مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٥ مارس ٢٠١٧
توم وجيري يتصارعان فوق أرض تدمر

بعد انتهاء لقائه مع دي ميستورا مساء الأربعاء الماضي، ظهر رئيس وفد سلطة الأسد في جنيف4، أبو شهرزاد الجعفري كالديك الرومي، وأعلن في مؤتمره الصحفي، خبره السعيد بتحرير كامل مدينة تدمر من " تنظيم داعش الإرهابي ". وقد زفّ أبو شهرزاد هذه البشرى السارة للعالم المتحضر كله في القارات الخمس. وهل هناك بشرى أعظم وأجلّ عند العالم المنافق من تخليص تدمر من العصابات الإرهابية.!؟. وهل هناك جهة أصدق وأقدر من سلطة الأسد على محاربة الإرهاب والقضاء عليه.!؟.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف حدث وتم " تحرير " تدمر وإعادتها إلى حضن الأسد.!؟.

بالعودة إلى أحداث الصراع بين الطرفين، لاسيما في منطقة تدمر، يدرك حتى أصحاب العقول البسيطة أن سلطة الأسد وتنظيم الدولة، ليسا إلا وجهين لعملة واحدة، فالطرفان يهدفان إلى تدمير الوطن والشعب معاً، ونظرة سريعة لمجرى الأحداث منذ ظهور تنظيم الدولة، وحتى الآن تؤكد ذلك.

ولو حصرنا حديثنا في الصراع على تدمر، لأدركنا أن ما جرى ويجري هناك منذ أكثر من سنتين، لم يكن إلا مسرحية فاضحة ومفضوحة، القصد منها تدمير هذه المدينة التاريخية الأثرية العريقة، وتقتيل سكانها أو تشريدهم في أصقاع الأرض.

في البداية كان الصراع بين الطرفين على حقول النفط والغاز المجاورة لمدينة تدمر، وحين ينجح تنظيم الدولة في السيطرة على أحد الحقول، تسارع سلطة الأسد إلى القيام بـ " عملية التبادل الاقتصادي "، تأخذ النفط أو الغاز من تنظيم الدولة، وتعطيه ما هو بحاجة إليه من العملة الصعبة، وفي الوقت نفسه تظل البواريد والمدافع شغّالة بين الطرفين.!!.

وفيما بعد اشتهى تنظيم الدولة، وبالتوافق الضمني مع سلطة الأسد، أن يسيطر على تدمر المدينة، فكان ذلك في أيار 2015، وترافق بتدمير فظيع لمعالم المدينة وأحيائها، ولا بأس في ذلك، ما دامت المنافع متبادلة بين الطرفين، فالتنظيم يحاول أن ينبش ما تبقى من الآثار ويبيعها في السوق السوداء، بعد أن شبع أعوان الأسد نبشاً وبيعاً من تلك الأثار. أما الصروح الأثرية الكبيرة التي لا يمكن نقلها وبيعها، كمعبد "بل" و"قوس النصر" وواجهة المسرح الروماني وغيرها، فقد قام التنظيم بتمدير الكثير منها، إرضاء لشهوات أنصاره، فتلك أصنام الكافرين، ولابد من تدميرها، وإعلاء كلمة الله العليا.!!.

أما منفعة الأسد من وراء تسليم تدمر للتنظيم فهو المتاجرة بهذه القضية والتأكيد على أن خطر الإرهاب الإسلامي سوف يمتد وينتشر، وربما سيصل إلى مخادع الدول الكبرى ما لم تقم بمساعدة الأسد والأخذ بيده وإبقائه جالساً إلى الأبد على عرش سورية الأسد.!!.

وحين جاء الدب الأبيض ليحارب الإرهاب الإسلامي، وبمباركة الكنيسة الموسكوفية، لم يتوجه إلى تنظيم الدولة مباشرة، بل هدفه المدن التي تغص بالعمران والإنسان، وراح يمعن قتلاً وتدميراً، فكانت جميع ضحاياه من المدنيين، نساء وأطفالاً وشيوخاً، ومن العمران، بيوتاً ومستشفيات ومخابز ومرافق عامة وسيارات إسعاف وشاحنات إغاثة. ولكنه لم يستطع أن يجني من وراء ذلك أي نصر عسكري مأمول. وأخيراً توجه إلى تدمر في آذار 2016، وجرت هناك ملحمة كاذبة أدت إلى طرد تنظيم الدولة من تدمر.

واحتفالاً بهذا النصر المؤزر، وبأوامر من الدب الأبرص، جاءت الفرقة الموسيقية التي تمثل " عظمة " القياصرة الروس، وبدأت تعزف نشيد النصر، وهي تجلس على أنقاض ما شيدته زنوبيا ملكة تدمر من عمران يصعب وصفه، وتعجز حضارة القرن العشرين عن الإتيان بمثله أو حتى تقليده. وليت الجاهلين يعلمون أن من شيّد تلك الصروح العمرانية، هم عقول هندسية عربية عاشت في زمن كان فيه الروس مجرد مخلوقات همجية، هي والبهائم سواء.

وربما تخيل المتخيلون أن تدمر صارت ولاية روسية، ولن يقترب تنظيم الدولة منها، ولو حتى في الأحلام، لكن الذي حدث أن العلاقة بين التنظيم وسلطة الأسد ومعها روسيا وإيران، ظلت كعلاقة القط والفأر، أو كعلاقة " توم وجيري "، حسب تعبير نصر الحريري رئيس وفد المعارضة إلى مؤتمر جنيف4. والطرفان يتبادلان الأدوار، فتنظيم الدولة حين يتقمص شخصية " توم "، يقوم الأسد وشركاه بتقمص شخصية جيري، وهكذا دواليك بالتناوب.

وبعد أن تم تدمير حلب الشرقية وإخراج أهلها، أرادت روسيا أن تخفف من " وقع الصدمة " على الشعب السوري، فلعبت على الحبلين، وأعطت تنظيم الدولة بطاقة مرور لاستعادة تدمر إلى حضنها الدافئ.!!. وهكذا حصل، ففي كانون الأول من العام نفسه 2016 استعاد التنظيم السيطرة على تدمر، واغتنم الكثير من الأسلحة الروسية الخفيفة والثقيلة التي خلفتها قوات القيصر العظيم بعد هروبها السريع المذهل. وهكذا ارتفع شأن " أبطال التنظيم " في عيون المعجبين والمريدين.!!.

وفي هذه الأيام العصيبة، وفي خضم الصراع الكلامي في جنيف4، بشّر أبو شهرزاد، كما أسلفنا، بعودة تدمر إلى حضن الأسد. وقد جاءت هذه العودة بفرمان روسي، بدليل أن وزير الدفاع سيرغي شويغو، أبلغ بوتين باستعادة السيطرة على تدمر، دون أن يبدي مقاتلو التنظيم أية مقاومة أو شراسة، بل كان الأمر أشبه بالانسحاب الأنيق. فكيف حدث ذلك.!؟. هذا علمه عند من ترك تدمر، وعند من عاد إليها.

ولو تركنا علم الكلام الهزلي، واعتمدنا علم التحليل السياسي المبسط. لقلنا إن هناك أيضاً لعبة شبيهة بلعبة " توم وجيري " في منطقة منبج في الشمال السوري، فتنظيم الدولة سلمت العديد من القرى لقوات الأسد، وكذلك فعلت قوات سورية الديمقراطية، حيث سلمت هي الأخرى بعض القرى القريبة من منبج بهدف قطع الطريق على قوات درع الفرات ومنعها من تحرير المدينة. وهذا هو الهدف العسكري الذي تلعبه روسيا، ربما بتناغم مبطن مع إدارة ترامب الجديدة.

أما هدف روسيا السياسي، فهو امتلاك المزيد من أوراق الضغط على المعارضة التي ليس بيدها أية ورقة تلعبها سوى القبول بما يُملَى عليها، وهكذا نجدها تتنازل عن مبدأ بعد آخر، وتتدهور درجة بعد أخرى، وإن استمرت في هذا النهج، ستضطر في النهاية إلى رفع الراية البيضاء، وإعلان استسلامها أمام دستور وزير خارجية بوتين، والقبول بانتخابات " نزيهة " تشرف عليها روسيا الحيادية.!!. بذات نفسها، ومن يرفض فلسان حال لافروف يقول: روحوا بلّطوا البحر، فهناك بديل عنكم في منصات القاهرة وموسكو وبيروت، وهي مستعدة أن تنفذ أكثر مما هو مطلوب منها، وتستطيع حتى أن تدبك على أنغام: بشار الأسد قائدنا إلى الأبد.

أليس هذا هو الواقع المرير، في الوقت الراهن.!؟.

اقرأ المزيد
٤ مارس ٢٠١٧
الصراع على بشار الأسد

الافتراض العام في سوريا يقول إن موسكو لا تتمسك ببقاء بشار الأسد كهدف استراتيجي لها على رأس النظام، وإن إيران تقارب المسألة وفق معادلة صفرية: تنتصر طهران ببقاء الأسد وتهزم برحيله.

هل انقلبت الآية بعض الشيء؟ هل باتت موسكو أقرب إلى حماية بقاء الأسد في مرحلة انتقالية في حين قد يكون من مصلحة إيران التخلص منه إن بات ورقة روسية؟ السؤال لا يزال إلى حد بعيد في دائرة العالم الافتراضي السياسي أو هكذا يبدو للوهلة الأولى. وقد لا يتجاوز كونه رياضة ذهنية في مراجعة النظر إلى سوريا وأزمتها. لكنه رياضة ضرورية.

منذ سقوط شرق حلب وانهيار مسار الحل السياسي الأميركي الروسي قبل شهر من نهاية ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما، ولدت معادلة جديدة للحل قوامها المسار التركي الروسي أساساً، مضافاً إليه دور إيران بحكم الأمر الواقع، وكانت آستانة هي نقطة الانطلاق.

مذاك، تتراكم الأدلة على تباعد موسكو وطهران، رغم قدرة الدولتين على ابتلاعها والتحايل عليها حتى الآن. ابتلعت إيران الحضور التركي. ابتلعت مشاركة المعارضة المسلحة والاعتراف الاضطراري بها، خلافاً لكل الرواية الإيرانية التي تدرج المسلحين في سياق الإرهاب ولا شيء غير الإرهاب. وابتلعت مشاركة واشنطن، وهي ترقب بعين شكاكة، الغزل بين الكرملين والبيت الأبيض. كل ذلك لم ينجح في تغييب ملمح ناشئ في ثنايا العلاقات الروسية الإيرانية، وهو الصراع على بشار الأسد نفسه ووظيفته في الأزمة.

كان أسلوب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، فجاً قبل أسابيع في مؤتمره الصحافي السنوي المخصص للحديث عن نتائج عمل الدبلوماسية الروسية، حين قال إن «دمشق كانت ستسقط خلال أسبوعين أو ثلاثة في يد الإرهابيين عندما تدخلت روسيا في سوريا». وصلت الرسالة إلى إيران على أبواب انطلاق مؤتمر آستانة، ورد باسمها اللواء يحيى رحيم صفوي، المستشار الخاص للمرشد الإيراني علي خامنئي، معتبراً أن «الاستشارات العسكرية الإيرانية منعت سقوط بغداد ودمشق». وقبل أيام قال حسن نصر الله: «الكل بات يعرف أن الحرب الجوية وحدها لا تصنع نصراً، واليوم في سوريا لو لم يقاتل الجيش السوري ومختلف الحلفاء على الأرض فأكبر سلاح جو لن يستطيع أن يحسم المعركة وهذا من الثوابت العسكرية» في ردٍ آخر على روسيا.

لعبة «حصر الإرث» هذه، والصراع على تحديد حصص كل فريق في رصيد إنقاذ الأسد هي صراع على الأسد نفسه، لاستمالته إما لمنطق موسكو السياسي وإما لمنطق إيران العسكري الراغب في الدفع إلى حلول عسكرية إضافية في إدلب ودرعا وغيرهما.

ليس بعيداً عن هذا التناتش وما يستلزمه من رسائل سياسية، أزمة المحروقات في سوريا والتي تضعها مصادر سورية في سياق الضغط الإيراني على الأسد لتذكيره أن جزءاً رئيسياً من شرايين حياة النظام تمسك بها طهران التي ترسل بواخر المحروقات وغيرها إلى بانياس! الولاء مقابل الغذاء.

وثمة من يطرح علامات استفهام جدية حول هوية من يقف خلف تفجيري حمص الأخيرين اللذين استهدفا فرعي الأمن العسكري وأمن الدولة في حيي الغوطة والمحطة بمدينة حمص وأديا إلى مقتل عدد من الضباط والجنود، بينهم رئيس فرع الأمن العسكري العميد حسن دعبول. في الأمن يصعب الحسم باستنتاجات سياسية، لكن الأسئلة نفسها مؤشرات إلى مناخات اللحظة السياسية. فهل ثمة من يقول للأسد: روسيا تملك السماء ونحن نملك الأرض؟ هل على الأسد أن يستنتج أن من يفجر في عقر داره في حمص قادر على اللعب بالنار في عقر داره بدمشق؟

منذ آستانة تلمس إيران، أن الأسد بات أقرب إلى منطق موسكو. تدرج من القبول بالجلوس مع المعارضة المسلحة في آستانة إلى القبول قبل أيام بالبحث في الانتقال السياسي في جنيف.

ومخابرات طهران تعلم أن شريحة كبيرة من سوريا العميقة المحيطة بالأسد باتت، منذ تدخل موسكو، تعبر بحدة عن ضيقها بالدور الإيراني. وهذه شريحة تضم أركاناً من «نخبة النظام الصامتة» وكبار رجال الأعمال والصناعيين والتجار ممن ترتبط بهم عشرات آلاف العائلات، في كل المدن السورية وفي المهاجر القسرية لا سيما في دول الجوار.

إن اقتنعت إيران أن الأسد راحل وفق المنظور الروسي، فقد تعمل على إزاحته بتوقيت يناسبها. وهي ستنحاز لخيار الفوضى على خيار دولة جديدة في سوريا، تعلم أنه أياً تكن تركيبتها فلن تكون المعبر الرحب ذاته لدور إيران الاستراتيجي في المشرق.

فهل باتت حماية الأسد في المرحلة الانتقالية خطوة في مواجهة إيران وليس العكس؟ ربما.

اقرأ المزيد
٤ مارس ٢٠١٧
أبعد من'الفيتو' الروسي ــ الصيني

في مثل هذا الشهر قبل ست سنوات قال الشعب السوري كلمته. انتفض على نظام أقلوي أراد استعباده إلى ما لا نهاية. كان انتقام النظام من الشعب السوري، ولا يزال، فظيعا. لم يعد سرا أن ما تشهده سوريا هو المأساة العالمية الأكبر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

قرّر النظام، بدعم إيراني وروسي، كشفه موقف موسكو الأخير في مجلس الأمن، أن المطلوب الانتهاء من الشعب السوري، ومن سوريا نفسها. هل تتمكّن الأطراف الثلاثة من ذلك؟ الثابت أنّها ستفشل في الانتهاء من الشعب السوري. لا يستطيع نظام القضاء على شعب، أيّا تكن الوسائل التي يلجأ إليها، بما في ذلك السلاح الكيميائي، وأيّا تكن القوى الخارجية التي يستعين بها. لن تتمكن الأطراف الثلاثة من القضاء على الشعب السوري، حتّى لو كان “الفيتو” الروسي الأخير في مجلس الأمن، وهو السابع منذ العام 2011، يعني تشريع استخدام السلاح الكيميائي في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.

على الرغم من هذا “الفيتو”، الذي كان روسيا – صينيا، الأكيد أن الشعب السوري سينتصر. لو كان الشعب السوري سيتراجع، لما كانت ثورته مستمرّة منذ ست سنوات. لكنّ سوريا التي عرفناها لن تقوم لها قيامة للأسف الشديد بعدما خلقت الحرب المستمرّة منذ آذار ـ مارس 2011 وقائع جديدة على الأرض. لا بدّ من أن تكون لهذه الوقائع، التي هي أبعد من “الفيتو” الروسي – الصيني، انعكاسات في غاية الخطورة في المدى الطويل، خصوصا على بلد مثل لبنان، إضافة إلى دول الجوار الأخرى.

هناك ما هو أبعد بكثير من “الفيتو” الذي يعطي فكرة عن عجز روسيا عن لعب دور إيجابي في مجال البحث عن مخرج في سوريا. فإذا وضعنا جانبا المشكلة الضخمة الناجمة عن تدفق هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين على لبنان والأردن، تأتي على رأس هذه الوقائع تمكّن إيران من إزالة الحدود الدولية بين لبنان وسوريا. جعلت إيران، بفضل ميليشيا “حزب الله” التي ليست سوى لواء في “الحرس الثوري”، الرابط المذهبي فوق كلّ ما عداه، بما في ذلك الحدود المعترف بها بين دولة وأخرى.

إنّه الواقع الأخطر الذي تركته الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري. هذا الواقع سمح في وقت لاحق بظهور “داعش” وتوسّعه في العراق وسوريا متجاوزا الحدود بين الدولتين. هذا الواقع جعل من السهل قيام “الحشد الشعبي” الذي يضمّ مجموعة من الميليشيات المذهبية العراقية التابعة لإيران بالمشاركة بالحملة على “داعش”. ليس “داعش”، في نهاية المطاف، سوى تنظيم إرهابي يوفر كل المبررات التي يحتاجها “الحشد الشعبي” لتنفيذ ما تطمح إليه إيران في العراق، بدءا بتغيير طبيعة المدن في هذا البلد المهم الذي كان إلى ما قبل فترة قصيرة بلدا عربيا فيه قوميات عدّة، لكنه كان من بين الأعضاء المؤسسين لجامعة الدول العربية.

ليس معروفا إلى أي مدى ستتغير الخرائط نتيجة ما يمارس في سوريا، وما آل إليه الوضع فيها. لكن الثابت حتّى الآن أن طبيعة المجتمعات في كل دولة من الدول العربية التي تأثّرت بما يدور في سوريا ستشهد تطورات أساسية في ضوء وقوع أراضي تلك الدولة تحت أربع وصايات وسقوط الحدود اللبنانية ـ السورية لأسباب مرتبطة بالمشروع التوسّعي الإيراني.

بعد ست سنوات على الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري، تكونت في البلد أربع مناطق نفوذ. هناك منطقة نفوذ إيرانية، وأخرى روسية، وثالثة تركية، ورابعة إسرائيلية. المضحك المبكي في الموضوع أن النظام مازال يتحدث بين حين وآخر عن السيادة السورية بلسان بشّار الأسد أو أحد مساعديه.

من الصعب توقع كيف سينتهي الوضع السوري في المستقبل المنظور. لكن “الفيتو” الروسي الأخير لا يشجع على التفاؤل، خصوصا أنّه يعكس رغبة في دعم نظام مستعد لكلّ شيء من أجل القضاء على شعب بكامله.

هذا لا يعني أنّ في الإمكان تجاهل أن عنصرا جديدا طرأ على الوضع السوري. يتمثّل هذا العنصر الجديد في رغبة الإدارة الأميركية في إقامة “مناطق آمنة” داخل الأراضي السورية على حدود الأردن وتركيا… وربّما لبنان الذي زاره أخيرا السناتور بوب كوركر، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي. حرص كوركر، الذي كان مرشحا لأن يكون وزيرا للخارجية مكان ركس تيلرسون، على الذهاب إلى بلدة عرسال التي يفوق عدد اللاجئين السوريين فيها عدد المواطنين اللبنانيين.

فتح تجاوز “حزب الله”، أي إيران، للحدود اللبنانية – السورية، الباب أمام كل أنواع التغييرات وصولا إلى التدخل العسكري الروسي بهدف الحؤول دون الإعلان رسميا عن سقوط النظام. ما تشهده أرض سوريا حاليا من أحداث مصيرية مرتبط، إلى حد كبير، ببداية التدخل الإيراني عبر ميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية لإنقاذ النظام العلوي. أسّس إلغاء الحدود اللبنانية – السورية لكل أنواع التدخلات، وصولا إلى التواطؤ التركي مع روسيا كي يَسهل إخراج مقاتلي المعارضة من حلب.

الملفت إلى الآن، أن إسرائيل تتفرّج وتكتفي بتوجيه ضربات جوية بين حين وآخر تستهدف أسلحة وصواريخ مرسلة إلى “حزب الله” عبر الأراضي السورية. لم يصدر عن أي مسؤول إسرائيلي كلام يفهم منه ماذا تريد حكومة بنيامين نتانياهو التي تبدو راضية عن وجود منطقة نفوذ لها، كما أنهّا تنسّق بالعمق مع روسيا، باستثناء رغبتها في تفتيت سوريا، ملتقية بذلك مع ما يستهدفه النظام فيها.

لعل أقرب ما يكون للموقف الرسمي لإسرائيل ما صدر عن رئيس الأركان ووزير الدفاع السابق موشي يعلون الذي يحضر مؤتمرا في موسكو لمؤسسة أبحاث تابعة للكرملين اسمها “فالداي”. قال يعلون الذي استقال العام الماضي من وزارة الدفاع، لكنّه لا يزال قريبا جدا من المؤسسة الأمنية والعسكرية، “إن إسرائيل على استعداد لدعم التعاون الروسي ـ الأميركي من أجل تقسيم سوريا إلى علويستان وسنّستان وكردستان”، مضيفا “أن سوريا والعراق من الدول الاصطناعية التي لا داعي لمحاولة إعادة إحيائها”.

لم يصدر أي رد على يعلون من المشاركين في المؤتمر. فضل المشاركون الروس وغير الروس الصمت. إنه تأسيس لمرحلة جديدة في سوريا بدأت بتطور في غاية الخطورة لم يحسب كثيرون لمدى أهميته وأبعاده يتمثل في الاستهانة بالحدود اللبنانية – السورية، والاستهانة بلعب ورقة الرابط المذهبي وجعله فوق سيادة الدول ومبدأ الانتماء الوطني أولا.

ليس “الفيتو” الروسي سوى تعبير عن الرغبة في الذهاب بعيدا في المشاركة في التأسيس لهذه المرحلة الجديدة، التي صار فيها استخدام السلاح الكيميائي في الحرب على الشعب السوري وجهة نظر وغطاء لمزيد من الجرائم.

يعبّر موقف موسكو، الذي تشارك فيه الصين، والذي يشجّع على ارتكاب مزيد من الجرائم في حقّ الشعب السوري، أفضل تعبير عن الاستثمار في كلّ ما من شأنه إقامة كيانات طائفية ومذهبية في كلّ منطقة المشرق العربي وما هو أبعد منه.

اقرأ المزيد
٤ مارس ٢٠١٧
الغباء الروسي واللعب الأميركي

تكمن السياسة الروسية في وهم استعادة دور الاتحاد السوفييتي العالمي، وأن تلعب دوراً مركزياً في العالم، والانطلاق من نتائج الحرب العالمية الثانية في دعم سيادة الدول، والتدخل عبر ممثلي هذه الدول، كما في سورية. وفي حال تعذر ذلك، هناك الغزو التقليدي، كما حصل في أبخازيا والقرم. روسيا لم تفهم السياسة الأميركية جيداً؛ فالانسحاب في مرحلة أوباما كان لأسبابٍ متعدّدةٍ، وكذلك لجذب روسيا إلى التحالف معها في استراتيجيتها ضد الصين، والتي لا تزال قائمة في زمن دونالد ترامب. روسيا رفضت ذلك، وتقدمت بسياسةٍ توازي السياسة الأميركية عالميّاً وفي منطقتنا، وهي إعطاء إيران دوراً في المنطقة، وكذلك تركيا وإسرائيل، وتهميش العرب واللعب على الأكراد، والضغط على هذه الدول، حينما تتضرّر المصالح الروسية. الخلاف هنا أن أميركا تسمح بتقدم إيران من موقع توريطها بحروبٍ مع العرب، وجذبها ما أمكن إلى صالح التحالف ضد الصين، وتغليب الاتجاه الإصلاحي على الاتجاه المحافظ فيها. الضعف الروسي عالمياً تُدركه إيران وتركيا وإسرائيل. ولهذا، نجد نديّة معينة في التعاطي معها، بخصوص السياسة في منطقتنا والعالم، فتركيا تختلف مع روسيا بمسائل معينة، ولا سيما بخصوص مجمل الوضع السوري، وكذلك نجد اختلافاتٍ تتصاعد بين روسيا وإيران، بخصوص الوضع في سورية. وأيضاً لإسرائيل حساباتها في كل المنطقة، والتي قد تتوافق أو تتباين مع روسيا، ولا سيما إزاء الموقف من إيران أو حزب الله وغيرهما.

ما لم تفهمه روسيا، وهي بصدد احتلال سورية، وبطلبٍ من نظامها ومن إيران، أنّ عليها أن تحسم العلاقة مع النظام وإيران ذاتهما. ربما سبب تأخُرُ ذلك عدم رغبة روسيا في التورط بالمعارك بريّاً، وهي التي خسرت في أفغانستان، ولا تنسى خسارة أميركا في فيتنام، لكن ذلك يشلّ يدها، ويُعطي لإيران الأحقية في دور أكبر للسيطرة على سورية مستقبلاً، وليس الآن فقط. تم التدخل الروسي بموافقة أميركية، وكان يمكن لروسيا أن تسيطر بشكل كامل على سورية، لو قرأت جيداً السياسة الأميركية تلك، لكن التردّد الروسي، بل والغباء، هو ما فعلته في السياسة بخصوص سورية، وهذا ما استفادت منه تركيا وإيران وإسرائيل، وعزّزت جميعها مواقعها في سورية. الخلافات بين روسيا وتركيا والتوافقات لاحقاً بينهما لا تعني بأي حالٍ أن هناك تحالفاً قويّاً بينهما، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التغيرات الجديدة التي رافقت وصول ترامب، وإعلانه عن مناطق آمنة في سورية أو تحرير الرقة؛ حيث استدارت تركيا فوراً نحو الخليج، وساهمت بدورٍ ما في فتح جبهة الجنوب السوري، وخفضت من التمثيل في أستانة 2. إذاً روسيا أخطأت في التردّد إزاء حسم تحالفاتها مع إيران، وضرورة تحجيمها بشكل كبير، وأخطأت بتبني خطاب النظام إزاء المعارضة والفصائل، وحتى حينما اتفقت مع تركيا والفصائل، وعقدت لقاءات أنقرة وأستانة، لم تفرض توافقاتها تلك على إيران، وبقيت الأخيرة تُعطّل التوافقات، وتضعف بنودها كذلك، وظلت روسيا تقلّل من شأن الانتقادات التركية أو المعارضة، بخصوص رفض أن تكون إيران ضامنةً لوقف إطلاق النار، وكذلك بخصوص إجلاء المليشيات الطائفية التابعة لها من سورية.

السياسة الأميركية الجديدة، وعلى الرغم من إشارات ترامب إلى علاقة وثيقة مع بوتين، فإنها لن تختلف كثيراً عن سياسة أوباما، لكنها ستستعيد بعضاً من سياسات بوش وكلينتون، أي العودة إلى لعبِ دورٍ مركزيّ في المنطقة، وإن ظلت استراتيجيتها الأساسية تتمركز في مواجهة الصين؛ وبرز بشكل واضح رفضها الوجود الإيراني في العراق، والتنديد بوجودها في كامل المنطقة العربية، وفي التصريحات الرافضة حل الدولتين، ودعم إسرائيل في دولة واحدة وضد العرب. وأخيراً رفض التهميش الذي فرضته روسيا وإيران ضدها في اجتماعات أستانة بخصوص الوضع السوري.

فتحت أميركا عملياً جبهة الجنوب، وقطعت الطريق على تنسيقٍ أكبر بين الأردن والنظام، وكذلك لإحكام إغلاق المعابر بين الدولتين، بدلاً من فتحها، كما كان مأمولاً للنظام السوري، وقالت بمناطق آمنة، كان أوباما يرفضها من قبل، ولصالح تركيا وربما الأكراد، وكذلك في الجنوب، وأعادت العلاقات القوية مع السعودية تحديدا. وبالتالي، انتهى جنيف 4 قبل أن يبدأ؛ النظام لم يفعل شيئاً لنجاحه طبعاً، فهناك التنديد بتركيا، وتقديم شكوى لمجلس الأمن الدولي، باعتبارها محتلة لأراضي سورية، وعدم إيقاف إطلاق النار والاستهزاء بوفد هيئة التفاوض إلى جنيف 4، واشتراط أن يتضمن المنصات التابعة لروسيا.

كل ما تقدم، ولم تُعلن بعد أميركا سياسةً واضحةً ودقيقة إزاء تركيا وسورية والأكراد والوجود الروسي في سورية؛ إذاً أخطأت روسيا كثيراً في فهم السياسة الأميركية، والآن بدأت تُحاصر في سورية، وربما غداً في أوكرانيا، لا سيما أن المواقف الأميركية إزاء أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) لم تستقر بعد، لكنها كذلك قد لا تبتعد كثيراً عمّا كان في زمن أوباما، مع تشدّدٍ أكبر بخصوص تمويل الحلف الأطلسي، فلا يمكن لأميركا دفع أوروبا نحو سياسات تقاربٍ مع الصين أو روسيا.

الآن، تُقدم الخطط لتحرير الرقة، وهناك خطة روسية أيضاً، وليس فقط خطط تركيا أو خطة قوات سورية الديموقراطية. وهذا يدلّ على أن روسيا بدأت تتراجع مواقعها في سورية؛ تحصين روسيا لنفسها بمعاهداتٍ عسكرية، ومحاولتها السيطرة على السلطة السورية والمطارات العسكرية، وإرساء قواعد عسكرية واتفاقيات اقتصادية وسوى ذلك، لا يحصّنها في حال اعتُمدت سياسة أميركية متمايزة عنها إزاء الوضع السوري؛ فروسيا وعلى الرغم من ثقلها العسكري في سورية، ظلّت بحاجة إلى إيران وتركيا، والآن تُراقب كما العالم التغيرات في السياسة الأميركية إزاء سورية والعالم.

قصدت أن روسيا لم تخطئ فقط بتأخرها حسم التناقض مع إيران وإرساء تحالف قوي مع تركيا. وبالتالي، فرض حل سياسي في الفترة الانتقالية لانتقال السلطة في أميركا، بل وتكمل الخطأ بقصفٍ همجيٍّ لكل المدن السورية، تجدّد مع فتح جبهة درعا، وكذلك تحاول التضييق على تركيا في مدينة الباب، وتقترح خطة لتحرير الرّقة، عبر قوات النظام.

روسيا احتلالٌ زائلٌ من سورية لما ذكرناه، وهي ككل احتلال تتوهم السحق الكامل للشعب الأصلي؛ روسيا جاءت لمواجهة ثورةٍ شعبيةٍ، وستزول بحربٍ وطنية قادمة.

اقرأ المزيد
٤ مارس ٢٠١٧
قبل جنيف 5

هذا وقد انتهت جولة المفاوضات الرابعة في جنيف، من دون تحقيق أي تقدم باتجاه حل سياسي في سورية، هذا هو المدخل الذي كان متوقعاً عند الإعلان عن عقد جولة المفاوضات هذه، وهذا هو المدخل الذي تم استخدامه بعد انتهائها، فما من أحدٍ في العالم كان يتوقع أن تصل هذه المفاوضات إلى شيء، حتى المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، مهّد لهذه النتيجة منذ البداية، وقال قبل انطلاق المفاوضات: "لا نتوقع تحقيق معجزات"، وكلمة معجزات في اللغة الدبلوماسية تعني "شيئاً"، ولا نتوقع تعني "نحن متأكدون"، والعبارة ترجمها السوريون إلى معناها الحقيقي وتعاملوا مع هذه الجولة أنها "نحن متأكدون أنه لن يحصل شيء"، فلم ينتظروا منها شيئاً، فلا مهجرين استعدوا للعودة إلى بيوتهم، ولا مهاجرين حزموا حقائب العودة إلى بيوتهم، ولا مقاتلين بدأوا بفك بنادقهم، والجميع تعامل مع المفاوضات على أنها أمر يجري لمجرّد أن يجري، ولا علاقة له بالواقع.

بات التكرار في هذه الجولة مملاً، فالكلمات نفسها والمواقف نفسها، وطريقة رئيس وفد النظام، بشار الجعفري، في المماطلة والتسويف هي نفسها، فهو تابع إغراق المبعوث بالتفاصيل، وحرف النقاش عن مضمونه، ولم يفوّت مناسبة لإظهار عدم جديته، وعدم جدية النظام الذي يمثله في هذه المفاوضات، ومع أي مفاوضات أخرى. والجميع صار يعرف مفهوم النظام للمفاوضات ولعملية الانتقال السياسي، والتي تعني بالنسبة له "العودة إلى حضن الوطن"، أي الاستسلام والخضوع الكامل لإرادته والعودة إلى تحت حكمه.

وفد المعارضة الذي يتعرّض في كل جولة لبعض التغيير في الوجوه المشاركة يبدو أبهت في كل مرة، وأقل تأثيراً وفعالية وجدية، ووفد النظام يتكرّر بكل تفاصيله، والمبعوث الأممي يقوم بذلك كله، وكأنه موظف بيروقراطي في مؤسسة حكومية، ينفذ واجبه اليومي، من دون أدنى حماس أو تفكي ويطمحون لها فرصة لتغيير الظروف القاسية التي يعيشونها داخل البلاد وخارجها، وهذا التنبؤ المبكر، والذي يبدو ضرباً من الجنون، هو تعبير عن حقيقة الشعور التي أصابتنا، نحن السوريين، تجاه كل أنواع المفاوضات على اختلاف تسمياتها وأماكن إقامتها، ونوعية المشاركين فيها، فقد فقدنا أي أمل بتحقيق، ولو خطوة صغيرة، باتجاه السلام المنشود.

ليس لدى أحد من الأطراف المشاركة في هذه الجولة من المفاوضات (وسابقاتها) أدنى فكرة جدية للدخول في عملية تفاوض مثمرة، يمكن أن توقف شلال الدم المستمر منذ ست سنوات. ولعدم المبالغة في لغة التعميم، فإن من يملكون رغبةً حقيقيةً في الوصول إلى السلام هم من لا يملكون سلطة فعلية على الأرض قادرة على تحقيقه، بينما للقوى التي تملك هذه القدرة أجنداتها المتنوعة التي تجعل السلام عدواً لها، كما هي عدوٌّ له، وفي الحروب عادة ما تكون مفاتيح السلام بيد من يملك مفاتيح النار، ومن يملكون مفاتيح النار، اليوم، هم النظام والجماعات الإرهابية، ولا تفكير جدياً لدى كل من الطرفين في الوصول إلى نتائج، أما الثوار الحقيقيون الذين يسعون إلى بناء سورية جديدة، ويريدون وطناً جامعاً (سالماً منعماً وغانماً مكرماً) فهؤلاء يفقدون أوراق اللعبة شيئاً فشيئاً، ولم يبق في يدهم سوى النيات الطيبة التي لم تستطع يوماً أن توقف حرباً.

في الجولة التي انتهت من المفاوضات، أعطيت الفرصة لرئيس وفد النظام، بشار الجعفري، ليجدد اتهاماته للشعب السوري بالإرهاب، وهذه المرة من بوابة هجوم شنته جبهة النصرة على فرعين للأمن في حمص، فقد كان هذا الحدث فرصة له ليمارس تضليله، ويقول للعالم، إن الثورة السورية مجموعة من الإرهابيين، والمفارقة أن كلا الطرفين (من فجّر نفسه، ومن كان هدف التفجير) هما عدوان للشعب السوري، أذاق كل منهما السوريين مرّ العذاب، فجبهة النصرة، كما "داعش" تمارس في المناطق التي تسيطر عليها فنون الاضطهاد والتعذيب، لكل من لا يروقها، بينما تمثل فروع الأمن التي جرى استهدافها رموزاً للإرهاب والاضطهاد، حيث قتل فيها عشرات آلاف السوريين تحت التعذيب، وربما كانت هذه أهم نتائج هذه الجولة، بانتظار جولةٍ أخرى أكثر غرابة.

اقرأ المزيد
٤ مارس ٢٠١٧
ما بعد جنيف 4

من المتوقع أن يتصاعد التهكم الشعبي السوري على متوالية مؤتمرات جنيف وأستانة، وفي كل ساعة يتأخر فيها الوصول إلى حل سياسي، يفارق الحياة عشرات الأشخاص. ومن المتوقع أيضاً أن يتصاعد استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، بعد أن منحت روسيا والصين ضمان عدم العقاب والملاحقة القانونية للنظام السوري عبر «الفيتو» الذي جعل مجلس الأمن معطلاً فاقد القدرة على تحقيق الأمن للشعوب المضطهدة.

وبعد أيام تدخل القضية السورية عامها السابع، ويتفاءل بعض السوريين بأن تنتهي السنون العجاف بحل إلهي، وأن يتلمسوا خطوة ولو كانت وئيدة نحو الحل السياسي، وهذا ما جعلنا نشعر بأن الموقف الروسي بدأ يتحرك قليلاً حين وافقت موسكو على بدء مفاوضات الجولة الرابعة من جنيف ببحث عملية الانتقال السياسي، ومارست ضغوطاً على النظام كي يقبل، مع توجسنا بأنه لن يكون جاداً، ولا يملك وفده المفاوض صلاحية التنازل عن سلطات النظام لسلطة جديدة هي هيئة الحكم الانتقالي، حتى لو كان نصفها من النظام نفسه، فكيف أمام إصرار المعارضة على ألا يكون للأسد دور في مستقبل سوريا.

سيعبث النظام بتفسيرات سفسطائية لبيان جنيف، تزعم أن الانتقال السياسي لا يعني التخلي عن الأسد، وقد يكرر الروس قولهم «لسنا متمسكين بالأسد، ولكن لا بديل عنه، والتخلي عنه سيقود البلاد إلى فوضى»، وكأن سوريا بقيادته اليوم تنعم بالاستقرار! وسيدافع بعض المعارضين الناعمين عن حق الأسد في الترشح للانتخابات الرئاسية وهم يعلمون أن الشعب السوري في الشتات لن يملك القدرة على مواجهة الموالين للأسد في انتخابات مهما كانت نزيهة.

ولا يغيب عن أحد أن الانتقال السياسي هو مغادرة عهد وحكم قائم، إلى عهد وحكم جديدين، ولئن كانت المعارضة قد قبلت بالتشاركية مع النظام، فهذا قبول بالحفاظ على المؤسسات والبنى التحتية التي لم تدمر بعد، ولكن بقاء من ارتكبوا المجازر وقتلوا وهدموا واعتقلوا وعذبوا الشعب، ومن أحرقوا البلد يناقض الانتقال الذي حدده بيان جنيف بوضوح.

والعقدة الكبرى في مسار الحل هي مستقبل الأسد، ورعاة الحل السياسي دولياً يدركون ذلك، ويعلمون جيداً أن تعثر مسار المفاوضات ليس في خلاف حول مستقبل سوريا الديموقراطية، وإنما هو حرصهم على مستقبل الأسد فقط، لأنه الضامن لبقاء روسيا، ولسلطة إيران وتوسعها الإمبراطوري في الشرق الأوسط، وهناك آخرون يخشون أن تنهض سوريا من مستنقع الموت والدمار، وأن تخرج عن السيطرة التقليدية.

وهم يدركون أن نهاية عهد الأسد تعني نهاية سريعة لكل تنظيمات الإرهاب التي أطلقها النظام من جحورها للتعمية على ثورة الشعب، ولكي يصل إلى هذا التوصيف الذي سعى إليه، بتقديم القضية السورية على أنها إرهاب يهدد الشرعية (الأسد أو الإرهاب)، وقد أسهمت جهات مخابراتية كبرى في جمع شتات الإرهابيين من مختلف دول العالم إلى ما سموه «مصيدة الذباب»، ونسيت الحكومات قضية شعب ثار من أجل الحرية وطالب بالكرامة وهدفه بناء دولة مدنية ديموقراطية تنهي مرحلة الدولة العسكرتارية الأمنية.

وحسبنا شاهداً على زيف ما يحدث من تمويه، لغز تنظيم «داعش» الذي تعجز ستون دولة ونيف عن محاربته والقضاء عليه، وها هو ذا في الجنوب السوري ببضع مئات من جنوده مستمر في عدوانه على الجيش الحر يساعده النظام بغطاء من القصف، فضلاً عن القصف الحليف على مناطق المعارضة الوطنية وعلى خطوط الإمداد في المنطقة الغربية من محافظة درعا، والأخطر تجاهل قوات التحالف الدولي لهجوم «داعش» وتقدمها نحو مزيريب وطفس والعجمي ودرعا المدينة وسواها من قرى المنطقة، وهذا كله يحدث اليوم، بعد أستانة وعهود الهدنة ووقف إطلاق النار.

لقد أقررنا بأن روسيا بدأت تقدماً طفيفاً نحو جدية في الحل السياسي عبر موافقتها على بحث قضية الانتقال السياسي، وإذا غضضنا الطرف عن فجيعة «الفيتو» الذي استنكره العالم، فسوف ننتظر من روسيا المتفردة بالشأن السوري جدية أقوى في غياب الولايات المتحدة عن مفاوضات جنيف، وإلا فسوف ينهار بنيان الحل السياسي، وستمتد المأساة السورية إلى عقود مقبلة، لا سمح الله.

اقرأ المزيد
٣ مارس ٢٠١٧
حدود القوة الروسية

بعد بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، سبتمبر/أيلول 2015، تناقلت وسائل إعلام عربية وعالمية تحليلاتٍ بشأن احتمال تطور الموقف في سورية إلى مواجهة روسية -غربية مباشرة، ووصل الأمر إلى الحديث عن حربٍ عالميةٍ ثالثة، تلوح في الأفق. تردّد تعبير "حرب عالمية ثالثة" على لسان متحدثين رسميين ومقربين من دوائر صنع القرار، في روسيا والغرب، وكذلك في المنطقة العربية، وأعادت وسائل إعلام عالمية نبش تصريحاتٍ قديمة لوزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، أطلقها عام 2011، عن حرب عظمى وشيكة قائلًا: "من لم يسمع طبول الحرب تدق فهو واهم... عندما تتحرك الصين وروسيا من غفوتهما سيكون الانفجار الكبير".

لم يأت الحديث عن صعود روسيا، وتحولها إلى قوة إمبريالية عالمية من فراغ، فالعالم اليوم يمر بمرحلةٍ انتقالية، بعد حقبةٍ خاطفة من هيمنة القطب الواحد، استمرت أقل من عقدين، وجاءت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، 2007، ثم الأزمة المالية العالمية، 2008، التي لم يتعاف منها الاقتصاد العالمي بعد، لتظهر أن النظام الأحادي غير قابل للاستمرار، فتلك الأزمة، بقدر ما هي عميقة وهيكلية؛ بيّنت أن الاقتصاد الأميركي لم يعد قادراً على تمويل الهيمنة الأميركية على العالم ودعمها. لذا؛ اتجهت إدارة أوباما، خصوصاً في ولايته الثانية، نحو كبح التدخل الإيجابي الأميركي المباشر في ملفاتٍ كثيرة، والانسحاب التدريجي المنظم من مناطق عدة في العالم، منها منطقتنا، والتركيز على أخرى أكثر حيويةً للولايات المتحدة، وهو اتجاه يُعبر عن إرادة الدولة وفكرها بمؤسساتها، وفي الغالب سيستمر على الرغم من كل جعجعة ترامب، وصقور إدارته.

في ظل هذا الواقع، كان طبيعيًا أن تتقدّم بعض القوى، وفي مقدمتها روسيا، لشغل الفراغ الذي خلفه أو من المتوقع أن يخلّفه الانسحاب الأميركي. لكن هل هذا يعبر عن بروز قوة بديلة أو منافسة للولايات المتحدة على الهيمنة العالمية؟ هل روسيا اليوم قوة عظمى عالمية؟ وإن لم تكن؛ هل تسعى إلى ذلك؟

كان وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم إيذانًا بانتهاء الفترة الانتقالية المؤلمة والقاسية التي عاشتها روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، والتي تدهور اقتصادها خلالها إلى أن أوشكت على إعلان الإفلاس، كما باتت وحدة أراضيها مهدّدة، خصوصاً بعد فشل حملتها العسكرية الأولى على الشيشان. كما فقدت الكثير من نفوذها في المحيط الحيوي لنظرية أمنها القومي، مع توغّل حلف شمال الأطلسي (الناتو) فيه، الذي لم يكتف بضم دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءًا من المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، بل تعدّى ذلك إلى ضم دول البلطيق التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي، ووصل نفوذه إلى القفقاز وأوكرانيا.

في ظل ذلك الوضع؛ كان هدف بوتين ونظامه، في البدء، محصوراً في تجاوز مرحلة بوريس يلتسين الكارثية، والعمل على ترميم جدران الدولة الروسية المتصدّعة الآيلة للانهيار، وفق نظام اقتصادي يعتمد إلى حد بعيد على مبادئ "رأسمالية الدولة" على حساب "السوق الحر"، ونظرية أمن قومي ترى العمق الروسي في نطاق "أوراسيا" أو القسم السوفييتي من "أوراسيا"، بحيث تكون روسيا مركزًا لمزيج حضاري، يجمع الروس السلاف المسيحيين الأرثوذوكس بالأقليات القومية المسلمة من سكان روسيا ودول الجوار، كما نظّر، في تسعينات القرن الماضي، الفيلسوف ألكسندر دوغين ملهم النظام الروسي الحالي، لا بل حتى غالبية معارضيه، بمن فيهم الشيوعيون.


أزمات ومشكلات
وعلى الرغم من أن روسيا بوتين نجحت في تجاوز مرحلة الخطر التي كادت أن تعصف بها نهاية التسعينات، إلا أن تحدياتٍ مصيرية مازالت تواجهها، والفشل في أي منها سيكون كارثيًا على مستقبلها، وفي مقدمها الأزمة الديموغرافية، والنزعات الاستقلالية في ظل تعدّد قومي وعرقي وديني، وسعي الغرب إلى عزلها عن محيطها الحيوي غربًا، والخلل في هيكل الاقتصاد، المعتمد إلى حد كبير على الصناعات الاستخراجية، والقدرة على بناء جيش عصري قوي قادر على تحقيق توازن قوى مع الغرب.

أولاً- الأزمة الديموغرافية: تعاني روسيا من أزمة ديموغرافية مركبة، فمن جهة؛ تعداد السكان بشكل عام يتأرجح بين التناقص والثبات. وفي العام الماضي، كان معدل نمو السكان قريباً من الصفر (0.06%). وعلى الرغم من أن عدد سكانها يبلغ 144 مليون نسمة، إلا أنه يعتبر ضئيلًا، قياسًا إلى جغرافيتها الشاسعة التي تمتد على أكثر من 17 مليون كيلو متر مربع، بكثافة سكانية تزيد قليلًا على ثمانية أفراد في الكيلو متر المربع، وهي من بين أقل الدول من حيث الكثافة السكانية في العالم، فعلى سبيل المثال تبلغ الكثافة السكانية لجارتها الصين نحو 144 فردًا في الكيلو متر المربع، وفي الهند 395، والولايات المتحدة الأميركية 34، وجميعها دول تمتد أقاليمها على مساحةٍ جغرافية شاسعة. ومن جهة ثانية؛ هناك تزايد في نسبة الأقليات القومية المسلمة على حساب الغالبية السلافية.

ثانياً- الخلل الهيكلي في الاقتصاد، والأزمة الاقتصادية بفعل العقوبات الغربية، وتراجع أسعار النفط: تظهر البيانات الرسمية حجم التراجع في مؤشرات الاقتصاد الروسي منذ فرض العقوبات الغربية، والتي ترافقت مع التراجع الكبير في أسعار النفط العالمية، حيث بلغ الناتج المحلي الروسي 15.390 مليار دولار عام 2014، ليتراجع نهاية العام التالي إلى 8.18 مليارات دولار فقط، كما سجلت نسبة النمو الاقتصادي تراجعًا ملفتًا من 4.3% عام 2011 إلى 0.7% فقط عام 2014، لتهبط بشكل حاد بعد عام، وتصل إلى -3.4، وكان معدل الاستهلاك 7.4% عام 2012، ليتراجع بعد هبوط أسعار النفط والعقوبات الغربية على روسيا إلى -9.6%، كما تراجع معدل الاستثمار من 10.2% عام 2011 إلى -7.6% عام 2015، وانخفض النمو في الانتاج الصناعي إلى -4.3% عام 2015 بعد أن كان 5.1% عام 2011. ووصلت نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 إلى 13.6% بعدما كانت 9.5% فقط عام 2011، وارتفع معدل التضخم من 6.1% عام 2011 إلى 12.9% نهاية عام 2015. وشهد عام 2015 انهيارًا كبيرًا في سعر صرف الروبل، حيث بلغ بالمتوسط 72.8 روبلاً مقابل الدولار الأميركي الواحد، بعد أن كان الدولار يعادل 32 روبلاً عام 2011.

ومن مراجعة الأرقام السابقة، يمكن القول إن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لم يجانبه الصواب، حين اعتبر الاقتصاد الروسي في حالةٍ يُرثى لها، في خطاب حالة الاتحاد عام 2015.

صحيح أن اقتصاد روسيا لم ينهرْ كما توقعت دوائر غربية، وصمد حتى الآن في وجه العقوبات الغربية وأزمة أسعار النفط، إلا أنه ما زال بعيدًا عن التعافي.

ثالثاً- بناء جيش عصري يحقق التوازن مع الغرب: أطلقت الحكومة الروسية، مطلع عام 2011، خطة التطوير الشاملة للقوات المسلحة 2011-2020، بعد الأداء المخيب للجيش الروسي في حرب جورجيا، 2008، بميزانية إجمالية 20 ترليون روبل، أي ما يعادل 656 مليار دولار بأسعار ذلك الوقت، بحيث يتم إنفاق 80% من ميزانية الخطة على شراء أسلحة حديثة، و10% على البحوث العسكرية، ومن المفترض، وفق ما هو مخطط، أن تصل نسبة المعدات والعتاد الحديث لدى كل أفرع الجيش الروسي إلى 70%، نهاية عام 2020.


الجيش وتحديثه
أكد الرئيس بوتين، في حديث له مع وكالة أسوشييتد بريس نهاية العام المنصرم؛ أنه لن يتم خفض موازنة خطة تحديث الجيش تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، لكن هناك مؤشرات تقول العكس، منها أنه تم الإعلان عن خفض ميزانية وزارة الدفاع بنسبة 5% للعام الحالي، كما ألمح بوتين إلى احتمالية تمديد الموعد النهائي لخطة التحديث، حين قال، في الحديث نفسه، إن من المتوقع انتهاء الخطة بعد خمسة أعوام، ما يُفهم منه أنها ستمتد حتى نهاية عام 2021، أي بعد عام من الموعد المقرّر.

لم يكن إطلاق روسيا خطة التحديث الشامل للجيش بهدف تحقيق تفوق عسكري على الغرب، بل هي محاولة لمعالجة أوجه القصور الكبيرة التي كشفتها حرب جورجيا على الرغم من النصر الروسي فيها، وستبقى هناك فجوة كبيرة بين الإمكانات التقليدية للجيش الروسي وقوات بلدان "الناتو" الغربية، وفي مقدمتها بالطبع الولايات المتحدة، انعكاساً، في المقام الأول، للفجوة الاقتصادية الهائلة بين القوتين. فحين تم إطلاق خطة التحديث الشامل للجيش؛ كانت فقط 10% من أسلحة القوات التقليدية الروسية حديثة، و20% من أسلحة القوات النووية. وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي أوضح أن التحديث سيشمل الأسلحة الذكية الدقيقة، وأنظمة الاتصال، والاستطلاع، والتحكم والسيطرة، والحرب الإلكترونية؛ إلا أن مفهوم التحديث غير واضح، هل المقصود به أسلحة حديثة كليًا أم تطوير للتي في الخدمة؟ وعلى كل حال، إطلاق التصريحات المبهمة، والتي تحمل أكثر من معنى، وإعطاء أكثر من رقم حول الشيء نفسه، أمر مألوف في السياسة الروسية.

فعلى سبيل المثال؛ عندما عرضت روسيا المنصة القتالية المدرعة، أرماتا، التي من أبرز نماذجها الدبابة تي 14 وعربة القتال المدرعة تي 15، منتصف عام 2015، أعلنت أنه سيتم تزويد الجيش بـ2300 قطعة بحلول عام 2021، ثم تم تمديد الموعد إلى 2025. بعد ذلك، أُعلن عن تعاقد الجيش الروسي على شراء 100 دبابة للتجربة، في سبتمبر/ أيلول 2016، من دون تحديد عدد الوحدات التي تم تسليمها بالفعل.

وما زاد من الشكوك بشأن إمكانية إحلال "أرماتا" مكان الأجيال السابقة من المدرعات الروسية التي تعود إلى العهد السوفييتي، وما زالت في الخدمة؛ الإعلان قبل أشهر عن برنامج لتطوير 400 دبابة من طراز تي 90 إيه أس، إلى النسخة الأحدث تي 90 أم، وذلك بتزويدها بمزايا عديدة في "أرماتا"، ومن بينها المدفع الجديد، ونظام أفغانيت للحماية النشطة، كما جرى قبل سنوات إطلاق برنامج لتحديث الدبابة تي 72 التي تشكل اليوم نحو 70% من أسطول الدبابات الروسي، بينما خرجت فيه مجايلتها الأميركية أم 60 من الخدمة تمامًا قبل 12 عامًا.

ويبدو أن التوقعات الطموحة التي رافقت الإعلان عن "أرماتا" حول أنها ستكون الدبابة الرئيسية في الجيش الروسي خلال السنوات القريبة المقبلة غير واقعية، في ظل تكلفة إنتاجها العالية نسبيًا، وسينتظر الجيش الروسي طويلاً قبل استلام الـ2300 نسخة التي يحتاجها. وحتى ذلك الحين، سيتم تطوير الأجيال القديمة من الدبابات في الخدمة، واعتبار نتاج عملية التطوير تلك التحديث المخطط بنسبة 70%.

وفي سلاح الجو، تأخرت روسيا كثيرًا في إنتاج طائرات حديثة من الجيل الخامس، وما زالت تستثمر في طائرات الجيل (4++) كسوخوي 30 و35، وميج 31 و35، لعدم قدرتها اقتصاديًا على تبني مشروع إحلال طائرات الجيل الخامس مكان الأجيال القديمة، ناهيك عن العقبات التكنولوجية، لتلحق بالولايات المتحدة التي بدأت بهذه العملية منذ 12 عامًا، فبنت حتى اليوم 345 طائرة من هذا الجيل من طرز إف 22، وإف 35 إيه، وإف 35 بي، دخلت الخدمة فعليًا في أساطيل سلاح الجو وقوات البحرية والمارينز، بالإضافة إلى 20 طائرة تحت الاختبار من طراز إف 35 سي، في إطار برنامج طموح لإحلال طائرات الجيل الخامس، بطرزها المختلفة، مكان طائرات إف 15، وإف 16، وإف 18، وهاريير، بينما لم تنتج روسيا سوى ثماني طائرات تنتمي للجيل الخامس فقط من طراز سوخوي باك فا تي 50، مازالت تحت الاختبار، ومن المتوقع دخولها الخدمة العام المقبل.

ورثت روسيا عن العهد السوفييتي قاعدة بحثية وعلمية عسكرية قادرة على الخروج بابتكارات وتطوير تكنولوجيّات عسكرية مذهلة، وتضع مكاتب التصميم المختلفة مخططاتٍ لأسلحة تضاهي، وربما تتفوق، على كثير مما لدى الغرب، لكن محدودية القدرة الاقتصادية حالت بين تصنيع تلك المخططات والنماذج، أو تصنيع كميات كبيرة منها، وإحلالها بالسرعة المناسبة مكان القديمة.

سلوك تدخلي
منذ عودة بوتين إلى الكرملين عام 2012، أخذت روسيا بقوة تنتهج سلوكًا تدخُليًّا في إقليمها القريب وخارجه، لم تمارسه من قبل، إلا في حالة جورجيا، ما دفع كتابًا وسياسيين كثيرين إلى الحديث عن طموح إمبريالي عالمي لروسيا، خصوصاً وأنه جاء مع ما يمكن وصفها حالة سيولة في النظام الدولي، في ظل تراجع الهيمنة الأميركية العالمية، وأزمة وجود تعصف بالاتحاد الأوروبي، واستمرار التحفظ الذي تنتهجه الصين في سياستها الدولية، إلا أن القراءة في أوضاع روسيا الاقتصادية والديموغرافية والعسكرية لا تدعم مثل هذا الاستنتاج.

حتى التدخل الروسي في سورية كان مدروسًا بعناية، ولتحقيق أهداف محددة، ليس من بينها بسط السيطرة الروسية التامة على سورية، كما يتضح من سعي الروس إلى تسوية تعترف فيها بنفوذ أميركي وتركي في سورية، ناهيك عن تقاسمها النفوذ مع الإيرانيين في مناطق سيطرة النظام، انعكاسًا لتقاسم المجهود الحربي، هي من الجو وهم على الأرض. تدرك روسيا ما يمكن أن يكتشفه بسرعة أي مطالع لخريطة البحر الأبيض المتوسط، أنه بحرية أطلسية، وهي تريد أن تحتفظ بموطئ قدم فيه، لتعزيز موقفها الاستراتيجي تجاه الغرب، لا كقاعدة إمبريالية توسعية داخل ملعب خصومها.

الهدف المركزي للسياسة الروسية الخارجية هو الحفاظ على المحيط الحيوي الذي يحقق نظرية أمن روسيا القومي، في إقليمها، وهي سياسةٌ دفاعية إلى حد بعيد، وإن بدت غير ذلك.

اقرأ المزيد
٣ مارس ٢٠١٧
من هي المعارضة السورية؟

الملفت في مفاوضات جنيف 4 السورية هو الخلاف حول المعارضة، التي سوف تحاور النظام، حيث ظهر أن هناك ثلاث معارضات، تتنافس على الجلوس لحوار النظام الذي لا يزال يرسل الشخص ذاته، والتي تعني مشاركته أنْ لا نتائج ممكنة، لأنه آتٍ ليكرّر الخطاب ذاته، الخطاب الذي يريد تكريس النظام، ولملمة بعض أطراف المعارضة للمشاركة في "حكومة وحدة وطنية"، كون أن منصب الرئيس غير مطروح للنقاش أو التفاوض، وحيث أن الأولوية للحرب على الإرهاب، الإرهاب الذي يصنعه النظام أصلاً.

هناك في جنيف وفد الهيئة العليا للمفاوضات، وهي التي تشكلت في الرياض انطلاقاً من مشاركة أطراف المعارضة كافة، وبالتالي، باتت تعبّر عنها، فهي تضم أكبر كتلتين معارضتين: هيئة التنسيق والائتلاف الوطني، وكذلك شخصيات عديدة. وهناك وفد مؤتمر القاهرة الذي من المفترض أن المؤتمر جرى تمثيله في الرياض، ومن ثم مؤتمر موسكو. وإذا كان وفد التفاوض الذي شكلته الهيئة العليا يعتبر "الممثل الشرعي"، بالضبط لأنه يضم أطياف المعارضة، فإن منصتي موسكو والقاهرة تعتبر كل منهما أنها تمثل المعارضة، وتريد وفداً موحداً مقسماً بالتساوي بينهما.

حين أخذت المؤتمرات تتوالى، وبات كل مؤتمر يعتبر أنه منصة للمعارضة، أشرت إلى الهدف من هذا التشتيت، حيث كان واضحاً أن روسيا تريد تشتيت المنصات، لكي تتحكم هي في تحديد من هي المعارضة، وبالتالي تهمّش المعارضات التي لا تريدها. كان هذا واضحاً حينها، لكن مع الأسف انساقت المعارضة وراء مؤتمراتٍ لم تعرف الهدف منها، وبات حينها عقد المؤتمر بعد الآخر موضة. وها هي تصطدم الآن بما "فعلت يداها"، حيث باتت في تنافس مع منصّات صنعتها هي. وعلى الرغم من أنها ممثلة في وفد التفاوض، إلا أن "خيالات مآته" التي اخترعتها باتت تنافسها، وتطالب بأن تكون لها حصة مساوية لها، فمؤتمر القاهرة الذي يطالب بحصته في وفد التفاوض شاركت فيه هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي، وجزء مهم من شخصيات الائتلاف الوطني، مع عدد محدود من الشخصيات المعارضة. وأصدر بيانات لا تختلف عن البيان الذي صدر عن اجتماع المعارضة في الرياض. لكن نلمس الآن أنه بات ورقةً لتقزيم وفد التفاوض، وبالتالي، باتت الشخصيات المعارضة المستقلة هي التي تستحوذ على منصة القاهرة، وتنافس الكتلة الأساسية التي قام عليها مؤتمر القاهرة. أخذت التسمية، واستحوذت على التمثيل، وباتت تريد المساواة مع كل المعارضة.

أما مؤتمر موسكو فيختلف قليلاً، على الرغم من أنه ضم هيئة التنسيق، لأنه يضم طرفا شارك في السلطة بعد الثورة، وسُحب لكي يوضع في وفد المعارضة، بناء على رغبة موسكو المباشرة، لكنه فشل. ولهذا، أخذ يدعو إلى مؤتمراتٍ في موسكو لكي يقول إنه المعارضة، أو إنه طرفٌ أساسي في المعارضة. هذا هو وضع الجبهة الشعبية للتحرير والتغيير، وهي الجبهة التي عارضت بخفةٍ، بعد أن كان بعض أطرافها يشير الى خطل السياسة الاقتصادية وآثارها المدمرة. وقد باتت تنشط ضمن محور موسكو، وبالتالي، ليس بعيداً عن النظام، ولا عن المنظور الروسي للحل الذي يكرّس الاحتلال الروسي لسورية.

هناك اختلاف بين هذه "المنصات" في فهم طبيعة الصراع وفي طبيعة الحل، والجوهري هنا قبول استمرار بشار الأسد أو رفضه، وكذلك دور بشار الأسد في الحل. لكن ما يهدف إليه الروس هو نشوء معارضةٍ "على مقاسها"، تقبل بما تريد هي، بعد أن ظلت مصرّةً على بقاء الأسد. وقد سمح "تخبيص" المعارضة بأن تلعب روسيا كما تريد، وأن تظل تناور إلى أن تصل إلى الحل الذي تريده بالشخصيات والهيئات التي تريدها. ولسوف تظل تقضم المعارضة على الأرض إلى أن تصل إلى ذلك. ما أظنه ضرورياً هو أن يُفسح المجال لمن يقبل "حكومة الوحدة الوطنية"، ليعود إلى "سقف الوطن"، فلا داعي للتنافس على "فطيسة".

لا حل لا في جنيف 4 ولا 5 ولا 6، ولا حل باستمرار وجود بشار الأسد ومجموعته.

اقرأ المزيد
٣ مارس ٢٠١٧
«حزب الله» لا يسرُّه ضحك روحاني

بالتأكيد، لن يستسيغ «حزب الله» الذي يديره «الحرس الثوري» دعوة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى الضحك بدلاً من البكاء، فيما هو يرفع شعار «كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء»، في تعميم لحال «الإبكاء» التي يفرضها في مناطق نفوذه، لتسري على اللبنانيين أجمعين، وتوسيع نطاقها لتشمل ما تيسر له من أرض سورية.

روحاني تساءل في معرض انتقاده المحافظين الذين ينوون استبداله برئيس جديد في أيار (مايو) المقبل، لماذا يرفض منافسوه أن «يتمتع الإيرانيون بمباهج الحياة، وكيف أن البكاء مهما بلغت مستوياته حلال، فيما الضحك والنشاط حرام؟».

لكن للحزب رأياً آخر. فهو يعتقد، على غرار المتشددين كافة، أن الفرح والسرور لا يتناسبان مع فكرة «المقاومة والجهاد» التي لا يمكن أن تستقيم سوى في أجواء من الحزن والعبوس والحداد والموت والانتحار، لذا يحظر أي احتفال في جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية بغير «أعياده» التي تقتصر على التذكير بالحروب والتهجير وسائر المآسي، مثل «يوم الشهيد» و «يوم المقاومة» و «عيد التحرير»، فيمنع الحفلات الغنائية، وينكر حتى على السكان المسيحيين في القرى الجنوبية الاحتفال بمناسباتهم خوف انتقال «عدوى السعادة» إلى جمهوره.

وقبل نحو ثلاثة أشهر، منعت هيئة «التعبئة التربوية» التابعة له طلاباً جامعيين في العاصمة بيروت كانوا يحتفلون بذكرى صديق لهم، من الاستماع إلى أغاني فيروز لما قد تسببه من «انشراح» قد يلهي مناصريه عن مهمتهم الجليلة: الندب الدائم تمهيداً لتحرير مزارع شبعا.

لكن «قيَم المقاومة» التي يقول الحزب إنه يدافع عنها ويحافظ عليها، لم تعد موجودة سوى في خطابات أمينه العام وتصريحات قادته ووزرائه ونوابه. فالحزب تحول عملياً في الجنوب اللبناني إلى حارس لحدود إسرائيل بموجب اتفاقات أبرمها وشكلت أساس قرار مجلس الأمن 1701، قبل أن تُسدى إليه وظيفة جديدة هي «تحرير» سورية من شعبها، لتظل ملائمة لحكم آل الأسد.

ولا تقنع أحداً التهديداتُ الأخيرة التي أطلقها نصرالله بقصف مفاعل ديمونا وخزانات كيماوية في حيفا، لأنها تندرج فقط في إطار التفاوض الإيراني مع الإدارة الأميركية الجديدة: التلويح بحرب مع إسرائيل للإبقاء على الوضع القائم، بما يتيح استمرار التنعّم بمكاسب الاتفاق النووي والتحايل على العقوبات المتبقية.

وإسرائيل نفسها تدرك مدى التزام «حزب الله» بالتفاهم الحدودي، ومدى مثالية الوضع في جنوب لبنان بالنسبة إليها، حتى أن رئيس وزرائها نتانياهو دعا قبل أيام إلى نقل هذه التجربة إلى قطاع غزة، مطالباً بنشر قوات دولية هناك لإرساء هدوء مماثل وإغلاق الجبهة مع حركة «حماس».

ذلك أن عداء إيران الصُوري لإسرائيل لا غرض له سوى المزايدة على العرب، بمن فيهم أصحاب القضية أنفسهم، وإقامة مهرجانات عن فلسطين معظم خطبائها ممن تلوثت أيديهم بالدم الفلسطيني.

ويذهب الحزب إلى أبعد مما ذهب إليه نتانياهو، فيدعو إلى إحياء نموذج «الشريط الحدودي» الذي كانت تقيمه إسرائيل إبان احتلال جنوب لبنان، وإنشاء شريط مماثل في سورية عند الحدود مع لبنان.

لكن ربما يكون روحاني مخطئاً. فلا شيء يُفرح في إيران التي يحكمها «الحرس» و «الباسيج» بالمعتقلات والترهيب، ولا في لبنان الذي صار رئيسه ناطقاً باسم «حزب الله»، يدافع عن سلاحه وشططه.

غير أنه في حال قرر المرشد تمديد فترة رضاه عن روحاني وإعادة «انتخابه» رئيساً، ربما يضطر «حزب الله» إلى مراعاة رغبته والنظر في دعوة الرئيس، وقد يجرب توزيع بعض «الحبوب» التي يتهم بتصنيعها وتهريبها إلى دول الخليج، على أعضائه وأنصاره ومريديه، لعلها تخفف عبوسهم قليلاً وتخفف عمّن يُبكونهم في طريقهم.

اقرأ المزيد
٣ مارس ٢٠١٧
موسم الصفقات بين واشنطن وموسكو من سورية إلى أوكرانيا

آفاق التفاهمات الأميركية – الروسية ما زالت مفتوحة على رغم تراجع الاندفاع لها في الآونة الأخيرة بسبب انحسار الثقة. جولة على الأجواء الروسية أثناء انعقاد مؤتمر «نادي فالدي» Valdai club هذا الأسبوع في موسكو أفادت بأن المقايضات واردة والرغبة في الصفقة الكبرى موجودة وإن سيناريوات الأخذ والعطاء تمتد من أوروبا إلى الشرق الأوسط. إنما لا أحد يهرول إلى التنازلات في موسكو. إنها مرحلة الإعداد للاستعداد والتلميح إلى مواقع الأخذ ومحطات العطاء مع رسم الخطوط الحمر وتحديد سقف التوقعات. وهنا جردة عن جغرافيا التفاهمات والتنازلات والصفقات، بناءً على أحاديث عدة مع مختلف المطلعين والمقربين من صنع القرار.

الصين فائقة الأهمية في التجاذبات الأميركية – الروسية. فلا موسكو جاهزة لفتح صفحة المساومات مع واشنطن، إذا كان في ذهن الولايات المتحدة خلق شرخ في العلاقات الروسية – الصينية الإستراتيجية في أكثر من مكان. ولا واشنطن مستعدة للعداء مع موسكو لدرجة دفعها كلياً وحصراً نحو بكين، تعزيزاً للتحالف الصيني – الروسي في محور ضد المصالح الأميركية. الرسالة التي يحرص الروس على إيصالها إلى الأميركيين هي أن الصين غير قابلة للأخذ والعطاء. وما يقوله الروس هو أنهم غير مستعدين للكشف عن مواقع المساومات مسبقاً، أو للإعراب عن جاهزية التنازلات خوفاً من «أن يطالبونا اليوم بإيران وغداً بالصين» في إشارة إلى نماذج المفاوضات الأميركية على التفاهمات. فالصين فوق الاعتبارات العادية في العلاقات الأميركية – الروسية.

أوروبا هي موقع المساومات حول أوكرانيا وحول حلف شمال الأطلسي (ناتو). القيادة الروسية رسمت خطاً أحمر اسمه القرم، وهي أوعزت إلى كل من يتحدّث عن شبه جزيرة القرم بأن لا عودة ولا تراجع عن ضمها إلى روسيا – أو استعادتها من أوكرانيا، كما يصر الروس – تحت أي ظرف كان، ومهما كان الثمن أو المكافأة. موسكو تصر في الوقت ذاته، على أن أي صفقة مع الولايات المتحدة يجب أن تنطوي على رفع العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا منذ أن قامت بضم القرم.

ما يلمح إليه الروس هو أن فسحة المساومة هي دانباس Donbass شرق أوكرانيا. هناك يمكن لموسكو أن تستغني عن نفوذها العميق جداً، والذي سبّب لها مضاعفة العقوبات ضدها، بتهمة توغلها عسكرياً في الأراضي الأوكرانية، في أعقاب غزوها وضمها القرم – كما تؤكد الدول الغربية وبالذات تلك التي أرادت لأوكرانيا أن تصبح عضواً في حلف شمال الأطلسي.

الرأي الروسي هو أن أكثرية العقوبات فُرضت بسبب دانباس وأن الاستغناء الروسي عن دانباس يجب أن يؤدي إلى رفع العقوبات الأميركية عن روسيا. الروس يريدون أيضاً ضمانات بألا تُستخدم الدول التي التحقت حديثاً بحلف «الناتو» من أجل نشر الأسلحة الغربية على الحدود مع روسيا في البلقان أو غيره. يريدون تحييد كييف عن «الناتو»، كي لا تكون هذه العاصمة الأوكرانية وكراً لحلف شمال الأطلسي.

لماذا يقتنع الروس بأن هذه الصفقة التي تبدو مختلّة ستكون مقبولة لدى الولايات المتحدة؟ «لأن أوكرانيا مكلفة جداً «مادياً»، يقول أحد المراقبين، ولأن مردود الكلفة الباهظة لا يستحق مثل ذلك الاستثمار، وفق التفكير الروسي. إنما هناك عوامل أخرى يريد الروس الترغيب فيها، بحيث يكون الأخذ أوروبياً والعطاء شرق أوسطياً. والكلام هو عن إيران.

تفهم القيادة الروسية حاجة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أن يكون حازماً وقاسياً مع إيران. لذلك تركت لنفسها أكثر من هامش للتأثير في طهران بالذات في سورية، إنما مع الإسراع إلى القول إنّ النفوذ الروسي مع إيران محدود.

مشهد العلاقات الروسية – الإيرانية معقّد وله تراكمات ميدانية وعسكرية وتطلعات إستراتيجية واقتصادية. أولاً، يرى الروس أنه لولا الطائرات الروسية في الأجواء السورية لتقديم الغطاء الجوي للمقاتلين التابعين لإيران، لكانت إيران وميليشياتها خسرت الحرب في سورية ودفعت ثمناً كبيراً. إذاً، يشعر الروس بالتفوق العسكري الذي حصد الانتصارات الميدانية وضمن محطات مصيرية في الحرب السورية مثل معركة حلب. وهم يشعرون أيضاً بأن سحب الغطاء الروسي الجوي للميليشيات الإيرانية في سورية سيعرّيها ويجعلهاعرضة للسحق في حال تم اتخاذ قرار سحقها أميركياً. وعليه إن لروسيا أدوات نفوذ حادة في إيران، إذا ارتأت استخدامها في إطار المساومات مع الولايات المتحدة.

إنما، مهلاً. هذا لا يعني أن روسيا جاهزة للاستغناء عن علاقتها التحالفية مع إيران أو لاستخدام ذلك النفوذ الكبير فيها، لإحداث تغيير جذري في مشروع إيران الإقليمي الممتد من العراق إلى سورية إلى لبنان وكذلك في اليمن. لذلك الكلام أن «للنفوذ حدوداً».

ففي سورية هناك شبه تنافس روسي – إيراني على اقتسامها إما ككل، أو كسورية مجزّأة عبر التقسيم. موسكو لن تتخلى عن إنجازاتها الشرق أوسطية عبر الحرب السورية وهي عازمة على توسيع قاعدة طرطوس وإنشاء قاعدة حميميم. موسكو تريد ضمانات لتواجد روسي دائم في سورية بلا قيود أو شروط، وهي بالتأكيد تريد أن تكون لها حصة كبرى في الاستثمارات وإعادة البناء في سورية. إنما موسكو تدرك أيضاً أن إيران التي حاربت في سورية وخسرت قادة عسكريين كباراً وليس فقط رجال الميليشيات غير الإيرانية، لن ترضى بالخروج من سورية بلا مقابل. بالعكس، إنها باقية، وروسيا راضية.

ما ذكرته التقارير عن اتفاقات أبرمتها الحكومة الإيرانية مع حكومة بشار الأسد مطلع هذه السنة لم تنحصر في الاستفادة الاقتصادية، إنما شملت ما سمي «استعمالات زراعية» في ضواحي دمشق. بكلام آخر، إنها لغة التغيير الديموغرافي والتقسيم عبر لغة «زراعية» على 50 مليون متر مربع في ضواحي العاصمة السورية. هذا بالطبع إلى جانب نحو 50 مليون متر مربع لإقامة ميناء نفطي في الساحل السوري الغربي، إضافةً إلى اتفاقات حول امتلاك إيران شركات الاتصالات والفوسفات في تدمر.

ظاهرياً، تبدو مسألة سحب الميليشيات التابعة لطهران من سورية في أعقاب الاتفاق على سحب جميع القوات الأجنبية موضع خلاف بين موسكو وطهران. عملياً، إن الفرز الديموغرافي والتواجد «الزراعي» يجعلان مسألة سحب القوى العسكرية التابعة لطهران واردة وسهلة، بعد ضمان الحصة الإيرانية في سورية الواحدة، أو سورية المتعددة والمجزّأة. أين التنازلات إذاً؟ إنها في ترتيب الدار بعد الدمار وفي ترتيبات الاستقرار القائم على اقتسام الكعكة السورية بين روسيا وإيران وتركيا. وماذا للولايات المتحدة، في الرأي الروسي؟ الجواب هو: القضاء على «داعش» والراديكالية الإسلامية (السنّية) أولاً، تحجيم إيران داخل سورية، بما لا يسمح لها بالامتداد إلى الحدود مع إسرائيل، ثانياً، نصب روسيا الضامن الأقوى والشريك للولايات المتحدة في سورية، بدلاً من ترك سورية بين المخالب الإيرانية وميليشياتها. وأخيراً، إذا رغبت الولايات المتحدة وأوروبا في الاستفادة من مشاريع إعادة بناء سورية، فهناك ما يكفي للجميع، وروسيا جاهزة لفتح الأبواب أمامها.

عنصر الكرد في الساحة السورية ما زال رهن المساومات والمقايضات بالذات مع تركيا وليس فقط مع الولايات المتحدة. واضح أن الأولوية التركية هي تنظيف حدودها من الكرد ومنع قيام دولة كردية مستقلة في سورية، لا سيما أن الدولة الكردية المستقلة في العراق باتت حتمية. هنا تتوافق المواقف التركية الرافضة تقسيم سورية – خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى دولة كردية – مع مزاعم روسيا بأنها هي أيضاً ضد التقسيم. إنما للواقع على الأرض قصة أخرى، ذلك أن إيران قد تكون الضامن وراء منع تواجد دولة كردية في سورية، بغض النظر عن التقاسم والاقتسام والتقسيم. فمن بين ما تقايض عليه الدول، منع دولة كردية مستقلة في غير العراق – لا في سورية ولا في تركيا ولا في إيران.

الكرد يقولون إنهم كانوا دائماً في الخط الأمامي للحرب على «داعش» والانتصار على التنظيم. إنهم «الأقدام على الأرض» التي دفعت الثمن واستحقت المكافأة. الدول العربية، لا سيما الخليجية، لم ترسل الجيوش لتكون «الأقدام على الأرض»، في العراق أو سورية، وبالتالي، خسرت المبادرة والزخم ووجدت نفسها خلف موازين المقايضات والصفقات واقتسام النفوذ والثروات.

إنها تأتي الآن إلى العراق كعنصر نفوذ مع السُنّة هناك، دعماً للمسعى الأميركي بألاّ تسقط المناطق المحررة من «داعش» في قبضة النفوذ الإيراني، أو في أيدي «الحشد الشعبي» العراقي وقيادة «فيلق القدس» وقائده قاسم سليماني في الموصل في العراق أو الرقة في سورية.

ماذا عن الرئيس السوري بشار الأسد في موازين المقايضات؟ البعض يقول إنه باقٍ لفترة ليست طويلة. آخرون يتحدثون عن ترتيبات بدأت لما بعد «تقاعده». وهناك كلام عن أسماء ومناصب وتفاهمات رهن إتمام الصفقات. وهناك من يقول إن كل الكلام عن مصير بشار الأسد من صنع المخيلات، لأن الصفقة الكبرى بعيدة، ولأن لا داعي لروسيا للاستغناء عن الأسد قبل أن تقتضي الصفقات ذلك – والمؤشرات في الولايات المتحدة لا تفيد بأن هناك استعجالاً إلى التخلص من الأسد، بل إن هناك استعداداً للقبول به كأمر واقع، مع اتخاذ إجراءات عزله عملياً.

الغائب عن صنع الصفقات بمعنى أن لا حديث عن ضغوط عليه في المعادلات الأميركية – الروسية هو إسرائيل إذ إن كلتيهما تريد إبعادها عن المساومات. فلسطين باتت في مرتبة ثانية وثالثة لكثير من العرب، لا سيما بعدما تربّعت إيران على صدارة قائمة الأولويات لدى الدول الخليجية، وبعدما بات اليمن أهم الأولويات.

أما في اليمن فروسيا ليست جاهزة لاستخدام أية أدوات ضغط ضد إيران، لتفرض عليها الكف عن التدخل هناك على الحدود مع السعودية، فهذه ليست أولوية روسية. هذه مسألة ربما تكون لاحقاً ضمن موازين الصفقة الكبرى التي لم يحن وقتها بعد. فهناك احتمال لتوتر في العلاقات الأميركية – الروسية وصعود محاور مضادة. فإذا كانت روسيا في محور مع إيران مقابل محور يضم الولايات المتحدة والسعودية، لن تتحمس موسكو مسبقاً وقبل الأوان إلى سحب الورقة الإيرانية المهمة من اليمن. فلا استعجال في الأمر بل إن الدول الخليجية تقدّر لروسيا مجرد عدم تعطيل مهماتها في اليمن.

«نادي فالداي» نظّم مؤتمراً مهماً تحت عنوان: أي غدٍ آتٍ إلى الشرق الأوسط؟ كان واضحاً أن روسيا تتموضع في ذلك الغد، وهي تضع الإستراتيجيات العملية لأي من السيناريوات إن كانت في ظل التفاهمات الأميركية – الروسية، أو في حال بروز تصادم المحاور. ما لم تكشف عنه جولة استنباض الأجواء هو تلك الأوراق الخفية الجاهزة للمقايضات السرية عشية الصفقة الكبرى. فهذا مبكر، ولم يحن الأوان.

اقرأ المزيد
٢ مارس ٢٠١٧
مفاوضات جنيف لن تقود إلى حلٍ في سورية

في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 نشرت في هذه الصفحة من جريدة «الحياة» مقالاً بعنوان «لماذا على المعارضة السورية حضور مؤتمر جنيف؟». أثار المقال حينها الكثير من ردود الفعل المرحبة وربما لعب دوراً في إقناع المعارضة التي كانت مترددة وقتها في حضور أول مفاوضات غير مباشرة عقدت في جنيف برعاية الأمم المتحدة، وكان المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي يشرف وقتها على المفاوضات ويضع أجندتها.

في ذلك المقال حاججت بأنه «يجب أن تظهر المعارضة السياسية والعسكرية سواء ممثلة في الجيش الحر أو الائتلاف حساً بالمسؤولية تجاه الشعب السوري المهجر والمشرد، إذ لا يعقل أننا لا نستطيع أن نقدم أجوبة لملايين السوريين حول انتهاء الأزمة وأمل عودتهم إلى بيوتهم، حول مصير أبنائهم وبناتهم المعتقلين في سجون نظام الأسد، والخوف يزداد يوماً بعد يوم حول وفاتهم تحت التعذيب في ممارسة اعتادت سجون الاحتلال الأسدي على ممارستها بحق كل المعتقلين من دون تمييز بين سنهم أو جنسهم» .

وبالتالي قلت إنه يجب أن تظهر المعارضة نوعاً من الإحساس بالمسؤولية تجاه كل ذلك، وأن النصر العسكري عبر «الجيش الحر» لا يمكن تحقيقه من دون تدخل عسكري خارجي بدا بعيداً وقتها على رغم استخدام الأسد السلاح الكيماوي في الغوطة في ٢١ أب (اغسطس) 2013، حيث تجنب الأسد حينها الضربة العسكرية الأميركية عبر صفقة روسية قضت بتسليم أسلحته الكيماوية مقابل تجنب الضربة.

ولذلك أضفت بأنه يجب أن تكون أولويات المعارضة السورية في التحضير لمؤتمر جنيف كالتالي:

- تجنب أي معارك جانبية تزيد من خسارة المعارضة قيمتها وسمعتها في الشارع السوري حول من سيحضر اللقاء؟ ومن هو الوفد الذي سيمثل السوريين؟ وتركيز النقاش والحوار حول لماذا سنحضر إلى جنيف؟ وماذا يمكن أن نحققه من حضور المؤتمر؟

- ينص اتفاق جنيف الأول على ما يسمى «جسم انتقالي كامل الصلاحيات»، وبالتالي لا بد للمعارضة من الإصرار على تشكيل مجلس انتقالي لا دور للأسد فيه، يمتلك الصلاحيات الكاملة بما فيها الجيش والاستخبارات ويشرف على المرحلة الانتقالية، إلى حين إجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة، تسبقها إجراءات شاملة تشمل عودة المهجرين والنازحين.

- يجب أن تصر المعارضة على تشكيل إجراءات ثقة ومسارات متابعة تشرف عليها الأمم المتحدة، وهي: مسار المعتقلين السياسيين بحيث يجري تسليم كل اللوائح إلى الأمم المتحدة لإجبار نظام الأسد على إطلاقهم من دون أي شروط، ومتابعة شؤونهم بحيث تستطيع المعارضة أن تكسب ثقة آلاف العائلات السورية التي لديها معتقلون في سجون الأسد، والمسار الثاني يتعلق بفك الحصار عن المناطق المحاصرة وعلى رأسها الغوطة الشرقية وحمص ومخيم اليرموك، وتكون مسؤولية الأمم المتحدة هي مراقبة وصول المساعدات الإنسانية في شكل كامل إلى هذه المناطق، أما المسار الثالث فهو التزام دولي ومن كل الدول الداعمة لمؤتمر جنيف بإعادة إعمار المناطق المتضررة والمنكوبة وإعطائها وأهلها تعويضات خاصة وسخية، فكل مناطق المعارضة أصابها الأسد بالدمار، وعلى المعارضة السياسية أن تعي ضرورة فتح كل الفرص لإعادة ملايين اللاجئين إلى بيوتهم بأمان وكرامة، فلم يذلّ السوري في عمره كما يخضع للإذلال اليوم في مخيمات اللجوء.

تلك إذن هي النقاط التي يجب أن يدور النقاش حولها بين المعارضة اليوم، ويجب عدم تحويل النقاش إلى نقاش حول الوطنية والخيانة. يجب أن تتصرف المعارضة بمسؤولية تجاه ملايين السوريين وبحنكة بحيث تتخلص من الأسد عبر مسار دولي يلتزم به المجتمع الدولي حول المرحلة الانتقالية.

للأسف لم يتحقق شيء من ذلك خلال السنوات الأربع الماضية وعقدت جولات تفاوضية عدة في جنيف أيضاً بلا معنى أو حتى مبرر لعقدها من دون تحضير من القائمين عليها في الأمم المتحدة.

وبالتالي وكما يقال المكتوب ظاهر من عنوانه: لن تقود المفاوضات المستأنفة مجدداً إلى أي حل، بل بالعكس تماماً ازداد الوضع على الأرض في سورية سوءاً وتدهوراً، فارتفع عدد الشهداء إلى ما يقارب النصف مليون، وزاد عدد اللاجئين إلى ما يعادل الستة ملايين أما النازحون في وطنهم ففاق عددهم 9 ملايين، وبالتالي تعرض أكثر من نصف السكان للقتل والتهجير والتشريد مع سياسات الأسد التي ازدادت شراسة وهمجية، والأسوأ من ذلك أن المعارضة السورية العسكرية تعرضت لهزيمة قاسية جداً بالخروج من مدينة داريا رمز الصمود والمقاومة في دمشق، وحلب التي كانت لوقت طويل رمز امتلاك المعارضة زمام المبادرة في الشمال السوري، وتتالت عمليات التهجير القسري بإشراف روسي – إيراني.

وحتى في الملف الذي يبدو لوهلة أولى أنه في غاية البساطة ولا يكلف النظام أي تكلفة سياسية أو عسكرية وهو الملف الإنساني، لم يفرج النظام عن المعتقلين وزاد عدد التقارير المروعة عن عمليات القتل والتصفية الجماعية داخل السجون وآخرها كان تقرير منظمة العفو الدولية عن سجن صيدنايا، أما المناطق المحاصرة فبدل أن تنتهي ازداد عددها وبات التجويع سياسة يومية لكسر المدنيين والمعارضة، وبات المجتمع الدولي يستمع إلى هذه الأخبار من دون اكتراث أو مسؤولية بأنه يجب القيام بشيء لوقف عمليات الإبادة هذه.

وفوق ذلك كله أتى فوز إدارة أميركية جديدة ترى الحل السوري في روسيا فجعل السوريين يترحمون ربما على أيام باراك أوباما وسلبيته الكارثية التي أوصلت سورية إلى دمار معمم على يد الأسد وحلفائه.

بالتالي ما هي نقاط القوة التي يمكن المعارضة أن ترتكز عليها في مفاوضاتها السياسية في جنيف؟ عصفت ذهني كثيراً فلم أجد ما يستحق عناء الذهاب إلى جنيف.

والأسوأ من ذلك كله أن المعارضة السياسة تشظت إلى معنى ضياع الهوية السورية تماماً، فتحالفاتها باتت هي التي تفرض عليها قرارها ولم يعد القرار الوطني موجهاً لها أو بوصلة لتحركاتها.

إذاً، ما الحل؟

الحل يكمن في عملية تعبئة جماعية للمعارضة بما أسميه عملية «التحشيد المدني» من أجل التغيير، وهذه تشمل المهجرين واللاجئين والسوريين في المناطق المحررة وحتى في مناطق النظام، إنهاء عهد ما يسمى الفصائل المسلحة والتوحد تحت راية وطنية واحدة، وفي الوقت نفسه خلق مناخ سياسي ضاغط دولي وإقليمي وداخلي باتجاه مطالب محددة وواضحة مثل الإفراج عن المعتقلين كلهم وإنهاء وصمة العار و «المسالخ» البشرية التي تستمر تحت أعيننا، والتركيز على المطالب الإنسانية في كسر الحصار عن المناطق المحاصرة.

يجب على المعارضة السياسية العمل على تشكيل قطب مواز مؤثر وفعال عبر تكثيف الاجتماعات الدورية والاتفاق على عدد من الخطوات السياسية ذات الأثر الجماهيري مثل الدعوة إلى عدد من الاعتصامات السلمية والعلنية في شكل مشترك داخل سورية وخارجها.

علينا أن نعتمد على الشباب كشريحة محورية في بناء التراكمات السياسية على أرض الواقع، ففعاليتهم في المشاركة تؤشر إلى الديمومة والاستمرارية والقدرة على الوصول إلى أكبر الشرائح تأثيراً في المجتمع السوري بحكم كونه مجتمعاً شاباً كما يدل على ذلك متوسط العمر في هذا المجتمع.

والجزء الأخير من عملية التحشيد يتعلق ببناء إستراتيجية واضحة ومحددة الخطوات والأهداف لعملية الانتهاء من الألم وإشاعة الأمل بأن التغيير في سورية ليس ممكناً فحسب بل مقبل بكل تأكيد

اقرأ المزيد
٢ مارس ٢٠١٧
بين مفاوضات السوريين ومفاوضات إسرائيل مع الفلسطينيين

استبدل النظام السوري خلال السنوات الست الماضية المصطلحات الدولية في التعامل مع ثورة الشعب السوري، محولاً الأنظار عنها من صراع سياسي إلى قضايا متشابكة من إنسانية وإغاثية وحرب دامية على الإرهاب، ولاحقاً المشاركة في الإدارة وآليات الوصول إلى ذلك، وإعداد دستور جديد وقانون انتخابات، وكل ما من شأنه أن يغير معادلة أن الثورة تعني التغيير الكامل، لتصبح الثورة ومسألة التغيير السياسي في مكان، وطاولة المفاوضات في مكان آخر.

وفي مقاربة واضحة المعالم مع تعامل إسرائيل في المفاوضات الفلسطينية، بدءاً من طرق حصار المدن والمناطق وعزل بعضها عن بعض ومروراً بتهجير السكان وترهيبهم، ووصولاً إلى طاولة مفاوضات عقيمة أبدت إسرائيل رغبتها في استمرار العملية التفاوضية إلى ما لا نهاية، وفي تعبير آخر طاولة تفاوض لا تمنع بقاء الحال على ما هو عليه، ولا تفيد في إعادة الحقوق الأساسية لتكون فوق تفاوضية، كحق الإنسان في الحياة الآمنة في بيته وعلى أرضه مع حقوق مواطنة كاملة.

ورغم الفروقات الكبيرة بين ثورة شعب من أجل الحرية ونضال شعب ضد احتلال إسرائيلي لأرضه، وهذا الفرق الكبير بين القضيتين، لكن المدهش أيضاً وجود تشابه كبير بينهما، على الأقل في العمليتين التفاوضيتين السورية- السورية، والفلسطينية- الإسرائيلية، ففي الحالين مثلاً لا يوجد اعتراف بالشعب أو بحقوق هذا الشعب، فلا إسرائيل تعترف بوجود الشعب الفلسطيني بوصفه شعباً له حقوق، ولا النظام السوري يعترف بوجود شعب له حقوق، فالشعب الذي يعترف به النظام هو من يحمل السلاح معه ويدافع عن سورية الأسد، فهو يعتبر سورية ملكاً خاصاً له، وإرثا عائلياً، ما يفصح عنه شعار: سورية الأسد أو نحرق البلد، وما تبقى من السوريين هم مجموعة من الإرهابيين أو مرتبطين بمؤامرة خارجية أو لا لزوم لهم في «سورية المفيدة» أي «سورية الأسد» لا أكثر.

كل شيء مسموح به تحت سقف النظام الحاكم: تغيير وزارة، أو تغيير مجلس الشعب، وحريات اقتصادية وإعلامية، بشرط ألا تهدد سقف النظام، ولا تقترب من مناطق سيادته (السيطرة على الموارد والقرار والجيش والأمن)، والأمر نفسه في إسرائيل أيضاً، التي تسمح للفلسطينيين بحكم ذاتي، أو حتى بإقامة دولة منقوصة السيادة، لكن السيادة الفعلية على الأمن والسلطة والموارد تبقى لإسرائيل.

أيضاً، في المفاوضات عملت إسرائيل على تجزئة القضية الفلسطينية، بمعنى أن القضية لم تعد تتعلق بدولة تحتل أرض شعب آخر وتصادر حقوق مواطنيه، وإنما قضايا متعددة ومختلفة وكل قضية يفترض حلها بمعزل عن غيرها، إذ هناك قضية اللاجئين، والقدس، والحدود، والمستوطنات، والأمن، والمياه، والعلاقات الاقتصادية، والمعتقلين، وقضية مواجهة الإرهاب... إلخ، وهذا ما اشتغل عليه النظام بدعم كبير من روسيا وإيران، ولاحقاً مجموعة الدول التي وجدت مصالحها متقاطعة مع هذه الرؤية، فتشعبت القضية السورية وتجزأت لتصل إلى مسارات عديدة، كل مسار يحتاج إلى «جنيفات»، وكل جولة في جنيف تحتاج إلى قاموس لتفسير مضامينها، إذ يرفض النظام ومن يوافقونه بشكل مطلق اعتبار الثورة قضية سياسية، أو قضية شعب يريد التغيير السياسي من أجل الحرية والكرامة والديموقراطية والمواطنة، لأن كل ذلك يمس وجوده كنظام، ولذلك فهو عمل بكل جهوده على تحويلها قضية اعتداء خارجي، أو قضية إرهاب، أو قضية صراع بين الأقليات، أو قضية طائفية، أو قضية إنسانية أو إغاثية للاجئين والنازحين.

المتابع اليوم لتفاصيل ما يقدمه الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا لحل الصراع السوري- السوري، من اقتراحات للدخول في العملية التفاوضية التي لا تزال مستعصية على النظام والمعارضة، يستذكر ما حدث في اتفاق أوسلو عام 1993 وكيف عملت إسرائيل على مرحلة حل القضية الفلسطينية، ومن يراجع اتفاق أوسلو، يلاحظ وجود مرحلتين، انتقالية مدتها خمس سنوات تتعلق بإيجاد حلول موقتة وجزئية، ومرحلة نهائية تناقش القضايا الأساسية، لكن من دون تحديد أي جدول زمني، ومن دون أي ضمانات. في المفاوضات السورية توجد أيضاً مرحلة انتقالية، لكنها لا تهدد النظام، الذي يعمل، مع حلفائه، على اعتبارها مرحلة لإعادة تعويمه، بل يسعى خلالها النظام لتجنيد إمكانات خصمه المعارض في الحرب المزعومة على الإرهاب، وهي الحرب التي يمكن أن تمتد وتتمدد وفق المصلحة الدولية التي تتضمن أيضاً مصلحة النظام في «عدم الانتقال السياسي».

وعلى هدى إسرائيل بما فعلته من تقسيم للأراضي في الضفة الغربية التي لا يتنازع على ملكيتها الفلسطينية أحد، وتحويل المفاوضات إلى لعبة علاقات عامة، أو إلى مسار عبثي لا جدوى منه، يفعل النظام السوري الشيء ذاته كما لاحظنا من جنيف1 إلى جنيف4 إضافة إلى مسار آستانة، وما كان للنظام أن يفعل ذلك لولا أنه وجد إسرائيل مثله الأعلى في الضرب عرض الحائط بكل القرارات الدولية التي صدرت، وستصدر، لتبقى المفاوضات حفلات سمر يراق خلالها مزيد من الدم السوري.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان