مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٣ يناير ٢٠١٧
هامش ابتعاد طهران من موسكو

تدرك طهران أن موسكو في عجلة من أمرها لتثبيت وقف إطلاق النار في سورية وتعميمه في غالبية المناطق واستثناء «داعش» و «النصرة» منه. وتدرك طهران أنّ موسكو تريد ذلك كي لا تتأخر محادثات آستانة عن موعدها، بُعيد تسلّم دونالد ترامب مهماته الرئاسية بالفعل، ذلك أنّ تعثرها سيؤثر في محادثات جنيف التي لا يفصلها الكثير من الوقت عن لقاء آستانة، الذي يُراد له، وفق الضامن الروسي، أن يكون «حلقة مكمّلة لمسار جنيف»، ويهدف إلى «جمع وتوحيد الأطراف التي تمتلك سيطرة على الأرض».

إيران و «حزب الله» أفشلا في السابق الاتفاق المبدئي لإجلاء المدنيين في حلب، وفرضا شروطاً بخصوص الفوعة وكفريا، وهما منعا قبل أيام الجانب الروسي من دخول وادي بردى لوقف إطلاق النار هناك وثبيت الهدنة، فضلاً عن أن طهران رفضت أن تكون «ضامناً ثالثاً» في اللقاء المهم الذي جمعها مع أنقرة وموسكو نهاية العام الماضي.

موسكو تعي قدرة طهران على التأثير، وعلى الشغب أيضاً، وتعي أنّ القوة الجوية، على رغم أرجحية مفعولها حتى الآن، غير كافية وحدها من دون حضور إيران وميليشياتها على الأرض. لذلك، فإنّ روسيا تتجه لبذل جهود أكبر على صعيد صوغ توازنات دقيقة لمنع إيران من إفساد رغبة الكرملين في قيادة جهد باتجاه التسوية في سورية يُوضَع على طاولة ترامب، كي يقدّم له الدعم والتأييد.

ترغب طهران في فرض شروط على الهدن وعلى المصالحات المحلية التي تتم برعاية موسكو، وتعلم الأولى أن التفاهم الروسي - التركي قضمٌ من النفوذ الإيراني في سورية، ومن المؤكد أن طهران يزعجها أن تكون «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» وفصائل إسلامية خمسة أخرى، على الأقل، حاضرة في محادثات آستانة وبوصفها شريكاً في وقف إطلاق النار، ومن المؤكد أيضاً أنه يزعجها سماع أنباء مثل اتفاق 9 فصائل بارزة (ليس من بينها «جبهة النصرة») على تشكيل «مجلس قيادة تحرير سورية» من أجل تنظيم العمل العسكري والسياسي في مواجهة الحكم السوري وداعميه، بخاصة أنها ورقة تركية لا تلقى، على ما يبدو، معارضة موسكو التي يهمها التركيز على الإجماع على محاربة «داعش» و «النصرة»، وجمعُ من يقبل من الفصائل الأخرى بوقف إطلاق النار في «آستانة» و «جنيف».

ليس المقصود مما سبق استعادة سجال طويل لم يثمر شيئاً لمصلحة المعارضة السورية حول تباين رؤى طهران وموسكو في سورية، كما ليس المقصود الخلوص إلى أن ثمة تقارباً روسياً - تركياً على حساب إيران، وإنما القول أنّ ثمة بعض الاستياء الإيراني من الخطوات الروسية، سيفرض على الكرملين عقد تسويات معقدة وصعبة لتقليص التباينات والشكوك بين أنقرة وطهران، ولا شك في أن موسكو تستفيد من لعب هذا الدور للظهور بمظهر القوة العظمى التي تملك القدرة على التعاطي مع أطراف متناقضة في المحيط الإقليمي (تتجاوز أنقرة وطهران لتمتد إلى إسرائيل ومصر والأردن والسعودية وقطر)، إلى جانب استفادتها بالظهور بصورة مختلفة عن صورة الدولة العظمى التي وقفت ضد سُنّة المنطقة.

هامش تحرك طهران في سورية بعيداً من موسكو يتسع، في ظل غياب التأثير العربي في المشهد السوري، وفي ظل معرفتها بأن موسكو مثلها حريصة على «سورية الأسد» وأنها شريكتها في «الحسم العسكري الذي دمر سورية»، وسيتسع الهامش مع رغبة إيران و «حزب الله» في فرض شروط على الأرض تُضعف المعارضة المقبولة روسياً، لكنّ الهامش يضيق مع تحسن موقع أنقرة وتوحّد شركائها وانضباطهم وابتعادهم من «النصرة»، وهو يضيق أيضاً مع ما يبدو من «جدية» روسية في إحداث اختراق ما على جبهة المفاوضات السياسية يلقى دعم صديق بوتين الجديد في البيت الأبيض.

اقرأ المزيد
١٣ يناير ٢٠١٧
الأوهام الروسية في سورية

استطاعت روسيا، خلال فترة البطة العرجاء للإدارة الأميركية التي تمر بها في أثناء الانتخابات الرئاسية وما بعدها، تحقيق وقائع جديدة على الأرض في الصراع السوري، وتمثل ذلك في إخراج المعارضة السورية والسكان من شرق حلب. وتعتقد روسيا أنها في الطريق إلى تكريس هذه الوقائع، باتفاق سياسي بين النظام السوري وقوى المعارضة. بذلك تكرس نفسها لاعباً مركزياً وأساسياً في الصراع القائم في سورية يستطيع التحكم في مساره.

هل هذه الصورة حقيقية، وهل هي معطى ثابت وقابل للدوام في الصراع الممتد منذ ما يقارب الست سنوات في سورية؟ تبدو اللحظة السورية، هذه الأيام، لحظةً روسية بامتياز، فقد استطاعت روسيا جمع طرفين مؤثرين وفاعلين في الساحة السياسية السورية على تناقض موقفيهما واصطفافهما على جبهتي الصراع في سورية إلى جانبها، وهما إيران وتركيا، وتوقيع الدول الثلاث اتفاقاً نصّ على "تأكيد احترام سيادة واستقلال ووحدة الأراضي السورية كدولة ديمقراطية علمانية، متعدّدة الأعراق والأديان". كما جاء فيه أن الدول الثلاث على قناعةٍ بأنه لا وجود لحل عسكري للأزمة في سورية. تبعت ذلك دعوة روسية إلى مفاوضاتٍ بين أطراف الصراع في سورية في أستانا عاصمة كازاخستان، لتتوّج هذه الوقائع التي ظهرت بوصفها انتصارا للنظام بدعم روسي حاسم.

لا يمكن استكمال المسار الروسي، والوصول إلى تسويةٍ للصراع في سورية، كما يعتقد الروس، لأسبابٍ كثيرة، وإن ظهر الروس بمظهر القادرين على إنجاز هدنةٍ مؤقتة، لأنهم قادرون على لجم عدوانية النظام، ليس لأنهم يملكون نفوذاً على النظام فحسب، بل ولأنهم شركاء في هذه الوحشية، حيث القوات الروسية تشكل الغطاء الجوي لمليشيات النظام والمليشيات الإيرانية التي باتت العصب الأساسي للمقاتلين في خندق النظام في كل الأراضي السورية.

السبب الأول لعدم صلاحية الروس لإنجاز اتفاق مصالحة أو سلام في سورية، هي أنهم ليسوا طرفاً محايداً، يقف على مسافةٍ من كل الأطراف المتصارعة، بحيث يكون قادراً على لعب دور الوسيط بينها، فروسيا دخلت الصراع في سورية من باب الوقوف مع طرفٍ ضد طرف آخر. وروسيا التي باتت تشكل جزءاً أساسياً من مكونات الصراع في سورية، وتصطف إلى جانب النظام، وتقوم بتغطيةٍ جويةٍ شديدة العدوانية، وحمت النظام سياسياً في مجلس الأمن، من خلال تكرار استخدامها حق النقض (الفيتو) ضد قراراتٍ تدينه، لا تصلح أن تكون الطرف الذي ينجز التسوية، لأنها ببساطة ستكون تصفيةً للصراع في سورية، والانتصار لطرف على آخر.

السبب الثاني أن روسيا تريد الاستفراد بالتسوية وفرض شروطها، وأي طرفٍ لا يتوافق مع هذه الشروط غير مدعوٍ للمشاركة في مفاوضات أستانا، فإيران وتركيا ليسا الطرفين الفاعلين الوحيدين في الصراع السوري. وهناك دول إقليمية أخرى لها تأثيرها على الصراع، لكنها غير مدعوة للمشاركة، إلا إذا استجابت للشروط الروسية في حل الصراع المنحاز لصالح النظام. والمملكة السعودية بوصفها طرفاً فاعلاً في الصراع على رأس هذه الأطراف غير المدعوة، وقد قالت موسكو إنها مستعدة لضم كل من الأردن والسعودية ومصر للمفاوضات، وظهر التصريح الروسي كأنهم يريدون هذه الأطراف شاهد زور على ما تريد تكريسه، وليس دعوةً جديةً للمشاركة في مفاوضاتٍ لحل الصراع.

السبب الثالث والأهم، تعتقد روسيا أنها يمكن أن تكرّس وقائع جديدة على الأرض في سورية بتجاهل الإدارة الأميركية التي تكون عادة، في فترة الانتخابات والرئاسية وما بعدها، في فترة انتقالية بين رئيسين من حزبين مختلفين، إدارة مشلولة ريثما يحل الرئيس الجديد مكان المنتهية ولايته. وإذا اعتقد الروس أن هذا الشلل سيبقى بعد استلام الإدارة الأميركية الجديدة، سيبنون وهماً سرعان ما سوف يتبدد. فلا يمكن حتى لإدارة دونالد ترامب التي عبرت عن تقارب مع روسيا في الموضوع السوري أن توافق على استبعادها من أي حل في سورية. وليس متوقعاً أن إدارة دونالد ترامب، على الرغم من كل الملاحظات التي تقال عنها، ستتعامل مع الصراع من منطق التاجر، لأن التنازل في هذه المنطقة عن الدور الأميركي في إنجاز الحل سيكرّس سابقةً يمكن تكرارها في بحر الصين، أو في شرق أوروبا. وبالتأكيد، لن تسمح الولايات المتحدة بهذا الأمر. والحل الذي لم تستطع أن تنجزه الإدارة الأميركية بالدعوة المشتركة مع روسيا إلى مفاوضات جنيف الأولى والثانية، لن تسمح باستبعادها وتحقيق اتفاق مصالحةٍ بتجاهلها، فالولايات المتحدة، على الرغم من كل المواقف المتخاذلة من إدارة الرئيس باراك أوباما، طرفٌ رئيسيٌّ ومؤثر في الصراع في سورية، ولا يمكن إنجاز أي اتفاق سوري ـ سوري بعيدا عنها، وعن حلفائها في المنطقة.

السبب الأخير، أن روسيا تتعامل مع طرفي الصراع في سورية كطرفين متساويين في المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع، وتتناسى مسؤولية حليفها الداخلي عن الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري، وتحاول أن تصوّر الأوضاع صراعاً بين طرفين قابلاً للتسوية، وليس صراعاً ارتكب النظام فيه جرائم حرب بحق شعبه دفاعاً عن سلطته الاستبدادية، فجوهر الحل الروسي يقوم على المحافظة على بنية النظام الأساسية، وتطعيمه ببعض المعارضة، والحفاظ على بشار الأسد في موقعه، على الرغم من مسؤوليته المباشرة عن الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري. وهي تريد إعادة تسويق النظام دولياً، بوصفه يمثل الشرعية، كما ادّعى النظام طوال الصراع، وكما برّرت روسيا مشاركتها في الصراع، بوصفها تلقت دعوةً من السلطة الشرعية في سورية. في الوقت الذي تحوّل النظام، خلال سنوات الصراع، إلى مليشيات طائفية فجة وحاقدة، ومستوردة من دول أخرى بتمويل وإشراف إيرانيين.

التسوية التي تريدها روسيا في سورية هي تكريس واقع إجرامي، يتجاوز حقيقة الصراع الذي انفجر ودفع السوريون ثمنه، صراع شعبٍ يريد حريته في مواجهة نظام مستبد ومجرم ووحشي، وهذا النظام الذي اختبر الشعب السوري ست سنوات دمويته من المستحيل أن يعود هذا الشعب ويقبل التسليم بسلطته، بعد كل الجرائم التي ارتكبها بحقه.

لذلك، ما تحاول روسيا تكريسه بعد الإنجاز الذي تعتقد أنها حققته في حلب، هو "طبخة بحص" ليس إلا، وإعادة احتلال شرق حلب من النظام بدعم روسي، وما يعتبر إنجازا للنظام وحلفائه ليس معركة فاصلة، يمكن الاستناد إليها لكسر إرادة الطرف الآخر بالقتال. لذلك، تحاول روسيا أن تبني حلاً على وهم الانتصار. لكن الأسابيع المقبلة ستكشف السراب الذي يراه الروس في طريقٍ ليس له وجود أصلاً.

اقرأ المزيد
١٢ يناير ٢٠١٧
كسورية وليبيا

كل إعلام النظم، وحتى الإعلام الغربي، يكرّر لازمة هي: كسورية وليبيا، مشيراً إلى أن على الشعوب أن تقبل بما تفرضه النظم من نهبٍ عليها، ومن سحق، أفضل من أن تعاني ما تعانيه كل من سورية وليبيا. على الشعوب أن تقبل كل السياسات الاقتصادية التي يفرضها صندوق النقد الدولي، وكل النهب الذي تقوم به الطبقة المسيطرة، والتي تتحكّم في الدولة. هذا هو ملخص الخطاب المعمم، من كل الرأسماليات المركزية والطرفية، وهي "مضطرة" إلى زيادة النهب، وبالتالي، إغراق الشعوب بالفقر الأشدّ من الشديد، الذي يؤدي إلى الموت جوعاً.

يعني ذلك أن الرأسماليات مصمّمة على زيادة النهب، ولا تستطيع التراجع عن ذلك، أو حتى التخفيف منه، فقد لاحظنا أنه على الرغم من أن الثورات عبّرت عن انحدار الوضع المعيشي للشعوب، نتيجة هذه السياسة الاقتصادية، إلا أن النظم استمرت في السياسات نفسها التي أوصلت إلى ذلك، وبخطواتٍ أشدّ حدّة. لهذا، تميل إلى تخويف الشعوب، سواء بإظهار القوة وتشديد العنف، أو عبر خطابٍ تخويفي عنوانه: سورية وليبيا. لكن، يمكن أن نسأل: لماذا حدث ذلك في سورية وليبيا؟ هل هو خطأ تمرُّد الشعوب، أو نتيجة وضع تاريخي فرضته النظم ذاتها، وصنعته هي بالذات؟

دمّرت النظم السياسة والتعليم، وأفقرت الشعوب، وبنت وجودها على أساس سياسة ليبرالية متوحشة اتسمت بالنهب الشامل. وحينما ثارت هذه الشعوب واجهتها بكل وحشية، لأن عليها أن تقبل كل هذا النهب، من دون أن تعترض أو تحتج. وكانت هذه الوحشية هي ما فتح على كل التدخلات الخارجية، سواء لأن الرأسماليات تريد تدمير الثورة قبل أن تصل إليها، أو لأنها تريد حصةً من خلال السيطرة. تتعلق المسألة، إذن، بالنظم ذاتها، بميلها إلى الإفقار الشديد للشعوب، وميلها إلى سحق هذه الشعوب حينما تثور.

بالتالي، ما معنى التخويف بسورية وليبيا؟ إنه يعني ضمن السياسة التي تتبعها النظم (التي تستخدم خطاب التخويف) أن على الشعوب أن تقبل الموت جوعاً، بدل أن تموت قتلاً. هكذا بالضبط. فالشعوب لم تَثُرْ "بمزاجها"، وهي أصلاً لا تميل لا إلى الثورة ولا إلى مخالفة النظم. لكن تثور، وبكل جرأة، حينما ينحدر وضعها إلى حالةٍ من الهاوية، حيث تعجز عن العيش، هكذا بالضبط تعجز عن العيش. وسبب ذلك هو نهب الطبقة المسيطرة وسطوة نظمها. بالتالي، ما قيمة التخويف هنا؟ وما قيمة الميل إلى السيطرة الشديدة، وممارسة القمع والضبط والاعتقال؟ لا شيء، بالضبط لأن ذلك كله يؤثر فقط في أشخاصٍ يخشون ما يخسرونه. لهذا، يبرّرون القبول بالأمر الواقع، ويكرّرون خطاب النظم، ويخوّفون بـ "سورية وليبيا". لكنه لا يؤثر في منْ يقف على حافة الموت جوعاً، حيث يتصرّف "غريزياً"، ومن ثم لا يعود يحسب لما يمكن أن يحدث معه، لأن ما يمكن أن يحدث معه هو حادث معه. التخويف من الموت قتلاً لا يخيف من يقف على حافة الموت جوعاً. الموت واحدٌ بغض النظر عن طريقة حدوثه، هكذا بالضبط.

في الواقع، تعمم الرأسماليات خطاب الخوف من الثورة، وهي تدفع الشعوب إلى الثورة. ولهذا، ليس من أثر لخطابها إلا للفئات التي هي ليست في وضع كارثي، بل إنها تعيش. ولهذا، يبدو خطاب التخويف هذا وكأنه خطاب لـ "الذات"، أي للنظم نفسها التي تريد أن تطمئن على أن استمرار نهبها والتوحّش في النهب لن يفضي إلى الثورة. هو مراوغة ذاتية لتبرير الإمعان في النهب، والقناعة بأنها قادرةٌ على ذلك، بعد أن أخافت الشعوب. وبالتالي، هو خطاب يدلّ على رُعب النظم وخوفها من الثورة، وبالتالي، حاجتها لما يُطمئنها بأن المجزرة الوحشية التي حصلت في سورية، والحرب الدموية التي تجري في ليبيا، كفيلتان بأن تمنعا الثورة ضدها.

لكن، وصل الوضع إلى لحظةٍ بات التخويف فيها بلا جدوى، فالموت يحيط بالشعوب، ولا حلّ أمامها سوى الثورة. هذه حالةٌ غريزيةٌ لا يوقفها العقل، بل يجب أن يُنجحها العقل.

اقرأ المزيد
١٢ يناير ٢٠١٧
الأسد والإيرانيون: إمّا استسلام المعارضة و إمّا «الحل العسكري»

هناك ثغرات في خريطة الطريق الروسية لتجميد الصراع في سورية، أو لإنهائه، ومن الواضح أن موسكو بالغت في تقدير رضوخ نظام بشار الأسد وإيران وميليشياتها لإرادتها، أو أنها قللت من شأن خرقهم وقف إطلاق النار أملاً في تعويضهم ما اعتبروه «خسارة» في النهاية التي رسمتها لمعركة حلب بالتفاهم مع تركيا. وتمثّلت تلك «الخسارة» أولاً في أن ميليشيات الأسد وقاسم سليماني حُرمت من تسجيل مزيد من الفظائع، إذ لم تكن تريد خروجاً منظّماً للمقاتلين والمدنيين بل قتل العدد الأكبر منهم، توكيداً لإخلاء دموي نهائي لا عودة بعده، بل لا تفكير ولا حتى مجرد الحلم بالعودة. وتمثّلت «الخسارة» أيضاً في أن ميليشيات الأسد وسليماني كانت تخطط للبدء فوراً بمقدمات معركة إدلب بالتزامن مع استكمال ما بدأته في وادي بردى والغوطة.

بدت تركيا منقذةً لمقاتلي المعارضة وأهلهم من مذبحة معلنة مسبقاً وربما من هزيمة محققة، بل حتى منقذة لروسيا من الغرق في جريمة حرب كبرى ارتكبتها لتوّها ولن تقودها إلا إلى جرائم أخرى، أي إلى لا مكان، وفقاً لما خططته إيران التي لا تزال غاضبة من «اختراق» استطاعته تركيا بعدما كانت أيقنت أنها استُبعدت من المعادلة أو على الأقل أُضعفت. لكن روسيا وتركيا احتاجتا إلى التفاهم والتقارب واستثمرتا فيه، وفي الوقت ذاته أكثر الموفدون الروس من التردّد إلى طهران أخيراً لشرح رؤية موسكو وسعيها إلى هدنة جدّية، ثم إلى مفاوضات عسكرية سورية - سورية في آستانة ربما تتوصّل إلى رفع إشكالات صعبة من أمام مفاوضات سياسية يمكن استئنافها عندئذ في جنيف بإشراف الأمم المتحدة، لكن بجدول أعمال مخفّف يقرّه عسكريو النظام والمعارضة.

لم تتصوّر طهران يوماً تواجه فيه سيناريو كهذا يرمي إلى إنهاء الحرب من دون أن تكون هي التي ترسم تلك النهاية وتحدّدها. وحين كرّر كثرٌ من ساستها وعسسها أن إيران هي مَن سيقرّر مستقبل سورية لم يكن مستغرباً أن يتجاهلوا حليفهم الأسد، بل كان مستهجناً أن يتجاوزوا حليفهم الروسي الذي لهجوا طويلاً بأنهم هم مَن جاؤوا به ليقاتل في معركتهم ضد «المؤامرة الكونية» إياها وضد «المشروع الإرهابي التكفيري». ها هم مضطرّون الآن للعودة إلى الواقع، أولاً لأن روسيا كدولة كبرى تتدخّل أو تنسحب تبعاً لمصلحتها لكنها بالتأكيد لم تأتِ لخوض حرب بلا نهاية ولا يمكن أن تفرض وقفاً لإطلاق النار من دون أفق سياسي، وثانياً لأن «النصر» في حلب لم يمنع الأزمة السورية من العودة إلى حقيقتها، التي أنكرها النظام والإيرانيون والروس، كصراع بين حكم مستبد ومعارضة شعبية كان يمكن أن يبقى في إطار داخلي سلمي لولا جموح العدوانية الأسدية - الإيرانية والعبث بالإرهاب ومجموعاته، فضلاً عن تعمّد التهجير المنهجي للعب بالتركيبة الديموغرافية.

لم يتغيّر الروس بعد، وليس مؤكّداً أنهم يحاولون، لكن التغييرات التي طرأت خارجياً وتلك التي أجروها على المشهد السوري أصبحت كافية للانتقال إلى المرحلة التالية التي كانوا يتحدثون عنها منذ خريف 2015. صحيح أنهم لا يتّصفون بالشفافية ولا يكترثون للمبدئية والأخلاقيات السياسية، ونادراً ما يصرّحون بحقيقة تفكيرهم، إلا أنهم عبّروا أكثر من مرّة طوال سنة ونيّف من تدخلهم عن أهداف محدّدة. وكان أول تلك الأهداف إعادة تنظيم الجيش السوري والعمل معه في شكل رئيسي واعتباره عماد الدولة التي رفضوا إسقاط النظام تجنّباً لسقوطها، وقد أذهلهم مدى التراجع الذي أصاب هذا الجيش والتشرذم الذي حوّل كثيراً من ضباطه «أمراء حرب» يتزعّمون ميليشيات تتموّل بالتهريب وفرض الإتاوات والنهب و «التعفيش»، بل شغلهم أيضاً حجم الاعتماد على إيران التي همّشت الجيش واشتغلت كثيراً على تأسيس ميليشيات إلى جانب تلك التي استوردتها، لكن الروس عملوا ويعملون على ترميم المؤسسة العسكرية وإعادة الاعتبار إلى ضباطها حتى إن التعيينات والترقيات والمهمات التي تعلنها رئاسة الأركان صارت تأتي من قاعدة حميميم بعد مراجعة موسكو. وفي الشهور الأخيرة فرض الروس على النظام والإيرانيين ضرورة استيعاب الميليشيات المحلية جميعاً فوُزّعوها بعد تصنيفها على الفيلقين الرابع والخامس المستحدثَين تحت إمرة قيادة الجيش. وتجدّد أخيراً ما كان تردّد في بدايات التدخّل عن عزم الروس على استعادة العسكريين المنشقّين وتخطيطهم لضمّ مقاتلي فصائل المعارضة من غير العسكريين السابقين إلى أحد الفيلقين الجديدَين. ولا شك في أن هذا التوجّه يسحب ورقة مهمة من أيدي الإيرانيين، إذ يضع حدّاً للنهج الميليشيوي الذي اعتبروه إنجازهم الأساسي في سورية.

أما الهدف الآخر فكان البحث عن صيغة لحل سياسي، وقد حاولت روسيا بلورتها ثنائياً مع الولايات المتحدة، ثم توسّعت الطاولة لتضمّ دولاً ومنظمات معنية بلغت نحو عشرين في لقاءات فيينا. لكن موسكو لم تربط بين المسارين العسكري والسياسي، بل تركت كلاً منهما يتقدّم بوتيرته، إلا أنها ربطتهما في كل المراحل بمساوماتها مع واشنطن في شأن الملفات الأخرى (أوكرانيا، الناتو، منظومة الدفاع الأوروبي...)، وحتى عندما أصدر مجلس الأمن القرار 2254 أواخر كانون الأول (ديسمبر) 2015، وفيه كل التعديلات والشروط الروسية كان واضحاً أن موسكو ليست مقتنعة بأن ظروف الحل قد نضجت، لأن الأطراف المناوئة لنظام الأسد ظلّت تُخضع التفاوض لمعادلة ميدانية غير محسومة.

لم يذهب الروس إلى معركة حلب إلا بعدما أيقنوا بأن شيئاً لم يعد ممكناً انتزاعه من إدارة باراك أوباما التي اقتربت من نهايتها، لكنهم استمالوا تركيا الأطلسية التي باتت تتساءل عن مبرر وجود قاعدة إنجرليك على أرضها بعدما استطاع الروس تهدئة هواجسها كلياً أو جزئياً وإثبات أنهم ليسوا بصدد اللعب بالورقة الكردية ضدّها، كما كرّسوا شراكتها الفعلية في محاربة الإرهاب ثم في إدارة مرحلة ما بعد حلب. وبذلك تعتقد موسكو أنها شقّت الطريق إلى حلٍّ ما في سورية بعدما اطمأنّت إلى أن الإدارة الأميركية الجديدة لن تبحث عن «شراكة» في هذا البلد ولن تخوض صراعاً على أوكرانيا بمعايير إدارة أوباما والاتحاد الأوروبي.

لكن، هل الحل الذي تتصوّره روسيا، عسكرياً وسياسياً، يمكن أن يتحقّق؟ على رغم فظاظتها المعهودة فإنها - حتى الآن - لم تعامل فصائل المعارضة كفريق مهزوم عليه الرضوخ لشروط مذلّة، حتى إنها بدت فجأة متفهّمة الدوافع القتالية لتلك الفصائل، بل راهنت عليها لإنجاح الهدنة الشاملة ومفاوضات آستانة. غير أن التنسيق الأسدي - الإيراني لهذَين الاستحقاقَين (خلال زيارة وليد المعلم وعلي مملوك طهران) أبدى التمنّع المتوقّع عن تسهيل السيناريو الروسي سواء بالاعتماد على «حزب الله» لخرق وقف النار في وادي بردى أو بإعلان الأسد أن هذه المنطقة لا يشملها وقف النار، مدعياً أن لـ «تنظيمي داعش والنصرة» وجوداً فيها وهذا غير صحيح، وأن المقاتلين هناك عطّلوا منشأة عين الفيجة التي تروي دمشق رغم أن طيران النظام قصفها مراراً وتسبّب بتعطيلها لتعزيز ذريعة الهجوم على الوادي ومواصلة الأعمال العدائية.

لا بدّ أن موسكو مدركة أن «حليفيها» في دمشق وطهران ذهبا إلى حد قطع المياه عن العاصمة لتخريب اتفاق وقف إطلاق النار، وبالتالي لإفساد لقاء آستانة أو تعطيله. أي أنهما بصدد فرض أمر واقع ميداني لاختبار ردّ موسكو، فإمّا أن تغضّ النظر عن اندفاعهم للسيطرة على وادي بردى ما يعني أيضاً المجازفة بقبول منطق مواصلة الحرب في الغوطة، وإمّا أن تجمّد اندفاعها إلى إنهاء الصراع لأن ظروفه لا تناسب الأسد الذي كرر السعي إلى «استعادة السيطرة الكاملة» في سياق إبدائه الاستعداد لـ «التفاوض على كل شيء» (باستثناء البحث في مصيره) في آستانة، بل إن هذه الظروف لا تخدم الإيرانيين الذين بات مؤكّداً أنهم لا يريدون أي حلّ وصولاً غير «الحل العسكري» الشامل. والمؤكّد أن استثناء وادي بردى والغوطة من الهدنة قد يحول دون ذهاب فصائل إلى التفاوض، علماً أن «شيطان» التفاصيل من شأنه أن يعرقل أي توافق في آستانة، فمطالب المعارضة العسكرية لهدنة حقيقية وشاملة هي ذاتها مطالب المعارضة السياسية.

اقرأ المزيد
١٢ يناير ٢٠١٧
الحل السياسي في سورية وهم أم حقيقة؟

الحل السياسي للصراع العسكري في سورية حاجة ضرورية لمنع الانهيار الكامل للمجتمع السوري، وزعزعة استقرار دول الجوار. وهو ضروري قبل ذلك لوقف حمام الدم المستمر منذ خمس سنوات. نظرياً تدعم جميع الأطراف المتصارعة، باستثناء «داعش» و «فتح الشام»، مشروع الحل السياسي منذ سنوات. القوتان العالميتان الأكثر تأثيراً في الحالة السورية، روسيا والولايات المتحدة، تدعمان أيضاً الوصول إلى حل سياسي ووضعتا في جنيف عام 2013 ثم في فيينا عام 2015 خريطة طريق للوصول إليه.

كذلك دعمت المعارضة السورية ورقتي جنيف وفيينا وشاركت في مفاوضات جنيف عام 2014، التي أفشلها النظام برفضه قبول تشكيل هيئة الحكم الانتقالية التي نص عليها بيان جنيف وجميع القرارات الأممية التالية له. روسيا لم تمارس أي ضغوط على نظام الأسد للالتزام بوثيقة جنيف، بل عملت على حمايته من أي إدانة أممية في مجلس الأمن، ثم وضعت ثقلها العسكري خلفه خلال السنة الماضية. اليوم تدفع روسيا باتجاه الحل السياسي وتدعو المعارضة المسلحة في الشمال، ومعارضين سوريين تنتقيهم من دون تشاور مع قوى المعارضة الرئيسية، للمشاركة في مؤتمر آستانة.

أعتقد شخصياً بأهمية الحل السياسي للصراع العسكري في سورية وبضرورة التفاوض للوصول إليه، وكنت في مقدم الداعين للمشاركة في مؤتمر جنيف، وشاركت في الوفد الأول الذي مثل الثورة السورية. ولكني أجد نفسي اليوم في المعسكر الرافض للتحرك الروسي تحت غطاء الحل السياسي، وأرى أهمية التعامل بحذر شديد مع مؤتمر آستانة والتصور الروسي لتفاصيل هذا الحل، لأني أعتقد أن روسيا تسعى إلى تفريغ وثيقة جنيف والقرارات الدولية المرتبطة بها من بنودها التي تمنح السوريين الفرصة الحقيقية للدخول في عملية انتقال سياسي لا يمكن لسورية أن تستعيد عافيتها ما لم تقم بها. وفي ما يلي جملة الحيثيات التي تدفعني إلى التشكيك في المسار الروسي الذي يمر عبر مؤتمر آستانة.

أولاً: ألزمت القيادة الروسية، بالتفاهم مع تركيا، الفصائل المقاتلة في الشمال بالمشاركة في مؤتمر آستانة بعد موافقتها على وقف شامل لإطلاق النار وقبولها التمييز بين معارضة متشددة لا تخضع لشرط وقف إطلاق النار، ومعارضة معتدلة تعترف روسيا بها.

ثانياً: تمت المفاوضات التي أنتجت مشروع آستانة بين روسيا وتركيا في شكل أساسي، وبالتالي فإن الأتراك هم المفاوض الحقيقي. ويصب سعي الأتراك إلى وقف شامل للقتال في مصلحة الثورة التي استطاع النظام بحنكة ودهاء عسكرتها. وهذا سيتحقق من دون الحاجة الى مشاركة المعارضة السياسية في مؤتمر آستانة، لأن التعويل هنا هو على التفاهمات مع المقاتلين وعلى المصالحات المحلية. المعارضة السياسية تستطيع المساهمة من خلال دعم مواقف المجالس المحلية في المناطق المحررة، والتنسيق بينها.

ثالثاً: تتحكم روسيا بدعوة السياسيين، وهي ستختار الخلطة المناسبة لتوليد المعارضة التي تحقق لها أهدافها. وانسحاب أفراد دعوا بأسمائهم لن يؤثر في المسار العام للمشروع الروسي، ولكنه سيضعف المعارضة أكثر مما ساهمت الدول خلال السنوات الماضية في إضعافها.

رابعاً: عدم مشاركة قوى المعارضة السياسية الرئيسية سيحول بين الروس وخرق الإجماع الحالي حول جنيف، وسيفرض بيان جنيف مرة أخرى كما حدث بعد مؤتمري موسكو وآستانة السابقين.

خامساً: خرقت روسيا وقف إطلاق النار في وادي بردى، وتسعى إلى الحسم العسكري ووضع سكان هذه المنطقة تحت خيارين: إما الاستسلام الكامل للنظام أو تحويل الوادي إلى قطعة من الجحيم، بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع مدن وقرى الشمال السوري.

تدل حيثيات التحركات الروسية، بما فيها التحركات العسكرية على جبهات الصراع داخل البلاد، على أن موسكو تسعى إلى تحويل مؤتمر آستانة إلى منصة لاستسلام المعارضة وقبولها العمل تحت القيادة الراهنة للنظام الذي أدى الى الكارثة السورية، مع تغييرات طفيفة لا تولد تغييراً مهماً في بنيته. هذا يعني أن المعارضة في حال قبولها المشروع الروسي ستصبح شريكة للنظام في كل المآسي المستقبلية التي ستنجم عن استمراره في الحكم. فالنظام سيمنع، كما فعل عبر تاريخه الطويل، قيام أي تغيير حقيقي. وطبيعة النظام واعتماده المتزايد على قوى طائفية محلية واقليمية للاحتفاظ بالسلطة، سيؤديان إلى تدهور كبير في الواقع الاجتماعي والسياسي بدلاً من تحقيق التطور الإيجابي الذي يطلبه ويستحقه السوريون الأحرار.

إن المعارضة السياسية التي تمثل روح الثورة الراغبة في إنهاء الواقع السوري المرير تتحمل مسؤولية وطنية وأخلاقية وتاريخية تحتم عليها الابتعاد عن أي حل سياسي يكرس سلطة نظام الأسد، ويكرس بالتالي واقع الاستبداد والفساد. كما أن احتفاظ القيادات السياسية للمعارضة بموقفها الأخلاقي في رفض الاستبداد والفساد سيبقي على الشعلة التي حملتها ثورة الحرية والكرامة، والأهداف التي قامت من أجلها حية وقّادة يحملها الشباب الواعي من أبناء سورية الأبية ويسعون لتحقيقها عندما يحين الوقت وتتضافر عوامل نجاح التغيير الضروري والقادم بحول الله. المؤرخون يسمون الثورة التي قامت عام 1936 ضد المستعمر الفرنسي بالثورة السورية الكبرى. وهي ثورة انتهت بعد ثلاث سنوات من اندلاعها من دون تحقيق أهدافها ولكنها كانت الخطوة الضرورية التي أدت إلى حصول سورية على الاستقلال عام 1946.

طبعاً هذه ليست دعوة إلى السكينة السياسية ضمن ظروف تتحكم فيها إرادات دولية ودول اقليمية، وتخضع فيها الفصائل الثورية المسلحة لتأثير تلك الدول. بل هي دعوة إلى التحرك بحذر وإدراك حدود القدرة الذاتية وعدم الانجرار خلف تحركات دولية لا يمتلك فيها السوريون فرصاً كثيرة لتحقيق الأهداف التي انتفضوا دفاعاً عنها.

أعلم أن المعارضة منهكة ولكن النظام منهك أيضاً. والقبول بمواقف تلغي السنوات الخمس ونتائجها السياسية على النظام خطأ استراتيجي قاتل. أسوأ ما يمكن أن يقوم به السياسيون اليوم هو التخلي عن ورقة جنيف والقرارات الدولية الداعمة لها تحت ضغط الظرف الراهن. أعلم أن السياق ضاغط والوضع سيئ، ولكني لا أرى أي مخرج للسوريين وعودة للاستقرار خارج إطار عملية انتقالية حقيقية.

اقرأ المزيد
١٢ يناير ٢٠١٧
حلب وآستانة: ما بينهما وما بعدهما

تتكاثر الإشاعات هذه الأيام حول المستقبل الذي ينتظر سورية والسوريين، وحول طبيعة النظام السياسي الذي من المفروض أن يلملم أشلاء سورية أرضاً وشعباً. كما تتناول هذه الإشاعات أسماء الأشخاص الذين سيناط بهم إنجاز مهام المرحلة الانتقالية، أو أولئك الذين سيشاركون في مؤتمر آستانة الخ...

والإشاعات، بموجب معطيات علم النفس التطبيقي، تنتشر في ظل توافر عاملين أساسيين هما: الأهمية والغموض. فكلما ارتفعت درجة هذين العاملين تزايدت الإشاعات، وارتفعت وتيرة انتشارها، لا سيما إذا أخذنا في اعتبارنا واقع تقدّم وسائط التواصل الاجتماعي غير الخاضعة لأية ضوابط تمكّن المتعامل معها من التحقق من مصداقية الأخبار وأشباهها.

فالوضع السوري يمثّل أهمية قصوى بالنسبة إلى المواطن السوري الذي بات يتعلّق بقشة، كما يقال، للخروج من النفق المظلم. كما أن الوضع المعني يمتلك حيوية كبرى على المستويين الإقليمي والدولي لاعتبارات مختلفة تتمحور حول المصالح والهواجس والحسابات المستقبلية.

أما الغموض فباعثه الأساسي إبعاد السوريين، معارضة وموالاة، عن الاطلاع على بواطن الملف السوري وأسراره، وعـلى اتـخاذ القرارات المؤثرة في شأنه.

فالمعارضة بكل هيئاتها ووظائفها السياسية والميدانية مجرد موضوع منفعل، ماهيته ردود الأفعال تجاه الجهود الإقليمية والدولية. هذا في حين أن النظام سلّم أموره منذ زمن بعيد إلى الراعي الإيراني وأذرعه، ومن ثم إلى الحليف الروسي الذي يبدو أنه يتطلع إلى حصيلة مغايرة لتلك التي يرمي إليها النظام الإيراني ويعتمد سياسة لا تطمئن ولي الفقيه على طول الخط.

وقد بدأ الغموض يلف موضوع الحل السياسي في سورية مع بدايات الغزل الروسي - الأميركي، الذي تحوّل لاحقاً إلى عتب المحبين - المتخاصمين.

ومع ظهور نتائج الانتخابات الأميركية بمفاجأتها الكبرى، انتقلت إدارة أوباما إلى سياسة التصعيد المحدود المدى مع الروس، وذلك انتظاراً لمجيء الإدارة الجديدة بقيادة ترامب الذي يحيّر الجميع ويربكهم بغموض توجهاته، وسرعة انعطافاته، الأمر الذي يسمح بإطلاق العنان لمخيلات نسج الإشاعات وترويجها. هذا علماً أن إدارة أوباما بوعودها التبشيرية ونتائجها الواقعية الصفرية تظل المسؤولة الأولى عن انهيارات منطقتنا.

وفي أجواء ترقّب المقبل المجهول من جانب ترامب، قام الروس بتنسيق غير مسبوق مع الجانب التركي وسط مناخ يوحي بوجود توجه جدي روسي غير عادي في التعامل مع الملف السوري، وذلك عبر استثمار حصيلة ما بعد حلب، وتجاوزها في الوقت ذاته.

فقد حقّق الروس بإسقاط حلب جملة أهداف من الواضح أنها ستكون ركائز خطتهم الجديدة الخاصة بسورية تحديداً، وبعلاقاتهم الإقليمية والدولية في صورة عامة.

فقد أثبتوا مقدرتهم الميدانية بقوة نيرانهم الاستراتيجية في مواجهة مدينة محطمة، ومدنيين محاصرين، ومقاتلين تقرّر حرمانهم، بفرمان سياسي دولي، كل وسيلة للدفاع عن النفس في مواجهة الطيران.

كما تمكّنوا من انتزاع دور في الملف السوري معترف به، ولو على مضض إقليمياً ودولياً. واستطاعوا في الوقت ذاته إفهام الحليف المنافس، أي النظام الإيراني، أنه لن يكون الآمر الناهي في سورية مستقبلاً، سورية التي تحتل في لعبة التوازنات الدولية موقعاً أهم من أن يترك لقمة سائغة للمشروع الإيراني القائم على أساس التطويع السكاني والتغيير المذهبي، وفرض نهج ديني أوتوقراطي لا تستسيغه غالبية الطائفة العلوية نفسها، ناهيك عن المذاهب والأديان الأخرى، لا سيما السنّة، أي الغالبية الغالبة في بلاد لا يناسبها سوى الاعتدال والتعايش بين الجميع ومن أجل الجميع.

من ناحية أخرى، عزّز الروس وجودهم الدائم في المياه الدافئة، وهذا ما سيمنحهم فرصة أداء دور مستمر لعقود مقبلة في عملية ترتيب أو إعادة صياغة معادلات التوازنات الإقليمية.

ولإدراك الروس حساسية الملف السوري عربياً وإسلامياً، استغلوا اللحظة الحرجة مع استكمال السيطرة على حلب، وعملوا على إعطاء أنفسهم صورة مثالية عن أخلاقية المنتصر. فأجروا سلسلة اتصالات ومفاوضات مع القوى الميدانية، ومن بينها بعض تلك التي كانت روسيا تعتبرها إرهابية، وتقصفها إلى جانب المخابز والمشافي والمدارس.

ونجحوا عبر التنسيق والتفاهم مع تركيا، التي تنطلق هي الأخرى من ظروفها المتداخلة، وأولوياتها المستجدة، من الإعلان عن وقف لإطلاق النار، ومتابعة الاتصالات والمشاورات لتحديد هوية ووظيفة الذين سيشاركون في اجتماعات آستانة، التي يريد الروس لها أن تكون حاسمة قدر الإمكان، مع تيقّنهم من أن المآلات لن تكون وردية لمصلحتهم كما يرغبون، وإنما هناك قوى أخرى مهمة لها دورها المؤثر، وهي لم تقل كلمتها بعد. ويشار هنا عربياً إلى السعودية، ودولياً إلى الولايات المتحدة الأميركية ومعها حلفاؤها الأوروبيون.

النظام الإيراني قلق إلى أبعد الحدود مما يجري. فهو لا يمتلك أدوات الضغط الكافية لعرقلة التوجه الروسي، لكنه في الوقت ذاته يدرك أن استمرار الأمور هكذا ربما كان مقدمة لبلورة ملامح التفاهم الروسي – الأميركي على أرض الواقع، وهو تفاهم من شأنه أن يحدّ من النفوذ الإيراني في سورية. وهذا النفوذ الذي يتمثّل في صيغة من تغلغل لافت في مفاصل الدولة والمجتمع، يثير عواطف السوريين جميعاً وهواجسهم، وفي اتجاهات مختلفة. فهو يثير امتعاض، أو ارتياح، مجموعة لا يستهان بها من الضباط السوريين الموالين للنظام ممن يرتبطون مع الروس بصلات عدة منها القرابة عبر الزواج، أو القدرة على التفاهم بفعل مشاركتهم في دورات تدريب روسية، أو عبر التقاء المصالح التي عادة يكون التوافق في شأنها مع قوة عظمى أسهل وأقل كلفة، وذلك قياساً بالتفاهم مع قوة أخرى توجهها عقلية تتدخل في تفاصيل التفاصيل.

روسيا تعد العدة لمؤتمر آستانة، وستشاركها تركيا وإيران أيضاً. وليس سراً أن حاجات حيوية قد جمعت بين هذه الدول في الوقت الحالي. لكن الأولويات والمنطلقات والمصالح متغايرة. كما أنه ليس سراً أن الجميع في انتظار الرئيس الأميركي المقبل. ولعل هذا ما يفسر الحرص الروسي على نيل مباركة مجلس الأمن، مقابل التأكيد بأن ما جرى وسيجري لن يكون بعيداً من الجهود الدولية لمعالجة الوضع السوري. ولهذا كانت الإشارة المقتضبة إلى بيان جنيف والقرارات الدولية، والزعم بأنها ستكون في الخلفية ففي صيغة ما. هذا مع أن ما يستشف من التسريبات والترتيبات يؤكد وجود نزعة تستهدف تغيير قواعد اللعبة عبر آستانة.

وتبقى المعارضة السورية بكل مسمياتها ووظائفها المعنية أكثر من غيرها بكل يُعمل عليه، لأن المصير في نهاية المطاف هو مصير سورية وشعبها. فهذه المعارضة مطالبة بالعمل الجدي من أجل توحيد الرؤية والموقف، وتحقيق التشابك الفاعل بين الجهود السياسية والعسكرية والإعلامية والديبلوماسية، حتى تتمكّن من امتلاك الحد الأدنى من مقوّمات الاستعداد لتحديات المرحلة الصعبة المقبلة.

اقرأ المزيد
١١ يناير ٢٠١٧
تكون المعارضة السورية أو لا تكون

مضت عجلة الحراك الثوري السوري إلى الأمام خلال ست سنوات طاحنة، تغيرت فيها ثوابت كثيرة، وشهدت تغييرات عديدة، وعلى المستويات كافة. ودخلت هذه العجلة في مراحل متعدّدة، اختلطت فيها لحظات الانتعاش مع الانكسار، الوجع مع الأمل، التمدّد والتقلص ...إلخ، وشهدت انعطافات وانتقالات متسارعة في مستويات عملها، واتسمت مآلاتها باحتمالات ظهور متغيّر، يمنحها هوامش عمل جديدة، يعيد خلط الأوراق، ويؤجل الحسم لأي طرفٍ كان، إلا أنه، وبعد زلزال حلب أخيراً، والتداعيات السلبية المتدحرجة على بنية المعارضة وتوجهاتها ووظائفها، وما لحقها من استثمار سياسي روسي، أنتج ما عرف بإعلان موسكو الذي يعرّف الملف السوري بالاتساق مع المخيال الروسي الصرف، فقد بات لزاماً على المعارضة السورية إدراك أزمتها العميقة، وطبيعة امتحاناتها الحالية والمؤجلة. حيث إنه، وعلى الرغم من أن أحد أهم قراءات نتائج معركة حلب بأنها نتاج طبيعي لتضافر (وتنامي) عدة سياقات، تتعلق بمفهوم "إدارة الأزمة"، أفرزت استفراداً روسيّاً أخلّ "التوازن النسبي" الذي كان متحكّماً في المعادلة العسكرية خلال سني الصراع المسلح، إلا أن أهم هذه القراءات وجوهرها يؤكد على العوامل الذاتية الكامنة وراء الخسارة الاستراتيجية لحلب، وفقدان عنصر التأثير في جيوب وجبهات كثيرة، لا سيما في الجنوب وحول العاصمة، وتتمثل في سياسة معظم فعاليات المعارضة (السياسية والعسكرية والمدنية والدينية) في دفع استحقاقاتها إلى الأمام، بغية التهرّب منها، لعدم امتلاكها القدرة على مواجهة تلك الاستحقاقات على المستوى البنيوي تارةً، ولعدم امتلاك القرار الوطني المفضي إلى مواجهة التحديات والامتحانات الداخلية تارات عدة.

وأمام أسئلة واقع "ما بعد حلب" التي لم تعد تقبل التأخير والتسويف والمماطلة، تتدافع ثلاث دوائر مهمة في المجال العام للمعارضة والثورة للإجابة عنها، فالأولى أتت من داخل الجسد العسكري، ولا سيما شقه الفصائلي "الإسلامي"، باحثاً عن "توحيد عابر للفصائلية"، إلا أنه يتجاهل قصداً تحديات الاندماج والتوحيد الفكري ومتطلبات مراجعة المستندات الناظمة لهذا العمل، فنجدها لا تزال تتجاوز الثورة لصالح مشاريع سلطة عقدية سياسية بديلة، ولا تراعي ما تكتنفه الجغرافية السورية من ارتكاساتٍ تتحمل بوصلات عمل هذه الفصائل الجزء الأهم منها، هذا البحث عن صيغ جديدة، بالمضامين الفكرية والسياسية نفسها، لا يخرج عن كونه حركة براغماتية ضيقة الأفق، ستجعل أسباب الحريق والتشظّي السوري مستمرة.

أما الدائرة الثانية فتنبع من الحواضن الشعبية المثقلة بالغضب والألم، وباتت تحت نصل "المصالحات" التي تبتزهم بملفات إنسانية مغرقة في البساطة، في وقت يصدّر النظام هذا التطويع والتجويع والتركيع على أنه "نصر مبين"، أو أمام فوهة البندقية المسلطة عليها من كل الأطراف الفاعلة أرضاً وبرّاً، إذ تجهد هذه الحواضن لتوسيع هوامش فاعليتها عبر الضغط باتجاه مأسسة العمل العسكري الثوري، وضرورة تماهيه مع الثورة ومطالبها؛ والدفع باتجاه اتباع استراتيجيات عمل بديلة، تجنب البنى المحلية أكبر قدرٍ ممكن من الأضرار، عبر تركها للفاعلين المدنيين، وتغيير طبيعة العناصر العسكرياتية المتبعة في "إدارة العمليات"، كتعزيز مفهوم التحصين والهندسة العسكرية، واتباع نهج المهام الخاصة وتكتيك التموضع المتبدل/ المرن، وتبقى سياسة الضغط تلك رهينة فواعل عسكرية، تتحمّل مسؤوليتها التاريخية في "استيعاب المرحلة" والانسجام وظيفياً مع متطلباتها، ويتحكّم بها هامش الزمن الضيق جداً لسياسة الاقتلاع والتهجير التي قد تطاول تلك الحواضن، وتلغي أثر أي ضغط لها.

والدائرة الثالثة، والتي تعد حركيّتها الأكثر خجلاً، والأقل إدراكاً لمآلات المشهد التي تنبئ بتجاوز سكة الحل التي ترتسم لبنيتها، وللأدوار المحتملة كافة، وهي دائرة الممثلين السياسيين، كالائتلاف والهيئة العليا والأحزاب والتيارات التقليدية على سبيل المثال، إذ اتسمت تلك الحركية بالتثاقل، نظراً لأسبابٍ تتعلق بكمون العطالة التي تكتنف هياكلها من جهة، والتسليم لمبدأ استلاب القرار الوطني من جهة أخرى. وكانت ردة فعلها محصورةً ما بين تنظير عبر الفضاء الإلكتروني بشكل يكرس فقدانهم آليات تفعيل الرؤى، أو الاستقالة الشخصية في محاولةٍ منهم للتبرئة من مسؤولية ما جرى، أو لفقدان الأمل في أية فعاليةٍ، ترتجى من تلك الأجسام. وفي المقابل، غاب عن هذه الدائرة أن هذه الأحداث فرصة حقيقية للبدء بامتلاك أدوات التمكين والمبادرة، وتصحيح التشويه الحاصل في العلاقة بين السياسي والعسكري، وإعادة تعريفها بشكلٍ يضبط الحركة العسكرية بعقارب القيادة السياسية، إذ كان متوقعاً منها أن تتبنى مبدأ "حسن إدارة الأزمة"، عبر تشكيل غرف عمليات مستمرة، تستطيع بها توظيف الإنجاز العسكري سياسياً، أو تقلل من تبعات الخسارة، عبر جولات تفاوضية تتيح لها هوامش حركةٍ ما، وتلك هي أبجديات العمل السياسي. أما الاستسلام الكلي لزخم الأحداث وعدم امتلاك القدرة على هضمها وإنتاج مقاربات مواجهةٍ ناجعة فيجعل شخوص هذه المؤسسات غير مؤهلين لقيادة مدرسة ابتدائية، وليس إدارة ملفات وطنية.

وما بين تلك الدوائر وصعوبة الآتي، ينتظر من المعارضة السورية في هذه المرحلة أن تدرك خطورة بقائها كما كانت عليه (سياسةً وأدوات وهياكل)، وأن تجهد في اتباع استراتيجيات ثلاث. الأولى استيعاب الأزمة، والعمل على احتوائها عبر إبداء "التوازن" السياسي للحركة العامة، وعدم الإغراق بجلد الذات بهدف جلد الذات فقط، والتمسّك بأوراق القوة المتبقية في حوزتها، كالشرعية التمثيلية، سواء على المستوى السياسي الدولي والإقليمي، أو على المستوى المحلي ونماذج الحكم المحلي الناشئة، أو حتى ما هو متعلقٌ بتوازن الردع في دمشق ومحيطها، والابتعاد عن اندماجات غير متسقةٍ ومتسرعةٍ، تحمل في طياتها أسباب الانحلال والتصدّع النهائي، وذلك كله بالتوازي مع تفويض مجموعة ورش عمل مغلقة للتقييم والمراجعات والحسم في تعريف العلاقة مع كل المشاريع العابرة للثورية، وللتباحث أيضاً في آليات التغيير، وتذليل كل أسباب العطالة، وامتلاك مقومات الصمود والاستمرار.

تنبع الاستراتيجية الثانية أولاً من ضرورات صد استراتيجية النظام التي تطمح لتركيع مناطق سيطرة المعارضة في الوسط والجنوب السوري، عبر سلاح المصالحات، وذلك بإعداد خطةٍ متكاملةٍ لتحويلها إلى هدن تتوازن فيها شروط كل الأطراف، وتقوم على عنصرين رئيسيين، تثبيت جبهات الصراع بإشراف دولي، ووحدة مصير المناطق المهادنة، والتي ستضمن عرقلة سياسة الاستفراد التي ينتهجها النظام، كما ترتبط هذه الاستراتيجية عضوياً بخيار المواجهة الوجودي مع المشروع الإيراني، والعمل على الاستمرار بضربه سياسياً وعسكرياً. بينما تتعلق الاستراتيجية الثالثة بخيارات المواجهة الدبلوماسية، وقبول كل التحديات المفروضة، وعدم ترك أي شاغر في سياق أي مفاوضات محتملة، واستكمال أي أعمال تتعلق ببرامج ورؤى وآليات تنفيذية، تسهم في التغيير والانتقال السياسي. وهذا نابعٌ من ضرورات الحضور التي تفرضه الواقعية أولاً، والانتقال إلى أدوات النضال السياسي، بحكم التقهقر العسكري ثانياً.

ولعلي أختم بالقول إن كتب مؤرخي التاريخ في صفحاتهم أن المعارضة السورية استطاعت عبور هذا النفق المظلم، فذاك حكماً سيكون مردّه تبلور مفهوم الارتقاء إلى مستوى الحدث ومسؤولياته، ولقدرتها على العودة، والالتحام مع ثورة شعبٍ، يستحق العزة والحرية والكرامة. وإن لم يكتب أولئك المؤرخون ذلك، فلا تلومن المعارضة إلا نفسها، لأنها أضاعت الفرصة، وفشلت في امتحانها الوجودي، وساهمت، بشكل أو بآخر، في مأساة الوطن والمواطن السوري.

اقرأ المزيد
١١ يناير ٢٠١٧
هل انتهت الثورة السورية؟

ما من شك في أن سقوط حلب، وما أعقبه من تراجع في إمكانية تحقيق إنجازات عسكرية استراتيجية للفصائل المقاتلة، قد نشر جواً من التخبط والتشاؤم في صفوف القوى الاجتماعية العديدة التي وقفت مع الثورة في مراحلها المختلفة، وقدّمت تضحيات هائلة من أجل نجاحها. ولأن العديد منها لم يعد واثقاً من ثمار هذه التضحيات، يسود إحباط كبير بين صفوف جمهورها والشعب الذي افتداها بكل ما يملك.

ويساعد هذا المناخ الغامض والمشكك الكثير من الأفراد والمجموعات التي تفتقر لوعي وطني أو التزام اجتماعي على أن تتقدم الصفوف، لتطبق أجنداتها الخاصة، وتجيّر الثورة لأهداف مختلفة عن أهدافها الأصلية.

أما تلك القوى التي لم يكن لها منذ البداية أمل كبير بالثورة، أو التي لم تؤمن بها، ولا تتعاطف مع شعاراتها ومشروعها، فهي تشعر اليوم بالفرح، إن لم نقل بالنصر أمام ما تشهده القوى الاجتماعية التي وقفت وراء الثورة من تقلب الأحوال والشك والانتظار. وأكثر فأكثر تبرز، من وراء الخطاب المحبط، الأطروحات التي تدعو إلى وقف الثورة أو الاعتراف بالهزيمة.

الثورة بين خياري الحرب والمواجهة
جرّت الثورة السورية وراءها، بعد أن عجز نظام الأسد عن كبح جماحها، تحالفاً واسعاً من الطبقات وقطاعات الرأي، ذات التطلعات والمطالب المتباينة، وأحياناً المتناقضة أيضاً التي جمع بينها شعار واحد، هو إسقاط النظام. وفِي ما وراء هذا الهدف الذي يمثل مطلباً عاماً ومشتركاً لم يحدّد التحالف الثوري المضمون الفكري والاجتماعي للنظام القادم، ولكنه أكّد على مبدأ الاحتكام للشعب، مؤكّداً مع ذلك، كما تظهر أسماء جمع التظاهر، على الطابع المدني والتعدّدي للدولة القادمة، واحترام مصالح جميع الأطياف القومية والطوائف على مستوى واحد. وهذا هو جوهر العهد غير المكتوب الذي اجتمعت من حوله قوى الثورة السورية في مظاهراتها السلمية، وهو أيضاً العنصر الأول في بناء النظم الديمقراطية، والأصل في ولادة الشعب بالمعنى السياسي، باعتباره مصدراً للسلطة. والواقع أنه، من دون فتح هذا الأفق الديمقراطي، كانت الثورة ستظل في أفق الهدم والسلبية، ولا ضمان تماسك التحالف الاجتماعي القائم من ورائها، ولا تقديم آلية سياسية للخروج بنظام جديد. الديمقراطية كاحتكام للشعب في كل القرارات المتعلقة بالحياة العامة هي التي تعيد تركيب النظام العام على أسسٍ جديدة، تضمن العدالة التي ثارت قوى متعدّدة ومتباينة المصالح من أجلها، وتساوي بين جميع أفرادها، بما في ذلك الذين لم يشاركوا في الثورة أو كانوا ضدها.

لكن هذا الأفق الديمقراطي الذي سيطر على جمهور الثورة في سنتها الأولى لم يحظ بالوقت، ولا التقى الشروط الكافية التي تسمح له بالرسوخ والتحول إلى خيار ثابت. وما لبث أن تراجع تدريجياً لصالح توجه إسلاموي سيطر على موقع القيادة والتوجيه، في صفوف الفصائل المقاتلة أولاً، ثم على فكر أكثرية المناصرين للثورة في ما بعد.

لم يكن إضعاف الخيار الديمقراطي لصالح الخيار الإسلامي في الثورة السورية مصادفة، ولا لأسبابٍ دينيةٍ أو مذهبيةٍ أو أيديولوجية، وإنما كان هدفاً استراتيجياً اشتغل عليه النظام بالوسائل العسكرية والدعائية معاً منذ اللحظات الأولى. وهذا ما كان مستهدفاً من إنكار حقيقة الثورة وربطها بالإرهاب والرد عليها بإطلاق حرب حياةٍ أو موت، والقضاء بأبشع الوسائل على جيل النشطاء الأول، بالقتل أو الاعتقال أو النفي، وإطلاق سراح زعماء السلفية الجهادية من سجونهم، والاشتغال المنهجي لأجهزة النظام وإعلام حلفائه أيضاً على تأجيج مشاعر الانقسام الطائفي والقومي، ونشر صور المعاملة المهينة والحاطّة بكرامة الإنسان التي تقوم بها قواته على أوسع نطاق، لإثارة رد فعل مماثل، ثم تحالفه مع قوى الحرب الطائفية في طهران، وتبني توجهاتها الجيوستراتيجية. وساهم في الدفع نحو هذا المنزلق أزمة هوية مستدامة في المنطقة وانتشار الأفكار السلفية واستيطان المنظمات المتطرفة (كالقاعدة) التي نشأت في سياق حروب النزاعات الدولية، والتي كانت تربطه علاقات قوية معها في العراق، وكثرة الجمعيات الإسلامية، بل السلفية، التي تتغذى من فوائض اقتصاد الريع النفطي. وأخيراً، الشرخ الذي نجح النظام، وأوساط سياسية يسارية، في شقه داخل جمهور الثورة بين إسلاميين وعلمانيين منذ الأشهر الأولى، متهما الإسلاميين بالسيطرة على الأطر السياسية للمعارضة.

فضّل النظام تفجير الحرب الإقليمية والمذهبية على الاعتراف بشرعية الاحتجاج والقبول بتعديل قواعد عمله وسلوكه. وكما اختار نقل المواجهة إلى المستوى الإقليمي، اختار عن قصد، وكجزء من استراتيجية الحسم العسكري، وتوسيع قاعدة التحالف الإقليمي والدولي لصالحه، خيار الحرب الطائفية والقتل على الهوية لجعل الحرب حرب وجود بين أقليات وأكثرية، ومسلمين وغير مسلمين. ووضع ثقله وثقل حلفائه جميعاً في الميزان في سبيل تحويل الثورة السياسية إلى حربٍ أهليةٍ والقضاء على الخيار الديمقراطي الذي يشكل المشروع السياسي الوحيد الجامع لقوى الثورة، أو القادر على جمعها، ومن ورائها تشكيل البديل المقبول من الشعب لنظام الأسد. وكما قادت هذه الاستراتيجية إلى احتلال المليشيات الطائفية، وزعيمها الولي الفقيه في طهران، مقدمة المسرح في صف الثورة المضادة، أدت أيضا إلى هيمنة الفصائل الإسلامية على معظم قوى الثورة وقياداتها، ودفعت إسلاميين كثيرين في العالم إلى التعاطف معها، والضغط لمذهبتها، وحكمت بالتراجع المتزايد لحلفائها الأوائل عنها.


إسقاط الخيار الديمقراطي
كما كان ينتظر النظام، ما كان للعسكرة إلا أن تقود إلى تغيير القاعدة الاجتماعية الأساسية للثورة، وإعادة صياغة توجهاتها وبرنامجها السياسيين، على حساب القيادة التي نظمت التظاهرات، والطبقات التي كانت وراءها، قبل أن تقضي، في وقتٍ لاحق، على تظاهرات الاحتجاج السلمي نفسها. ولم يكن من غير المتوقع أن يقود صعود الطبقات الشعبية إلى واجهة الصراع، في ظرف افتقار البلاد إلى أي حياةٍ سياسيةٍ خلال نصف قرن الماضي، وانعدام الخبرة التنظيمية ومفهوم الحوار الوطني نفسه، إلى بروز دور الوجاهات الدينية والعائلية على حساب رجال السياسة والثقافة. هكذا، أدت المواجهة الدموية التي فرضها النظام على الثورة إلى حرمان التحالف الشعبي الذي التأم وراءها من فرصة التبلور والتجذّر والاستمرار، وأظهرت هشاشة أسسه الفكرية والسياسية، وأجهضته قبل أن ينضج، فخبت دعوة الديمقراطية ومشروعها تدريجياً لصالح المنظور الإسلامي السلفي. وظهرت أول مرة محاولة ربط الثورة بمظلومية السنة، وتعريف من كانوا يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة أنفسهم كطائفة، حتى بدا وكأن الدولة الإسلامية، شعاراً ورؤية سياسية، أصبحت مشروعاً سياسياً خاصاً بهم، ولإنصافهم مقابل الدولة العلمانية التي ربط النظام وحلفاؤه بينها والأقليات المذهبية والدينية.

ما ساعد النظام وحلفاءه على تحقيق هذه الأهداف أيضاً عاملان. الأول ضعف مقاومة التيارات الإسلامية الإصلاحية لصعود السلفية وتشوشها بأفكارها، وذلك بسبب حداثة عهدها بالفكرة الديمقراطية وتبنيها السطحي لها، قبل أن تشعر، منذ عام 2016، بخطرها عليها. والثاني ضيق الأفق الذي طبع دائماً تيارات العلمانية العربية، والسورية خصوصاً، والذي حوّل العلمانية إلى عقيدةٍ خاصة إقصائية، وشجع أنصار العلمانية وجمهورها على الدخول في معركةٍ مع الإسلامية الإصلاحية في ذروة الصراع ضد وحشي الطغيان والسلفية الجهادية، بدل السعي إلى جذبها إلى صف الخيار الديمقراطي وقطع الطريق على استسلامها للسلفية.

وعلى مستوى آخر، لم يكن للخيار الديمقراطي، أو أفضل الشعبي، في الثورة السورية أي "حليفٍ" قوي حقيقي، لا داخل سورية، في صفوف النخب الحاكمة والسائدة، ولا في المحيطين، الإقليمي والدولي، ولم تكن أكثر القوى والدول، بما فيها التي أظهرت التأييد لمطالب الشعب، في عداء مع الأسد، ولا كانت لديها أي رغبة فعلية في تغيير النظام الاستبدادي. كانت مصالحها تقتضي امتصاص النقمة الشعبية والقيام بتنازلات جزئية، أي بإصلاحات من داخل النظام نفسه، في اتجاه تخفيف جرعة العنف الدموي التي يفرض على الشعب تجرعها، من أجل الحفاظ على الاستقرار والعلاقات القوية مع سورية. فالواقع أن النظام السوري لم يكن نظاماً سياسياً محلياً أو سورياً، يقوم بوظيفة الحكم، بصرف النظر عن نمط حكمه، داخل سورية وتجاه الشعب السوري فحسب، وإنما كان جزءاً من منظومة إقليمية، وله وظيفةٌ في حفظ التوازنات الجيوسياسية والاستراتيجية المشرقية والشرق أوسطية أيضاً، وربما كانت هذه الوظيفة الثانية الأهم والأصل في بقائه، وفي غض النظر عن أسلوب حكمه وتحكّمه الدمويين. بل إن هذا التحكم ذا الطابع الهمجي الذي لا يعير أهمية لمبدأ، ولا قاعدة ولا عرف، كان نقطة الضعف الرئيسية فيه، وكان بإمكانه لو توفرت له قيادة تثق قليلاً بنفسها ومستقبلها، وتتصرف باحترام أكبر ليس للقانون الوطني والدولي، وإنما لمظاهرهما السطحية على الأقل، أن يكون أكثر قبولاً وتأييداً خارجياً، من دون أن يتعرّض لأي تهديد، بالعكس كان ذلك سيبرّر للغرب والخليج أن يقدما له المزيد من الدعم والمساعدات المجانية.

وليس خافياً أن جميع الدول التي وجدت نفسها مسوقةً لدعم المعارضة كانت من أقرب الحلفاء لنظام الأسد، وأكثرها دعما له، من دول الخليج إلى تركيا إلى أوروبا الغربية. كانت بالأحرى تخاف عليه من الثورة الشعبية بمقدار ما تخاف من الثورة ذاتها على استقرارها و"استقرار" المنطقة، كما ظهر ذلك واضحاً أيضاً في تونس ومصر ودول الربيع العربي الأخرى. وكانت سياستها تقتضي لملمة الوضع، وإيجاد حل سريع يجمع بين النظام والمعارضة، أو ينزع فتيل ثورة عارمةٍ، ويفتح الطريق أمام تسويةٍ سياسيةٍ تؤمن بعض تطلعات الشعب الأساسية، وهي الكرامة المرتبطة بالتسليم بحد أدنى من الحرية الشخصية، أي الحدّ من استباحة النظام وأجهزته الأمنية لحرمة الإنسان وحقوقه الأساسية في الأمان على نفسه وأهله وملكه. وهذا كان مضمون المبادرة العربية التي ستتحول إلى مبادرة دولية، بلورها كوفي أنان في ست نقاط، وعرفت في ما بعد باتفاق جنيف 1. ولم تتحول إلى ثورة مسلحة داخلية، ومن ثم إلى حرب إقليمية تتواجه فيها الدول المؤيدة للأسد والمعادية لبقائه، إلا لأن النظام قرّر قطع الطريق على أي إصلاح، وقضى على أي تعبير عن رغبةٍ في الحوار في صفوفه نفسه، كما تشير إلى ذلك تصفية رجال خلية الأزمة، وفتح الأبواب واسعة أمام التدخل الإيراني المباشر.


من الحرب إلى السياسة
هل يعني هذا أن الثورة السورية قد انتهت، أو أن التحالف الشعبي الواسع الذي وقف وراءها، وضحّى من أجل انتصارها، ما لم يضح به شعب من قبل، قد تفكّك، وأن الخيار الديمقراطي لم يعد له أي أمل في استعادة المبادرة، ولم يبق غير الاستسلام والقبول بالأمر الواقع وإعادة تأهيل النظام؟

ينبغي القول، أولاً، إن الذي انتهى بالفعل هو النظام الذي تحول إلى أنقاض بمقدار ما حول الدولة والبلاد إلى أكوام من الركام والخراب. وأنقاض نظامه السياسي والإداري والفكري لا تختلف أبداً في حقيقة وجودها ومضمونه عن الأنقاض المادية التي نشهدها في المدن والبلدات والأحياء والقرى السورية العديدة المدمرة. وهذا يعني أنه فقد أي مقدرة على التماسك الذاتي وتنظيم نفسه وصياغة أجندة سياسية خاصة به، ولا يستمر في الوجود، على مختلف مستوياته العسكرية أو السياسية أو الفكرية، إلا بفضل ما تبثه فيه الدول الأجنبية المنتدبة باسمه، إيران وروسيا، من النظام والوحدة والاتساق. وقد سلم أمره طواعية، بما في ذلك على الصعيد العسكري، لهاتين الدولتين، وصار رهينة في يديهما. وليس لهذه الدول مصلحة في أن تعيد بناء النظام وتوازنات المصالح بما يساعد على إحيائه بعد موته، ولن تستطيع إحياءه حتى لو سعت إلى ذلك. إنما ستعيد بناء نظام يتفق مع المصالح التي اكتسبتها وتلك التي تراهن على اكتسابها.

وبصرف النظر عما يُشاع ويتداول في الصحافة اليومية، لن تقوم للنظام قائمة بعد الآن، كما لن يأتي أي حل من الأستانة. وليس ما يدور الصراع من حوله الآن بين الدول والقوى الداخلية والخارجية إعادة تأهيل نظامٍ لم يعد له وجود، وإنما هي تحتفظ به غلالة تخفي من ورائها صراعها على تقرير شكل النظام البديل الذي تطمح كل منها أن تجعله أقرب لأطماعها ومصالحها وأحلامها، وعرضياً على إيجاد الطريقة التي تمكن الأسد وبعض أزلامه من الخروج من دون حساب وعقاب، جائزة ترضية على مهمته وتسليمه لها بالقرار.
ثم إن نظام الأسد انتهى، لأنه لم يكن في أي فترة سابقة في وضع أسوأ مما هو عليه اليوم، للرد على مطالب الطبقات والشرائح والفئات الاجتماعية التي قاتلت ست سنوات متواصلة لإسقاطه. وإذا كان قد أفلس في إقناع الشعب به، والرد على حاجاته وهو في أحسن أوضاعه، الداخلية والخارجية، قبل الثورة، فكيف بإمكانه اليوم، بعد كل هذا الخراب والدمار، في الداخل والخارج، أن يعيد ترميم نفسه، ويرد على تطلعات الشعب الذي أدماه.

لن يوقف الثورة، بمعنى الخروج على نظام الأسد والسعي إلى إسقاطه، وربما اليوم أكثر الانتقام منه، شيء بعد الآن سوى سقوط الأسد بالفعل، ومعه طغمته وطرائق الحكم التي أوصلته إلى السلطة وقواعد ممارسته لها ومبادئه وتوجهاته. وهذا يعني أن الثورة سوف تستمر، والخروج على القانون يتحوّل قانوناً ما دامت الدولة أصبحت هي نفسها من دون شرعة ولا قانون. وإذا لم ينجح التحالف الشعبي الواسع في إسقاط الأسد بالضربة القاضية، نظراً لقوة الدعم الخارجي له، فقد قتله في حرب الاستنزاف الطويلة. وهذا ما حصل بالضبط. وما نراه اليوم هو جثته التي يحافظ عليها ورثته بماء العين لإخفاء الوجه القبيح للاحتلال الأجنبي.

لكن سقوط الأسد ونظامه لن يحل وحده المشكلة، ولن يجلب الأمن والاستقرار والازدهار، فبديله لن يكون سوى حكم الاحتلال والانتداب الأجنبي معاً، وبالتالي الاستمرار في الفوضى والنزاع. لن يحقق الاستقرار والأمن والعودة إلى الحالة الطبيعية وحكم القانون، وعودة الأعمال إلى ما كانت عليه، سوى النجاح في إقامة النظام الذي يمثل الشعب، ويستجيب لتطلعاته ويلبي حاجاته، وفي مقدمها الحاجة إلى الكرامة والحرية، أي إلى الاعتراف بسيادة الشعب وحقه في تقرير مصيره، وقبل ذلك بوجوده كياناً وهويةً وأصلاً، وإخضاع النخب الحاكمة له ولخدمته، لا العكس. وهذا هو المخرج الديمقراطي للثورة السورية، وهو المخرج الوحيد الذي يسمح بإعادة تشكيل التحالف الشعبي الذي ثار ضد الأسد، وتعزيز أركانه الفكرية والسياسية والاجتماعية، بما يساعد على تحويله إلى قطب رئيسي قوي، تدور من حوله الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية السورية، وقاعدة قوية لنظام سياسي اجتماعي متين وراسخ، يصمد لإغراءت الانقلابات على الدستور، عسكريةً كانت أم مدنية.

انتهت مرحلة أولى من الثورة السورية، وبدأت مرحلة ثانية يسيطر عليها العمل السياسي، من دون أن يعني ذلك التخلي عن المقاومة المسلحة، أو الاستهانة بدورها. وجوهر مهام هذه المرحلة إعادة تجميع وتوحيد القوى الشعبية التي شتتها القتال الوحشي والدامي، وترميم التحالف الديمقراطي الذي زعزع أركانه التدخل الأجنبي، وحل تناقضات المصالح بين جماعاته وطبقاته وتياراته، والذي يستطيع وحده إعادة وضع السياسة السورية على قدميها، والسماح للمجتمع السوري أن يدخل، أخيراً، في السياسة، بعد نصف قرن من الحرب، الباردة والدموية معاً، وما خلفته من جراحات وندوب وانقسامات مذهبية وقومية وضياع لا يمكن لأي سلاح قاتل أن ينجح في علاجه. وفي هذا الانتقال المنتظر من الحرب إلى السياسة، ليس هناك رهان سوى على جيل الشباب الجديد الذي عركته معارك الكفاح، من أجل التحرّر من العبودية، ولم تعد له علاقة بثقافة الماضي، ولا بأوهامه ومخاوفه. هو وحده المؤهل لاستعادة المبادرة.

فسورية القادمة إما أن تكون ديمقراطية أو لن تكون.

اقرأ المزيد
١١ يناير ٢٠١٧
وادي بردى مصالحات الماء

وادي بردى محاط بغوطة شديدة الخضرة تلامس ظهر دمشق، وتؤمن المجرى المائي الذي يروي أهالي العاصمة، تتوزّع قراه الثلاث عشرة على طول النهر، وتدنو بيوتها إلى أقرب نقطة من حوافِ الوادي وضفاف النهر. يمتلك الوادي كل المياه التي تحتاج لها دمشق، والتي يتم حصادها خلال موسم الشتاء من على المنحدرات الجبلية التي تحفّ بالوادي، وتنحدر خلال فصلي الربيع والصيف على طول المجرى، ولمسافة خمسة وثمانين كيلومترا. شكَّل وادي بردى رئة دمشقيةً وخزاناً مائياً عذباً، وصنِّفت مياهه بأنها من أعذب مياه الدنيا.

خرجت منطقة الوادي عن سلطة النظام في وقت مبكر من عمر الثورة وما زالت. لكن، لم يشكل امتلاك ماء الشام والقدرة على التحكم بمجراها طوق نجاة للسكان، فصبّ النظام حممه على الوادي، وحاصره وقتل عديداً من أبنائه.

بعد سيطرة الأهالي على قراهم، وخروج أجهزة النظام من وسط البلدات وتشكيل الجيش الحر، ضرب النظام حول القرى الحصار. ومع بداية عام 2012، هدّدت كتائب الجيش الحر بقطع مياه النبع عن دمشق، بعد الحصار الخانق على سكان المنطقة من النظام، فلمحوا إلى إمكانية إيقاف ضخ المياه من نبع الفيجة. أذعن النظام عندها، وخفّف من ضغطه على قرى الوادي، وجرى تسليم النبع وملحقاته الميكانيكية والفنية إلى جهةٍ تقنيةٍ متخصّصةٍ قامت بإدارته. جرت الحادثة الثانية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2014، فقطعت تنظيمات إسلامية ناشئة المياه فعلياً عن مدينة دمشق، وذلك بعد أن قصف النظام قرى الوادي، وبدأ سكان دمشق بالشكوى من شحّ المياه التي سرعان ما عادت، بعد أن أُجبر النظام على وقف القصف.

يرغب النظام المنتشي بعمليات التهجير التي يسميها مصالحة بتوسع استراتيجي حول دمشق، وتكبير نصف قطر أمانه الذي يحيط بالعاصمة. وقد بدأ، مع أواخر العام الماضي، بالتغلغل إلى الريف الغربي، فاسترجع داريا بعد حصار السنوات الخمس ثم المعضمية، ولا تزال قرى وادي بردى تشكل للنظام فضاءً متصلاً مع الريف الغربي، وتحقق له تواصلاً مع الحدود اللبنانية السورية، وتقفل القوس المفتوحة في الزبداني في أقصى الشمال المحاذي للحدود، هذا القطاع هو المكان الذي يتحرّك حوله حزب الله بحيوية، ولديه رغبة واضحة بالاستيلاء عليه، وربما محاولة الحزب منع الوفد الروسي الذي دخل إلى المنطقة، لعقد اتفاق إدخال ورشات الصيانة، هدفها تصعيد الضغط على الأهالي، من دون اعتبار لتعطيش سكان دمشق، الأمر الذي لا تلقي له مليشيا حزب الله بالاً، لكنها حاولت اتهام الطرف الآخر بهذا التعطيل من باب رفع العتب، فبالرجوع وراءً نجد أن المبادر في تحريك هذه الجبهات عسكرياً، وتعريض النبع للخطر، هو الجانب الذي يُحاصِر، والذي يمتلك الأسلحة الثقيلة القادرة على تدمير منشآت النبع المدنية والميكانيكية. وبعد أن تخسر فصائل المنطقة امكانية التحكم بالماء، سيصبح من السهل على النظام خنق الوادي، وفرض "المصالحة" التي يرغب بها.

الأخبار الآن متضاربة حول التوصل إلى اتفاق، واختراقات محدودة تتم بين ساعة وأخرى، ولكن الحقيقة أن دمشق بلا ماء منذ أكثر من أسبوعين، ولو حصل توافقٌ فسيكون نسخةً عما سبقه، وسيتضمن عمليات تهجير وإذلال وإحلال سكاني.

دمشق التي لطالما اعتمدت في حياتها على مياه النبع في خطرٍ حقيقي، وكتلة سكانية كبيرة تحت تأثير العطش، في ظل عدم توفر بديل عاجل، وهذه حجة سيضعها النظام في رصيده، عندما يتهم "الجماعات الإرهابية". وحتى بعد عمليات الإصلاح التي يفضل النظام أن يجريها حين يدخل بقوة السلاح إلى منطقة النبع، لن تكون دمشق في منأىً عن التهديد، حين يملأ جنود حزب الله الوادي من الزبداني وحتى الهامة. وعندها، سينضم نهر بردى ذاته إلى نبع الفيجة، في تقاسم خطر الاحتلال، وكل سكان دمشق سيصبحون رهائن ماءٍ في يد حسن نصر الله.

اقرأ المزيد
١١ يناير ٢٠١٧
دمشق أو حافظ بشار الأسد

أثبتت أحداث السنوات الماضية في سورية أن كل خسارة للثوار في دمشق ومحيطها تقرّب الثورة أكثر إلى شكلٍ من أشكال التمرّد، في حين أن أي ربح تحققه الثورة في بقية أنحاء سورية لا يعتد به، وليس له قيمة إستراتيجية مهمة في عملية إسقاط النظام.
لم تغير سيطرة المعارضة على مدن وأرياف واسعة في سورية من معادلة الحرب، بقدر ما تحوّلت تلك المساحات إلى أمكنة لإستنزاف الثورة والثوار، سواء على صعيد رصيدها من المقاتلين، أو من رصيدها لدى البيئات الحاضنة لها، والتي ذاقت الأمرين، ذلك أن أي منطقة سيطر عليها الثوار حوّلها النظام إلى جحيم أرضي، وشرّع بحقها كل أشكال العنف، من دون رحمة.

وفي ظل سيطرة سلاح الطيران على المعركة، وسهولة استهدافه أي منطقة، لم يكن من الممكن الاستفادة من الأراضي المحرّرة لبناء سلطةٍ بديلةٍ عن سلطة النظام ومؤسسات خدمية ومدنية، وهي من المفترض أن تكون جوهر عملية تحرير المناطق. وبالتالي، حوّل انتزاع هذه المهمّة عملية تحرير المناطق إلى استثمار مكلف ومحكوم عليه بالفشل المحتم.

في فترة سابقة، لم يبق تحت سلطة النظام أكثر من 16 بالمئة من مساحة سورية، بل وصل به الأمر إبداءه الاستعداد للتراجع عن مناطق في هذه المساحة في مقابل احتفاظه بالعاصمة دمشق وسيطرته عليها، فقد اختزل نظام الأسد سورية بها، ووضع فيها أكثر من نصف قوّته، ونخبة جيشه، إدراكاً منه أن الثورات تنجح عندما تسقط العواصم، وطالما بقيت بعيدةً عن العاصمة، فإنها تتآكل وتنتهي إلى صراعاتٍ بين أطرافها مع الزمن، فالثورات في الأقاليم هي تمرّدات، حتى وإن دامت عقوداً، كما أن نهايتها تكون على شكل مطالب خدمية للأقاليم، لا علاقة لها بالنظام السياسي وطبيعة الحكم وآلياته.

تلك كانت من أخطاء عديدة للثورة السورية، ولعلّ الخطأ الأكبر عدم اعتماد الإستراتيجيا بمعناها الحرفي، بعد أن تحوّلت الثورة إلى السلاح. والإستراتيجيا بهذا المعنى تعني رسم خطّة للوصول إلى الأهداف بأقصر مدى زمني، وبأقل قدر من التكاليف، فضلاً عن تنسيق العمل والتكامل بين عشرات، إن لم يكن مئات الفصائل، المقاتلة التي استمرت كل واحدة بالقتال وكأنها هي الثورة كلّها، فما هي الفائدة الإضافية التي جنتها جبهة اللاذقية من نظيرتها الحلبية، بل ما المكاسب التي حققتها جبهات غوطة دمشق الغربية من الجبهة الجنوبية الملاصقة لها؟ الواقع أن الثورة السورية لم تكن سوى مجموعة ثورات، كل واحدة تعمل لأهداف منفصلة، من دون أن يكون هناك تبادلية في المنافع، ولا تنسيق في الأدوار.

شكّلت العاصمة الاستثمار السياسي الأبرز لنظام الأسد وحليفتيه، روسيا وإيران، فمن خلال ضمان السيطرة عليها، ضمن نظام الأسد استمرار عمل مؤسساته التي جعلته الطرف الأكثر واقعيةً في الحكم وقدرة على إدارة شؤون سورية، وكان من غير الواقعي في نظر أميركا وأطراف دولية كثيرة إزاحة نظام يدير مؤسسات الدولة وإستبداله بأطرافٍ لم يسبق لها إدارة مثل هذه المؤسسات، ولم تثبت أنها قادرة على صناعة بدائل مناسبة.

واليوم، يبدو أن دمشق تفلت شيئاً فشيئاً من يد الثوار، خصوصاً في ظل الحديث عن هدنة بين الأطراف المتصارعة، ما يعني أن نظام الأسد وحلفاءه سيتفرغون لإحداث تغييرات في دمشق وغلافها، استكمالاً للإجراءات السابقة التي قاموا بها، وكان لها أثر كبير في تفكيك المخاطر المحيطة بالنظام.

كيف لم ينتبه ثوار سورية إلى أن الجهود والموارد التي ضيّعوها في الأطراف كانت كافيةً لطرد نظام الأسد من العاصمة، وإن لم يكن إسقاطه فتحويله مع حلفائه إلى طرفٍ مثل "داعش" وجبهة النصرة في أحسن الأحوال، وسيطرة الثوار على العاصمة، بعدما انهار جيش النظام، كانت كفيلةً بضمان إنهيار قواته على الجبهات كافة، كما أنها ستضعه أمام خيارات وبدائل سيكون أفضلها التقهقر إلى جبهة الساحل، وحتى المليشيات الحليفة، القادمة من العراق ولبنان، ستضطر إلى تقليص أهدافها بالدفاع عن بيئة الأسد في مناطقها، وحتى روسيا نفسها لن تخوض حينها معركة على هذا الاتساع، في ظل تقلّص مساحات انتشار قوات الأسد.

ولكن، على الرغم من ذلك، هناك فرصة لتحقيق شيء من هذه الإستراتيجية، فعلى الرغم من كل ما حقّقه النظام من تقدم في محيط العاصمة، لا يزال هناك عديد قوات ثورية في الغوطة الشرقية، يقدّره بعضهم بخمسين ألف مقاتل، بالإضافة إلى مقاتلي الجبهة الجنوبية (35 ألف مقاتل)، وآلاف من مقاتلي القلمون، ويمكن تغذية جبهة العاصمة بآلاف من مقاتلي الجبهات الأخرى، كما أن الفصائل ما زالت تسيطر على مساحات من العاصمة نفسها (جوبر، القابون، مخيم اليرموك)، يمكن أن تشكل كل منها مداخل لتفعيل العمل ضد نظام الأسد، وتستطيع القوات في هذه المناطق تحقيق التحامات سريعة من شأنها تعطيل فعالية القوّة الروسية، على اعتبار أن مساحة دمشق ورقعة انتشار السكن فيها أصغر بكثير من المساحة في حلب التي تساوي أضعاف مساحة دمشق.

إذا استطاع الأسد أن يقضي على الثورة في محيط العاصمة، فعلى السوريين التجهز لحكم نجله حافظ بعد زمن. وإذا قضى على الثورة هناك، فستنتهي كل المناطق إلى نهاية حلب وحمص، إن لم يكن في هذا العام فبعد عامين أو ثلاثة. في حال استطاع تحطيم قوى الثورة وإفراغ محيط دمشق من الثوار، سيعمل نظام الأسد على تغيير هويتها إلى الأبد، عبر تغيير تركيبتها السكانية، وستنتهي أي إمكانية للثورة في دمشق.

اقرأ المزيد
١١ يناير ٢٠١٧
«الفيلق الخامس»... «جيش الشرق» الروسي لقمع رفاق السلاح وتثبيت السلم

يواصل الجيش الروسي الضغط على حلفائه في دمشق لاستعجال تشكيل «الفيلق الخامس - اقتحام» ليكون عموداً عسكرياً في النفوذ الروسي في سورية يشبه إلى حد كبير «جيش الشرق» الذي أسسته فرنسا خلال الانتداب على سورية بداية القرن الماضي مع احتمال أن التشكيل الجديد يرمي إلى مواجهة النفوذ المتصاعد لـ «قوات الدفاع الوطني» وميليشيات مدعومة من إيران وتثبيت السلم بعد قمع ما تبقى من جيوب للمعارضة.

وفي نهاية ٢٠١٢ ومع تراجع عدد القوات النظامية جراء الانشقاقات والتهرب من الالتحاق بالخدمة الإلزامية إلى حوالى مئة ألف، نجحت طهران في إقناع دمشق بتنظيم «اللجان الشعبية» في «قوات الدفاع الوطني» بإشراف وتدريب وتمويل الـ «باسيج» وباتت منتشرة في معظم مناطق النظام وجبهات القتال ليصل عددها إلى حوالى ٧٠ ألفاً من السوريين وغير السوريين بينهم أفغان وباكستانيون وعراقيون بإشراف مباشر من ضباط «الحرس الثوري الإيراني»، ما ساهم في وقف تقدم فصائل معارضة في مناطق عدة.

وبعد التدخل العسكري الروسي المباشر في نهاية أيلول (سبتمبر) ٢٠١٥، أعلن رئيس الأركان في الجيش السوري العماد علي أيوب في تشرين الأول (أكتوبر) من القاعدة العسكرية الروسية في حميميم نية تشكيل «الفيلق الرابع - اقتحام» بهدف «تحرير جميع البلدات والقرى». لكن لم تنجح محاولات موسكو دمج حوالى ١٨ فصيلاً مدعوماً من طهران ضمن «الفيلق الرابع - اقتحام» وبقي التنسيق العسكري بالحد الأدنى بأولويات مختلفة.

في تشرين الثاني (نوفمبر) وبالتوازي مع تغلغل ضباط الجيش الروسي في المؤسسات الحكومية المدنية والعسكرية في دمشق ومدن «سورية المفيدة»، وزّع بيان تضمن تشكيل «الفيلق الخامس» بـ «تمويل وتدريب من روسيا» ويضم حوالى ٤٥ ألف عنصر موزعين في وحدات مشاة وهندسة وآليات واقتحام «بعد تدريب على حرب العصابات في مناطق محمية روسياً»، بحسب مسؤول مطلع على تفاصيل المشروع.

وإذ أعلنت القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة «تشكيل فيلق جديد من المقاتلين المتطوعين، باسم «الفيلق الخامس - اقتحام»، بهدف القضاء على الإرهاب»، دعت «جميع المواطنين الراغبين في الانضمام للفيلق إلى مراجعة مراكز الاستقبال في المحافظات، وتقع في قيادة المنطقة الجنوبية، وقيادة موقع دمشق، وقيادة الفرقة العاشرة في قطنا، وقيادة المنطقة الوسطى في حمص، وقيادة موقع حماة، وكلية الشؤون الإدارية في مصياف، وقيادة المنطقة الشمالية في حلب، وقيادة موقع طرطوس، وقيادة المنطقة الساحلية في اللاذقية، وقيادة الفرقة الخامسة في درعا، وقيادة الفرقة 15 في السويداء»، من دون أن يشمل ذلك مناطق سيطرة المعارضة السورية أو «داعش». وشملت الدعوة «غير المكلفين بخدمة العلم أو فارين منها ممن أتموا 18 سنة من عمرهم والراغبين ممن أدوا خدمة العلم من جميع الفئات ضباط وصف ضباط وأفراد إضافة إلى الراغبين من العاملين في الدولة بموجب عقد لمدة سنة قابل للتجديد شرط الحصول على موافقة الجهة التي يعملون لديها».


تعليمات
وبالتوازي مع صدور مراسيم رئاسية بالعفو عن «الفارين» من الجيش وغير الملتحقين بالخدمة العسكرية وتشديد إجراءات مغادرة الشباب وتسير دوريات في الشوارع لسحبهم من دون تدريب كامل إلى جبهات القتال، صدرت تعليمات إلى وزارة الأوقاف والمؤسسات الحكومية والجيش وشركات الهاتف النقال ووسائل الإعلام والإعلان للحض على الانضمام إلى القوة الجديدة. وفي مذكرة خطية، دعت وزارة الأوقاف أئمة المساجد إلى «التحدث على المنابر وحض المواطنين على الالتحاق بالفيلق الخامس وعرض ميزات ذلك» بينها «تسوية وضع المتخلفين عن الخدمة الاحتياطية وتسوية أوضاع الفارين وموظفي الدولة المتخلفين عن أعمالهم بحيث يتقاضي الشخص مئة ألف ليرة شهرياً» (الدولار الأميركي يساوي ٥٠٠ ليرة). وبين المذكرات، وثيقة من «عميد المعهد العالي للفنون الجميلة» جيانا عيد دعت فيها العاملين إلى «تسجيل أسمائهم لدى مدير الشؤون الإدارية والقانونية».

وحض محافظ اللاذقية مؤسسات الحكومة في اللاذقية على إلزام الموظفين وخصوصاً النازحين (سبعة ملايين نازح داخل البلاد) بـ «الالتحاق في معسكر طلائع البعث في الرمل الجنوبي» ما شمل الأشخاص بين ١٨ و٥٠ سنة. وأضاف في تعميم: «في حال عدم الالتحاق ينهى تكليف الموظفين». وطلبت مديرية التربية «تشجيع» الأساتذة ممن هم تحت سن 42 سنة على الانضمام إلى «الفيلق الخامس» و «ضرورة اقتياد المدرسين النازحين عنوة إلى الفيلق خلال مدة 48 ساعة»، علماً أن تقديرات تشير إلى وجود ١.٥ مليون نازح في طرطوس واللاذقية جاؤوا من حلب وإدلب وحمص. وترددت أنباء عن اختبار خطة لإعادة لاجئين من دول الجوار إلى سورية (حوالى خمسة ملايين) شرط موافقتهم على القتال ضمن هذا «الفيلق».

كما اجتمع المدراء العامون في دمشق مع موظفيهم لشرح مميزات الانضمام إلى هذه القوة بينها «الحفاظ على نصف الراتب الشهري وكسب راتب شهري يصل إلى ٣٠٠ دولار».

وتسلّم السوريون رسائل نصية على هواتفهم المحمولة بينها «كن واحداً من صانعي الانتصار» و «انضم للفيلق الخامس اقتحام» و «ندعوكم للانتساب إلى الفيلق الخامس اقتحام والمشاركة في صناعة الانتصار»، فيما تبلّغ رجال أعمال جدد بضرورة تمويل هذه القوة شرطاً لحصولهم على امتيازات مالية جديدة.

وإضافة إلى بعض أنباء العشائر شرق البلاد، تراهن موسكو المنخرطة عبر ضباط قاعدة حميميم في «مصالحات» على دمج مقاتلين معارضين جرت «تسوية أوضاعهم» في القوة الجديدة بحيث «يقاتلون رفاق السلاح السابقين خصوصاً عناصر جبهة النصرة وداعش».

ولوحظ أن بين عناصر مسودة الاتفاق الذي عرض لتسوية أوضاع ثلاث بلدات جنوب دمشق، تشكيل قوة لقتال «النصرة» و «داعش»، الأمر الذي حصل سلفاً في مناطق أخرى بينها التل شمال شرقي العاصمة. وباعتبار أن آلافاً ممن لم يوقعوا «التسويات» نقلوا مع أسرهم إلى محافظة إدلب، قد تشهد المرحلة المقبلة مواجهات مباشرة «بين رفاق السلاح السابقين»... معارك بين عناصر «الفيلق الخامس» ورافضي «التسويات»، خصوصاً في جبهات إدلب التي تريد دمشق استعادتها بـ «أي كلفة».



«جيش الشرق»
ربط خبراء التغييرات الأخيرة في الجيش السوري بالتشكيل الجديد وقيادته المرتقبة واستعجال موسكو توسيع قاعدة طرطوس وتحويلها إلى قاعدة مشابهة لحميميم. وذكر خبراء في مؤسسات ونشرات غربية مختصة بينها مركز «ستراتفور» الاستخباراتي أن أحد أسباب تشكيل «الفيلق الخامس» موازنة نفوذ إيران، خصوصاً أن موسكو التي توصلت إلى تفاهمات مع أنقرة إزاء وقف النار في بعض مناطق سورية، ستقدم معظم الدعم بما في ذلك الأسلحة والتدريب وراتباً شهرياً يصل إلى ٥٨٠ دولاراً لعناصر «فيلقها». لكن مؤرخين سوريين يشبهون هذه القوة بـ «جيش الشرق» الذي شكلته فرنسا بعد انتدابها على سورية في ١٩٢٠. وقال أحدهم: «بعد فكرة تقسيم سورية إلى دويلات، استقطبت فرنسا الأقليات في سورية وبعض مقاتلي دول مستعمرة مثل السنغال في تشكيل جيش الشرق لقمع الحركات الوطنية السورية بما فيها ثورة ١٩٢٥-١٩٢٧، بحيث كان قادة هذا الجيش من الفرنسيين وعناصره من الفقراء والمهمشين في سورية».

وزاد: «الإقبال على جيش الشرق كان أكثر نجاحاً في الساحل السوري حيث كان الناس مهمشين عبر التاريخ، وحيث وفر جيش الشرق السلطة والنفوذ ما شكل أساساً في بداية العقيدة العسكرية عند أبناء الساحل المضطهدين، الأمر الذي ظهر لاحقاً في التاريخ السوري» في تسلم السلطة في دمشق. وبعد الاستقلال في نيسان (أبريل) ١٩٤٦، أصبح «جيش الشرق» نواة للجيش السوري وسط مساعي «نخبة دمشق» لتهميش هذا الجيش ما كان أحد أسباب النكبة في ١٩٤٨ وإن كان بعض أعضائه مثل حسني الزعيم وأديب الشيشكلي وراء انقلابات عسكرية وعبدالحميد السراج وراء تأسيس «الدولة الأمنية» مع الرئيس جمال عبدالناصر.

وارتفع عدد أفراد «جيش الشرق» من ١٣ ألفاً في ١٩٢٠ إلى أكثر من مئة ألف لـ «الحفاظ على السلم» بعد قمع الثورة السورية الكبرى في ١٩٢٧. وهما هدفان يشبهان ما ترمي إليه روسيا من تشكيل «الفيلق الخامس» بعد سنة على تدخلها العسكري المباشر من بوابة الساحل السوري، إضافة إلى تنظيم السلاح الخارج عن «سلطة الدولة»، بحسب مؤرخ سوري. وتساءل: «هل يعكس اعتراف موسكو بفصائل إسلامية وقبولها شريكاً في وقف النار والحل السياسي، نية روسية بالاعتماد على الغالبية بالتعاون مع تركيا؟».

اقرأ المزيد
١٠ يناير ٢٠١٧
سوريا.. أرض الثكالى

لا يملك السوريون من قرار حياتهم شيئاً حين كانوا أحياء، يقادون إلى الموت بشتى أنواع القتل وصنوف العذاب كما تقود الوحوش الجائعة فريستها، تتنافس العائلات الثكالى في سرد قصص المآسي التي تمر عليها في هذا الوقت العصيب، لكل منها قصة تكمد في جوفها وتزيد النار لهيب الأسى المفجع، فيقبض القلب قهرا وينبض قهرا، وينسى ذاك الطفل المفجوع كلمة الأم ليكون «الألم» أقرب للواقع من الاسم نفسه، وينافس الرجل منهم «أيوب» في صبره على فقدان أهله وأطفاله، وتبكي الأم أطفالا وشبابا سهرت الليالي وطوت منها السنون حتى كبروا أمام أعينها ليخطفهم الموت في لحظة واحدة، وتبقى الذكرى الحزينة جمرا يكوي في الفؤاد.

هو شعور يلازم عشرات الآلاف من العائلات السورية، ممن تعيش هذا الأسى الذي لا يوصف، أطفال يتامى وأمهات ثكالى ورجال أوهن المصاب عزائمهم، في ظل حرب ظالمة لم تترك للابتسامة مكانا ولا للمستقبل أحلاما، وحولت سوريا الى ارض للثكالى.

دخل الحزن كل منزل دون استئذان من أحد وأصاب أعماق النفوس حتى بدت وجوه السوريين متعبة مرهقة، القبس التقت بعض الثكالى الذين عاشوا مرارة فقدان الأحبة،  رأينا في وجوه من فقدوا احبتهم هموما تكاد الجبال تعجز عن حملها، وفي نظرات عيونهم قصص تحكي تفاصيل معاناتهم قبل أن يرووها لنا، فكانوا شهودا على كارثة تحدث أمام أنظار العالم اللامبالي، وضحية تخاذل الجميع عن نصرتهم وإيجاد طريق الخلاص لهم، وتركهم هذا العالم لوحدهم تحت رحمة سوء العذاب وشلال الدماء الذي يجري.

«قتلوا حياتي» بهذه الكلمات بدأ أبو محمد حديثه للقبس، هو أب لأربعة قتلى وأخ لثلاثة وعمٌّ لخمسة قتلى، جميعهم قتلوا على يد قوات النظام والميليشيات المساندة له.

يقول أبو محمد فارقني كل فلذات كبدي وريحانة فؤادي محمد ١٩ سنة ومحمود ١٧ سنة وأحمد ١٤ سنة وصغيرهم نور ٦سنوات، قتلهم النظام جميعهم في يوم واحد، حرمني من نور عيوني ومهجة قلبي وأغلى ما عندي بلحظة واحدة لقد قتل الدنيا في عيوني.

وأردف: أبكي على من؟ على أبنائي جميعهم أم على إخوتي وأبناء إخوتي، أم أبكي حيّاً كاملاً لم يبق فيه أحد، وبيت لم أعد أسمع فيه كلمة بابا بعد اليوم.

واستطرد وصلت لمرحلة الجنون أو ربما تجاوزتها، فأنا نفسي لا أعلم كيف سأقضي هذا العمر من بعدهم، لا شيء عندي أنتظره إلا الموت، أتوق إليه من كل قلبي كي أرتاح من هذه النار التي تتأجج في داخلي ويزداد لهيبها كلما نظرت حولي ولا أجدهم.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان