شكّل كلام السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، حول الأولويات الأميركية في سورية، تلاقياً وتناقضاً مع الأولويات الروسية كما حددها نائب وزير الخارجية الروسي مبعوث الرئيس الى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف في حديثه الى «الحياة». كلاهما اتفق على هدف إخلاء سورية من الإرهابيين كي لا تكون ملاذاً آمناً لهم بعد الآن. إنما هايلي بادرت الى تأكيد ضرورة أن «نُخرج إيران ووكلاءها» من سورية، فيما أكد بوغدانوف أن هذا قرار سيادي يُتخَذ لاحقاً طبقاً لما ترتأيه الحكومة السورية حينذاك، وهذا ينسحب على «حزب الله». هايلي تحدثت عن ضرورة أن «نقوم بتأمين حدود حلفائنا بحيث تكون لديهم الثقة بحدود آمنة»، قاصدة بذلك إسرائيل بالدرجة الأولى الى جانب العراق وتركيا. بوغدانوف ربط الضمانات لإسرائيل بمسألة احتلالها الجولان وبموضوع مزارع شبعا في لبنان، داعياً «ممثلي حكومات الأطراف للجلوس وراء طاولة مستديرة لتطبيق مبادرة السلام العربية». في هذه الأثناء، كان لافتاً عقد اجتماع ثلاثي أميركي - روسي - تركي في انطاليا ضم رئيس أركان الجيش التركي، خلوص أكار، وقائدي الجيشين الروسي، فاليري غيراسيموف، والأميركي جوزيف دانفورد، مطلع الأسبوع لبحث الملفات الإقليمية وفي طليعتها الملفان السوري والعراقي. فيما برزت تطورات ميدانية ذات أبعاد كردية داخل سورية لدى تركيا، وكذلك عبر تواجد عسكري أميركي في غرب منبج. إضافة الى ذلك، بدأت إدارة دونالد ترامب في صياغة استراتيجيتها في معركة الرقة المرتقبة والتي تريدها حاسمة في مسيرة القضاء على تنظيم «داعش» كأولوية قاطعة. كل هذا وسط تضارب الكلام عن تقسيم في سورية والعراق واليمن وليبيا وحول إعادة توحيد هذه البلاد الممزقة. وتبرز إيران والأكراد في الحديث عن التقسيم، لأسباب مختلفة كلياً. والمؤشرات الآتية من الإدارة الأميركية الجديدة تفيد بالعزم على قطع الطريق أمام أية خطط تقسيمية تلبي المشروع الإيراني في سورية والعراق، فيما المؤشرات الآتية من الحكومة الروسية تفيد بأن التعايش مع التقسيم وارد إذا فشلت التسويات السياسية التي تأخذ في الاعتبار الناحية الإيرانية.
المشهد معقد في العلاقات الأميركية - الروسية - التركية - الإيرانية بالذات في سورية والعراق والذي تغيب عنه الدول العربية الخليجية بقرار الانتظار. المسألة الكردية حاضرة جداً في هذا المشهد المعقد. فهي من جهة حيوية في الاعتبارات الأميركية والروسية على السواء، وهي من جهة أخرى وجودية في موازين العلاقات مع تركيا وكذلك مع إيران.
إدارة ترامب، كسابقتها إدارة أوباما، تقدّر العزيمة لدى الأكراد كمقاتلين جديين أثبتوا أنهم في الصف الأول في الحرب على «داعش». ولذلك فهي متمسكة بدعمهم كأداة لا يُستغنى عنها لتحقيق هدف القضاء على «داعش». ثم إن الأكراد والعشائر السنية العربية هي، في رأي إدارة ترامب، المرشح الجدي الذي يستحق الاستيلاء على الجغرافيا التي يتم تنظيفها من «داعش»، وليست إيران صاحبة مشروع «الهلال الفارسي» الممتد في الأراضي التي استولى عليها «داعش» في العراق وسورية وصولاً الى لبنان حيث «حزب الله» الذي يعلن ولاءه لطهران.
روسيا توافق الولايات المتحدة على رفع راية الأكراد، وهي كانت حريصة على إعطائهم دوراً مركزياً في مسودة دستور لسورية تحمل بموجبه اسم «الجمهورية السورية» وليس «الجمهورية العربية السورية». وبحسب مراقب مطلع «إن من يضمن الأكراد في سورية هو روسيا». وكان لافتاً ما قاله بوغدانوف في حديثه الى «الحياة» الذي نشر يوم الإثنين الماضي متحدياً تركيا ومعارضتها قيام دولة كردية في سورية إذ قال: «لماذا توافق تركيا على كردستان العراق ولا توافق على كردستان سورية؟ أعتقد أن هذا ليس من شأنهم. هذا شأن عراقي وشأن سوري. الشعب السوري، وليس الروسي أو التركي، يقرر شكل الدولة والقيادة. وهذا هو موقفنا. تغيير النظام وترتيب الأمور شأن سيادي وداخلي».
كان لافتاً أيضاً ما قاله بوغدانوف عندما طُرِح عليه سؤال حول مخاوف من التقسيم في المنطقة العربية، في إشارة الى سيناريو الدولة الكردية في العراق و «احتمالات التقسيم في العراق وسورية». بوغدانوف قاطع ليضيف «وفي اليمن وليبيا»، مؤكداً «احترام سيادة الدول» مقابل «مبدأ حقوق الشعوب في تقرير مصيرها». قال إنه «توجد أحياناً دساتير تشمل مبادئ فيديرالية أو لا مركزية، وهذا مهم لإيجاد آليات لتسوية المشكلات»، شرط «أن يكون أي مخرج على أساس قانوني ودستوري والمهم عدم الخروج عن القوانين». أشار الى ما سمعه في أربيل بأن «هناك حكومة ورئيساً وعلماً وكل صفات الدولة ونحن نريد الشيء نفسه في سورية. قلنا لهم إن هذا السؤال يجب ألّا يوجه الى روسيا لأن هذا أمر توافقي ومنصوص في الدستور العراقي. وهم اتفقوا على هذه الفكرة ونفذوها في شكل قانوني».
إذاً، روسيا منفتحة على احتمال قيام دولة كردية في سورية وليس فقط دولة كردية في العراق، أو أقله كيان كردستان كجزء من كونفيديرالية أو فيديرالية في سورية. تركيا تعارض. إيران تتخوف لكنها تساوم. فهي تخشى من أن يصل نموذج كردستان الى أراضيها حيث كرد إيران أيضاً لديهم طموحات وطنية. لكنها أيضاً تدرك أن احتفاظها بما تريده في سورية والعراق يتطلب منها الموافقة على التقسيم في سورية والعراق كي تحتفظ بمشروع «الهلال الفارسي».
إدارة ترامب واعية للأمر ولذلك يتحدث المقربون منها بلغة إعادة توحيد سورية reunification من أجل قطع الطريق على المشروع الإيراني، وكذلك من أجل استعادة تركيا من روسيا في حال فشلت فكرة الصفقة الأميركية - الروسية. يقولون أيضاً إن إعادة توحيد سورية تعني، عملياً، مغادرة بشار الأسد لأنه غير قادر وليس مؤهلاً لقيادة سورية الموحدة. هذا ما يقولونه. ما في الخفايا أمر آخر، لا سيما أن أحاديث الصفقات في بدايتها وأن تقسيم الدول العربية مطلب إسرائيلي.
الواضح في هذه المرحلة هو أن روسيا ليست جاهزة، حالياً، لصفقة مع الولايات المتحدة تضحي بموجبها بحليفها الاستراتيجي الإيراني، وهي أيضاً غير جاهزة للتضحية ببشار الأسد في هذا المنعطف. واضح أن إدارة ترامب لن ترضى بأن تحل إيران في الأراضي التي يسيطر عليها «داعش» بعد تحريرها، فهذا ليس خياراً من خياراتها. الأكراد بمفردهم غير قادرين على استلام تلك الأراضي. وتركيا خيار مستبعد تماماً. ما يدور في الكلام عن البدائل هو مزيج من الأكراد والعشائر السنية العربية وكذلك مقاتلين يتم إعدادهم ليكونوا هم «القوات على الأرض» boots on the ground. واشنطن لا توافق موسكو على تولي القوات النظامية السورية مهمة تسلّم الأراضي التي يتم إخلاؤها من «داعش». ولا بد أن هذا الموضوع كان جزءاً من الحديث الذي أجري بين كبار قادة الجيش التركي والروسي والأميركي في أنطاليا.
شرق وغرب الفرات دخلا أيضاً ضمن أحاديث القيادات العسكرية بعدما ضمنت تركيا «تنظيف» حدودها من الأكراد غرب الفرات وبعدها دخلت الولايات المتحدة ميدانياً لتردع الأتراك وتحمي الأكراد شرق الفرات. الغائب الحاضر عن اللقاء العسكري الثلاثي المهم كان إيران التي تتمسك بمناطق في سورية تضمن لها التواصل بين العراق ولبنان.
ماذا ستفعل إدارة ترامب؟ هوذا السؤال الأهم. ماذا تريد إسرائيل؟ هوذا السؤال الغامض، علماً بأنها في الماضي بنت علاقات تهادنية مع إيران اعتبرها البعض «تواطئية» مع مشروع «الهلال الفارسي»، علماً بأن اليهود والفرس لم يسبق أن دخلوا حرباً مباشرة في ما بينهم عبر التاريخ. البعض يقول إن ما تريده إسرائيل الآن هو تجريد «حزب الله» من صواريخه الى جانب تطويق القدرات الإيرانية الصاروخية التي هي خارج الاتفاق النووي مع إيران، بحسب ما تؤكد طهران.
هل ستكون هذه المسائل المهمة موضع الصفقات أو أنها ستكون فتيل الحروب؟ وإذا كانت فتيل الحروب، هل سيتم اتخاذ قرارات الحرب عبر الخاصرة الضعيفة، وهي «حزب الله» في لبنان، أو أنها ستكون نتيجة «حاجة» إدارة ترامب الى حرب لاحقة أكبر، تحوّل الأنظار عن الاضطراب الداخلي الذي يطوقها؟
الصفقة الكبرى بين الولايات المتحدة وروسيا ما زالت بعيدة جداً، بالذات في ضوء اللاثقة الأميركية بروسيا وكذلك شكوك جزء من القاعدة الشعبية الأميركية بالرئيس دونالد ترامب. إيران تبقى واجهة الاختلاف بين إدارة ترامب والحكومة الروسية حالياً، وهي قلقة لأن المؤشرات حتى الآن تفيد بأن الإدارة الأميركية الجديدة غير جاهزة أبداً لتتقبل الطموحات الإيرانية الإقليمية. ما يريحها هو أن روسيا غير جاهزة، من جهتها، لتتقبل الانفصال عن إيران، مهما تكاثر الكلام عن هذه الحتمية.
تبقى تركيا في طليعة التجاذبات الأميركية - الروسية، أقله مرحلياً، وهي بدورها قلقة من ارتكاب أخطاء تورطها. تركيا مصرة على بناء الجسور مع روسيا لكنها غير مستعدة للتخلي عن الأولوية القاطعة لها وهي انتماؤها لحلف شمال الأطلسي (ناتو). إنها تحاول الإبحار في مياه عاصفة، لذلك تتخبط، لكن سفينة النجاة لها حالياً هي شراكتها الميدانية في سورية في العزم الأميركي - الروسي المشترك على الأولوية «الداعشية». أما مشكلتها الكردية، فهي مجمّدة في مكافآت دولية للأكراد لا ترتقي الى طموحاتهم التاريخية باستثناء الإقليم الكردي في العراق.
من الصفر، ومن دون أية شروط مسبقة، شاركت الهيئة العليا للمفاوضات في "جنيف 4"، كي لا تُتهم، كما حدث في "جنيف 3" أنها تعرقل العملية السياسية. وهكذا انطلقت المفاوضات في ظل رجحان التأثير الروسي الذي طاول التدخل، حتى في إعادة تشكيل وفد المعارضة، والأهم تمرير منطق الفصل بين المسارين السياسي والإنساني، وهو ما لم يعارضه المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، بقدر ما سعى بوضوح إلى تجاهل عملية التوازي بين المسارين، الإنساني والسياسي، بدلالة انطلاق مفاوضات "جنيف 4"، في ظل استمرار انتهاك النظام وحلفائه اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أبرم في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016، ومواصلة نكث روسيا الوعود التي أطلقتها في مفاوضات "أستانة 1و2" بهذا الشأن. لم يشذ عن الإفشال المتعمد للمسار الإنساني ما يتعلق أيضاً بإجراءات بناء الثقة التي بقيت حبراً على ورق منذ "جنيف 1"، وما جاء في كل القرارات الدولية التي نصت عليها، لكن بدلاً من إعادة الاعتبار لضرورة إيجاد مناخ يشجع على نجاح العملية السياسية، يُحيل دي ميستورا في، وثيقته المقدمة لطرفي التفاوض، البحث في القضايا الإنسانية، إلى مرجعية منفصلة عن "جنيف 4" هي "مرجعية أستانة". بمعنى أشد خطورة، إبقاء رأس الثورة والمعارضة تحت ضغط الواقع الميداني، بكل تداعياته المأساوية المفتوحة، وإغراقها في ملفات العملية السياسية، تحت عنوان يتداخل فيه الفشل التام مع النجاح الكامل، حين تقول وثيقة دي ميستورا: "لن يتم الاتفاق على شيء قبل الاتفاق على كل شيء"، وهي عبارة تحمل الشيء ونقيضه، لأنها تعتبر فشل أي مسار كافياً لقطع الطريق على أي تقدم في المسارات الأخرى، وهي سابقةٌ تخرج عن فلسفة التفاوض التي تقوم على نزع العوائق، وتجاوز الكمائن أمام إمكانات تقدم العملية التفاوضية.
ما يُفهم منه، استخلاصاً، إما الانصياع لما تفرضه موازين القوى على الأرض، وتأطيرها في تفسيراتٍ تخرج عن محدّدات القرار 2254، أو التلويح بالوصول إلى حائط مسدود، في حال إصرار وفد المعارضة على التمسك بمسائل موضوعية أساسية، من أهمها التزامن بين المسارين، الإنساني والسياسي، ووحدة المرجعية التفاوضية، وجدول زمني مؤكّد نحو تحقيق عملية الانتقال السياسي، كما ورد في الفقرة ب المادة 7 من القرار 2118، إذ تحمل وثيقة دي ميستورا بدلاً من تحديد وتوضيح تلك المسائل بما يتسق مع "بيان جنيف1" تحملُ، في بنودها المقترحة، رؤية تتسم بكثير من المراوغة والتضليل، لأنها، من جهة أولى، تتحدّث عن فصل المسارين، الإنساني والسياسي، وإحالة كل منهما إلى مرجعيةٍ تفاوضيةٍ، لا وضوح في آليات (وإجراءات) الربط بينهما. ومن جهة ثانية، تمييع تمثيل وفد المعارضة بهدف تشتيت التمثيل، وصولاً إلى وفد موحد غير متجانس، وقابل للانقسام والتفكك من داخله في كل لحظةٍ يكون ذلك غُبّ الطلب. ومن جهة ثالثة، القفز عن الفترة التي حددها القرار 2254، لجهة "إقامة حكم ذي مصداقية، يشمل الجميع، ولا يقوم على الطائفية في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر"، وفق ما جاء في القرار المشار إليه. حيث تتحدث الوثيقة عن أسابيع للتفاوض، وربما أشهر.. وتضعنا أمام سلّات ثلاث: الحكم والدستور والانتخابات، ثم أضيفت سلة رابعة، تتعلق بمكافحة الإرهاب. ليس من السهل التنبؤ بما تضمره من تباين حاد، بين رؤية وفد النظام لأولويتها وانتقائية تطبيقها، ورؤية وفد المعارضة ضرورة تطبيقها بصورة متزامنةٍ مع المسارات الأخرى، وشمولها كل مليشيات إيران المنتشرة بكثافة في سورية. يُضاعف من حدة التباين حولها أيضاً، جموح المقاربة الدولية الراهنة للإرهاب، لا سيما مع الادارة الأميركية الجديدة، لفرض معايير استنسابية حول الإرهاب، تقطع مع مصادره وأسبابه الحقيقية، ولا ترى ضيراً أن يكون النظام الذي بذرت جرائمه المروّعة، التربة الخصبة أمام انتشار قوى التطرّف، هو الشريك المقترح لمحاربة القوى الإرهابية. جرياً على هذا التوليف البعيد عن متطلبات الإنصاف، يتم زج السلل الثلاث الأخرى في لعبةٍ تتيح التناظر فيما بينها، حين يستعصي التوافق على جدولة كلٍ منها حسب الأولوية، إذ يُخشى أن يؤدي الفشل في التوافق على صيغة الحكم الانتقالي، إلى الضغط على المعارضة، لإصدار إعلان ما فوق دستوري، علماً أنه لا يستوي، في المنطق القانوني، البحث في صياغة دستور وإجراء انتخابات، من دون الاتفاق أولاً على الهيئة الحاكمة الانتقالية التي من جوهر مهامها الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني، أو جمعية تأسيسية تضع الدستور، والذي يحدّد النظام الانتخابي الجديد. كان هناك من يريد بخصوص الدستور، أن يضع العربة أمام الحصان منذ "أستانة1"، وكان مشروع الدستور الذي اقترحه الروس على وفد الفصائل العسكرية، وقتذاك، من ضمن تلك المحاولة التي تضمر تدخلاً سافراً في شأنٍ وطنيٍّ سيادي، لا يحق لأي دولةٍ أن تتدخل فيه. ولذلك كان التصريح الصادر عن وفد المعارضة في جنيف بقبولها اعتماد دستور 1950 رسالةً خاطئةً، لأنها تعطي انطباعا باستعداد المعارضة تجاوز التسلسل المنطقي في مراحل العملية السياسية، من الناحيتين، الموضوعية والزمنية.
لعلّ معرفة دي ميستورا الذي يفضّل تسميته بميسّر أو مسّهل، بأوجه الالتباس بين صيغة هيئة الحكم الانتقالية في (بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2118) وصيغتها في القرار 2254 التي تتحدث عن حكم غير طائفي، من دون تعيين هوية الجسم الذي ستتشكل منه ووظيفته، فيما إذا كان كامل الصلاحيات التنفيذية، أو حكومة وحدة وطنية تكرس مشاركة النظام، وليس إطاحته. ما يمنح الدول المتمسكة ببقاء الأسد وتلك التي تضع أولوية مواجهة الإرهاب على إسقاط نظامه، هامشاً واسعاً للمناورة، وشراء الوقت الكافي لجدولة عملية الانتقال السياسي، وفق التسويات النهائية للاعبين الأساسيين في الساحة السورية، وليس وفق موجبات المرجعية القانونية الدولية التي قامت عليها محطات العملية التفاوضية. لذا لم يعد خافياً أن دور دي ميستورا "منسقا" بين مواقف تلك الدول ومصالحها، أدق من أي تسمية أخرى له.
لا يغير من هذا المشهد كثيراً، اعتقاد بعضهم، حتى في أوساط المعارضة، أن قبول وفد النظام مناقشة بند الانتقال السياسي قرينةً على تقدم في العملية السياسية، طالما أن مفهوم النظام لهذا الانتقال لا يندرج ضمنه تغيير القيادة بأي حال، كما صرح فيصل المقداد علناً في بداية الجولة التفاوضية، وختم بشار الجعفري في نهايتها، حين أكد أن لسلة الإرهاب الأولوية عند النظام.
تفرض تلك الحقائق على وفد الهيئة العليا للمفاوضات، باعتباره الأكثر تمسكاً بتطبيق "بيان جنيف 1"، وتحقيق الانتقال السياسي المنشود، العمل وفق الآتي:
أولاً: رفض أية محاولة يتم فيها استدخال قضايا الدستور والانتخابات، قبل البت بتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، مع تثبيت جدول زمني للمفاوضات حولها. وضبط توجهات ممثلي المنصات المحتمل خرق بعضهم هذا الموقف الجذري، بوضع آلية لاتخاذ قرارات وفد المعارضة، تنص صراحةً على التزام الجميع بذلك الموقف، في كل الظروف، وعلى امتداد العملية التفاوضية المتعلقة بهيئة الحكم الانتقالي.
ثانياً: بما أن ممثلي الفصائل العسكرية ضمن وفد الهيئة العليا للمفاوضات، التشاور والتوافق معهم على رفض الفصل بين مساري أستانة وجنيف 4، من خلال مطالبة ممثليهم عدم المشاركة في مفاوضات أستانة 3، المزمع عقدها في 14 مارس/ آذار الجاري، بدعوى أن النظام وحلفاءه لم يتقيدوا باتفاقية 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016 من جوانبها كافة. وكي لا تتحول مشاركة وفد الفصائل العسكرية إلى غطاء لاستمرار انتهاك وقف إطلاق النار، والانتهاكات المشهودة التي تطاول المدنيين. والمطالبة تالياً بإحالة كل المسائل الإنسانية إلى مفاوضات "جنيف 4" لاستعادة عملية التزامن بين المسارين، السياسي والإنساني، وفق رؤية تفاوضية وعملياتية شاملة وموحدة.
ثالثاً: التمييز بين دور روسيا المؤثر في سورية، وكيفية التعامل مع حقائقه، وبين حدود التعويل على مصداقيتها، لا سيما أن حق النقض (الفيتو) الذي استخدمته، أخيرا، لمنع صدور قرار يعاقب مؤسسات النظام وأفراده، يشير مجدداً إلى تمسكها بالسياسة ذاتها الداعمة لبقاء النظام وعدم إضعافه، ما يوجب على وفد المعارضة الحذر في التعامل مع وعودها ورسائلها، سواء المعروضة من فوق الطاولة أو تحتها. يحتم ذلك الكف عن التصريحات التي أطلقها بعضهم "عن دور روسيا في الضغط على النظام أثمر قبوله مناقشة الحكم الانتقالي"، لأن مثل تلك التصريحات المجانية تُشيع تفاؤلاً ليس في مكانه، وتُجمّل الموقف الروسي الذي لم يتراجع عن دعم النظام، في ميادين القتال وضد المدنيين، وفي التغطية على جرائمه في مجلس الأمن.
أخيراً، في قضية عادلةٍ، بحجم ثورة الشعب السوري، ليست موازين القوى العسكرية على الأرض هي الورقة التفاوضية الحاسمة في ميزان التفاوض، فلدى وفد المعارضة أوراق قوة كثيرة، من أهمها إرادة شعب عظيم رفض الاستسلام طوال السنوات الماضية، وتحمل ما لا طاقة للجبال على احتماله، لكي يؤكد للعالم أجمع أنه جدير بالحياة والحرية، وأن على من يفاوضون باسمه أن يتمسكوا بهذه الورقة، مهما واجهوا من الضغوط والصعوبات والتحديات.
دفع ثوار الربيع العربي ثمناً غالياً لابتعادهم عن السياسة، فلم ينظموا أنفسهم وارتهنوا للدولة العميقة والنخبة السياسية القديمة التي نجحت في إعادة إنتاج نفسها مرة أخرى. في الحالة السورية تبدو الحال أشد مأسوية مع الحرب الأهلية التي يخوضها السوريون ضد واحد من أكثر الأنظمة وحشية وإجراماً. فلم تظهر القوى السياسية السورية في هذا الصراع أية قدرة وذكاء سياسيين، بل أبدت عجزاً عاماً في كل شيء تقريباً من المفاوضات إلى إدارة المناطق المحررة إلى توحيد القوى العسكرية وتقديم برنامج سياسي لإدارة المعركة مع النظام.
إهمال مركزية «السياسي» هو ما ميز الثورات العربية وفشلها. ليس المقصود بالحديث عن السياسي التطرق إلى التكتيكات والتحالفات التي يقوم بها السياسيون أو تقديم مقارنة بين برامج الأحزاب السياسية المختلفة، بل يدور حول السياسي نفسه، بوصفه مجالاً مستقلاً بذاته ولا يمكن رده إلى مجالات أخرى باعتبارها أكثر أساسية أو أهمية منه. ما افتقدناه في اللحظة الثورية ليس السياسيين، أولئك الذين يسعون لتصدر المنابر والوقوف أمام الكاميرات، بل السياسي القادر على تحديد طبيعة الصراع والتناقضات الأساسية التي يتم على أساسها تحديد الأعداء والأصدقاء والقادر على اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة في ما يخص الصراع السياسي، مهما كانت قسوة هذه القرارات أو صعوبتها، ومن دون أن يخضع لابتزاز غير السياسيين من أخلاقيين أو غيرهم.
لنصوغ القضية في شكل أكثر تحديداً ووضوحاً، وفي شكل خاص في مواجهة خصوم السياسي الذين ينازعونه استقلاله. في الحالة العربية، وفي شكل خاص السورية، يوجد طرفان ينازعان السياسي، وهما المؤرخ والأخلاقي.
ليس المقصود بالمؤرخ أن يكون مؤرخاً فعلاً ولكنه يستخدم تبريرات تجد أصولها في العمل التأريخي وليس السياسي. «الإنسان الفرد قادر على تغيير مصيره ومصير مجتمعه وفق القرارات التي يتخذها» ليست سوى فرضية بالنسبة للمؤرخ، ومثل أية فرضية قد تكون صحيحة أو لا وفق المادة التاريخية التي يعالجها أو المدرسة التاريخية التي ينتمي إليها، فهناك مدارس تاريخية لا تعتقد بدور الفرد في التاريخ وأخرى تعتقد به. لكن بالنسبة للسياسي فإن دور الفرد في التاريخ وقدرته على تقرير مصيره ليسا مجرد فرضية، بل هما مسلمة إلزامية ومن دونها لا يكون سياسياً. من يمارس السياسة، يعتقد جازماً بأن ما يقوم به يؤثر في مجرى الأمور والحوادث، وإلا فلا معنى لما يقوم به. في اللحظة التي يشكك فيها السياسي فيقدرته على التأثير في مجرى الحوادث، علينا أن نسأله مباشرة: إذاً ما الذي تفعله هنا؟ ولماذا تدّعي أنك سياسي؟
القدرة على الفعل هي اعتقاد ضروري ولازم للسياسي، ومن دونه لا يكون سياسياً، مهما كان أثر هذا الفعل. في أسوأ الأحوال، قد يتوجب على السياسي أن يوازن بين السيئ والأسوأ، وهذه الموازنة نفسها قرار عليه أن يتخذه ويتحمل مسؤوليته. ما يحصل هو نتاج عمله وعليه أن يتحمل مسؤوليته التامة بصدده.
الكثيرون من سياسيينا يتصرفون وكأنهم مؤرخون. فما أن يفشلوا، حتى يبادروا بالتذرع بالعجز، وأن القوى الأخرى، التي قد تكون القوة العظمى أو الامبريالية أو الظروف التاريخية، كانت أقوى بكثير منهم وأنهم ما كانوا قادرين على فعل شيء حيالها. هذا نفي للمسؤولية ونكران للسياسي، فلو كانت هذه القوى أعظم منه، لتوجب عليه أن يأخذ قراره بعدم المواجهة والانسحاب. دوماً هناك إمكان لقرار السياسي، أياً يكن هذا القرار. اللحظة التي ينكر فيها السياسي مسؤوليته عما آلت إليه الأوضاع لأنها أقوى منه ولا يملك تجاهها شيئاً، ينكر فيها نفسه أيضاً كسياسي.
هذا النمط من السياسيين، الذين تنكروا لأنفسهم كسياسيين وادعوا أن الحوادث كانت أقوى منهم، متفادين تقديم محاسبة جدية عما قاموا به، عرفته الثورة السورية من المجلس الوطني إلى قيادات الائتلاف المتلاحقة وحتى لجنة المفاوضات. سياسيون دأبوا على إنكار أنفسهم كسياسيين عندما حانت لحظة المحاسبة.
خصم آخر للسياسي هو الأخلاقي، الذي يسعى إلى رد كل سؤال سياسي إلى سؤال أخلاقي، أرفع قيمة من السياسي ويشكل مرجعية عليا تقيد السياسي وتلزمه بالعودة إليها.
يعتبر الأخلاقي أن الخير والشر القيمتان الأساسيتان، وعليهما يجب أن يتأسس كل فعل سياسي. يعترض الأخلاقيون انطلاقاً من الحاجة إلى «تمثيل عادل وحقيقي» للسوريين والثوار في المفاوضات أو يشتكون من أن العالم غير أخلاقي تجاههم ويطالبونه الالتزام بقيم العدل الأخلاقي في سلوكه. بل ربما يرفض الأخلاقي السياسة كليةً بوصفها انحداراً بالأخلاقي، لأنها تلوثه بالمساومات السياسية الرخيصة التي تفترض تنازلات عما يعتبره عدلاً وحقاً.
«الدولة الإسلامية» أو «جبهة النصرة» هي أكثر تمثيلات الأخلاقي في علاقته بالسياسة تطرفاً، ولا تختلف في هذا المقام عمن يستدعي الأخلاقي باسم القيم الكونية. «الدولة الإسلامية» ليست تشوهاً للأخلاقي في علاقته بالسياسي، بل هي الحالة القصوى لإخضاع السياسي للأخلاقي وبغض النظر عن محتوى هذه الأخلاق. كلاهما، مقاتل الدولة الإسلامية أو المطالب بالعدل الكوني، يجعل من الأخلاق، وفق ما يفهمه منها، أساساً للسلوك السياسي وشارطاً له. هكذا تصبح الممارسة السياسية فرعاً من الممارسة الأخلاقية، إما أن تكون ممارسة أخلاقية أو غير أخلاقية، كما يصبح العدو غير أخلاقي وشريراً وليس مجرد عدو سياسي لا يفترض أن نكرهه، بل ربما علينا أن نجلس معه في مرحلة ما ونصافحه.
السياسي لا يواجه تناقضات أخلاقية، فليس عليه أن يختار بين الخير والشر، بل في أغلب الأحيان يكون خياره بين ما هو سيئ وما هو أسوأ، وعليه أن يحاور الشيطان ويتفق معه في كثير من الأحيان، وهذا ما يرقى إلى الجريمة أو التهاون في نظر الأخلاقي. ما على السياسي أن يقرره هو كيف يخوض الصراع وينتصر، أو كيف يتجنب الهزيمة إن لم يمكنه الانتصار.
يتوجب على السياسي أن يستفيد من الأخلاق ومن التاريخ، لكن إشكالية السياسي، القائمة على تحديد الصراع واتخاذ القرارات الحاسمة في شأنه، تبقى مستقلة بذاتها. استقلال لا يسمح بردّها إلى مجال الأخلاق أو التاريخ. في غياب استقلال السياسي لن نحظى بسياسيين، ومن يدعون أنهم سياسيون سرعان ما يتذرعون بالأخلاق أو بالتاريخ لتبرير فشلهم وعدم قدرتهم على تحمل مسؤولية أفعالهم.
استقلال السياسي هو الشرط الأول لتقديم نقد متسق للسياسي، نقد ومحاسبة ينتميان كذلك إلى مجال السياسي. الاعتراف باستقلال السياسي يعني أن السياسي لا يحتاج إلى شرعية خارجية من مجال آخر، كما أنه يبعدنا عن التعفف عن السياسة باسم ما هو أسمى وأهم منها. تعفف أظهره ثوار الربيع العربي ودفعوا ثمنه غالياً جداً بفشل ثوراتهم وضياع دماء رفاقهم.
أعادت جائزة أوسكار التي فاز بها، أخيراً، الفيلم الوثائقي القصير "الخوذ البيضاء" الضوء لفريق الدفاع المدني الذي يعمل في سورية بهذا الاسم، تحت شعار قرآني موجز؛ "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".
لا أظن أن واحدًا من أعضاء هذا الفريق الذي تكوّن منذ خمس سنوات، بعيد اندلاع الثورة السورية، بهدف إسعاف جرحاها ومصابيها، قد فكّر بجائزة أوسكار، أو غيرها من الجوائز التي حصل عليها الفريق لاحقاً من جهات عالمية مختلفة، فمن يعمل ليساهم في إحياء الناس جميعاً عبر إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ضحايا الحرب، وبأقل الإمكانات، متجاهلا حجم المخاطرة التي يتعرّض لها في كل مرةٍ يخرج من بيته على دوي الانفجارات، ليبحث بين أنقاض البيوت المهدمة فوق رؤوس أصحابها عن حياة تكاد تتلاشى ليساهم في إنقاذها. وفي كل مرة، ينجح هذا الفريق بعملية إنقاذ مصوّرة عبر الكاميرات المساندة، يشهد العالم كله جانبا من جوانب الحياة المدنية، وسط الحرب على حقيقتها الكاملة تقريبا، بلا تشويه ولا تزيين من خلال تحرّكات ثلاثة من ذوي الخوذ البيضاء الذين وصل عددهم، في آخر تقدير، إلى ثلاثة آلاف تقريباً.
تولى إخراج الفيلم المخرج أورلاندو فون إينسيديل من بعد، إذ لم تمكّنه طبيعة الحرب بين قوات النظام السوري وقوات الثورة بأجنحتها المختلفة، من حضور عملية التصوير التي كانت تتم بشكل عشوائي خاضع لعشوائية الحرب. وينفتح الفيلم على صيحات تقليدية معتادة من حضور كل عملية إنقاذ؛ "الله أكبر.. الله أكبر"، ولعلها واحدةٌ من المرات القليلة التي أتيح للغرب فيها أن يسمع هذا النداء الإسلامي رديفا لعمليات إنقاذ، بعد أن تحول سنوات إلى إشارة للموت نحرا على يد الجماعات المتطرّفة.
وفي هذه الإشارة الصغيرة، تتبدى للمشاهد صورة مختلفة عن الواقع الإسلامي المعاش من أفراد قرّروا أن يتطوّعوا في خدمة الإنسانية من منظور إسلامي بحت، من دون أن ينضووا تحت أي جماعةٍ أو حزبٍ أو فريق من فرق الحرب المختلفة.
ومع أن الفيلم قد أعاد إلى الواجهة الإنسانية والإعلامية ما بدأ كثيرون ينسونه تحت وطأة الاعتياد، بعد مرور كل هذه السنوات الحافلة بعمليات قصفٍ وتهديمٍ وتفجير وإلقاء للبراميل الحارقة على بيوت الأبرياء، إلا أن نجاحه الأكبر، كما أرى، يكمن في تعريف جمهور أوسكار حول العالم على البعد الحقيقي للحياة، في الإطار الإسلامي، ففي كل مشاهد الإنقاذ الحقيقية التي صوّرها الفيلم بواسطة الفريق نفسه كانت عبارة الله أكبر تبدو كأنها المعادل القولي والموضوعي للحياة، كما أرادها الله لنا على هذه الأرض؛ عدالة وعمل وعبادة وسلام وجمال وحب وخير وتعاون.
وفي ختام الفيلم القصير، تتردد أصداء الآية القرآنية العظيمة "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"، لتلخص الغاية بشكلٍ مباشر، قد يبدو عادياً لمن تربّى في وسط ثقافي يؤمن بقدسية القرآن الكريم، باعتباره كلام الله تعالى، لكنه ليس كذلك لجمهور غربي دأب على تلقي الآيات القرآنية إشارات موت معلن، وهمجية استعراضية، وتطرف قاتل وحسب.
شاهدت الفيلم مرتين، أُخذت في الأولى بالرسالة الإنسانية الجميلة التي نجح الفيلم بإيصالها عبر هذا الفريق ذي الخوذ البيضاء بأن البياض، في النهاية، هو البطل المنتصر، على الرغم من كل المشاهد المروعة للموت المجاني الذي كان يلاحق الجميع تقريبا. وفي المرة الثانية، انسقت وراء الحرفية الإبداعية التي صمم المخرج من خلالها مشاهد صورت على عجل، وبلا تحضير مسبق، بإطارات أنيقة وموسيقى ذكية، عبرت عن الأمل الطالع من الأعماق القاتمة، برقة وقوة، في اللحظة نفسها. وفي الرسالة التى قرأها مخرج الفيلم في حفل توزيع حوائز أوسكار، نيابة عن الفريق، ما يفيد بأن الفريق فضل أن يتابع مزاولة عمله في الإنقاذ، بدلا من الذهاب لاستلام جوائز التفوق في أداء هذا العمل. وهنا المعنى الحقيقي للفيلم خارج إطار الصورة.
أثار نجاح دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية تكهناتٍ عن تطور العلاقات الأميركية الروسية، خصوصاً وأن ترامب كان يصرّح، في أثناء حملته الانتخابية، عن ضرورة التقارب مع روسيا، ومن ثم أثيرت أحاديث كثيرة عن "تدخل" روسيا في الانتخابات الأميركية لمصلحة ترامب. وبالتالي، كان يبدو أن الخلافات القديمة خلال فترة حكم سلفه، باراك أوباما، في طريقها إلى أن تطوى.
لكن، بعد أسابيع من استلام دونالد ترامب الرئاسة، بات التشكك يحكم ذلك. فقد أتى بعدد من كبار مسؤولي إدارته من التيار المعارض لروسيا، كما أعلن أن هدف إدارته هو: أميركا أولاً. ولهذا، زاد من ميزانية الدفاع بشكل كبير، وأعاد التأكيد على أهمية الحلف الأطلسي، على الرغم من أنه كان يريد تجاوزه، ولم يخفف العقوبات المفروضة على روسيا إلى الآن. وهو الأمر الذي أزعج روسيا، وجعلها تتشكك فيما يمكن أن تؤول إليه العلاقات الأميركية الروسية.
لم ينضج الأمر بعد، وما زال هناك وقت لترقب مآل العلاقات، بالضبط لأن كلاً منهما يشعر بالحاجة إلى الآخر لأسباب مختلفة. لكن روسيا التي تعتقد أنها التي جاءت بترامب إلى البيت الأبيض تريد منه أن يقبل بمنظورها العالمي، والذي ينطلق من أحقية روسيا في قيادة العالم، وحاجتها الكبيرة لتوسيع سيطرتها العالمية، ومن ثم تسهيل الظروف العالمية التي تسمح بتطور اقتصادها المضعضع والمنهك. وهي تفترض أن على أميركا قبول سيطرتها على أوكرانيا، والإقرار بضمها شبه جزيرة القرم، وكذلك ربما تحكمها بأوروبا. وأيضاً الإقرار بدورها السوري، على الرغم من أن ذلك متحقق منذ عهد أوباما أصلاً، وبالطريقة التي تعمل عليها لإنهاء الصراع هناك، وهو ما يحظى ببعض الاختلاف، كما يبدو.
ربما كانت روسيا تنظر إلى ترامب أداة لها، بعد أن اعتبرت أنها من أوصله إلى البيت الأبيض، وأن عليه أن يقرّ بكل ما تريد، لكن ترامب ليس أميركا، وأيضاً ليس من رأسمالي أميركي يقبل أن تعطي أميركا القياد لغيرها. فأزمة أميركا الاقتصادية التي سببت ضعفها لا تدفعها إلى التنازل بهذا القدْر، على الرغم من أنها تراجعت عن منظورها الهيمني الشامل بعد الأزمة المالية، لكنها تريد دوراً محورياً بتعاضد دول أخرى، ربما كانت روسيا من الدول المفضلة هنا. فهي لا تريد أن تنتهي هيمنتها الاقتصادية العالمية، وهي ما زالت القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى، بل تريد إشراك دولٍ أخرى وهي تتلمس "الخطر الصيني"، وتريد تحقيق تحالفٍ يحدّ من قدرة هذا البلد الذي بات يملك ثاني اقتصاد عالمي، ويخزّن تريليونات الدولارات، احتياطي وسندات خزينة أميركية. كما أنها تريد موضعة موقعها الاقتصادي العالمي، بما يسمح بإنعاش اقتصادها الذي يعاني من تراجع في الإنتاج الصناعي، واختلال في الميزان التجاري، وعجز مستدام في الموازنة، وأيضاً مديونية باتت أكبر من دخلها القومي. وهنا، لا تريد أن يحلّ محلها أحد، على الرغم من أن بإمكانها التخلي عن بعض المناطق، كما قرّرت بخصوص "الشرق الأوسط"، وربما مناطق أخرى، حيث يطغى على طابع استثمارات رأسمالييها النشاط في النفط والمضاربات والمديونية والتقنيات الحديثة وتصدير السلاح.
وأيضاً، لا تملك روسيا للتصدير سوى السلاح، وقد باتت الدولة الثانية في العالم بعد أميركا في ذلك، وتريد التحكم بالنفط والغاز، بعد أن بات اقتصادها يعتمد عليهما. ولدى رأسمالييها تراكم مالي تحقق بعد نهب "أملاك الدولة"، والاستثمار في النفط والغاز والمضاربات، سيكون معنياً بالبحث عن أسواق سبقته إليها أميركا. وبالتالي، مصالح الرأسماليات متناقضة بشكل شديد، لأن الرأسماليات الأميركية والروسية تنشط في الحقول الاقتصادية ذاتها. وإذا كان يبدو لكل من الإدارات الأميركية والروسية أن الصين هي "المنافس الجدّي"، أو "الخطر المحتمل"، فإن مصالح الرأسماليات سوف تبقي الوضع في حالة توتر. والمشكلة أن أميركا لا تقبل هيمنة روسيا، وروسيا لا تستطيع التطور والاستقرار بدون هذه الهيمنة.
لم يكن مفاجئاً خروج مفاوضات جنيف 4 بسلة فارغة على رغم الزمن الذي اتخذته قياساً الى جولات سابقة. كما أن تصريحات رئيس وفد النظام عن أن "الإيجابية" الوحيدة هي الاتفاق على اجتماعات مقبلة، كان معبّراً. واذا كان وفد المعارضة، المكون من معارضات وفق الارتباطات العربية والإقليمية، قد أتى وفي ذهنه تحقيق مكاسب سياسية، فإن ما شهده خلال المؤتمر يجب ان يكون كافياً ليدرك أن مفاتيح حل الأزمة ليست في يد النظام السوري ولا في يد المعارضة او المعارضات السورية، بل تقيم في أماكن أخرى مُقررة.
لم يعد سراً أن مفتاح التسوية في سورية تملكه روسيا في شكل قاطع، وهي تحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض. على رغم الموقع الذي تحتله إيران وميليشياتها اللبنانية والعراقية، وكذلك تركيا وميليشياتها ايضاً، إلا أن هذه القوى عاجزة عن فرض جدول أعمال اي مؤتمر للتسوية والسير به منفرداً، هذا في حال كانت هذه القوى ترغب في الوصول الى تسوية في الوقت الراهن.
بالنسبة الى روسيا، الأزمة السورية تشكل ورقة قوية ورابحة في الصراع على النفوذ الإقليمي والدولي، تستخدمها في الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية على تقاسم مناطق النفوذ وعلى تسويات في مناطق دولية ترى فيها روسيا مواقع تريد الحفاظ عليها. هنا المفتاح، وهنا القرار. لكن السؤال يظل مطروحاً، هل ترغب روسيا ومعها النظام حقاً في الوصول الى تسوية للأزمة؟ وهل ترغب القوى الإقليمية الإيرانية والتركية بإنهاء هذه الحرب؟ أسئلة تشكل الأجوبة عليها بعض المعرفة لمآل سورية مستقبلاً.
ولأن روسيا غير راغبة راهناً في السير بتسوية، فهي تسمح لسائر الأطراف "باللعب" في الوقت الضائع. لذا وجد النظام نفسه بلا قيود في مواصلة استخدام العنف في ضرب مناطق غير موالية له، وفي التقدم لقضم مناطق أخرى. كان النظام يطبق نظريات عسكرية تؤكد تواصل العمل العسكري مع المفاوضات الجارية، لأنها تشكل وسيلة ضغط على الطرف الآخر. كان من المستهجن عودة "داعش" الى مدينة تدمر بعد أن استعادها النظام. بدت مسرحية هزلية تسليم المدينة مجدداً الى التنظيم الإرهابي من قبل النظام، ثم رفع الصوت عالياً من أجل استعادتها. لا شك في أن النظام يريد بقاء مناطق ساخنة تبرر له نظرياته في محاربة التطرف والإرهاب. كما استكملت المسرحية بالدخول الروسي لاستعادة المدينة وطرد "داعش" منها، وتصريح الأركان الروسية في شكل صريح عن استعادتها المدينة بقواها الخاصة وبسلاح الجو الذي حسم المعركة.
في المقابل، لا تبدو إيران مستعجلة على السير بتسوية قبل أن تتوضح ملامح هذه التسوية التي تضمن فيها مصالحها واستثماراتها المادية منها والبشرية التي دفعت فيها غالياً. يكثر الكلام عن تباين بين إيران وروسيا في شأن مستقبل سورية. يذهب البعض الى القول بتناقضات واحتمالات صدام بين الطرفين. ترى إيران في انخراطها في الحرب السورية والمعاندة في بقاء الأسد في السلطة، دفاعاً عن أمنها القومي في الداخل الإيراني. بل ان التورط الإيراني بات ورقة في الصراعات الداخلية التي تشهدها إيران عشية انتخابات الرئاسة والبرلمان، فيما يرى مرشدها أن سورية مسألة حياة او موت لإيران، خصوصاً بقاء الأسد في موقعه.
أما تركيا التي باتت في قلب الحرب السورية، فإن أهدافها في منع الأكراد تحقيق مناطق نفوذ وحكم ذاتي، تجعلها في وضع تمزج فيه بين العمل العسكري لطرد القوى الكردية، وبين مساومة مع روسيا على مناطق آمنة وعلى بسط سيطرتها على شريط تضمن من خلاله منع الهجمات عليها. اذا كان الأكراد قد توهموا لفترة بأن الحلم في كيان ذاتي بات على مرمى حجر، فإن هذا الحلم يتبدد الآن في معمعة الصراع على سورية، بحيث يصبح الأكراد "فرق عملة" وسط المصالح الدولية والإقليمية المتصارعة.
تبقى كلمة أخيرة تطاول المعارضة او المعارضات التي شاركت في مؤتمر جنيف. لا شك في انها حاولت أن تفرض مطالبها في المؤتمر، وخصوصاً قضية الانتقال السياسي والإصرار على أن لا يكون لبشار الأسد دور في مستقبل سورية، وهي النقطة التي رد فيها وفد النظام بالطلب أن يكون بند محاربة الإرهاب في جدول الأعمال، ليتحول النقاش الى المعارضة وصلتها بالتنظيمات الإرهابية. هذه مسائل تحصل في كل مفاوضات. لكن معضلة المعارضة تكمن في انتماءتها والقوى العربية او الإقليمية التي تمسك عملياً بقرارها. ما يجب تسجيله ايجاباً هو بلورة مواقف شبه موحدة، فيما تكمن السلبية في عجزها في توحيد وفدها.
ستمر على سورية مؤتمرات متعددة قبل الوصول الى تسوية. الثابت سيظل شلال الدم الذي يدفع الشعب السوري ثمنه، نظراً الى انه اللغة الوحيدة التي يتقنها النظام ورعاته.
عودة روسيا في الأشهر الأخيرة إلى لعب دور في أفغانستان، عبر الانفتاح على حركة «طالبان» سببه اعتقادها بأن الوجود العسكري الغربي بقيادة الولايات المتحدة في تلك البلاد لم تعد لديه فعالية مما يعرض المنطقة هناك إلى مواجهة تداعيات الانسحاب الأميركي المحتمل.
في منتصف الثمانينات كانت أفغانستان تعتبر «الجرح النازف» للاتحاد السوفياتي، وفي نهاية ذلك العقد شبهها الكثيرون بفيتنام روسيا التي انسحبت منها مهزومة.
الشهر الماضي استضافت موسكو مؤتمراً حول أفغانستان - الأول انعقد في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي - شاركت فيه إلى جانب روسيا إيران، الصين، الهند وأفغانستان. إنما لم تتم دعوة أميركا.
عودة النفوذ الروسي إلى أفغانستان يتماشى مع النمط الأوسع للسياسة الخارجية الروسية، حيث تسعى موسكو إلى التوسط باتفاقيات تسمح لها بالتوسع الجيوسياسي على حساب واشنطن. ومحاولاتها ترتيب اتفاق سلام أفغاني، تأمل من ورائه أن تحل محل الولايات المتحدة كقوة حامية لأفغانستان، وتطرح نفسها كوسيط أساسي في جنوب آسيا. هي تريد أن تستخدم هذا النفوذ لوقف امتداد الإرهاب إلى أراضيها ومنع وصول المخدرات إلى شعبها.
تطالب روسيا بأن تنسحب الولايات المتحدة من آسيا الوسطى، إنما تتخوف من أن يؤدي أي انسحاب متسرع إلى حالة من الفوضى في أفغانستان يمكن أن تشكل خطراً عليها وعلى الدول المجاورة.
يقلق موسكو أمران؛ أن تصبح أفغانستان غير المستقرة أرضاً خصبة للإرهاب العابر للحدود، ويعود الأفيون يتدفق منها إلى روسيا وآسيا الوسطى، وحسب تقارير الأمم المتحدة فإن في روسيا أعلى المعدلات في العالم من مستخدمي مادة الأفيون التي تؤدي إلى وفيات بالجرعات الزائدة وانتشار مرض نقص المناعة (الإيدز).
عام 2013 كانت موسكو تعتبر «طالبان» سبب هاتين المشكلتين، وعبرت عن تحفظها تجاه الجهود الأميركية لإجراء مفاوضات مع ممثلي «طالبان» في قطر. لكن منذ ذلك العام بدأ ممثلون عنها وعن «طالبان» يلتقون في طاجيكستان إلى جانب مبعوثين من عدة دول في آسيا الوسطى.
يقول دبلوماسي غربي: «يجب أن ننظر إلى عودة روسيا إلى أفغانستان ضمن سياق تدخلها المستمر في سوريا وطموحاتها الجيوسياسية في الشرق الأوسط الكبير. ثم إن دورها في سوريا جعلها هدفاً للمتطرفين الإسلاميين الذين أنشأوا خلايا في أفغانستان». يضيف: «ويبدو أن روسيا تهدف إلى استخدام التنافس بين (طالبان) وتنظيم داعش، كي تضمن ألا تتحول أفغانستان إلى ملاذ آخر لـ(داعش) يهدد موسكو».
خلال فترة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، أظهرت الولايات المتحدة رغبة في الانسحاب من الشرق الأوسط، وكان الأمر واضحاً برفض أوباما التدخل في سوريا، عندها سعت روسيا إلى ملء الفراغ، فعززت علاقاتها مع مصر، والعراق، وإيران وإسرائيل وإلى حد ما مع بعض الدول الخليجية، أما في جنوب آسيا، فقد عمقت علاقاتها مع باكستان مع احتفاظها بعلاقات جيدة مع الهند.
يقول محدثي إن «روسيا لن تصبح الراعي الخارجي الرئيسي لتلك الدول، وتحل محل الولايات المتحدة، لكن وجوداً أكبر لها في أفغانستان يسمح لموسكو بالتأثير على أي تطور في الدول التي كانت تشكل سابقاً الاتحاد السوفياتي».
في الشهر الأخير من العام الماضي قال السفير الروسي لدى أفغانستان زامير كابولوف إن ما يثير قلقنا هو أن «داعش» يهدد أفغانستان وكل دول آسيا الوسطى: باكستان، الصين، إيران، الهند وحتى روسيا. لدينا علاقات مع «طالبان» لضمان أمن مكاتبنا السياسية والقنصليات وأمن آسيا الوسطى.
وعلى عكسه تماماً، وفي شهر فبراير (شباط) الماضي قال أحمد مريد بارتاو، ممثل أفغانستان السابق، في القيادة المركزية الأميركية في مقال كتبه في مجلة «فورين بوليسي» تحت عنوان: «وهم الدولة الإسلامية في أفغانستان» إن «روسيا والصين وإيران تبالغ كثيراً، عند الحديث عن (داعش) في أفغانستان، وذلك للتدخل في شؤوننا الداخلية، وأيضاً لمواجهة تزايد النفوذ الأميركي في المنطقة».
تدرك موسكو وبكل تأكيد أن التدخل الدولي بقيادة أميركا لم ينجح في وضع أفغانستان على مسار الاستقرار والتقدم، وكان السفير الروسي كابولوف وصف مبلغ تريليون دولار الذي أنفقته أميركا خلال السنوات الـ15 الماضية، بأنه راح سدى. ووصف استمرار الوجود الأميركي (آلاف الجنود واتفاقية أمنية ثنائية وقعت أخيراً مع كابل) بأنه يعكس رغبة أميركية طويلة المدى، للحفاظ على موطئ قدم في وسط أوراسيا، بعدما فقدت عام 1979 نظاماً إيرانياً كان موالياً لها، وبعدما تم طرد القوات الأميركية من آسيا الوسطى.
ترى موسكو أن «طالبان» أقل تهديداً لمصالحها على المدى الطويل، وأفضل من أفغانستان ملأى بالفوضى، خصوصاً مع حكومة في كابل موالية للأميركيين وقوات أميركية متمركزة في كل البلاد. وتقول موسكو، إن حركة «طالبان»، حيث غالبيتها من البشتون، أثبتت مرونة ملحوظة خلال العقدين الماضيين، تختلف عن تلك الجماعات المتطرفة العابرة للحدود مثل «داعش»، و«القاعدة»، التي تستهدف روسيا والغرب، وتتهمهم بأنهم أعداء الإسلام. لا تغفل موسكو الفروع المتفرعة من «طالبان» مثل شبكة حقاني، لكنها ترى أنه حان الوقت لاستيعاب «طالبان» في إطار سياسي أفغاني جديد! طالبان تتجاوب مع موسكو التي تريد وضع حد للوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، وبدأت تكشف عن رغباتها، إذ صرح سيد محمد أكبر آغا، قائد سابق في «طالبان» ويعيش في كابل ويتبنى الحكم الإسلامي في أفغانستان، بأن «طالبان» تريد علاقات أوثق مع موسكو لتخليص أفغانستان من آفة الولايات المتحدة. وأضاف في مقابلة مع جريدة «موسكو تايمز» في 13 من الشهر الماضي: «نحن مستعدون لمصافحة روسيا من أجل تخليص أنفسنا من ويلات أميركا، وقد أثبت التاريخ أننا أقرب إلى روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، منا إلى الغرب».
لا حكومة أفغانستان الشرعية، ولا واشنطن استطاعتنا اقتلاع «طالبان» أو تحقيق الاستقرار، لذلك جاءت حسابات موسكو بأن أفضل طريقة لحماية حدودها وحدود حلفائها في آسيا الوسطى من مخاطر تسرب الإرهابيين، هو تعزيز طروحات «طالبان» في السعي إلى إطار سياسي جديد، وتعتقد أن مساعدة مالية وعسكرية قد تحفز «طالبان» على مواجهة التهديد الحقيقي، أي المتطرفين العابرين للحدود، وبرأيها أنه إذا عززت «طالبان» نفوذها على حساب الحكومة الأفغانية، وأدى ذلك إلى انسحاب القوات الأميركية، فسيكون ذلك أفضل لروسيا.
من الواضح أن لروسيا و«طالبان» اهتمامات مشتركة في مواجهة «داعش» في أفغانستان والوجود العسكري الأميركي. تشاركهما هذا التفكير إيران والصين في وقت تستمر القوات النظامية الأفغانية في مواجهة إرهاب «طالبان» التي زادت هجماتها الإرهابية في مختلف المناطق وكان من بينها الهجوم الذي أدى إلى مقتل سفير دولة الإمارات العربية المتحدة إلى أفغانستان وحاكم إقليم قندهار.
اللافت الآن على الساحة الأفغانية المتحركة باستمرار، بروز أدلة متزايدة على أن قوات برية صينية تعمل داخل أفغانستان وتقوم بدوريات مشتركة مع القوات الأفغانية على امتداد 50 ميلاً من الحدود المشتركة بين البلدين بهدف اصطياد مقاتلي «الإيغور» العائدين من معارك الموصل والرقة، كما تغذي التكهنات بأن بكين تستعد للعب دور أكبر في تثبيت الأمن في أفغانستان «عندما تغادر الولايات المتحدة والحلف الأطلسي تلك البلاد». الحجم الكامل والبعيد لمشاركة الصين في دور أفغاني، غير واضح حتى الآن، ثم إن وزارة الدفاع الأميركية ترفض مناقشة هذا التطور، إذ قال متحدث باسمها يوم الاثنين الماضي: «نعرف أن القوات الصينية موجودة هناك»!
أما «طالبان»، فحسب محلل سياسي، فإنها ليست مهتمة بالسلام والأمن، هي تريد أن تربح الحرب في أفغانستان، وتستغل المفاوضات مع القوى الإقليمية والدولية لتحسين وضعها، لذلك من المستبعد جداً أن تتخلى عن أنشطتها الإرهابية، وهذا يعني أن موسكو لن تكون قادرة على تحقيق مصالحة بين كابل و«طالبان». وعلاوة على ذلك، فإن ذكرى الغزو السوفياتي لا تزال حية في ذهن كل أفغاني، ومن المستبعد أن تتاح فرصة كبيرة أمام روسيا للنجاح، طالما احتفظت الولايات المتحدة بقوات عسكرية في أفغانستان.
لم يتوقع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حجم المقاومة التي ستبديها "المؤسسة الحاكمة" في واشنطن لتوجهات إدارة الرئيس دونالد ترامب، في تحقيق تقاربٍ مع روسيا، فقد استنفرت "المؤسسة" كل قدراتها، وحشدت كل إمكاناتها في الكونغرس ووسائل الإعلام والمؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات ودوائر البيروقراطية والحزب الجمهوري، لمنع ترامب من المضي في هذه السياسة، وبدأت زرع الألغام في طريقه، حتى قبل استلامه السلطة. إذ طرد الرئيس باراك أوباما، عشية مغادرته السلطة، عشرات الدبلوماسيين الروس، وفرض حزمة جديدة من العقوبات، رداً على تدخّل روسيا في الانتخابات التي أدت إلى فوز ترامب، وخسارة مرشحة حزبه التي كان يأمل من خلالها الحفاظ على إرثه الرئاسي الهزيل، لكن ترامب لم يَبدُ كمن فهم الرسالة. على العكس، قام الرجل بهجوم معاكس، اتهم فيه الاستخبارات بالكذب، ليأتيه الرد بنشر تفاصيل مكالمات مستشاره لشؤون الأمن القومي، مايكل فلين، يعد فيها السفير الروسي في واشنطن برفع العقوبات التي فرضها أوباما، قبل تسلمه منصبه. لم يرتدع ترامب بسقوط مستشاره، فانفتحت ملفاتٌ أخرى تتناول علاقات روسيا بوزير عدله، ثم صهره، وأخيراً ابنه الذي تبين أنه تقاضى 50 ألف دولار لقاء كلمةٍ ألقاها في باريس خلال حفل أقامته شخصيات قريبة من روسيا في أكتوبر/تشرين الثاني الماضي. ويبدو أن القلق استبد بموسكو إلى درجة أن وزير الخارجية، سيرغي لافروف، وصف ما يجري في واشنطن بصيد ساحرات (Witch Hunt)، بعد أن تم وضع معظم أصدقاء روسيا في إدارة ترامب في دائرة الضوء.
واضحٌ أن بوتين، بحسب وسائل إعلام أميركية كبرى، كان يأمل في التوصل إلى صفقة شاملة مع إدارة ترامب، تتناول أوكرانيا ومسألة العقوبات الاقتصادية، والتنسيق الأمني والعسكري ضد تنظيم الدولة الإسلامية، والأزمة السورية، وموضوع النفوذ الإيراني، والنشاط الصيني في بحر الصين الجنوبي، وقضايا الحد من الأسلحة النووية، هكذا بالترتيب. ويبدو أن الاتصالات حول صفقةٍ محتملةٍ، تتناول كل هذه القضايا، بدأت مع الحملة الانتخابية للمرشح ترامب، حيث يعتقد أن روسيا عرضت المساعدة في كسب الانتخابات، من خلال كنز المعلومات التي كانت توصلت إليه، نتيجة اختراق البريد الإلكتروني لحملة كلينتون الانتخابية. وفي المقابل، يبدو أن حملة ترامب تعهدت برفع العقوبات عن روسيا، والاعتراف بضمها القرم، والمساعدة في إطاحة خصمها الرئيس الأوكراني، بيترو بورشينكو، في إطار مقترح سلام لحل الأزمة الأوكرانية.
تفاصيل خطة إطاحة الرئيس الأوكراني، بحجة تورّطه في قضايا فساد، كشفت عنها صحيفة نيويورك تايمز، أخيراً، وأدى فيها رجل أعمال أوكراني طامح إلى جانب محامي ترامب الشخصي، مايكل كوهين، دوراً رئيساً، ويخضع الأخير حالياً للتحقيق بشأن صلاته بروسيا من الأجهزة الأمنية الأميركية. ولا يبدو واضحاً فيما إذا كان بوتين تعهد، في المقابل، بالمساعدة في إخراج الأسد من السلطة، في إطار خطة سلام تعالج هموم واشنطن في سورية، وهي: القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية ووقف تدفق اللاجئين، والحد من النفوذ الإيراني. لكن المؤكد أن بوتين بدا منفتحاً على أي مقترح للتعاون مع ترامب، يؤدي إلى حل مشكلته في أوكرانيا، ورفع العقوبات عن بلاده. ويأتي وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في أنقرة، والضغط على طهران للقبول به، والانفتاح على فصائل المعارضة المسلحة، بما فيها أحرار الشام وجيش الإسلام، التي سبق أن وصفتها موسكو إرهابية، تأتي جميعاً في سياق استعداد روسيا لإبداء مرونة في سورية، إذا أبدت واشنطن القدر نفسه من المرونة بشأن أوكرانيا.
ويبدو أن عودة روسيا إلى التصعيد مع المعارضة على الأرض، وفي جنيف، يمثل تعبيراً عن الاستياء من تعطّل صفقة سورية مقابل أوكرانيا، التي تناولها الرئيس بوتين علناً الشهر الماضي، في إطار تعليقه على الصعوبات التي تواجهها مفاوضات جنيف، واستخدام روسيا "الفيتو" في مجلس الأمن، لإسقاط مشروع قرار يدين النظام السوري بشأن استخدام أسلحة كيميائية، بعد أن كانت قد وافقت على إنشاء لجنة أممية للتحقيق فيها. وبتعطل هذه الصفقة، يبدو أن موسكو عادت بنا إلى المربع الأول في المسألة السورية، بعد أن أعطت بعض الآمال إثر التفاهم التركي-الروسي.
عاد الرئيس ترامب دونالد إلى التأكيد أمام تجمع مؤيد له في فلوريدا الشهر الماضي، أنه يرغب في إنشاء مناطق آمنة في سورية، تكون ملاذاً للاجئين الذين لا يرغب باستضافتهم في الولايات المتحدة، وقال في الوقت ذاته إن على دول الخليج تحمل تكاليف إنشاء هذه المناطق. هذه ربما المرة الثالثة التي يثير فيها الرئيس ترامب قضية المناطق الآمنة في سورية منذ انتخابه، لكن إلى الآن ليس هناك وضوح سياسي وقانوني وعسكري لما يعنيه بهذه المناطق الآمنة.
هل سيلجأ ترامب إلى مجلس الأمن لإصدار قرار دولي يسمح بإنشاء مثل هذه المناطق؟ وعليه ماذا سيكون موقف روسيا التي مارست حق النقض (الفيتو) ست مرات ضد قرارات أخف لهجة بكثير وأقل تأثيراً في مجرى تطورات الحرب السورية، إذ وقفت في البداية ضد إصدار أي قرار من مجلس الأمن يدين نظام الأسد على انتهاكات حقوق الإنسان وارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين السوريين، كما رفضت إحالة التحقيق في مثل هذه الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، فهل ستسمح روسيا الآن باستصدار قرار أممي يسمح بإنشاء مثل هذه المناطق داخل الأراضي السورية، لا سيما أنها عارضت هكذا فكرة على مدى السنوات الأربع الماضية خلال ولاية أوباما؟ ربما يتوقع الرئيس ترامب أن ينجح بإقناع الروس بالقيام بذلك في صورة صفقة كبرى تقوم على رفع العقوبات عن روسيا والتي أثرت على اقتصادها المتهالك، مقابل أن تقدم روسيا شيئاً بالمقابل في أوكرانيا وسورية.
هذا على المستوى القانوني، أما على المستوى العسكري فيبدو الأمر أكثر تعقيداً، فإنشاء مثل هذه المناطق الآمنة داخل الأراضي السورية يحتاج إلى فرض حظر طيران جزئي على الأقل فوق هذه المناطق من أجل حماية المدنيين واللاجئين الذين سيلجأون إليها، وهذا يفترض منع طيران الأسد والطيران الروسي من التحليق فوق هذه المناطق، وبالتالي تدمير أو على الأقل تحييد كل مضادات الدفاع الجوية والصاروخية لنظام الأسد التي يمكنها أن تهدد هذه المناطق، وهو ما يعني بالتأكيد تدخلاً عسكريا أميركياً أو دولياً محدوداً في الأراضي السورية. وكل القادة العسكريين الأميركيين يعون ذلك، لكن هذا الالتزام الأميركي وحدوده ليست واضحة من قبل الرئيس ترامب في تأكيده على إنشاء هذه المناطق من دون التزام عسكري كبير.
في الوقت ذاته، تبدو تركيا حليفة الولايات المتحدة في حلف الأطلسي المتحمس الأكبر لهذه الفكرة ، فقد زار الرئيس أردوغان دول الخليج من أجل البحث في تمويل هكذا مشروع، كما أن رئيس هيئة الأركان الأميركية بحث مع رئيس هيئة الأركان التركية ليس الحرب ضد «داعش» وإخراجه من الرقة فقط، وإنما أيضاً إمكان إنشاء مثل هذه المناطق عسكرياً في وقت قريب.
لقد كان إنشاء المناطق الآمنة مطلباً للمعارضة السورية منذ عام 2012 عندما ازداد القصف العشوائي ضد المدنيين السوريين من قبل نظام الأسد، وأثيرت قضية التدخل الإنساني في سورية على مدى السنوات الست الماضية بسبب ازدياد أعداد الضحايا المدنيين في شكل كبير وتضاعف أعداد اللاجئين، وترسخ مبدأ حماية المدنيين في ضوء مبادئ القانون الدولي المطبق في مسؤولية الحماية والتي يطلق عليها اختصاراً (R2P).
منذ بداية الثورة السورية في آذار (مارس) 2011 قتلت القوات النظامية السورية ما لا يقل عن 600 ألف شخص، ووفقاً لتقرير أصدرته الأمم المتحدة فإن هذه القوات هاجمت المدنيين باستمرار، وقصفت المناطق السكنية الكثيفة بالمدفعية، ونشرت القناصة والطائرات المروحية الحربية في المدن السكنية، واستخدمت الصواريخ الباليستية ضد المناطق السكنية، وقامت بتعذيب المحتجين الذين تم اعتقالهم، كما تم استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين أكثر من مرة، كل هذه الأفعال تقع تحت مسمى جرائم ضد الإنسانية كما عرفها نظام روما الذي أقامته المحكمة الجنائية الدولية (ICC).
وبموجب مبدأ مسؤولية الحماية، فإن الدولة لا تملك السيادة المطلقة، وتعتبر متخلية عن سيادتها عندما تفشل في حماية مواطنها من الإبادات الجماعية، أو التطهير العرقي، أو جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية.
يبدو الرئيس ترامب بعيداً تماماً من استخدام هذه اللغة، فهو يريد إنشاء المناطق الآمنة من أجل حماية اللاجئين كما كرر ذلك أكثر من مرة ومنعهم من الذهاب إلى أوروبا أو القدوم إلى الولايات المتحدة، لا سيما مع قراره بوقف برنامج استقبال اللاجئين السوريين في شكل كامل في الولايات المتحدة.
لكن لا بد من التأكيد هنا أن ما حصل في سورية على مدى السنوات الست الماضية يحقق معايير التدخل الإنساني لحماية المدنيين سواء عبر المناطق الآمنة أو غيرها، فالحاجة الآن لتطبيق مبدأ حماية المدنيين تعد رئيسية من أجل وقف الحرب في سورية وضمان انتقال سياسي، وفي الوقت نفسه القضاء على «داعش»، فهذه الأمور الثلاثة مرتبطة في شكل كبير، إذ لا يمكن القضاء على المنظمات الإرهابية في سورية من دون وجود حكومة شرعية تمثل السوريين وتعكس مصالحهم في إنهاء الحرب وضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي وهو ما فشلت حكومة الأسد في تحقيقه.
إن مسؤولية الحماية مبدأ من مبادئ القانون الدولي أقره مجلس الأمن، ويمثل تطوراً عميقاً في الوسائل التي يتخذها القانون الدولي لمعالجة الأزمات الإنسانية. وبموجب مبدأ مسؤولية الحماية فإن الدولة لا تملك السيادة المطلقة. وتعتبر متخلية عن سيادتها عندما تفشل في حماية مواطنيها، ففي تقرير للأمم المتحدة نشر عام 2009 قام الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون بتوصيف الأركان الثلاثة التي يقوم عليها هذا المبدأ، أولاً: تقع على عاتق كل دولة مسؤولية دائمة لحماية السكان المقيمين على أرضها، بصرف النظر عما إذا كانوا يحملون جنسيتها أم لا، من الإبادات الجماعية، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية، وكل ما يحرض على تلك الجرائم السابقة. ثانياً: تقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية تقديم المساعدة للدول على الامتثال لواجباتها الواردة في الركن الأول. ثالثاً: إذا ظهر في شكل واضح فشل دولة في حماية شعبها، على المجتمع الدولي أن يستجيب لذلك في شكل حاسم وفي الوقت المناسب، بالاستناد إلى الفصل السادس والسابع والثامن من ميثاق الأمم المتحدة، وباتخاذ التدابير المناسبة سلمية كانت أم غير ذلك. إضافة إلى ذلك، يمكن في حالات الطوارئ عقد تحالفات دولية مشروعة لوقف الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، حتى من دون موافقة مسبقة من مجلس الأمن.
فهل سينجح الرئيس ترامب فيما فشل الرئيس أوباما في حماية المدنيين السوريين؟ يبدو ترامب أكثر حماسة للتحرك في الملف السوري من أوباما لكنه في الوقت ذاته يظهر كثيراً من الغموض الذي تحتاج السياسات القادمة لإدارته إلى توضيحه.
في مداخلات كثيرة، كرّر رئيس النظام السوري ومسؤولون إيرانيون وقادة ميليشيات عراقية وميليشيات حوثية يمنية أنهم يحاربون الإرهاب، وكانوا في ذلك يطلقون إشارات ورسائل إلى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بأنهم في الخندق ذاته. واستخدم بشار الأسد مقابلات مع إعلاميين أجانب لمخاطبة الرئيس دونالد ترامب مباشرةً، والقول أن نظامه يمكن أن يتعاون مع إدارة ترامب إذا كان الأخير عازماً على محاربة الإرهاب، أي أن ترامب يحتاج إلى تأهيل كي يستحق تعاون الأسد معه. وفي الاتصالات بين الولايات المتحدة وروسيا كان رفض الأميركيين التنسيق مع النظام السوري معوّقاً للتعاون بين الدولتَين الكبريين، فالأميركيون جنّدوا الأكراد لمقاتلة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) لقاء دعم طموحاتهم القومية المتأرجحة بين التفدرل والانفصال، في حين أن الروس لا يملكون مقاتلين على الأرض ويطالبون بإشراك النظام لكنهم يعلمون أن عنوان «قوات الأسد» ينطوي حتماً على وجود قوات لإيران أو تابعة لها.
خلال عهد إدارة بارك أوباما كان هناك نهج مسايرٌ إلى حد التواطؤ مع إيران، وأمكن طهران أن تدفع بالتقارب الضمني مع واشنطن إلى قبول أميركي غير معلن بدور لأتباع إيران في «تحرير» المحافظات العراقية، وصولاً إلى مشاركة ميليشيات «الحشد الشعبي» في معركة الموصل. في الفترة ذاتها كان هناك تغاضٍ أميركي - روسي مشترك عن التقارير الاستخبارية التي تحدّد أدوار الدول والأجهزة في تفعيل «داعش»، ومنها خصوصاً النظامين السوري والإيراني. وعلى رغم الاشتباه بأدوار لدول أخرى إقليمية إلا أن الوقائع على الأرض لم تسجّل أي تناغم بينها وبين «داعش»، إذ كرّس التنظيم كل تحرّكاته وانتشاراته لاختراق مناطق سيطرة المعارضة السورية وإضعاف فصائلها المقاتلة، ومنها تحديداً «الجيش السوري الحرّ». وفيما خاض «داعش» معارك قاسية مع «قوات الأسد»، خلال سعيه إلى توسيع انتشاره بحثاً عن موارد لـ «دولته» المزعومة، لم يمنعه ذلك من التنسيق مع النظام في مناطق عدة قريبة من دمشق أو أخيراً في محيطَي الباب ودرعا. غير أن التنظيم لم يتعرّض إطلاقاً لميليشيات إيران، فلا هو استهدفها ولا هي قاتلته على رغم ما تلهج به أبواق إعلامها.
كل الدول مهمومة بمواجهة الإرهاب، وتنفرد الولايات المتحدة بجعلها من الأهداف الرئيسية لاستراتيجيتها الدولية ومطاردتها المستمرّة لتنظيم «القاعدة»، من دون نسيان مسؤوليتها في نشوء الإرهاب في أفغانستان خلال ثمانينات القرن الماضي. أما إيران فانفردت بهندسة الإرهاب وتوظيفه جزءاً محورياً من استراتيجيتها للهيمنة على العراق وسورية واليمن. ففيما تبنّى نظام الأسد باكراً رواية المواجهة بينه وبين «إرهابيين» قبل زمنٍ من ظهور الإرهابيين الحقيقيين في سورية، كان نظام نوري المالكي يُرجع الصدى لهذه الرواية في تعامله مع اعتصامات المحافظات السنّية في العراق، وبعدما نفّذ الحوثيون انقلابهم على الحكومة الشرعية راحت خطب زعيمهم عبدالملك تروّج لدورٍ لجماعته في محاربة الإرهاب، وفي غضون ذلك كان الأمين العام لـ «حزب الله» الناطق شبه الرسمي باسم المرشد الإيراني يركّز خطبه على خطر «التكفيريين» وعلى قتالهم كـ «واجب جهادي»، بل إن حسن نصرالله أنذر مراراً بأن الاستيلاء على مكة المكرمة هدف لـ «الدواعش». في الحالات الأربع كانت هناك مخاطبة لأميركا بأن مصالحها توجد في كنف أتباع إيران، حتى لو كانت مرفقة بهتافات «الموت لأميركا ولإسرائيل» ولغيرهما.
نظراً إلى السيطرة الإيرانية الكاملة على القرار في بغداد بدا طلب حكومة المالكي مساعدة واشنطن ضد «داعش» مستهجناً، على رغم الاتفاق بين الدولتين، لكن هذه الخطوة جاءت في السياق الإيراني تماماً، لأن «داعش» وُجد لهذا الغرض، اجتذاب أميركا. وبعدما قرّرت واشنطن الاستجابة حددت أمرين: الحاجة إلى حكومة جديدة بمواصفات «وحدة وطنية» فأطيح المالكي، والحاجة إلى قوات برية ما يتطلب إعادة تأهيل الجيش الذي أسسته أثناء احتلالها العراق ووجدته فاقداً الأهلية للقتال. كان المالكي سهر شخصياً على تهميش الجيش وتسهيل إنشاء الميليشيات بتدريب إيرانيين وتسليحهم، وهذه الميليشيات هي التي شكّلت فور سيطرة «داعش» الجسم الرئيسي لـ «الحشد» وصُوّرت كأنها استجابة شعبية عفوية لنداء المرجع السيد علي السيستاني، ليصبح اسم «الحشد» لاحقاً عنواناً لتفريخ مزيد من الميليشيات. وكان الهدف منها إيجاد رديف للجيش وفرضه كأمر واقع لسدّ الحاجة الأميركية إلى قوات برية. وعلى رغم اعتراض الجنرالات الأميركيين وانتقاداتهم سلوكيات «الحشد»، إلا أنهم لم يتمكنوا من استبعاده عن المعارك، إذ إنه يشارك اليوم في الموصل ولا يغيب عن بال أحد في التحالف الدولي كما في حكومة بغداد والجيش والبرلمان أن «الحشد» عقبة كأداء أمام أي تسوية سياسية أو «مصالحة وطنية» مطلوبة بإلحاح لمرحلة «ما بعد داعش».
هذا الإشكال العراقي يوجد في شكل أو في آخر حيثما تدخّلت إيران. إذ تستخدم «حزب الله» لتهميش الجيش في لبنان، ويقول «الحزب» أنه حمى البلد من إرهاب «داعش»، والواقع أنه اجتذبه، بل أدّى خطابه وشحنه المذهبي إلى استفزاز البيئة السنّية كأنه يخيّرها بينه وبين «داعش»، كما أن ممارسته الاغتيالات والترهيب بلغت حدّ تعطيل الدولة بعدما أفسدت الشأن السياسي وتسبّبت في الركود الاقتصادي والاستثماري. أما ميليشيات الحوثي فذهبت أبعد، ففي سعيها إلى السيطرة على السلطة في اليمن قضت على الدولة وفكّكت الجيش ودمّرت الاقتصاد ومزّقت المجتمع، بل دخلت على خط استخدام جماعات الإرهاب عبر مسارَين، أولهما تحالفها مع الرئيس السابق الذي حافظ على خطوط مفتوحة مع البيئة القبلية الحاضنة فرع تنظيم «القاعدة»، والآخر علاقتها مع إيران التي تؤوي فلول هذا التنظيم منذ طرده من أفغانستان وتشرف على روابطه مع فروعه. وإذ دان الحوثيون غارات شنّتها طائرات أميركية أخيراً على مواقع «قاعدية» في اليمن فقد حذّروا من أن هذه الهجمات «لن تؤتي ثمارها المرجوّة» في غياب التنسيق معهم.
وفي سورية، اتّبعت إيران أيضاً سيناريو الاعتماد على الميليشيات مستفيدة من تراجع قوات الأسد وضعفها، وعندما تدخّلت روسيا استنتجت سريعاً ضرورة إعادة تنظيم الجيش وتأهيله بمعزل عن الأسد وحليفه الإيراني. وقد اعتمد الروس أخيراً على الفيلق الخامس الذي أشرفوا على إنشائه في عملية طرد «داعش» من تدمر، بعدما أغضبتهم عودة التنظيم إليها أواخر العام الماضي. ولا يزال الإيرانيون مصرّين على إشراكهم في تحرير الرقّة، معتمدين من جهة على أن «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) التي تعوّل عليها أميركا ليست كافية وعلى التجاذب الحاصل بين تركيا حول المشاركة الكردية، ومن جهة أخرى على حاجة الروس إلى أدوات على الأرض لتكون لهم كلمة في توزيع الأدوار ورسم الخطوط الحمر للأطراف كافة. وشكّل تسليم «قسد» مناطق أخلاها «داعش» إلى قوات النظام وحلفائه خطوة ذات دلالة بأن الأميركيين (والروس) يريدون إيقاف تركيا عند حدود الباب، لكن قوات النظام وإيران تعتبر أن سيطرتها على تلك المناطق تفتح أمامها الطريق نحو منبج فالرقّة، لكن القرار في هذا الشأن يتوقف أيضاً على الأميركيين (والروس).
في جولة «جنيف 4» للمفاوضات السورية بدّد وفد النظام الوقت بإصراره على أن تكون محاربة الإرهاب بنداً أولاً في أي جدول أعمال، مع علمه بأن المسألة باتت منذ عام 2014 شأناً دولياً، كما أن المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا ذكّره بأن «داعش» و «جبهة» هيئة فتح الشام (النصرة سابقاً) هما الجماعتان الوحيدتان المصنّفتان دولياً إرهابيّتَين. لكن نظام الأسد وحليفه الإيراني استخدما الإرهاب كورقة محورية حققت لهما مكاسب كثيرة ومكّنتهما من التلاعب بطبيعة الأزمة ومن خداع العالم، لذلك، يريدان الاستمرار في تفعيلها لمواصلة الحرب أو على الأقل لإعاقة الحل السياسي أو لإفساد أي حل. لكن التقدّم في الحرب على «داعش»، من اقتحام الموصل إلى محاصرة الرقّة، قد يقرّب انتهاء صلاحية ورقة الإرهاب وبالتالي اللعب بها.
ربما يجب أن نأخذ من تصريح الرئيس التركي أردوغان الأخير حول سورية ثلاث كلمات فقط: «لن نهاجم منبج»، أما بقية كلامه عن التشاور المسبق مع أميركا وروسيا، فيدخل في باب التبرير بعدما قررت واشنطن أن حاجتها إلى الأكراد في الهجوم الذي يجري التحضير له على الرقة أهم، في الوقت الحاضر على الأقل، من معالجة مخاوف تركيا منهم، وبعدما شاركت موسكو في حماية الأكراد في منبج عبر التلويح بمواجهة بين الجيشين السوري والتركي، فيما يبدو أنها خطوات منسقة بين الولايات المتحدة وروسيا.
وكان إرسال قوة رمزية أميركية إلى المدينة لمنع الأتراك من مهاجمتها دليلاً على التزام إدارة ترامب أولوية «القضاء على داعش» التي اعتُمدت في عهد أوباما، خصوصا أن الرئيس الأميركي الجديد يحتاج كثيراً، وبسرعة، إنجازاً خارجياً يغطي تعثره في الداخل حيث يخوض معركة خاسرة حتى الآن مع الصحافة والقضاء وهيئات حماية البيئة، ويتعثر في مقارباته للسياسة الخارجية.
وعلى رغم أن الموقف الأميركي يخذل أردوغان وسعيه الحثيث إلى وأد احتمال قيام أي نوع من «الاستقلال» الكردي في مناطق شمال سورية، فإن واشنطن تعرف أنها لا تستطيع الاستغناء عن أنقرة في المدى البعيد، وأنها لا بد من أن تعيد تقويم سياستها إزاء الأكراد بعد انتهاء معركة الرقة، وهي مهمة قد تكون صعبة وتتوقف على ما سيقرره الأتراك.
ومع أن الأميركيين استثمروا في تدريب الأكراد وتزويدهم أسلحة خفيفة وقدموا لهم دعماً مالياً ولوجستياً، مع معرفتهم بأن «وحدات حماية الشعب» بزعامة صالح مسلم تربطها علاقات قوية بنظام بشار الأسد، فإن الأكراد عملياً يسددون سلفاً ثمن علاقتهم بالولايات المتحدة التي لم تعدهم يوماً بدعم حكم ذاتي لهم، لكنها لم تعلن أيضاً معارضتها لمثل هذا الاحتمال في أي تسوية مستقبلية للوضع في سورية.
وعلى أمل أن «يقبضوا» لاحقاً ولو بالتقسيط، يشارك الأكراد بفاعلية في القوة التي ترعاها أميركا وتحضرها للهجوم على الرقة إلى جانب قوات عشائرية عربية تحت مسمى «قوات سورية الديموقراطية»، ويلتزمون الخطط الأميركية، وكذلك أي اتفاقات يتم التوصل إليها بين الولايات المتحدة وروسيا حول دورهم ومناطق انتشارهم، لكنهم يستغلون في الوقت ذاته علاقتهم بدمشق وموسكو للدفع في اتجاه مواجهة بين الجيشين السوري والتركي تخفف عنهم ضغوط أنقرة. وتلافي مثل هذا الاحتمال كان السبب الرئيس في انعقاد الاجتماع العسكري الثلاثي بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة في أنطاليا قبل أيام.
وتعرف واشنطن أن الهجوم على الرقة يتطلب حشداً واسعاً للمقاتلين المحليين على الأرض لأنها غير قادرة على الزج بأعداد كبيرة من الجنود الأميركيين، ومضطرة إلى الاكتفاء ببعض وحدات من القوات الخاصة لقيادة العمليات وتوفير الدعم. لكنها في الوقت ذاته لا ترى في الأكراد قوة رئيسية يمكن الاعتماد عليها في السيطرة على المناطق المستعادة من «داعش»، بسبب ضآلة عدد المقاتلين نسبياً (30 ألفاً في أفضل تقدير) وضعف تسليحهم، وهو رقم بالكاد يكفي لتوفير الأمن في المناطق التي يقيم فيها الأكراد حالياً «إدارة ذاتية».
بل يدرك الأميركيون أنهم ربما يحتاجون إلى نشر قوات تركية في الرقة بعد تحريرها، وأنهم لا يستطيعون الاستغناء عن التسهيلات العسكرية التركية لاستمرار انتشارهم ونفوذهم في المنطقة وموازنة القواعد الروسية في سورية.
وإذا كان الأميركيون حريصين على طمأنة أنقرة إلى أن سياسة تفضيل الأكراد ليست سوى إجراء موقت، وأن العلاقة معها استراتيجية وتتجاوز الحرب على «داعش»، فإن تركيا في المقابل ربما وجدت في الموقف الأميركي الذريعة التي تفتش عنها للامتناع عن المشاركة بقواتها في المعركة، التي يتوقع أن تكون حامية جداً وخسائرها كبيرة على الأطراف جميعاً، على أمل اضطرار الأميركيين إلى طلب مساعدتها في حال تعثرت حملتهم.
ألقى جنرال أميركي متقاعد، اسمه بول فاليلي، مقرّب من إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ويزوّدها بدراسات استراتيجية واستشارية، كلمة في مؤتمر عُقد في موسكو، تناول فيها قضايا الشرق الأوسط، وسورية خصوصا، استهلها بحديثٍ عن محاولات الرئيس السابق، باراك أوباما، لضرب مشروع إدارة ترامب تحسين العلاقات الأميركية/ الروسية، بعد ما أسماه "الفوز الساحق وغير المتوقع" للرئيس الجديد في انتخابات الرئاسة، مثل طرد دبلوماسيين روس، وفرض عقوبات على روسيا، وصولا إلى إقالة مستشار الأمن القومي المعين، مايكل فلين، بعد أقل من ثلاثة أسابيع على توليه منصبه.
يبدو أن الجنرال يتبنى أطروحة مادلين أولبرايت وستيفن هادلي حول افتقار النظم القائمة في منطقتنا إلى الشرعية، باعتباره السبب الذي ينجب الإرهاب، ويرى أن هذه النظم دمرت، بالتعاون مع الإرهاب، المؤسسات الوطنية لبلدان المنطقة ولبلدان أجنبية عديدة، وإن تدخّل بعضنا (روسيا!) المنحاز أدى إلى فوضى عارمة في بلاد الشام بشكل خاص، وفي الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية بشكل عام، ما أنتج لنا، والحديث للجنرال، عشرات آلاف المتطرفين الشيعة العرب الذين يدعمهم الحرس الثوري الإيراني في العراق وسورية ولبنان، فضلا عن عشرات آلاف المتطرفين الذين جنّدتهم إيران من شيعة باكستان وأفغانستان، الأمر الذي حتّم ظهور المتطرفين والمتشددين من أهل السنة، لمواجهة هذا التدخل الإيراني غير المسؤول، الذي يسعى إلى إعادة رسم الخرائط من جديد عبر التلاعب بدول المنطقة وشعوبها، وإعادة رسم خريطة سايكس/ بيكو. وليس ما يجري اليوم من حرب ودمار في سورية غير شاهد على ذلك".
بعد هذه المقدمة التي ترى أن الثورات شرعية، لأنها ضد نظم فاقدة للشرعية، يقول الجنرال إن ظهور المتطرفين الشيعة الذين يريدون إعادة رسم خرائط المنطقة بدعم إيراني، هو الذي أدى إلى ظهور التطرّف السني، وخصوصا في سورية، حيث "وصلت الجرائم التي يرتكبها نظام الأسد إلى الحد الذي لا يقبله أي إنسان يمتلك شيئا من الرحمة والإنسانية، وصار لدينا اليوم أكثر من مليون قتيل سوري، سقطوا فداء حقوقهم المشروعة التي سلبها منهم النظام، على مدى خمسين عاما، وأكثر من خمسمائة ألف معتقل سياسي، لا يعرف أحد مصير غالبيتهم، وتسعة ملايين لاجئ، تم تشريدهم قسرا. لذا، من الضروري الإسراع في إنشاء مناطق آمنة، تسمح للاجئين بالعودة إلى بلادهم... ونتمنى على روسيا أن تساعد في حل الصراع السوري، عبر تسويةٍ سياسيةٍ موضوعية، والإقلاع عن دعم طرفٍ صغير، على حساب طرف أكبر، والوقوف على مسافةٍ واحدة من مكونات الشعب السوري... وفي رأينا أن محادثات أستانة راعت مصالح تركيا وإيران، أكثر مما راعت مصالح السوريين الذين من الخطأ الاعتقاد أن تهميشهم وتجاهل مصالحهم سينهي الحرب... سورية وجوارها لن تنعم بالسلام، طالما أن نظام الأسد وحلفاءه الإيرانيين ومليشياتهم الطائفية يمارسون الوحشية والإجرام الممنهج ضد الشعب السوري". لذلك نقول لكم: "الأسد يجب أن يحال إلى التقاعد، لفتح طريق المصالحة والاستقرار في سورية... ومنع تحوّلها إلى حقل تجارب واختبار للمشروع الإيراني، ولسحب قوات إيران ومليشياتها التي استقدمت للقتال هناك، كي نتمكّن من القضاء على تنظيم داعش، وطرده خارج المنطقة برمتها، بينما سيزيد نقيض هذا فاعلية التنظيم في الإقليم وعموم الشرق الأوسط ... لا سيما وأن الحرس الثوري الإيراني وتنظيم داعش يشكلان تهديدا مباشرا لمؤسسات الدولة السورية، ويجب التحرّك الفوري ضدهما كليهما، وهناك خطة موضوعية متكاملة لاستعادة الدولة السورية، كفيلة ببقاء الأقليات وجميع المكونات السورية بعيدة عن الاقتتال والحروب والعنف فيما بينها... أتمنى علي روسيا والولايات المتحدة التحرّك والتنسيق معا في هذا الاتجاه، لضمان السلم والاستقرار في العالم، وتجنب المواجهة بينهما، والمحافظة على ديمومة تعاوننا الاستراتيجي".
هذه الأولويات التي يتحدث عنها الجنرال كانت دوما مطلب السوريين، ويأتي تفهمه أسباب الثورة وحجم الإجرام الأسدي/ الإيراني في الوقت المناسب، ويتفق مع رغبة الشعب السوري في العيش بسلام وتعاون بين جميع مكوناته، كما أن المنطقة الآمنة كانت دوما مطلبا سوريا وضرورة لحماية الشعب من التشرد والحصار، ولضمان حقه في العودة إلى وطنه آمنا مطمئنا، كما يقول الجنرال، خصوصا إذا "أقال" الروس الأسد سلميا، وفتحوا الباب أمام حل يفضي إلى انسحاب إيران وحرسها ومرتزقتها، وإلى القضاء، في الوقت نفسه، على "داعش" ومخاطرها. إذا كان هذا هو الخطة التي طالب الروس بالتعاون لتنفيذها، وهو يحذرهم من نتائج المواجهة، فإن ما يشير إليه من تبدل في الموقف الأميركي تجاه الصراع في سورية، بأبعاده الداخلية والإقليمية والدولية، يصحح سياسات واشنطن، ويضعها على سكة حل، جوهره تحقيق المصالح الروسية والأميركية، وإنهاء الحرب السورية بـ"إقالة" الأسد وإخراج إيران و"داعش" من سورية.
يطرح كلام الجنرال تساؤلاتٍ، منها: ما عساه يكون موقف روسيا؟ هل ستقبل الانفكاك عن إيران والأسد وستستجيب للتحذير من مخاطر عدم التعاون، والتذكير بالحرب العالمية الثانية، وإنجازاتها المشتركة، وبما أعقبها من صراعٍ أطاح الإمبراطورية السوفييتية؟ وهل تعني أقواله أن التعاون الروسي مع إيران وتركيا سيحقق مصالحها وحدها، كما حدث في أستانة، بينما المطلوب تحقيق مصالح موسكو وأميركا والسوريين؟ وهل يقبل الروس صفقة الجنرال التي تعدهم أول مرة بعد غزو سورية بالتعاون في المجال الدولي الذي كان أحد أهم أهداف الغزو، في مقابل الاستجابة لخطته والتعاون في تنفيذها؟ أخيرا: هل ما قاله الجنرال في محفل دولي يعكس رأيه الشخصي، أم هو إشارة مقصودة إلى النهج الذي ستعتمده إدارة ترامب تجاه سورية والمنطقة، وتريد لموسكو أن تلتقي معه في منتصف الطريق، وهل يكون فشل جنيف بداية التعاون بين الجبّارين؟