هناك مقالة عن المحنة التي يمر بها الشعب السوري عقاباً له على ثورته الشعبية. لا نعرف من كتبها، ولا أين نشرت في الأصل. لا نعرف إلا أنها ظهرت في إحدى الصحف العربية، ومنها انتقلت إلى صحيفة عربية أخرى. هي مقالة قصيرة لا يتجاوز حجمها 400 كلمة، ولا تنطوي على أية أهمية سياسية أو فكرية. تكمن أهميتها في أمرين. الأول جرأة يحسد عليها كاتبها في الدفاع عن وحشية نظام سياسي عربي في التعامل مع معارضيه، إلى حد الاستعانة بالأجانب لسحقهم. الأمر الثاني هو إعادة نشرها في صحيفة «الشروق» المصرية يوم الجمعة الماضي تحت زاوية «صحافة عربية». ربما أن هدف «الشروق» هو التعريف بمثل هذا النوع من الأدبيات العربية الهابطة. وربما لسبب آخر لا نعرفه. بل ربما أنه لهذا السبب أو ذاك لم تذكر الصحيفة المصرية من أي صحيفة عربية نقلت هذه المقالة، ولا اسم كاتبها. مهما يكن الدافع وراء كل ذلك، فإن تقديم المقالة على هذا النحو يخلق مساحة بينها وبين القارئ بما يجعل من الممكن قراءتها والتعامل معها مباشرة، بمعزل عن معرفة كاتبها ومكان نشرها الأصلي. وبالتالي الاقتراب من حمولتها السياسية والأيديولوجية بشيء من الموضوعية.
عنوان المقالة - وهو طويل جداً - يختصر كل شيء تقريباً عن مضمونها ورسالتها. يقول: «عندما يتقدم نتانياهو بعرض لعلاج جرحى حلب ويصمت بعض العرب تواطؤاً وخذلاناً... إنها قمة المهانة». أول ما يلفت النظر في هذا العنوان وبقية المقالة، أنه يتحدث عن «جرحى حلب» فقط، وليس عن قتلاها، ولا عن جرحى سورية وقتلاها أيضاً الذين أصبح عددهم بالملايين. ولا عمن اختفى من السوريين في زنازين النظام، أو في قبور جماعية تنتظر من يكتشفها وينشرها للعالم. يشعر صاحب المقالة، كما يقول بـ «قمة المهانة» بأن، نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، هو من تقدم «بعرض لعلاج جرحى حلب»، في مقابل صمت «بعض العرب تواطؤاً وخذلاناً». هل صمت هؤلاء العرب فعلاً، ولم يقدموا أي مساعدة؟ لا أتوقع إجابة عادلة ومهنية من كاتب وصف في مقالته الأردن ولبنان بأنهما من «دول الجوار العربي»، وأنهما الدولتان الوحيدتان اللتان استقبلتا لاجئين سوريين. تجاهل بذلك تركيا عن عمد، كما تجاهل أو يجهل أن في السعودية وحدها من بين من يصفهم «ببعض العرب» أكثر من 2.5 مليون سوري، ولا يعاملون كلاجئين، بل كمقيمين. لنضع هذا جانباً ونسأل: لماذا اقتصر اهتمام الكاتب على «صمت بعض العرب»، وتجاهل صمت النظام السوري أمام هذه المأساة؟ أليس هو المعني قبل غيره برعاية مواطنيه، أو من يفترض أنهم كذلك؟ ثم من المسؤول عن سقوط هؤلاء الجرحى ابتداء؟ يمتلك صاحب المقالة جرأة يحسد عليها بتجاهل هذا السؤال. الأرجح أنه فعل ذلك لأنه يعرف يقيناً أن النظام السوري هو من اختار طواعية منهج العنف والقتل مع شعبه. ويعرف أن هذا النظام باستعانته بالروس والإيرانيين ومرتزقة الميليشيات، هو المسؤل الأول والأخير ليس فقط عن سقوط جرحى حلب، بل عن محنة السوريين برمتها. تجاهل صاحب المقالة كل ذلك يشير إلى أن شعوره بالمهانة والخذلان شعور مزيف لحرف الانتباه عن أصل الجرم وفصله.
يتبين الزيف من استحضار الكاتب نموذج تعامل الحكومة الإسرائيلية مع الفلسطينيين وهم تحت الاحتلال في مقابل تجاهله التام نموذج تعامل النظام السوري مع الشعب السوري الذي يفترض أنه ليس تحت الاحتلال. تعامل الحكومة الإسرائيلية مع الشعب الفلسطيني أقل ما يوصف به أنه جرم موصوف. لكن هل يختلف هذا عن نموذج النظام السوري في تعامله مع السوريين؟ كلاهما يستخدم العنف المفرط في وحشيته، ويطبق مبدأ العقوبة الجماعية على معارضيه بالأسلوب المتوحش ذاته. المفارقة أن إسرائيل تطبق نموذجها المتوحش على من تعتبرهم أعداءها الوجوديين من الشعب الفلسطيني. كيف يقدم صاحب المقالة هذه الحقيقة؟ يقول إن «نتانياهو الذي يترأس حكومة في دولة تحتل أراضي عربية .... قتلت وذبحت، ولا تزال تقتل وتذبح عشرات الآلاف، إن لم يكن مئات الآلاف من العرب والمسلمين...». إسرائيل بحكم تكوينها وطبيعتها مستعدة لقتل ما هو أكثر من مئات الآلاف من العرب والمسلمين. لكن ليس هناك ما يثبت أن ضحاياها وصلوا إلى هذا الرقم بعد أكثر من 60 سنة من الصراع. وحتى يثبت صاحب المقالة عكس ذلك بالأرقام، فإن ما قاله هنا هو نوع من المبالغة والكذب لأهداف سياسية في مكان آخر. في المقابل يتجاهل أنه في أقل من ست سنوات، وصل حجم ضحايا النظام السوري، وفقاً لأرقام الأمم المتحدة وهيئات الإغاثة الدولية، إلى أكثر من نصف مليون قتيل، ومئات الآلاف من الجرحى والمغيبين، وملايين المهجرين، مضاف إلى ذلك تدمير أغلب المدن والقرى السورية. يهدف صاحب المقالة من ذلك إلى التمويه على تشابه النموذجين، وعلى مفارقة أن حجم الفرق بين ضحايا كل منهما لمصلحة إسرائيل. بل إن إسرائيل تطبق نموذجها المتوحش على من تعتبرهم أعداء وجوديين لها. أي أنها تنفذ سياسات وفقاً لما تعتبر أنه في مصلحة مواطنيها. أما النظام السوري فيطبق النموذج المتوحش ضد مواطنيه في شكل حصري، ولما يعتبر أنه في مصلحة بقاء الحاكم، ومصلحة حلفائه الروس والإيرانيين. وذلك في تعدٍ سافر على مصالح الشعب السوري وحقوقه.
إذا كان نتانياهو تقدم بعرض لعلاج جرحى حلب- من الواضح أنه عرض انتهازي- فإن الرئيس السوري بشار الأسد، لم يتقدم بأي عرض سوى الإصرار على تهجير أبناء حلب من جرحى وغيرهم عن مدينتهم استمراراً لسياسة التغيير الديموغرافي التي ينتهجها ترسيخاً لنموذج نظامه السياسي. الأنكى من ذلك أنه شبّه فعلته هذه بميلاد السيد المسيح (عليه السلام)، ونزول الوحي على النبي محمد (صلّى الله عليه وسلم). كم كان صاحب المقالة في غنى عن استحضار النموذج الإسرائيلي في سياق دفاعه عن النظام السوري. هذا أسلوب عرّته الأحداث في شكل مخجل. وكم كانت صحيفة «الشروق» في غنى عن نشر مقالة هابطة في مستواها، وغير نبيلة في هدفها.
ليس هناك صورة تعبر عن مأساة الحرب السورية أفضل من المفارقة التي أظهرت سعادة النازحين، لحظة خروجهم من حصار الجوع والموت، بينما كانوا على طريق الموت الآخر الذي ينتظرهم في مخيمات التشرد واللجوء وعواصف الثلج على حدود بلدهم. أمام هذا المشهد، تظهر محدودية ما حصل في الأيام الأخيرة من "مكتسبات"، سواء أتجسد في اتفاق وقف إطلاق النار، أو إعلان موسكو الذي يشير إلى بداية تفاهم روسي تركي إيراني، أو تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على آليةٍ لتوثيق جرائم الحرب وملاحقة المسؤولين عنها. ومع ذلك، ما من شك في أن هذه المكتسبات الصغيرة بدأت تثير آمال سوريين كثيرين سئموا الموت، وأصبحوا، مثل إخوانهم الذين وجدوا أنفسهم فرحين بخروجهم من تحت الحصار والقصف، مع معرفة ما ينتظرهم في حياة التشرّد من عذاب وضياع، كالمستجير من الرمضاء بالنار. فهل تنجح موسكو في إخماد نيران الحرب التي ساهمت في تمديد أجلها، وتحصد ثمار جهودها، أم سوف تغرق في وحولها، كما يتمنى لها منافسوها، ليس في الغرب فحسب، ولكن في منطقة الشرق الأوسط أيضا؟
سورية بين التسوية الروسية والحرب الدائمة الإيرانية
نجحت موسكو في فرض نفسها على جميع الأطراف المنافسة لها في سورية، وهي تتصرّف تجاههم، كما لو كانت قوة انتداب رسمية حاصلة على تفويض دولي لإدارة الأزمة السورية، وإيجاد مخرج لها. وقد عزّز موقفها في الأشهر الأخيرة نجاحها في إسقاط حلب بالتاكيد، لكن أيضاً، من طرف آخر إجبار حليفها الايراني على قبول وقف النار وفتح المعابر للنازحين، وتمريرها يوم 19 من ديسمبر/ كانون الأول الجاري قرار مجلس الأمن القاضي بإرسال قوات مراقبة دولية إلى حلب، وإعلانها أخيراً عما يشبه خطة طريق، حتى لو كانت تبسيطية، لإطلاق عملية مفاوضاتٍ تبدأ بوقف شاملٍ لإطلاق النار على كامل الأراضي السورية، قبل إطلاق مفاوضاتٍ تهدف إلى التوصل إلى تسويةٍ سياسية في ظل بقاء الأسد ومشاركة المعارضة، في إطار تعديلٍ متفق عليه للدستور وإصلاح تدريجي في بنية السلطة وأساليب الحكم.
على الرغم من تواضعه، يتعارض هذا المشروع، مع مخططات طهران بشكل قاطع. فليس لطهران أي مصلحةٍ بوقف الحرب السورية. وبينما تريد موسكو استثمار سقوط حلب لتعزيز فرص إيقاف الحرب، تطمح طهران إلى تحويل سقوط حلب إلى فرصة لانقلابٍ شاملٍ في علاقتها بسورية والمنطقة، وتحويل سورية إلى عراقٍ ثانٍ تتحكّم به مليشياتها وحرسها الثوري. وهذا ما أكّده سعي هذه المليشيات، حتى اللحظة الأخيرة، إلى تعطيل الاتفاق في حلب، على أمل إفشال الخطط الروسية بأكملها. ما حدا بموسكو إلى مراجعة خططها، ودعوة طهران إلى لقاء ثلاثي بحضور أنقرة، ومع استبعاد الأطراف الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة العربية السعودية، الطرف العربي الرئيسي المنخرط منذ البداية في المسألة السورية.
مشكلة طهران أنها، وهي الطرف الذي استثمر أكثر من أي طرف آخر في الحرب ضد الثورة السورية، وبذل المال والسلاح، وخسر سياسياً وأخلاقياً كما لم تخسر أي دولة أخرى، لا تزال بعد مرور ست سنوات على الحرب الطرف الأكثر افتقاراً من أي طرف آخر متورّط فيها لقاعدةٍ قانونية أو سياسيةٍ، تضمن لها الحفاظ على نفوذها وتوسيعه في المستقبل. رهانها الوحيد هو على توسيع دائرة قاعدتها الطائفية أو المذهبية، وهذا ما لا يزال يحتاج إلى عمل وتحضيرات طويلة. لذلك، تشعر طهران أن دخول النظام السوري، أو إدخاله، في المفاوضات الآن، وبرعاية روسية يصعب تحدّيها، يجري على حسابها، وهو يهدّد بأن يسحب منها القرار السوري الداخلي، ويهدر استثماراتها الطويلة، ويدين سياسة المرشد الأعلى السورية بالفشل والإفلاس السياسي والأخلاقي الذي لا يعادله سوى الإفلاس الذي عرفته سياسة ألمانيا النازية المجنونة في الحرب العالمية الثانية.
لذلك، ليس لطهران، التي تراهن على إبقاء سورية جزءا عضويا من إمبرطوريتها، بعد تمويل حربٍ وحشيةٍ لكسر إرادة شعبها، خيار أفضل من استمرار الحرب، وتوسيع دائرة الفوضى والخراب، كما هو الحال في العراق، حتى تحصل على الوقت الضروري لبناء قواعد نفوذها، سواء بتغيير النسيج السكاني جزئياً، أو بالتحكّم بمؤسسات الدولة وأجهزتها، على مستوى أوسع مما حققته حتى الآن. وهي تراهن من أجل البقاء في سورية، وإبقائها رهينةً لها، على تجنيد مجموعاتٍ مرتبطة بها، مذهبياً واجتماعيا، مستفيدةً من الأقليات المذهبية المحلية القريبة منها، ومن الجاليات الجديدة التي تريد توطينها في المواقع الاستراتيجية حول حلب ودمشق وحمص، كما تراهن على التعطيل المديد لعمل الدولة، وإلغاء أي احتمالٍ لإعادة بنائها، في ما يشبه نموذج عمل الحركة الحوثية في اليمن، ما يفتح أمامها إمكانية العمل بهدوء وحرية على تغيير الوقائع الاجتماعية والديمغرافية والمذهببية.
لم تكن التسوية السياسية، أو وقف النار، هما ما كانت تنتظره طهران من سقوط حلب أو إسقاطها، وإنما تكريس الانتصار الكامل، وإلغاء فكرة التسوية نفسها التي لا ترى مكاناً لها مع معارضةٍ تصف جميع منتسبيها بالإرهابيين، وفي أحسن الأحوال، بالصهيو أميركيين. ومهما حاولت موسكو أن تطمئنها، ستظل طهران تشعر بأن القوة الروسية التي أنقذت مشروعها من الهزيمة، عندما تدخلت عسكرياً لصالحها وصالح الأسد عام 2015، هي التي تسرق الانتصار منها، وتحرمها من رسملة استثماراتها وتحول بينها وابتلاع فريستها المستحقة، كما كانت تنتظر بثقةٍ كاملة. تشعر طهران، من دون شك، كما لو أن موسكو، بقصد أو من دون قصد، تحاول أن تخطف اللقمة من فمها. وما يؤرقها أكثر أن الوقت يداهمها، ولم يعد لديها فرصٌ كثيرةٌ للمناورة قبل قدوم الإدارة الجديدة، التي يتميز عديدون من شخصياتها، إن لم يكن معظمهم، بمعاداتهم الشديدة سياسات النظام الإيراني. ومن المفترض أن يعزّز التفاهم الأميركي الروسي المحتمل موقف موسكو، ويجعلها أكثر قدرةً على الوقوف في وجه المشاريع الإيرانية في سورية.
هناك أكثر من عاملٍ يدعو إلى التصادم بين السياستين، الروسية والإيرانية، في سورية. أولها اختلاف الأجندات. فبينما تعتقد موسكو أنها في أفضل وضع لحصاد ما زرعته، وإن أي إضاعةٍ للوقت يهدّد مكاسبها، تشعر طهران بأنها بالكاد انتهت من نصب الفخ للطريدة، فكل ما فعلته، في السنوات السابقة، كان تمهيداً لحل عرى المجتمع وتفكيكه وتدمير الدولة. والآن، جاء أوان الزرع ووضع البذار، أي العمل على شرعنة المليشيات، وتشييع جزءٍ من المشرّدين والمحتاجين وقلب المجتمع رأساً على عقب. ولذلك، هي بحاجة إلى أكثر ما يمكن من الوقت لتحقيق أهدافها وتكريس مكاسبها. وثانيها الهدف، فبينما تنتظر روسيا من مناورتها السورية تغيير نوعية علاقتها المختلة مع الغرب، وإعادة موضعة نفسها قوةً أو قطباً رئيسياً في صياغة أجندة السياسة الدولية. وبالتالي، اكتساب اعتراف الغرب وشراكته. وتريد أن تنجح في تقديم نفسها دولةً قادرةً على المساهمة في حل الأزمات الدولية. وتنظر إيران إلى سورية فريسة تريد ابتلاعها، لتكبير نفسها وتعظيم قوتها وتحسين فرص صراعها الوجودي مع الغرب في المشرق وفي ما وراءه. وثالثها الاستراتيجية. فما تطمح إليه موسكو هو استخدام نجاحها في سورية، بحسم الحرب عسكرياً أو ما يشبه حسمها لصالح النظام، ودفع الأطراف إلى القدوم إلى طاولة المفاوضات، وربما التوصل إلى تسويةٍ تنهي الثورة والنزاع معا، إلى إعادة بناء الدولة التي أصبحت أكبر قاعدةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ لها خارج روسيا، وتأمين إدارتها السياسية. وتراهن ايران، بالعكس، على خراب سورية والشرق الأوسط بأكمله، ونشر الفوضى والفراغ الاستراتيجي فيه، لترويع الغرب وتهديده وانتزاع اعترافه بنظامها ومكتسباتها، وهيمنتها الإقليمية.
مأزق الاحتلال الإيراني
لا يعني هذا أن التحالف الروسي الإيراني مهدّد بالتفكّك، فليس هناك أي مصلحة لطهران أو موسكو في إنهاء تحالفهما المفيد من نواحٍ عديدة أخرى. فموسكو لاتزال تحتاج إلى القوة البرية الإيرانية لإحكام قبضتها على سورية، تماما كما تحتاج طهران إلى المظلة الجوية والسياسية الروسية، للتمكّن من البقاء، وترسيخ حضورها في سورية الآن، وفي أي تسوية قادمة. لكن الحفاظ على التحالف أو السعي للحفاظ عليه لا يلغي الخلاف في المصالح، ولا يعني انتفاء التنازع على الأولويات. وهذا هو الحال في ما يتعلق بتصوّر صيغة الخروج من الحرب المدمرة السورية والمهدّدة لجميع الأطراف، باستثناء طهران التي تحرّك الخيوط من بعيد، وتراهن على قوى محلية وإقليمية أكثر مما تزجّ نفسها في المعارك اليومية. ولا علاقة لما تخشاه طهران بروسيا، أو بمصالحها المباشرة مع روسيا، ولكن بمشروع روسيا في سورية. فمصلحة روسيا تقتضي التوصل إلى حل سياسي للازمة، أو على الأقل إظهار قدرتها وإرادتها على إيجاده، يعزّز ما تطمح إلى تكريسه دوراً إقليمياً ودولياً، ويضاعف نفوذها في المشرق وفي دول الخليج العربي أيضاً، ولا مصلحة لها بالاصطفاف وراء إيران أو الالتصاق بها. وهذا يتطلب منها أن لا تسمح لطهران بأن تكون الرابح الأول أو الأكبر في سورية، بل أن تسعى، بالعكس، إلى الحد ما أمكن من أطماعها للحفاظ على علاقاتها الإقليمية، واكتساب موقع الدولة العالمية.
في المقابل، تطمح طهران إلى أن تحول نهاية المواجهة في سورية انتصاراً تاريخياً على الغرب من خلال انتصارها على العرب ودول المنطقة القريبة منه أو المحسوبة عليه، وأن تجعل من إلحاقها سورية بها غنيمة حرب، تحتكر فيها وحدها النفوذ والسيطرة والقرار. سورية المحرّرة من شعبها الثائر هي، في نظر طهران الخامنئية، خط دفاع استراتيجي عن أمن إيران القومي، لا يهم من يسكنها، وما مصير شعبها، تماماً كما هو الحال في العراق ولبنان.
بعبارةٍ أخرى، يستند نجاح موسكو، في تحقيق أهدافها في الاعتراف الإقليمي والدولي بها، قوةً عالميةً إيجابية، وترسيخ وجودها، ليس في سورية فحسب، وإنما في المشرق والشرق الأوسط كله، بوصفها قوة استقرار وأمن وسلام، يمكن الاعتماد عليها، والارتقاء بنفسها إلى مصافّ الدولة العالمية الحضور، كما كانت في العهد السوفييتي السابق، على قدرتها على وقف الحرب. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون تسويةٍ سياسية، وتفاهمٍ بين السوريين، حتى لو ربحت عسكرياً. فالنظام السوري لم يعد موجودا بالفعل، ولا بد من إيجاد بديلٍ له، والطغمة التي قادت الدولة إلى الهلاك لا يمكن أن تكون هي نفسها البديل، ولا سبيل لتحقيق الحد الأدنى من التفاهم السوري السوري من دون إجراء تعديلاتٍ دستوريةٍ وإصلاحات سياسية ومشاركة لجميع الأطراف في الحكم الجديد. أما طهران التي تعرف أن نظام الأسد قد انهار وتفكّك، ولم يبق منه شيء، فهي تريد أن تعد نفسها ومليشياتها لتكون النظام الوريث، أي أن تبني نظاماً يستند كليا إليها، وتحرّكه روح التبشير المذهبي والعداء لشعوب الإقليم ذاته الذي يحرّكها، وهي لا تتمسك بالأسد إلا قناعاً تخفي به نظام الاستعمار والإحلال الحقيقي الذي تسعى إلى إقامته بديلاً لنظامه .
من هنا، يبدو لي أن من الصعب أن تتجنب طهران الصدام مع ما لا ينبغي وصفه بأكثر من مشروع التهدئة الروسية في سورية، ما لم تقبل بتخفيض سقف توقعاتها وإعادة تعريف مصالحها وأهدافها التي دفعتها إلى غزو سورية، تحت قناع الدفاع عن نظام الأسد، أو النجاح في إثارة نزاعات أو صراعات جانبية، وربما مع تركيا بشكل رئيسي، لإجهاض العملية السياسية. وهي لم تصرّ على حضور اللقاء الثلاثي في موسكو، وتوقع على بيانه، إلا كي تتمكّن من الانقضاض عليه في مرحلة تالية وتعطيل أي تسوية سورية.
على الرغم من شراكتها الكاملة في تحطيم آمال السوريين، ومن تواطؤها مع الأسد وطهران، لحرمانهم من حقهم في تقرير مصيرهم، أي من الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال، ما زال من الممكن لموسكو أن تلعب دوراً في مساعدة السوريين على الخروج من المحنة. ولا يمكن أن يتجسّد هذا الدور في المساهمة في التغيير السياسي، وبناء النظام الجديد الديمقراطي الذي ينشده السوريون، فهو ليس من أهدافها، ولا من أولوياتها، وليست قادرة عليه، وإنما في العمل على وضع حدٍّ للحرب التي كانت طهران، ولا تزال، الواقد الرئيسي والأول في نارها.
ساهمت كل الأطراف التي انخرطت في الأزمة السورية، بشكل أو آخر، في إطالة معاناة السوريين، بعضها بسبب تآمره، وبعضها بسبب تجاهله وتخاذله، وبعضها بسبب أخطائه وسوء إدارته وبعضها لقلة حيلته، وبعضها، كما هو الحال بالنسبة للمعارضة السورية، لضعف تنظيمه وانقسامه وتنازعه. لكن، ما كان لهذه المأساة أن تصل إلى ما وصلت إليه من الوحشية وزرع الشر والدمار، ولا أن تدوم هذه السنوات الطويلة، من دون إرادة الهيمنة المرضية التي تتغذّى من مشاعر التفوق العنصري، وروح الانتقام من العرب والغرب التي تحرّك النخبة التيوقراطية الإيرانية الحاكمة اليوم. ولا أعتقد أن من الممكن إنقاذ المشرق من محنة الحرب الدائمة التي تدفعه إليها طهران من دون لجم هذه الإرادة، ووضع حد لنظام السلطة الأبوية والبابوية "الصليبية" التي تخضع لها الدولة الايرانية، والتي تفرض على الشعب الإيراني الضحية طريقاً واحداً لتحقيق ذاته وتطلعاته: هو طريق الحرب والتوسع والجهاد الطائفي. ما تطمح إليه طهران الخامنئية، باسم نشر الثورة الإسلامية، هو فتح مضاد يلغي نتائج الفتوح العربية الإسلامية، ويعيد إلى الامبرطورية البائدة مجدها وهيمنتها. لكن، لن تكون عواقب هذه السياسة، في نهاية المطاف، سوى انهيار إيران وخراب الإسلام دينا ودنيا في الوقت نفسه.
هل تنجح موسكو في كبح جماح الهيمنة الإيرانية، واحتواء وحش التوسعية القومية والمذهبية المتعطش لمزيدٍ من الدماء والعظمة والانتصارات؟
في الإجابة الإيجابية عن السؤال تكمن مهمة روسيا التاريخية وفرصة موسكو الوحيدة للنجاح في وضع نهايةٍ للحرب السورية، وللحروب العديدة الأخرى التي ولدت من صلبها، وعلى هامشها، بما فيها الحروب الداعشية، وهذا بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي الذي سوف ينجم عن السلام.
يتوضّح أكثر بعد معركة حلب أن روسيا تسير في خيار الحسم العسكري، وإنْ كانت تعمل على ذلك بـ "هدوء"، أو بـ "بطء". فقد سكّنت الجبهة الجنوبية بالاتفاق مع النظام الأردني. وأخذت تقطف ثمار الحصار الطويل لكل المدن والبلدات في محيط دمشق، من خلال تحقيق "المصالحات" التي تقتضي خروج المقاتلين والسكان منها. وقرّرت حسم الصراع بالقوة في حلب وإدلب والشمال عموماً، بعد أن سمحت لتركيا بالسيطرة على شريطٍ من حدودها مع سورية في حرب ضد "داعش". وهي غير مهتمة بـ"داعش" ومناطق سيطرته، لأنها تستطيع استعادتها بـ "هدوء" حين تريد، لأنها تخدمها من خلال السيطرة على مناطق النفط التي باتت من حصة الشركات الروسية، وحيث تتحكّم في جزء منها هناك. لهذا لم تقاتل مسلحي "داعش"، على الرغم من "الأفلام" التي نشاهدها بين حين وآخر.
ويبدو أنها تريد الآن تشكيل "معارضة معتدلة"، تقبل الاتفاق مع النظام، لكي تقول إنها أنهت الصراع الطويل في سورية، وأعادت الهدوء إلى هذا البلد.
يتمثل المنظور الروسي في حسم الصراع بالقوة وفرض بقاء بشار الأسد ونظامه. ولهذا، يستخدم قواته الجوية والبرية، ويعتمد على مليشيا طائفية من بلدان عديدة. هذه هي، باختصار، الإستراتيجية الروسية التي استخدمت سورية حقل تدريب لجيشها، وتجريب سلاحها الجديد، واستعراض قوتها لكي تزيد من مبيعات سلاحها. وهي تريد احتلال سورية من أجل مسائل عديدة. أولها استراتيجي، يتعلق بأن سورية مرتكز توسيع السيطرة على "الشرق الأوسط" الذي يعيش حالة انسحاب أميركي. وثانيها عسكري، يتعلق بتوفير قواعد بحرية في سورية من أجل الهيمنة على البحر المتوسط، وقواعد جوية وبرية لـ "حماية مصالحها" في سورية و"الشرق الأوسط". وثالثها الحصول على مصالح اقتصادية، تتعلق بالنفط وإعادة الإعمار ومشاريع تقطف ثمارها الشركات الروسية. ورابعها التحكّم بخطوط النفط والغاز، لكي تمنع كل إمكانية لمد خطوط عبر سورية، تنافس روسيا في أوروبا.
ولا شك في أن ذلك كله "مصيري" وحاسم لروسيا، البلد الإمبريالي الذي يريد الأسواق، لكنه يريد كذلك منع التنافس، كي يُبقي أوروبا في حاجةٍ إليه في ما يتعلق بالنفط والغاز. لهذا، تسعى إلى فرض احتلال على سورية، وليس فقط إقامة علاقات متميزة، لأن هذا هو ما يضمن لها ذلك كله، ولأن ضرورة إقامة قواعد عسكرية يعني فرض الاحتلال، كما أرادت وتريد أميركا في العراق. وتدفعها كل هذه الأمور إلى الحسم العسكري، والسيطرة على كل سورية (وهنا، يصبح كل حديث عن التقسيم لعبة مسلية، هدفها تشتيت النقاش وتضييع الحقائق). لكن، لنفترض أن روسيا استطاعت، بكل تفوقها العسكري، أن تسيطر على كل الأرض السورية، فهل تستطيع ضمان قدرة النظام على الحكم؟
السؤال نابع من ملاحظة بسيطة، هي أن النظام لم يعد يمتلك جيشاً، وهذا ما اعترف به بشار الأسد في صيف سنة 2015 مقدمة لطلب التدخل الروسي، حيث هناك بقايا جيش، وعصابات تسمى "الجيش الوطني"، وحتى فرق الجيش باتت تتشكل من هذه العصابات، بعد فرار أغلبية الجيش أو انشقاقه، وهروب الذين يُطلبون إلى الخدمة العسكرية، ومقتل آلاف منه. ولهذا، من يقاتل الثورة "قوى خارجية". هكذا بالضبط، وهي حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية والأفغانية والباكستانية، والحرس الثوري الإيراني، ومرتزقة من فلسطين ولبنان وغيرهما. وبالتالي، كيف يمكن أن يحكم بعد تحقيق "الانتصار"؟
أمام روسيا خياران. الأول الاعتماد بشكل مستمر على هذه القوى التي هي خاضعة لإيران، وهذا يعني أن على روسيا أن تقاسم إيران في "الغنائم"، ومنها القبول الروسي بمدّ خط أنابيب الغاز الذي وقعته مع بشار الأسد سنة 2010، وضمان مشاريع اقتصادية لها، وسداد ديون النظام لها. وأيضاً أن تقبل سياسات إيران التي تستغلّ حزب الله من أجل التفاوض، حيث تريد السيطرة على سورية ولبنان (والعراق واليمن) كما يصرّح قادتها. ويتناقض هذا الأمر مع تحالف روسيا مع الدولة الصهيونية التي تريد إنهاء وجود حزب الله، وإبعاد إيران عن حدودها. ولا شك في أن ذلك كله يتناقض مع مصالحها هي، حيث تريد السيطرة الأحادية على سورية، ومدّ سيطرتها إلى "الشرق الأوسط". والخيار الثاني أن تأتي بقواتها هي، لكي تصنع أرجلاً لنظامٍ تريد استمراره، وهذا يورّطها في حرب طويلة، وهي حربٌ ستحدث، حتى وإنْ اعتمدت على قوى إيران.
تحتاج إعادة بناء جيش سوري إلى زمن طويل، وربما لا يكون ممكناً ذلك نتيجة "غياب الشباب" الذي يقبل الخدمة العسكرية، بعد أن جرى تهجير أكثر من نصف السكان، وفرار شبابٍ كثيرين من مناطق النظام، وحتى من "داعميه". بالضبط لأنهم لا يريدون المشاركة في هذه الحرب القذرة، بعد أن فقدت تلك المناطق عشرات آلاف الشباب في حرب النظام ضد الشعب، ومن أجل إجهاض الثورة. والعجز عن بناء جيشٍ جديد يعني أن على روسيا إما أن تقبل بتقاسم مع إيران، وهو تقاسم غير مضمون النتائج، أو تزيد من قواتها البرية، وهذا أمر يغرقها في أفغانستان جديدة. فهل تقبل أن تبقي المعادلة الحالية بعد أن تحسم الأمور؟
هذه هي معضلة روسيا في سورية، ذلك أن "انتصارها" لن يكون مكتملاً، وسوف يخضع لظروفٍ تقلل من قدرتها على السيطرة واحتكار سورية. وأشير إلى ذلك انطلاقاً من بديهية واضحة، هي أنه حتى وإنْ استطاعت روسيا السيطرة على كل سورية، فإن الحرب ضدها وضد النظام لن تتوقف، وإنْ اتخذت أشكالاً جديدة، فليس من انتصارٍ حاسم ممكن لها في كل الأحوال. ولا شك في أن تمسّكها ببشار الأسد، وببنية النظام كما هي، من دون أن تقدم "تنازلاً" واحداً، سوف يفرض عليها أحد الخيارين السابقين، أي الاعتماد على قوات إيران وملحقاتها أو إرسال قواتها. لا بد، في الحالة الأولى، من أن تقدّم تنازلاتٍ لإيران، وهو ما لا تستطيعه، أو إرسال قواتها، وهذا سيدخلها في أفغانستان جديدة، ربما أسوأ من السابقة، خصوصاً أن الوضع العالمي يعاني من سيولةٍ وتحوّلٍ في التحالفات، يمكن أن تقود إلى تصارع مصالح في سورية، يعزّز من الصراع ضدها. والأهم هنا هو أن الشعب الذي ثار لن يقبل الهزيمة التي تتمثل ببقاء بشار الأسد ومجموعته. وبالتالي، سوف يستمر العمل المسلح ضد النظام وحامليه من إيران إلى روسيا، ولسوف يتخذ أشكالاً أفضل مما جرت ممارسته منذ ثلاث سنوات. فحرب العصابات هي التي ستكون الرد المناسب على وضعيةٍ مفروضةٍ من بقايا نظام وسلطة احتلال وأدوات طائفية. ولكن، يمكنها تحويل وجهة الصراع من روسيا في حالةٍ واحدة فقط، هي إنهاء سلطة بشار الأسد ومجموعته، وإعادة بناء الدولة على أسس تشاركية. فهذا هو المدخل الوحيد لبناء قوى عسكرية تحمي الدولة، حيث إنها الخطوة التي تسمح بعودة عشرات آلاف الفارّين من الجيش، وتهدئة القوى التي تقاتل الآن ضد النظام، وتحقيق "قبول شعبي" بشكلٍ ما. على الرغم من أن الصراع سوف يستمر بأشكال أخرى، نتيجة الحاجة لتحقيق مصالح الشعب، الاقتصادية والسياسية، فالشعب يريد العيش الكريم والديمقراطية، هذا هو ملخص الحرية التي يريدها، وطرحها منذ البدء.
لا بد من قول بعض الجمل حول أسباب تركي الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في هذه اللحظات المهمة من المعركة الدائرة حول وطننا وداخله.
وكنت قد انتسبت إلى "الائتلاف" في ظرفٍ بدا معه أن دخول "كتلة ديمقراطية" قوية إليه سيمثل إضافة نوعية للعمل في سبيل الثورة السورية. حينها، كنت أعتقد أن علينا، كديمقراطيين، تدارك ما في الثورة من نواقص خطيرة، كافتقارها إلى قيادةٍ تعترف بها جميع أطرافها، وإلى خطةٍ استراتيجية، وبرامج تفصيلية تغطي سائر جوانبها، وخطط تتفيذية تحدّد وتوقّت مساراتها، وتلعب دورها في نقل أعمال "الائتلاف" وأنشطته من دورٍ يلحق بالأحداث إلى دور يستبقها ويوجهها إلى حيث تخدم الثورة، وتقوّض النظام الأسدي إلى جانب توحيد الجهود السياسية والعسكرية، وإخضاع الثانية منهما لما ترسمه القيادة السياسية من خطط، وتصدره من أوامر وتقرّه من برامج، وكذلك استعادة رهان الثورة على الحرية، من خلال عملٍ منظم يقاوم النزوع إلى العسكرة والطائفية والمذهبية، لدى النظام وبعض التنظيمات الجديدة، كالقاعدة و"داعش"، و"أحرار الشام" (قبل تحولهم نحو رؤية فيها عناصر وطنية)، والسعي إلى توطيد تماسك الحاضنة الاجتماعية المعادية للنظام، عبر سياساتٍ متكاملةٍ تشجعها على التمسك بحراكها اليومي والسلمي.
من أجل هذا البرنامج، كتبت ورقةً أقرّتها الهيئة السياسية (ولم ينفذ منها شيء) تتضمن رؤيتي لطرق إنجاز هذه المهام، قصدت بها دفع "الائتلاف" إلى وضعٍ يمكّنه من إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في بنيته وسياساته، وتعزيز قدرته على ملاقاة التطورات والتحكم بها، طالبت فيها بإعطاء الأولوية في عمله للداخل باعتباره ساحة الحسم التي يتوقف نجاح الثورة وفشلها على تعبئتها وتنظيمها وربطها بالثورة التي كان جلياً أنها ستستمر فترة طويلة. وقلت إن الرهان على الخارج يبعد تضحيات السوريين عن هدفها: الحرية للشعب السوري الواحد، ويحولها إلى أداة تخدم تصفية حسابات متنوعة، تمارسها القوى الدولية عامة، وأميركا خصوصاً، من خلال سورية التي تتحوّل من مكان للثورة إلى ساحةٍ تدور فيها مختلف أنواع الصراعات والتدخلات التي لا تمت لها، أو لمطالب الشعب السوري بصلة. وأكدت على ضرورة بقاء "الائتلاف" مستقلاً، ومنتجَ عمل وقرارٍ وطني يواجه من خلاله الصراعات الإقليمية والدولية المتزايدة الانخراط في بلادنا، والتي أسهم ظهور التطرّف المسلح معها في الانزياح الجدّي الذي يأخذ بدوره الثورة إلى العسكرة والتطييف والتمذهب، ويتبع السياسي للبندقية عوض أن يخضع البندقية للسياسي، ويقوّض بصورة متزايدة قدرة "الائتلاف" على امتلاك تمثيل وطني مستقل يحترمه الآخرون، يقنع الأشقاء العرب والعالم بالخيار الديمقراطي، خياراً يضمن وحده أمنهم وسلامهم، ويرد عن سورية وعنهم مخاطر (وجرائم) الإرهاب، القاعدي والداعشي، ويؤسس البيئة السياسية الضرورية لإسقاط الأسد ونظامه. وفي هذا السياق، يجعله وضعه الذاتي رقماً صعباً يستحيل على الآخرين تحقيق مصالحهم في سورية، من دون تحقيق مطالبه، وفي مقدمتها تطبيق القرارات الدولية التي تدعو إلى الانتقال الديمقراطي الذي يأخذ سورية إلى الحرية والعدالة والمساواة والكرامة.
ومع أنني كتبت مجموعةً كبيرةً من الأوراق التي تعالج هذه القضايا، ووضعت برنامجاً تفصيلياً لإصلاح العمل الوطني، وليس "الائتلاف" وحده، فإن عائد جهودي كان محدوداً إلى أبعد حد، وضاع في التحزبات والخلافات والصراعات الانتخابية، والتدخلات الخارجية المتعدّدة الأطراف، بينما كان "الائتلاف" يبتعد أكثر فأكثر عن دوره المفترض قائداً للثورة، ويكتفي بصفته التمثيلية التي تقلصت، بمرور الوقت، إلى اتصالاتٍ خارجية، ازدادات تدنياً وهامشية، وعلاقات داخلية برّانية، أخذت دوماً صورة أحاديث مرسلة مع العسكر، لم تترتّب عليها أية نتائج عملية بالنسبة لنظرتهم إليه، أو إلى أنفسهم وأدوارهم. أما الأسباب فترجع إلى أن التنظيمات المسلحة الكبيرة لم تعترف به، وبمشروع الحرية الذي أعلن تبنيه، لكن إكراهاتٍ عمليةً ألزمته بمراعاة الواقع الميداني/ الداخلي الذي تسيطر هي، وليس هو، عليه. وبما أن معظم هذه التنظيمات كان معادياً لمشروع الثورة الأصلي، أي للحرية، فقد أحجم "الائتلاف" عن مواجهتها، ومارس حيالها موقفاً جعل مشروعه الثوري كلامياً، وأرغمه على التساهل في تبنيه فعلياً وعملياً، وفي النضال من أجل انفراده بالساحة، مع أن الموقف منه كان وسيبقى الموقف من الثورة الذي يجب أن يوضع في مرتبةٍ أعلى من أية علاقة جزئية أو دنيا، يقيمها مع أية تنظيمات، فكيف إذا كانت إرهابية.
هذا الواقع الذي افتقر إلى قيادة وخطط وبرامج ثورية، واتسم بالتفكّك السياسي والعسكري، وخالطته نزعة إرهابية قوّضت طابعه الثوري الحر، بدا عصياً على أي إصلاح، ناهيك على التغيير، وأقنعني، منذ أعوام، أن دوري في "الائتلاف" لا يفي بالغرض الوطني الذي من أجله انتسبت إليه، وأن دخولى إليه تحوّل من فعل تغييري مزمع إلى واقع احتوائي مفروض ومرفوض، لكنني كنت أعد نفسي دوماً بجهة تفي بوعودها حول تطبيق برنامجٍ متفقٍّ عليه، وتشكيل فريق استشاري حول الهيئة الرئاسية يضفي شيئاً من المشاركة على أنشطتها وقراراتها، يغطي جميع أوجه الواقع السوري، بعد إعادة هيكلته بوصفها عملاً متخصصاً وخبيراً. وفي النهاية، كان لا بد من قرار، خصوصاً بعد اجتماع الهيئة العامة أخيراً، والذي طالبت فيه أغلبية ساحقة من أعضاء "الائتلاف" برفع غطائه السياسي عن جبهة فتح الشام (جبهة النصرة)، لكن جهةً ما عطّلت إصدار القرار الذي اتخذ، الأمر الذي أثار لدي ولدى عدد كبير من الأعضاء الانطباع بأن هناك اليوم أكثر من ائتلاف، وأن الجهة التي تتخذ قراراته مطبخية وسرية، وما عداها لا حول له ولا طول، وإنها تمتلك من الآليات ما يمكّنها من فعل ما تريد. لذلك لن يكون البقاء في "الائتلاف" غير تغطية لأعمالها وقراراتها التي تتعارض مع قناعاتي، وليس من الإنصاف أن أتحمل مسؤوليتها، وخصوصاً في حالة جبهة النصرة، الجهة التي تتعارض أفعالها تعارضاً جذرياً من المصالح الوطنية والعليا للشعب السوري، ومع الثورة وقيمها، وتدمر فرص نجاحها، في واقع دولي يجد نفسه منذ أعوام أمام المفاضلة بين إرهابي يقتل شعبه هو المجرم بشار الأسد، وإرهابيين سيقتلون شعوب العالم كافة، إن أسقطوا حكمه. وقد اختار العالم الإرهابي الذي يقتل السوريين، لاعتقاد قادته (غير الصحيح طبعا) أن خياره هذا يحمي شعوبه. بما أن "الائتلاف" لم يفعل شيئاً ضد هؤلاء الإرهابيين الذين يخشاهم العالم، فقد بدا وكأنه يؤيدهم أو يناصر قضيتهم، وليس صادقاً في عزوه إرهابهم إلى النظام، وإلا لما أحجم عن التنصل منهم ومحاربتهم، ولما رفض، رفع غطائه السياسي عنهم.
واليوم، وقد بدأ الخط المتعسكر/ المتمذهب بالانهيار، وصار من الضروري أن نعمل كي لا يتحول سقوطه إلى سقوط للثورة، يكون على كل وطني محب للشعب العمل لاستئناف ثورته الأصلية كثورة حرية وكرامة لجميع السوريين، من دون أي استثناء. وبالنظر إلى أن "الائتلاف" رفض، بعد كارثة حلب، اتخاذ قرارٍ يدين "النصرة" بالإرهاب، ويتنصّل من أعمالها ويضعها خارج الثورة، فقد كان من الضروري أن أغادره لأشارك، من الآن، في الجهد الوطني الذي سيتركّز على استئناف ثورة الحرية للشعب السوري الواحد، ويتطلب نجاحه جعل المعركة ضد الإرهاب استراتيجية قائمة بذاتها، تحفز بنجاحاتها الحراك الثوري/ السلمي/ الوطني الذي سيقترن بما نراه من انفكاك قطاعاتٍ شعبية واسعة عن الإرهابيين وتنظيماتهم، وتوجه لدى شابات وشبان سورية نحو استعادة دورهم المفصلي في ثورة الحرية والكرامة التي صار إحياؤها مسألةً إنقاذية، من غير الجائز التساهل فيها أو تجاهلها. لو كان "الائتلاف" مؤهلاً للقيام بهذه المهمة، أو عازماً على الخروج من هامشيته الراهنة، عبر التصدّي لقيادة هذه المحاولة الإنقاذية، لكنت خادماً صغيراً له، لكنه لا يقوم بما يوحي أنه أدرك أهمية السانحة المتاحة، ويريد التصدّي لمهامها.
عندما أبلغت "الائتلاف" بانسحابي منه، تمنيت له النجاح، هذا ما أتمناه له اليوم أيضاً، وسأتمناه له دوماً.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
لأن الشعب هو الذي يدفع ثمناً فادحاً من دمائه لتصحيح أخطاء حمقى السياسة والسلاح، ولأنه لا يستشار في أيّ شأن من الشؤون التي تفضي إلى هلاك بناته وأبنائه، فرادى وجماعات، في حالاتٍ كثيرة على أيدي (أو بسبب) من يدّعون تمثيله والقتال دفاعاً عنه، يصير من غير الجائز أن يعلو أي صوت، بعد اليوم، على صوته، أو تسمو أية إرادة على إرادته. في المقابل، لا يحق للشعب مغادرة الشارع من الآن فصاعداً. وعقب كارثة حلب التي فضحت واقع المعارضة السياسية والمسلحة، وفضحت ما يشوبه من تشوهاتٍ بنيوية إن استمرت، غدا تجاهلها فوق طاقة السوريين، وحلت الهزيمة بالثورة، بعد أن أباد نظام الإجرام الأسدي وأعطب الملايين منهم، وأذاق الأحياء منهم شتى صنوف القتل والتجويع والحصار والتهجير والاعتقال والتعذيب، بينما لم يقصّر أمراء الحرب وتجارها في قمع ما يسمونها، نفاقاً وكذباً، "الحاضنة الشعبية" وقهرها وتجويعها وقتلها، وأكملوا سياسات الأسد وبطانته وجرائمهما، فمزقوا المجتمع وشتتوه، وأخضعوه لأنماط من الاستبداد المذهبي، لا تقل وحشيةً عن استبداد نظام الأسد الطائفي، مدّعي العلمانية، حتى ليصدق القول إن مذهبة ثورة الحرية نقل شعب سورية من "تحت الدلف إلى تحت المزراب"، حسب قول مثل شعبي، يصف تعاظم مآسي من يريد التخلص من مصيبة فيقع في مصيبة أشد وأدهى منها.
مرت الثورة في مرحلة أولى: مجتمعية/ شعبية، طالبت سلمياً بالحرية لشعب سورية الواحد. تلتها مرحلة ثانية: تعسكرت وتمذهبت وتطيفت فيها، رسم النظام ملامحها وساعده مذهبيون على تحقيقها بحجة الدفاع عن الدين والمسلمين. واليوم، وقد صارت علامات انهيار هذه المرحلة واضحةً للعيان، لا بد من استئناف مشروع الثورة الأصلي، بقواها المجتمعية الواسعة، ونخبها المدنية الحديثة، كي لا يكون فشل العسكرة والتمذهب فشلاً لها، ومن الضروري أن يستعيد الشعب الشارع، مثلما فعل بعد إعلان هدنة شهر فبراير/ شباط الماضي، إذ عمّت مظاهراته كل مكان، ورفع من جديد شعاره العظيم "الحرية للشعب السوري الواحد". سيرتبط مصير الثورة، من الآن، بنزول الشعب إلى الشوارع وأنشطته المتنوعة فيه، وبمبادرات شاباته وشبانه وحراكه اليومي داخل وطنه وخارجه. وأخيراً، بتحويل طرده المأساوي من وطنه إلى كارثة تحل بالأسدية، بإظهار حقيقة ثورته، وما تريده من حرية وكرامة إنسانية، ومن عدالةٍ لجميع مواطني سورية الذين ستضمن لهم حقوقاً قانونية ومتساوية، ومن سلمية تجافي الإرهاب وترفضه فكراً وممارسةً، وبالنتيجة من تغيير موقف العالم من نظام الإرهاب الأسدي الذي فتك بالملايين منهم، ودمر وطنهم: أحد أكثر بلدان التاريخ حضارة وثقافة، وشعبهم المنتج/ المبدع الذي أسهم في بناء واحدةٍ من أزهى حضارات البشر، ويبيده منذ أعوام رهط من المجرمين، يرفض أي حل سياسي سلمي للمأساة التي أنزلها به.
بعد حلب، لم يعد بالإمكان ترك الثورة لتنظيمات سياسية فشلت في قيادة الثورة، وعسكرية تبنى معظمها مشروعاً معادياً لمشروعها، لم يخدم أحداً غير النظام وبطانته المجرمة، لا يجوز بعد حلب السكوت عليها، وإلا سمح السوريون لها بسوقهم إلى الهزيمة، بعد ما قدّموه من تضحياتٍ تضيعها تنظيماتهم. لا بد أن يستعيد الشعب ثورته، وأن يدافع عنها بحراكه الكثيف، وأن تصحح نخبه المدنية مسارها، لتخلصها من الأخطاء القاتلة التي ترتكب باسمها، وفي مقدمها الجنون المذهبي، وإخضاع السياسة لسلاح جهلة ومنحرفين وطنياً وأخلاقياً.
بعد حلب، لن يكون لدى السوريات والسوريين من خيارٍ غير استئناف ثورة الحرية أو الهزيمة، فإن كان الخيار هو الثورة، وجب عليهم العمل بكامل قدراتهم، ولحظة بلحظة لطي صفحة التمذهب والتعسكر المتأسلم، وفتح صفحة الوطنية الجامعة التي ستضم قواها المتنوعة جميعها، التي ستشق لنا الطريق إلى قصدنا الوحيد: دمشق الحرة.
كلما تصاعدت أسهم بقاء نظام بشار الأسد، بسبب أولوية القضاء على إرهاب خصومه، تصاعد الجدل حول اختلال المعايير الدولية، وتظهر مظلومية تتعجّب من تركيز العالم على الإرهاب السُني، لا الشيعي.
وعلى الرغم من اختلال المعايير الدولية قطعاً من الجوانب الأخلاقية، وأبسط أخطائها عدم فرض منطقة حظر جوي لحماية المدنيين السوريين، لكن هناك أنواعاً أخرى من الأسباب السياسية تفسر اختلاف التعامل، خصوصاً أنه بالعكس كان موقف الغرب الأساسي ضد بشار الأسد، وحصل معارضوه على دعمٍ وصل إلى التدريب والتسليح لبعضهم.
أول هذه الأسباب اختلاف طبيعة الفاعلية الدولية بين المعسكرين، الشيعي والسني، بمعنى أن إيران أثبتت قدرتها على السيطرة على حلفائها ومليشياتها، وبالتالي يعرف المفاوض الغربي أن بإمكانه عقد صفقةٍ تشمل الملف النووي، والعراق وسورية واليمن ولبنان، وهذه ممارسةٌ سياسيةٌ يفهمها العقل الغربي، ويحترمها حتى لو كره أطرافها.
على الجانب الآخر، تتشتت الفصائل السُنية بين مئات القادة وعشرات الممولين، ويستحيل أن يُعقد اتفاقٌ مع السعودية أو تركيا تلتزم به "داعش" و"النُّصرة" أو فصائل أقلّ منهما. لا ممارسة سياسية، وهذا لا يحترمه العقل السياسي الغربي الذي يعمل بالحسابات المباشرة. هل لو تم التوصل إلى حلٍّ ينصّ على رحيل بشار في مقابل تسويةٍ سياسيةٍ ما يمكن للمعسكر السني إنفاذ ذلك؟ إيران لا ترغب، بينما السعودية لا تستطيع.
وكما تختلف الفاعلية الدولية، يختلف الطموح الدولي أيضاً. أهداف المليشيات الشيعية إقليمية فقط، حقاً تستخدم خطاباً طائفياً متطرّفاً، وتمارس كل أفعال الإجرام بما فيها الذبح، لكن ذلك كله موجهٌ نحو الآخر السُني القريب فقط.
لم يختطف تنظيم شيعي رهائن غربيين ويذبحهم أمام الكاميرات، لم يقتل شيعي رواد مسرح في فرنسا، أو مرتادي سوق في ألمانيا، ولم تنفذ خليةٌ شيعية تفجيراً إرهابياً في مطار بروكسل. هذه كلها أفعال تنظيمات سُنية فقط، وهي فقط من تنادي بعودة خلافةٍ من أولوياتها فتح هذه البلاد الكافرة، فليس العجيب هنا أن يكون رعب الشعوب والحكومات الغربية وأولويتها ضد الإرهاب السُني، بل كان سيكون عجيباً لو لم يفعلوا.
جانب مهم آخر هو توافق صورة نظام بشار مع النظام العالمي، بعكس صورة "داعش"، صورة بشار ذي البذلة الفاخرة، وزوجته العصرية الأنيقة، تظهر مقابل صور اللحى الشعثاء واللغة التي تحمل مصطلحاتٍ غريبة من خارج التاريخ.
يظهر بشار متحدّثاً بالإنكليزية بلباقة الطبيب الواثق من نفسه، لينفي كل شيء ويزايد أخلاقياً. مثلا، يضحك وهو يجيب بهدوء "ليست لدينا براميل أو ربما أواني المطبخ". وعلى الرغم من أن كل الجهات الدولية وثقت مقتل آلاف المدنيين بالبراميل، فإن أثر إعدام "داعش" حرقاً رهينةً واحدة يؤثر دولياً وشعبياً أضعاف الضحايا المحروقين ببراميل الأسد. هذه قواعد هيمنة الصورة.
في عيد الأضحى الماضي، أصدر كل من نظام بشار وداعش فيلمين دعائيين متزامنين، عرض التلفزيون الرسمي السوري مشاهد من صلاة بشار ورجاله في مدينة داريا، التي اكتمل خروج أهلها جميعاً منها بعد سحقها.
يستمع بشار لخطبة العيد من خطيب سُني ذي عمامة بيضاء ناصعة، ليؤكد صورة الدولة الوطنية الحامية كل مكوناتها، ويستخدم عبارات عاطفية بعدها: "هذه ليست رسالة للسوريين، فأنا وكل السوريين نعيش حالة واحدة".
في المقابل، نشر تنظيم داعش تصويراً لذبح 19 شاباً داخل مسلخ مخصص للمواشي. نستمع لصوت البغدادي يخاطب رجاله "تقبل الله ضحاياكم بمرتدّي الصحوات"، ونشاهد ببطء عملية ذبح الشباب، وتعليقهم من أرجلهم بالسلاسل الحديدية حتى تصفية دمائهم، ثم سحبهم على الأرض.
على الرغم من أن حجم الضرر لا يُقارن، فنظام بشار قتل الآلاف من أهل داريا، وتم تهجير كامل سكان المدينة، ودُمرت 90% من مبانيها التي تعرّضت خلال عام 2015 فقط للقصف بـ 3430 برميلاً، لكن هذه قواعد عصر الصورة، وقواعد النظام العالمي. كُن جزاراً كدولة، وليس كمنظمة إرهابية.
نتمنى عيداً بلا جزاري بشر، أياً كانت فعاليتهم السياسية، وأياً كان التزامهم بقواعد الصورة.
تطورٌ غير مسبوق جرى ليلة 21 ديسمبر/ كانون الأول الجاري بتوقيت المنطقة العربية، حين أقرّ أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك مسودة مشروع قرار طرحته قطر وليختشتاين، وتبنته 38 دولة من أعضاء الجمعية قبل طرحه للتصويت، وهو يقضي، في أهم وأبرز ما جاء فيه، بإنشاء آلية دولية مستقلة وغير مُنحازة للمساعدة في التحقيق ومقاضاة المسؤولين عن ارتكاب جرائم خطيرة، وفق مقتضيات القانون الدولي في سورية منذ مارس/ آذار 2011، تحت مظلة الأمم المتحدة.
وشدّدت الفقرة الرابعة من القرار على ضرورة تعاون الآلية الجديدة مع اللجنة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق حول سورية، في سياق جمع ومطابقة وحفظ وتحليل الأدلة على وقوع انتهاكات للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتحضير ملفات لتسهيل وتسريع إجراءات "تقاضٍ" جنائية مستقلة وعادلة، طبقاً لمعايير القانون الدولي، سواء في المحاكم الوطنية أو الإقليمية أو الدولية، أو المحاكم الخاصة المُنشأة وفقاً لمتطلبات القانون الدولي، والتي من الممكن أن تكون صاحبة الولاية، الآن أو في المستقبل، لمحاكمة هذه الجرائم.
وطالب القرار الأمين العام للأمم المتحدة بالقيام، في غضون عشرين يوماً، بالإعداد للإطار المرجعي الذي يحكم عمل الآلية الجديدة، بالتنسيق مع مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة. كما طلب، في فقرته السادسة، من جميع "أطراف النزاع" والمنظمات غير الحكومية التعاون مع الآلية الجديدة، وعلى الأخص فيما يتعلق بتزويدها بالوثائق والمعلومات المتوفرة (حول الانتهاكات).
والقرار غير مسبوق، أولاً لكونه القرار الأممي الأول من نوعه الذي يتناول حصراً مسألة العدالة والمُحاسبة على جرائم الحرب، وغيرها من الجرائم، والتي قد يشمل بعضها جرائم ضد الإنسانية، في سورية. وهو كذلك ثانياً، بسبب أن إطاره الزمني تجاوز الأحداث الراهنة، ومنها، مثلاً، حصار مدينة حلب من قوات حكومة دمشق مدعومةً بالمليشيات المتحالفة معها، والوضع اللاإنساني فيها طوال فترة الحصار، والذي انتهى على نحو تراجيدي بسقوط الجزء الشرقي منها الذي كانت تسيطر عليه المعارضة المسلحة في قبضة قوات الحكومة، وما تخلل ذلك من استخدامٍ غير مشروع للقنابل البرميلية والقصف الجوي غير التمييزي (لا يُميز بين الأهداف العسكرية والمدنيين) واستهداف المستشفيات والكادر الطبي إلى قطع طرق الإمدادات الإنسانية والطبية.
وتعكس العودة في إطار عمل الآلية الجديدة إلى 2011 دلالاتٍ في غاية الأهمية، وترد الأزمة إلى جذورها القريبة المعاصرة، وبالتحديد إلى اندلاع التظاهرات السلمية في أرجاء سورية، بهدف المطالبة بالديمقراطية والإصلاح ورحيل الرئيس بشار الأسد، والتي قوبلت بقمعٍ غير مسبوق، تخلله قتل المتظاهرين والإمعان في التعذيب واخفاء الناشطين وترويع السكان.
ويُشكل القرار الجديد القاضي بإنشاء آلية مستقلة للتحقيق والإعداد لمقاضاة مجرمي الحرب في سورية تحدياً متعدّد المستويات، على الرغم من حقيقة أنه جاء في لحظة فراغ وقنوط دولي إزاء إمكانية وقف طوفان الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان في سورية.
ويبرز التحدّي الأول في الطرائق الفنية التي ستعمل بها آلية التقصّي الجديدة. ففي الوقت الذي عارضت فيه حكومة دمشق القرار وصوّتت ضده، إلى جانب حلفائها الأساسيين، مثل روسيا وإيران، فإن المتطلب الفني الأساسي لعمل آلية التحقيق والتقصّي، كما أشار القرار في فقرته السادسة، يكمن في إتاحة الوصول إلى المعطيات والبيانات والمعلومات المتعلقة بوقوع الانتهاكات، وجمع الأدلة حولها، ومطابقتها وتحليلها في سياق موضوعي، بهدف تقديمها "بينةً" جُرمية، من الممكن استخدامها لاحقاً في مجريات عملية التقاضي، أينما وكيفما انعقدت مجريات المحاكمة، إلا أن ما يُرجّحُ حول امتناع حكومة دمشق عن التعاون مع الآلية، ومنعها أو إعاقتها من التجول في الأراضي السورية التي تسيطر عليها، وعدم السماح لها بمقابلة مسؤولين ترغب في الحصول على إفاداتهم، أو منعها من التوصل إلى سجل وثائق لدى الهيئات الحكومية والعسكرية؛ من شأنه أن يُشكّل تحدياً بارزاً.
ومن ناحيةٍ أخرى، يتوجّب على الآلية الجديدة والفريق الذي سيعمل بموجب إطار مرجعيتها تصميم "منهجية عمل"، تسهم في تسهيل جمعها الأدلة والحصول على المعلومات التي من شأنها الوصول إلى هذه الأدلة. ويبرز هنا تحديان أساسيان، سيعيقان عمل الآلية، بغض النظر عن تعاون حكومة دمشق من عدمه. ويتلخص الأول في عامل "مرور الزمن" الذي يتجلى في التغير المضطرد لحالة الأماكن والقرى والبلدات والمدن التي كانت مسرحاً للقتال، والحصار، والتجويع، وغيرها من الأفعال التي انطوت على جرائم وانتهاكات، بالنظر إلى أن الإطار الزمني الذي تنظر الآلية فيه يمتد منذ مارس/ آذار 2011 إلى اللحظة الراهنة. وعلى الرغم من أن الإطار الزمني المنظور ليس طويلاً، إلا أن ضراوة الفعل العسكري وتعدّد فاعليه راكمت بحراً من التفاصيل التي سيتوجب على الفريق العامل التدقيق فيها.
كما يتلخص التحدّي الأساسي الثاني في عامل "حالة شهود العيان"، وهو بكل بساطة بقاء من عدم بقاء شهود العيان على حصول ما حصل من جرائم وانتهاكات في الفترة المذكورة. وقد أحدثت موجة النزوح الداخلي والخارجي واللجوء والتهجير وضعاً مُعقداً، على الأقل من الناحية اللوجيستية، فيما يتعلق بحصر أماكن وجود الشهود، إن كانوا على قيد الحياة، والحصول على إفاداتهم.
ومن الخيارات المتاحة أمام فريق عمل الآلية الجديدة، فيما يتعلق بالتعامل مع الشهود واستقصاء المعطيات، وفي حال عدم التمكّن من دخول الأراضي السورية، جمع إفاداتٍ من الأشخاص الذين غادروا البلاد، وإجراء مقابلات مع أشخاص، والاتصال بالضحايا بطرق مختلفة عبر الإنترنت وغيره من الوسائل، بالإضافة إلى تفحص صور وتسجيلات فيديو وصور الأقمار الصناعية، على غرار ما قامت به لجنة التحقيق الدولية المستقلة حول سورية، مثلاً، في تقريرها الذي نظرت به الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أغسطس/ آب 2012.
وأمام فرق عمل الآلية الدولية تحدياتٌ أخرى على الصعيدين، الفني واللوجيستي، فيما يتعلق بإعداد منهجية عملها، فهي مُطالبةٌ بمراعاة الاتساق، وبأن تنسجم الطرائق التي تجمع فيها المعلومات مع الغاية من استخدامها. والحال هنا أن هذه المعلومات والهادفة إلى الحصول على دليل ذي طابع جنائي، يصعب الحصول عليها في سياق الوضع القائم في سورية وخارجها، بما يعنيه ذلك من إمكانية إطالة فترة عمل هذه الآلية إلى أمد أبعد مما يتوخّاه الداعمون للقرار الأممي الذي أنشأ الآلية. كما أن الأسس التي يقوم عليه التحرّي الدقيق لانتهاكات حقوق الإنسان تقوم على مبدأ التماسّ المباشر مع مصادر المعلومات وتجنب الوساطة، وهذا كذلك معقدٌ وشاق.
إلا أن عدداً من الجوانب التي ستسهم إيجاباً في دفع عمل الفريق العامل ضمن إطار الآلية الجديدة يتمثل في وجود عدد غير قليل من المنظمات السورية غير الحكومية والمستقلة التي عملت منذ سنوات على توثيق الجرائم المرتكبة، وتدوين أسماء الضحايا، وتسجيل حالة الأماكن التي تعرّضت لهجمات غير تمييزية، وقدمت خرائط، وإفادات ومعطيات عديدة أخرى. وتقدم هذه المنظمات أصلاً هذه المعلومات للجمهور بشكل عام عبر مواقع إلكترونية.
كما أن العمل الذي قامت به منظمات حقوق الإنسان الدولية المستقلة لتوثيق الجرائم المرتكبة والانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان بعد مارس/ آذار 2011، وإلى بدايات العام 2103، تشكل مرجعاً مهماً غنياً بالمعلومات، وبالتحديد لأن هذه المعلومات توفرت لهذه المنظمات في فترةٍ كان ما يزال مُتاحاً لها دخول الأراضي السورية وإجراء تحقيقاتها المستقلة.
ويتلخص الهدف العام للآلية الجديدة، بمعزل عن انتظار الإطار المرجعي الذي على الأمين العام للأمم المتحدة إنجازه في الفترة القريبة المقبلة، في إيجاد الحقائق المتصلة بانتهاكات حقوق الإنسان المزعومة، وتحديد المسؤولين عن ارتكاب هذه الانتهاكات، بهدف تحميلهم المسؤولية، ولاستخدامها في سياق إجراءات تقاضٍ جنائية الطابع، من ضمن أهدافها من دون ريب إنصاف الضحايا.
على الرغم من دعايتها في الداخل والخارج، ومحاولتها فرض الشروط على ثوار حلب الشرقية لإخلاء المدينة، فإن إيران العمائمية لا تزال بعيدة عن تحقيق طموحاتها الكاملة في سوريا، وهناك مسافة كبيرة تفصلها عن الانتصار النهائي. في الأيام الأخيرة، سعت إيران من خلال وسائلها الإعلامية والمؤسسات التابعة للحرس، لتصوير علائم النصر في شوارعها من خلال توزيع الحلوى والبهجة المتقطعة، ولكنها عجزت عن إيصال فرحة هذا «النصر المزعوم» إلى عامة الناس. وعلى الرغم من وجود إعلام انطوائي وأحادي الجانب في إيران، والتهويل بـ«حقانية» حاكم دمشق، وتكفير المعارضين، فإن الرأي العام الإيراني حتى الآن لم يقبل القصة التي يسردها النظام يوميًا عن أحداث سوريا.
بعيدًا عن الأجواء الإعلامية، ومن حيث الاستراتيجيات، توسع إيران في شرق حلب جاء في ظروف داخلية وإقليمية ودولية استثنائية. على صعيد الداخل قوة النيران الهائلة التي استخدمتها المقاتلات الروسية من جانب، وتشتت قوات الثوار بين معتدل ومتشدّد، ساعد النظام السوري والحرس الثوري الإيراني وميليشياته في التحرك تجاه مناطق شرق حلب. وفيما يرجع إلى المعادلات الإقليمية، ضغط الإرهاب وتعاظم الورقة الكردية في سوريا، دفع أنقرة إلى تغيير سياساتها في دعمها للثوار في حلب، والاقتراب والتنسيق مع روسيا، والتفاوض حول المصالح المتقاطعة مع إيران. أما على الصعيد الدولي، وفي ظل تحرك المحور الروسي الغالب في سوريا، فهناك غياب جلي للولايات المتحدة والدول الحليفة لها، وبخاصة في الفترة الانتقالية الحالية بين الرئيسين.
إذن، هل ستستمر هذه الظروف الاستثنائية لصالح إيران واستحواذها على الأمور في سوريا؟ على أقل تقدير، دور الولايات المتحدة في سوريا في عهد ترامب المقبل، لم يبق كما كان في عهد سلفه أوباما. في الأيام الأخيرة كرّر ترامب شعاره الانتخابي حول إنشاء منطقة آمنة في سوريا. هذه المنطقة بالتأكيد ستزعج إيران وحليفتها روسيا كثيرًا، ليس من حيث تقاسم الأجواء السورية مع الولايات المتحدة فقط، وإنما من حيث تكوين منطقة آمنة لملايين السوريين الفارين من ويلات الحرب، الذين سعى النظام ومن ورائه إيران وروسيا، إلى شطبهم من الوجود. هؤلاء اللاجئون، ومعظمهم من السنة، سيلعبون دورًا مهمًا في أي انتخابات قادمة في سوريا، وكيفية اختيار الحاكم الاحتمالي في البلد. إيران ستواجه مشكلات كبيرة مع هؤلاء اللاجئين لو تم توفير الأقل من إمكانيات الحياة لهم في منطقة معينة داخل سوريا.
وعلى الصعيد الاقتصادي بذلت إيران مليارات الدولارات في حربها في سوريا للاحتفاظ ببشار الأسد. ولكن التكلفة الأساسية ستبدأ بعد استحواذها على المُدن المدمرة والأراضي المحروقة، وفي مقدمتها شرق حلب. من أجل تقديم نظام بشار الأسد كـ«دولة»، على إيران بناء مؤسساته الحكومية في المناطق المدمرة وتوفير المقومات الاقتصادية الأساسية، لإضفاء شريان الحياة في مُدن محروقة أساسًا، وميتة إنسانيًا واقتصاديًا. مقومات الاقتصاد السوري كانت مبنية على قطاعات الصناعة والسياحة والزراعة. الصناعة والسياحة السوريتان، بعد الأزمة السياسية في البلاد، تم تدميرهما بشكل شبه كامل، والزراعة تعطلت في أنحاء كبيرة من البلاد. وفقا إلى التقارير المقربة من النظام، خسائر الأزمة السورية، منذ بدئها في 2011 وحتى يومنا هذا، تتراوح بين 20 إلى 70 مليار دولار. وعلى سبيل المثال في حلب فقط تم تدمير أكثر من 10 آلاف معمل، وهذه المدينة وحدها تحتاج إلى 6 مليارات دولار كي تتعافى. ووفقا للتقارير المنتشرة في داخل إيران، فإن النظام السوري في الوقت الحاضر يحتاج إلى مساعدة مالية فورية قدرها 4 مليارات دولار، ناهيك عن الصورة المنشورة في موقع «العالم» التابع للنظام الإيراني، حيث يتحدث عن تكلفة 250 مليار دولار لإعمار سوريا بعد الحرب.
في حال بقاء بشار الأسد في السلطة، فإن من المرجح ألا تقبل الدول الغربية ولا الغنية في المنطقة، المشاركة في إعادة إعمار سوريا. من جانب آخر، تنظر روسيا إلى سوريا بمثابة إحدى قلاعها الجيوسياسية ومحل تمددها العسكري والسياسي في المنطقة. لا تظهر رغبة لدى حكام موسكو في أنهم يريدون بذل أموال جديدة لإعمار سوريا. الصين الدولة الأخرى التي ربما ستدخل في ساحة اقتصاد سوريا في المستقبل بعد إنهاء الحرب الدائرة هناك، ولكن الصين لن تستثمر أكثر مما تكسبه. أما إيران فستبقى وحيدة في مجال بناء دولة بشار الأسد من جديد. إيران خلافًا لما وسعته في المجال العسكري من تنظيمات ميليشياوية إلى منظومة الصواريخ، مرورًا بالأجهزة المخابراتية، للتدخل في شؤون دول المنطقة، فإنها ستكون دولة ضعيفة في الاقتصاد لا تستطيع تلبية مطالب شعبها الابتدائية، ناهيك عن بناء اقتصاد لدولة أخرى في المنطقة. الشعب الإيراني يعيش وضعًا مأساويًا في جميع ساحات الاقتصاد، وحكومة حسن روحاني قابعة تحت ضربات التضخم والبطالة والفساد الإداري والفقر الجماعي، ولا يمكن لها أن تغامر ببناء اقتصاد بشار الأسد.
بهذه الأسباب نستطيع القول إن إيران ستكون الفاشل الأكبر في تحقيق أهدافها الاستراتيجية في سوريا، ولا يمكن لها أن تعود كما كانت عليه قبل 2011، ناهيك عن الغضب الجماهيري الذي يطاردها في الشارعين العربي والإسلامي. بالمختصر والمفيد يمكن تلخيص الوضع الإيراني في سوريا في الجملة التالية: «إيران تكسب المعارك، ولكن ستخسر الحرب».
أخص بهذا العنوان الفصائل الإسلامية المتشددة التي تتحارب على الساحة السورية، والتي ينطبق عليها قول ميكيافيلي: الدين ضرورة لا من أجل الفضيلة بل للسيطرة على الناس".
لا حاجة بنا لأن نؤكد أن الأصابع الخارجية كان لها دور كبير في استزراع تلك الفصائل وإنباتها عبر دغدغة المشاعر الدينية عند الناس مترافقة مع الدولار الأخضر، بانتظار أن تصبح تلك الفصائل كشجر العوسج الشوكي.
في البداية لا ننكر أن جزءاً من المجتمع السوري، تَقبّل هذا المنهج الديني في الثورة السورية، نظراً لإيمانهم العميق بقدرة الله تعالى في نصرة المؤمنين المظلومين، ووضعَ الأمل الأكبر في تلك الفصائل الدينية لإسقاط سلطة الأسد ونظامه الطاغي.
لكن تلك الفصائل مع السف أخذت تنهج منهجاً مغايراً لإرادة الشعب، فعاماً بعد عام بدأت رياحها تهبّ على طريقة تخالف تماماً ما تشتهيه سفن الشعب السوري، فكل فصيل بدأ يدير ظهره لرغبات الناس، ولا يلتفت إلى إرادتهم وطموحاتهم، بل صار يفرض عليهم بقوة الغلبة والسلاح مغالاته الدينيةَ التي ليست هي من الدين في شيء.
ثم بعد أن هيمن هذا الفصيل أو ذاك على عقول الناس ومقدراتهم، راح يكشف عن نواياه المتجسدة بالاستئثار والتمدد، سواء على حساب سلطة النظام، أو على حساب الفصائل الأخرى، ولاسيما الجيش الحر الذي كان المتضرر الأكبر من تلك الفصائل، فقد انهارت معظم قواته على يد تلك الفصائل التي تدعي أنها خرجت لتحارب سلطة الأسد.
من هنا بدأت مرحلة الانحدار الثوري أو الجهادي، فكان الصراع والاقتتال فيما بينهم سمة قبيحة تجري بين حين وآخر، وفي هذا المكان أو ذاك، والمؤلم أن ذلك الاقتتال الداخلي كان يجري في الوقت التي تكون فيه المعارك ضد سلطة الأسد على أشدّها، وفي أحلك الظروف.
كل ذلك كان يجري والشعب السوري يعضّ على النواجذ ويصبر، أملاً في أن يصلح الله الأحوال، وتعود تلك الفصائل إلى الطريق السوي، لكنها كانت تتمادى في غيها وتبتعد أكثر فأكثر عن الطريق المأمول، فيخرج الشعب بالمظاهرات الاحتجاجية المطالبة، إما بعدم الاقتتال أو الاندماج في جيش ثوري واحد، وكان المتظاهرون يرفعون علم الثورة رمزاً لوحدة الشعب ووحدة الثورة، لكن بعض الفصائل المتزمتة كانت تمزّق راية الثورة، كلما رأوها ترفرف عالياً في فضاء الوطن. أما لماذا.!؟. فلأن أفكار تلك الفصائل لا تريد تلك الراية ولا تريد الشعب ولا الوطن.. إنهم فقط يريدون تنفيذ المخططات التي وضعتها لهم الأصابع الخارجية، ومن أجل ذلك ساهموا مع النظام بتدمير الشعب والوطن، وهذا مختصر الكلام.
في تلك الأثناء اغتنم أعداء الإسلام الفرصة لمحاربة المسلمين باسم محاربة الإرهاب، فكل من يرفع السلاح ضد " حكومة الأسد الشرعية.!! "، هو إرهابي. وكان أول المتحمسين لذلك روسيا وإيران وأتباعها، دون أن ننسى أميركا وأوروبا وبعضاً من الحكام العرب.
والمشكلة أن تلك الفصائل بمسمياتها المفتعلة لم تأخذ بمبدأ سد الذرائع المعروف في الفقه الإسلامي، بل استمرت أيضاً في غيّها وطغيانها ضد الشعب السوري طمعاً في مصالح ذاتية تخص قيادة هذا الفصيل أو ذاك. وليس ما جرى في محافظة حوران والغوطة الشرقية أو في الشمال السوري ببعيد عنا، وهو يرتقي إلى الخيانة العظمى ضد الشعب والوطن.
وهذه الخيانة العظمى جعلت د. رياض حجاب المنسق العالم لهيئة المفاوضات، يخرج عن تحفّظه المعهود حين قال في إحدى تغريداته: الذين طعنوا إخوانهم من الخلف أو انسحبوا دون مقاومة يجب أن لا يكون لهم دور في أي كيان جديد ". في إشارة منه إلى جيش فتح الشام ( النصرة ) وأحرار الشام بشكل خاص.
وكان من نتيجة ذلك كله أن بدأت الثورة السورية في الانحدار، ولا أريد أن أقول الانهيار. وأصبح الأسد وأسياده الإيرانيون والروس يتمددون على حساب الأراضي المحررة، مع ما ترافق ذلك من قتل وتدمير، هو الإبادة التامة للإنسان والعمران، وكانت الطامّة القصوى وقوع حلب كلها فريسة بيد الأسد نظرياً، وعملياً بيد الإيرانيين بدعم روسي فاضح، وموافقة أمريكية مخاتلة وصمت عربي مريب.
وقد ساعد فيما وقعت فيه الثورة ذلك الشرخُ الهائل بين الفصائل المتزمتة من جهة وأعضاء الائتلاف المعارض من جهة أخرى، فليس هناك أية نقطة مشتركة بين الطرفين، ولا بينهم وبين الشعب السوري الذي تسلقوا على أكتافه. ولكن فيما يبدو أن أعضاء الائتلاف بعد سقوط حلب أقروا بعجزهم، وهم راضون بذلك، لأنهم مقتنعون بما استحصلوا عليه من مكاسب شخصية وفيرة طوال عمر الثورة، وها هم الآن يفكرون ويتحركون، وخير دليل على ذلك قيام البعض بإعلان انسحابهم من الائتلاف المعارض، ربما كخطة غير ذكية للبحث عن موطئ قدم في المرحلة القادمة، حتى لو كانت في ظل بقاء الأسد.
والغريب أن الفصائل التي نتحدث عنها سارعت " بعد خراب البصرة " إلى تمثيل مسرحية هزيلة، وهي إعلان " الاندماج التام " فيما بينها، لكن بالعودة إلى ما نشر حول هذا الموضوع، وإلى ما صرح به بعض مسؤولي تلك الفصائل، لا يرى المتابع أي تغيير في نوايا تلك الفصائل ولا في مواقفها وأهدافها، وإنما هو نوع من ذر الرماد في العيون ولغو فارغ، كما في قول أحد القادة في إشارة إلى اندماج الفصائل: " نبشر أمتنا أن هممنا عالية وبأسنا شديد وصفنا واحد ". نعم هذا هو اللغو الفارغ، فأين كانت هممهم العالية وبأسهم الشديد وصفهم الواحد عندما كانت حلب الشرقية تباد وتستصرخ ضمائرهم المفقودة.!؟.
على أية حال، إن من يتابع الإعلام، ولا سيما في التواصل الاجتماعي، يدرك أن الغضب ضد هذه الفصائل بلغ ذروته القصوى، فالمظاهرات الشعبية التي تخرج والأفكار والمواقف التي تُطرح، هي خير دليل على أن الشعب السوري بدأ ينبذ ويرفض تلك الفصائل المتزمتة وكذلك الائتلاف المتثائب البالي، وأن رياح التغيير الشعبي بدأت تتجمع في النفوس، ولابد أن تنطلق عاجلاً أو أجلاً بثورة نقية ضد الثورة المنافقة، لتواصل الصمود ثم النصر على سلطة الأسد وأسياده. وهذا ما عبّرت عنه إحدى اللافتات التي رفعها بعض المتظاهرين:
" حلب ليست النهاية..
حلب بداية النصر. ".
في شتاء عام 1982 كانت حماة على موعد مع الأسد الأب ومدفعيته وطيرانه. وفي شتاء عام 2016 كانت حلب على موعد مع براميل الأسد الابن، ومعه ستين فصيل طائفي ومن فوق تحلق طائرات السوخوي الروسية ملقية الصواريخ الفراغية والقنابل العنقودية والفوسفوية.
نفس القصة القبيحة المكررة، مسلحون يتحصنون خلف جدر، أمام عدو لا يرقب فيهم إلا ولا ذمة، ولا تهمه روح إنسان ولا حيوان، كما لا يعبأ بمشفى ولا مدرسة.
نفس الخطأ لهؤلاء الثوار يكررونها بعد مرور ثلاثة عقود، دون الاستفادة من درس التاريخ. هذه المرة تحالف الأسد الابن مع دولة عظمى، وأدخل الدب إلى كُرمه.
في حماة كانت مذبحة عارمة أخذت إلى المقابر أكثر من عشرين ألف ضحية. وحسب الصحفي باتريك سيل، فإن رفعت الأسد فضّل إنهاء المذبحة بفصل درامي، حين أخرج بقية سكان المدينة ثم قتلهم أمام بيوتهم. يقال إنهم كانوا خمسة آلاف أضيفوا لمن سبقهم إلى المقابر. وفي هذا يمكن قراءة كتاب «السوريون الأعداء»، لفواز حداد، وهو مسيحي من أهل مدينة حماة نجا من الموت بإعجوبة، بعد أن كتب في صحيفة الأموات.
ومع كتابة هذه الأسطر يرتج العالم بأخبار الخروج الكبير لأهل حلب من بيوتهم. ليس أمامي سوى أن أقوم متهجداً في ظلام الليل، أدعو لأهل حلب بالرحمة، فقد اجتمعت عليهم ملل ونحل الأرض لنحرهم، في جريمة كاملة بيد قصاب روسي وتغطية أميركية، وحملقة أوروبية بعيني ضفدع!
نحن هنا أمام خرائط دم جديدة، وتفريغ ديموغرافي، وأشياء مرعبة تحاك خلف الكواليس، لا نعرف عنها الكثير، كما في قصة «داعش» الذي ولد على غير موعد، واضحة مجهولة، من شباب مغفلين متحمسين، يقادون بايد دهاة مدربين على دفع الأفئدة للمحرقة!
في مذبحة حماة كنت مع جزائري مدعواً إلى حضور احتفال طهران بالذكرى الثانية لثورتها، وكان حماسنا لها شديداً كونها الثورة الإنسانية الكبرى! كان صديقي يقفز مثل قرود البابون وهو يهتف: «عجل الله فرجه». هنا عرفت أن برمجة العقل الإنساني شيء عجيب، «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا».
كانت رائحة الثورة في قم طائفية بامتياز. كان ثمة عقلاء بينهم، وعرفت أن ثورة «علي شريعتي» هي غير ثورة الخميني وخامنئي الذي اعتبر سقوط حلب انتصاراً على «الكفار» (كذا). كان الجو كله طائفياً بامتياز. هنا أدركت أننا أمام ثورة «لا إنسانية»، ورأينا الدليل في استقبالهم البهيج لطاغية رومانيا (تشاوسسكو)، ثم تحالفهم مع طاغية دمشق في خلطة سامة بين شيعي وشيوعي وعلماني!
يومها والمذبحة شغالة في حماة، التقيت عضواً من مجلس الشورى الإيراني، قلت له: الناس يقتلون في حماة، وصديقكم الأسد هو صاحب الساطور، فهل من شفاعة؟ قال: يستحقون القتل!
حين أتذكر صدّام، وما فعل، وكيف فتح ثقب يأجوج ومأجوج هذا على العرب، أدرك أنه لولا انهيار نظام صدام على يد بوش الابن لما تم التهام العراق، ولا ضاعت حلب في شتاء عام 2016. لكن صدام كان طاغية ومن رماده خرج ألف صدام وصدام وضاع العراق، وتفشت المذهبية في حرب مائة عام جديدة، كما كانت يوماً بين العثمانيين والصفويين.
خرائط الدم هذه لم تنته بعد، ومن أعجب ما يرى الإنسان كيف أن مصير سوريا يقرر في روسيا، بأيدي ثلاثة فرقاء ليس منهم سوري واحد، بل لافروف القيصري، وظريف الفارسي، ومولود العثماني. فأي ولادة تنتظر سوريا على أيدي ثلاثة شركاء متشاكسين؟!
يشكّل اجتماع موسكو في 20 ديسمبر/ كانون الأول الحالي منعطفاً رئيسياً في المسألة السورية لعدة أسباب. الأول أن اقتصاره على وزراء خارجية ودفاع روسيا وإيران وتركيا يعني أن الأطراف الثلاثة هي المعنية مباشرةً بإدارة الموقفين، الميداني والسياسي، في سورية، وأن ما صدر عنها (إعلان موسكو) سيتم اعتماده خريطة طريق. والثاني إبعاد الولايات المتحدة والأمم المتحدة كطرفين أساسيين معنيين بالمجريات السورية منذ بداية الثورة في مارس/ آذار 2011. واللافت هنا استعجال موسكو لوضع القضية السورية في مسارٍ جديد. ومن هنا، كانت صريحةً، حين أعلنت قبل أيام عن وقف عملية التفاوض مع واشنطن بشأن تسوية الوضع في سورية. وفي ختام الاجتماع، قالت وزارة الخارجية الروسية إن الوزير سيرغي لافروف اتصل مع نظيره الأميركي، جون كيري، وأبلغه نتائج اجتماع موسكو.
وأضافت أن المفاوضات، التي تتوسط فيها الأمم المتحدة في جنيف وصلت إلى طريقٍ مسدود، بسبب شروط المعارضة السورية في المنفى، وصار واضحاً حسب "إعلان موسكو" أن البديل لمرجعية جنيف 1، التي جرت على أساسها المفاوضات السابقة، هو قرار مجلس الأمن 2254 الذي اعتمده قبل عام، وتعرّض لانتقادات واسعة من المعارضة التي اعتبرت أنه أسقط مسألة رحيل الرئيس السوري، بشار الأسد.
أما السبب الثالث فهو غياب العرب والأوروبيين كلياً عن الترتيبات الجديدة، ولم يصدر عن موسكو، التي دعت إلى الاجتماع ورعته، أية إشارة إلى أنها تواصلت مع (أو أبلغت) الأطراف الإقليمية العربية المنخرطة في الأزمة، مثل السعودية وقطر، أو الأطراف الأوروبية كفرنسا التي تقف وراء قرار مجلس الأمن الجديد، الذي جرى التصويت عليه بالإجماع يوم الإثنين الماضي، ولم تعترض عليه روسيا، كاسرةً بذلك القاعدة التي سارت عليها طوال السنوات الماضية، إذ صوّتت، للمرة الأولى، لصالح قرارٍ دولي في مجلس الأمن من أجل نشر مراقبين دوليين في حلب، ولكنها ضغطت لتعديل النص بصيغته الفرنسية وأخرجته بشروطها، وتحديداً جعلت تنفيذ بند نشر المراقبين مربوطاً بالنظام السوري.
والسبب الرابع أنها تعاملت مع النظام السوري طرفاً في الأزمة، وليس الطرف الحصري، وهذا ما يفسر إبعاده عن طاولة المفاوضات الثلاثية، وقرّرت موسكو، مع الطرفين الإيراني والتركي، الخطوط العريضة "لاستئناف العملية السياسية في سورية وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254"، ونصّ الإعلان الذي صدر عن الاجتماع أن الدول الثلاث "تعبر عن استعدادها لتسهيل التفاوض بين الحكومة السورية والمعارضة، وتصبح الضامن لأي اتفاق".
جاء اجتماع موسكو في خضم التطورات الميدانية السورية، فعمليات التهجير من حلب لم تكن قد بلغت نهايتها، كما أن الصورة غير واضحة على صعيد الخارطة العسكرية التي تشهد تداخلاتٍ كثيرة، من الجنوب مروراً بريف دمشق وحتى إدلب والرقة والحسكة. وبالتالي، هناك جملة من المهام العسكرية التي تحتاج إلى تسويةٍ قبل الدخول في أي حل سياسي.
ومع أن الوضع السوري يحفل بتعقيداتٍ لا حصر لها، فإن الدول الثلاث قرّرت أن تتخذ من اتفاقها حول حلب قاعدةً لاتفاقٍ يشمل سورية ككل. ومن هنا، يأتي حديث "الإعلان" عن "توافق الوزراء على توسيع وقف إطلاق النار"، وهي تطمح إلى أن يشمل كل سورية، الأمر الذي تعترضه عقباتٌ سياسيةٌ، منها على الخصوص تحديد من هي المعارضة السورية المدعوة للمفاوضات مع النظام، ووضع آلية لتطبيق القرار المذكور، وموقع الأسد من التسوية.
على الرغم من أن "إعلان موسكو" وضع خريطة طريق، إلا أن الصورة غامضة جدا، وحتى روسيا التي باتت الطرف الأقوى في المعادلة السورية، فإنها لا تمتلك أجوبةً محددةً عن الترتيبات اللاحقة، ودور كل طرف فيها. هذا في الوقت الذي تقف فيه تركيا وإيران على طرفي نقيض.
بعد أكثر من أربع سنوات من سيطرة فصائل المعارضة السورية على الجزء الشرقي من مدينة حلب، تمكّنت قوات النظام السوري والمليشيات الطائفية الأجنبية المتحالفة معها، وبغطاءٍ جوي روسي كثيف، من تحقيق تقدم سريع ضد تلك الفصائل، أدّت، في نهاية المطاف، إلى إجلاء مقاتليها والمدنيين عن آخر الجيوب التي تحصّنت بها في المدينة. وبعد ذلك مباشرةً، دعت روسيا إلى عقد اجتماعٍ في موسكو ضمّ وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران، وخرج الاجتماع، حسب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بـ "إعلان موسكو" الذي تضمّن خريطة طريقٍ لحلّ الأزمة السورية.
أسباب الانهيار في حلب
حاولت فصائل المعارضة السورية مرتين فكّ الحصار الذي فرضته قوات النظام السوري وحلفاؤها على الأحياء الشرقية من مدينة حلب، منذ تمكّنت الأخيرة في يوليو/ تموز الماضي من إغلاق معبر "الكاستيلو"، وهو طريق الإمداد الوحيد لها. وعلى الرغم من تمكّنها، في المرة الأولى، في أغسطس/ آب الماضي، من كسر الحصار ومحاصرة قوات النظام داخل المدينة، فإن التدخل الجوي الروسي كان يدفعها، في كل مرة، إلى التقهقر.
وبعد فشل وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه بين وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، في التاسع من سبتمبر/ أيلول الماضي، دعا الأخير إلى اجتماع في موسكو في 28 أكتوبر/ تشرين الأول ضم، إضافة إليه، وزيري خارجية النظام السوري وليد المعلم، والإيراني جواد ظريف، ومسؤولين عسكريين يمثلون الحلفاء الثلاثة. وقد وضع المؤتمرون خطةً للإجهاز على حلب، وبدأ تنفيذها مباشرةً بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني، والتي أسفرت عن فوز دونالد ترامب. وأدت الحملة التي أدارتها روسيا إلى انهيار سريع في صفوف المعارضة السورية. وتعود أسباب هذا الانهيار إلى جملة من العوامل أهمها:
1. القوة النارية الهائلة التي استخدمتها روسيا لضرب المعارضة، إذ قامت روسيا خلال الشهرين الماضيين بتعزيز قواتها العسكرية بشكل كبير في سورية. وفضلاً عن إرسال مزيد من طائراتها القاذفة، أرسلت موسكو أسطول الشمال إلى السواحل السورية الذي يضم عشرات السفن الحربية، وفي مقدمه حاملة الطائرات الوحيدة التي تملكها روسيا، وهي الأميرال كوزينتسوف التي قصفت مناطق في حلب بصواريخ كروز من البحر الأبيض المتوسط.
2. اتباع النظام وحلفائه إستراتيجية "الجوع أو الركوع"، في مواجهة نحو 300 ألف مدني أطبق عليهم الحصار في القسم الشرقي من المدينة، ودفع فصائل المعارضة نتيجة لذلك إلى التفاوض على الخروج منها، كما حصل في حمص عام 2014.
3. الخلافات والانقسامات بين فصائل المعارضة التي استمرت، على الرغم من الهجوم الكبير الذي تعرّضت له حلب، وتمثل بصورة خاصة في القتال الذي دار بين حركة نور الدين زنكي من جهة وتجمع فاستقم من جهة أخرى، وكذلك بين جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا)، وكل من "فيلق الشام" و"جيش الإسلام" من جهة أخرى. وقد انعكس ذلك بوضوح على الأوضاع الميدانية لقوات المعارضة. في المقابل، بدت جبهة النظام التي تضم أيضًا الروس والإيرانيين والمليشيات التابعة موحدةً ومتناغمةً، على الأقل حتى تم الإعلان عن الاتفاق التركي - الروسي لإجلاء المقاتلين والمدنيين من حلب.
4. انشغال جزءٍ من فصائل المعارضة في معركة "درع الفرات" التي أطلقتها تركيا في أغسطس/ آب الماضي، لإخراج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من مناطق غرب الفرات، ومن ثمّ تفويت الفرصة على وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة أميركيًا من وراثة تنظيم الدولة في معقله الرئيس في مدينة الباب ومحيطها، كما حصل في منبج من قبل.
5. ضعف الموقف الأميركي وموقف حلفاء المعارضة عمومًا، وحصول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على ما يشبه الغطاء لإطلاق معركة استعادة حلب، بعد فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأميركية، وإعرابه عن رغبته في دخول شراكةٍ مع روسيا في سورية للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. وكان لافتًا أن استئناف الغارات الروسية واستخدام الأسطول الروسي الجاثم في البحر المتوسط في قصف حلب جاء بعد اتصال بوتين بترامب لتهنئته بالفوز، وإعلان الكرملين أن الحديث بين الطرفين تناول محاربة الإرهاب والمتطرّفين في سورية.
6. تحول الموقف التركي من طرفٍ في الصراع وداعمٍ للمعارضة إلى وسيطٍ بينها وبين روسيا، وقد استضافت تركيا، خلال عملية السيطرة على حلب، مفاوضاتٍ بين روسيا وفصائل المعارضة الموجودة شرق حلب، للتوصل إلى اتفاقٍ يؤدي إلى خروج الأخيرة من المدينة، وهو مطلب روسيا. وكان التحول في الموقف التركي تجاه تطبيع العلاقات مع روسيا قد بدأ منذ إطاحة رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، في مايو/ أيار الماضي، لكنه تسارع بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/ تموز، وقد رافق ذلك تغيير في الموقف التركي باتجاه التحول نحو دور الوساطة في الصراع السوري. وكان من الواضح أن روسيا لم تعلق على العملية التركية مع المعارضة السورية، لمنع تغلغل القوات الكردية في ريف حلب الشمالي الشرقي، كما أن تركيا لم تقم بأي فعلٍ لمعارضة العملية الثلاثية التي قادتها روسيا للاستيلاء على حلب.
الاتفاق التركي - الروسي والموقف الإيراني
مع اشتداد الضغط العسكري على المعارضة، واستهداف المدنيين بالقصف العنيف، وتنفيذ عمليات إعدام ميدانية بحق سكان الأحياء التي سيطر عليها حلفاء النظام من المليشيات الأجنبية، وفي ظل رفض المقاتلين الاستسلام، تعالت المواقف الدولية المندّدة بما تتعرّض له مدينة حلب التي تعد واحدة من أقدم الحواضر الإنسانية من عنف دموي. ومع تنامي المخاوف من احتمال وقوع مجازر على نمط سبرينيتسا (البوسنية)، وافق الروس على مقترحٍ تركي بتوفير معابر آمنة، تسمح بخروج قوات المعارضة ومن يرغب في الخروج من المدنيين من الأحياء المحاصرة للمدينة.
فاجأ الاتفاق طهران التي ساءها تجاهل الروس دورها، فقامت بتعطيل تنفيذه عن طريق أذرعها على الأرض، وخصوصاً عبر مليشيا حزب الله اللبناني والنجباء العراقية، من خلال احتجاز الخارجين من المدينة، وإعادة آخرين بعد خروجهم منها. كانت إيران، ويؤيدها النظام السوري في ذلك، تسعى إلى القضاء على جميع فصائل المعارضة المحاصرين في المدينة، بدلًا من تركهم يخرجون لاستئناف القتال ضدها في مناطق أخرى، رافضةً التمييز بين معتدلين ومتشدّدين، باعتبار أن كل من رفع السلاح في وجه النظام يعد إرهابيًا. وفي محاولةٍ لعرقلة الاتفاق، اشترطت إيران للسماح بخروج المقاتلين والمدنيين من شرقي حلب، خروج الموالين لها من بلدتين في ريف إدلب، هما كفريا والفوعة، يحاصرهما جيش الفتح التابع للمعارضة السورية منذ استيلائه على مدينة إدلب في ربيع 2015. وبناءً عليه، بدأت عمليات الإجلاء المتبادلة التي دخل على خط تنفيذها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من خلال مشروع قرار فرنسي، يدعو إلى إرسال مراقبين دوليين لضمان حسن سير الخارجين من حلب وسلامتهم، وهو المشروع الذي اعترضت عليه روسيا، قبل أن تعود وتوافق عليه، بعد إدخال تعديلاتٍ عليه، وحمل رقم 2328 بتاريخ 19 ديسمبر/ كانون الأول 2016، وهو القرار الذي انتقدته إيران بشدة على لسان أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، معتبرًا أنه جاء لـ "مصلحة الأعمال التخريبية، ويوفر الأرضية لدخول العناصر الأمنية والعسكرية الداعمة للإرهاب تحت غطاء المراقبين الدوليين".
إعلان موسكو
سارعت موسكو إلى الاستثمار سياسيًا في التغييرات الميدانية التي قادتها على الساحة السورية، وتمثلت بسقوط حلب في يدها، وكذلك في الغياب الكامل للولايات المتحدة عن المشهد الإقليمي نتيجة الحالة الانتقالية التي تعيشها بين إدارتين، فدعت إلى اجتماعٍ سداسيٍّ، يضم وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران، ولم تعطله حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة عشية انعقاده.
ناقش المجتمعون مصير سورية والحل السياسي فيها، بغياب النظام الذي يدّعي تمثيلها، وخرجوا ببيانٍ أطلقوا عليه اسم "إعلان موسكو"، يتضمّن، كما قال لافروف، خريطة الحل السياسي في سورية، ويشمل توسيع وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في حلب، ليشمل الأراضي السورية كافة وجميع الأطراف، باستثناء جبهة فتح الشام (النصرة) وتنظيم الدولة الإسلامية. والتركيز على محاربة الإرهاب، والدفع باتجاه تسويةٍ سياسيةٍ بين النظام والمعارضة، تكون روسيا وتركيا وإيران الأطراف الضامنة لتنفيذها. وقد نص البيان الذي جرى نشر مضمونه على عدم "وجود حل عسكري للأزمة في سورية"، وكان لافتًا إشارته إلى ضرورة الاعتداد "بالقرارات التي صدرت عن المجموعة الدولية لدعم سورية، وإزالة العوائق أمام تطبيق الاتفاقات الواردة فيها، مثل قرار مجلس الأمن 2254. وتتجه موسكو إلى توزيع الاتفاق الثلاثي على مجلس الأمن، وتضمينه خطوات محددة لتسوية العقبات التي تعرقل التوصل إلى وقفٍ شامل للأعمال القتالية واستئناف عملية التسوية السياسية.
وعلى الرغم من محاولات المضيفين الروس إضفاء أجواء توافقية على اجتماعات موسكو، برزت تناقضات مهمة في مواقف الطرفين، التركي والإيراني. فبينما قال وزير الخارجية الروسي إن الأطراف الثلاثة اتفقت على ضرورة اتخاذ إجراءاتٍ عمليةٍ لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، لجهة مطالبته بوقف وصول المساعدات الخارجية إلى الجماعات الإرهابية، وهو الأمر الذي أكد الوزير التركي الاتفاق بشأنه، مع إشارته إلى أن "ثمة جماعات أخرى مرتبطة بالنظام السوري، ومن الضروري قطع الدعم عنها أيضًا"، وبينها حزب الله، معتبرًا ذلك "ضروريًا لضمان وقف إطلاق نار مستقر". لكن وزير الخارجية الإيراني ردّ عليه إن الحديث في الاتفاق الثلاثي الذي جرى التوصل إليه في موسكو "يدور عن الفصائل المصنفة في قرارات مجلس الأمن منظمات إرهابية" (يقصد جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية فقط).
أما في اجتماع وزراء دفاع الدول الثلاث، فقد أشاد وزير الدفاع الإيراني بالتنسيق الروسي - الإيراني الذي تبدّت نتائجه في حلب، ما مثّل تناقضًا واضحًا مع نص البيان الذي أقرّ بعدم وجود حل عسكري للصراع في سورية.
خاتمة
على الرغم من أجواء التفاؤل التي حاولت أن تبثها موسكو من خلال الإعلان عن خريطة الطريق لحل الأزمة السورية، والتي تحاول عبرها ترجمة تدخلها العسكري إلى نفوذ دبلوماسي لتأدية دور راعية عملية سلام، بوصفها دولة عظمى، ما زالت العقبات التي تعترض التوصل إلى الحل المنشود غير متوفرة، بدليل وجود خلافاتٍ كبيرة بين أطراف الاتفاق الثلاثي نفسها. فالأسباب التي حالت دون تطبيق قرارات مجلس الأمن السابقة (خصوصاً القرارين 2118 و2254) والعقبات التي أدت إلى فشل مفاوضات جنيف 2 و3 ما زالت قائمة. كما أن أسئلةً كبرى بحاجة إلى إجاباتٍ عنها، مثل: كيف يمكن إنهاء الصراع إذا ظلت روسيا وإيران مصرّتين على بقاء الأسد بعد كل ما جرى؟ وكيف يمكن الحديث عن حلٍّ في غياب دور عربي؟ وماذا سيكون عليه الموقف الأميركي الذي بدا معزولًا في ظل أخذ الدول الإقليمية الفاعلة في الصراع السوري زمام المبادرة بعيدًا منه؟ وماذا سيكون موقف فصائل المعارضة المسلحة من طروحات الحل التي تركّز على قضية الإرهاب، وتتناسى الأسباب التي أدت بالشعب السوري إلى الثورة والخروج على النظام؟
في غياب إجابات حقيقية عن بعض هذه الأسئلة، أو كلها، يصعب الحديث عن التوصل إلى حل قريب للصراع في سورية؛ ما يعني أن الصراع سيستمر فترةً أطول، ريثما تتوفر عوامل إنهائه بحدها الأدنى. الدول الثلاث المذكورة قادرة على التوصل إلى وقف إطلاق النار، وتوسيع نطاقه ليشمل مناطق أكبر، كما أن دور الوسيط يغري روسيا باتخاذ مسافةٍ، ولو قصيرة، من الإيرانيين، بعد مرحلةٍ من التحالف الكامل والتطابق في المواقف. ففي النهاية، تريد روسيا أيضًا التوصل إلى حل ما في سورية، ولا يمكنها مواصلة القتال إلى الأبد. ولكنّ قوى المعارضة السورية المسلحة وحلفاءها غير قادرين على التأثير وفرض عناصر الحل العادل بحدها الأدنى على من يريد التقدّم نحو الحل. فهذه المهمة تتطلب قدرةً على وضع الإستراتيجيات الموحدة والالتزام بها، وإقناع العالم والشعب السوري ليس فقط بطغيان نظام الأسد ووحشيته، بل أيضًا بوجود بديلٍ قادر على إدارة البلد والحفاظ على وحدته وأمنه، ولم تقدّم الفصائل المسلحة حتى الآن نموذجًا ناجحًا لهذا الغرض.