مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢ يناير ٢٠١٧
في راهنية المشهد السوري

بعد أكثر من خمسة أعوام من معاداة الشعب السوري، وقتل نسائه وأطفاله وشيوخه ورجاله، وتدمير مدنه وقراه، والدعم الكامل لنظام الاستبداد دبلوماسياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً، تخرج علينا طغمة فلاديمير بوتين الحاكمة في موسكو بلعبةٍ جديدةٍ، وبلبوس الحمل الوديع، وسيط سلام وراعي اتفاقياتٍ، أغلب الظن أنها تمضي في مخطط تصفية الثورة السورية، وتشتيت شمل الثوار والمعارضين وتحقيق ذلك سلماً، بعد عجزها عن تحقيقه حرباً عاماً، وهي، بكل لفها ودورانها، تبحث عن ضمان مصالحها، وتعزيز نفوذها وترويج أسلحتها. ولو كانت هذه الطغمة ذات نية صافية، وترغب في تصحيح مواقفها بهذه السرعة القياسية، لأعلنت اعتذارها للسوريين ولذوي الشهداء، واستعدت لدفع التعويضات عن الخراب والدمار، ولدانت نظام الاستبداد، وطالبت بطرد القوات الإيرانية ومليشيات حزب الله والعراقية، وقبل هذا وذاك سحب قواتها الغازية المحتلة.

تفسيرنا لوقف إطلاق النار (إن تم التنفيذ) هو توقف نظام الاستبداد والعدوين المحتلين، إيران وروسيا، والمليشيات الطائفية، عن قصف السوريين وتقتيلهم وتدميرهم بلادهم، وهو أمر مطلوب بإلحاح. أما التسرّع الروسي بفرض تسويةٍ سياسيةٍ مع فصائل مسلحة، كانت "إرهابية" حتى الأمس القريب بنظر موسكو، وبتزكية وضمانة تركيتين، في معزلٍ عن إرادة السوريين، ومن دون متسعٍ من الوقت لإجراء المراجعة وترتيب البيت الداخلي، وإعادة إنتاج من يعبّر شرعياً عن مطامح الشعب، ومنتخب منه في الأطر المعروفة. وفي استحضار الجانب المصري، وقوى وعناصر قريبة من النظام، ما يثير الارتياب. ويبدو أن طغمة بوتين تستعجل الخطى، مستغلة الوقت الأميركي الضائع، وإخفاق المعارضة السورية، وغياب النظام العربي الرسمي، لتثبت أقدامها في سورية المدمرة التي لن تكون إلا مقبرةً لجميع الغزاة. وعلى الأغلب، فإن الطريقة الروسية هذه لن تحقق السلام في بلادنا.

ما يجري في سورية صراع سياسي بالأساس بين الشعب، بأغلبيته الساحقة، من أجل الحرية والكرامة والتغيير الديموقراطي في سورية التعدّدية الجديدة من جهة، ونظام الاستبداد المتشبث بالسلطة من الجانب الآخر. أما بعد تطورات أكثر من خمسة أعوام، وظهور عوامل جديدة، وتدخلات مليشياوية مذهبية، واحتلالات عسكرية أجنبية إيرانية وروسية لمصلحة النظام، أدّت إلى اختلالٍ في موازين القوى، وانحسار مجال الفصائل المسلحة المحسوبة على الثورة والمعارضة، فإن من الخطورة بمكان معالجة التراجع الحاصل بالمنطق العسكري، وتحت عنوانٍ مزعوم باسم الجيش الحر، في معزلٍ عن الجانب السياسي، وبغفلةٍ من الحراك الثوري، والكتلة الوطنية المستقلة الغالبة. وبكلمة أوضح الاستمرار بالمنطق السابق بتنفيذ كل فصيل على حدة توجهات النظام الإقليمي الرسمي الداعم الذي أدّى إلى الهزيمة العسكرية. لذلك على كل فصيل يؤمن بالثورة تسليم أمره للقرار السياسي الشرعي في إطار المؤتمر الوطني المنشود الذي يعتزم عقده الوطنيون السوريون، بكل أطيافهم، من مدنيين وعسكريين في الجيش الحر.

بعد هزائمها العسكرية، بمختلف أسمائها وإماراتها ومرجعياتها الشرعية، في معظم المناطق السورية، ومن ضمنها جماعات من صنع "الإخوان المسلمين" الذين أبعدوا نشطاء الجيش الحر، وفرضوا عليه الحصار المالي والسياسي، تعود فصائل "الإسلام السياسي" الآن إلى التغطّي باسم هذا الجيش الذي ما زال يحظى باحترام الوطنيين السوريين، وكأن شيئاً لم يكن، ومن دون أية مراجعة أو مصارحة أمام الشعب السوري الذي لن يأبه أبداً بكل هذه الأضاليل، بل ينتظر اجتماع كل من يؤمن بمواجهة الاستبداد، واستمرارية النضال بكل الأشكال المتاحة، في إطار المؤتمر الوطني الشامل لوضع البرنامج السياسي المتوافق عليه، وانتخاب مجلس سياسي – عسكري لإدارة العمل الكفاحي المشترك.

أمام التزاحم المنقطع النظير في صفوف "البازار" الروسي – التركي – الإيراني للحوار مع نظام الاستبداد الأسدي الذي ما زال في نشوة انتصاره المزعوم في تدمير حلب، وإبادة أهلها، فإن الأحزاب الكردية في المجلسين، وكما كنا نتوقع منذ خمسة أعوام (وبدون أن نظلم أحداً) تتصدّر صفوف التهافت، فجماعات حزب العمال الكردستاني نفذت شروط النظام، حتى بتبديل شعاراته التي ضللت بها الناس أعواماً، لتحظى بشرف المشاركة. أما جماعة المجلس الوطني الكردي فليست ضد الحوار مع النظام من حيث المبدأ، ولم ترفضه، بل تبحث عن ظرفٍ أفضل، يؤهلها لتولي موقع تمثيلي ما، إضافة إلى انتظار مشاركة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة.

اقرأ المزيد
٢ يناير ٢٠١٧
انقلاب الحسابات والأدوار وطريق الحل السوري

بعيداً عن السؤال المركزي بشأن فرص نجاح الاتفاق الروسي/ التركي حول وقف إطلاق النار في سورية، والذي تجاهل إيران، والسؤال الآخر الأهم بشأن نجاح فرص التفاهم الروسي/ التركي/ الإيراني الذي تجاهل واشنطن والاتحاد الأوروبي والرياض والدوحة، نجد أنفسنا أمام حدثٍ جديدٍ ومباغت، لم يكن أحد يفكّر فيه قبل "ملحمة حلب الكبرى" التي كان هدفها تحرير حلب من الروس والنظام والإيرانيين، فإذا بالمحرّرين يتحوّلون إلى محاورين للروس والإيرانيين والنظام بشأن وقف إطلاق النار، يستعيد محاولة فبراير/ شباط الماضي الفاشلة التي توافقت الدول الكبرى والإقليمية والعربية مع الطرفين السوريين المتحاربين، وعبرت عن توافقها عليها من خلال قرار مجلس الأمن 2254، من دون أن توفر له الزخم الكافي، فهل الاتفاق الجديد الذي تقف وراءه روسيا ضامن النظام، وتركيا ضامن الفصائل، سيتكفل بوقف الحرب، على الرغم من إبعاد إيران والنظام عن مداولات أنقرة، وإشراف الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان اليومي عليها، وإبقاء أو بقاء الولايات المتحدة بعيدة أو مستبعدة عنها، وكذلك اوروبا والمملكة العربية السعودية ودولة قطر؟

تنبع أهمية الاتفاق الصغرى من بنوده المتفق عليها، والكبرى من تبدّلات مواقف الدول المنخرطة في الصراع السوري، بعد نجاح روسيا في إقامة وضعٍ تعتقد أنه يتيح لها التحكّم بحسابات (ومصالح) الأطراف التي تخوض حرباً مباشرة في الساحة السورية، وهي روسيا وإيران وتركيا والنظام والفصائل المعارضة، وتنظيمات مرتزقة طهران.

روسيا: وضعت نفسها في موقع يتيح لها الإمساك بخيوط المتحاربين مباشرة، أو من خلال تركيا، بما في ذلك خيوط الفصائل المعارضة التي تحولت من مقاتلة روسيا إلى مفاوضتها، ومن المراهنة على إخراجها من سورية بالقوة إلى القبول بها حاكماً على الشأن السوري، تتعامل معه باعتباره طرفاً تأمل أن يمكّنها من بلوغ بعض أهدافها المعادية للأسد وإيران. وقد أجرت موسكو تبدلاً مهما في موقفها، بعد عام اعتبرت فيه كل مقاتل ضد النظام إرهابياً، وها هي تتفاوض معها على مستقبل هذا النظام وسورية، بصفتها طرفاً عسكرياً، وسياسياً لديه شرعية تمثيلية في نظر الروس، بينما سيرى هؤلاء منذ اليوم في الأسد مجرد طرف سوري آخر، لم يعد الممثل الشرعي الوحيد والمعترف به للدولة السورية! تعتمد روسيا في نجاحها ضد مقاومة إيران مشروعها على تكامل موقفها مع موقف الرئيس الأميركي المرتقب، دونالد ترامب، المرجح، والذي سيمكّن موسكو من تسويق نفسها منقذاً للملالي الإيرانيين من بطش أميركا التي لن تبقي لهم اي موقع في المشرق، ومن مصلحتهم قبول ما يبقيه الكرملين من دور ومكانة سورية لهم، وإلا انحاز إلى ترامب وأخرجهم، بالتعاون معه، من سورية وبقية محافظاتهم العربية، وتركهم لمصيرهم المحتوم، بعد نقل معركتهم الخارجية إلى داخل إيران.

إيران: هي الطرف الرئيس الذي لا يريد حلاً سياسيا في سورية، ناهيك عن حلٍّ يتم بين النظام والمعارضة وفق وثيقة جنيف والضمانات الدولية، الروسية وغير الروسية. تدرك إيران أن اي اتفاقٍ لوقف إطلاق النار يعني منعها من توسيع دورها في حربٍ أرادت لها أن تتواصل بعد "انتصارها "في حلب، وكبح خطتها الرامية إلى القضاء على الثورة، من خلال انتصارٍ ساحق على فصائل المعارضة. بكلمات أخرى: سيكون أي اتفاق ينهي الصراع السوري بحل متوازن ضربةً لطهران التي يستحيل، في حال نجاحه، أن تحافظ على حضورها ونفوذها الراهنين في سورية، والعلاقة التي تربط النظام بها، وأن تحول دون قيام نظامٍ لا يرتبط بها أو يتبع لها، أو يمثل جزءاً تكوينياً من منظومتها التوسعية المنتشرة في المشرق العربي، التي جعلت بعض قادتها يتحدّثون عن سورية، بصفتها المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثين. لهذا كله، يُرجح أن تضع إيران جميع أنواع العراقيل في وجه الاتفاق، وأن تستميت لإفشاله، بالتعاون مع النظام الذي يرفضه ويخشاه أيضا، ما دام تحقيقه يحبط حله العسكري، باعتباره الحل السياسي الوحيد الذي يقبله، بينما يفتح الحل الباب أمام قيام نظام انتقالي هو نهاية أسدية حافظ الأسد التي ذبح ابنه ثلاثة أرباع السوريات والسوريين من أجل المحافظة عليها. وعليه، من الآن فصاعدا، إلقاء نظرة وداع عليها، وعلى نفسه ورئاسته.

تركيا: بدأت تركيا تحصد النتائج الإيجابية لانعطافتها نحو موسكو، وتنسيقها معها في الشأن السوري. ولعل أولى الثمار التي ستجنيها تتمثل في الاتفاق مع جارها الشمالي على إحباط أي مسعىً لفدرلة الدولة السورية، أي لإقامة كيان كردي على حدودها الجنوبية، وفي حصول أنقرة على دعم روسي لحربها ضد "داعش"، ولمنطقتها الآمنة، كما قرّرت إقامتها شمال سورية. بينما أثبتت أنها صاحبة الكلمة والتأثير الأكبر على جميع فصائل المعارضة المسلحة التي أخذت تمارس، بعد حلب، تنسيقاً مفتوحا معها، قرّر الذهاب معها إلى نهاية الشوط في كل ما يتعلق بتفاهماتها السورية مع الروس. أخيراً، نجح الرئيس أردوغان، ليس فقط في إخراج مفاعيل المعضلة السورية المدمرة من داخل بلاده، وشرع يلعب دوراً مقرّراً في سورية والعراق، بل وأبعد كذلك روسيا عن إيران، وإنْ بصورة نسبية، وتحول إلى شريكٍ قوي لها في أي جهد يتصل بحل الصراع، بما في ذلك العربي والإقليمي منه، وفتح الباب أمام مشروع استراتيجي يجمعهما، يرجح أن يعين صورة المشرق الجديد، ويضمن دعم أنقرة ضد ضغوط أميركا، من دون إفقادها خيار التفاهم مع واشنطن، في زمن لا بد آتٍ.

الفصائل: لعل التطور الأهم سيتجلى، من الآن فصاعداً، في التبدّل الذي أصاب أداور سياسيي الائتلاف لقوى الثورة والمعارضة السورية والهيئة العليا للتفاوض وعسكر الفصائل. بعد أن كان الساسة الطرف الذي افترض دوما أنه هو الذي سيفاوض وينجز الاتفاق على الحل، صار العسكر هم هذا الطرف الذي تفاوض مع الروس، واتخذ القرارات بمفرده، بينما وقف الساسة جانباً. ومن المرجح أن يتحولوا إلى جهةٍ مساعدة أو رديفة، لم تشارك في اتفاق الهدنة، وقد لا تشارك في مفاوضات الحل في حال استمر موقف موسكو السلبي حيال الهيئة العليا للتفاوض. هل يعني هذا أن من سيلعب الدور الأكبر في تقرير شكل النظام الانتقالي هو العسكر، وأنهم يمكن أن يتحولوا إلى طرف سيتولى إنجاز الانتقال، وتولي المسؤوليات في مؤسساته وعنها؟ يرجع هذا التحول إلى هامشية دور "الائتلاف"، وأداء هيئة التفاوض الذي يعتبره العالم، بالحق أو بالباطل، متشدّدا، ويرفض التفاوض من دون التسليم بحتمية تحقيق قراءته لوثيقة جنيف والقرارات الدولية الملحقة بها، وهذا ما قوّض فرص التفاوض والتسويات المحتملة التي تمليها التوازنات المحلية، والمصالح العربية والإقليمية، والصراعات الدولية. هل سيتطور دور الفصائل، ليغطي المسألة السياسية برمتها، بعد أن أنجزت اتفاقاً حول وقف إطلاق النار من دون تدخل "الائتلاف" والهيئة؟ هذا ما أرجحه، على الرغم مما يعلن عن تعاون بين العسكر والساسة في المفاوضات المقبلة.

روسيا جادة في جني ثمار عدوانها على سورية، وستفعل كل ما هو ضروري لإرغام الجميع على قبول خطتها لوقف إطلاق النار، ليس لانها حريصة على السوريين، دولةً ومجتمعا، بل لأن نجاحها هو الذي يضمن بقاءها في سورية قاعدة لها، يمكنها الانتشار منها إلى المنطقة، ومن المنطقة الى بلدان كثيرة، وهو الذي يخرجها من واقعٍ شديد الهشاشة، ستغرق فيه أكثر فأكثر، إذا واصلت حربها المفتوحة ضد الشعب السوري التي تحمل علاماتٍ على أن جيشها ليس حصيناً ضد استنزاف أشد بكثير مما تعرّضت له في أفغانستان.
ويبقى السؤال: هل يفتح وقف إطلاق النار الشامل طريق الحل السياسي، أم يكون هو الوضع المنشود الذي تهدّد استمراره خلافات الروس والإيرانيين والأتراك، ومواقف واشنطن وبروكسل والرياض والدوحة.

اقرأ المزيد
٢ يناير ٢٠١٧
السوريون بين إدارتين أميركيتين

بتتويج دونالد ترامب رئيساً في 20 كانون الثاني (يناير) الجاري، تنتهي حقبة من الأوبامية المنكفئة والباردة، لندخل عوالم الفانتازيا السياسية بكل ما تحمله «الترامباوية» من مفاجآت سياسية جاءت في سلة واحدة مع الصدمة الكبرى لانتصاره على منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون، ما خالف الاستقراءات والتوقعات.

من نافل القول أن السوريين الذين عاصرت أزمتهم العسيرة، بل تعاملت مع وزيري خارجية أميركيين خلال عهدين متواليين لإدارة أوباما، لم يتمكنوا من كسب الودّ الأميركي المفترض لحليف استراتيجي يدعم قضيتهم العادلة بما تحتاج إليه في حربها العظمى مع الاستبداد.

ومن نافل القول، في الضفة الأخرى، أن التدخل الأميركي المباشر في ليبيا لإسقاط نظام القدافي، وما ترتب عليه من انتشار للفوضى الأمنية والسياسية في البلاد، وتعاظم سيطرة الفصائل الإرهابية المسلحة، ثم مقتل السفير الأميركي في بنغازي على يدها، شكلت العقدة التاريخية، النفسية والعسكرية التي ابتلي بها الوجدان الأميركي على المستويين الرسمي والشعبي، لتضاف إلى العقدة الأعظم في تاريخه المعاصر بدخوله العراق غازياً في 2003، وخروجه منه في 2015 منسحباً في ليل.

السقطتان الأميركيتان هاتان، في جانبيهما العسكري والسياسي، جعلتا الرئيس المنتهية ولايته، باراك أوباما، يميل إلى التريث والحرص المبالغَين من دون لعب دور حاسم في تحييد النظام السوري وآلته العسكرية التي وجهها ضد شعبه الأعزل، مروراً بجريمة ارتكابه استخدام السلاح الكيماوي في 2013، والتي كان من المفترض أن تكون نقطة انعطاف في تعاطي أوباما مع المعضلة السورية - الأمر الذي لم يحدث: فلا هو أسقط النظام الذي تجاوز خطوط البيت الأبيض الحمر بعدما وجّه بوارجه إلى السواحل السورية لضرب معاقله في العاصمة دمشق، ولا هو انتصر للمعارضة بحزم وساندها لإسقاطه فعلاً، بل أبرم وزير خارجيته، جون كيري، صفقة مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، اقتضت تسليم النظام سلاحه الكيماوي بالكامل (وهذا الأمر كان علنياً ومراقباً دولياً) مقابل صفقة غامضة ومبهمة (لا نعرف تفاصيلها حتى اليوم) بإطالة عمر النظام ومحاولة غض النظر عن مسألة رحيل بشار الأسد عن السلطة، مع سعي غير معلن لتعطيل الغطاء السياسي للمعارضة وفرملة دعمها لوجيستياً وعسكرياً من حلفائها الدوليين أو الإقليميين.

منذ إبرام الاتفاق، بدأت الحالة السورية الميدانية والسياسية تأخذ منحى جديداً على طاولة اللاعبَين الدوليين الأساسيين، وغدت الغلبة واضحة لإرادة موسكو المناهضة للثورة السورية على حــساب تذبذب واشنطن، ما مهّد الميدان الدولي لتدخل عــسكري مباشر لجيش بوتين وقواته الجوية. وبالفعل تمكنت موسكو من القضاء على تجمعات المعارضة ابتداء بريف دمشق ومرتفعات القلمون ومروراً بحمص وحماة ووصولاً إلى حلب، حيث أنهت الغارات المتصلة على شرقها كل وسائل البقاء في المدينة، وحملت المقاتلين على القبول باتفاق الخروج إلى الريف بسلاحهم الفردي بلا ذخيرة، في عملية تهجير قسري جماعي أمام آلة قتل روسية - أسدية وحصار ميليشياوي مذهبي من جانب العصائب الإيرانية. وسقطت حلب في قبضة بوتين، وغادرها الحلبيون في مشهد جنائزي داخل حافلات التهجير الخضر السيئة الذكر.

وعلى رغم دخول تركيا على خط التفاهمات الروسية - الإيرانية في شأن حلب تحديداً (نيابة عن الغائب الأميركي)، فإن أنقرة ستنقل آلاف النازحين المدنيين من حلب الشرقية إلى مخيمات أعدتها لهم داخل الأراضي السورية في منطقة استراتيجية يشكّلها مثلث منبج – الباب – جرابلس، حيث سيفصل ذاك المثلث الجيوسياسي محيط روجافا عن عفرين، ويؤمن تالياً أرضية بشرية وإنسانية وسياسية لتحقيق نظرية أردوغان التي كثيراً ما تعثرّت بالرفض الأميركي لها، وليظهر أردوغان صياداً ماهراً لعصافير عدة بحجر روسي واحد!

وفي توقيت لافت، وبعد أن تجنب ترامب وضع منهج واضح لسياسته حيال الأزمة السورية قبل انتخابه وبعده، نسمعه يصرّح عن رغبته في إيجاد مناطق آمنة في سورية حال وصوله إلى السلطة. فترامب المعجب برجب أردوغان بشدة يتجاوب فوراً مع خطوة أنقرة في إقامة تلك المخيمات الحلبية، والتي ستضمن وقف الهجرة السورية إلى أوروبا عبر تركيا كما أوحى له وحي أردوغان.

أما نحن السوريين المغلوبين على أمرنا، فلن نطالب حالياً الرئيس ترامب بأية تفاصيل عن طبيعة فهمه وتناوله للقضية السورية، بل سنكتفي في الوقت المستقطع بين شوطي الإدارتين الأميركيتين الراحلة والمقبلة بالإشارة إلى ما لا نريد أن نراه في إدارته المنتظرة للملف السوري. فنحن لا نريد مواقف خطابية متذبذبة، مضلّلة، وفاقدة المضامين كما فعل سلفه أوباما، ولا نريد دعماً لمناطق آمنة مرتجلة، غائية وضيقة لها مساحة المطامح السياسية لشخص أردوغان الذي هو موضع إعجاب ترامب وابنته أفانكا، ولا نريد تنازلاً مخزياً وملتبساً لموسكو كما جرت عليه سياسة جون كيري المتمادية في تبعيتها لإرادات لافروف الاستعلائية، ولا أن نشهد تعاظماً لغطرسة ملالي إيران متمترسين خلف اتفاق نووي دولي مهندساه بامتياز كانا حصراً السيدين كيري ونظيره جواد ظريف.

هذا بعض ما لا يريده السوريون من الرئيس ترامب، فهل سنجد لدى سيد البيت الأبيض الجديد أذناً صاغية على خلاف سلفه الذي أراد أن يغادر مكتبه البيضاوي حاملاً لمعة وسام نوبل للسلام على صدره، فارتضى أن يكون شاهداً معصوب العينين ومربوط اليد أمام هول أبشع حرب شُنت على الإنسان والإنسانية؟

اقرأ المزيد
٢ يناير ٢٠١٧
هل يحمل أمين الأمم المتحدة الجديد حلاً لسوريا عام 2017 ؟

نبدأ عام 2017 مع أمين عام جديد للأمم المتحدة، لا ندري هل علينا التفاؤل بقدوم من تعاطف مسبقاً مع السوريون أم علينا ألا نتفاءل كثيراً، لكن ما تعلمناه خلال السنوات الست من الثورة هو أنه لا مكان للتفاؤل ولكن الأمل في قلوب شعب عاش تحت القصف وتعايش مع الدمار لا ينضب.

بدء  أنطونيو غوتيريس الدبلوماسي البرتغالي والرئيس السابق لها، مهمته كأمين عام بأمنياته بعام من السلام، ربما تلك الكلمة باتت مهمشة في قاموس السوريين، ولكن عمله الإنساني وخدمته للأحياء الفقيرة في لشونة قد تجعل منه أفضل حالا من بان كي مون على كل الأحوال، وإن كانت الخديعة الروسية التركية لا تبشر بالخير مع بداية العام

بان كي مون الذي ختم فترة ولايته، بأنها كانت فترة تشبه "رواية خيالية"، لم يكذب لأنه فعلاً جعل الشعب السوري يعيش الخيال المدمر، وتشبيه نفسه بالسندريلا كان غير لائق به، فلكم كان أفضل أن يشبه نفسه بالأميرة النائمة، التي قضمت تفاحة نشرت الظلم، فما كان دوره إلا انتعال المؤامرة ضد الشعب السوري مع الروس والأمريكان، لذا فخروجه عن الخدمة هو بحد ذاته مفترق طرق لسوريا التي لم تعد تجد ما يواسيها، والتي قضت نحبها في فترة توليه الأمانة العامة للفترة الماضية بعلامات تعجب ودهشة دائمة، حملت تهكم لا مجدي من كافة دول العالم مع الثورة السورية.


غوتيرس الذي كان زعيما للحزب الاشتراكي قد يكون أكثر شعوراً بمعاناة الناس، وهذا ما بدا في تصريحه الصحفي قبل نجاحه في انتخابات الأمانة العامة للأمم المتحدة حين قال "للأسف لا يلاحظ الأغنياء وجود الفقراء إلا بعد أن يدخل الفقراء باحات ‏الأغنياء" في تعليق منه على تعامل الدول الغنية مع أزمة اللاجئين السوريين، ما يجعلنا نتساءل هل ستكون تلك العبارة انطلاقة لنهاية الحرب السورية؟

وهل سيتمكن مهندس الكهرباء، من هندسة الحل السياسي بما يتلاءم وتعب دام ست سنوات، كان آخرها إحباط آمال السوريين الذين علقوا طموحاتهم على اتفاق هدنة بني على باطل؟ لا ندري الأيام القادمة هي القادرة على الاجابة وان كانت القلوب السورية قد جفت كما بدأ نهر بردى بالجفاف مع قصف النظام لآماله التي بناها طيلة مئات السنين الماضية.

اقرأ المزيد
٢ يناير ٢٠١٧
ماذا لو اختفى السوريون صباح الغد ؟

يبدو أن المشهد يحتاج لتفكير عميق ، و البحث عن ايجابياته الكثيرة لحد تلغي سلبياته ، و لكن طالما أن الافتراض يقوم علينا كسوريين ، فيجب أن نكون منصفين ، ونبحث في نتائج ذلك اليوم الذي سيستيقظ فيه العالم و هذه الكرة البغيضة لتجد عنصراً هاماً قد اختفى في “المجهول” ، فماذا سيحدث.

لاشيء جوهري الحقيقة يمكن توقعه اللهم بعض الأمور الثانوية ، التي يدركها الجميع و يعرف أنها قادمة ،لكن وجود السوريين الآن هو من يعيقها ، بالتالي ذلك الصباح الندي سيكون اذناً مباشراً لتحقيقها .

عندما يستيقظ العرب على أمر جلل كغياب السوريين عن المشهد ، فإن تلك الدول المطلة على الخليج الذي يصبح اسمه الحقيقي و الفعلي “الفارسي” ، ستكون على موعد مع تحول أطنان الركام و ناطحات السحاب التي تنتشر بين صحاريها إلى منصات رائعة للقناصة التي تفتك بكل ما يتحرك على الأرض ، أما القصور ستكون ملاذاً مريحاً لقيادات جديدة بأشكال و لكنات غربية .

عندما يغيب السوريون ستكون تركيا أمام مشهد حقيقي ، وهي تواجه تجزأها إلى غير عودة ، دولة بالجنوب ، و أخرى بالشرق و ثالثة في الشمال مع بضع فتات هنا و هناك ، وسيكون على أصحاب المعامل و الورش رفع أجور العاملين لأن السوريين ليسوا موجودين ليقبلوا بالفتات ، سيغيب اسم المهاجرين و كلمات الأسى و الألم على ذلك الشعب الذي اختفى ، وبطبيعة الحال سيغلق ملف القواعد العسكرية و التحالف و الناتو و الحلم الأوربي .

عندما يختفي السوريون لن تتفتت أوربا ، بل ستكون كتلة متجانسة تحافظ على هيكليتها الناصعة ، المبنية على التفاهم و الود و التحضر ، و لكن الحياة فيها عبارة عن دار عجزة لا مستقبل لها ، وما هي إلا بضع عشرات من السنين لتنتهي كما انتهت أمم و جماعات سابقة.

عناما يغيب السوريون ، لن يكون لأمريكا حاجة لنقل معداتها و القتال هنا وهناك بحثاً عن مصادر الرزق ، فالأرزاق قد نضبت و انتهت و غارت بها الأرض، ستتحول للبحث عن لون جديد لها بين الأسود و الأبيض و جنس جديد يفرق بين أجناس شعوبها ، لنتابع بعدها حملات ابادة جديدة كتلك التي شهدتها عند انهاء “الهنود الحمر”.

عندما يختفي السوريون ، سيكون بوتين على موعد مع ثورة الجياع التي تأكل ما تبقى من الوهم “الروسي” ، لتكون دويلات روسية مشتتة باسم فقرستان و جوعستان و غبي ستان و “عاهرستان” .

عندما يختفي السوريون ، سيكون لبنان على موعد جيد ومميز لمواجهات تعتبر حروبها الأهلية القرن الماضي، عبارة عن “بروفا” لحرب الانهاء التام للجميع بيد الجميع ، بحيث يأكلون أنفسهم بأنفسهم و ستبقى عبارة واحدة تتردد بعنجهة حتى النفس الأخير بأن “لبنان غير”.

عندما يختفي السوريون ، ستعود الأردن صحراء فارغة بلا نبض ، ولا اقتصاد ولا روح ، ستكون الرمال أشد قسوة و ستنهي أحلام ضخمة بنيت على عظام بشر أكلها النمل.

عندما يختفي السوريون سنكون على موعد مع الامبراطورية اليهودية ليس من النيل للفرات ، بل من الخليج للمحيط .

عندما يختفي السوريون سيرقص الجميع ثملين بلا أي خطط أو استراتيجيات و بحث عن مصالح فهنا تنتهي القضية الأم ، ويتحول ما تبقى عبارة عن هوامش بلاقيمة.

اقرأ المزيد
١ يناير ٢٠١٧
الدولة الموازية… والحل الروسي لسورية

قبل قرابة عشر سنوات، كان جهاز أمني غربي يتابع تحركات مريبة تحصل على الجانب الإيراني من الحدود مع أفغانستان. حدد الجهاز موقعاً عسكرياً إيرانياً يأتي إليه عناصر من فصيل تابع لحركة «طالبان»، ثم يعودون إلى الجانب الأفغاني محملين أسلحة ومتفجرات، بينها نوع جديد من العبوات الناسفة المصممة لاختراق الدروع مماثلة لتلك التي استخدمتها، بنجاح لافت، ميليشيات شيعية ضد القوات الأميركية والبريطانية في العراق.

لم يطل الأمر، حتى بدأت «طالبان» تستخدم أيضاً هذه المتفجرات ضد آليات قوات حلف «الناتو» في جنوب أفغانستان. استطاع الجهاز الأمني الغربي، بسرعة، ربط المتفجرات المستخدمة بالمجموعة التي كانت تذهب إلى المقر العسكري الإيراني وتعود محملة بالأسلحة.

ولكن ما العمل بهذا الكشف؟

قررت حكومة ذلك الجهاز تقديم احتجاج لدى طهران. ذهب ديبلوماسي إلى وزارة الخارجية الإيرانية وقدّم المعلومات التي تثبت، وفق اعتقاد الطرف الشاكي، أن الإيرانيين يقدّمون دعماً عسكرياً لـ «طالبان» يساعدها في قتل الجنود الغربيين المنتشرين في أفغانستان. دُهش الجانب الإيراني من هذه المعلومات، وأصر على أنها لا يمكن أن تكون صحيحة.

كان الجانب الغربي، على الأرجح، يتوقع مثل هذا الجواب، لكنه أراد إيصال رسالة مفادها أنه يعرف حقيقة ما تقوم به طهران، وتحديداً «الدولة الأمنية الموازية» في داخلها والمرتبطة مباشرة بمحيط المرشد علي خامنئي.

بعد عشر سنوات على تلك الحادثة أعاد التذكير بها تعليق أدلى به وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي غرّد على «تويتر» مرحباً باتفاق روسيا وتركيا على وقف شامل للنار في سورية معتبراً إياه «إنجازاً كبيراً»، وهو موقف ليس واضحاً تماماً إذا كانت تتبناه «الدولة الموازية» في إيران، والتي كان قادتها حتى أيام قليلة مضت يصولون ويجولون فرحين بـ «الانتصار» الذي حققته القوات الحكومية السورية، بمساعدة أساسية منهم، في مدينة حلب. وعلى رغم أنه يُسجّل لأركان هذه «الدولة الموازية» أنهم يفعلون أكثر مما يقولون علناً، إلا أن صفحات مؤيديهم على شبكات التواصل الاجتماعي كانت تضج منذ حسم معركة حلب بمعلومات وصور تؤكد أن الميليشيات التي تشرف عليها إيران ستواصل هجومها نحو مناطق سيطرة المعارضة في محافظة إدلب المجاورة، وصولاً إلى هدف فك الحصار عن بلدتي الفوعة وكفريا الشيعيتين في هذه المحافظة، معقل فصائل «جيش الفتح».

وانطلاقاً من هذا الواقع، فقد كان من المشروع التساؤل حول ما إذا كان ترحيب ظريف بوقف النار في سورية يُرضي أركان «الدولة الموازية»، وما إذا كان هؤلاء قد رضخوا في نهاية المطاف لما يريده الرئيس حسن روحاني ممثلاً بوزير خارجيته.

صحيح أن تجربة أفغانستان قبل 10 سنوات أظهرت أن «الدولة الموازية» تعمل أمنياً كما تشاء، بمعرفة أو بغير معرفة الحكومة المنتخبة، وصحيح أن هناك أدلة على أن هذا الأمر ما زال مستمراً منذ ذلك الوقت (دعم جماعات وخلايا مسلحة في أكثر من دولة والتخطيط لاغتيال ديبلوماسيين أجانب)… إلا أن الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الغربية أوحى بأن «الدولة الموازية» رضخت لما تريده «الحكومة المنتخبة»... إلا إذا كان هذا الرضوخ مجرد محاولة لتقطيع الوقت والانحناء أمام «العاصفة النووية» ريثما تهدأ.

هل نحن اليوم أمام وضع مماثل في سورية رضخت فيه «الدولة الموازية» – وأبرز وجوهها الجنرال قاسم سليماني - لما تريده حكومة روحاني من تهدئة القتال والسير في ما يمكن وصفه بـ «الحل الروسي» المدعوم تركياً؟ قد يكون هذا صحيحاً إلى حد ما، لكنه قد يكون أيضاً كناية، مرة جديدة، عن مجرد رغبة في تقطيع الوقت، كما أنه قد يكون كذلك رضوخاً لإصرار روسيا فلاديمير بوتين على السير في صيغة تهدئة تُعطي قبلة الحياة لمسار السلام السوري.

في الماضي، نجحت «الدولة الموازية» في إيران في التملص من تهديدات الغرب حتى عندما كشفها، بالجرم المشهود، وهي تدعم جماعات مسلحة تقتل جنوده في أفغانستان والعراق. لكنها الآن تتعامل مع نوع آخر من اللاعبين هم الروس المصرون على استعادة أمجاد إمبراطوريتهم وإزاحة من يحاول عرقلة هدفهم هذا أياً كان، سواء كانت أميركا أم إيران. «الدولة الموازية» لا بد أنها تعرف ذلك.

اقرأ المزيد
١ يناير ٢٠١٧
درس الثورة السورية

بعد سقوط حلب بتفاهم روسي - تركي بات واضحاً أن الحملة العسكرية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجحت في تحقيق ثلاثة أهداف مهمة. حماية الأسد من السقوط، من دون ضمان بقائه في مستقبل سورية. كما نجحت في إقناع غالبية المعارضة بجناحيها العسكري والسياسي بالقبول بوقف شامل لإطلاق النار، وبالدخول في مفاوضات مع النظام للتوصل إلى مخرج سياسي. ثالثاً نجح بوتين في كسب تركيا بأن تكون شريكاً له في فرز الفصائل المعارضة من الفصائل الإرهابية، وفي بلورة مخرج سياسي للأزمة ينطلق من اتفاق مشترك لوقف النار. وفقاً لهذا الاتفاق تصبح أنقرة راعية للمعارضة، وتضمن التزامها وقف النار، في مقابل رعاية روسيا نظام الأسد وضمان التزامه والميليشيات التي تقاتل معه الشيء نفسه. بعد استتباب وقف النار يقضي الاتفاق بانطلاق مفاوضات الحل السياسي في 23 من هذا الشهر (يناير) في آستانة، عاصمة كازاخستان برعاية روسية - تركية ومشاركة الأمم المتحدة. ومن المفترض أن مجلس الأمن الدولي أقر الاتفاق أمس السبت، بما يضفي عليه غطاء دولياً.

هكذا يبدو المشهد السوري حتى الآن. وبقدر ما فيه من الوضوح في ما يتعلق بالخطوات الإجرائية المتوقعة، إلا أنه مليء بالغموض في شأن مضمون النتائج السياسية التي يمكن أن يفضي إليها، وفي قدرة الأطراف المشاركة على الوصول إلى هذه النتائج. العقدة الرئيسة في كل ذلك هي مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد. وهذا بحد ذاته يعكس حجم التغير الذي حصل لسورية بتضافر فعل الثورة، ورعونة رد فعل الرئيس عليها منذ يومها الأول.

كان مجرد الحديث ولو همساً عن مستقبل الأسد من المحرمات. الآن بات حديث الجميع داخل سورية وخارجها. بل إن الغالبية في سورية وخارجها لا ترى مخرجاً من الأزمة من دون خروج الرئيس، كيفما اتفق، من مستقبل السوريين. الإعلام السوري، والمسؤولون السوريون لا ينفكون عن ترديد أن الشعب السوري وحده من يملك حق تقرير مستقبل الأسد. إذا كان الأمر كذلك - وكان ينبغي أن يكون كذلك فعلاً - فلماذا استعان الرئيس بالإيرانيين، ثم بالميليشيات، ثم بالروس لحمايته والدفاع عنه؟ حجم الاستعانة هذا، وهو حجم ضخم بكل المقاييس، وعلى مدى أكثر من خمس سنوات، يكشف حجم المعارضة التي يواجهها الرئيس من بين أبناء شعبه. وإلا فالرئيس الذي يحظى بدعم غالبية الشعب لا تقوم ضده ثورة شعبية ابتداء، ولا يحتاج إلى الاستعانة بالخارج لقمعها والاستئساد عليها.

الشاهد في كل ذلك أن اتفاقاً لوقف النار في سورية بين روسيا وتركيا من دون غيرهما، وغياب النظام السوري عن الاتفاق، يحمل دلالات مربكة بالنسبة للرئيس ونظامه. أكثر من عبر عن امتعاضه من هذه الدلالة وزير الخارجية السوري وليد المعلم، عندما قال وفق صحيفة «البعث» السورية: «نثق بالضامن الروسي لاتفاق وقف الأعمال القتالية لأنهم شركاؤنا في الحرب على الإرهاب ولا نثق بالدور التركي». لا يثق معالي الوزير بتركيا، لكنه لا يملك خيار تطبيق عدم الثقة هذه. وعلقت يوم الخميس الماضي افتتاحية صحيفة «الثورة» السورية على إعلان تركيا عن توصلها مع روسيا إلى الاتفاق بالقول إن النظام التركي «لا يملك الأهلية لإعلان اتفاق حتى لو حصل (كذا)، ولا يقدر أصلاً على التفرد بتفاصيله...»، واختتمت بالتأكيد على أن «الحديث عن الحلول السياسية مجرد عبث إضافي... وأردوغان ورقة محروقة فقدت رصيدها السياسي وصدقيتها». لاحظ جملة «أن الحديث عن حلول سياسية مجرد عبث إضافي».

أما صحيفة «الوطن السورية» فجاء عنوان تقريرها عن التوصل إلى الاتفاق هكذا «أنقرة أعلنت، وموسكو لم تنف، وأنباء عن مسودة اتفاق لوقف النار». الغريب في هذا العنوان أن هذه الصحيفة وحدها الصحيفة الخاصة في سورية، ومملوكة لأطراف مقربة من دوائر النظام. نحن هنا أمام احتمالين لا ثالث لهما. إما أن قيادة النظام لم تكن على اطلاع على مجريات المفاوضات التي انتهت باتفاق، وهو احتمال ضعيف. وإما أنها كانت مغلوبة على أمرها ولم يكن لها من خيار غير القبول بما يراه الراعي الروسي. لذلك اختارت هذه القيادة ترك مهمة التعامل مع الموضوع لإعلامها بهذا الأسلوب تعبيراً عن عدم قبول استبعادها من المفاوضات التي أفضت للاتفاق، وعن عدم اطمئنانها لما يمكن أن يفضي إليه لاحقاً.

وما زاد من قلق القيادة السورية أن تركيا هي الطرف الآخر في الاتفاق، وليس إيران، وما أضفاه هذا من شرعية على دور أنقرة كراع للمعارضة السورية. في مقابل ذلك وضع الاتفاق النظام السوري وقيادته تحت الرعاية الروسية تحديداً، من دون شراكة لإيران في هذا الدور. ومصدر قلق الأسد من هذا التطور أن الاتفاق يعني أن روسيا ترى، وعلى عكس ما يراه هو ومعه إيران، أن الخيار العسكري وصل إلى حدوده بسقوط حلب، ولم يتبق من خيار آخر غير الحل السياسي كمخرج. المصدر الثاني لقلق الأسد أن الاتفاق يقلص هامش المناورة أمامه، وهو الهامش الذي اعترف أخيراً بأنه استفاد منه في إفشال الحل السياسي في مفاوضات جنيف السابقة. الآن روسيا التي أنقذته من السقوط، هي راعيته في مفاوضات حل سياسي تتبناه وتدفع باتجاه تبنيه دولياً في مجلس الأمن. لا يستطيع الأسد الاصطدام مع روسيا، ولا رفض الدور التركي وهو بمظلة روسية - دولية.

الحل السياسي المنشود يمثل مأزقاً للأسد وليس للمعارضة. لماذا؟ لأنه بطبيعته يقتضي تنازلات متبادلة من كل الأطراف. مع بداية الثورة كان الأسد يملك كل شيء، وكانت المعارضة لا تملك شيئاً تقريباً. الآن تبدلت الصورة. مقابل كسب المعارضة شرعية إقليمية ودولية تضاف لشرعيتها المحلية، فقد الأسد الكثير. أصبح ونظامه في حاجة لرعاية خارجية مثله في ذلك مثل المعارضة، بل لم يعد يملك حرية اختيار من يرعاه. التنازلات في هذه الحال ستكون من رصيده أكثر من كونها من رصيد المعارضة. كان الأسد يحاول فرض الحل العسكري تفادياً للوصول إلى ما وصلت إليه الأمور بالاتفاق التركي - الروسي. فشل إيران في حمايته، اضطره للاستعانة بروسيا. وعلى عكس إيران، روسيا ليست دولة دينية، بل دولة كبرى تتشعب مصالحها وتتقاطع مع مصالح إقليمية ودولية. لا تستطيع الذهاب بعيداً في خيار الحل العسكري من دون أفق سياسي واضح، لأنها تعرف من تجربتها ما يمكن أن ينتهي إليه مثل هذا الخيار.

السؤال الآن: هل يكون تنحي الأسد أحد التنازلات المطلوبة في أي مرحلة من مراحل الحل السياسي المنشود؟ تردد أخيراً وجود بديل علوي يحل محل الأسد. قبل ذلك تردد الحديث عن ترك الخيار لانتخابات شعبية بضمانة وإشراف دوليين. لكن القبول بترشح الأسد في هذه الحال يعني بحد ذاته تبرئته كرئيس للدولة من مسؤولية كل ما حل بالشعب السوري من قتل، وتعذيب وتهجير، وحصار وتجويع وترويع، ومن مسؤولية تدمير غالبية سورية، واستعانته لتنفيذ كل ذلك بمقاتلين أجانب. فرض بقاء الأسد في هذه الحال لا ينطوي على استجابة عقلانية لواقع موازين القوة أمام متطلب التزام أخلاقي بحق الشعب السوري. فموازين القوة اختلت في الواقع السوري الراهن في شكل كبير، والدليل فشل الأسد بفرض الحسم العسكري، وبروز الاتفاق الروسي - التركي نتيجة لذلك. يؤسس هذا الاتفاق لحل نهائي، لكنه بالصيغة المعلنة عنه لا يتضمن تفاصيل هذا الحل. وهذا مفهوم. لكن روسيا وتركيا، ومعهما جميع السوريين، يدركون أن نظام الأسد يريد إعادة إنتاج نفسه على رغم كل ما حصل، وعلى رغم أنه السبب الأول في قيام الثورة أصلاً. ومن ثم فإن بقاء السبب يعني مباشرة إطالة أمد الحرب، وأمد تورط روسيا وتركيا وبقية الإقليم. وهذا يتناقض رأساً مع منطق الاتفاق وأهدافه، ما يعني العودة إلى المربع الأول. ولم يتحمل السوريون كل ما فرض عليهم من تضحيات للعودة إلى المربع الأول. درس الثورة السورية واضح.

اقرأ المزيد
١ يناير ٢٠١٧
كل عام وثورتنا لا تموت

يتبادل الجميع، في هذه الأيام، أمنيات العام الجديد، في حالةٍ من الأمل المتأهب للحياة، مع كل بداية ليوم آخر، أو سنة أخرى، أو حتى لساعة أخرى، ما زلنا فيها على قيد الحياة.

ومثل غيري من السوريين، أشعل شموعي على أرواح شهدائنا التي تحرس حلماً لن نتنازل عنه يوماً؛ بأن نعود إلى سوريتنا التي أوقن أنها ستعود، كما أشعل شمعةً لن تنطفئ لثورةٍ استيقظت فينا منذ سنوات ست، ولن تنام.

هي ثورتنا التي لملمت بقايانا، بعد موت معلن أربعين سنة، ثورة كان لها من العمق والحقيقة ما استطاع أن يلتقط خيوط أنفاسنا المهترئة، فيعيد نسجها لتنطلق أغنياتٌ وصيحاتٌ أعلنتنا أحياءً من جديد. وكأنها صرخة ولادة أخرى، سيعرف يوماً من شهدها أنه كان ممن منّت عليهم الحياة بمواكبة حدثٍ، ربما لن يتكرّر، وسيغير وجه العالم.

وعلى الرغم من أن حجم الموت الذي لحق بالسوريين غير مسبوق، وعلى الرغم من اليأس نتيجة محتملة، وصل إليها كثيرون جرّاء ما اعترى ثورتنا من تخبطاتٍ وانحرافات، وعلى الرغم من أن الواقع حالياً على الأرض لا يمت بصلةٍ لما حلم وطالب به من كسروا فضاء الصمت بأصواتهم المجلجلة في الأشهر الأولى، على الرغم من هذا كله وغيره، إلا أنها ما تزال "ثورة"، ولن يستقيم العالم ويتوازن إلا بانتصارها.

لا مكان للغيبيات هنا، لكن الثورات قدر محتوم تواجهه الشعوب المقموعة والمسلوبة الإرادة والحرية، تحييه وتعيشه قدراً لا بد سيأتي، حتى وإن تفاوتت قدراتها على الاحتمال.

اليوم، يرزح السوريون تحت ضغط الدم المسفوك والمدن المدمرة عن بكرة أبيها والعوائل المهجرة إلى المجهول، يرزحون تحت ضغط القهر والعجز واليأس أمام المجازر التي تجري على مرأى العالم كله، وتحت صمته المتواطئ، كما تغشي أعينهم (أي السوريين) الرايات السوداء التي لفت مدناً كاملة، والعقول السوداء التي تحسب نفسها، ويحسبها بعضهم، على الثورة، وهو ما يقود بعضهم إلى إنكار ما آمنوا به يوماً، وبالتالي، إنكار صفة الثورة عن كل ما حدث.

لهؤلاء نقول: انفضوا الغبار ورماد المدن عن ذاكرتكم، وهي وحدها ستقودكم إلى اليقين من جديد. لا ثورة بلا ثمن، ولا ثورة بلا أخطاء، ولا ثورة بلا عقبات ومعوقات وأنفاق مظلمة تمر منها. لا تعطوا السفاح ونظامه ما أراد؛ اليأس والرؤية السوداوية.

عمل النظام الأسدي، منذ اليوم الأول، على جرنا جميعاً إلى موقع لا نريده، ودفع السوريين السلميين غصباً نحو حمل السلاح لمواجهة بطشٍ فاق كل تصور، ثم، وببساطة، أخرج من سجونه أمراء حرب وتكفيريين، عمل على تربيتهم جيداً، ليطلقهم في الوقت المناسب لوجودهم، وقد نفذوا المهمة بنجاحٍ، ساعدهم استمرار القتل والإبادة على تحقيقه.

أرادنا الأسد أن نصل إلى هنا تماماً، بأن نضع أنفسنا وبكامل إرادتنا أمام خيارين، غيّب القهر واليأس خيارات غيرهما؛ الأسد أو الإمارات السلفية المتشدّدة، وما يرافقها من دمار في البنى التحتية للمجتمع وللدولة. أرادنا أن نقول، بكامل إرادتنا، أن ما حصل لم يكن ثورة، وأن ليتها لم تكن.

أراد أن يقتل فينا جميعاً ذاك الحلم، لكننا عصيّون على الموت، كما أن الأحلام لا تموت.

هي ثورةٌ، يا أصدقائي، وستستمر لأنها بدأت، ومعها بدأنا كأحرار قادرين على كسر كل التابوهات.. هي ثورةٌ، يا أعدائي، وستستمر، لأنكم ما زلتم هناك، وما زال في السوريين رمقٌ لن يموت. هي ثورة أيها العالم الأصم الأبكم، وستستمر لتعرّي وجوهكم جميعاً.
هي ثورتي، ثورتنا التي وُلدت منذ ست سنوات طاهرة صادقة قوية. توشّح وجهها بالسواد، وتلطخ جسدها بالدم الممزوج مع وحل المخيمات، لكنها ستخلع عنها يوماً كل هذا.. وستستمر.

كل عام ونحن جميعاً على قيد الأمل، كل عام وأنتِ أجمل ما حدث وسيحدث لنا.. كل عام وأنت ثورتنا التي لن تموت.

اقرأ المزيد
١ يناير ٢٠١٧
صور من حلب

لا تقول الصور التي تأتي من شرقي حلب كل شيء. هذا ما أخبرني به أحد الأصدقاء الذين زاروا المنطقة عشية توقف الأعمال العسكرية. ذهب إلى هناك، وفي نيته تفقد المكان، وتسجيل شهادة حية عن هذه المنطقة، في اليوم الثاني لبدء عملية تهجير الأهالي والمقاتلين منها، لكنه عاد تحت تأثير صدمةٍ شتتت تفكيره وحواسه عدة أيام. كانت النتيجة غير محسوبة، ولا يمكن توقعها، حتى إنه صار ينقل بعض انطباعاته على نحو مختلط وغير مفهوم، مثل قوله إن الصورة لا تستطيع نقل الواقع كما هو!

قلت ربما إن الصديق تجوّل في الأحياء التي شهدت الحرب قرابة أربع سنوات، وانساق إلى البحث عن الدلالات، من دون أن يركز على ما تقوله الصورة. قد لا تتمكن الصورة من الإحاطة بكل تفاصيل المكان، إلا أنها تعكس جانبه المباشر في جميع الأحوال. ومع هذا، ظل صديقي الذي ذهب إلى هناك يعتبر أن الصورة غير قادرةٍ على نقلٍ أمينٍ للكارثة التي ضربت حلب. ربما كان يتحدّث عن صورةٍ تمسّه، وليس عن الصور الأخرى.

وعلى الرغم من أن رحلته إلى شرق حلب لم تكن فوتوغرافية، أو بغرض البحث عما تقوله الصور، فإن بعض الصور التي تم نشرها تنفصل، في زاويةٍ ما، عن الصورة الفوتوغرافية، إلى حد أن من يشاهد الصور لا يصدق أنها من صنع عدسة فوتوغرافية. ظهرت بعض الصور التي تم التقاطها بأبعاد وزوايا مختلفة، وعبر وسائل تصوير متطوّرة، لتقدّم حقلاً أوسع للرؤية، لكنها لا تبدو وكأنها ملتقطةٌ في مكان شهد حرباً، بل هي أكثر حمولةً من ذلك بكثير. قاسية وقوية، بل هي قيامية، وكأنها تأخذ العين إلى زلزالٍ لم يحصل بعد، أو لعشرات القنابل الذرية، تبعاً لما ترسّخ في أذهاننا، بالأبيض والأسود، من هيروشيما وناغازاكي.

تبدو الكارثة الحلبية واضحةً، كما لو أنها تصوير ميثيولوجي للحرب، من حيث الإيحاءات التي حملتها الصورة. هنا تحيل الصورة إلى أفعال، وتصير لغةً تذهب إلى ما فوق الواقعي وأكثر من الفوتوغرافي. وعلى اعتبار أنه ليس هناك شاهدٌ مثل الكاتب الفرنسي، جان جينيه، في صبرا وشاتيلا ليسجل شهادةً حيةً عن الفظائع، تمارس الصورة سلطتها القوية، وتخرج عن إطار الاستنساخ الحرفي والميكانيكي للواقع.

في هذا الوقت، يكاد الصمت يكون رد فعل طبيعياً. لكن، أظن أننا نهين المدينة الشهيدة، إذا اكتفينا بالصمت فقط، قد يكون البكم أكثر نبلا. حيال وضعيةٍ من هذا القبيل، وجد الجميع أنفسهم بلا ألسنة، ولم يصدر أي بيان سياسيٍ، أو شهادة تقترب من إلقاء الضوء على التمثيل المفرط في الوحشية بمدينةٍ ذات حضور ومكانة، تعود إلى ما قبل ميلاد المسيح بخمسة قرون. وعلى الرغم من أن ما حصل في حلب يتجاوز، لجهة الفظاعة والتنكيل، ما عاشته أي مدينة أخرى وقعت تحت الاحتلال، فإن الشهباء لم تحظ بقدرٍ، ولو كان بسيطا، من رد الصدمة البديهي من العالم الذي دفن رأسه في الرمال، وأغمض عينيه عن الكلبية الروسية الإيرانية الأسدية. تلاعب بعض الهواة بصور قائد فيلق القدس الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، ووضعوا صورته في موازاة صور موشيه دايان في القدس وإرئييل شارون في بيروت.

بدا صديقنا الذي ذهب ليتفقد المدينة وكأنه يمشي على شفا حفرةٍ، وسط عالم غير واقعي، في حين أن الصورة التي حازت أكبر نسبة مشاهدة التقطها أحد المصورين الذين دخلوا مع قوات الاحتلال تصوّر المدينة وكأنها قطةٌ تائهةٌ ناجيةٌ من رحلة الباص الأخضر. ومع أن الصورة سوف تبقى على الدوام شاهداً على مدينةٍ لم تعد موجودةً، فإنها تعتبر أنها لا تزال حية، وهنا الصدمة التي لا يمكن الخلاص من مفعولها أبداً.

اقرأ المزيد
١ يناير ٢٠١٧
نحن عالة على البشرية

ماذا لو اختفى العرب جميعاً؟ ماذا لو أفاق العالم فجأة واكتشف أننا لم نعد موجودين؟ بالتأكيد لن يخشى من خسارة أي شيء، فلن ينقطع الإنترنت ولن تتوقف الأقمار الصناعية ولا مصانع السيارات وقطع غيارها، ولن تتوقف أسواق البورصة، ولن يفتقد أي مواطن في العالم أي نوع من الدواء ولا المعدات الطبية وأجهزة الأشعة وغرف العمليات، ولا حتى السلاح الذي يقتل به بعضنا بعضا، فلم نقدم للعالم أي خدمة سوى الكلام وصورة قتل بعضنا في الصحف ونشرات الأخبار.

ستطل سيدة فرنسية من شرفتها لتقول لسيدة أُخرى لقد اختفى العرب جميعاً، وستسأل الأُخرى الجاهلة: أنت تتحدثين عن هؤلاء الذين يقتلون بعضهم ليل نهار؟ نعم، واذا كان أحد يعتقد أنني أبالغ في رسم الصورة فليقف على مسافة في أية عاصمة خارج الوطن، وليراقب خيط الدم من ليبيا حتى العراق مروراً بمصر وسورية واليمن وما بينها من أمة نصفها يسبح على بطنه من شدة الجوع ونصفها الآخر يسبح على كرشه من شدة الشبع، وكلهم عالة على البشرية.

لن يتوقف أي شيء في حياة المواطن الياباني، ولن يفتقد المواطن الأوروبي أي شيء، ولن يخشى الماليزي أوالتركي أو الأميركي من تعطل حياته اليومية، فليس لنا أي دور في الإنتاج الحضاري ولا المعرفي ولا الصناعي ولا الإنتاج المادي ولا الاكتشافات أو الاختراعات، فقط نتناول ما تنتجه البشرية، وكثير من هذا الإنتاج نستهلكه بشكل ضار وخاطئ، من سيفتقدنا كثيراً هي مصانع الأسلحة التي تكدس المليارات لأننا الأكثر استهلاكاً لما تنتجه، ولم نتوقف عن عقد الصفقات الضخمة لأننا نفتح لها سوقاً بالدم مما نستهلكه يومياً من أحدث أسلحة القتل والفتك والدمار.

هم ينتجون كل شيء ونحن نستهلك كل شيء، ولا ننتج سوى الكلام ثم نعيد تفسير الكلام وتأويله وتدويره عن التحريض والكراهية والإقصاء، فكل من العرب له مشكلة مع العرب، ولم تتوقف صراعات العرب البينية منذ فجر التاريخ، دول تكره بعضها وقبائل تتربص لبعضها ومليشيات تنتشر بلا حساب، كلٌ شاهرٌ ما استطاع أن يعده من قوة وخيول لم تتوقف عن الجري في ساحات المعارك. وحده الفلسطيني المحظوظ وسط هذه الأمة أن صراعه مع إسرائيل، لكنه لم يشذ عن الأوركسترا العربية، فقد فتح صراعاً مع نفسه ليؤكد انتماءه لهذه الأمة.

نحن في ذيل القائمة في كل شيء، لا مستشفيات طبية يأتي العالم للعلاج فيها، ولا جامعات تحجز لها مكاناً في أول أربعمائة جامعة حسب تصنيف شنغهاي، ولا مؤسسات حقيقية ولا برلمانات يعتد بها ولا قانون يحترم، كل شيء صوري، فليس هناك ما نباهي به بين الأمم.

قبل سقوط الرئيس مبارك بسنوات ذهب للعلاج في أحد مستشفيات ألمانيا مصطحباً عدداً من المساعدين والحراس، وقد لفتت الحركة غير العادية في المستشفى نظر مواطن ألماني كان يتعالج بنفس القسم فسأل عن النزيل المجاور فقيل له: إنه زعيم عربي، فسأل كم سنة له في الحكم؟ قيل له: ثلاثة عقود، قال: هذا دكتاتور وفاسد، أما لماذا ديكتاتور فلأنه في الحكم منذ ثلاثين عاماً، وفاسد لأنه رئيس وضعت تحت تصرفه كل الامكانيات والصلاحيات ولم ينشئ مستشفى يثق في العلاج به.

لقد كشفت اضطرابات الإقليم خلال السنوات القليلة الماضية هشاشتنا في كل شيء، فمع أول هبة ريح انهارت دول، واكتشف أن ما بنيناه في السنوات الماضية لم يكن أكثر من بناء كرتوني سطحي لا يحتمل أقل الهزات، والأسوأ اكتشاف حجم الكراهية والعنف المتأصل في ثقافتنا العميقة وحجم قدرتنا المدهشة بأن نعيد إحياء أسوأ نزعات المذهبية المدمرة ونستلها لنبرر غريزة القتل المضاد، مستدعين أكثر ما نملك من قدرات كلامية وفتاوى وفضائيات وأموال لإشباع غرائز القتل.

نحن أكثر شعوب الأرض حديثاً واحتفالاً بالانتصارات رغم الهزائم التي تملأ تاريخنا الحديث والقديم، حتى شعاراتنا أكبر من الأوطان، نحول الهزيمة لنصر بمجرد جمل إنشائية، خبراء في قلب الحقائق وتزييف الواقع والماضي، غارقون في أحلام المستقبل بأوهام بعيدة تماماً عن واقع آخذ بالانهيار ، لا نفعل شيء للمستقبل سوى التمني والكلام.

نحن أكثر شعوب الأرض حديثاً عن الوحدة، وأكثرها تشتتاً، أكثر شعوب الأرض حديثاً عن الديمقراطية ونحن غارقون في أشد أنواع الاستبداد، وأكثر شعوب الأرض حديثاً عن التسامح والمحبة والسلام ونحن أشدها كراهية، ونحن أكثر الشعوب حديثاً عن حقوق الإنسان فيما أن الإنسان لا يساوي لدينا جناح بعوضة، حقوق الطفل والمرأة وكل هؤلاء يتم سحقهم إذا استدعت مصلحة جهة أو حزب، وبعد كل حدث نكتشف أن كل منظومة القيم تلك ليست سوى مجموعة شعارات تسقط مع أول صراع وأول حكم وأول مصلحة لقبيلة سياسية.

كان يجب أن يصاب الإقليم بهذه الرجة العنيفة، ليس فقط لتُظهر عرينا السياسي والأخلاقي والاجتماعي، بل تصيبنا بصدمة اكتشاف واقع الحالة العربية التي حاولنا اخفاءها على امتداد عقود وربما قرون أصابت بعض الحالمين بعدوى الأمل الكبير ليغنوا "الحلم العربي" والوحدة العربية قبل أن نعود لعصر الجاهلية ونتحدث عن وحدة الدولة الواحدة في العراق وسورية وليبيا واليمن، ولتنزوي كل أحلام وحدة العرب في دولة.

لم يكن يتصور أي من الشباب العرب أن أمامهم واقعا بهذه القسوة وبهذا السوء، ففي لحظة كانت كل الآمال بمستقبل واعد أكثر، ولكن الحقيقة التي نعرفها جميعا أن كل الشباب العربي الذي يتعرض للتهميش وهو بلا عمل يصطف على الأرصفة في طوابير البطالة منذ سنوات، وهجرة الشباب العربي باتجاه واحد نحو الغرب حتى عندما كانت الدول مستقرة، فما بالنا عندما يحدث هذا الارتجاج.

كثير يقارنون بين ما يحصل عندنا وما حصل في أوروبا عندما خرجت للنور على أمل أن يؤدي هذا النفق المظلم إلى نقطة الضوء .. لكن هناك تمايزاً في التجربتين .. ففي أوروبا صاحب الحروب الأهلية نقاشٌ فكري هائل، بينما يصاحب حروبنا نزعات انتقامية غرائزية لا تبشر، إذا لم نبدأ نقاشنا وقراءة واقعنا على مهل بعيداً عن صخب السلاح ورائحة الدم .. نقاشاً يبدأ بسؤال: ماذا نحن؟ وينتهي بإجابة كيف يجب أن نكون؟ وإلا فإن الرحيل عن الأوطان هو أفضل الخيارات للأجيال القادمة ..!

اقرأ المزيد
٣١ ديسمبر ٢٠١٦
ما بعد مأساة حلب

كشف المشهد اللا إنساني في مدينة حلب عن صورةٍ مكثفةٍ للمأساة السورية بكل أبعادها، تعيد إلى أذهاننا اليوم سردية الفظاعات في الحرب العالمية الثانية، وصور الناجين من التصفيات الجماعية في سربرنيتسا، في أثناء حرب البوسنة والهرسك في تسعينات القرن الماضي. وبقدر ما كشفت عنه أحداث حلب من بشاعةٍ، فإنها عرّت المجتمع الدولي، وأكدت انحيازاته اللا أخلاقية، إذ أسقطت القفازات الناعمة التي طالما ارتداها المجتمع الدولي في ملامسته الأزمة السورية؛ فعلى مدار أكثر من خمس سنوات، ظل المجتمع الدولي يبرّر صمته عن استمرار نزيف الدم السوري من نظام بشار الأسد وحلفائه بقصور الحلول السياسية أمام تعقيدات الأزمة السورية، وتعقيدات الفاعلين الرئيسيين فيها.

تأكد في مأساة مدينة حلب أن خلف المعادلة السياسية والعسكرية التي تسببت بتلك الأحداث ثمّة سيناريو محدّدا تتحرك وفقه أزمات منطقة الشرق الأوسط وحروبها في الوقت الراهن، وأن هذا السيناريو لم تُحدثه المسارات المتشابكة التي دخلتها الثورة السورية، كما كان يُعتقد سابقاً، وإنما إرادة المجتمع الدولي في تفسير جذور الصراع وفق الخيارات الآمنة بالنسبة له. إذ بات جلياً اليوم أن التواطؤ الدولي هو ما مكّن قوات النظام السوري، بمعية القوات الروسية، من السيطرة على حلب الشرقية، وأن تغيير خريطة الصراع في مدينة حلب قد يكون جزءاً مدروساً من تغييرٍ أكبر سيطاول خارطة الصراع في الشرق الأوسط في المستقبل القريب.

لا يمكن، في أي حال، اقتصار قراءة أحداث مدينة حلب على الفشل الذريع للأدوات السياسية للمجتمع الدولي، وعدم قدرته على التدخل العاجل لتقليم الطموحات الروسية في سورية، أو على الأقل تحييدها بما لا يضرّ مصلحة السوريين؛ إذ يبدو أن أحداث حلب جرت وفق سياق أولي لشكل التوافقات الإقليمية والدولية، توافقات تم بموجبها التضحية بالسوريين في مقابل المحافظة على شكل الفوضى، وحصرها في الجغرافية السورية. توحي متابعة معطيات الأزمة السورية منذ أكثر من عام بالمسار الذي كانت تمضي به الأحداث، على أن المجتمع الدولي لا يكترث فعلياً للمأساة الإنسانية في سورية، بقدر ما يأتي اكتراثه من الملل من الصراع المحتدم في منطقة الشرق الأوسط، وسورية خصوصاً، وقلقه من ارتداداته الأمنية على بلدانها، وبالتالي، فإن حلول المجتمع الدولي لتلك الأزمات لم تأت أولوية إنسانية تنطلق من حماية خيارات شعوبها وحقها في حياة كريمة، وتركّزت أولوية المجتمع الدولي في استثمار هذه الفوضى، لكبح جماع الجماعات الدينية المنضوية تحت الإسلام السني، باعتباره التحدّي الرئيسي بالنسبة للمجتمع الدولي.

كشفت أحداث مدينة حلب عن شواهد واضحة لتواطؤ المجتمع الدولي في تجريف شعارات الثورة السورية، فحتى الدول التي طالما تشدّقت بدعمها الثورة السورية، كالنظام التركي، تعاطت، في الأخير، مع نظام بشار الأسد باعتباره جزءاً من المعادلة السياسية لحل الأزمة، وهو ما مكّنه من استعادة حلب الشرقية، والدخول في التفاهمات بشأن إجلاء المقاتلين المسلحين من المعارضة وعائلاتهم، وأسوأ ما في الأمر أن نظام بشار الأسد عد تلك التفاهمات انتصاراً له، متجاهلاً أنه لم يكن سوى شرطي مطيع لإدارة المصالح الروسية، مكرّساً بذلك وضع سورية والسوريين تحت الانتداب الروسي.

في المقابل، كشفت أحداث مدينة حلب عن خلل قوى الثورة السورية، واصطفافها خلف مشاريع غائمة، إذ فشلت هذه القوى، أكثر من خمس سنوات من عمر الثورة، في إيجاد هويتها السياسية المستقلة، وتقديم نفسها خارج اصطفافات ثنائية النظام السوري ومؤيديه من جهة والجماعات الإسلامية المعارضة له من جهة أخرى؛ فبسبب عمق أزمتها الداخليه، لم تحرص قوى الثورة على مراكمة تجربتها السياسية لإيجاد أدواتٍ فاعلة تمكّنها من أن تصبح قوةً اجتماعيةً قادرةً على فرض خياراتها في الواقع السوري، بما يؤسّس لبلورة مشروع وطني جامع للسوريين، على اختلاف طوائفهم. وعدا عن تمركز اهتمام قوى الثورة في التمظهرات الإعلامية، وتنافسية زعاماتها السياسية في تشكيل ائتلافاتٍ سياسية متنافرة، ظلت هذه القوى أسيرة ارتهانها لأزماتها الداخلية، وتحوّلت، على اختلاف تموضعاتها الفكرية، إلى كومبارس في خلفية المشهد السوري، في حين نجحت القوى الإسلامية في اختزال تمثيلها معارضة نظام بشار الأسد، وهو ما التقطه النظام السوري، ونجح في تسويقه للمجتمع الدولي، باعتبار أن إطاحته ستعني فوضى سيطرة الجماعات الإسلامية المتشددة على السلطة في سورية.

السوريون العالقون في مدينة حلب في انتظار مصيرهم المظلم، أو الذين غادروها تاركين منازلهم متجهين إلى المجهول، غير معنيين بالتناقضات السياسية في مواقف المجتمع الدولي من قضيتهم، ولا بتشتت قوى الثورة السورية وانتهازية بعض فصائلها، ولا ببطش النظام وحلفائه؛ فما هو أكيد بالنسبة لهم اليوم أنهم وحيدون ومخذولون، وبأن المتفرجين الكثيرين على مأساتهم غير معنيين بمأساتهم، إلا بقدر ما هم دمىً في سيرك الدم الذي شيّده العالم بحرفةٍ عاليةٍ قل نظيرها، وبقدر ما يمكن استثمار هذه الدمى في مهرجانات اللطم والعويل الممولة.

لم يعد ثمّة ما يمكن التأكيد عليه سوى مأساة حلب، وحقيقة أن ما بعد حلب لن يكون أبداً كما قبلها، ولعل جريمة اغتيال السفير الروسي في تركيا، أندريه كارلوف، ليست سوى تجلّ لمستوى العنف الذي ستشهده المنطقة مستقبلاً؛ فالواقع الذي أوجدته أحداث حلب المأساوية منعطف حاد في تاريخ الصراع والحروب في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي سيلقي بظلاله على أزمات بلدانٍ أخرى تشهد حروباً هي الأخرى، وأن تلك التداعيات ستتجلى في شكل التوافقات الإقليمية الجائرة التي ستنتهجها الدول المتدخلة في أزمات هذه البلدان وأدواتها المحلية، إضافة إلى ما ولدته آلة القهر الإجرامي للأنظمة المستبدة وحلفائها الدوليين، ليس فقط على من عايش تلك التجربة المريرة من السوريين، وإنما على جميع من هزّته صور الناجين من حلب المدمرة وشهاداتهم، ما يعني استدامة جذور الصراع، وتكريس بنية التشدد الديني، بشقيه السني والشيعي، والذي سيجد متنفساً للتعبير عن ضراوته.

اقرأ المزيد
٣١ ديسمبر ٢٠١٦
خطوات تمنع سقوطنا

ستنتاب كثيرين منا، نحن السوريين، نشوة الانتصار، بعد انعطاف الأحداث نحو وقف شامل لإطلاق النار، بدل ذهابها إلى خيار نقيض، كان يبدو حتمياً وممكناً، هو انتزاع إدلب من أيدي الذين تجمعوا فيها من المقاتلين، واستكمال ما بدأه الروس والإيرانيون، قبل عام ونيف، ضد المعارضة المسلحة، وأدى إلى هزيمتها في حلب، حتى بدا وكأن ما سماها قادة الفصائل "ملحمة حلب الكبرى" التي وعدوا أن تحرّرها غرباً، وتفك الحصار عنها شرقاً، ستكون المشهد ما قبل الأخير في اندحار فصائلهم والثورة، بما سيترتب عليه من انكسار معنوي ومادي للمقاتلين ضد النظام والروس والإيرانيين: التحالف المعادي الذاهب نحو انتصارٍ يبدو مؤكّداً.

ما الذي جعل روسيا تتخذ نهجاً مغايراً لتوقعاتٍ بدت حتمية، وتختار الذهاب نحو وقفٍ شامل لإطلاق النار، في لحظةٍ ملائمةٍ جداً لاستمراره؟ هل هي تحسباتها من موقف أميركا بعد أوباما الذي يعد بإجبار إيران على الخروج من المشرق العربي، بما قد يحدثه ذلك من تبدّل في الموازين الأميركية/ الروسية داخل سورية، ومن نتائج سلبية على الأسد ونظامه، مع ما سينتج عنها من أعباء روسية سيكون من الصعب على موسكو مواجهتها، أو إعادة الوضع الذي سينشأ عنها إلى حالٍ قريبةٍ من الوضع الراهن، حيث الكفة راجحةٌ لصالحها، ولصالح الأسد وإيران؟ أم أن السانحة التركية هي ما دفع موسكو إلى القيام بانعطافتها، بينما شجّعتها علاقات أنقرة الخاصة مع معظم الفصائل المقاتلة، وتتبدّى في الحماية التي تقدمها لها، وتجد موسكو نفسها مكرهةً على قبولها، تفادياً لمزيد من انخراط تركيا في الحرب، دفاعاً عنها، باعتبارها مصلحةً قوميةً تركيةً تستحق الحماية بالسلاح، ما دام القضاء عليها يهزم أنقرة في سورية، وينقل مأساتها إليها، ويلزمها بمواجهة مليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) و"داعش"، والتغلب عليهما خارج أراضيها بالتعاون مع موسكو، أو مواجهتهما في مدنها وقراها، مع ما يحملانه من مخاطر تفتيتية على كيانها الوطني؟ أم أن روسيا تجد نفسها في أفضل وضع يمكن تصوره بالنسبة إليها، قوةً كبرى، تسير على خيط رفيع ستسقط في الهاوية، إن اختل توازنها الذي يمكن لأي إجراء أميركي أو تركي أو خليجي أن يهدّده بأكثر الصور خطورة، في ظل ضغوطٍ زمنيةٍ، لا تسمح لها بانتظار تطورات محتملة، لن تنفرد بتقرير هويتها؟

مهما كان السبب في انعطافة روسيا عن طريق الحسم، ثمّة ملاحظات حول السياق الراهن، لا بد من قولها، هي باختصار:
أولاً، لا بد من التزام جميع الفصائل المسلحة بوقف إطلاق النار، حتى في حال تعرضت جبهة فتح الشام للقصف الروسي، فالجبهة وضعت نفسها دوماً خارج الثورة وعملت ضدها، ومن الجنون التضحية بالشعب، وبالفرص الضئيلة لحلٍّ ينقذه، من أجل تغطية مواقفها العبثية.

ثانياً، لا بد من عملٍ يجعل وقف إطلاق النار يفضي إلى حل سياسي، يطبق قرار مجلس الأمن 2254، ووثيقة جنيف، مرجعيةً له، يعترف العالم، بما في ذلك روسيا، ويعلن التزامه بها. أما العمل الذي أعنيه فهو ينصبّ على مسألتين هما:
توحيد المعارضة السياسية والعسكرية بكل معنى الكلمة، بما يتجاوز علاقات التكاذب الراهنة التي تحوّل أي لقاء بينهما إلى وحدة تجمعهما، على الرغم مما نعرفه جميعاً عن شبه القطيعة بينهما التي عبّر عنها غياب "الائتلاف" والهيئة العليا للتفاوض عن مؤتمر "المعارضة" الصحافي الذي عقده الأخ أسامه أبا زيد بمفرده، ولم يظهر فيه أي ممثل للمؤسستين السياسيتين، وخصوصاً منهما الهيئة العليا، الجهة المسؤولة عن التفاوض. قد يقول قائل إن مرحلة التفاوض السياسي لم تحن بعد، وهذا صحيح، لكن ذلك لا يسوّغ غياب أي تمثيلٍ سياسي للهيئة عن مفاوضات وقف إطلاق النار، بمدلولها السياسي الواضح.

المسألة الثانية، بلورة موقف حيال التفاوض والحل السياسي موحد إلى أبعد الحدود، تتبناه فصائل المعارضة جميعها، بما أن ما سيحصل عليه السوريون سيتوقف على وحدة الفصائل واحترامها وقف إطلاق النار، وعلى موقفٍ متقدم حول الحل تدعمه وتعزّزه وحدتها التي يجب أن تبادر فوراً إلى إزالة ما في بناها وأوضاعها من عيوب، وترتيب قواها وعلاقاتها بطرق تقنع الطرف الآخر بضرورة قبول حل يتفق مع عديد من مطالبها، وخصوصاً منها مطلب الحرية والحفاظ على وحدة الشعب.

ليس مؤكّداً أن الحل السياسي المنتظر سيكون لصالح الثورة، فإن رفضته قواها، من دون أن تكون قد أصلحت أوضاعها، قدم لها حلاً أشد سوءاً منه، أو واجهت الهزيمة العسكرية. عندئذٍ، سيكون هذا آخر خطأ تقترفه.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٥ يونيو ٢٠٢٥
قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية
فضل عبد الغني مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٢١ مايو ٢٠٢٥
بعد سقوط الطاغية: قوى تتربص لتفكيك سوريا بمطالب متضاربة ودموع الأمهات لم تجف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٠ مايو ٢٠٢٥
هكذا سيُحاسب المجرمون السابقون في سوريا و3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية
فضل عبد الغني" مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ مايو ٢٠٢٥
شعب لا يعبد الأشخاص.. بل يراقب الأفعال
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٥ مايو ٢٠٢٥
لا عودة إلى الوطن.. كيف أعاقت مصادرة نظام الأسد للممتلكات في درعا عودة اللاجئين
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)