لا يكفي تحرير الموصل والرقة ليستقيم الاستقرار في العراق وسورية. وأن يقوم إجماع دولي - إقليمي على محاربة الإرهاب في العراق وسورية لا يعني أن القوى الكبرى أطلقت مسيرة تفاهم على نظام إقليمي يشكل لبنة أساسية في النظام الدولي. الصراعات الأهلية في الإقليم تغذيها نذر حرب باردة بين كبار كثر بعيدين وقريبين. والمشهد الاستراتيجي الدولي مقبل على تغييرات عميقة مع اندفاع الإدارة الأميركية الجديدة إلى تغيير قواعد اللعبة. أوإلى تصحيح ما تعتبره خللاً أصاب قدرة الولايات المتحدة وحضورها العالمي ومؤسستها العسكرية ومصالحها القومية. في مقابل هذا التوجه دعا وزير الخارجية الروسي أخيراً إلى نظام دولي جديد لا تهيمن عليه الدول الغربية. وأطلق عليه تسمية «نظام ما بعد الغرب». إنه تحد روسي كبير سيواجه الرئيس دونالد ترامب الذي يدعو إلى رفع بلاده إلى الموقع الأكثر تفوقاً في العالم. أي إلى ترسيخ موقعها في النظام الذي عقب سقوط جدار برلين ويتعرض منذ سنوات لاهتزازات جذرية... إلا إذا كانت هذه الخطابات العالية اللهجة من مقدمات أو شروط الاستعداد للجلوس على طاولة التفاهم لإبرام ما يمكن من تسويات وصفقات مقايضة.
راقب الأميركيون في السنوات الأخيرة الطموحات الكبيرة للصين وروسيا اللتين استعجلتا وتيرة هيمنتهما على ما تعدانه فضاءهما الأمني ومجال مصالحهما الاستراتيجية. وما رفع حمى هذا السباق لسيطرتهما على محيطهما الجغرافي، من شرق آسيا إلى شرق أوروبا والشرق الأوسط أيضاً، انكفاء الإدارة الأميركية السابقة أو عجزها أيضاً عن المواجهة. تجلى هذا العجز مع تسليم الرئيس السابق جورج بوش الإبن باجتياح الروس مناطق واسعة من جورجيا. وتفاقم الأمر مع عجز خلفه باراك أوباما عن مواجهة سياستهم في زعزعة استقرار أوكرانيا وضمهم شبه جزيرة القرم. ثم في اندفاعهم نحو سورية حيث أقاموا قواعد ثابتة منطلقاً إلى الإقليم كله. هذه التطورات نجمت عن سياسات الرئيس السابق وإحجامه عن الانخراط في الأزمات الإقليمية. وتعويله على وجوب مساهمة دول كبرى أخرى في تحمل المسؤولية عن معالجة أزمات العالم. لذا تسعى الإدارة الحالية إلى القطع مع استراتيجية مهادنة دامت أكثر من ثماني سنوات. تسعى إلى تعويض ما فات. الرئيس ترامب كرر في الأيام الأخيرة ما كان أعلن أثناء حملته الانتخابية. سيعيد بناء الجيش، واعداً بأنه «سيكون أضخم تطوير للجيش في تاريخ أميركا». كما وعد برفع الترسانة النووية وتجديدها لتكون الأكثر تفوقاً. هذه القوة هي التي ستفرض السلام كما قال. وهو قول موجه إلى الكبار، إلى بكين وموسكو التي سارعت إلى التعبير عن انزعاجها. وليست المرة الأولى تعبر فيها عن شكوكها في احتمال التفاهم المرضي مع الإدارة الجديدة. وموجه أيضاً إلى القوى الإقليمية الكبرى والحركات التي بدا في العقد الأخير أنها تمددت هي الأخرى لملء فراغ خلفه الإنكفاء الأميركي في مواقع كثيرة خصوصاً في الشرق الأوسط.
الانسحاب الأميركي من العراق نهاية العام 2011 كرس هيمنة إيران على هذا البلد. وعزز طموحها إلى ملء الفراغ في الإقليم بعد تحول استراتيجية أوباما نحو شرق آسيا والهادىء حيث أيضاً لم تفلح في صد الصين. والابتعاد عن أزمة سورية في السنوات الست الماضية دفع روسيا إلى التدخل الواسع في هذا البلد. وشجع قوى إقليمية على تدخلات مماثلة. ولا شك في أن تحرير الموصل والرقة، وهما أولوية في استراتيجية الرئيس ترامب، سيدفعه إلى أهدافه الأخرى وعلى رأسها الحد من نفوذ الجمهورية الإسلامية التي أطلق عليها أركان إدارته شتى النعوت: فهي أول دولة راعية للإرهاب، وأكبر دولة تزعزع استقرار الشرق الأوسط... أي أن القضاء على «داعش» سينذر ببدء الصراع على مواقع النفوذ، خصوصاً في العراق وسورية. لن يكون الأمر سهلاً. هناك قوى أخرى حاضرة في الميدان. لن يقتصر الصراع على واشنطن وموسكو. تحت هذه المظلة تدور حروب مفتوحة بين إيران وتركيا، وبين الأولى ودول عربية عدة.
واضح أن القوتين الأميركية والروسية تتنافسان على تقاسم المنطقة. يستدعي هذا بالضرورة إعادة رسم حدود لتدخل الآخرين. الولايات المتحدة تطمح بدور كبير في العراق كما كان الأمر قبل انسحاب قواتها من هذا البلد. ترغب في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لن يكفيها الاعتماد على حليف ثابت هو الكرد أو الفريق الممسك بمقاليد السلطة في كردستان. صحيح أن إيران تجهد للإحتفاظ بقرار بغداد. لكن ثمة سبلاً لإضعاف حضورها في عاصمة الرشيد. يمكن واشنطن مواصلة الرهان على القوات النظامية التي أعادت تأهيلها أداة رئيسية للحد من تغول ميليشيات «الحشد الشعبي» وتقويض سيطرتها. سيكون على البنتاغون مواصلة برامج الدعم والتسليح والتدريب للمؤسسات العسكرية والأمنية. وسيكون على إدارة ترامب استغلال الانقسامات بين القوى الشيعية المتنافسة وما تلحقه من ضعف في الحضور الإيراني. وبين هذه القوى من لا تستسيغ الهيمنة الإيرانية وعلى رأسها المرجعية في النجف والتي تحرص على علاقات متوازنة وطيبة مع الولايات المتحدة تخفف من غلواء طهران المرتبكة الآن بين استحالة إعادة تعويم حليفها نوري المالكي، وضبط توجه سياسة خلفه حيدر العبادي الذي يخوض والآخرين معركة تحالفات مبكرة للانتخابات العامة السنة المقبلة.
وربما كان على واشنطن أيضاً الدفع نحو قيام فدرلة كاملة لبلاد الرافدين، كما نص الدستور. سيساهم ذلك في حلحلة المشكلة بين بغداد وكردستان، وبين القوى العربية المتصارعة مذهبياً أيضاً، وحتى بين القوى الشيعية نفسها. إذ تشي الصراعات القائمة حالياً بين هذه القوى بالبون الشاسع في تعدد الرؤى إلى مستقبل النظام المقبل. فالمرجعية نأت بنفسها عن صيغة التسوية السياسية التي صاغها التحالف الوطني للقوى الشيعية. ومثلها فعل السيد مقتدى الصدر الذي ذهب أبعد في طرح مبادرة لقيت ترحيباً في أوساط المكونات الأخرى للبلاد. ويمكن واشنطن أيضاً أن تساهم أوتشجع عودة العرب إلى بغداد، كمثل الزيارة التي قام بها أخيراً وزير الخارجية السعودي عادل الجبير للعاصمة العراقية. فلا يبقى تقاسم القرار مقصوراً عليها وعلى طهران، كما كانت الحال منذ الغزو إلى اليوم. إن انخراط أميركا وعودة العرب يمكنهما مساعدة أهل السنة لاستعادة دور لهم في إدارة البلاد في إطار صيغة سياسية جديدة على أنقاض «نظام المحاصصة» الحالي. فهل ينجح ترامب بعد تحرير الموصل في مواجهة النفوذ الإيراني في العراق وإخراج قاسم سليماني من بغداد وحل ميليشياته؟ هل سيحقق أهدافه من دون مزيد من الحروب والمواجهات؟
السؤال نفسه ينطبق على سورية. أي هل يمكن القوى الكبرى فرض إرادتها على القوى الإقليمية كما كان يحدث أيام الحرب الباردة قبل سقوط المعسكر السوفياتي؟ فهل ستنجح روسيا مثلاً في حل الميليشيات والحد من نفوذ القوى الإقليمية في بلاد الشام؟ القضاء على فكرة بناء الميليشيات في المشرق العربي وحده كفيل بإرساء اللبنات الأولى على طريق بناء نظام وطني جامع بديلاً من «دويلات» مذهبية وعرقية في كل من سورية والعراق. لن تكون مهمة الرئيس بوتين سهلة. هو يحجم الآن عن مواجهة معلنة مع إيران وحتى مع تركيا قبل اتضاح صورة العلاقة مع الإدارة الجديدة. لكن تحرير الرقة بعد الموصل سيدفعه عاجلاً أو آجلاً إلى مواجهة «الشركاء» المنافسين في الميدان السوري. ولا يمكنه أولاً تجاهل حضور اميركا في الشمال الشرقي للبلاد، وعلاقتها مع تركيا وحلفاء عرب تقليديين، وإن كان أراحه قرار الإدارة وقف توريد السلاح إلى الفصائل. وحتى إن كان هو قادراً بعلاقته مع الجمهورية الإسلامية على إعاقة التوجه الأميركي في أرض الرافدين. لا يبقى أمام القوتين العظميين سوى التسليم واحدتهما للأخرى بتبادل مصالح. أي أن يسلم الكرملين للبيت الأبيض في العراق فيسلم هذا له بسورية.
ولكن تبقى هنا وهناك مشكلة الأطراف الأخرى المعنية بما يجري في هذين البلدين وأولهما إيران وتركيا. لم تترك طهران وسيلة لإبعاد أنقرة عن الساحة العراقية. وها هي الأخيرة تطمح إلى اقتطاع منطقة واسعة في شمال شرق سورية. والسؤال كيف سيقلم الكبيران أظافر هاتين القوتين بعد القضاء على تنظيم «داعش» إذا كان عليهما فرض الاستقرار للحفاظ على مصالحهما؟ لا شك في أن الكرملين الذي يحاذر المواجهة المباشرة مع الجمهورية الإسلامية سيجد نفسه عاجلاً أم آجلاً أمام قرارات لا مفر منها. واضح أن مشروع كل منهما يختلف عن مشروع الآخر. لا يمكن روسيا بعد كل هذا الدور في سورية أن ترضى بتسوية تهدد بتقسيم بلاد الشام. سيكون ذلك إنجازاَ هزيلاً لم يكن ليستحق كل هذا التدخل وإقامة قواعد ثابتة. لن ترضى ببقاء ميليشيات تنافس المؤسسة العسكرية أو أن يبقى رأس النظام أقرب إلى طهران منه إليها. ولن تقبل بسيطرة تركياعلى مناطق واسعة شمال سورية أياً كانت الذريعة. ستكون هذه من المهمات الصعبة أمامها في المرحلة المقبلة، عندما يحين رفع يد الرئيس بشار الأسد عن الجيش وإبعاده عن السلطة. فلا يكفي أن تجهد لترسيخ وقف النار وتحث الخطى البطيئة لاعتماد صيغة سياسية متعثرة حتى الآن تحول دون العودة إلى الحرب. إنها مجرد هدنة لا غير. ستلجأ مجبرة بعيد حين إلى مواجهة الحضورين الإقليميين الطاغيين. ولن يمر الأمر بسلام بلا حروب ومواجهات... إلا إذا ارتفعت وتيرة الحرب الباردة وعندها لا مفر من تسعير حروب بالوكالة في الإقليم كله لن تنتهي بانتهاء دور «داعش».
قبل أيام، زارت بيروت مارين لوبن، زعيمة «الجبهة الوطنية» العنصرية والمرشحة للانتخابات الرئاسية التي ستجرى في بلدها فرنسا في مايو المقبل. سبق هذه الزيارة، على ما رأى مصدر في حزبها، تحديد هدفها: إنه «توجيه رسالة دعم إلى مسيحيّي الشرق».
لوبن إياها معروفة بموقفين من قضايا العرب والمسلمين: الأول هو العنصرية ورُهاب الإسلام اللذان يستهدفان بصورة أساسية المهاجرين من المغرب العربي، وكذلك الفرنسيين من أصول مغاربية. وفي هذه المسألة، كما في غيرها، تبقى لوبن ابنة أبيها جان ماري لوبن الذي أسس «الجبهة الوطنية» وبنى أساسات العمارة العنصرية في الخطاب المعادي للإسلام والمسلمين في فرنسا.
أما الموقف الآخر لزعيمة «الجبهة الوطنية» فيطال سوريا. فهي دافعت طويلاً عن بشار الأسد، داعيةً الفرنسيين والغربيين عموماً إلى «الحوار معه». لا بل رأت جازمةً، في مقابلة صحفية أجريت معها مطلع الشهر الماضي، أنّ «الأسد سيربح هذه الحرب ضدّ الأصوليّة الإسلاميّة» على ما سيتبين لمن «يستمع إلى السوريين».
في هذا المعنى فزيارتها لبنان لا تعدو كونها استثماراً عنصرياً في أزمات المنطقة وما تعانيه شعوبها وأقلياتها. وهو ما مهّد له الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب بإعلانه موقفاً من الأقليات يغاير موقفه من الأكثريات المسلمة في سبع دول مُنع رعاياها من دخول بلاده.
ولأن لبنان ذو خصوصية ولون مسيحيين في منطقة الشرق الأوسط، اختارته لوبن لزيارتها. لكنْ لسبب آخر تماماً كان قد اختاره أيضاً المرشح الذي سينافسها في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وزير الاقتصاد السابق إيمانويل ماكرون. ذاك أن الأخير الذي حضر إلى بيروت في 24 يناير الماضي، دعا إلى ما أسماه «سياسة متوازنة» حيال النزاع في سوريا، من دون أن يتلاعب بمسائل الأقليات والأكثريات في العالم العربي، ومن دون أن يُعرف بأية خلفية عنصرية أو مناهضة للإسلام وللمسلمين، أو محابية لبشّار الأسد ومجازره.
واقع الحال أن الفارق الأكبر بين المرشحين المتنافسين أن لوبن لا تزال تفكر وتتحرك بموجب المنطق الكولونيالي القديم، فيما يتصرف ماكرون محكوماً برؤية لمستقبل تتراجع فيه العداوة والتشنج بين الشعوب والأديان والثقافات لمصلحة أفق إنساني أكثر انسجاماً وتكاملاً.
ولهذا الغرض زار ماكرون أيضاً الجزائر وأدلى بحديث إلى تلفزيونها أثار ضجة واسعة في بلاده. فهو رأى أن الأفعال الفرنسية في ذاك البلد (الذي لم يستقل عن فرنسا إلا في 1962 وبعد حرب شديدة الدموية دامت ثماني سنوات) كانت «جريمة ضد الإنسانية»، كما كانت «بربرية في أساسها، وتشكل جزءاً من ماضينا الذي ينبغي علينا أن نواجهه بالاعتذار عنه». ولم يتردد ماكرون في زيارة «نُصب الشهداء» في الجزائر، على ما في ذلك من رمزية، مؤكداً رغبته في «عقد تسوية بين ذاكرتي البلدين».
وكان لزيارته هذه وما صدر عنها أن أطلقا موجة من الانتقادات الحادة له في فرنسا، تجاوزت منافسيه في الانتخابات المقبلة إلى أصوات لم تألف مواجهة التاريخ الاستعماري والاستيطاني في الجزائر، ناهيك عن الاعتذار عنه.
في الحالات كافة، وحتى لو كان المرشح الشاب يطمح إلى كسب أصوات الفرنسيين من أصول مسلمة، وهذا حق شرعي، فإن نبرته تختلف تمام الاختلاف عن نبرة الزعيمة العنصرية. وسيكون في وسع الجزائريين أن يعززوا هذه النبرة إذا ما أقدموا هم أيضاً على تبني رواية لتاريخهم أقل توتراً، وأكثر توكيداً على الشراكات التي نشأت، في الماضي والحاضر، بينهم وبين الفرنسيين.
ويجوز القول، من غير مبالغة، إن جانباً كبيراً من الانتخابات الفرنسية المقبلة بات يتم خوضه في العالم العربي. ومن هذه الزاوية تُفهم زيارات المرشحين إلى لبنان والجزائر، وربما إلى بلدان أخرى في الأسابيع التي تفصلنا عن موعد المجابهة الكبرى.
تبقى قولة الاستراتيجي الألماني كلاوزفيتس "الحرب امتداد للسياسة لكن بوسائل أخرى" التعبير المقتضب، والوحيد الذي يمكن اقتباسه لوصف الاستعصاء السوري المديد، والكلام الأوضح لفهم موقف القوى الدولية والإقليمية الساعية إلى حل سياسي، بالاتكاء على وسائل عسكرية.
بات واضحاً أن شكل التمثيل المعارض في جنيف 4 يعكس زاوية النظر الدولية الجديدة للأزمة السوريّة، والتي هي خليط سياسي وعسكري، فقد سبق أن حاول المجتمع الدولي إخفاء العسكري (المعارض) لصالح السياسي من دون جدوى، فبموجب قواعد الحرب الدائرة، رضخ المجتمع الدولي إيّاه لفكرة وجوب أن يجلس العسكريون إلى جوار السياسيين، متجاوزاً بذلك الحالات السابقة، ولعل مفاوضات أستانة التي أنتجها التقارب الروسي – التركي شكّل همزة الوصل بين جنيف الفائت وجنيف الجاري، من حيث رسم شكل الوفد المعارض، وبالتالي طبيعة النقاشات العمليّة المتوقعة فيما خص الهدنة والأعمال العسكرية. ولا يجانب واحدنا الصواب في القول إن تحوّل قبول حضور المعارضة المسلحة ومشاركتها يمثّل، في أحد أوجهه، إغراءً روسياً مكشوفاً للفصائل المسلحة التي وصفتها موسكو يوماً بأنها "إرهابية"، لحضور محادثات جنيف 4، حيث عبّرت روسيا، صراحةً، بوجوب إشراك العسكريين من المعارضة في محادثات جنيف، بتمثيل صحيح إلى جوار السياسيين، ما شكّل ملمحاً جديداً في محاولة تفكيك الانسداد السياسي وحلحلته في الجولات السابقة من المفاوضات.
وفي ما يشبه قول نبوءة ما، عبّر المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، في مؤتمر ميونخ الأمني أواسط فبراير/ شباط الجاري، عن نظرته التشاؤمية بقوله إنه لا يستطيع القول إن محادثات جنيف ستنجح، وكذلك صراحته بشأن غموض الموقف الأميركي من الحل السلمي، وعدم إبداء رأي واضح إزاء الوضع الراهن، ما يعد من العقبات المنتظرة.
يبدو أن كثيرين أخطأوا في توصيف العلاقات الروسية - الأميركية بأنها تسير وفق إيقاع منضبط مع وجود إدارة ترامب، ويبدو أن كثيرين أفرطوا في تحليل مجريات مفاوضات أستانة ونتائجها بأنها محادثات روسية - تركية بقبول أميركي على مضض، فيما خص نتائجها، كان يحمل الاستعجال وإطلاق الأحكام المسبقة حول الدور الأميركي في سورية الذي لا يُفهم منه سوى العنوان الرئيسي، وهو محاربة تنظيم داعش، بينما تختفي باقي العناوين الأميركية، أو يصعب تقديرها.
يُفهم من الاستعجال الروسي رغبة موسكو الوصول إلى صيغ تضع حداً لدورها العسكري في سورية، وأنها تخشى عواقب استمرار الحرب التي دخلتها، فقد تحدث مفاجآت. لذا تتبدى الأولوية الروسية الآن في محاولة تفكيك القوى المعارضة المسلحة وفق ثنائية الثواب والعقاب، ووفق منطق تقسيم الفصائل المسلحة واحتوائها، يُضاف إلى ذلك عدم إصرار روسيا على إشراك المعارضة التي تتبع في هواها موسكو، كحال منصة موسكو، وغيرها من الأطراف المتكئة على الدعم الروسي، في مشهدٍ يؤكد أن أولوية موسكو في جنيف هو الحديث عن مسرح الأعمال العسكرية والهدنة وإعادة تحديد الفصائل التي يستوجب قتالها. في مقابل ذلك، يعكس التباطؤ الأميركي رغبة في عدم إخراج روسيا ظافرة على طاولة المحادثات، كما يرمي إلى تفكيك الروابط الروسية التركية الناشئة، لكن الهشة، إضافةً إلى حشر إيران في أضيق الزوايا الممكنة.
الغالب على الظن أنَّ "جنيف" لن يركّز على السير نحو تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 بعناوينه العريضة (شكل الحكم الأمثل، الدستور، الانتخابات) بقدر ما سيركّز على تثبيت وقف إطلاق النار الهش، وتوسعته، ليكون جنيف تكراراً لأستانة. وتبقى العقبات القديمة حاضرةً، فبموجب موقف أهل النظام سيتم الإصرار على بقاء الأسد وتحريم النقاش عن رحيله، وكذلك تحويل كل قرار "أممي" بخصوص الأزمة السورية إلى قرار "وطني"، أي أن مسائل الدستور والانتخابات يجب أن يقرّها السوريون بالطريقة التي يريدها النظام، ما سيسمح للنظام الإمعان في مسلكه القائم على تفريغ قرار مجلس الأمن 2254 من مضمونه، الأمر الذي سترفضه المعارضة مجدداً، لتبقى ورقة الهدنة الوحيدة القابلة للنقاش. ومع ذلك، لن يفوّت النظام الحديث عن مسائل محاربة "الإرهاب"، في مقابل مطلب المعارضة انسحاب المليشيات الطائفية المؤازرة للنظام وغيرها من نقاط سيحاول الطرفان تسجيلها وعدم التراجع عنها، مهما كلف الأمر.
ستبقى قاعدة "الحرب امتدادٌ للسياسة..." سارية إلى أن تقرّر السياسة وضع حدٍ للحرب. وإلى ذلك الحين، سيبقى السوريون الفريق الوحيد الخاسر، مهما تعددت المباحثات التي باتت كحال أولمبيادٍ يفوز فيها كل المتنافسين، بينما يبقى السوريُّ الخاسر الوحيد.
ما فائدة الأشعار والخطب المنافقة التي تُلقى لتمجيد ما يسمونها الممانعة والمقاومة، إذا كان عائدها الداخلي، الوطني، وممكناتها العسكرية الخارجية في مواجهة ما يسمونه كذباً "العدو الصهيوني"، يتفقان بنسبة مائة بالمائة مع ما يريده هذا العدو لشعوب الممانعين المقاومين وبلدانهم؟ وما معنى ممانعة نظام قاتل إسرائيل أقل من عشرة أيام خلال ثلاث حروب، تلقى فيها جميعها صفعات وركلات مهينة، أدت أولاهما (حرب 1967) إلى احتلال محافظة سورية كاملة، بينما ستمر بعد أقل من شهر ستة أعوام كاملة على حرب النظام الممانع ضد شعبه؟ وكيف تسمّى السياسات المتعايشة مع الهزائم المتعاقبة أمام إسرائيل ممانعة ومقاومة، إذا كان الأسد الأب قد بنى جميع مواقفه بعد 1967 على تحاشي إسرائيل، واستخدم احتلالها الجولان عامل ابتزاز وضغط امتص بمعونته ردود أفعال شعبه على ما أوقعه فيه من كوارث داخلية، كالبطالة والانخفاض المستمر لسعر قوة عمله ولمستوى عيشه، والانهيار الحثيث للخدمات التي تقدم له، والتدهور اليومي لأوضاعه الإنسانية، والتعاظم الملموس لما تعرّض له من قمع طاول حتى الأطفال في أرحام أمهاتهم؟
وكيف يكون ممانعاً إذا كان يخوض حرباً داخلية ضد شعبه، لم يهتم لما يمكن أن يترتب عليها من أوضاع مأساوية بالنسبة لمجتمعه وجيشه، وما إذا كانا سيستطيعان، بعدها أو خلالها، الدفاع عن وطنهما ضد الاحتلال والعدوان، ولماذا، إذا كان ممانعاً بحق، لم يستغل العدو الفرصة لينقضّ عليه، ويتخلص من ممانعته ومقاومته؟
هل حسب حساباً لموقف شعبه منه في أية حرب قادمة، إذا كان قد تعايش سلمياً مع الاحتلال، وقتل ملايين السوريات والسوريين وشوههم وعذبهم وشردهم وجوعهم، لمجرد أنهم طالبوه باصلاح أحواله وأحوالهم؟ وإذا كان النظام ممانعاً بحق، مع من يكون تناقضه الرئيس الذي يملي عليه سياساته ويحدد خطاه، مع شعبه "الوفي" أم مع العدو الذي يحتل أرض وطنه، ويمثل خطراً داهماً على أمنه ووطنه، ولم يتوقف يوماً عن قصف مواقعه وتدمير ما أراد تدميره من قدراته؟ ألا تقول وقائع لا تدحض إن عداءه شعبه أكبر ألف مرة من عدائه إسرائيل التي لم يتوقف منذ خمسين عاماً عن نشر أكاذيبه حول استعداداته الحثيثة لطردها من الجولان، لكنه أبقى حدوده معها آمنةً، وعايشها سلمياً من دون أن يرمي عليها، ولو حصاةً صغيرة، في حين شنّ حرباً شعواء، ولا رحمة فيها ضد مواطنيه العزل، بمجرد أن طالبوه بحريةٍ، يعدهم بها في شعارات حزبه منذ خمسين عاماً؟
وما معنى أن يتذرع أعواماً بافتقاره إلى الذخائر الضرورية، لشن حرب التحرير المزعومة، ثم يشن ستة أعوام حرباً غطت كل شبر من أرض سورية، وجد لها الذخائر الكافية، بل وتباهى، في منشورات جيشه ألقاها على مواطني سورية، باستخدامه ثلاثين نوعاً من الذخائر، لم يسبق لأحد في المنطقة أن استخدم ما يماثلها؟ هل تجوز تسمية الخيانة والجريمة مقاومة وممانعة؟ وهل المجازر الجماعية المتكرّرة ممانعة وصمود؟ وهل من الممانعة أن لا يطلق محورها المزعوم رصاصة واحدة ضد إسرائيل نيفاً وعشرة أعوام في لبنان وقرابة أربعين عاماً في سورية، وأن يدخل حزب الله في الزمن الجولاني/ الأسدي لنظام التكامل الاستراتيجي الطائفي مع إسرائيل الذي يربض على صدر سورية، ويكتم أنفاس شعبها، بعد أن أخرجه من المجال العام، ودمر قواه، وكسر معنوياته، وفرض عليه حجراً قمعياً شاملاً قوّض وحدته، وفرزه إلى قلة موالية منعمة ومتحكّمة، وأغلبية معادية مطحونة يُمعن يومياً في سحقها، لتكون النتيجة بلاداً مدمرة، وجيشاً مهشّماً، ونظاماً متهالكاً، فقد القدرة والجرأة على تحدّي أي عدو غير شعبه. كلما تلقى صفعةً من إسرائيل، كرّر أسطوانته المشروخة حول الرد في زمان لا أحد يعلم متى يأتي، ومكان لم يعثر عليه بعد، ولن يعثر عليه إطلاقاً، فلا أقل من أن يخجل ملالي الكذب في طهران من إلصاق تهمة الممانعة والمقاومة به، لا ليصدّقها الناس، بل لفضحه وبهدلته، وتبيان كم هو بعيد عنهما وجبان.
وبعد هذا كله، كيف يكون ممانعاً من أوصل مجتمعه وشعبه وجيشه إلى دركٍ ما كان العدو الصهيوني ليوصله إلى غيره، لو أنه حكم سورية؟ وما هذه الممانعة التي لا تخدم أحداً غير الصهاينة؟
م يكن بروز الخلاف بين أنقرة وطهران، أخيرا، أمرا دراماتيكيا، بل هو أقرب ما يكون إلى تحصيل حاصل. وقد ساعد استئناف المفاوضات السورية في جنيف، وقبلها الاجتماع الثلاثي الروسي التركي الإيراني في أستانة، على تظهير الخلافات العميقة بالفعل، فإيران تسعى إلى مزيج من حمل المعارضة السورية على الاستسلام، وعلى إلغاء وجودها. ولم يسبق لطهران أن أعلنت التزامها بمرجعية التفاوض، على العكس من أنقرة جارة سورية التي تتمسك بهذه المرجعية، فيما تتمسّك موسكو شكليا بالمرجعية، مع سعيها الدائم والثابت إلى إفراغها من مضمونها، وهو الانتقال السياسي في سورية بوابة للحل وشرطا شارطا له.
وقد دبّ بعض الحرارة في علاقة البلدين، بعد التقارب الروسي التركي صيف 2016. وقد سعت طهران إلى التقرب من تركيا، خشية أن يتم تقارب موسكو وأنقرة، بصورة من الصور، على حسابها، فكانت زيارة وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، إلى أنقرة في أغسطس/ آب الماضي، وما اتسمت به تلك الزيارة من دفء دبلوماسي، تبين أنه كان آنياً وعابرا، ولم يؤسس لتقارب جدي. ومع ذلك، اهتبلت موسكو ما بدا أنه تقارب إيراني تركي، لكي تخرج بصيغة اجتماعي أستانة، بمشاركة قادة عسكريين من المعارضة السورية، وكان الهدف منهما تثبيت وقف إطلاق النار، وهو ما لم تلتزم به موسكو ولا إيران، ولا المليشيات التابعة للأخيرة، ولا النظام في دمشق.
يبدو الخلاف بين الجانبين، من منظور أوسع، على نفوذهما في المنطقة، وهو أمر صحيح جزئيا، إذ إن التنافس على النفوذ أمر مشروع نظرياً، ما دام يراعي أحكام القانون الدولي، غير أن التحفظ التركي، في هذا الصدد، يدور حول الأساليب غير المشروعة التي تنتهجها طهران لبسط نفوذها، من قبيل إنشاء مليشيات محلية وتمويلها، وعلى شاكلة العبث الخطير بنسيج مجتمعات المنطقة. وعموما، يتخذ النفوذ الإيراني طابعا تدخليا فجّا، مع ادعاء الوصاية على المنطقة وشعوبها. وفي ذلك، تتخذ تركيا موقفا قريبا من الموقف العربي الإجمالي بهذا الخصوص. وما تحدث به وزير الخارجية، مولود جاويش، في ميونخ، وبطريقة صريحة عن مسعى طهران إلى تغيير هوية المجتمعات المذهبية، وخصوصا في سورية والعراق، يأتي متساوقا مع الموقف العربي، ومع موقف عشرات الدول الإسلامية. وفي النهاية، يُستخدم التأجيج الطائفي الذي تعمد إليه طهران لأغراض سياسية، وتعبيراً عن طموح قومي فارسي، كما عبّر عن ذلك الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.
حمل الظرف السياسي القائم، كما يبدو، أنقرة على تظهير الخلافات الكامنة، فمفاوضات جنيف السورية تنعقد مجدّدا بعد فشل طهران في نسف المرجعية الدولية، وفي إبطال الحاجة إلى التفاوض. وكان مسؤولون إيرانيون، إضافة إلى أمين عام حزب الله في لبنان السيد حسن نصرالله، قد نعوا الحلول السياسية بعد معركة حلب، وواظبوا على القول إن الحسم العسكري وحده ما يضع حداً للأزمة وحلاً لها. علماً أن وجود إيران ومليشياتها، أربع سنوات على الأقل، لم يؤد إلى أي تغيير في موازين القوى، وهو ما فعلته موسكو بحملتها الجوية والصاروخية المدمرة على حلب المحاصرة.
على نطاق أوسع، أشاع تجدد التعاون التركي الأميركي، في ظل الإدارة الأميركية الجديدة، ارتياحاً واسعاً في أنقرة، بعد موجةٍ من الفتور والتباينات في المواقف بين واشنطن وأنقرة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما. وقد رأت أنقرة، على سبيل المثال، أن إطلاق الرئيس دونالد ترامب مشروع مناطق آمنة في سورية، هو بمنزلة تزكية للموقف التركي الذي ظل يطرح هذه الفكرة على الإدارة الأميركية السابقة، من دون أن تلقى قبولا. وبموازاة عودة الحرارة إلى العلاقات الأميركية التركية، شهدت العلاقات الإيرانية الأميركية توتراً حاداً، على خلفية الاتفاق النووي وإطلاق طهران صواريخ باليستية، وقد تصاعدت الخلاف مع اتهامات أركان في الإدارة الجديدة طهران برعاية الإرهاب في المنطقة. وعلى أثر ذلك، اندلعت حرب تصريحات بين طهران وواشنطن. ولنا أن نستذكر أن التقارب التركي الإيراني القصير قد جرى في أجواء ما بعد الانقلاب في تركيا في يوليو/ تموز الماضي، وحيث اتهمت أنقرة حينها واشنطن بممالأة الانقلابيين. في تلك الظروف، حدثت استدارة تركية نحو موسكو، وبدرجة أقل نحو طهران. الآن، تلك الظروف في سبيلها إلى التغير، إن لم تكن قد تغيرت بالفعل. ولم تعد الاندفاعة الإيرانية في المنطقة تقابل بـغض النظر في واشنطن، كما كان عليه الحال لدى إدارة أوباما الذي كان يسعى، مثلاً، إلى حوار إيراني سعودي، بدل اتخاذ موقف حازم من التدخلات الإيرانية الفظة في شؤون المنطقة، دولاً ومجتمعات.
ومن المهم، خلال ذلك، ملاحظة أن أنقرة لم تعمد إلى اتخاذ أية إجراءات بحق طهران، واكتفت، في هذه الآونة، بتسجيل موقفٍ يندّد بالسياسة المذهبية لطهران، لتحقيق طموحاتٍ قومية توسعية. وهو موقفٌ يُراد منه إيضاح صورة العلاقات مع طهران التي ما زال يكتنفها خلافٌ عميق. وبطبيعة الحال، سوف تنعكس التصريحات التركية لاحقا على مستوى العلاقات باتجاه تخفيضها، بعد أن ثبت لأنقرة أن طهران ترفض مراجعة سياستها التدخلية، أو كبح اندفاعها غير المشروع في المنطقة. وإنها تسعى، خلال ذلك، إلى الإخلال بتوازنات المنطقة، والمساس بالوزن الاستراتيجي لتركيا. وكان مسؤولون إيرانيون، في الحرس الثوري خصوصا، قد دعوا أنقرة، خلال الأسابيع الماضية، لسحب قواتها من سورية، الأمر الذي تجاهلت أنقرة الرد عليه، علماً أن لديها ما تقوله في هذا الصدد، فهي جارة لسورية بحدود طويلة، خلافاً لحال إيران، وهي تستضيف مليونا ونصف مليون سوري على أراضيها، فيما لم تستضف إيران لاجئاً سورياً واحداً، بل تساهم مساهمة عسكرية مباشرة في التنكيل بالسوريين، ودفعهم، بصورةٍ قسرية، إلى اللجوء للخارج، تطبيقا لسياستها في إعادة هندسة المجتمع السوري، بما في ذلك إحداث تغييرات ديمغرافية كبيرة.
ومع الخفض المنتظر في العلاقات بين الجانبين من دون قطعها، ومع الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والتنسيق حول المسألة الكردية، فإن العلاقة التركية الإيرانية تأخذ حجمها الطبيعي بغير مبالغاتٍ، وبدون وحدة من هما في حُكم الخصمين.
بدأ في جنيف اللقاء التفاوضي السوري الرابع، في أعقاب محاولة جديدة لوقف إطلاق النار في سورية، أفشلها عجز روسيا عن "إقناع" إيران والنظام ومرتزقتهما بقبوله والالتزام به، أو ميلها إلى الضغط على الفصائل، ولإجبارها على تقديم تنازلات جديدة، بموافقة تركية، أو من خلال تهديدها باستخدام القوة ضدها، وتدمير ما بقي منها بعد حلب، وهو ليس كثيراً، وباستغلال انقسامها الأخير الكبير الذي شطرها إلى نصفين متعاديين، أضعف مواقفها ومواقعها في معقلها الأخير: إدلب ومحافظتها، حيث تسيطر جبهة النصرة تحت اسمها الجديد "هيئة تحرير الشام"، وتعلن جهارا نهارا أنها لن تتساهل مع من يفاوضون الروس أو يتلقون دعما من الأميركيين، وسبق لها أن هاجمت بالفعل وطردت من منطقة إدلب ست فصائل صغيرة ومتوسطة الحجم بإحدى التهمتين.
لم يتوقف إطلاق النار، والسبب وجود نص في اتفاقيته تسمح للأسد وإيران بمواصلة الحرب، بمجرد ادعائهما أنهما يحاربان الإرهاب، كما فعلا في سوق وادي بردى، حيث لم يوقفا الحرب بحجة وجود مقاتلين من "النصرة"، ومع أن الروس نفوا ذلك، فإنهم إما وقفوا عاجزين، أو عزفوا عن فرض الالتزام بالهدنة التي وصفوها بالشاملة، وكانوا عرّابها، بيد أنهم لم يلتزموا بها بعقد إقرارها البارحة، وهم اليوم الطرف الرئيس الذي يقصف مدينة درعا وضواحيها، على الرغم من أن الطرف المقصوف ينتمي إلى "الفصائل المعتدلة"، أي الجيش الحر، والنظام هو الذي بدأ الهجمات، ولو نجح فيها لغيّر الوضع على الأرض، تغييرا جوهريا، كان سيعيده إلي المعابر الحدودية مع الأردن، وسيمكّنه من حصر الجيش الحر بين قواته وجماعات "داعش" في وادي اليرموك.
لم يمنع إفشال النظام وإيران لوقف إطلاق النار، وانتشار مرتزقة حزب الله في جنوب سورية واشتراكهم في الهجوم على درعا ومنطقتها، وإفشال روسيا محادثات أستانة الثانية، وبالتنكّر لتعهدات سابقة، عبر اقتراحها خطة مراقبة لوقف إطلاق النار، ترفض ما تقدمت به الفصائل المشاركة في المحادثات التي اعتبرته التفافا على التزاماتٍ روسية، كانت قد قطعت لها، ومحاولة للتلاعب بوقف إطلاق النار، ولاستخدامه أداة للضغط على مقاتلي المعارضة الذين تقيّدوا به، بدل الضغط على قوات النظام وإيران التي لم تحترمه دقيقة واحدة.
هذا ما يمكن قوله على صعيد العلاقة بين الروس ووقف إطلاق نار، اعتبروه إسهامهم في فتح طريق جنيف وتذليل عقباته، بل وإنجاحه، شريطة إقناع الوفود المفاوضة عموما ووفد الهيئة العليا خصوصا بأحد أمرين: قبول دستورهم، وإن مع ملاحظة هنا وملاحظة هناك، وقبول خطة التفاوض التي أدخلوها إلى قرار مجلس الأمن 2254، وتنص على حصر التفاوض بتشكيل حكومة غير طائفية (وإن شكلها وقادها الطائفي الأكبر بشار الأسد)، وإصدار دستور، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بإشراف الأمم المتحدة. بما أن وثيقة جنيف جعلت الانتقال السياسي جوهر الحل، بينما جعل قرار مجلس الأمن 2118 تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة بداية الحل وأداة هذا الانتقال، فإن بشار الأسد لن يبقى خلال المرحلة الانتقالية، لسبب واضح هو أن الهيئة هي التي ستمارس صلاحيات الرئاسة ودورها، وسترسله بالتالي إلى مكانٍ ينتظر فيه محاكمته بوصفه مجرما، ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لذلك، لن يكون الانتقال ومصير بشار موضوع نقاش في مفاوضات جنيف 4 التي ستنصب على تطبيق القرار 2254، وما ينص عليه من مهام، كتشكيل حكومة موسعة وغير طائفية مرجعيتها بشار إياه، بما أنه هو الذي سيشكلها وسيشرف على عملها، بينما مرجعية "الهيئة الحاكمة الانتقالية" القرار الدولي رقم 2118، وليس من سيرحل عن منصبه بمجرد تشكيلها، السفاح بشار الأسد.
هذا الفارق بين الوثيقتين الدوليتين اللتين صاغت الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن أولاهما، وقبل العالم الصياغة الروسية لثانيتهما، يجبرنا على القول إن التفاوض، إذا ما حصل فعلا سيكون ضربا من العبث، والسبب قيامه على مبدأ يسلب السوريين حقوقا أعطتهم إياها وثيقة جنيف 1، وقرارات دولية كثيرة وافق عليها الخمس الكبار بالإجماع. لذلك اعتبرت موافقتهم ضمانةً دوليةً لحقهم في التخلص من الأسد ونظامه، وفي بناء نظام ديمقراطي بديل. غير أن القرار 2254 ذهب في اتجاه مغاير لهذا الاتجاه، وتجاهل إرادة الشعب السوري وقرارات المجتمع الدولي والمهام المحددة بدقة في وثيقة جنيف 1 للشرعية الدولية وممثلها الأممي، ستيفان دي ميستورا، الذي يساير اليوم الروس، ويضرب عرض الحائط بجنيف 1 والقرار 2118، مع أنه بدأ مهمته لتنفيذهما حصرا، بما أن القرار 2254 لم يكن موجودا عندما باشر عمله ممثلاً للأمين العام، مكلفا بإيجاد حل للصراع في سورية، يطبق الوثيقة والقرار 2118 تحديدا وبالاسم.
الانتقال السياسي
والآن: كيف نفسر أن دي ميستورا أكد مرات عديدة أن "الانتقال السياسي" هو موضوع الحل الوحيد الذي سيكون محل تفاوضٍ بين المعارضة والسلطة، لكنه "نسي" ذلك، في دعوته التي وجهها، أخيرا، إلى من سيحضرون جنيف 4، وركّز على ما يطالب به الروس: حكومة بشارية بدل هيئة جنيف الحاكمة الانتقالية، واستمرار رئاسة بشار بدل الانتقال إلى الديمقراطية، مع أن وثيقة جنيف جعلته هدف التفاوض ونتيجته الحتمية! هل يعتقد الروس ودي ميستورا أن هذه المخالفات للقرارات الدولية التي تلقي بالحقوق المعترف بها لشعب سورية في سلة المهملات ستفضي إلى حل سياسي، يتفق مع النتائج التي يريدون فرضها علينا، أم أنها ستأخذنا إلى حرب شاملة، ستضع الفصائل أمام أحد خيارين: القضاء التام والناجز عليها، أو التنازل عن حقوق الشعب المقرّرة في وثيقة جنيف والقرارات الدولية التي تحدّد آليات تحقيقها، والقبول، عوضا عن ذلك، بحكومة بشار ودستور موسكو وانتخابات برلمانية ورئاسية، يجدّد فيها لنفسه فترتين جديدتين، مدتهما 14 عاما، حسب نص الدستور المقترح روسيا العتيد، وهو ما يطرح السؤال: إذا كان قد دمر ما بين 60% و70% من شعب سورية وعمرانها خلال ستة أعوام، فمن أين سيأتيه الروس والإيرانيون ببشر يقتلهم وعمران يدمره خلال الأربعة عشر عاما؟ وهل سيبقى بعد فترة حكمه الجديدة شيء اسمه سورية؟
إذا قفز مفاوضو الهيئة العليا من فوق هذا التعارض الجذري بين وثيقة جنيف والقرار 2118 وبين القرار 2254، وقبلوا حكومة غير طائفية، يشكلها ويرأس أعمالها الطائفي الذي قتل الملايين من شعبه، فهل سيقبلون دستورا يلغي الديمقراطية، هدف جنيف الحتمي، ويستبدلها بتركيبةٍ سياسيةٍ شديدة التعقيد، مليئة بالتناقض وقابلة للتفجير عن قرب وعن بعد، تعطي الدولة السورية ما قد يفيض عن الجماعات الهوياتية التي ستتمتع بحكم ذاتي شبه مستقل، لن يترك أي مجال لتعامل الدولة كمركز بندية معها؟ المعروف أن الدولة الديمقراطية تبنى على المواطنة المتساوية، وأنها هي التي تعطي مكوناتها حقوقها كاملة. أما في الدستور الروسي، فستبنى الدولة على ما يفيض عن مكوناتها من صلاحيات، وليس هناك أي ذكر حتى لكلمة ديمقراطية، ناهيك عن ذكر مرتكزاتها التي ستخترق، بالضرورة، جميع تشكيلاتها، بغض النظر عن أسمائها. إلى هذا، لا يترك الدستور للسوريين أي حق في اختيار نمط دولتهم، وأية مشاركة في تحديد هويتها، فإن وافقوا في استفتاء عام، كما هو متوقع، على الدستور الروسي، كانت موافقتهم تعني قبولهم انفراط عقد دولتهم، وقيام دولة هويات متصارعة، ستحاول كل واحدةٍ منها توسيع صلاحياتها ومناطق نفوذها إلى الحدّ الذي يخرجنا من تحت الدلف إلى تحت المزراب، أي من نظام متوحش يخنق مواطنيه ويتنكّر لحقوق مكونات الجماعة الوطنية السورية إلى نظام تتحكم فيه الأطراف بالمركز، والدويلات الهوياتية بالدولة التي يريد الشعب لها أن تكون ديمقراطية، لكن الدستور يقرّر إنقاذ النظام الرئاسي، ويعطي الرئيس صلاحيات قريبة من صلاحيات الأسد الحالية. ويبذل، في المقابل، جهودا مستميتة، صريحة ومضمرة، لمنع قيام مؤسسات دولية فاعلة وقوية إلى جانبه، يمكن لصلاحياتها أن توازن صلاحياته أو تحد من طابعها المطلق، ليكون هناك في سورية القادمة دولة وحياة عامة وحريات.
الانتخابات البرلمانية والرئاسية
أما عن الانتخابات البرلمانية والرئاسية تحت إشراف الأمم المتحدة، فثمة ملاحظتان:
أولاهما أن الهدن التي تعقد في كل مكان، بفضل قنابل المدافع وصواريخ الطائرات، تتكفل باعادة جزء مهم من الحاضنة الشعبية إلى العيش تحت حكم المخابرات التي تبدأ، فور استسلام المناطق، بترويع الشباب واعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم، وتخترق ضعاف النفوس من المواطنين، وتجدّد التعاون مع عملائها للوشاية بالأهالي وإفسادهم، ولإرعابهم إلى الحد الذي يجعل منهم أداة طيعة في يدها كسلطة متوحشة تخوفهم وتتلاعب بهم، وتلوح لهم بسلاح قمعي فتاك، هو ملاحقتهم ومحاسبتهم عن الفترة الثورية التي خرجوا خلالها من حكم الأسدية، وتخص بالتلويح الشبان والشابات من أبناء المواطنين وبناتهم. هل يصدق أحد أن الأمم المتحدة ستتيح أجواء حماية تمكّن هؤلاء من التعبير الحر عن رأيهم، وهي التي تفرّجت على محاصرتهم وتجويعهم، وهل ستتمكن من حماية من قد يفوز في انتخابات الرئاسة ضد بشار الأسد من أجهزة القمع والعسكريتاريا الطائفية المسعورة التي قتلت وجرحت وشوهت واعتقلت وعذبت، وأخفت قرابة ثلاثة ملايين مواطنة ومواطن سوري وفلسطيني، من دون أن تتمكن الأمم المتحدة، والصحيح المنتحرة، من عقد اجتماع رسمي واحد لمناقشة هذا الموضوع، أو أن تصدر قرارا واحدا يلزمها بكف يد مجرمي النظام عن السوريات والسوريين؟
ثانيتهما أن الأمم المتحدة تتعاون بصورة مفتوحة مع النظام السوري، كأنه لا يقتل شعبه، ولا يخالف القانون الدولي، وليس نظاما مارقا. وهي تمدّه بجميع أنواع المساعدات التي تمكّنه من تزويد شبيحته بفيضٍ من الطعام والدواء، بينما وقفت متفرجةً على حرمان النظام السوريين الجياع من حقهم في البقاء أحياء، من دون أن تسحب اعترافها به ممثلا رسميا للشعب الذي يذبحه. وهي توظف اليوم من يرضى عنهم ضباط أمنه الذين يمنحونهم موافقاتٍ على تشغيلهم لدى الأمم المتحدة، مقابل ابتزازهم وتجنيدهم ضد المواطنين الذين يدخلون إلى مناطقهم باسم الشرعية الدولية! هناك فضائح تستحق فتح تحقيق مسهب حولها، ثم تقديم شكوى إلى محكمة العدل الدولية ضد مؤسسات الأمم المتحدة العاملة في خدمة النظام داخل سورية وخارجها. ثم ماذا أبقى النظام الدولي الذي مثله فلاديمير بوتين وباراك أوباما من الأمم المتحدة ودورها وقيمها ومؤسساتها، وبماذا يعد ترامب بغير مزيد من تهميشها وإضعافها؟ لو كان قد بقي منها شيء لرأيناه، ولو مرة واحدة طوال سنوات المجازر الست في سورية، التي ارتكبها نظامٌ سفاح، يرتكب جرائمه تحت سمع أمم متحدة وبصرها، تدعمه بالغذاء والدواء والعملاء، وتساعده على تهجير السوريين من مناطق عيشهم التاريخية، كما فعلت في حمص وأماكن كثيرة.
السؤال الآن: هل ستتمكن أمم متحدة، يعمل قسم كبير من موظفيها مخبرين لدى أجهزة القمع الأسدية، وتعاني من التهميش والعجز، أن تشرف على انتخابات نزيهة في سورية، تحوم فوق مراكزها طائرات روسيا، وتتجول في أروقتها فصائل الحرس الثوري الإيراني، وتسهر على نزاهتها جيوش الشبيحة الأسدية ومرتزقة لبنان وأفغانستان وبنغلادش وتونس وأوزبكستان... إلخ، ويطلب فيها إلى شعب ممزق مشرد مجوّع محاصر معذب مقتول أن يغامر بحياته وحياة أولاده ويصوت ضد بشار الأسد الذي قرّر سادة النظام الدولي الإبقاء عليه رئيسا لشعبٍ فعل به ما سبق ذكر بعضه، على الرغم من مخالفتهم قرارات سابقة، كان قد اتخذها مجلس الأمن والهيئة العامة للأمم المتحدة، تحتم إبعاده؟ على من يضحك الروس، وعلى أية انتخابات نزيهة سيشرف دي ميستورا، إذا كان دستور روسيا وطيرانها للشعب بالمرصاد، وكانت الأمم المتحدة تسهم في الحرب الكونية عليه داخل وطنه، وتسعد بوجوده في مخيمات العار خارجه، وكان العالم قد ثبت الأسد في منصبه ضد إرادة الشعب السوري؟
يقول المثل الشعبي: معك فرنك بتسوى فرنك. ويقول العقل السياسي الصاحي: لا أحد يعطيك ما لا تستطيع انتزاعه منه، بطرق أخرى. قاتل الله الجهل والتهاون في حقوق الشعب وحريته.
تتوازى الفوضى في سورية والعراق مع سباقات عديدة تخوضها إيران وإسرائيل وتركيا حول هذين البلدَين وفيهما، سعياً منها الى حجز مواقعها وضمان مصالحها. وخلال الانكفاء الأميركي مع إدارة باراك أوباما لعب كلٌّ من هذه الأطراف الإقليمية وحده محاولاً اقتطاع أكبر المكاسب من انهيار الموقع الاستراتيجي لسورية. لم يؤدِّ الدعم الإيراني لنظام بشار الأسد الى وقف الانهيار، لكن طهران استغلّته لاستنباط نفوذ لها في سورية ولوراثة النفوذ السوري في لبنان. وإذ عارضت إسرائيل ضرب نظام الأسد بعد استخدامه السلاح الكيماوي وحضّت روسيا على إيجاد تسوية مع الولايات المتحدة لتدمير ذلك السلاح فقد أيدت على الدوام بقاء الأسد طالما أنه يقتل السوريين ويدمّر الاقتصاد والعمران. أما تركيا التي انخرطت باكراً في الأزمة، بتنسيق مع واشنطن، فإن احتضانها للمعارضة السورية لم يصطدم فقط بواقع انعدام أي استراتيجية أميركية يمكن إدراجه أو تسويقه فيها بل تسبّب لها بحساسيات عدائية مع روسيا وإيران.
مع ظهور تنظيم «داعش» وانتشاره، عاد الإرهاب أولوية دولية انبرى لها تحالف دولي بقيادة أميركا، وحصل خلط للأوراق، فبقي نظام الأسد مستفيداً باستثمار «ورقة الإرهاب»، لكن إيران وإسرائيل كانتا ولا تزالان الأكثر استفادة إذ لم يهاجمهما «داعش» ولا حتى في إعلامه، وفيما ظنّت تركيا بادئ الأمر أن ثمة مصلحة يمكن تحصيلها باللعب مع «داعش» على خلفية تسهيلات تركية نالها، إلا أن موجبات الحرب على الإرهاب ما لبثت أن ارتدّت عليها بتفجيرات دامية غدا معها التنظيم ألدّ أعدائها. غير أن أميركا حصرت دورها في ضرب «داعش»، نائية بنفسها عن الأزمة الداخلية، على رغم أن جون كيري ومسؤولين آخرين في إدارة أوباما أشاروا مراراً الى تلازم مزمن بين النظام والإرهاب وإلى تلازم مثبت بين مشكلتي الأسد و «داعش». وكان لهذا النأي بالنفس دافعان: تفادي الاصطدام بروسيا، وعدم استفزاز إيران خلال انخراطها في المفاوضات النووية.
بعد عام ونصف العام على العقوبات الغربية بسبب الأزمة الأوكرانية، وبعد التوقيع على الاتفاق النووي، وبعد عام من التحضيرات الأميركية للحرب على «داعش»، أصبحت روسيا جاهزة للتدخّل في سورية، وبأولويتين متناقضتَين: إنقاذ النظام ومحاربة الإرهاب. وأعلنت إيران على الفور أن هذا الحدث من إنجازات استراتيجيتها، ما أتاح لها التخلّي عن أي تحفّظات في نقل أسلحتها وتصدير ميليشياتها والتباهي بتوسّعات نفوذها، فالروس كانوا في حاجة الى قوات برّية وكانوا يعلمون كالإيرانيين أن أوضاع الجيش النظامي لا تؤهله لأي دور ميداني فاعل. لكن، بعد أقلّ من شهر توصّلت إسرائيل بسهولة الى تفاهم وتنسيق عميقين مع روسيا ما لبثا أن تُرجما بسلسلة من الغارات المُجازة روسياً ضد مواقع للنظام وللإيرانيين ولـ «حزب الله» فضلاً عن اغتيالات لبعض قادته. واستلزم الأمر مواجهة معروفة تلتها قطيعة قاسية قبل أن تستعيد روسيا وتركيا علاقة طبيعية وتقيما تنسيقاً في شأن سورية، وقد ظهرت نتائجه في اتجاهَين: مشاركة تركية نشطة في محاربة «داعش» ثم وساطة مع روسيا سهّلت انسحاب مقاتلي الفصائل المعارضة من حلب.
وفيما استغلّت روسيا الانكفاء الأوبامي لتوسيع دورها في سورية والإقليم، إلا أنها لم تفلح في جذب واشنطن الى مقايضات في شأن أوكرانيا والعقوبات وملفات الدفاع الأوروبية. في غضون ذلك، باشرت الأطراف الإقليمية التعامل مع روسيا باعتبارها المرجع الجديد للشرق الأوسط، وراحت روسيا تلعب ورقة توزيع النفوذ والضمانات والتعهّدات المستقبلية على هذه الأطراف من دون أن تكون واثقة تماماً بأن ذلك الانكفاء في صدد أن يصبح خياراً استراتيجياً أميركياً دائماً. كان التواصل بين موسكو وواشنطن انقطع عملياً بعد فشل آخر اتفاق بينهما على وقف إطلاق النار وإطلاق مفاوضات الحل السياسي في سورية، الى أن استأنفه فلاديمير بوتين مع الرئيس المنتخب آنذاك دونالد ترامب عشية التوجّه الى حسم معركة حلب. وبمقدار ما أثار انتخاب ترامب صدمة عالمية، بدا مشجعاً لروسيا وموحياً بأنه منحها تفويضاً للتصرّف في سورية، ومع ذلك بقي بوتين حذراً حيال المكاسب التي يمكن أن يحققها من أي تقارب مع ترامب، ولذلك بدا أكثر ميلاً الى محاربة «داعش» وإنهاء الصراع الداخلي وامتلاك القرار المستقبلي في سورية، فهو يتطلّع الى صفقة شاملة مع أميركا ولا يريد التفاوض معها على سورية بل استخدام سورية وموقعها للمقايضة والتحكّم لاحقاً بملف إعادة الإعمار.
لا شك في أن استقالة مستشار الأمن القومي الأميركي مايكل فلين، بسبب اتصال هاتفي بينه وبين السفير الروسي، شكّلت ضربةً موجعة لم يتوقعها بوتين وأضيفت الى جملة تطوّرات في واشنطن حوّلت التقارب مع روسيا من أولوية عاجلة لدى ترامب الى شبه خطٍّ أحمر أمامه. كما أن الصرامة التي تتعامل بها أميركا مع إيران، وإنْ كانت تخدم بوتين في خلافاته مع طهران في شأن سورية، إلا أنها تضطره الى مراجعة حساباته فإيران بالنسبة الى روسيا زبون مهم للصناعات الحربية وعنصرٌ اقليميٌ ناشط يمكن الإفادة منه، لكن يمكن أيضاً استخدامه في أي مساومة مع الأميركيين. غير أن إيران نفسها تمرّ بمراجعة لسياساتها، اذ اكتشفت لتوّها نتائج خسارتها الغطاء الذي وفّرته لها إدارة أوباما ومكّنها من تمرير تدخّلاتها الخارجية واستغلالها الجماعات الإرهابية، كما استشعرت أن تجديد العقوبات عليها يجعل رفعها هدفاً بعيد المنال من دون تنازلات طالما رفضتها. وبين التصعيد على وقع مناورات «الحرس الثوري» وخروج الرئيس حسن روحاني في أول زيارة خليجية كان وعد بها خلال حملته الانتخابية، تبدو إيران مربكة وحائرة أكثر منها متحدّية، فوضعها السوري متأرجح الى حد طلب ضمانات روسية لما تعتبره مصالح لها ولميليشياتها، ووضعها العراقي حذر على رغم القوة التي يتمتع بها «حشده» يبقى الغليان الشعبي مقلقاً، أما وضع «حوثييها» في اليمن فمن سيئ الى أسوأ.
لا تزال روسيا تراهن على ترامب كـ «حليف» مفترض، لحاجته الى تحييدها اذا كان مصمماً على مواجهة مع الصين، لكن تعثّراته الكثيرة ربما جعلت بوتين يفتقد أوباما لكثرة ما بدت أميركا معه ركيكة وضعيفة فمكّنته ليس فقط من استعراض قوّته واستخدامها الى حد ارتكاب جرائم حرب سافرة، بل أيضاً من استمالة بنيامين نتانياهو ورجب طيّب اردوغان. فمع الأول أقام صداقةً وتواطؤاً شجّعاه على طرح وساطة بين إسرائيل والفلسطينيين، إلا أن شروط نتانياهو حالت دون المضي بها، وما لبث فوز ترامب أن ألقى ظلّاً على تلك العلاقة، اذ وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه مع رئيس أميركي مجنّد لتحقيق أحلامه، ليس فقط بالتخلّي عن «حلّ الدولتين» بل خصوصاً بالسعي الى «تحالف اقليمي» مناوئٍ لإيران ويضمّ دولاً عربية لكن من دون أي تنازل إسرائيلي للتوصّل الى تسوية متوازنة مع الفلسطينيين.
وبالنسبة الى تركيا، ذهب بوتين الى حدّ إغضاب حليفيه، الأسد وإيران، عندما جمّد الدعم الروسي لأكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي» خلافاً لما يفعله الأميركيون، كما أجاز لأردوغان محاربة برّية لـ «داعش» وهو ما لم يجزه له الأميركيون لكنهم تعاملوا معه بحكم الأمر الواقع. وكان الرئيس الروسي فاتح نظيره التركي بضرورة تطوير التعاون ليشمل استخدام روسيا قاعدة انجرليك الأطلسية، ففي هذا السياق يمكن فهم تصريحات مسؤولين أتراك تتساءل عن الفائدة من تلك القاعدة اذا لم تدعم جهود الحرب على الإرهاب. ومع أن اندفاع تركيا للتعاون مع روسيا كان نتيجة لإحباطها من إدارة أوباما، إلا أن الخروج من الأطلسي لم يكن على جدول أعمال، ويبدو أن الإشارات الإيجابية الأولى التي تلقّاها اردوغان من إدارة ترامب شجّعته على الجهر بالخلاف مع روسيا في إدارتها ملفَّي وقف النار والمفاوضات السوريَين. وفي حين لم تتفق موسكو وواشنطن بعد على التعاون في تحرير الرقة، فإن كلاً منهما يدرس الآن الاعتماد على تركيا، ما يعني استبعاد أي دور لنظام الأسد وإيران.
دوما التي عاشت ومازلت مستمرة على وقع المجازر والدم ليس جديدا عليها المشهد، ولكنك في لحظات خاطفة تغيب الحياة معك ليتوقف كل شي وتستعيد مشهد القيامة ربما تشبيه أكبر من الحدث ولكنك تفقد التركيز على اختيار العبارة، فالكلمات تتساقط مع سيل الدماء المنهمر من أجساد الناس اطفال شباب ونساء كل ذلك يحدث وانت وسط المشهد،لتجد أن الموت صديقك المضاد يرافقك كالظل لا تعلم متى تنتهي حياتك ولماذا أو ربما أين؟
والمذهل كيف يتسارع الناس إلى مكان القصف للبحث عن أرواح تحت الأنقاض تصرخ بصمت علها تجد من يسمع صدها لينقذها..لتجد أشلاء أجساد ممزقة دون رحمة لأطفال لم يعبثوا بهذه الحياة سوى على وقع أصوات الحرب.
و ربما صراخ أم تبحث عن فلذة كبدها كفيل ليوقف الوقت ويبقى ضجيج الموت مستمر في زحمة البحث عن الحياة.
قد يطول الشرح والوصف ولكن مختصر الكلام في دوما أرواح تتنفس الحرية بطمأنينة متيقنة أن الله معها.
وسط ضبابية الموت المتجددة اليوم على يد من ادعى انه يراقب الهدنة ، ويعمل على تثبيتها ، يعاود عمله في هذه المنطقة لتحقيق عنصر الضغط على المفاوضات و اجبار الثوار على الانكسار ، على وقع دماء المدنيين.
دوما هي جزء من الغوطة الشرقية ، التي يبدو انها بعد هذا اليوم ستكون المذبح المتجدد ، لتمرير بعض التنازلات الجيوسياسية ، و دفع الأمور نحو ما ترنو إليه ، سواء الظاهر منها ( في جنيف و قبلها الاستانة و كذلك القابون) ، وما بطن منها.
لم يعد يخفى على أحد الحال الذي وصلت إليه ميليشيات حزب الله رغم تظاهر أمينها العام بشكل دائم بالقوة و الصمود ، خسائر بشرية فادحة في سوريا ، عقوبات دولية و عربية طالت و تطال أبرز مموليه و قياداته ، نبذ في لبنان حيث بتنا نجد الشارع اللبناني بكافة اطيافه و مركباته باستثناء حلفاء إيران في لبنان متفقين على ضرورة نزع سلاحه و تحجيم دوره .
يبدو ان صيف لبنان لن يكون هادئ ان صح التعبير كما الصيف الماضي ، فأزمات ميليشيا حزب الله ستجبره على اللعب بالنار و المتمثلة بشح بالتمويل و تنامي مشاعر الكره اتجاهه ، ضغوطات عربية و دولية لاخراجه من سوريا مسرح أعماله الإرهابية على مدار 6 أعوام، ضعف التمويل القادم من الأم إيران الغارقة هي الأخرى بالعقوبات الدولية المفروضة عليها و خصوصاً في القطاع النفطي.
سيناريوهان قد تلجئ ميليشيات حزب الله لتنفيذهما في لبنان هذا الصيف ... السيناريو الأول ربما سيكون مشابه لما حدث في تموز 2006 " حرب أيام" مع إسرائيل ، ليتم أستغلالها إعلامياً و ليظهروا عناصر ميليشيات حزب الله بمظهر حامي الحمى رادع العدا عن كافة الطوائف في لبنان ليخففوا نوعاً ما من حالة الكراهية التي يعيشونها عناصره.
السيناريو الثاني ..و هو خلق تنظيم متطرف او جلبه الى الأراضي اللبنانية ، ليتدخل الحزب بحجة محاربة التنظيمات الإرهابية ليحصل على قليل من التأييد الشعبي في لبنان ليضمن لهم أمنهم و ليبعد تلك التنظيمات عن مناطقهم .
سيناريوهان قد يكلفان لبنان و الاجئين السوريين المتواجدين هنالك خسائر فادحة ليعيد حزب الله الأرهابي التسويق لنفسه مرة جديدة و لتجاوز الضائقة المالية و حالة "النبذ" التي يعيشها .
يتبرم ستافان دي ميستورا منذ أسبوعين من أن لا وضوح لديه حول الموقف الأميركي، وحول غياب التفاهم الأميركي الروسي في شأن جنيف-4، ما دفعه إلى استبعاد حصول اختراق في المحادثات مع بدء المفاوضات أمس.
وبصرف النظر عن أجندة التفاوض في جنيف التي غاب عنها عنوان المرحلة الانتقالية، الجوهر الفعلي للقرار الدولي الرقم 2254، أي المرحلة الانتقالية في الحكم المقبل في سورية، فإن بكائية دي ميستورا على افتقاد التفاهم الروسي الأميركي لا تعني سوى أن خلطاً للأوراق حصل قبل التئام المفاوضات الرابعة حول الحرب السورية. وهو خلط يستمر في التمظهر مع بدء جنيف-4.
ليس الموفد الدولي إلى سورية وحده المربك نتيجة افتقاد الوضوح في المعادلة الدولية التي تظلل جنيف، بل إن كل دول العالم تنتظر اتضاح سياسة الإدارة الأميركية الجديدة، بما فيها روسيا فلاديمير بوتين التي كانت تتوقع مرحلة تعاون مع أميركا دونالد ترامب. ومع أن إدارة الأخير ما زالت تدعو زوار واشنطن إلى ترقب بعض التقارب مع موسكو، فإن المقدمات التي تسبق هذا التطور تبنئ بأنه لن يتم في شكل أوتوماتيكي. وفريق ترامب لا يفوّت مناسبة لانتقاد سياسة روسيا في أوروبا وأوكرانيا. وزيارتا نائبه مايك بنس وقبله وزير دفاعه جيمس ماتيس للحلف الأطلسي لتأكيد استمرار التعاون معه، على رغم الخلاف حول دفع حصص دول أوروبا من تمويله، تستدعي النقزة الروسية. والمواقف الأميركية المتشددة إزاء حليفة موسكو «الإستراتيجية»، إيران، مصدر إحراج لروسيا في العلاقة مع الحليف.
أما في سورية، فإن خلط الأوراق يقوض الأسس التي أطلقت المرحلة الجديدة للتفاوض على الحلول تأسيساً على استعادة التحالف الروسي السوري الإيراني حلب من المعارضة، مع «تواطؤ» تركي، ثمنه الحد من توسع «قوات سورية الديموقراطية» في شمالها. هذا أنتج في اجتماعات آستانة، برعاية روسية تركية إيرانية، وقف النار الهش، وإطلاق الحل السياسي.
إلا أن هذا التعاون الثلاثي ما لبث أن أصيب بتصدعات نتيجة الهجوم الأميركي على إيران، والذي يشمل رفض رجال ترامب وحليفتهم المحظية، إسرائيل، استمرار وجود إيران في سورية وكذلك الميليشيات الحليفة لها، العراقية و «حزب الله»، إضافة إلى اندفاع إدارته نحو مزيد من العقوبات ضد طهران ومواجهة تدخلاتها في دول الخليج العربي.
دفع ارتفاع نبرة واشنطن خلافاً لتساهل إدارة باراك أوباما، القيادة الإيرانية إلى الاستنفار والتمسك بأوراقها السورية، بموازاة محاولات فتحها ثغرات ديبلوماسية بطرح الحوار مع دول الخليج. وهي احتاجت في الأسابيع الأخيرة إلى مشاركة قوات النظام في خرق وقف النار، واحتلال المزيد من المناطق وطرد المعارضة منها، خلافاً لاتفاقات آستانة، إما استباقاً لتفاهم أميركي- روسي على حسابها، أو لتحصين موقعها إزاء أي اندفاعة أميركية -إسرائيلية ضدها (قصف الطيران الإسرائيلي مستودعات صواريخ في القلمون). أما التصدع الثاني في التعاون الثلاثي فكان عودة تركيا إلى اتهام إيران بأنها تسعى إلى السيطرة على المنطقة وسورية، ما أطلق حملات إعلامية متبادلة. لكن اتباع طهران خطوات ميدانية مستقلة بالتعاون مع قوات النظام، أفقد موسكو صدقيتها في الحفاظ على وقف النار الذي أرادته ثابتاً من أجل تثمير إنجازاتها العسكرية في الحل السياسي. ومن الطبيعي أن تطلق عودة التمايز التركي عن طهران، معطوفة على تقارب أنقرة مع واشنطن، تحت عنوان العمل على إقامة مناطق آمنة في سورية، قلق موسكو. فهي لطالما عارضت هذه الخطوة مشترطة التعاون مع النظام، الذي سال لعابه حيال واشنطن، متجاوزاً التناغم مع الإيقاع الروسي في الانفتاح على الأميركيين، فأخذ يعد ترامب بالتعاون معه، تحت عنوان محاربة الإرهاب. واكب كل ذلك تقارب سعودي تركي أعاد طرح اقتراح الرياض المشاركة بقوات سعودية خاصة للمساهمة في تحرير الرقة من «داعش»، والتي يتهيأ الأميركيون لإرسال قوات على الأرض للمشاركة فيها أيضاً، بعد توسيع بنية وجود جنودهم في الشمال.
في المقابل سعى النظام إلى استباق دعم ترامب دوراً أردنياً في جنوب سورية لمحاربة «داعش»، عبر قصف الطيران الأردني مواقعه بعد طول غياب. وللحؤول دون استثمار صلات عمّان مع بعض تشكيلات «الجيش السوري الحر»، شن نظام الأسد هجوماً على الأخير، مترافقاً مع العودة إلى لعبة التقاطع مع هجمات «داعش» نفسها على مناطق المعارضة المعتدلة في ريف درعا الغربي، خلافاً للوعد بمحاربة «الدولة الإسلامية».
ملامح التموضعات الجديدة في الميدان السوري تخالف المعطيات التي استندت جنيف -4 إليها. وتقلبات الملعب السوري تخفّض التوقعات مجدداً، فضلاً عن رمزية رئاسة بشار الجعفري السلبية لوفد النظام.
لعل من أسوأ التداعيات على الوعي والمصالح العربية ألا يزيد فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية العربَ إلا جهلاً بأميركا والتصاقاً بعقلية المؤامرة التي أوصلت ترامب إلى الرئاسة. فهو الذي يُكرر بأن على دول الخليج أن تدفع لتمويل المناطق الآمنة، ولحمايتها من تشدد إيران، إذ «ليس لدى هذه الدول إلا المال»، كما نُقل عن ترامب في خطابه في فلوريدا السبت الماضي؟!
يقود هذا إلى الأسئلة الأكثر صعوبة، فهل يكفي لتأييد ترامب بالكامل أنه يتحدث عن أن التشدد مع إيران من أولويات سياسته الشرق أوسطية؟ وهل على االدول العربية بعامة أن تُعيد صوغ سياساتها وأولوياتها وأجندتها لأنّ نجاح ترامب هو «نقطة تحوّل» في بنية النظام الدولي، أم إن عليها «الاعتصام بالحذر والحكمة والصبر الاستراتيجي وبناء عناصر القوة الذاتية الشاملة» لأنّ التقدير الأعمق هو أن نجاح ترامب «ومضة زائلة» في التاريخ الأميركي، وأنّ «أميركا الحضارة والتنوع والانفتاح والفرص وجاذبية النموذج وطريقة العيش والحرية» ستتفوق على «أميركا الانكفاء القومي والهوياتي وجهل دروس التاريخ والتبرم بقيم العصر والثقافة الكونية»؟
الجدل هنا يتعدى المفاضلة بين من يحكم على ترامب على أساس القيم والثقافة التي يحملها الرئيس الجديد ومن يحكم عليه على أساس المصالح السياسية والنزعة البراغماتية بين الدول. ولعل هذا، استطراداً، يدفع إلى الإشارة إلى التبعات السلبية لإخفاق الفكر العربي والثقافة العربية في «استدخال المصالح في دائرة القيم»، بما يجعل الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات جزءاً من المصالح الجوهرية للفرد والشعب والدولة على حدّ سواء.
وكم يخسر العرب، حين يكتفون بالملف الإيراني وتشدد ترامب تجاهه ليقولوا أن «أميركا عادت إلينا»، مع أن مصلحتهم مع أميركا تتشددُ مع نهج إيران التخريبي في المنطقة من دون أن تتخلى هذه «الأميركا» عن دفاعها عن القيم الحديثة والتنوع وبناء الجسور مع الآخرين، ومن ذلك احتضان العولمة، والمساهمة في ترشيدها وإضعاف توحشها وجعلها أكثر عدالة وأنسنة، لا في الانكفاء عنها، كما يرغب ترامب.
مُحِقّةٌ بالتأكيد الدعوة إلى مناهضة دور إيران المزعزع الاستقرار في المنطقة والداعم الإرهاب المليشيوي الطائفي، لكنّ الأجدر والأجدى ألا تكون على طريقة مناهضة موسكو أميركا ودعوتها إلى «عالم ما بعد الغرب»؛ إذ مثلما أن موسكو غير مؤهلة للحديث عن نموذج عالمي في حوزتها جاذب الآخرين، وكذلك الصين، فإنه لا ينبغي الوقوع في فخّ اكتفائنا بتشدد ترامب حيال إيران طريقاً لحبّه وغض الطرف عما قد يحمله من كارثية على مستقبل العالم... إن لم يتغير.
تعود التحضيرات لمفاوضات جنيف بعد فشل مفاوضات جنيف 3، وبعد أن فتح الروس مسرباً في أستانة، جرى خلاله التفاوض مع مجموعاتٍ مسلحةٍ، كانت تعتبرها روسيا مجموعات إرهابية. وخصوصاً بعد التفاهم التركي الروسي، والذي جعل تركيا تميل الى "تليين" مواقف المجموعات التي ترتبط بها، لقبول منظور روسي، يريد إنهاء الصراع عبر إنهاء "تمرّد" الشعب، وتحويل جزء من الذين قاتلوا النظام الى "التحالف" معه ضد "الإرهاب"، أي ضد وهم جرى اختراعه ورعايته من دول متعددة، لكي يخدم تدمير الثورة بحجة الإرهاب.
لهذا يعد الروس لجنيف بما يسمح بفرض "معارضة" هي ليست معارضة، و"معارضة" باتت تقبل الشروط الضرورية لـ "نجاح المفاوضات"، وهي الشروط التي أسّست روسيا رؤيتها عليها منذ بدء دعمها النظام، وخصوصاً بعد تدخلها العسكري. بمعنى أن روسيا ترتب نظاماً على مقاسها، وتحت سلطة بشار الأسد كذلك. ولهذا، فهي تعمل على قضم المناطق التي باتت خارج سيطرة النظام، وإنهاء وجود الثوار فيها، وتقليص المساحة إلى حدّ السيطرة الكاملة على تلك المناطق، والتي لا تشمل مناطق "داعش" وجبهة النصرة، كونهما "وحدات خاصة" سورية، يحمون ويحكمون لمصلحة النظام، على الرغم من أنهم مدعومون من دول متعددة، بدت أنها ضد النظام.
بالتالي، وباختصار، ما تريده روسيا هو حل يبقي النظام ورئيسه، ويؤدي إلى تشكيل حكومة "وحدة وطنية" من أزلام النظام المفروزين بين النظام ذاته و"المعارضة". ليعاد إنتاج النظام بأشخاص جدد، لا يختلفون عن النظام ذاته، في وقتٍ تكون روسيا قد فرضت سيطرة قواتها وقوات إيران وبقايا قوات النظام (التي باتت الطرف الأضعف والأقل عدداً) على سورية. وهي تشتغل لكي تفرض "مجموعتها" كجزء أساسي في وفد التفاوض، والتي ستكون المجموعة التي تقبل "العودة إلى حضن النظام" تحت مسمى الحل السياسي.
يفرض هذا الأمر أن نكون ضد المفاوضات هذه، وألا يدخل أحد شريف فيها، بالضبط لأنها مسرحية ليس غير، وهي شكل إعادة إنتاج النظام كما هو بلا بتغيير، فالروس عدو يسيطر ويقتل، ولا يجب أن يُنظر إليها بمنظور آخر، وهي التي تريد فرض منطقها انطلاقاً من عنجهية تركبها بأنها باتت قادرةً على "قيادة العالم"، وعلى فرض سطوتها، وهو الأمر الذي جعلها تمارس كل العنف والوحشية، وتستخدم كل سلاحها المتطور، وتصرّ على أن ما قالته منذ البدء هو الذي يجب أن يُفرض في الواقع. وهي لا تفاوض إلا بعد أن تكون قد مارست وحشيتها، لكي يأتي المفاوض قابلاً بما تقرّر، وحين لا يتحقق ذلك تعود الى وحشيتها. وهذا الأمر يجعل الأمر المطروح هو قبول الحل الروسي كما هو أو استمرار عملية التدمير والقتل.
لهذا، لا يجدر التفاوض الآن، ويجب رفض كل علاقة مع روسيا التي باتت تحتل سورية، كذا بكل معنى الكلمة. إنها قوة احتلال، وهي تريد قبول كل الاتفاقات المذلة التي وقعتها مع النظام، وهي عقد إذعان احتلالي. وما يجب أن يجري التركيز عليه هو: كيف يمكن أن تغرق روسيا في أفغانستان جديدة؟ لأن ذلك وحده الذي سوف يجعلها "تتواضع"، وتتخلى عن عنجهيتها، وبالتالي، تعرف أنها فشلت في كسر "الثورات الملونة" (كما تسميها)، وأن الثورة ستنال منها.
روسيا الإمبريالية يجب أن تُواجه، وبالتالي لا بد من ممارسة "حرب عصاباتٍ" ضد قواتها في سورية، كما ضد قوات إيران، وضد كل المجموعات السلفية التي زُرعت لتخريب الثورة. ليست السيطرة على الأرض هي الأساس الآن، بل التحوّل إلى حرب عصابات هو الضروري، ولكي يُفتح الأفق لتفاوض حقيقي، يحقق بعض مطالب الشعب السوري. ليتفاوض النظام وقفاه برعاية روسيا، وليتوهموا أنهم نجحوا في الوصول إلى حل يبقي النظام بكامل أركانه. أما الثورة فيجب أن تمارس فعلها على الأرض، وأن تُسقط من صفوفها كل الذين ركبوا الموجة، وخضعوا لدول وقوى إقليمية ودولية.
ليس هذا زمن التفاوض، بل زمن إعادة لملمة صفوف الثورة.