خلق أبيه، فيساعدهم ويكرمهم..
وهو الوحيد الذي سيحافظ على شرف أمهاتهم، فينقذهن من براثن المعتدين المغتصبين الآثمين..
وهو الوحيد الذي سيبقى كهلاً بجسده.. طفلاً بروحه..
الأم: سوريا
الرجل: الشعب السوري
الطفل: الثورة السورية
الجيران: الدول العربية والإسلامية
المغتصب: *** يمكن ملأ هذا الفراغ بأي شيء تراه مناسباً: (النظام السوري.. المعارضة السورية.. الجماعات المتشددة.. العصابات الإرهابية.. داعش.. النصرة.. العالم.. إلخ) فالكل شريك في الجريمة الإنسانية البشعة التي تُمارس في حق الشعب السوري المسكين الأعزل..
يتذكر السوريون “الخازوق” الذي أُعدم فيه معارضون سياسيون وأبطال النضال الوطني أيام الحكم العثماني لسورية، ولا تزال ساحة المرجة شاهد على تلك الإعدامات التي سجلها التاريخ.
التاريخ، الذي يحفل بالدماء وعمليات إبادة، يكتبه المنتصر ويبكيه المسحوق، فالخازوق أصبح مجرد حكاية في صفحة أو اثنتان بكتاب التاريخ المدرسي، وتحول معنى الخازوق من “أبشع أداة إعدام في التاريخ”، إلى كلمة أخرى عامية، يستخدمها الناس في الأحاديث اليومية وللتندر أحيانًا.
اليوم بعد 6 سنوات على انطلاق الثورة السورية، يبدو المشهد أكثر تعقيدًا وتشابكًا على المستوى الدولي، وفي ذات الوقت، أكثر مأساوية ودموية على المستوى السوري.
حاول البعض البحث عن مقارنة مع شعوب أخرى تعرضت لما يشبه ما تعرض ويتعرض له السوريون من إبادة، لكن هذه المقارنات، وان نجحت في إيجاد شَبَه في التدمير والقصف، كان من الصعب عليها العثور على تجربة خضعت فيها الدولة لاتحاد شاذ بين مختلف الأضداد على تدمير إرادة شعب وقمعه كما يحدث في سورية.
ويبقى التاريخ حبيس المنتصر، فلا أحد يمكنه أن يعرف كيف ومن سيكتب التاريخ، وكيف ستتحول الثورة السورية ودماءها على يده.
اليوم وبعد 6 سنوات على انطلاق الثورة السورية، ومع وجود احتلالين مباشرين من قطب دولي “روسيا”، وإقليمي “إيران”، لا تزال ممارسات نظام الأسد ذاتها في درجة القمع والتعذيب والملاحقة، كما أن تجار الحرب الذين خرجوا من عباءة النظام ما زالوا يُقاسمون السوريين لقمة عيشهم، أما المحتلين فما زالت وسائل إعلامهم على جهوزيتها في مواجهة أي تحرك دولي، أو تقرير لمنظمات إنسانية ترصد جرائم الحرب.
قبل عامين خرجت صور “سيزر” للعالم، وجالت صور الجثث التي لا تشبه الجثث، جالت بعض دول العالم في معارض تم تنظيمها لإلقاء الضوء على جرائم الحرب التي ارتكبها الأسد، وعلى معنى أن يموت البشر تحت التعذيب، ولكن… عادت القضية للنوم، وكأن ثمة من يريد موتها.
آخر تصريحات الأمم المتحدة جاءت مؤخرًا على لسان المفوض السامي لحقوق الإنسان، الذي قال “إن سورية بأسرها تحولت إلى غرفة تعذيب”، وأن النزاع الذي يدخل عامه السابع هو “الكارثة الأسوأ من صنع البشر” منذ الحرب العالمية الثانية.
والمأساة السورية تستمر، والتصريحات تستمر، والدم لا يتوقف، والتاريخ ينتظر المنتصر.
اليوم وبعد 6 سنوات على انطلاق الثورة السورية، اعتدنا كسوريين على فشل وخذلان المعارضة السياسية أو كما سماهم السوريون “ثوار الفنادق”، وألفنا النكات حول فسادهم، وهاجمناهم بالجلسات العامة والخاصة، ولكن عندما جاء الخذلان من الداخل، هرب السوري إلى نفسه، ونطق الشهادتين تحضيرًا لموته.
الداخل، أو كما أحبوا أن يسموا أنفسهم “ثوار الخنادق”، جاء الخذلان من الداخل، فعُقدت المصالحات على طول سورية وعرضها، وتمت الموافقة على تهجير السكان وتجميعهم في مدينة إدلب، تحت رحمة الاحتلال الأسدي والروسي والإيراني، وتم تسليم حلب، وحمص، ووادي بردى، وداريا والمعضمية وكناكر ومضايا والزبداني، والغوطة تسير على طريق التسليم، وانتشرت اتهامات الخيانة بين الفصائل، وخرجت إلى العلن فضائح لقادة عسكريين، وانشغل حاملو السلاح بالتطبيل لروسيا في أستانة 1 لأنها اعترفت بهم وتجاهلت المعارضة السياسية التي تكلمت باسم السوريين لسنوات، وبدأت الهيئات الشرعية تزداد وتصدر الأحكام وتغلق الجمعيات الإنسانية والصحف والمجلات، وتمنع المقالات، ولا يزال التاريخ يتفرج على ما يحدث في سورية، فكل منتصر على شبر سيكتب تاريخ هذا الشبر من الأرض.
اليوم وبعد 6 سنوات على انطلاق الثورة السورية، ذهب أوباما “الجبان” و”المتردد”، وجاء بدلًا عنه وحش من نوع آخر، أطلق العنان لسادية وعدوانية اتجاه اللاجئين، واعتبر الأسد حليفًا في الحرب على داعش، ولم يهتم كما لم يهتم سلفه، بأن فرق الإعدام هي الرد الوحيد لدى النظام والمحتلين للرد على ضحكة طفلة أو كلمة حب سورية.
تغير العالم كثيرًا في هذه السنوات الستة، فالتعصب والعنصرية يتغلغلان أكثر، وما كانت أوروبا تحاربه لعقود وتحاول تغطيته من مشاعر يمينية عنصرية أصبح في البرلمانات وعلى شاشات التلفزة، وصار مُرشحًا للرئاسة، وما وصول ترامب المتطرف بفكره المتعصب لرئاسة أمريكا إلا دليلًا على مدى الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه العالم.
التاريخ يكتبه المنتصر، وكما حصل أوباما على جائزة نوبل للسلام يومًا ما، وحصل تشرشل على نوبل الآداب، ولأن الحرب لا تحدد من هو صاحب الحق، وإنما تحدد من تبقى، فإنه وفي عيد الثورة السادس، يبقى لنا أن نحاول أن لا ننسى أنها ثورة منذ اليوم الأول، وأن العالم كله تآمر على ثورتنا فحولها إلى حرب.
تكمل الثورة السورية اليوم عامها السادس وحال أهالي المناطق الثائرة يوجع القلب والروح، فقد تُركوا وحدهم ليعانوا أشكال التجويع والحصار والإفقار والتهجير والإبادة الموصوفة بأشكال خارقة من القتل بالبراميل المتفجرة والصواريخ العنقودية والفراغية وأحياناً بالأسلحة الكيميائية، وانقطعت عنهم أشكال الإمداد المادي والمعنوي والتسليحي بحيث صار الخيار الوحيد لهم هو «مصالحات النظام» التي تُخلي الأرض من بشرها، وتفرغ المناطق الثائرة من محاربيها وحاضنتهم الاجتماعية، وتمهّد الطريق، في أحيان كثيرة، لتغيير ديمغرافي وطائفيّ فتستوطن حشود شيعية من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان الأمكنة المهجورة، ويتلازم ذلك أحياناً مع طقوس تشفّ وغطرسة وقهر علنيّ، كأن يذهب رئيس البلاد المفدّى مع وزير دفاعه ومفتيه وأزلامه ليصلّي في مدينة هجّر سكّانها وحوّل بناياتها أنقاضا وأبدل عزّها ذلاً.
وخلال السنوات الماضية كانت أنواع الدعم البشريّ والعسكري للنظام تزداد، فبعد رشاوى بعض دول الخليج مع انطلاق الثورة، والتي لم تغيّر أنملة من سلوك إدارة بشار الأسد، ومع اتساع الثورة واشتداد قوتها وتراجع النظام شهدنا إناخة روسيا بظلّها الجوّي على الكيان السوري ومحاصرتها سواحل البلاد بمدمراتها وبوارجها وبناءها قواعدها العسكرية والجوّية في طرطوس وحميميم وإعلانها تحرير مدن كتدمر ثم تسليمها للنظام، بل واحتفالها بانتصاراتها، بصفتها الدولة المتحضرة في الشرق المتخلف، باستحضار فرق أوبرا وغناء، فيما تتشارك اقتسام البلد المهيض الجناح مع إيران، حليفها الجغرافيّ وشريكها صاحب الشوكة والهيلمان في الإقليم، الجمهورية الإسلامية التي انتهى أمر ثورتها ضد المستكبرين لتزجّ بقوافل المهمّشين الشيعة في أفغانستان وباكستان ولبنان والعراق لقتال إخوتهم العرب السنّة الثائرين، تحت رايات الدفاع عن المقدّسات الشيعية وثأر الحسين لتغطّي على أهدافها الحقيقية العديدة وبينها استخدام أوراقها هذه للتفاوض مع «الشيطان الأكبر» (على حد وصف الإمام الخميني لأمريكا) وتوطيد نفوذها الإقليمي والحفاظ على طاغية أصبح عمليّاً والياً من ولاتها.
مع اشتداد بطش النظام ونجاته من «الخطوط الحمراء» التي رسمها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وممارسة هذه الإدارة ضغوطاً على بعض الأنظمة الداعمة للثوار لصدّهم كلّما اقتربت إمكانيات إسقاط النظام، انسدّت الآفاق واسودّت، وتفاعلت مظالم إيران ونظامها التابع في بغداد الوحشية ضد المكوّن السنّي مع التداخلات الاستخباراتية لتعطي دفعة لتنظيم «الدولة الإسلامية»، وهو مخطط، كان في أذهان استراتيجيي نظامي بغداد ودمشق، هو طوق النجاة من الثورات، وباب طائفيّ لتدمير مدن وحواضر الحواضن الشعبية لهذه الثورات بحيث لا تقوم لها بعدها قائمة.
كان يمكن لهذه المخطّطات الخطيرة التي رسمت في طهران وبغداد ودمشق أن تصطدم بحركة التاريخ الجبارة وبإرادة الشعوب العظيمة لولا تكاثر السكاكين في ظهور هذه الثورات وتعاضد خصومها المصممين على كسرها مع «أصدقائها» المتلاعبين والمشتغلين على الغدر بها وإنهاكها وإيصالها إلى المسار الذي وصلت إليه، لقد توازت شراسة روسيا وإيران مع مخاوف الإدارة الأمريكية من الإسلاميين وإخلائها الفراغ لنهوض النظام وحلفائه، ودخلت بعض الأنظمة العربية على خط هذا التآمر المباشر مع صعود مدّ الثورات المضادة في مصر واليمن وتونس وليبيا، فشهدنا محاولات متكرّرة لتصنيع حركات مشابهة لحركة حفتر في ليبيا، ودحلان في فلسطين، وارتفع الخصام الأيديولوجي مع «الإسلام السياسي» مرتبة على الصراع مع إيران ومخططاتها، وهو ما أدّى لكوارث جيوستراتيجية.
لقد تشارك العالم على وأد الثورة السورية وها هو الآن يدفع ثمن ذلك.
استبدّ الحماس بنخب اليمين الحاكم في تل أبيب، في أعقاب صعود دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة، وعلقت على العهد الجديد في واشنطن آمالاً عريضة بإحداث تحول فارق على السياسة الخارجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً تجاه إيران. وقد رفعت المواقف التي عبر عنها ترامب تجاه إيران، سواء خلال حملته الانتخابية، وبعد توليه مقاليد الحكم، سقف التوقعات لدى صناع القرار في تل أبيب، حيث راهنوا على استنفار الإدارة الجديدة لتبني سياساتٍ تجاه طهران، تستند بالأساس إلى محدّدات الموقف الإسرائيلي. وقد راهنت تل أبيب على دور ترامب في مساعدتها على تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة: ضمان عدم حدوث أي تآكل على التزام طهران بالاتفاق النووي الذي تم التوقيع عليه مع الدول العظمى، التوافق على استراتيجية مشتركة للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني، بعد انتهاء مدة نفاذ الاتفاق التي تمتد عشر سنوات، بشكل يضمن منظومة القيود على المناشط النووية الإيرانية، وإرغام إيران على وقف تدخلاتها في المنطقة، مع العلم أن كل ما يعني إسرائيل هو التدخل الإيراني في سورية ولبنان. وتحت وطأة خطاب ترامب المتشدد تجاه طهران، أوعز رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لرئيس الموساد، يوسي كوهين، وكبار موظفي مجلس الأمن القومي، في ديوانه بالتواصل مع فريق ترامب لوضع آليةٍ تضمن تحقيق هذه الأهداف.
لكن، عند إمعان النظر في السلوك والتحرّكات الإسرائيلية، يمكن الاستنباط أنه قد حدث، أخيراً، تراجع على سقف التوقعات الإسرائيلية من إدارة ترامب، في كل ما يتعلق بالتحرك ضد إيران. وقد عكس هذا التراجع، بشكل خاص، زيادة تل أبيب جهودها السياسية والدبلوماسية الهادفة للتأثير على الموقف الروسي من إيران وتدخلاتها في سورية.
اكتشف الإسرائيليون حقيقة أن رهاناتهم على ترامب مبالغ فيها، حيث أدركوا أن خطه المتشدّد تجاه إيران يتعارض مع رهاناته على تطوير علاقة الولايات المتحدة مع روسيا؛ ما يعني أن أية سياسات أميركية جديدة تجاه طهران ستأخذ بالاعتبار الموقف الروسي. ولما كانت موسكو تراهن على العوائد الاقتصادية لعلاقاتها مع إيران، المتمثلة في صفقات السلاح الهائلة، وبناء المفاعلات الذرية، إلى جانب العوائد الإستراتيجية المتمثلة في مساعدة موسكو على ضمان تأثيرها على الأحداث في المنطقة، فإن محافل التقدير الإستراتيجي في إسرائيل تستبعد أن تتعاون موسكو مع أي تحرك أميركي، يستهدف إيران في الساحة المهمة لها، وهي سورية. وفي حال أجبرت الانتقادات القاسية التي توجهها النخب السياسية ووسائل الإعلام الأميركية إلى ترامب، بسبب الاتصالات مع روسيا، في أثناء الحملة الانتخابية، إلى اتخاذه سياسة متشددة تجاه موسكو لذب الاتهامات عن نفسه وفريقه، فإن محافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب تخشى أن مثل هذا التطور قد يدفع روسيا إلى تعزيز شراكتها الاستراتيجية مع طهران. في الوقت نفسه، يرى الإسرائيليون أن الخطاب المتشدد تجاه إيران الذي يتبناه ترامب يتناقض مع التوجهات الانعزالية لإدارته، ما يقلص من فرص اندفاعها لاستثمار مقدرات عسكرية وبشرية لمواجهة إيران. إلى ذلك، يرصد الإسرائيليون بعض مظاهر تشابك المصالح بين إدارة ترامب وإيران، ولا سيما في العراق ومحاربة "داعش". وفي الوقت نفسه، تراجعت رهانات تل أبيب على إمكانية أن يسهم ترامب في بلورة بيئة دولية تساعد على فرض عقوبات دولية على طهران. ولعل الكاتب الإسرائيلي، شمعون شامير، قد عبر عن خيبة الأمل الصهيونية هذه، عندما اعتبر أن "خطاب ترامب الفظ" تجاه الدول الأخرى والمؤسسات الدولية يقلص من فرص استجابتها لأي تحرك دولي، يمكن أن تقوده الولايات المتحدة ضد إيران (معاريف، 4/3/2017).
تدرك حكومة تل أبيب المعيقات التي تمت الإشارة إليها، وتحاول تقليص تأثيرها من خلال الاعتماد على حلفائها الجمهوريين داخل الكونغرس، وتجنيدهم من أجل تمرير مزيد من مشاريع القوانين التي تنص على فرض عقوبات جديدة على إيران؛ إلى جانب أن بعض أعضاء مجلس الشيوخ يدفعون نحو سن قانونٍ يعتبر الحرس الثوري الإيراني تشكيلاً إرهابياً، وذلك لإرغام الإدارة على تشديد إجراءاتها ضد إيران. وهناك دعوات في إسرائيل لتوظيف الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، في محاولة "إغراء" بوتين بفك ارتباطه بإيران، بمقايضته بإلغاء العقوبات الأميركية التي فرضت على روسيا في أعقاب احتلال شبه جزيرة القرم. لكن فرص قبول هذه الدعوة تؤول إلى الصفر، في ظل الضجيج الإعلامي الذي يحدثه الكشف عن اتصالات فريق إدارة ترامب مع روسيا خلال الحملة الانتخابية.
من هنا، يمكن النظر إلى زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الخميس الماضي لروسيا، وهي الخامسة من نوعها، على أنها تأتي نتاج تراجع سقف التوقعات الإسرائيلية من إدارة ترامب، فنتنياهو يحاول الحصول على ضماناتٍ روسية بألا تفضي مخرجات مفاوضات أستانة بين قوى المعارضة السورية والنظام إلى إضفاء شرعية على وجود إيران وحزب الله في سورية، ولا سيما في منطقة الجولان. ومن الواضح إن الإسرائيليين غير مطمئنين للتطمينات التي قدمها لهم نائب وزير الخارجية الروسي، أولغ سيرمولوطوف، الذي تعهد بإخراج الحرس الثوري وحزب الله من سورية بمجرد انتهاء المواجهة هناك (جيروسالم بوست، 21/2/2017).
ما تقدم يشي ببؤس رهان بعض الدول العربية على دور إدارة ترامب في التصدي لإيران، فإذا كانت إسرائيل، الحليف الاستراتيجي الأقرب للولايات المتحدة، غير مطمئنة إلى قدرة هذه الإدارة على مواجهة أطماع إيران في المنطقة؛ فهل من المعقول أن تضع الدول العربية التي يتعاطى معها ترامب بقدرٍ كبير من الابتزاز والعنصرية والاستخفاف، كل البيض في السلة الأميركية.
الحل السياسي تشكيل قانوني وحقوقي يهدف إلى تغيير راهن قلق، وصولاً إلى هدوء دائم وتداول اجتماعي مستقر، تُستخدم في صياغة هذا الحل نتائج عسكرية وظروف اجتماعية، وفي الحالة السورية مصالح إقليمية ودولية.
المطلوب من مجموعات الوفود السورية المشاركة، والتي فرض وجودَها الأمرُ الواقع، العمل على صياغة ذلك التشكيل، ليأخذ الحل السياسي شكله النهائي، تتطلب هذه العملية مقدرة سياسية، وتمرساً وخبرة وانغماساً في الواقع الذي يجري البحثُ عن حل سياسي له، وفوق ذلك كله يلزم جهد أخلاقي ذو رؤية ثلاثية الأبعاد تمسح الواقعَ كله، والموادَّ الأولية التي سيتشكل الحل منها هي قرار دولي لا يتجاوز المائتي كلمة، يمكن أن يخلق أكثر من سؤالٍ عن كل سطر فيه، ومجموعة أحلام جامحة ومتضاربة تحملها الوفود والشخصيات المشاركة، يتداخل فيها الوطني مع العسكري مع الشخصي، وحتى مع المزاجي.
توحي الظروف والتصريحات الحالية أن المسألة المطروحة يجب أن تحلها جهتان متناقضتان، وسنتحدث عن جهة النظام التي يتمسّك وفدها بهدوء ظاهري، وكثير من الأناقة في الملابس، وتعتمد الخطاب نفسه الذي أذاعته محطاتها التلفزيونية منذ صبيحة 17 آذار/ مارس 2011. لم تتأثر هذه الجهة بالانزياحات الخطيرة التي زعزعت المجتمع، ولم تُدخل في اعتبارها الثقافة الجديدة، أو الثقافات المستحدثة الناشئة بعد ست سنوات، ولم تلتفت إلى الكتلة البشرية الهائلة التي أصبحت خارج الوطن، وتعيش على تخومه، وتحرص على أن تتفاعل معه، ويتربص جزء كبير منها بالعودة، ويتوقع تعاملاً سياسياً مختلفاً عما كان سائداً، أو يتأمل مكافأة على سنوات غربته الإجبارية.
يتجاهل وفد النظام القفزة العريضة في الإعلام، على الرغم من أنه يستفيد منها في ترويج ما يريد، ويتناسى أنها متاحة للطرف المقابل، وفي وسعه تشكيل رأي عام ونقل الحقائق على أوسع نطاق، وبأسرع الطرق، لكن النظام على العكس يعبر عن طبيعته البليدة المترهلة التي تراكمت على جسده طوال الخمسين عاما الماضية، وقد حولها إلى قوانين ومؤسسات رسمية.
على الرغم من تضاعف عدد سكان سورية أربعة أضعاف، والمتغيرات المهولة التي عصفت بالعالم، فإن الدستور القديم الذي تم إقراره في 1973 لم يكن ليتغير لو لم يُجبر النظام على ذلك، فقدم نسخة جديدة سنة 2012، لا تختلف كثيراً عن سابقتها، وبقيت صلاحيات الرئيس فيها ثابتة، وجرى تعديل سابق في يوليو/ تموز 2000 ، لتشريع وصول الأسد إلى كرسي الرئاسة، أما جسد الدستور نفسه، فحافظ على تكريس شخص الرئيس الذي يفعل كل شيء، ويسيطر على جميع السلطات داخل حدود الدولة/ المملكة، ويقوم بتعيين كل الموظفين من الدرجة الأولى وحتى الرابعة، ويحق له أن يقيلهم ويسجنهم أيضاً.
العمل السياسي محصور بالرئيس شخصياً، فهو من يُبرم المعاهدات والاتفاقيات، ويلغيها، ويعلن الحرب، ويوقفها، وهو غير مسؤول أمام أحد. في مثل هذا الدستور المحمي بعدد من أجهزة الأمن والجيش والشرطة وتظاهرات مليونية إجبارية، لن يتمكن أي مواطن سوري، مهما بلغت سنه، أو مركزه، من مزاولة السياسة، ولا حتى التفكير بذلك، فالأمر مقصورٌ على الرئيس وحده بحسب الدستور، ومن يخرج عن ذلك يصبح عرضةً لنهش أجهزة الأمن، على اختلاف أنواعها.
الآن مطلوب من النظام الحالي الذي ورث كل شيء، بما في ذلك مهام الرئيس الجسيمة، المشاركة في حل سياسي، وعبر وفد رسمي طويل وعريض، يفهم في كل شيء، إلا في السياسة بحكم الدستور المطبق عليه، وهذه حمولة تفوق استطاعته، وهو ابن مجتمع انهمك في إثبات الولاء، وتجنبْ رجال الأمن، لذلك فالحل السياسي الذي تحلم به المنظمة الدولية هو منتَج غير قابل للظهور، لتعذّر القدرة على صناعته، ولسبب اتكاله على حفنة من الموظفين البيروقراطيين جزء من تكوينهم المهني، وما تعلموه في المعهد العالي للعلوم السياسية لا يؤهلهم سوى لانتظار تعليماتٍ، سيمليها عليهم رجل أمن في دمشق.
هل تقف واشنطن جانبا في سورية، وتكتفي بمراقبة الأحداث المرعبة عن بعد، كما يقال غالبا عند النظر إلى سياساتها تجاه الوضع السوري الراهن؟ وهل تمارس مواقف متباينة من أطراف الصراع السوري، أم تتخذ موقفا موحدا منها، هو ذلك الذي يبقيها خارجه، غير معنيةٍ بنتائجه أو مكترثة بنهاياته؟ أخيرا، هل صحيح أنها تمارس سياسات التفافية حيال الصراع الدائر فيها، تكل حله إلى روسيا التي تعهدت أن تضمن مصالحها، من دون أن تلوث أيديها بدماء الشعب السوري، تاركة لموسكو عار التدخل العسكري والغزو البري، وخلاصاته الدامية، وما تلحقه بجيشها من خسائر جسيمة، تتجاوز أرقامها أي توقع، في أكثر من موقع، بين تدمر ومطار التيفور؟
ليس من المنطقي الاعتقاد بالخروج الطوعي لدولةٍ كونيةٍ، اسمها أميركا، من الصراع على (وفي) سورية الذي سيحدد مصير الشرق الأوسط، وأحجام دوله وأوزانها وأدوارها إلى فترةٍ، يرجح أن تتجاوز منتصف قرننا الحالي. ومن السذاجة الاعتقاد أن البيت الأبيض الأوبامي أو الترامبي لا يعرف الأهمية الاستراتيجية لسورية والمنطقة، بالنسبة إلي أحجام الدول الكبرى والعظمى وأدوارها وأوزانها، وأن مستشاري البيت الأبيض وخبراءه لم يجهلوا تاريخ صراع الإمبراطوريات من أجل السيطرة على موقعها. ومن المثبت بالنصوص أن زبغنيو بريجنسكي، مستشار الرئيس كارتر، كتب عام 1973: إن سيطرة أميركا على المجال الأوراسي ستكون هشّة ومهدّدة، إذا لم تمسك بقوة بالعراق: درة العالم الاستراتيجية، حسب تسميته. ومن المعروف ان أول محاولة تمت، في هذا الاتجاه، كانت غزو العراق عام 2003، بعد ثلاثين عاما من مطالبة بريجنسكي باحتلاله، وأننا نعيش اليوم المحاولة الثانية، ومن مفرداتها عودة قوة أميركية كبيرة نسبيا إلى العراق، ومشاركتها في الحرب ضد "داعش"، وإعلان قادتها أنها باقية هناك بعد نهاية معركة الموصل، وكذلك إقامة بنية عسكرية تحتية، يقيمها الجيش الأميركي شمال العراق، آخرها إنجازاتها مطار جديد تقرّر بناؤه جنوب الموصل، يكمل مجموعة مطارات أقامها شمال سورية، في منطقةٍ تطل عن كثب على شمال العراق وغربه، تحتل قسما كبيرا منها "داعش"، لكن الأميركيين يخرجونها منها قطعة بعد أخرى، من خلال "قوات حماية الشعب"، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، ويؤسسون وجودا ثابتا ودائما فيها، يتمثل في ثلاثة مطارات، وعدة مواقع تدريب يرابط فيها المئات من "مستشاريهم"، ويزورها، من حين إلى آخر، جنرالات وبرلمانيون، آخرهم قائد المنطقة الوسطى والسيناتور الشهير، جون ماكين، الذي ناصر دوما ثورة سورية ضد الأسد ونظامه، وها هو يحل اليوم ضيفا على جهةٍ معادية لها، تتعاون مع أمن الأسدية وجيشها، يبقي استثناؤها من الدعوة إلى جنيف مصيرها بيد واشنطن، وجزءا لا بأس به من مصير سورية بيد قادتها.
بينما يغرق الروس في صراعٍ لا يعرفون نهايته، وليس مؤكدا بعد إن كانوا سيخرجون رابحين منه، وبينما يخوضون معارك مكلفة بشريا، يتحفظون إلى اليوم عن إعلان معظمها، تستنزفهم سياسيا ودوليا، علما أن مفاتيح إنهائه ليست في يدهم، بل في يد واشنطن التي تستطيع تحدي وجودهم العسكري في المشرق العربي بطرق فاعلة ومتنوعة، تجعلهم يتمنون لو أنهم لم يتورّطوا مع الأسد، ولم يغزوا سورية ويبقوا عسكرهم فيها، تبني واشنطن وجودا عسكريا طويل الأمد في منطقةٍ تطل على تركيا والعراق ووسط سورية وجنوبها، وغير بعيدة عن غرب إيران، يعني الإمساك بها إمساكها بفرص الحل السوري، وبنمط الدولة السورية القادمة وهويتها وأدوارها ودرجة استقلاليتها، وتحكمهما أيضا بالقضية الكردية التي تتيح لها تدخلا مفتوحا في الشؤون الإيرانية والتركية والعراقية، فضلا عن السورية، بالنظر إلى أن وجود تركيا وإيران والعراق وسورية دولا مستقلة وموحدة، يتوقف على طريقة حلها، في حين يعني وضع واشنطن في المنطقة التي تتوسط هذه الدول منحها القدرة على ممارسة نفوذ حاسم عليها، واختراق المنطقة بين شرق المتوسط وأفغانستان بعمق، وإشرافها على مفاصلها الاستراتيجية بما تمتلكه من تقنيات مراقبة وسيطرة فاعلة ومتطورة، وتحقيق نقلة استراتيجية وتاريخية بالنسبة لسيطرتها على منطقةٍ يضمن تحكمها فيها تعزيز قبضتها على مجمل المجال الأوراسي (الأوروبي/ الآسيوي)، الذي يخضع لها أول قوة في التاريخ تسيطر عليه من خارجه.
بينما يتخبط الروس في صراع متعدّد الأطراف ومعقد، يتصل بالسيطرة على بلادٍ لن تتمكن من الإمساك بها، وستواجه دوما قيودا دولية وعربية وإقليمية جدية على دورها فيها وتحكمها بمكوناتها، وستجد نفسها مجبرةً على تقديم تنازلات لأميركا وإجراء حلول وسط وتسويات، أقله مع تركيا وإيران، القوتين الإقليميتين المنخرطتين في الصراع عليها، وعلى خوض حرب متشعبة ضد إرهاب متحول/ متنقل، لا يكفي عنفها للقضاء عليه، تنصرف أميركا، القادرة بكل تأكيد على خربطة معادلات موسكو، إلى تأسيس موقع وطيد لنفوذها وحضورها في منطقة حاكمةٍ لا يشاركها فيها أحد، يمدها إمساكها بها بقدرة مفتوحة على امتلاك خيارات عديدة، تخدم مصالحها خارجها ووجودها داخلها، يرجح ألا يكون لغيرها سيطرة تذكر على أطرافها، مستقبلا، بالنظر إلى قدرات واشنطن الترهيبية والترغيبية، وتحكمها بها من خلال وجودها العسكري المباشر في قلب مناطقها، وما لها من قدراتٍ سياسية فيها، يتوقف عليها مصير مكوناتها الديمغرافية والسياسية.
ليست واشنطن خارج الصراع، بل هي في صلبه، ولكن بطرقها الخاصة. وليست موسكو من يقرّر مصيره، بل هي مرشحة دائمة لأن تكون من ضحاياه، مباشرة أو على المدى البعيد، حسب ما تقرّره أميركا. ولن يفلت حصاد الوضع الراهن من اليد الأميركية التي تنفذ خططا من شأن نجاحها إخضاع المنطقة لإشرافها إلى فترة طويلة، بينما يعني فشل موسكو في الانفراد التام بسورية كارثة ستحل بها، على صعيدي الزمن والاستراتيجية، بينما هي تقف على ساقٍ واحدة في وضعها الراهن، بصحبة حلفاء/ أعداء كإيران ومرتزقتها، ونظام أسدي يطلب عونها العسكري، ويستقوي بإيران على حصائله السياسية، تحاول إدارة صراع على درجة استثنائية من التعقيد، ليس الأساسي من مفاتيحه في يدها، ولن تنتزعه من واشنطن بغير صدامٍ، ليست قادرة على خوضه، يرجح أن تتحاشاه عبر تنازلاتٍ تقدمها لأميركا مقابل مساعدتها على بلوغ بعض أهدافها، وترويض إيران والأسد وتركيا، والخروج بالتالي من وضعها الراهن بحصة يتوقف حجمها على حجم ما تقدمه من تنازلاتٍ، تحد من النزيف البشري والاقتصادي، الذي بدأت تعاني منه، وإلا فإن إقامتها المكلفة في سورية ستستمر فترة طويلة، لن يحول شيء دون تردّي وضعها خلالها من يوم إلى آخر، إن أرادت أميركا له أن يتردّى.
يضع الأميركيون أحجار الأساس لتفوق استراتيجي باسم عدم التدخل، ويغرق الروس في صراعٍ أعلن بوتين أنهم لن ينخرطوا فيه أكثر من أشهر ثلاثة، أو ستة على أبعد تقدير، وها هم اليوم في شهره السابع عشر، من دون أن يبلغوا ما يشير إلى نجاحهم في إنجاز هدفهم المعلن: ترسيخ السلطات الشرعية.
أخيرا، يواجه السوريون الخطر الروسي، لاعتقادهم أنه التحدّي الأكبر المطروح عليهم، بينما تبني واشنطن أوضاعا تضمر مخاطر وجودية على دولتهم ومجتمعهم، أكبر بكثير من التي يحملها غزو روسي، استعماري من النمط الكلاسيكي. بينما يعمل الأميركيون في عصر إمبريالي يسيطرون عليه بوسائل وطرق شديدة التنوع، يحتوون بواسطتها أخطاءهم ويحققون مآربهم.
ما يـــستــنتـج مــن المعطيات والاتصالات والمناورات، وجود رغبة روسية واضحة في تجاوز بيان جنيف 1، الإشكالي أصلاً.
اعتمد الروس في توجههم هذا منذ البداية أسلوب التأويل. فهيئة الحكم الانتقالي التي ينص عليها البيان لا تعني، وفق تأويلهم، إلغاء دور الأسد ومجموعته الأمنية- العسكرية. وقد حاولوا بكل الأساليب فرض هذا التأويل على المجلس الوطني، ثم الائتلاف، فالهيئة العليا للمفاوضات، ولم يفلحوا لسبب أساسي هو أنه لا يوجد في سورية معارض حقيقي واحد يمكنه بأي شكل القبول باستمرارية بشار، بعد كل ما حصل ويحصل.
فكان الانتقال إلى اسلوب آخر: انتاج «المنصّات»، وتفريخها، لتكون وسيلة لتفخيخ المعارضة من الداخل. وكانت آستانة في البداية تمهيداً لجنيف، ثم شريكاً لها، ولاحقاً بديلاً عنها.
كل ذلك لتجاوز عقدتي هيئة الحكم الانتقالي، وبشّار، عبر استغلال ضعف وتناحر الفصائل العسكرية المشاركة، خصوصاً بعد ما حصل في حلب، واختلاط «الحابل بالنابل» في صفوف السياسيين، وكل ذلك ما هو سوى انعكاس لواقع الحال الإقليمي، ومفاعيله الدولية.
عقدت الجولة الأخيرة من «المفاوضات» في جنيف، أو بتعبير أدق تم الإيحاء بذلك، لأن الأمر في مجمله لم يخرج عن نطاق «احتفالية» جنائزية، لا معنى لها سوى أنها قد تكون مادة في مذكرات المبعوث الدولي. وكان «التوافق»، غير المتوافق عليه، حول أربع سلال تذكّرنا بسلال أصحاب الخفة والبهلوانيات لتضليل الأبصار والعقول.
يبيّن التحليل الموضوعي للظروف التي سبقت ورافقت جولة جنيف الجديدة، أن ما تمخض عنها حصيلة منطقية للمقدمات التي تشكّلت نتيجة تشابك العوامل الدولية والإقليمية، مع واقع الضعف الذاتي للمعارضة بجناحيها السياسي والعسكري، والارتباك البنيوي الداخلي الذي تعانيه نتيجة خروج زمام المبادرة من أيدي السوريين، وتحوّل قضيتهم حلقةً من حلقات الصراعات والحسابات الدولية والإقليمية.
فالدور الأميركي في الإعداد لجنيف كان شبه معدوم، قياساً بالجولات السابقة، مع كل الملاحظات التي كانت تسجل عليه حينذاك. وهذا يؤدي للغياب الأوروبي لألف سبب وسبب. أما تركيا فأصبحت لها حساباتها وأولوياتها التي تلزمها هذه الصيغة أو تلك بالعمل مع الجانب الروسي، والتنسيق معه طالما أن الحليف التقليدي غائب، والعلاقة مع الحلفاء الأطلسيين والأوروبيين ليست على ما يرام راهناً.
وإذا أخذنا في الحسبان الغياب العربي عن جنيف، على رغم أن وفد الهيئة العليا للمفاوضات اجتمع في الرياض قبل التوجه إلى جنيف، لاحظنا أن كل ذلك كان مؤداه الهيمنة الروسية الكاملة، حتى أن دي ميستورا نفسه شكّك في المنتظَر منها ومآلاتها، حينما تساءل عن بواعث الغياب الأميركي، وعبّر عن عدم توقعه حدوث اختراق.
وهكذا أصبح وفد المعارضة في وضع لا يُحسد عليه، وبدأت التنازلات البروتوكولية، ومن ثم السياسية تتوالى، تنازلات لم تتمكّن الجمل الغامضة، والعبارات العامة المراوغة، والمهارات الفردية للعديد من الزملاء والأصدقاء من أعضاء الوفد، من التغطية عليها، أو تقليل آثارها السلبية فيى الأيام المقبلة، ما لم يتم تدارك الأمر قبل القادم الأعظم.
وما يستوقف ويثير التساؤل والهاجس هو التوافق على ترحيل قضايا وقف اطلاق النار والإرهاب، وغير ذلك من الأمور الميدانية الحيوية إلى آستانة. ونعلم أين تقع آستانة، ومن يتحكّم بالأمور والإيقاعات هناك.
والروس يدركون أكثر من غيرهم، أن المفاوضات الحقيقية لبلوغ الانتقال السياسي لن تكون عبر تعددية الوفود التي تمثّل المعارضة بمستوياتها كافة، وهم على اطلاع واسع على استحالة الجمع بين كل المستويات ضمن إطار وفد واحد، لا يتوافق أعضاؤه على المحدّدات الرئيسة التي يفترض أن تكون محوراً للمفاوضات.
وهذا معناه أن ما يجري ما هو سوى حفر سرداب تحت مؤتمر جنيف، تمهيداً لنسفه، وإلغاء أي حديث حول انتقال سياسي، أو هيئة حكم. وذلك استعداداً لتفاهمات قد تحدث مستقبلاً مع الإدارة الأميركية التي تنتظر هي الأخرى نتائج إعادة تقويم الموقف من الجهات العسكرية والمخابراتية، وتبيان ملامح وحدود المناطق الآمنة، وكيفية ضبطها، وتنظيم الأمور بين المتحكمين بها. ومن الواضح أن لقاء أنطاليا بين رؤساء أركان الولايات المتحدة وروسيا وتركيا يندرج ضمن هذا المنحى.
هناك اجتماع آستانة الذي حضّر له الروس. ويدور الحديث حول جولة جديدة من المفاوضات في جنيف. على أن تضم آستانة العسكريين بصورة أساسية، بينما يشارك السياسيون في جنيف.
والملاحظ أن التمهيد الروسي الديبلوماسي بدأ، وهو تمهيد شبيه بذاك القصف الجوي والمدفعي الذي نفّذوه في حلب وغيرها من المناطق التي كانت خاضعة للمعارضة الميدانية. التمهيد هذا يطالب بإشراك الآخرين من «منصات» آستانة وغيرها، في المحادثات القادمة، لتضيع «الطاسة» نهائياً، والمقصود تبديد صدقية الهيئة العليا للمفاوضات، استعداداً لتشكيل جديد يسنجم مع الأهداف المتوخاة روسياً.
ومما سيترتب على ذلك تصاعد التشدّد، بخاصة إذا أمعنا النظر في الموقف اللافت لتنظيم «أحرار الشام» الذي اعتمد منذ مشاركته في آستانة الأولى «النأي بالنفس»، وانتظار وضوح الرؤية.
جولة جنيف الأخيرة لم تخرج عن حدود المتوقع. وهناك من يقول: لم يكن في الإمكان أفضل مما كان، بالنظر إلى ظروف ما بعد حلب، وتشابك الصراع الإقليمي، وعدم معرفة موقع الملف السوري ضمن استراتيجية الإدارة الأميركية الجديدة.
وما يستنتج أننا نتجه نحو مرحلة تقاسم مناطق النفوذ، مع شعارات مكررة تشدد على ضرورة الحفاظ على وحدة سورية. لكن الجميع مدرك أن وحدة كهذه لن تكون، ولن تستقيم ابداً، مع حكم بشّار الأسد. وما صرح به بوغدانواف نفسه مؤخراً حول امكانية تقسيم سورية في حال عدم الوصول إلى التسوية أمر يستوقف. فالرجل على اطلاع كامل بالملف السوري، وبملفات المنطقة وتشعباتها. لكن ما طبيعة التسوية التي يتصورها ممكنة ومقبولة، ومع من ستكون؟ وكيف؟ كل هذه الأسئلة وغيرها محورية تهم السوريين جميعاً، لأنها تلامس مصيرهم ومصير أجيالهم المقبلة. فما موقع المعارضة السورية من كل ذلك؟
بداية الأسبوع الماضي أعلنت مملكة البحرين ضبط تنظيم إرهابي يضم أكثر من 54 شخصاً. ولم يكن هذا هو التنظيم الأول من نوعه ولن يكون الأخير، طالما أن إيران، الراعي الرسمي للإرهاب والفوضى في المنطقة، تواصل نهجها، الذي لا تريد التخلي عنه، في ضرب الاستقرار بطرق شتى، من بينها زرع الخلايا والتنظيمات الإرهابية، وتوفير التدريب لها في معسكرات تابعة للمؤسسة الشيطانية المعروفة باسم «الحرس الثوري»، سواء في إيران أو في دول أخرى نجح الحرس الثوري في استقطاع أراض منها وجعلها تابعة له، مثل العراق ولبنان، لتصبح هذه الدول ساحة لتنفيذ المخططات الإيرانية على أيدي ميليشيات طائفية تدين بالولاء لإيران.
كما سبق القول، ليس هذا هو الحادث الأول، لكن هناك تطوراً في نوعية جرائم التنظيم، الذي تم الكشف عنه أخيراً، فالهجوم على مركز التأهيل والإصلاح في «جو» الذي استشهد فيه شرطي بحريني في أول أيام العام الجاري، كان عملية عسكرية كبيرة تم التخطيط لها والتدرب عليها خارج البحرين، ونفذها أعضاء من التنظيم. وكما أوضحت وزارة الداخلية البحرينية وقتها، أعلنت «قناة أهل البيت» التي تمولها إيران إثر الهجوم الإرهابي، أن «العملية تمت بنجاح». وفضلاً عما ينطوي عليه هذا الإعلان من استفزاز وتشجيع للإرهاب في أقبح صوره، فإنه يكشف ضمناً عن ضلوع إيران في التخطيط لهذا العمل الإرهابي وإشرافها على تنفيذه.
كان الهدف من الهجوم تهريب إرهابيين دينوا بجرائم قتل وتخريب. وهرب عشرة متهمين، وحاولوا الفرار إلى ملجئهم الطبيعي في إيران، لولا يقظة رجال الأمن البحرينيين الذين أحبطوا خطة الهرب في ضربة قاصمة للإرهابيين وأعوانهم. ولم تكن عملية «جو» هي الوحيدة في قائمة جرائم التنظيم، كما أفادت جهود التحقيق، إذ شملت هذه الجرائم محاولة تهريب أسلحة رشاشة ومتفجرات في طراد على أحد الشواطئ، واغتيال أحد ضباط الشرطة في منطقة «البلاد القديم»، والهجوم بأسلحة نارية على دورية للشرطة في منطقة «بني جمرة»، وكلها جرائم تشير إلى استخدام أقصى أشكال العنف المتاحة. ولولا سرعة التحرك واليقظة البالغة والقدرات العالية للمؤسسات الأمنية في مملكة البحرين لتضاعفت أعداد هذه الجرائم وتفاقمت خسائرها البشرية والمادية.
التفاصيل التي قدمتها الأجهزة المختصة في البحرين تكشف عن حجم المؤامرة وتشعبها وامتدادها، فقادة التنظيم يعملون من بعد، ويستخدمون شبكات معقدة من العلاقات والاتصالات لتنفيذ مخططاتهم. وبحسب التحقيقات فإن أحد قادة التنظيم الإرهابي يتخذ من ألمانيا مقراً له، ويدير من هناك تحركات أعضاء التنظيم وانتقالاتهم وسفرهم لتلقي تدريبات عسكرية واستخباراتية وتقنية، ثم عودتهم إلى البحرين في ما بعد لينفذوا مخططاتهم الإجرامية. وبالطبع، فإن عدداً من قادة التنظيم يتخذون من إيران أو العراق مأوى ومقراً لهم، ومثل هذه التحركات المعقدة لا يمكنها أن تتم إلا برعاية أجهزة استخباراتية ذات إمكانات ضخمة، تنسق جهود الأعضاء وتحركاتهم وتوفر لهم أشكالاً من التغطية والتعمية على أهدافهم الأصلية، وتزور لهم الوثائق، وتوفر لهم الأسلحة والمتفجرات ووسائل الاتصال، وتيسر لهم تهريبها إلى داخل البحرين لاستخدامها في عملياتهم.
ضمن القضية أيضاً، هناك إحدى البصمات المعروفة لـ «حزب الله» اللبناني، وهي إيلاء الجانب الإعلامي أهمية قصوى، إذ حاول التنظيم الإرهابي البحريني تهريب تقنيات لتسجيل عملياته الإرهابية بواسطة طائرات لاسلكية، وذلك من أجل بث هذه العمليات واستخدامها في المعركة الدعائية التي يسعى التنظيم من خلالها إلى إظهار الوضع في البحرين وكأنه يفتقر إلى الاستقرار، والإيحاء بأن المؤسسات الأمنية في البحرين غير قادرة على التصدي للإرهاب، وبأن التنظيمات الإرهابية ذات قدرات وإمكانات كبيرة، ما يجتذب إليها مزيداً من الأنصار والأتباع، ويصدِّر صورة إلى العالم بأن البحرين أصبحت أسيرة الفوضى.
من بين المتهمين في القضية، هناك 12 متهماً هارباً إلى إيران والعراق، ولو كانت إيران دولة طبيعية لسارعت إلى تبرئة ساحتها بإتاحة الفرصة للعدالة للوصول إلى المتهمين والتحقيق معهم وفقاً للأصول القانونية، ومن ثم يمكن إثبات التهم أو نفيها، لكن إيران تبدو غير معنية بإبعاد الشبهات القوية حولها، أو بنفي دورها في ما تتعرض له البحرين من عمليات إرهابية. ويبدو أن إيران تعتبر تدخلاتها في الشؤون الداخلية للدول العربية أمراً عادياً لا يستوجب التوضيح أو الإخفاء، وهذا السلوك ناجم عن شعور الاستعلاء الأجوف والإحساس بالقوة، وهو شعور زائف يحاول أن يتناسى جوانب الهشاشة والضعف التي تضرب المجتمع والدولة في إيران، وأن يتناسى كذلك ما تمتلك دول الخليج من مقومات للقوة قادرة على ردع إيران حين تتجاوز الخطوط الحمر.
كشف الخلية الإرهابية، ومن قبله إحباط تهريب الإرهابيين العشرة إلى إيران، ينبغي أن يمثل رسالة إلى من يهمهم الأمر في طهران بأن مخططاتهم محكوم عليها بالفشل، وأن يد الأمن والعدالة في البحرين قوية وقادرة على أن تتصدى لكل ما يحاك من مخططات خبيثة في دوائر صناعة القرار الإيراني لتحقيق اختراق في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بعد أن «نجحت» بذلك في دول مثل العراق وسورية ولبنان، هذا إذا اعتبرنا الخراب والفقر والفشل والحروب الأهلية «نجاحاً». ويغيب عن المتآمرين في إيران أن عوامل الضعف كانت ضاربة في البنية السياسية والاجتماعية لهذه الدول قبل أن تتسلل اليد الإيرانية وتُجهز على ما تبقى من عوامل العافية فيها.
البحرين، بتماسكها الداخلي ووحدة الصف الوطني فيها، عصية على الاختراق، على رغم كثافة الاستهداف الإيراني وتحول بعض رجال الدين المتطرفين إلى أدوات إيرانية بحتة، ومحاولتهم زرع الطائفية المسمومة في بلد امتاز على الدوام بأنه واحة للمواطنة واحترام الحريات الدينية وتعدد الآراء والأصوات والاتجاهات السياسية، وكان الأسبق إلى ذلك بين دول الخليج العربي. وإلى جانب ذلك يحقق مستويات عالية من الرخاء والازدهار لمواطنيه، ويحتل مراتب متقدمة في كثير من المؤشرات الحيوية على المستوى العالمي. وعدا قلة استحكم فيها التطرف الطائفي، فإن شعب البحرين يدرك دوره في الحفاظ على مكتسباته، ويرفض المزاعم الطائفية، ويدعم دولته في حربها على الإرهاب المستورد من إيران.
من هنا، فإن الرهان على تغير إيراني قريب لا يبدو في محله، وربما يدخل في باب السذاجة التي تضر بأصحابها. ولا تنطوي الزيارات، التي يقوم بها الرئيس الإيراني حسن روحاني أو وزير خارجيته، إلى بعض دول مجلس التعاون، على جديد، إذ حط روحاني رحاله في عاصمتين عربيتين الشهر الماضي، ورحل من دون أن تُسمع منه كلمة واحدة تفيد بأن إيران على استعداد لمراجعة سياساتها التي تخلق الأزمات والتوترات، أو حتى تهدئة حدة التصريحات الاستفزازية والعدوانية من جانب معظم الأطراف في نظام الحكم في إيران.
قبل أسبوع تقريباً، قال وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش إن دول مجلس التعاون وضعت ثلاثة أسس للتعامل مع إيران في شكل إيجابي، وهي: توقُّف إيران عن التدخل في الشؤون الداخلية لجوارها العربي، والتوقف عن محاولات «تصدير الثورة»، وقبول مبدأ المواطنة على أساس الوطن وليس على أساس المذهب. وهذه الأسس أقرب إلى البديهيات السياسية في التعامل بين الدول، لكن إيران لا تبدو مستعدة لقبولها. وإلى أن يتبلور واقع جديد يدفع إيران إلى مراجعة سلوكها، يجب الاستعداد لمواجهة أي تجاوز من جانبها بكل قوة، وبكل الوسائل المتاحة، ولنا في «عاصفة الحزم» خير دليل.
السياسة الإيرانية في المنطقة العربية، في أحسن الأحوال، لم تحسن الحساب وهي تدخل إلى البيئة العربية، لقد عززت من الخطاب المذهبي، وحوّلت الشيعة في هذه المنطقة العربية إلى مجموعة محاصرة ومنعزلة ومختلفة عمّا حولها، وعاجزة عن الاندماج في كياناتها الوطنية، واعتمدت الأيديولوجيا الإيرانية التي يمثلها نظام الحكم اليوم، سياسة اللعب بالتاريخ والحقائق، وتطويعهما ليتناسبا مع الأيديولوجيا ومصالحها.
لقد أوجدت أزمة عميقة مع الواقع العربي السني، حين أتاحت من جهة العبث العلني بالرموز الإسلامية الأولى للسنّة من الخلفاء إلى الصحابة وغيرهم، في الوقت الذي طوّعت العقيدة الشيعية الإمامية لتتناغم مع من هم أبعد عن عقائد الشيعة الإمامية أي العلويين وأتباع المذهب الزيدي كما يقرّ كبار فقهاء الشيعة في التاريخ الإسلامي، فيما سعت هذه الأيديولوجيا في نفس الوقت إلى تعميق الشرخ مع أتباع المذاهب السنية، إذ لا نعثر اليوم في أدبياتها وثقافتها التي جرى ترويجها لدى الجماعة الشيعية على أيّ إشارة إلى أنّ أتباع الطائفة العلوية أو أتباع “الزيدية” هم من أشدّ المذاهب عداء للعقيدة الشيعية بعد انشقاقهم عن المذهب، فيما تنشط هذه الأيديولوجيا بكل وسائلها لفتح جدال حول قضايا خلافية بين السنّة والشيعة، عبر النيل والتهوين من شأن الرموز التاريخية لأتباع هذه المذاهب.
أمرٌ آخر يمكن أن نلاحظ من خلاله هذا الخلل في الحسابات الإيرانية تجاه المنطقة العربية والبيئة الثقافية والاجتماعية فيها، برز بشكل فاقع مع بداية ثورات الربيع العربي قبل ست سنوات، حيث هلّلت القيادة الإيرانية للانتفاضات في المنطقة العربية، لكنها حرصت على تسمية هذه الثورات بالصحوة الإسلامية، وسارعت إلى عقد مؤتمرات ومهرجانات دعت إليها عرباً ومسلمين، لا بهدف دعم الثورات كما أعلنت عن نفسها، بل في محاولة خبيثة لتقويض مصطلح الربيع العربي، وفرض مصطلح الصحوة الإسلامية على الانتفاضات من تونس إلى مصر وليبيا.
هذا السلوك الذي اعتمدته الأيديولوجيا الإيرانية في البداية ما لبثت هي نفسها أن وقفت في وجهه، عندما أدانت تعبيراته الإسلامية، وراحت بسبب عدم قدرتها على احتوائه والسيطرة عليه إلى تبني الإرهاب كوصف لما كانت سمته صحوة إسلامية، بعدما انحازت إلى سلطة الاستبداد في سوريا، أو السلطة العلوية أو ما يمكن أن نسميه حكم البعث في أحسن الأحوال داخل سوريا.
بسبب ما تقدم فشلت الأيديولوجيا الإيرانية في إيجاد واقع مستقر في المنطقة العربية. فشلت في العراق بعد الخروج الأميركي منه، وأنتجت سياساتها في هذا البلد تنظيم داعش.
وفشلت في لبنان، ولم تستطع من خلال حزب الله إيجاد صيغة تقوم على مرجعية الدولة، بل صنعت صيغة لا تنتج إلا الأزمات ولا تعِدُ بأيّ حلول بل بالمزيد من الانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، عبر ترسيخ أسوإ نموذج حكم مر به لبنان في تاريخه الحديث.
وحتى في اليمن لم يطرح التدخل الإيراني وتمدده إلا مشروع نفوذ يرتكز على ذهنية مذهبية عاجزة عن أن تخاطب اليمنيين بغير الشعارات والعنتريات التي تزيد من الشروخ الوطنية، من دون أن تقدم أيّ مضمون سياسي لإجماع وطني يتجاوز النزعة المذهبية أو القبلية.
هذه الحسابات الإيرانية التي استنفدت المذهب الشيعي في العالم العربي، وامتصت إمكاناته، فقط في سبيل إيجاد بؤر أمنية وأيديولوجية لها في هذه المنطقة العربية، هي اليوم أمام مأزق عجزها عن استثمار هذه البؤر التي باتت اليوم أكثر ميلاً لإعادة بلورة نظام مصالحها الوطنية، بعدما تبيّن أنّ السياسات التي اندفعت أو دُفعت إليها في السنوات الماضية حصيلتها المزيد من الانهيار والانحدار.
القيادات العراقية الشيعية على اختلافها اليوم لم تعد حريصة على تكرار زيارة طهران لتثبيت سلطتها في العراق، كما كان الحال منذ العام 2003 وبعد العام 2010، فيما وفر الانخراط الأميركي في قتال تنظيم داعش ودعم الجيش العراقي وحكومة حيدر العبادي، وإعادة الحياة إلى العلاقة مع السعودية، فرصة لإعادة الاعتبار إلى الحيز الوطني العراقي، بعدما أدى الانصياع الكامل للإستراتيجية الإيرانية، إلى نتائج وخيمة على الاقتصاد وعلى وحدة البلد، وساهم في زيادة تصدع الدولة وبروز تنظيم داعش الذي تمدد في مرحلة الاعتداد الإيراني باكتمال الهلال الشيعي.
الفضيحة الإستراتيجية الإيرانية هي في المعادلة السورية، تلك التي بذلت إيران كل رصيدها من أجل المحافظة على نفوذها فيها وعلى حكم البعث، وحكم الأقلية العلوية، فما قدمته إيران من مال ومن دماء الميليشيات الشيعية ومن رصيدها لدى الشعوب العربية لم تبذله أي دولة، سواء دعمت نظام بشار الأسد أو دعمت معارضيه، لا يمكن مقارنة الخسائر التي قدمتها إيران في سوريا بخسائر الدول الخليجية وتركيا وروسيا، مجتمعة. بعد عشرات المليارات من الدولارات، ونحو عشرة آلاف قتيل من الميليشيات الشيعية وأضعاف هذا العدد من الجرحى، لم تنجح إيران في أن تفرض نفسها كمرجعية، بل هي من استنجد بالتدخل الروسي وسلمت صاغرة مقاليد الوضع لموسكو.
روسيا كانت أكثر دقة في حساباتها السياسية، وأكثر وعيا بمصالحها الإستراتيجية في المنطقة العربية، فرغم الدموية التي اعتمدتها في ضرب معارضي الأسد، إلاّ أنّها تشبثت بالدبلوماسية، فهي في لحظة إنجاز انتصارها في حلب، سارعت إلى فتح أوسع قنوات التواصل والتعاون مع تركيا، وعززت علاقاتها مع أطراف المعارضة المسلحة في هذه اللحظة التي كانت فيها السياسة الإيرانية تريد الذهاب بعيداً في القضاء على كلّ معارضي الأسد، لم تستجب روسيا، ليس لأن الإيرانيين أقرب إلى الأسد من الروس، بل لأنّ منطق السياسة ومصالحها يفرضان أنّ المعارضة السورية مهما كانت ضعيفة أو هشّة أو منقسمة، هي وحدها من يمثل المكوّن السني ويستحيل أن يكون الأسد ممثلاً له، فالأسد في أحسن أحواله لا يمكن أن يكون إلاّ ممثلاً للمكون العلوي.
على هذا المنوال من الحسابات السيئة، والفهم الناقص للبيئة العربية، يتراجع النفوذ الإيراني الذي يبدو اليوم منصاعاً لا مختارا لمعادلة توازن مرجعيتها روسيا في المعادلة السورية، فسوريا انتقلت اليوم إلى مكون آخر ليست إيران مرجعيته، إذ أن موسكو منذ تدخلت عسكرياً في سوريا، لم تكن متعارضة مع الموقف الأميركي، بل نسقت في العديد من الخطوات معه، التزمت أيضاً بالمصالح الإسرائيلية في سوريا، ومنعت نشوء نفوذ إيراني على حدود الجولان، وجاء التنسيق الروسي- الإسرائيلي، في أعقاب خسائر أنهت كل رصيد المقاومة الذي امتلكه حزب الله لدى البيئات العربية، صار حزب الله عاجزاً عن خوض مغامرة حرب مع إسرائيل كما جرى في العام 2006، فهذه المغامرة كانت رغم كارثيتها ممكنة في حينه، يسندها رصيد في الوجدان العربي، ومصالح سوريا حين كانت لما تزل دولة وقوة إسناد له، ويسندها تحالف كان مع حركة حماس في حينه، فيما العلاقة اليوم مترددة معها في أحسن الأحوال.
فقد حزب الله كل هذه الأرصدة، ويدرك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أنّ حاضنته الشيعية عاجزة عن تحمل حرب مكلفة جداً وهذه وحدها كافية لتلجم حزب الله عن تكرار أيّ مغامرة أو خطأ يمكن أن يفجر الحرب مع إسرائيل في لحظة تربص به من كل ما يحيط به وببيئته لبنانياً وسورياً، وهذا بحد ذاته ما يلبي مطلباً إسرائيليا حين تصبح الحاضنة الشيعية وحزب الله نفسه، من أشدّ الحريصين على استقرار الجبهة مع إسرائيل، أما عنتريات الحزب فهي لزوم حماية معادلة الاستقرار مع إسرائيل لا تقويضه.
في هذه الوقائع الإيرانية غير المطمئنة؛ لا في سوريا ولا في العراق ولا في الحلقة اللبنانية، برز أخيرا ما يؤشر على نوع من الانفلات المسيحي من القيد الإيراني، عبّر عنه بطريرك الموارنة بشارة الراعي قبل يومين، في أول موقف له يتسم بنبرة جديدة ترفض تدخل حزب الله في سوريا، حين قال إنّ تدخل حزب الله في القتال في سوريا “قسّم اللبنانيين”، وأضاف أنّ “حزب الله خرج على سياسة النأي بالنفس التي اعتمدتها الدولة اللبنانية عبر إعلان بعبدا تجاه الأزمة السورية”.
تصدع الهلال الإيراني في المنطقة العربية واهتراء حلقاته يفاقمان أزمته اليوم، وهو تصدع لم يتأت من عوامل خارجية، بقدر ما كان نتيجة خيارات أقل ما يقال فيها تفتقد إلى فهم المنطقة العربية. وما يفاقم أزمة هذا الهلال الشيعي كما يسميه البعض أنّ السياسة الأميركية تجاهه لم تعد كما كانت، فسياسة الاحتواء التي اعتمدها الرئيس السابق باراك أوباما تجاه إيران، انتهت اليوم، في ظلّ نزعة عدائية تعبر عنها كل عناصر الإدارة الأميركية الحالية تجاه طهران، وعلى رأسها دونالد ترامب، وهي سياسة وإن لم تتضح خططها وتفاصيلها بعد، إلاّ أنّها مسكونة بالرغبة في استعراض القوة، وهي أقل عقلنة وتردداً من سياسة أوباما، وما يربك إيران أكثر أنّ ترامب أكثر ليونة من سلفه تجاه دول الخليج، ولم يصدر عنه أيّ موقف يُشتمّ منه نوع من المناكفة مع دول الخليج التي استثناها من قرار منع دخول مواطنيها إلى أميركا، فيما إيران كانت على رأس لائحة الدول وربما هي المقصود من هذا القرار.