٢٢ مارس ٢٠١٧
تستعد القمة العربية للالتئام خلال الأيام القليلة القادمة في الأردن، والحديث طويل والسجال أطول حول مصير نظام الأسد والميليشيات الإرهابية الإيرانية منها والعربية، ومن بينها رأس الشر «حزب الله». لذلك على قادة الدول العربية مواجهة شرور «حزب الله» وملاحقته والتنديد به كما «القاعدة» و«داعش» ومن على شاكلتهما لأن لا فارق بينهم في الهدف والعقيدة والأيديولوجيا والمنهجية الفكرية القائمة على القتل واستباحة الدماء باسم الدين.
كان الأولى بالرئيس اللبناني ميشال عون، بدلاً من دعوة مصر أخيراً إلى مبادرة لإنقاذ العالم العربي من الإرهاب، أن يدعو في بيروت «حزب الله» عن التوقف عن الإرهاب وأن يطالبه بالخروج من سورية وأن يتوقف عن إنتاج الخلايا الإرهابية في دول المنطقة.
لماذا؟ لأن فخامة الرئيس عون يدرك جيداً أنه يتحالف في لبنان مع العقل المدبر والمنفذ للإرهاب في بلاده والعالم العربي، وهو «حزب الله» اللبناني الذي يأتمر بإمرة إيران، وينفذ سياستها للتدخل بشؤون دول المنطقة ويجند الإرهابيين لتنفيذ تفجيرات واغتيالات.
العجيب أنه حينما سئل الجنرال عون خلال زيارته مصر الشهر الماضي عن حل مشكلة سلاح حزب حسن نصر الله الذي يختطف إرادة الدولة اللبنانية وقراراتها السيادية، وسياساتها الخارجية، رد بالقول: «هناك ضرورة لوجود هذا السلاح ما دام هناك أرض تحتلها إسرائيل، وما دام الجيش اللبناني لا يتمتع بالقوة الكافية لمواجهة إسرائيل». بل زاد أن سلاح حزب نصر الله يعتبر «مكملاً لعمل الجيش ولا يتعارض معه»، وهذا توريط للبنان والجيش طالما «حزب الله» يقتل أطفال ونساء سورية ويشارك في العراق واليمن، ونعلم جميعاً عدد المذابح والمجازر التي شارك فيها الحزب في سورية وغيرها.. وكأن فخامة الرئيس يريد أن ينسينا اجتياح الحزب لبيروت بالسلاح عام 2009، ومحاصرة الوسائل الإعلامية وقطع الطرقات وتعطيل المطار بالقوة والدخول في مواجهات مسلحة مع أهل بيروت، خصوصاً السنة!
وكان من الطبيعي أن تشعل تصريحات الجنرال سجالاً جديداً داخل لبنان، خصوصاً أن حزب نصر الله، والخلاف القديم/الجديد بشأن سلاحه، ودوره في الساحة السياسية اللبنانية، ودوره في القتال في صفوف نظام بشار الأسد، كان عطل تشكيل الحكومة اللبنانية شهوراً، بل أبقى المقعد الرئاسي شاغراً مدة أطول. ولمن يستغربون مواقف الجنرال وتبديل مواقفه مثلما يبدل سترته نحيلهم إلى تصريح شهير للجنرال قاله قبل أن يتحالف مع حزب حسن نصر الله في عام 2006، وهو: «حزب الله إذا بقيَ مسلحاً لن يستطيع حماية نفسه، وسيعرّض الشعب اللبناني للخطر معه». وها هو في عام 2017 يستمر في تحالفه مع الحزب ليؤكد مجدداً بـ«ضرورة وجود سلاح حزب الله لأنه مكملٌ لعمل الجيش الذي لا يتمتع بالقوة الكافية».
كان إدلاء عون بتلك المواقف بعد زيارته للسعودية، التي كان حزب نصر الله سبباً في توتر علاقتها القديمة مع لبنان، مخيباً للآمال، خصوصاً أن الرئاسة تتطلب مواقف براغماتية وسطية، لضرورة عدم إقصاء التيارات السياسية الناشطة في الحياة اللبنانية.
وكان مخيباً للآمال لأن عون بدلاً من أن يعيد إلى لبنان هويته العربية، وهو واحد من وعوده بعد تنصيبه رئيساً للبلاد، تركه في حضن حزب نصر الله. والأنكى أن الرجل، وهو قائد سابق للجيش اللبناني، وصف ذلك الجيش بأنه لا يتمتع بالقوة الكافية. ويعني ذلك ببساطة أن عهد الرئيس عون لن يشهد تعزيزاً لقدرات الجيش الوطني، وأن مشكلة سلاح حزب حسن نصر الله الإيراني باقية بلا حل، وأن اختطاف الحزب الإرهابي للإرادة السياسية للدولة اللبنانية سيبقى خميرة لعكننة الحياة السياسية، واستدامة السجالات والتوترات والصراعات في المشهد اللبناني.
لقد ظل الجنرال يحترف سياسة ترحيل حلول الأزمات منذ محاولته فرض نفسه رئيساً للحكومة في ظل الهيمنة السورية، وهو ما انتهى بسيطرة نظام حافظ الأسد على لبنان بأسره، وخروج عون إلى منفاه الباريسي. وهو ينسى أن الشعب اللبناني حين تفجر غضبه خرج بصوت واحد في قلب بيروت ولم يعد إلى بيوته إلا بعد إرغام بشار الأسد على إجلاء قواته وجواسيسه. الأكيد أنه حين يصل الغضب بالشعب اللبناني مداه من الدويلة الإيرانية داخل الدولة اللبنانية فسيهب مجدداً ليكنس سلاح حزب الله.. ويقتلع شعارات نصر الله ومن يصمت على أفعاله وإرهابه.
٢٢ مارس ٢٠١٧
ماذا يقدم أو يؤخّر أن يكـون رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في واشنطن للقاء الرئيس دونالد ترامب. هل يمكن الرهان على الرجل في انتزاع العراق من إيران. بكلام أوضح هل في الإمكان استعادة العراق؟
تزداد صعوبة الرهان على استعادة العراق مع ما يجري في الموصل. لا شكّ ان استيلاء داعش على هذه المدينة العراقية العريقة صيف العام 2014، بتسهيل من حكومة نوري المالكي، كان مأساة. لكنّ ممارسات الحشد الشعبي، الذي بات جزءا من مؤسسات الدولة العراقية الجديدة بحق أهل الموصل، بات استمرارا للمأساة. هناك عملية تهجير منظّمة ومدروسة لأهل المدينة من منطلق مذهبي. تمـارس هذه العملية تحت عنوان عريض هو تحرير الموصل من داعش. يظهر كأن الحشد الشعبي هو المستفيد الأوّل من داعش، فيما العكس صحيح أيضا…
يبدو الرهان على استعادة العراق، وهو رهان أميركي ـ سعودي، مجازفة كبيرة، إلّا إذا تبيّن أنه كانت لدى المملكة ما يكفي من المعطيات كي يذهب وزير خارجيتها عادل الجبير الشهر الماضي إلى بغداد ويبحث في إمكان الانتقال إلى مرحلة جديدة في مجال ترميم العلاقات الخليجية ـ العراقية.
ما يدعو إلى عدم الإغراق في التفاؤل أن العبادي نفسه عضو في حزب الدعوة الإسلامية ذي العلاقة العضوية مع النظام الإيراني من جهة وعمق الوجود الإيراني في العراق الذي تجسّده حال ميليشيوية هي الحشد الشعبي من جهة أخرى. من شروط الرهان على استعادة العراق وضع الحشد الشعبي عند حدّه. هل هذا ممكن؟ هل في استطاعة حيدر العبادي ذلك؟
أكثر من ذلك، لا يمكن تجاهل أنّ العراق تغير جذريا منذ العام 2003، أي قبل أربعة عشر عاما بالتمام والكمال. ففي مثل هذه الأيام من ذلك العام، بدأت الحرب الأميركية على العراق بهدف إسقاط نظام صدام حسين وتشكيل نظام جديد، يكون نموذجا لما يجب أن تكون عليه دول المنطقة.
كان الحلم الأميركي يتمثّل في قيام عراق ديموقراطي تعددي على كل الصعد تقتدي به دول المنطقة. تحوّل هذا الحلم إلى كابوس. كانت المغامرة الأميركية في العراق، بمشاركة إيرانية مباشرة، وغير مباشرة، كارثة على المنطقة العربية كلّها، بما في ذلك العراق نفسه الذي بات تحت حكم ميليشيات مذهبية تابعة لأحزاب عراقية مرتبطة مباشرة بالمشروع الإيراني. هذا ليس سرّا. ليس سرّا أيضا إن زعماء هذه الميليشيات قاتلوا إلى جانب “الحرس الثوري” الإيراني في الحرب العراقية ـ الإيرانية بين عامي1980 و1988. هذا يعني بكل بساطة أن الحشد الشعبي أداة إيرانية تتحكم بالعراق. ما موقف رئيس الوزراء العراقي الموجود في واشنطن من هذا المكوّن الذي صار مؤسسة من مؤسسات الدولة العراقية، بل المؤسسة الأقوى في هذه الدولة.
على الرغم من ذلك كله لم يكن هناك مفر من الرهان على إعادة العراق إلى وضعه الطبيعي بعيدا عن إيران مجددا، لا لشيء سوى لأنه لم يكن لدى إيران ما تقدمه للعراق والعراقيين باستثناء الفقر وإنعاش الغرائز المذهبية والميليشيات وثقافتها. لكن ما لا يمكن تجاهله في الوقت ذاته أن إيران خلقت واقعا على الأرض العراقية. جعلت ميليشياتها صاحبة اليد الطولى في كلّ أنحاء البلد. استطاعت إيران تشريع هذه الميليشيات التي صارت جزءا لا يتجزّأ من مؤسسات الدولة، هذا إذا كان في الإمكان الكلام عن دولة عراقية بعد كل عمليات التطهير ذات الطابع المذهبي التي طاولت المدن والمناطق العراقية من جهة، وفي ضوء الشرخ العميق بين السنّة والشيعة وبين النظام القائم في بغداد والأكراد من جهة أخرى.
سيتوقف الكثير على من ستكون له الكلمة الأخيرة في معركة الموصل. ستلحق هزيمة بـ“داعش” في الموصل. هذا أمر أكيد. ولكن من سيكون صاحب الانتصار. الميليشيات المذهبية الموالية لإيران تحت تسمية الحشد الشعبي، أم القوات النظامية العراقية المدعومة أميركيا؟
يتوقف على نتيجة معركة الموصل ما إذا كان خروج العراق من الهيمنة الإيرانية رهانا واقعيا أم لا. ما يمكن أن يلعب دورا لمصلحة هذا الرهان أنّ الإدارة الأميركية الحالية ليست مثل إدارة باراك أوباما التي أطلقت يد إيران في كل المنطقة العربية وقررت في مرحلة معينة الاستسلام لها في العراق.
الأهم من ذلك كله، أن إيران تعاني في هذه الأيام من أزمة سياسية واقتصادية عميقة بدأت تظهر نتائجها في غير مكان من المنطقة، بما في ذلك لبنان حيث يعاني المعتاشون من “المال النظيف” من انعكاسات الفشل الإيراني. فشلت إيران فشلا مدويا في بناء اقتصاد قادر على الحياة لا يعتمد على سعر النفط والغاز. عاشت طويلا على نهب العراق، خصوصا في أيّام حكم نوري المالكي. لم يعد العراق قادرا على مساعدة نفسه بعد تبخر مئات مليارات الدولارات في سنوات حكم المالكي.
سيكون من الصعب إعادة العراق إلى العراقيين. ولكن لا بدّ من المحاولة، على الرغم من أنّ الأمل في النجاح ضئيل. العراق يستأهل المحاولة، ذلك أن سقوطه في 2003 أخلّ بالتوازن الإقليمي بشكل جذري. ما يعيشه الشرق الأوسط والخليج اليوم هو استمرار للزلزال الذي بدأ باحتلال العراق من دون تفكير عميق في الخطوة التالية.
حسنا، رحل صدام حسين ونظامه البائس، ولكن هل الميليشيات المذهبية التي تديرها إيران بديل أفضل؟ هل حيدر العبادي قادر على أن يكون لكل العراق ولكل العراقيين بثقافته المحدودة ذات الطابع المذهبي؟
لا خيار آخر غير المحاولة. الأكيد أن نتائج معركة الموصل والرحلة الأميركية لرئيس الوزراء العراقي ستكشفان ما إذا كان في استطاعة حيدر العبادي التصرف خارج الإطار الذي ترسمه إيران عن طريق الحشد الشعبي. أما الامتحان الأهم فانه سيكون القمة العربية التي يستضيفها الأردن قبل نهاية الشهر الجاري. سيُطرح في هذه القمة موضوع التدخلات الإيرانية في الشؤون العربية. لدى إيران ميليشيات مذهبية تابعة لها في سوريا ولبنان والعراق والبحرين واليمن. إضافة إلى ذلك، تحتل إيران ثلاث جزر إماراتية منذ العام 1971 وترفض أي تفاوض في شأن زوال الاحتلال، تماما كما تفعل إسرائيل في الضفة الغربية. ما الموقف العراقي الرسمي من هذه الميليشيات ومن الاحتلال الإيراني لأرض عربية، أم أنّ هذه الميليشيات هي التي تعبّر، عمليا، عن الموقف الرسمي العراقي؟
أيّام قليلة تفصل عن القمّة العربية. سيظهر هل من تـأثير للرحلة الأميـركية لحيدر العبادي وهل من ثمار للزيارة التي قام بها الوزير عـادل الجبير لبغداد. سيظهر عمليا ما إذا كان هنـاك من بقية أمل في إحياء الروح الوطنية العراقية عند السنة وعند الشيعة في العراق، وهو أمل حاولت إيران القضاء عليه نهائيا عبر جعل ميليشياتها المنضوية تحت تسمية “الحشد الشعبي” بديلا عن كل مؤسسات الدولة العـراقية على رأسهـا رئاسة مجلس الوزراء التي يفترض أن تكون قد احتكرت كل السلطات في البلد.
٢٢ مارس ٢٠١٧
الروس لم يقدموا على انتشال الأسد ونظامه إلا بعد موافقة إسرائيل؛ فمن المعروف أن إسرائيل لها بالروس علاقات طبيعية إذا لم تكن وطيدة، وليس في مصلحة أي من الطرفين، لا إسرائيل ولا روسيا أن تتوتر؛ وكثيرا ما يشد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو رحاله إلى موسكو للتنسيق معهم في تدخلاتهم في المنطقة العربية.. وهذا يعني بكل وضوح أن روسيا الاتحادية نسقت مع إسرائيل قبل التدخل لإنقاذ الأسد ونظامه.
إيران يربطها بروسيا علاقات وطيدة وإن توترت بعض الشيء مؤخرا؛ وحزب الله صنيعة الولي الفقيه الإيراني، ومنه يتلقى معظم تمويله، والبقية من خلال الاتجار بالمخدرات في كل أرجاء العالم.. هذه العوامل مجتمعة تنسف أسطورة أن سلاح حزب الله هو سلاح لمقاومة إسرائيل، وحماية حدود لبنان، كما يردد اللبنانيون الموالون للحزب، وكما ردد كذلك الأسطورة ذاتها الرئيس اللبناني «ميشيل عون» في القاهرة.
الإيرانيون وصنيعتهم حزب الله يروجون هذه الأسطورة أو الذريعة، لتسليح الميليشيا الشيعية في لبنان لتكون لهم بمثابة مخلب قط لحماية نفوذهم وسيطرتهم هناك،؛ أما أن يرمي الرئيس اللبناني بثقله خلف هذا الحزب، ويتبنى رسميا ميليشيات تأتمر بأمر الولي الفقيه، فلا يمكن أن يكون ذلك منطقيا، لولا أنه يعلم يقينا أن سلاح حزب الله لا يستهدف إسرائيل كما يزعم (مجعجع) الحزب «حسن نصر الله»، ولما تجرأ على هذا التصريح، الذي جعل عمليا أي تهديد ينطلق من سراديب الحزب في بيروت هو تهديد (لبناني) رسمي؛ ومعروف أن عون قبل أن يصبح رئيسا كان حليفا للحزب، ويعمل بالتنسيق معه، وهو أقرب الزعماء اللبنانيين بمعرفة حقيقة من يستهدفهم. كل هذه المؤشرات تقول ما يلي: أولا حزب الله ومن ورائه إيران، هم مع إسرائيل (سمن على عسل)، وكل طرف يخدم الطرف الثاني؛ إيران تتخذ من عداء إسرائيل ذريعة تخدم أطماعها في المنطقة؛ وتدخل إيران دعما للرئيس الأسد وعدم استبداله بآخرين، لا تضمنهم، يصب في مصلحة إسرائيل وإيران معا. ولا يخالجني شك بأن هذا الحزب، لو كان يشكل خطرا وجوديا على إسرائيل، فلديهم من الوسائل المخابراتية، والقوة العسكرية، ناهيك عن النفوذ لدى الدول العظمى، ما يجعل لبنان، وليس ميليشيا حزب الله فحسب، أثرا بعد عين. فأمن إسرائيل، وبقاؤها، أمرٌ محسوم، ليس لدى الأمريكيين فحسب، وإنما لدى كل الدول العظمى. والعرب، خاصة المغفلين منهم، لا يتعلمون من تاريخهم مع الزعماء المزورين الذين يتخذون من قضية فلسطين ذريعة لأطماعهم وتسلطهم، صدام حسين مثالا، وقبله عبدالناصر، والآن حسن نصر الله وقبل هؤلاء عدونا الفارسي البغيض، جميعهم بلا استثناء جعلوا فلسطين بمثابة قميص عثمان وأصابع نائلة لتحقيق أهدافهم، ولأن أغلب العرب لا يقرؤون، ولا يفكرون، تنطلي عليهم النصبة ذاتها مع كل زعيم نصاب، وآخرهم ولا أظنه سيكون الأخير هذا الكذاب الأشر، الإرهابي حسن نصر الله.
٢٢ مارس ٢٠١٧
شكل الهجوم المباغت الذي شنته فصائل المعارضة بقيادة «فيلق الرحمن» و «جيش الإسلام» و «هيئة تحرير الشام» على جبهة جوبر عند المدخل الشمالي لمدينة دمشق، تطوراً مهماً على صعيد العمليات العسكرية في العاصمة السورية، وقطيعة مع «الستاتيكو» العسكري الذي هيمن عليها منذ خمس سنوات.
ثمة تساؤلات كثيرة عن توقيت الهجوم وأسبابه. هل هو مرتبط بفائض في القوة لدى فصائل المعارضة بعد تحييد خلافاتها الجانبية لتحقيق انتصارات عسكرية مستدامة؟ أم أن الأمر مرتبط بتكتيك هدفه تحسين شروط التفاوض مع توجه النظام نحو فرض تسوية على حي برزة والقابون وتشرين؟
منذ نهاية عام 2012 بدأ النظام إقامة سياج عسكري - أمني في محيط دمشق، أعقبه سياج آخر بعمق نحو عشرة كيلومترات داخل الأراضي المحيطة بالعاصمة التي تتبع إدارياً ريف دمشق.
وبين هذين السياجين بقي كثير من البلدات والأحياء تحت سيطرة فصائل المعارضة من شمال غرب العاصمة (قرى وادي بردى، قدسيا، الهامة) إلى الغرب (معضمية الشام)، إلى جنوب العاصمة (داريا، ومخيم اليرموك) إلى الشرق (الغوطة الشرقية)، وانتهاء بالأحياء المطلة على البوابة الشمالية والشمالية الشرقية للعاصمة (حي جوبر، القابون، برزة، حي تشرين، التل).
استخدم النظام سياسة الحصار الخانق مع ضربات عسكرية مستمرة لإبقاء فصائل المعارضة والأهالي تحت واقع عسكري- إنساني صعب للغاية، فنجح في تحويل مناطق سيطرة المعارضة إلى جزر جغرافية منعزلة.
ومع انقلاب الموازين العسكرية لمصلحته إثر التدخل الروسي، بدأ النظام العمل على وضع تسويات خانقة في القرى والبلدات بمحيط دمشق، فبدأ بالبلدات الواقعة جنوب العاصمة وغربها ثم شمالها الغربي، بسبب خصوصيتها لـ «حزب الله» وإيران.
في شباط (فبراير) الماضي استأنف النظام حملة عسكرية واسعة على حيي القابون وتشرين لم تعرف منذ ثلاثة أعوام، تزامنت مع مفاوضات لإخراج حي برزة من المعركة، خصوصاً المناطق القريبة من القابون، قاطعاً بذلك اتفاقات الهدن التي تمت بينه وبين هذه الأحياء في عام 2014.
منع النظام العبور من حي برزة الذي يتمتع بموقع استراتيجي وإليه، لإشرافه على أوتوستراد دمشق- حمص، وقربه من مستشفى تشرين العسكري، وحي عشّ الورور، الذي يُعتبر من المناطق الموالية للنظام.
الهدف الرئيسي هو فصل حي القابون عن حيي تشرين وبرزة إلى الغرب، وفصله عن الغوطة في الشرق لقطع أي تواصل بينهما، وبالتالي قطع أهم شرايين الإمداد للغوطة الشرقية.
كانت خطة النظام تقضي بفتح معابر من الغوطة الشرقية إلى مخيم الوافدين لانتقال المدنيين فقط وترك المسلحين في الغوطة تمهيداً للعملية العسكرية الكبرى، لكن الأهالي رفضوا ذلك، فاضطر النظام إلى تعديل خططه والبدء بعزل القابون وحيي تشرين وبرزة، وفرض تسوية مجحفة قبيل الانتقال إلى معركة الغوطة الشرقية.
طالب النظام حي القابون بإغلاق أنفاق التهريب نحو الغوطة، وهو ما رفضته المعارضة، في وقت لم يغلق النظام معبر الوافدين الذي يمد الغوطة باحتياجاتها بسبب الأرباح الكبيرة التي يحصل عليها، حيث يتم بيع السلع بأسعار مضاعفة جداً لأهالي الغوطة.
وإذا أغلق النظام معبر الوافدين التابع له في مخيم الوافدين، فستكون الغوطة الشرقية قاب قوسين أو أدنى من كارثة إنسانية، ذلك أن معبر الوافدين وأنفاق التهريب شمال غرب الغوطة نحو القابون بقيت شريان الإمداد الرئيسي عقب خسارة المعارضة منطقة المرج الخصبة التي تعتبر السلة الغذائية للغوطة الشرقية.
ويشكل خروج برزة وتشرين والقابون من معادلة الصراع ضربة قاتلة للمعارضة في الغوطة الشرقية نتيجة خسارة خط الإمداد الرئيسي لها (المحروقات، الغذاء، الدواء، الذخيرة).
أمام هذه المعطيات، جاء الهجوم العسكري للمعارضة لتخفيف الضغط العسكري بعدما فقدت السيطرة على مناطق في القابون وبرزة في الآونة الأخيرة، وربط حي جوبر بحي القابون، وبالتالي ربط الأحياء المحاصرة عبر حي جوبر بالغوطة الشرقية أهم معاقل المعارضة في ريف دمشق.
لكن هذين الهدفين لا يمكن تحقيقهما إلا موقتاً، وربما لساعات، فمجمل هذه المناطق الممتدة من جوبر إلى القابون إلى برزة، هي عبارة عن جزر منعزلة محوطة بثقل عسكري كبير للنظام، ولا تستطيع المعارضة في واقعها الحالي تحقيق الترابط الجغرافي بينها، فلا تملك العديد البشري والسلاح الكفيل بتحقيق هذه الأهداف.
نعم، شكلت العملية مفاجأة للنظام وأربكته لساعات، وكشفت قدرة المعارضة على صنع المبادرة، لكن قيمة ذلك بالمعايير العسكرية لا تعدو الصفر، فالنظام استطاع السيطرة على معظم المناطق التي أخذتها المعارضة، حيث أعاد السيطرة على محور معمل «سيرونيكس»، جنوب غربي جوبر، في وقت استطاع الوصول إلى شركة الكهرباء شمال غرب جوبر، ليهيمن على مساحة واسعة، قبيل استكمال مسيره للسيطرة على المنطقة الصناعية التي تفصل القابون عن حي جوبر.
باختصار، لن تستطيع المعارضة تحقيق إنجاز نوعي يؤدي إلى تغيير في موازين القوى من شأنه أن يفك الحصار عن الغوطة الشرقية والأحياء الشرقية، إذ إن الحديث عن ربط الغوطة الشرقية بأحياء القابون وبرزة وحي تشرين أمر يبدو مستحيلاً، فأهداف المعارضة تتجاوز قدراتها العسكرية.
لكن إذا استطاعت فصائل المعارضة استيعاب هجوم النظام في معاقلها الأساسية، خصوصاً في حي جوبر والقابون، فإنها ستعزز موقعها التفاوضي حيال التسوية التي يسعى النظام إلى تحقيقها في الأحياء الثلاثة، وهذا هدف يبدو تحقيقه ممكناً.
٢١ مارس ٢٠١٧
أبلغ المرشد الإيراني علي خامنئي شعبه بمناسبة عيد النوروز أن هذه السنة هي لاقتصاد المقاومة وأنه يدرك ظروف الشعب المعيشية ويشعر بمرارة إزاءها. ألا يدرك الشعب الإيراني أن نظامه هو الذي أدى بهذا الاقتصاد إلى التدهور؟ كم صرفت إيران من أموال على الحرب في سورية لدفع رواتب المقاتلين ولـ «حزب الله» وللسلاح للدفاع عن نظام فاشل ليبقى؟ كم صرفت من أموال على شراء الميليشيات العراقية؟ كم صرفت من أموال إيرانية على أسلحة أعطيت للحوثيين وعلي عبدالله صالح ولزعزعة الوضع في دول الخليج؟ إيران منذ ثورة الخميني اهتمت في شكل أساسي بتصدير ثورتها إلى كل مكان في المنطقة ولخلق الفتنة بين الشيعة والسنّة. وهي مستمرة على رغم العقوبات وعلى رغم انخفاض سعر النفط في دفع أموال طائلة لـ «حزب الله» ليستمر في حربه في سورية دفاعاً عن الوجود الإيراني. كما تدفع أموالاً طائلة لينفذ بشار الأسد استراتيجيتها وهي تشييع سورية. فهناك أماكن عدة في سورية أفرغها النظام ويستبدل سكانها بالشيعة لتوسيع هيمنتهم في البلد على رغم تواجد الجيش الروسي هناك. و «حزب الله» يرسل الشباب اللبنانيين ليقتلوا في سورية لمصلحة بقاء إيران في المنطقة ورواتب المقاتلين مرتفعة. فإيران توسعت في العراق وفي سورية وفي لبنان حيث يهيمن «حزب الله» على السياسة اللبنانية.
إن التمدد الإيراني في المنطقة العربية تم عبر تواطؤ إيران مع النظام السوري وقياديين عراقيين مثل نوري المالكي و «حزب الله» وعبر الأموال الطائلة التي هدرتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتدفعها لوكلائها في المنطقة بدل استثمارها لمتطلبات وحاجات الشعب داخل البلد. إن إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما كانت مصرة على دفع إيران إلى تغيير سياستها عبر التطبيع التدريجي مع هذا البلد لأن أوباما مثل سياسيين أوروبيين عديدين ومنهم المرشحان للرئاسة الفرنسية فرانسوا فيون ومارين لوبن يفضلون التعامل لأن هنالك قناعة خاطئة في عدد من الأوساط الغربية أن التطرف الإسلامي آت من الدول ذات الغالبية السنّية، في حين أن الثورة الإيرانية هي التي بدأت تصدير ثورتها ودفعت الأموال الطائلة لتسليح جماعاتها في المنطقة وتشكيل الميليشيات التي مكنتها من الهيمنة في أنحاء العالم العربي. فإيران عازمة على التمسك ببشار الأسد وهي تستثمر أموالاً طائلة من أجل بقائه. والأسد بحاجة إلى إيران لبقائه ولروسيا لحمايته من الضربات الإسرائيلية. وإسرائيل مرتاحة جداً للخراب الذي يحدث في سورية لأن مقاتلي «حزب الله» منشغلون في حربهم هناك والجيش السوري مغلوب على أمره تحت مظلة روسيا ومقاتلي وكلاء إيران. وكل ذلك على حساب الشعب الإيراني الذي كان يمكن أن يعيش في ظروف اقتصادية جيدة في ظل نظام عقلاني وحريص على شعبه.
فدموع المرشد الإيراني على ظروف اقتصادية صعبة في مناسبة السنة الجديدة ليست إلا مسرحية على شعب كان يمكن أن يعيش في بلد غني، ولكنه لم يشهد يوماً منذ الثورة الإيرانية إلا الكوارث والعقوبات والضيق المالي بسبب سياسات توسعية في المنطقة العربية تطمح إلى عودة إمبراطورية الفرس تحت راية الثورة الإسلامية، ولسوء الحظ بمساعدة بشار الأسد وحلفائه في لبنان. وعلى رغم ذلك ترى بعض قيادات الغرب أن من المستحسن أن تكون علاقة فرنسا وثيقة بإيران. وسياسة ترامب تجاه إيران ليست مطمئنة على عكس ما يعتقد، أولاً لأنها غير واضحة سوى بالكلام، وثانياً لأنها بإيعاز من إسرائيل ولن يكون هدفها إلا المزيد من التخريب في العالم العربي. فإسرائيل ضربت لبنان في عام ٢٠٠٦ ودمرت جزءاً كبيراً منه ولكنها عززت قوة «حزب الله». ومن يعتقد أن عداء ترامب لإيران سيزيل تهديدات هذا البلد هو خاطئ لأنه ليس لدى ترامب أي خطة لمواجهة التهديد الإيراني إلا عبر النصائح الإسرائيلية الخطيرة، لأن نتانياهو يعتمد على الحروب وتخريب العالم العربي كي لا يذكّره أحد بالشعب الفلسطيني.
٢١ مارس ٢٠١٧
في مناسبتين متتاليتين، تمخض جبل السيد حسن نصر الله، الأمين العام للحزب الإلهي الأصفر، عن إبداعين؛ الأول نظرية «المعجزة الإلهية» في سوريا، والثانية نصيحة «المعجزة التنموية» من المقاومة للخصوم!
نصر الله خطب بمناسبة حزبية دينية هي ميلاد السيدة الزهراء، ثم نشر الإعلام اللبناني مضمون مواعظ تربية ألقاها المعمم المسلح، نصر الله، على «أفراد التعبئة التربوية» في «حزب الله» ليلة الجمعة الماضي. في هذه الجلسة التربوية، يعني تأطير عقل «الشباب» وتلقينهم الحجج الحزبية، وحقنهم بالمواد المعنوية اللازمة، وصف نصر الله، مشهد حزبه، ودولته الداعمة، إيران الخمينية، وحليفهم بشار، بأنه مشهد يكشف عن «المعجزة الإلهية»!
يبدو أن نصر الله مغرم بالالتصاق باسم الجلالة، فحزبه هو «حزب الله»، ومناوشته مع إسرائيل، هي «النصر الإلهي»، وأخيراً «جريمته» هو وإيران وبشار، ومعهم «داعش» و«النصرة» وحتى الميليشيات الكردية الموالية لحزب العمال، هي «معجزة إلهية».
بئس هذا الإسراف في العصمة، وإسباغ العباءة الإلهية على «تصرفات بشرية» محضة، أقل وصف لها، إن لم نقل عنها إنها أقرب لـ«المعجزة الشيطانية»، بالنظر لنتائجها الكارثية على السلم الأهلي ودورها في تغذية المناخ الطائفي المسموم في سوريا والعراق، وحتى اليمن.
بذكر اليمن، تبرع نصر الله، في خطبة ذكرى الزهراء، بعدما أفاض خياله في الأموال التي صرفتها الدول العربية، لإنقاذ الشعب السوري من جرائمه وجرائم راعيته إيران، وصديقهم بشار، وتحدث عن مئات المليارات، ثم تباكى، فقال: «كان لهذا المال أن ينقذ الصومال واليمن من المجاعة، وأن يبني بيوت الفلسطينيين في غزة، وأن يؤمن فرص العمل للشباب، وأن يمحو الأمية»، على أساس أن «حزب الله» جمعية تنموية حامية للسلام والبيئة ومكافحة للاحتباس الحراري، ومشجعة على الأكل النباتي والصحي، وليس عصابات إرهابية عابرة للدول!
يبشّر أيقونة التعبئة الخمينية في العالم العربي، نصر الله، بأن «محور المقاومة لن يهزم، لا بل إنه سينتصر في سوريا والعراق واليمن».
مبروك! ولكن هل تشمل هذه البشارة بانتصار جماعته في اليمن، قصف جامع معسكر (كوفل) أثناء صلاة الجمعة، بصاروخين حوثيين «مقاومين» ليقتل 34 إنساناً ويجرح أكثر من 100 مصاب؟
هذا المثال فقط لأنه تزامن مع خطبة نصر الله الأخيرة، وجلسته «الدينية» التربوية لشبيبة الحزب، وإلا فالأمثلة المخزية كثيرة.
الواقع عكس أوهام صاحب الحزب الأصفر، والجمهورية الخمينية ليست بأحسن أحوالها، مع اليقظة الأميركية الأخيرة، من مظاهرها مثلاً، تصنيف الميليشيات الشيعية الإرهابية بالبحرين «سرايا الأشتر» على لائحة الإرهاب الأميركية.
اتق الله يا رجل.
٢١ مارس ٢٠١٧
بعد أيام على الذكرى السادسة لانطلاق الثورة السورية، احتفل النظام بإنجازه في حي الوعر بحمص. قيل إن عملية التهجير هذه خاتمة العنف وخاتمة الآلام. لكنْ قبل انتهاء الاحتفال، باغتت جبهة «فتح الشام» («النصرة» سابقاً) النظام والعاصمة بهجوم كبير من حي جوبر المجاور. الإسرائيليون شنوا غارة جوية أخرى على أسلحة متطورة قالوا إنها كانت تُنقل إلى «حزب الله» في لبنان. وزير دفاعهم أفيغدور ليبرمان هدد بأن طيرانه سيدمر أنظمة الدفاع الجوية السورية إذا أطلق الجيش السوري صواريخ على طائرات إسرائيلية.
المراقبون يُجمعون على أن «داعش» ينهزم في الموصل. لكنهم يُجمعون أيضاً على أن صورة العراق ما بعد هزيمة «داعش» ستكون ملبدة جداً ومقلقة جداً. وفقاً للزميل حازم الأمين، العائد لتوه من هناك، سيواجه العراق «استحقاقات العلاقة العربية الكردية، والشيعية السنية، والكردية السنية، والكردية الشيعية، ناهيك عن العلاقات البينية داخل كل مركب من هذه المركبات، وجميعها عرضة للانفجار. وحده «داعش» يملك وجهة...».
لا شيء إذاً يوحي أن حروب سورية والعراق ستتوقف قريباً. وأمور ليبيا واليمن ليست أفضل حالاً. المنطقة وضعت قدميها الاثنتين على سكة الحروب الأهلية– الإقليمية المفتوحة والمديدة، وأفضل ما قد ينجم عنها توافقات هشة على مناطق نفوذ تحضن في داخلها كل البذور القابلة للانفجار.
واقع كهذا يعيد الاعتبار إلى الثورات العربية، ولو من زاوية مواربة. لقد كشفت ما تحت الظاهر، أي ما لم تفعله الأنظمة القائمة على امتداد عقود ما بعد الاستقلالات: إنها لم تبنِ دولاً، وإن بنت سلطات أمنية مدججة بالقسوة. لم تنشئ روابط وطنية ومواطنية. لم تفعل شيئاً. وبما أن هذه الأنظمة لم تسقط، انفجر كل البناء المتداعي الذي أسسته. انفجر ما لم تفعله على شكل تناقضات حادة وثأرات وحروب. حتى الذي ينتصر اليوم، كما هو مرشح أن يحدث في الموصل، سيكون انتصاره مقدمة لهزائم، أو أقله لأحقاد سوف تتراكم وتُكبت إلى حينٍ في انتظار أن تعاود الانفجار لاحقاً.
في هذه الغضون، لا توجد في أي من مجتمعاتنا الكتلة القوية القادرة على إرساء أوضاع جديدة خارج العصبيات الأهلية والانحيازات الإقليمية. هذه الكتلة الضعيفة أصلاً زادتها هزيمة الثورات، وانفجار قوى التكفير، وخصوصاً أعمال التهجير واللجوء والتبديد السكاني الواسع، ضعفاً على ضعف.
طبيعة دول الجوار المؤثرة تعزز وجهة الحروب المفتوحة في بلداننا. تعويلها الأحادي على أمنها المباشر من خلال جماعات محاذية جغرافياً، أو مشابهة دينياً وطائفياً، يؤجج التصدعات القائمة عندنا. النظام الإيراني إسلامي مناهض للديموقراطية. التركي يغذ الخطى في مناهضة الديموقراطية. الإسرائيلي يسعى إلى إدخال فيل الديموقراطية في ثقب اليهودية. أنظمة بقيم كهذه لا تصدر إلى جوارها مبادرات خيرة. إنها تفعل العكس.
فوق هذا، بعد انتهاء الحرب الباردة صارت الحروب التي لا تتوقف أقل من الحروب التي تتوقف. العالم متروك لعصبياته الصغرى. السنوات الأميركية الأخيرة، بعزوفها وانعزاليتها، زخمت هذه الوجهة. دونالد ترامب عصارة هذه المسيرة. لقد حقق الأميركيون أمنية مناهضي الإمبريالية فحلت على الأرض جنة التحرر!
حيال نظام إقليمي كهذا، نظامٍ للحروب المفتوحة، لا يبقى سوى انتظار المعجزة، ومنتظرو المعجزات يتزايدون.
٢١ مارس ٢٠١٧
لا تقوى سورية حالياً على تغيير قواعد الاشتباك مع إسرائيل. هذه الحقيقة لا تقلل من أهمية الردّ الصاروخي السوري على الغارة الإسرائيلية فوق تدمر يوم الجمعة الماضي. كان الردّ مفاجئاً، وشكّل تحولاً في نمط الاستجابة السورية منذ ست سنوات، فضلاً عن أنه كسر صمت الجيش الإسرائيلي، الذي اعترف هذه المرة بقصف أهداف في الداخل السوري.
أسئلة الرد الأساسية تدور حول دلالات الضوء الأخضر الذي أعطته موسكو لدمشق. هنا ينبغي التذكّر أن الأولى أعطت، قبل الغارة الإسرائيلية، مؤشرات إلى أنها لا ترغب في أنْ يكون المعادل الموضوعي لصداقتها الحميمة مع إسرائيل - بنيامين نتانياهو عداوة موسكو لدمشق أو طهران، تلك «حِسبةٌ مختلفة». ظهر هذا في لقاء نتانياهو - بوتين في التاسع من الشهر الجاري، حيث نُقل عنه قوله: «ها هي إيران اليوم وريثة بلاد فارس تواصل السعي إلى تدمير الدولة اليهودية. وهم يقولون ذلك بشكل واضح جداً ويكتبونه على صواريخهم الباليستية»، فردّ عليه بوتين باقتضاب «نعم، إلّا أن ذلك كان في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح، ونعيش اليوم في عالم مختلف. لنتكلم عنه».
مؤشر آخر تمثل في نفي الكرملين تقارير إعلامية تحدثت، في سياق زيارة نتانياهو المذكورة، عن موافقة موسكو على عمليات إسرائيلية ضد حزب الله من الأجواء السورية. وما أكّد هذه المؤشرات، بعد الغارة، استدعاء موسكو للسفير الإسرائيلي لديها.
من المحتمل أن تكون الغارة الإسرائيلية اختباراً لحدود القبول والرفض الروسي لرغبة إسرائيلية في أن تكون الساحة السورية، بالنسبة إلى تل أبيب، مشابهة لما هو عليه الحال في جنوب لبنان: أيْ حرية التحرك العسكري هجوماً واستباقية واستطلاعاً. قد يقتضي هذا الفهم، إن صحّ، تمييزاً بين سورية المحسوبة على إيران وسورية المحسوبة على روسيا، مثلما هو التمييز بين لبنان - الرسمي، ولبنان - حزب الله. في هذا السياق، يُستعاد كلام وزير الدفاع الإسرائيلي، إفيغدور ليبرمان، الذي قال إن تل أبيب «غير معنية بخلق أي مشكلات مع روسيا» في سورية، التي هددها بتدمير دفاعاتها إنْ تصدت ثانية للمقاتلات الإسرائيلية التي تستهدف منع تهريب أسلحة نوعية لحزب الله.
موسكو لن تتنازل من دون مقابل عن دور «القوة المُقرّرة» في سورية، وعن دور «القوة العظمى القادرة على إدارة شركاء متناقضين» في الملف السوري، من تركيا فإيران فالنظام السوري وصولاً إلى إسرائيل والأردن، وكذلك الجانب الكردي.
إذا كان الضوء الأخضر الروسي لدمشق بالرد على الغارة الإسرائيلية يمسّ، أيضاً، التحالف الأميركي - الإسرائيلي، فإنه، بهذا المعنى، قد يكون رسالة للضغط على دونالد ترامب بتذكيره بالأوراق والقدرة التي تحوزها موسكو في دمشق، وتستدعي جلوس واشنطن وموسكو لعقد التفاهمات والتسويات وإجراء المساومات، وفي صلبها ضمان أمن إسرائيل.
٢٠ مارس ٢٠١٧
بدا اجتماع أستانة السوري، في نسخته الأولى، أشبه ما يكون بثمرة سياسية مجزية، اقتطفتها الدبلوماسية الروسية، قبل أن يحين موعد نضوجها الموسمي، ويطيب أكلها بالشوكة والسكين، حيث اتضح، بعد مرور وقت يسير، أن هذه الثمرة العجفاء عصيةٌ على الهضم، وكأنها حبة كمثرى، كل قضمة منها بغصّة، وذلك على نحو ما تجلى عليه الأمر في الاجتماعين اللاحقين في العاصمة الكازاخستانية الغافية في الحضن الروسي البارد.
وأحسب أن عقلية المنتصر، والرغبة في استثمار الإنجاز العسكري، وتحويله إلى مكسب سياسي روسي، قبل أن يتبدّد وهج الحملة الجوية الضارية على حلب، كان وراء استعجال موسكو في شق هذا المسار الموازي لمسار جنيف البطيء، لتظهير حقيقة أن سيد الكرملين هو صاحب اليد العليا في البلد الذي ازدحمت سماؤه بالطائرات متعدّدة الجنسيات، وتحول إلى ملعبٍ لتسوية الحسابات الإقليمية، وإعادة بناء التوازنات الدولية.
ففي لقاءات أستانة الأولى، كانت موسكو هي صاحبة الفكرة من الألف إلى الياء، وهي التي وضعت جدول الأعمال المكوّن من بند واحد، وهو تثبيت وقف إطلاق النار. كما أن الخارجية الروسية هي التي حدّدت بنفسها هوية المشاركين، ورسمت بذاتها أدوار اللاعبين الثانويين (تركيا وإيران)، وأبعدت العرب والأوروبيين، وتجاهلت القوى السياسية السورية (الائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات)، وحدّث ولا حرج عن تهميش دور الأميركيين.
لقد بدت روسيا، في بداية هذا المسار الذي لم تفض محطاته الثلاث الأولى إلى أي شيء، دولة راغبة في إعادة تموضعها في خضم الأزمة التي تبدو بلا نهايةٍ مرئيةٍ، تحاول الانتقال من موضع الشريك الكامل لنظام الأسد إلى منزلة الوسيط الممتلئ بحس المسؤولية، الساعي إلى وقف حمام الدم السوري، أو تخفيف حدة اللهب المضطرم تحت مرجل الأزمة المستفحلة، الأمر الذي لم يكن في وسع أي عاصمة، أو أي طرف، الاعتراض على مبادرةٍ كهذه مشفوعة بحُسن النية.
غير أن عطباً بنيوياً كان كامناً في هيكل مسارٍ رتبت روسيا مكان انعقاده في إحدى الدول السوفييتية السابقة، ووقّتت زمانه في لحظة الفراغ المصاحب لعملية نقل السلطة في البيت الأبيض، وهي لحظة سبقتها فترة انكفاء أميركي طويلة، وذلك كله لكي تدلل الدولة الوارثة لأمجاد الاتحاد السوفييتي، أنها ربّة البيت لهذه الأزمة المديدة، وأنها تستحق دور الدولة العظمى الثانية على المسرح الدولي.
ومع انعقاد مؤتمر أستانة، في أوقات غير متباعدة، وفشله المتلاحق في إحراز أي تقدم من نوعه، بما في ذلك تثبيت وقف إطلاق النار، تجمعت في الأفق ملامح متزايدة على إخفاق روسي منكر في فرض حقائق الأمر الواقع على سائر الأطراف المعنية بدوامة الحرب الدامية، فلم تستطع موسكو، من خلال جذب الفصائل العسكرية إلى طاولة المؤتمر، شق المعارضة السورية. كما لم يستطع الكرملين أيضاً وضع إيران في جيب معطفه الشتوي، ناهيك عن تركيا التي بدأت تغيّر تدريجياً من موضع استدارتها السابقة.
وهكذا، ومع مرور مزيد من الوقت، اتضح أن الأداء الدبلوماسي الروسي قد وقع في خطأين كبيرين، يصعب على موسكو، المنتشية بنصرها الحربي في حلب، أن تخرج منهما معافاة سليمة؛ الأول محاولتها المكشوفة استبدال مسار جنيف المتعثر بمسار "صنع في روسيا"، ومن بنات أفكارها وحدها، والثاني طرح مشروع دستور سوري أثار حفيظة السوريين على اختلاف مواقفهم، حيث أجمع النظام والمعارضة على رفض هذه الصيغة التي لم يحن أوان كتابة نصها.
وفيما بقيت حصيلة مسار أستانة، في محطاته الثلاث، تساوي صفراً مكعباً، وتشير، في الوقت نفسه، إلى فشل سياسي أكبر بكثير من حجم الدور العسكري الروسي الراجح في سورية، عاد مسار جنيف الباهت يستعيد قدراً يسيراً من عافيته، ويستأثر بالأضواء والاهتمامات الدولية، فيما بدا المسار الذي لفّقته موسكو من وراء ظهر المرجعية الأممية، كأنه طريق فرعية ضيقة، لا تتسع لمرور عربةٍ ثقيلة الوزن كالعربة السورية، الأمر الذي وضع نقطة كبيرة في نهاية سطر الحركة الدبلوماسية الروسية، الساعية إلى الاستفراد الكلي، وأخذ الدور الحصري، وجعل انفرادها بالأزمة السورية حقيقة كلية ونهائية. ذلك أن الرياح التي هبت في أستانة على دفعات متلاحقة لم تجر وفق ما كانت تشتهيه السفينة الروسية المبحرة في أعالي مياه بحر سوري متلاطم الأمواج، حيث أدى الاستعجال في قطف ثمرة غير ناضجة، وطرح الدستور في هذه المرحلة المبكّرة، إلى نفور عام من هذه الذهنية الاستعلائية، التي أعادت إلى أذهان الجميع خطيئة الأميركيين في العراق، عندما وضع الحاكم العسكري، بول بريمر، وثيقة المحاصصة الشائنة التي لا يزال العراقيون يدفعون ثمن إملائها.
ولعل المحطة الأخيرة في مسار أستانة، ورفض المعارضة السورية المسلحة المشاركة في هذه اللعبة الدبلوماسية الماجنة، قد حوّلت هذا المسار إلى كعب أخيل، أي من رافعة كان مقدّراً لموسكو أن تقفز من فوقها لركوب ظهر الحصان السوري الجامح وحدها من دون شريك، إلى نقطة ضعف مميتة، أصابت كبرياء الدولة الكبرى في مقتل دبلوماسي، وأوقعتها في حبائل أزمة حبلى بشتى المتغيرات الميدانية والسياسية، لا سيما بعد أن بدأت الإدارة الأميركية الجديدة تتخلى عن حذرها السابق، وترمي بثقلٍ متزايد، قد يغيّر قواعد اللعبة من أساسها.
وإذا كان من المرجح أن تواصل موسكو الزعم أن مؤتمرات أستانة ناجحة بالجملة والمفرّق، من دون أن تتمكّن من إصدار بيان مشترك واحد، أو أن ترسي وقفاً لإطلاق النار في الأراضي السورية، فإن من المرجح أيضاً أن تصطدم روسيا، في وقتٍ لن يكون بعيداً، بحقائق الأمر الواقع، الذي لا يستطيع فيه الكرملين اختطاف الأزمة السورية من بين أيدي كل هؤلاء المنخرطين في دهاليزها العميقة، وأن يعي مرغماً أنه مجرد لاعب ذي وزنٍ بين عدة لاعبين، لا يقلون عنه أهمية.
وقد يكون خير دليل على فشل هذا المسار الذي مات قبل أن يبدأ، ما أعربت عنه وزارة الخارجية الروسية أخيرا، وما تعللت به من فشل وخيبة أمل إزاء غياب فصائل المعارضة السورية عن اجتماع أستانة الأخير، وإلقاء تبعات ذلك على طرفٍ ثالث لم تسمه، وهو الطرف التركي على الأرجح، ما يشير إلى مدى افتقار الدول الثلاث المنخرطة في هذا المسار، وهي روسيا وتركيا وإيران، لعامل الثقة بعضها ببعض، وفي ذلك خلل بنيوي ظل مرافقاً لهذا الجهد الدبلوماسي الروسي العقيم من المهد إلى اللحد.
٢٠ مارس ٢٠١٧
بعد يوم واحد من إعلان قائد «حزب الله» حسن نصر الله أن «يوم الانتصار الكبير يقترب» وأن «مقاتلي المؤامرة المسلحة ضد سوريا قد هزموا» فاجأت المعارضة العسكرية السورية النظام وحلفاءه اللبنانيين والإيرانيين في عقر داره، العاصمة دمشق، منطلقة في هجوم مباغت وعنيف من أطراف حيّ جوبر شارك فيه آلاف العناصر، ما أدّى، حسب مصادر المعارضة على الأرض، إلى تدمير غرفة عمليات النظام وانهيار دفاعاته.
تعيد العمليّة إلى الأذهان بدايات الثورة السورية حين حاول المتظاهرون الوصول أكثر من مرة قادمين من أطراف دمشق الريفية إلى منطقة العباسيين، وهي تطلّ على أحياء غنيّة ومختلطة طائفيّاً (القصّاع والتجارة والعدوي)، وكانت قوّات الأمن والجيش السورية تواجههم بالرصاص والقنص والقصف، وهو ما سجّل دافعاً أوّلياً لاتجاه الثورة السورية نحو شكلها المسلّح اللاحق.
شهدت المواقع التي تهاجمها المعارضة حاليّاً، بعد ذلك، جولات عديدة كانت تعرّض أمن النظام للخطر الشديد، لكنها كانت تتوقّف أحياناً لأسباب عسكرية، أو نتيجة إيعازات من «حلفاء» المعارضة العرب بعد ضغوط أمريكية شديدة، إلى أن انتهى الحال بالطرفين إلى قبول ما يشبه الحدود لسيطرة كل طرف فيما استمرّ النظام بجولات القصف الجوّي التي لا تنتهي، والتي تمنع تحويل الأمر الواقع العسكري إلى حالة طبيعية، وقد تمّ «تشريع» هذا الوضع من خلال اتفاقات «مصالحة»، كما هو الحال في حي برزة، او اتفاقات وقف إطلاق نار، كما هو الحال في حيي تشرين والقابون.
تجيء العمليّة الكبيرة بعد محاولات النظام للتقدم في محوري برزة وتشرين حيث سيطرت على شارع رئيسي يربط الحيين الواقعيين في شرق دمشق وهو ما يمهد لعزل حيّ برزة، لكن رد المعارضة، لو تم تثبيته، يفتح حيّي جوبر والقابون الكبيرين على بعضهما ويوقف حصارهما معا.
تثبت العمليّات الأخيرة، مجدّداً، إمكانية ضعضعة سيطرة النظام وحلفائه على الأرض، رغم السيطرة الجوية والقوّة الناريّة والبشرية الكبيرتين اللتين يتمتع بهما، ولكنّها تثبت أيضاً ضعف القرار المركزيّ للمعارضة السورية، فـ»ملحمة حلب الكبرى» التي شهدت تحرير مناطق شاسعة وإخراج النظام من كليّات عسكرية محصّنة في الراموسة وغيرها، لم تتزامن مع هجمات أخرى في دمشق ودرعا وحماه وإدلب، حيث تتواجد قوّات كبيرة للمعارضة، بحيث تتشتّت جهود النظام العسكرية ولا يستطيع التركيز على جبهة واحدة، وهو الذي حصل وأدّى إلى كارثة كبرى في حلب، وقبلها داريّا وغيرها.
على الصعيد الإعلامي، ورغم الجرائم الهائلة التي ارتكبها النظام على مدى ست سنوات والمثبتة بالأفلام والصور والوثائق دوليّاً، فقد صار واضحاً أن الوزن الإعلامي للمعارضة على الساحة الدولية قد تراجع نتيجة التعقيد الكبير للوضع السوري، والتداخل الإقليمي الكبير، وتشرذم المعارضة وصعود اتجاهات متطرّفة داخلها، وفوق كل ذلك الجهد الإعلامي المنظّم، ليس للنظام وحلفائه والاتجاهات اليمينية المتطرّفة في الغرب فحسب، بل كذلك على أطراف محسوبة على الثورة السورية صار شغلها الشاغل تضخيم دور «جبهة النصرة» في أي معركة أو حصار لوصم المعارضة السورية، كلّها، بالإرهاب.
رغم الطابع المفاجئ والمؤلم لقوات النظام في دمشق، فإن المسار العامّ للثورة السورية يشير إلى خلل كبير في استراتيجية المعارضة، سياسياً وعسكريّا، يساهم فيه عدم وجود غطاء إقليمي فاعل ومؤثّر، كما هو الحال مع التحالف الروسي ـ الإيراني المساند للنظام، وهو ما أدّى ويؤدي إلى تراجعات جسيمة للمعارضة وانحسارات عن مناطق حافظت لسنوات طويلة عليها، وكذلك إلى تراجعات سياسية شهدنا فصولها بين مباحثات جنيف 1 وجنيف 4.
من جهة أخرى، فإن سنوات الثورة، وخوض النظام المريع في الدماء السورية، وتنازلاته المهينة لروسيا وإيران، لم يبق منه سوى الهيكل الشكليّ لدولة فاشلة وأشلاء نظام وراثيّ قروسطي بشع، وكل محاولات «بعثه» من موته الافتراضيّ ستتكلل بالفشل.
٢٠ مارس ٢٠١٧
أغار الطيران الحربي الإسرائيلي، فجر 17 مارس/ آذار الجاري، على مواقع في سورية مستهدفاً أسلحة "متطورة" لحزب الله، كما صرّح بذلك رئيس وزراء كيان الاحتلال ، بنيامين نتنياهو، فيما أطلقت المضادات الأرضية السورية نيرانها باتجاه الطائرات المغيرة. الملفت أن الطائرات، وفقاً للروايات المتداولة، قدمت من ناحية لبنان في غارتها على ريف حمص؛ والملفت أيضاً أن منظومة الحماية الروسية "إس 300" التي نصبتها روسيا على الساحل السوري قرب قاعدة حميميم الجوية لم تعط ِ أي إنذار للقوات السورية عن الطائرات المغيرة، ما يعني أنها غضت الطرف عن الغارة، إن لم نقل إنها حصلت بضوء أخضر روسي، بعد زيارة نتنياهو إلى موسكو، ما يطرح مجموعة أسئلة عن التنسيق بين إسرائيل وروسيا، في مقابل التباين، إن لم نقل الخلاف الذي بدأ يتصاعد بين إيران وروسيا في سورية، والذي بدأ بالظهور الواضح، اعتباراً من "صفقة حلب" بين روسيا وتركيا.
استهداف إسرائيل "أسلحة حزب الله" في سورية، والإعلان عن ذلك رسمياً في بيان الناطق باسم "جيش الاحتلال"، خلافاً للمرّات السابقة؛ وإطلاق المضادات الأرضية باتجاه الطائرات المغيرة هذه المرة خلافاً أيضاً لكل المرات السابقة، يفتح النقاش على أسئلة كثيرة، قد تتيح المجال لاستقراء المرحلة المقبلة، أو الأيام المقبلة.
قبل أيام، كشف أحد مساعدي قائد الحرس الثوري الإيراني أن بلاده بنت مصانع لإنتاج الصواريخ في لبنان تحت الأرض. وقبلها بمدة، جرى تسريب أخبارٍ عن استلام حزب الله لمجموعة صواريخ متطوّرة من نوع "ياخونت". وبعدها، توعّدت الـ "مليشيات" العراقية التي تقاتل في سورية بفتح جبهة الجولان لمقاتلة إسرائيل، فيما توعّد أمين عام حزب الله في لبنان، حسن نصرالله، في خطابٍ له، بقصف كل أنحاء فلسطين المحتلة، بما في ذلك مفاعل ديمونة النووي. وفي مقابل ذلك، هدّد وزير "الدفاع" الإسرائيلي بتدمير البنية التحتية في لبنان، واعتبر الجيش اللبناني هدفاً في أية حرب مقبلة مع حزب الله، فيما عملت الدعاية الإسرائيلية على تضخيم قدرة حزب الله وخطره العسكري.
وفي مكان آخر، كانت الولايات المتحدة الأميركية الجديدة برئاسة، دونالد ترامب، تضع عدداً من مسؤولي ومؤسسات حزب الله على لوائح الإرهاب، بينما شدّد أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس "على ضرورة الالتزام بالقرار 1701 الذي يحافظ على الهدوء على طرفي الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة"، وأشار إلى أن سلاح حزب الله يهدد الاستقرار في لبنان والمنطقة، فهل يعني هذا كله أن تلك التصريحات والمواقف من كلا الجانبين تمهّد المسرح للحرب المقبلة؟ وماذا عن لبنان فيها؟
المفارقة في كل هذا الجو أن رئيس الجمهورية اللبنانية، ميشال عون، دافع عن سلاح حزب الله في مقابلة له مع تلفزيون مصري قبيل زيارته، أخيرا، إلى مصر، مع علمه بأن هذا السلاح شكّل، على الدوام، مادة خلافية في لبنان، ومنحه غطاءً شرعياً، عندما اعتبر أن الجيش اللبناني لا يملك القدرة الكافية للدفاع عن لبنان أمام أي عدوانٍ إسرائيلي.
ثمّة في لبنان من يبدي الآن قلقه من عدوان إسرئيلي جديد يدمّر البنية التحتية، ويدمّر معها كل الإنجازات، وقد تكون إحدى ارتداداته دخول لبنان في حربٍ أهليةٍ جديدةٍ، نجا منها طوال السنوات الماضية، خصوصا في ظل الانقسام الذي تعيشه الساحة السياسية اللبنانية، وفي ظل حالة التوتر والاحتقان المذهبي الذي تعيشه البلاد على خلفياتٍ وملفاتٍ كثيرة، منها ما يتصل بالأزمة السورية، ويرى هؤلاء أن لبنان لا يحتمل اليوم الوقوف إلى جانب أيٍّ من المحاور المتقاتلة، أو تلك التي تتوعّد بعضها بالقتال.
أمام هذا المشهد الملبّد بالغيوم السوداء، وأمام انسداد أفق الحل السياسي في سورية، وأمام الرسائل التي يتبادلها بعض الأطراف في المنطقة، وفي ظل حالة الاحتقان وحروب الوكالات في أكثر من بلد عربي، يبدو أن لبنان سيكون عرضةَ، أكثر من أي وقت مضى، لدخول حالة الفوضى والحروب التي تجري في المنطقة، خصوصا وأن اللبنانيين لم يتعلموا إلى الآن من شرور حالات الانقسام التي يعيشونها ونتائجها.
٢٠ مارس ٢٠١٧
يكاد مستوى النفوذ والتأثير الإقليميين يعكس عمق انخراط الأطراف الإقليمية والدولية في الأزمة السورية، كما الثقل الدولي لكل منها، فبينما أظهر حجم التدخل العسكري الفاعل لروسيا مدى حرص قيادتها على استعادة دورها الإقليمي ونفوذها العالمي كقوة عظمى، حاولت إيران بتدخلها العسكري المكثف تأكيد حضورها كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها. وبينما تم التدخل العسكري الروسي والإيراني في سورية بتوافق مع نظام الأسد، وفق زعم الأخير، جاء إرسال واشنطن قوات وأسلحة ومعدات أميركية أخيراً لدعم جهود قوات سورية الديموقراطية في محاربة «داعش»؛ من دون تفاهم أو تنسيق مع نظام الأسد.
غير أن الأخير كالَ الاتهامات لكل من واشنطن وأنقرة بانتهاك سيادة بلاده، وطالب الأمم المتحدة بإلزام الأتراك إنهاء «غزوهم». وفي وقت تسعى إيران وروسيا وأميركا وحتى أكراد سورية، إلى تأمين مصالحهم وتعظيم مكاسبهم فى مرحلة ما بعد تسوية الأزمة السورية والقضاء على «داعش»، تبقى تركيا أسيرة قلق بالغ يتملكها بهذا الصدد، كونها لم تُدع للمشاركة في معركتي الموصل والرقة، وهو ما قد يفقدها فرصة حجز مقعد على طاولة المفاوضات التي ستناقش مصير سورية والمنطقة برمتها بعد تسوية الأزمة السورية والقضاء على «داعش». فلطالما برَّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إصراره على التدخل العسكري في سورية برفض بلاده أن تكون «الطرف الغبي»؛ أو «المستضعف» في الأزمة السورية، في وقت تسعى الأطراف كافة لاستغلال فزَّاعة الحرب على «داعش» كمظلة لتحقيق مآربها في سورية والمنطقة.
ومما يفاقم معاناة تركيا أن الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة عسكرياً في سورية، قد بدت وكأنها تلاقت عند تحجيم الدور التركي، ليس في سورية وحدها وإنما على الصعيد الإقليمي ككل. فقد عكف بشار الأسد على تأكيد رفضه أي تدخل عسكري تركي في بلاده. وفي رد منه على دعم أنقرة للمعارضة السورية المسلحة وسعيها لإسقاط نظامه، وبعد ادعائه قصف القوات التركية مواقع لقوات حرس الحدود السورية القريبة من مدينة منبج، طالب نظام الأسد الأمم المتحدة، بإلزام تركيا سحب قواتها «الغازية» للأراضي السورية. وبعدما تحوَّل الأكراد إلى رقم صعب ومهم في المعادلة السورية، أبت قوات «سورية الديموقراطية» إلا رفض الوجود العسكري التركي أو مشاركة أنقرة أو أي قوات موالية لها في معركة الرقة. ولم تتورع قيادة قوات «سورية الديموقراطية» عن تأكيد أن لديها القوة الكافية لانتزاع مدينة الرقة من تنظيم «داعش» بدعم من التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة.
وعلى رغم التقارب الروسي اللافت مع تركيا خلال الآونة الأخيرة، والذي لم يتأثر حتى بحادثة مقتل السفير الروسي لدى أنقرة، نهاية العام الماضي، ثم تأكيد الزعيمين الروسي والتركي خلال قمة سادسة جمعتهما قبل أيام في موسكو قوة التعاون والتنسيق السياسي والعسكري بينهما في شأن سورية، إلى حد وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه بمثابة عودة إلى الشراكة الحقيقية بينهما، ما دفع تركيا إلى طلب تزويدها أنظمة الدفاع الجوي الروسية المتطورة من طراز «إس 400»، في صفقة ستكون، حال إتمامها، الأضخم والأولى من نوعها لبلد عضو في حلف شمال الأطلسي. لا تبدو موسكو مستعدة للتضحية بعلاقاتها الوثيقة مع إيران والتنسيق الإستراتيجي معها في سورية، كما لا تريد إغضابها أو زيادة حنقها إزاء موسكو بسماح الأخيرة لأنقرة بتعزيز حضورها العسكري والسياسي في سورية. وعلى رغم التنسيق التركي الروسي، الذي قاد إلى تنفيذ صفقة «الباب» لتركيا في مقابل حلب لروسيا ونظام الأسد، إلا أن روسيا تبدو متوافقة مع واشنطن في ما يخص الاعتماد على قوات «سورية الديموقراطية» في محاربة «داعش» ومعركة الرقة، وتحييد القوات التركية أو القوات الأخرى الموالية لها كـ «الجيش السوري الحر»، والبيشمركة الكردية العراقية. فقد استضافت روسيا المؤتمر الكردي، ودعت وحدات حماية الشعب الكردي إلى مفاوضات جنيف، فيما تنسق مع واشنطن ونظام الأسد وأكراد سورية بخصوص العمليات على الأرض. وهو التنسيق الذي تجلى في تسليم مجلس منبج العسكري قرى عدة في ريف منبج إلى نظام الأسد أخيراً، بوساطة روسية. وعلى رغم خلافاتهما، يتفق الجانبان الروسى والأميركي على دعم أكراد سورية سياسياً وعسكرياً، والاعتماد عليهم في محاربة «داعش» خلال معركة الرقة، على رغم تواضع قدرات أكراد سورية، خصوصاً قوات «سورية الديموقراطية»، التي تعتمد بالأساس على الدعم العسكري والتدريبي الأميركي.
ويبدو أن واشنطن تفضل التنسيق مع قوات «سورية الديموقراطية» في محاربة «داعش» على تعاون تركي حذر يستند إلى تحالف استراتيجي هش مع الغرب، لا يمكن للأتراك التنصل منه بسبب احتياجهم الملح له. ومع استمرار أزمة الثقة بين واشنطن وأنقرة، يبدو أن أقصى ما يمكن أن تقدمه إدارة ترامب في ما يخص الجدل في شأن مشاركة القوات التركية في مواجهات منبج أو معركة الرقة، سيقتصر على الحيلولة دون حدوث مواجهات بين القوات التركية وقوات «سورية الديموقراطية». وهو ما قد تضطر تركيا للقبول به، بعدما تجاهلت أميركا مبادراتها لاستبدال أو تحييد الكرد من معركة الرقة، كالاستعانة بقوات «الجيش السوري الحر»، إضافة إلى البيشمركة الكردستانية العراقية في محاربة «داعش»، أو تقديم خطط تتضمن حلولاً بديلة للاعتماد الأميركي على قوات «سورية الديموقراطية»، كالقيام بعمل دولي مشترك ضد «داعش»، كما رفضت واشنطن كذلك المطالب التركية خلال اللقاء الثلاثي لرؤساء أركان تركيا وروسيا والولايات المتحدة، بتقليص اعتمادها على قوات «سورية الديموقراطية».
وعلى رغم هذا الإجماع اللافت من جانب الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة السورية على تحجيم الدور التركي داخل سورية، تظل تلك الأطراف بحاجة إلى عدم خسارة تركيا أو إقصائها تماماً، لاسيما أن الأخيرة لا زالت تحتفظ بأوراق قوة مهمة مثل حدودها الطويلة الممتدة مع سورية، فضلاً عما بحوزتها من قواعد عسكرية يمكن أن تخدم العمليات الدولية ضد «داعش»، علاوة على نجاح تركيا في الزج بقوات عسكرية على الأرض تقاتل داخل سورية، فضلاً عن تنسيقها مع طيف من القوات الموالية لها من عرب وتركمان وأكراد كالجيش السوري الحر وقوات البيشمركة الكردية العراقية، فضلاً عن القوات التي قامت أنقرة بتدريبها في معسكر بعشيقة من أبناء الموصل العرب والتركمان للدخول إلى المدينة وإدارة أمورها، وهناك أيضاً إمكانية استثمار أنقرة علاقاتها مع عشائر الموصل العربية والكردية والتركمانية الكبرى لتحريك تمرد داخلي ضد «داعش».
ومثلما تحرص أنقرة على الاحتفاظ بتحالفها الإستراتيجي الهش مع واشنطن والغرب، فإنها ستسعى كذلك للتمسك بعلاقاتها القلقة مع روسيا، حيث آثر أردوغان أثناء محادثاته مع بوتين أخيراً؛ تجنب الخوض في ملفات شائكة وأمور خلافية حول سورية، بينما وضع التعاون الاقتصادي على قمة أولويات تلك المحادثات، لاسيما أمن الطاقة واستكمال مشروع خط أنابيب السيل التركي ومحطة أكويو الكهرو- ذرية. كذلك، أعرب أردوغان خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين عن أمله بأن ترفع روسيا العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على تركيا عقب إسقاط الأخيرة قاذفة روسية من طراز سوخوي -24 فوق سورية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، خصوصاً أنه تم استئناف العلاقات رسمياً بين البلدين في آب (أغسطس) من العام الماضي، بعد اعتذار أردوغان وتنفيذه شروط موسكو لطي صفحة هذا الخلاف، على أن يسعى أردوغان بالتوازي لانتزاع تعهد أميركي روسي صريح وصارم بكبح جماح تطلعات أكراد سورية في شأن الاستقلال أو الحكم الذاتي، بعد القضاء على «داعش» والشروع فى إعادة ترتيب الأوضاع داخل سورية.