أربكت الأحداث الدائرة في سوريا العالم بأسره، فهي من حيث الشدة كارثة شهدت ولا تزال حجماً هائلاً من القتل والتدمير والتهجير، ومن حيث التعقيد نجدها عقدة للاصطفافات والمصالح الإقليمية والدولية، ويبدو أن الجميع باتوا مقتنعين بأنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية.
حجم الكارثة وتعقيد ملفاتها ومقدار الضخ الإعلامي، بما فيه من تحليلات وأخبار وسرديات، جعل القراءة «المنطقية» أمراً عصيّاً، ما أسقط كثيراً من الناس في فخ العدمية أو الفوضى التحليلية البعيدة عن الواقع أو المنطق.
وساهم اتساع مجال النشر وتعدد المنابر والمواقع التي تنشر الأخبار والمقالات والتحليلات -بما لها من أجندات وبما تلعبه من أدوار- في تزايد الطلب على «الكتّاب»، وخلقت فرصاً أمام كثيرين ليكونوا من أصحاب «القلم»، إضافة إلى ذلك وفي إطار التنافس على استقطاب القرّاء وتوجيههم، بات من الضروري للمواد وعناوينها أن تكون لافتة، بل فضائحية في بعض الأحيان، حتى ولو وردت في إطار «مقال رأي».
في هذا السياق، وأثناء مراجعاتي المستمرة للمقالات الناقدة للمعارضة السورية ومؤسساتها، ورغم إيماني بأن النقد أمر صحي وطبيعي، وأن من الطبيعي أيضاً أن يبحث «الكاتب» عن مواضيع ساخنة تجذب القارئ، وأن من الطبيعي فوق ذلك أن يسوّق بعض «الكتّاب» أنفسهم كأقلام «حرة»، تعمل على إيصال «الحقيقة» للقارئ؛ فإن مطالعتي لبعض ما ينشر في هذا الشأن ولّد لدي جملة من «التساؤلات».
تساءلت بداية عن لقب الـ«كاتب»، وارتباط هذا المصطلح بالأخلاق والمصداقية، والمسؤولية أمام الذات والمجتمع، فناقل الفكرة كناقل الصحة أو المرض، ويفترض به أن يتحمل مسؤولية ذلك، وكما يتوجب على المرء أن يجتهد كي يصبح طبيباً، وأن يعقم نفسه وأدواته قبل أن يشق بمبضعه جسد مريض، فهكذا أيضاً يجب أن يكون شأن الكاتب الحقيقي.
كما أن التمييز بين النقد والتهكم في الكتابة، أو بين الحقيقة والخيال، بين الكاتب المدعي والكاتب الذي يكتب ليصحح المسار؛ كان من جملة تساؤلات خطرت في بالي.
لا حرج بالطبع من الانتقاد، بل هو أمر مطلوب، سواء جاء عبر مقال أو عمود أو حتى بضع كلمات على صفحة شخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، وسواء جاء من شخص قريب، أو من شخص يعيش في قارة أخرى، لكن جانباً من هذه التساؤلات يتعلق بمدى قرب أو بعد الانتقاد من الحقيقة والصواب، هل هو قيل عن قال؟ وهل هو نتيجة تحليل جدي أم خيال، هل نجم عن عمل وبحث وتحقيق؟
أتوقف هنا لأؤكد، دون مواربة ودون تردد، أن هناك كتّاباً حقيقيين مخلصين، كتّاباً عهدناهم صادقين مع أقلامهم، نبحث عنهم لنسير مع كلماتهم، فكلنا في حاجة لرأي آخر، لنقد مخلص وبنّاء على صعيد حياتنا بكل تفاصيلها، والثورة تحتاج اليوم إلى القلم الحر والصادق، فهو ركيزة في استمرارية وصون فكرها ومبادئها.
للمتابعة من هنا لا بدَّ من الإقرار أن حرية الرأي والتعبير وكذلك حق النقد، كل هذه المبادئ، تحظى بنوع من القداسة، وتحاط بهالة من التقدير والإجلال، ولو كان ذلك في إطار نظري في معظم الأحيان، وتكاد لا تذكر هذه العناوين في أي سياق سلبي على الإطلاق، فطرحها في هذا السياق كفيل بتصنيف صاحب الطرح في خانة الرجعية واتهامه بتكميم الأفواه وربما، بالإرهاب، لم لا؟
وبالطبع، وكما يقر كثيرون، فإن أهم شعارات وأهداف الثورات والربيع العربي كله، أعني الحرية، تتصل بهذا الجانب بشكل يكاد يكون عضوياً.
لكن، ومتابعة لتساؤلاتي حول الكتابة و”الكتّاب”، أليس هنالك فرق بين التحقيق الصحفي الذي يكشف الفساد من جهة، وبين التقرير الذي يوثق ذلك الفساد من جهة أخرى، وبين مقال الرأي الذي يحلل واقعة الفساد من جهة ثالثة؟
هل من المعقول إلغاء دور التحقيق الصحفي.. والاكتفاء بتوجيه اتهامات خطيرة في سياق مقالات يفترض أنها مقالات رأي؟ هل يجوز للصحفي أن يورد رأياً في خبر دون أن ينسبه إلى مصدر، أو أن يورد كاتب المقال خبراً دون أن ينسبه كذلك لمصدره؟
هل هناك فرق بين تحقيق صحفي يبذل صاحبه كل جهد ممكن لكشف فساد مؤسسة ما؟ وبين مقال رأي يوجه التهم ذاتها دون تقديم أدلة قادرة على الصمود أمام مساءلة منطقية؟ بالتأكيد سينطبق الفرق ذاته على المزاعم التي تتحدث عن صلاح وحسن إدارة مؤسسة ما وتكيل المدائح لزعيمها، دون تقديم دلائل على ذلك أيضاً.
سأنتقل بهذه التساؤلات إلى مستوى آخر… حيث يمكن تصنيفها باعتبارها نقداً حراً لحرية النقد أو حرية التعبير.
ندرك جميعاً، باعتبارنا دعاة للحرية، ومناضلين في سبيلها، بأن من أبسط مبادئها ألّا تتعارض مع حرية الآخرين، وألّا تتعارض كذلك مع القوانين، ولا حاجة لضرب أمثلة في هذا السياق، وإلا سنقع في فخ التساؤل الممقوت الذي تم طرحه في بداية الثورة من قبل أتباع النظام: “ما هي هذه الحرية التي تريدونها؟!”.
فهل نسمح بالسب والشتم في سياق حرية التعبير؟ هل نسمح بشهادة الزور باعتبارها مجرد حرية في التعبير؟ هل نسمح باستخدام عبارات مهينة ذات طابع جنسي أو عنصري أو طائفي؟ هل يعتبر أي قانون يفرض شروطاً تجاه ذلك مناهضاً للحرية؟
تنظر القوانين إلى الطرف المحرض على ارتكاب جريمة ما باعتباره شريكاً فيها رغم أن دوره لا يتعدى “الكلام”؟ هل يعاقب من يرمون المحصنات إلا بجريرة كلام خرج من أفواههم؟
مهما يكن من أمر، وإذا كان من واجب الناقد وصاحب الرأي أن يدرك الهدف الحقيقي لفعله وهو الإصلاح والتقويم، وأن يصوغ نقده بأسلوب يتيح له فرصة تحقيق أهدافه، فما هو الموقف المنتظر ممن يتلقى سهام نقد مسمومة؟ ألا يمكنه أن يستفيد من ذلك النقد حتى لو كان مسموماً؟
وأخيراً ورغم أنني تجنبت في سياق المقال إصدار الأحكام أو المبادرة إلى تقديم النتائج، مكتفياً بطرح التساؤلات، ورغم أن ملامستي لهذه المبادئ الأصيلة، والجديرة بالاحترام والتقدير، قد تبدو مجروحة وغير حيادية بسبب موقعي السياسي الراهن، إلا أنني، ومهما يكن من أمر، أرجح أنها مغامرة جديرة بالخوض، خاصة وأن الأسئلة التي يتمكن الإنسان من طرحها، تحمل في بالذات جزءاً من الإجابات التي أبحث عنها.
لعلهم يعقلون .
أربعة التباسات عمت أوساط السوريين والمعارضة، في تفسير مسار الصراع السوري وآفاقه، بعد الانتصار العسكري للنظام وحلفائه في مدينة حلب.
أولاً، وضع إشارة مساواة بين الهزيمة العسكرية لجماعات المعارضة المسلحة في حلب وبين هزيمة مشروع التغيير السياسي، وكأن ما حصل يؤبد الاستبداد ويرسخ مناخ القمع والعنف، بينما الحال، أن إرادة «المنتصر» وأساليبه القهرية ستبقى عاجزة عن رسم المستقبل السوري، ليس استقواءً بما ارتكب، أو بالحتمية التاريخية وبديهية انتصار الحق والعدل على الظلم والتمييز حتى لو تأخر الزمن، أو بحقيقة دوام الصراع بوجوهه المختلفة في مناطق واسعة لا تزال خارجة عن سيطرة نظام، أضعفته سنوات الصراع الدامي وما استجره من قوى خارجية، وليس لأن من انهزم وفشل هي جماعات مسلحة تحمل أجندة إسلاموية ليس لها علاقة بالثورة السورية وحلمها الديموقراطي، وإنما لأن الأسباب التي دفعت الناس لرفض واقع القهر والفساد لا تزال قائمة بل ازدادت حدة ووضوحاً وعمقاً، فأنّى لمجتمع ظلم وفكك وشرد أن يسترد عافيته وتماسكه من دون إحداث تغيير سياسي يفتح الباب أمام سلطة عادلة، لا تفرضها لغة العنف والإرهاب بل سعيها إلى إنصاف الناس ونيل ثقتهم ورضاهم، كشرط لنيل ثقة المجتمع الدولي ومن دونها يصعب معالجة مخلفات الصراع وملفاته الإنسانية.
ثانياً، قيل إن «الهزيمة يتيمة وللنصر مئة أب»... يحضر هذا المثل الشعبي اليوم للدلالة على تنصل بعض رموز المعارضة، الذين صدمتهم نتائج معركة حلب، مما جرى وتحميل المسؤولية لبقية المعارضين وكيل الاتهامات جزافاً بحقهم.
هو أمر مفهوم ومبرر أن يمارس النقد بشدة بعد أي هزيمة أو انكسار لكشف مواطن الخلل والضعف، لكن ما ليس مفهوماً هو استسهال تحميل المعارضة المسؤولية الكاملة وتوجيه كلمات إدانة وتحقير بحقها، وما ليس مبرراً اعتبار ما تعانيه من تباينات تنظيمية واختلافات في المواقف والرؤى، هو السبب الوحيد لما وصلنا إليه، ما يعني، وبغض النظر عن النيات، إغفال الشروط الموضوعية التي حكمت مسار الصراع، ما يضع علامة استفهام حول دوافع هؤلاء المتهجمين، حين يدينون الضحية وليس الجاني، ويتجاهلون المسؤولية الأساس التي تقع على عاتق السلطة وحلفائها بإصرارهم على عنف مفرط طلباً لحسم عسكري، ربطاً بعجز المجتمع الدولي عن حماية المدنيين وفرض خطة للمعالجة السياسية.
ومع إشهار الشروط الموضوعية التي أحاقت ولا تزال بالثورة السورية وقوى التغيير، يصح التوقف عند مسؤولية المعارضة، إن لجهة استمرار تشرذمها وتشتت خطابها وخلافاتها البينية وإن لجهة تراجع أدائها عند تصاعد الحاجة إليه في قيادة الحراك الشعبي ومحاصرة تنامي التيارات الأصولية! ليصح أن نغمز من هذه القناة إلى انحسار مساهمتها في الحفاظ على الوجه السلمي للثورة، وفي التواصل مع الحراك الشعبي ومده بالخبرة، وإلى مبالغتها في الرهان على دعم الخارج والخضوع لإملاءاته، وإلى ضعف دورها السياسي والإعلامي في إثارة أوجاع السوريين لزيادة تعاطف الرأي العام العالمي مع محنتهم، بغرض إحراج المجتمع الدولي وإكراهه على البحث عن مخارج وحلول لوقف الفتك والتنكيل، والأهم عدم مجادلتها لإظهار نفسها كبديل موثوق، يحترم التنوع والتعددية وأمين لثقافة الديموقراطية وقواعدها.
ثالثاً، التمييز بين المجتمع السوري الحي وبين التنظيمات الجهادية وما خلفته من أضرار على الثورة حين سارعت إلى استثمار النهوض الشعبي لفرض أجندتها الخاصة، فأقامت الإمارات، وألزمت بشراً منهكين، بنمط حياتها تحت طائلة أشد العقوبات.
«سورية حرة والنصرة تطلع برة» هو هتاف رفعه متظاهرون في حلب وإدلب وحماة وتكرر في مدن أخرى رداً على محاولات جبهة فتح الشام مصادرة شعاراتهم واعتقال الناشطين المدنيين واغتيال بعضهم، ما يدل على أن الشعب السوري لم يكن راضياً عن الجماعات الجهادية ودورها، وإن غض النظر عنها، فتحت وطأة العنف والاستفزازات الطائفية، فكيف الحال وقد اكتشف أن بعضها لم يقاتل إلا تلبية لما تمليه مصادر تمويله، أو من أجل تحسين مواقعه ومغانمه، بينما بادر بعضها الآخر لعقد صفقات للنجاة عندما استشعر بالخسارة، تاركاً الناس لمصيرهم.
ما سبق يطرح أسئلة تشغل بال الجميع عن احتمال تكرار ما حصل في حلب؟ كيف سيتم الدفاع عن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام؟ هل يفضي الإصرار على منطق السلاح وتغطية الجماعات المتطرفة إلى تمكين المسار الثوري أم العكس؟ وهل لا يزال بالإمكان الرهان على معارضة سياسية ونخب ثقافية مستعدة لتحمل مسؤولية نبذ العنف وإعادة بناء ثقة الناس بوحدتهم وبقدرتهم على دفع نضالاتهم بصورة رئيسة، نحو أطوار مدنية، طلباً لحريتهم وحقوقهم؟!.
رابعاً، الخلط بين الثورة التي نهضت كحاجة موضوعية لتغيير الواقع السوري جذرياً ونقضاً للاستبداد والوصاية والفساد ومسوغاتهم الإيديولوجية وبين ما آلت إليه الأمور، بما هو خلط بين ثورة السوريين لنيل حقوقهم وقد تعرضت طلائعها لمختلف وسائل الفتك والتنكيل، قتلاً وسجناً وتهجيراً، وبين ظواهر تغذت من المظالم الشعبية وساقت الصراع نحو أفق إسلاموي لا علاقة له بشعارات الحرية والكرامة، وتالياً التحسب من الانجراف نحو إدانة الثورة كفعل تاريخي مشروع لأن نتائجها لم تأتِ كما نرغب ونشتهي، بما هو تبرئة العنف السلطوي مما أحدثه قاصداً، وإعفاء الذات من مسؤوليتها كما الأدوار الإقليمية والعالمية التي حاصرت الثورة وشجعت على تشويهها.
«راجعين يا حلب» عبارة ملأت ما تبقى من جدران المدينة المنكوبة في مواجهة ما تروجه القوى المضادة بأن انتصارها العسكري نهائي وثابت وعنوان لتعزيز سلطانها... عبارة، تظهر عمق ما أحدثته سنوات الثورة من تحولات، وأن ما رسخ في النفوس والعقول كفيل بتجديد العزم وبلورة قوى للتغيير تسترد روح الثورة وتنفض ما يشوب دورها وآليات عملها من مثالب لتقارع تحديات الراهن السوري مهما اشتدت مصاعبه.
روسيا وإيران والنظام السوري، ثلاثي سيبقى في ذاكرة العالم أنه دمّر حلب، ولعل الشريك الرابع في المسؤولية هو الولايات المتحدة التي بذلت الكثير من أجل بلوغ هذا اليوم، فالتفاهم الروسي - الاميركي على إخلاء حلب كان واضحاً. هذه ليست مجرد مدينة بل حاضرة انحفرت في التاريخ بتجربتها الانسانية الخاصة، المغرقة في القدم، المتواصلة بفضل أهلها لا بجهد محتلّيها القدامى الذين لم يرحّلوا أهلها منها، وستستمرّ بعودة أهلها وليس اعتماداً على محتلّيها الجدد، الذين لم يكن لهم أي دور في بناء عزّها، وانما كان لهم الدور كلّه في تخريبها وإعدام مقوّمات العيش فيها. ليست صدفة أن يكون قاسم سليماني أول متفقّدي الركام الذي ترقص فوقه عناصر ميليشياته، بل أراد الجنرال الإيراني أن يوقّع «انتصاره» بقدميه، كما فعل مراراً في العراق. كثيرون تذكروا صورة آرييل شارون في بيروت خلال اجتياح لبنان قبل أربعة وثلاثين عاماً، إذ رأوا تحدّياً متماثلاً في الحدثَين، الإسرائيلي غازياً في عاصمة عربية، والإيراني معربداً في حلب بعد دمشق.
جاء سليماني للتصوّر في قلعة حلب فيما كانت طهران تقيم الاحتفالات بـ «أولى الفتوحات». ما الذي أراده الإيرانيون؟ مواجهة «المؤامرة الكونية» أم محاربة التكــفيريين، كما ادّعوا ويدّعون؟ ما حصل في حلب كان بإرادة الروس وبموافقات متفاوتة من دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو وحتــى من رجب طيب أردوغان وإن مضطرّاً وعلى مضض، فلو لم تقدّم أنقـــرة سكوتها خلال العملية العسكرية لما فاوضـها الــروس بل لما وافقوا على التفاوض مـع الفـــصائل لوضع ترتيبات إجلاء المدنيين والمقـــاتلين. لم يكن الإيرانيون يريدون وقـــفاً للنار ولا خروجاً آمناً للمدنيين، كان مقاتلو ميليشياتهم تلقوا شحناً نفسياً على مـــدى أسابيع هدفه «قتل كلّ من في حلب»، لذلك أوقفوا الباصات ونكّلوا بالمغادرين ونهبوا أموالهم وقتلوا منهم مَن قتلوا. ثم عطّلوا الإجلاء لإجراء إجلاء متـــزامن من قريتَي الفوعة وكفريا الشيعيتين المحاصرتين في محافظة ادلب، على رغم أن مــعاناة حلب وأهلها كانت أكثر عجلةً وإلحــاحاً. كانت روسيا تحت ضغط دولي لأن هـــذه الميليشيات - حليفتها - باشرت تصفـية المدنيين باقتحام البيوت وإخراج العائلات منها حتى أنها أقدمت على تعذيب أطفال قبل استجوابهم ثم قتلهم، وقد تولّت الأمم المتحدة كشف هذه الجرائم.
لم تكن معركة حلب ضد «المؤامرة» ولا ضد الارهاب بل كانت معركة لزرع كل الأحقاد التي يمكن أن تنتج العنف المتطرّف المقبل. الواقع أن ما أراده الإيرانيون هو تسجيل أول واقعة سقوط مدينة «سنّية» وأول انتصار خالص في الحرب الشيعية - السنّية، الدائرة بالأحـــرى مـــن جانـــب واحد، إذ لم يتبنَّ السنّة هــذه الحرب ولم يرغبوا في خـــوضها بل رفضوها ويرفضونها، في حين أن إيران استثمرت فيها الكثير وما انفكّت تدفع الشيعة اينما كانوا الى استعداء الســـنّة بثقافة عدائية بات واضحاً بعد حلـــب أنها تحلل قتلهم، فإيران مصرّة على الحرب والعرب مصرّون على المسالمة، لكن المحارب يخوض حربه وينتصر ويعيث فساداً. وقد أظهر وجود قاسم سليماني في الوقت الذي أقدم «إرهابيون أجانب موالون للنظام السوري» (كما باتت التسمية الدولية للميليشيات الإيرانية) على قتل أربعة عشر مدنياً، مدى استهتار القادة الإيرانيين بأخلاقيات القتال، اذ لم يعد هناك فارق بينهم وبين «شبّيحة» النظام. بل إن وجود سليماني في تلك اللحظة تسبّب بحماسٍ اميركي مفاجئ ومتأخر لإثارة قضيّته في مجلس الأمن، وليس مؤكداً أن واشنطن ستفعل، لأنها سبق أن باركت الدور الإيراني في سورية ولم تعترض عليه إطلاقاً.
لم تحسم معركة حلب الصراع في سورية، إلا أنها مرشحة لإطلاق ورشات البحث عن حلول بعيدة المدى. عندما ظهر رأس النظام ليعلن عن «انتصاره الإلهي» كان يؤكد أنه ربح رهان بقائه في السلطة، لكنه يجهل على الأرجح لماذا سيبقى، طالما أنه لم يعد مؤهلاً لتوحيد الشعب والبلاد. المؤكّد أن بقاءه لا يفيد سوى إيران وروسيا. وإذ كشفت طهران بعض أوراقها في شأن ما تريده مما بعد حلب، فإن الأهم عندها أن تضمن عدم مشاركة النواة الصلبة السنّية في أي حكومة تنبثق من أي «حل سياسي»، وهي تتمسّك ببشار الأسد باعتباره المدافع الأول عن مصالحها والحريص على استمرار وجودها لأنه سيحتاج الى ميليشياتها لفترة طويلة. أما موسكو فتعتبر أنها ربحت لتوّها ورقة «بقاء النظام» أو ما تسميه «الحفاظ على الدولة والمؤسسات»، لكنها كانت ولا تزال تعلم أنها تتحدّث عن كذبة أو عن شيء وهمي، وما يبرّر تمسكّها بالأسد هو حاجتها الى «شرعية» تغطّي دورها في سورية، رغم علمها بأن هذه «الشرعية» الورقية لا تعني شيئاً بالنسبة الى بقية دول العالم. تراهن موسكو على «حل سياسي» مبنيّ على وجود الأسد في شكل أساسي ومشاركة «المعارضات الموالية» التي رعتها هنا وهناك بغية إشراكها في إعادة ترميم شرعيته.
لكن تبقى المعارضة الحقيقية، المتحالفة مع الفصائل المقاتلة، التي شارك النظام وروسيا وإيران في مقاتلتها، كما شاركت أميركا في خداعها، هذه المعارضة هي التي يعتقد الجميع أنها هُزمت في حلب، ويريدونها بالتالي أن تستسلم وتعلن «انتهاء الثورة». وقد نصحها جون كيري بأن تذهب الى أي مفاوضات وتوافق على المشاركة في «حكومة وحدة وطنية برئاسة الأسد» قائلاً إن هذا «أفضل ما يمكن أن يُعرَض عليها الآن، والأرجح أن ما سيُعرض عليـــها مــع ادارة دونالد ترامب سيكون أقلّ وأســوأ»... وبطبيعة الحال فإن المعارضة ستجد نفسها في مأزق محتمل، سواء مع داعميها أو مع الذين منحوها ملاجئ ومنابر وتســـهيلات طالما أن وجودها على الأرض السورية كان دائماً مستحيلاً. هنا ستجد تركـــيا نفسها تحت ضغوط روسية وإيرانية وحتى أميركية ومن بعض أوروبا، اذ يراهن عليها الروس لتضغط على المعارضة المتمثلة خصوصاً بـ «الائتلاف» لتأمين مشاركتها وقبولها الصيغة المقترحة. وللحصول على تعاون أنقرة كثّفت موسكو التعاون معها في الفصول الأخيرة من عملية شرق حلب، كما أن الاجتماع الثلاثي في شأن سورية، وهو الأول من نوعه بين روسيا وتركيا وإيران، يكرّس المرجعية الروسية بالتوافق مع واشنطن.
ليس مؤكّداً أن روسيا ستكون محايدة بين الطـــرفين الآخرين، أذ تبقى حالياً أقرب الى إيـــران التي تتقاسم معها الكثير من الأهداف في سورية وأهمها دعم نظام الأسد، على رغم الخلافات المتزايدة بينهما على الأرض، التي أظهرت تباعداً في مسائــــل استراتيجية ستتفاعل في المراحل المقبلة، منـــها مثلاً متطلبات الحل الأمني والسياسي ووجود الميليشيات متعددة الجنســـية التابعة لإيران. أما تركيا التي خســـرت الكثير من طموحات النفوذ التي أبدتها سابقاً فيبدو أن روسيا ماضية في تعويضها تلك الخسارة، من خلال الدور الـــذي تلعـــبه فـــي عملية «درع الفرات»، لكـــن يبقى أن تنال ما يطمئنها بتقنين دور أكـــراد حزبي «الاتحاد الديموقراطي» و «العمال الكردستاني» وعدم تشجيع قيـــام كيان كردي انفصالي في شمال شرقي ســـورية. ومن الواضح ان ثمة مساومة بدأت، بدليل أن وزير الخارجية التركي أثار علناً مسألة «قطع الدعم عن بعض المجموعات الوافدة إلى سورية من الخارج مثل حزب الله اللبناني والمجموعات الأخرى».
قد لا تكون إيران مرتاحة الى هذه الصيغة الثلاثية، لكنها فهمت أن هناك شيئاً من التسليم الدولي لروسيا في ادارة الأزمة السورية، وبالتالي عليها أن تتعامل مع هذه الصيغة طالما أنها لا تمسّ بمصالحها، وقد أصبحت الميليشيات جزءاً من تلك المصالح. يكفي أن يكون لقاء موسكو تطرّق الى «حزب الله» ليشكّل ذلك انذاراً لطهران بأن قضية الميليشيات من شأنها أن تتفاقم اذا لم تبادر الى اتخاذ خطوات في شأنها. لكن المرحلة المقبلة قد تبيّن للإيرانيين كم كان مخطئاً ذهاب سليماني للاستعراض في حلب، وكم كان مخطئاً اعتداء «النجباء» على المغادرين، إذ إن ممارساتهم اضطرت الروس للتهديد بإطلاق النار على من يعرقل عمليات الإجلاء، ثم اضطرتهم الى القبول بمراقبين دوليين.
كانت حلب الأجمل والأقدم، ويكفيها أن ابنها عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902) أول من واجه الاستبداد بشقيه الديني والسياسي، وجعل الدِّيني أكثر فداحة من الثاني، بل وسبباً له (طبائع الاستبداد)، مستقبلاً إنقاذ المنطقة بنظام متمدن، فالخلافة العثمانية حينها آيلة للسقوط. أخبرني سلام الكواكبي ببيروت قبل أسابيع، أن ما جُمع من آثار جده قد احترق بحريق المنزل، ومنها القلم الذي كتب به «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».
كم كانت حلب راقية بفكر أبنائها، وتعدد أديانها، وتلك ميزة جعلتها تنشأ على التسامح، ولا أجد غرابة أن يبرز فقيهها ومؤرخها ابن العديم (ت 660هـ) مدافعاً عن أبي العلاء (ت 449هـ)، وفي زمن لا يزال فيه صوت مَن اعتبر المعري أحد الزنادقة (الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء) مدوياً! جاء دفاع في كتابه «الإنصاف والتَّحري في دفع الظُّلم والتَّجري عن أبي العلاء المعري»: «فابتدرْتُ دونه مُناضلاً، وانتصبتُ عنه مجادلاً، وانتدَبتُ لمحاسنه ناقلاً، وذكرتُ في هذا الكتاب مولِده ونسبَه، وتحصيله للعلم وطلبه، ودينه الصحيح ومذهَبه، وورعه الشديد وزُهده، واجتهاده القوي وجِدّه، وطعن القادح فيه وردّه، ودفع الظُّلم عنه وصدّه. وسميته كتاب الإنصاف.. وبالله التوفيق والعصمة».
كانت حَلَب على فقه الإمامية أيام الحمدانيين، وبعدها تحولت إلى المذاهب الأربعة مع الأيوبيين (الحموي، معجم البلدان). وتبادل المواقع في السلطة لم يجر على أساس المذهب، وإنما السياسة والتَّغلب. ومثل هذا التبدل المذهبي جرى لكثير من البلدان، فقيل: «الناس على دين ملوكهم» (الفخري، في الآداب السُّلطانية). أقول فعلامَ رفع الرايات بطائفية شرسة، والناس تبادلوا المواقع عبر الأجيال من شيعي إلى سني ومن سُني إلى شيعي، فُرض المذهب وأصبح يتوارث. فتعالوا إلى نزاعات حلب وخرابها وانظروا كيف تُسوق؟!
كانت حلب بلدة تعايش عبر التاريخ، بظاهرها مقام لإبراهيم الخليل، يُنذر له «ويُصبُ عليه ماء الورد والطّيب ويشترك المسلمون واليهود والنصارى في زيارته» (معجم البلدان)، بلا تدافع. قيل في اسمها كان للخليل غُنيمات يحلبُها ويتصدق بحليبها، فسميت بحَلَب (ابن جُبير، الرِّحلة). لا جدال في قِدمها، وقيل أشير إلى اسمها في «التَّوراة» بـ«إرم صُوبة» (بنيامين، الرِّحلة).
كنا نحن العراقيين المعارضين لنظامنا السابق، نأخذ موقفاً حاداً ممَن يقف معه ويعترض على سقوطه، وعُذرنا أن الآخرين لا يحسون بمعاناتنا، خصوصاً السوريين المعارضين منهم لنظامهم، والذين وجدوا في نظامنا ملجأً لهم، مثلما كان المعارضون العراقيون مع النظام السوري.
نسأل أنفسنا الآن: لماذا لا نعطي السوريين الحق في أن يشعروا بهذا الشعور، بأننا لا ندرك قسوة دكتاتورية نظامهم، وحزب «البعث» في النظامين واحد؟ أقول هذا، لأن هناك مِن العِراقيين مَن سره خراب حلب، في أن يحكمها «البعث» ولو ظلت حجارة، وقيل في المثل «الإمارة ولو على حجارة».
مثلما طلبنا مِن السوريين والفلسطينيين والعرب جميعاً، وكنت أحد الذين وقعوا بياناً مثل هذا، غداة سقوط النظام السابق، أن يتركونا مع نظامنا، لا يعينوا علينا بالسيف أو القلم، طلب ديمقراطيون ومثقفون سوريون مثل هذا الطلب، إذا لم يعنهم أحد، فلا يعن عليهم، فليسوا كلهم «قاعدة» أو «داعش» أو «جبهة نصرة».
كذلك إذا كانت الأحزاب الدِّينية الشِّيعية تعتقد أن العراق كان محكوماً مِن أقلية سُنية، ويجب أن تأخذ الأكثرية حقها، لنوافق على هذا الطرح في سوريا. أليس مِن حق الأكثرية السُّنية السورية أن تدعي بأنها محكومة مِن أقلية علوية، ولها أن تأخذ حقها كأكثرية؟ مع يقيننا أن لا شيعة تحكم ولا سُنة، فالطوائف مخطوفة بالسياسة والحزبية. ناهيك عن أن المعارضتين، سابقاً ولاحقاً، تجاهد ضد حزب واحد، نظريةً وتأسيساً، وعندما سقطت سلطة «البعث» ببغداد حمل قيادات البعثيين أغراضهم إلى دمشق، وأُعينوا بالمال والسلاح، لأنه حزب واحد. فما عدا مما بدا كي يسر البعض خراب حلب ويعتبرونه انتصاراً، وبطرفة عين أعفي النظام السوري من تفجيرات طالت آلاف العراقيين، عندما كان التدريب يتم بعنايته.
كلما خربت مدينة من ذوات التاريخ قلنا: ما بعده خراب! غير أن الناظر في أشباح حَلب يظن الطَّواعين كانت أرحم بها مما يجري عليها الآن. فمِن عادة الطواعين أن تترك الحجر والشجر، وها هي منازل حلب كهوف فاتحة أبوابها للموت. وقد استوقفتني عبارة الحموي (ت 622هـ) فيها، وقد زارها: «وما في حلب موضع خراب أصلاً»، وبعد ثمانية قرون ليس فيها موضع عامر. فما قيمة السُّلطة على بلدة دُثرت تحت التُّراب، وبشر توزعوا بين مخيمات وحفر، غدت منطلقاً إلى كراهيات لا تنتهي. لم تعد حلب ابن العديم والكواكبي مثلما تركها أبو بكر الصَّنوبري (ت 334هـ): «حَلَب بَدرُ دُجّى أن/جمها الزُّهر قراها/فهي تسقي الغيثَ إن لم/يسقها أو إن سقاها» (معجم البلدان).
زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إرولت بيروت اليوم، تحمل معاني كثيرة في هذه الظروف الحالكة في منطقة مشتعلة. فإرولت بادر بطرح مشروع قرار في مجلس الأمن كي يواكب المراقبون الدوليون خروج المدنيين من حلب لحمايتهم من المجازر. وقد مارس السفير الفرنسي فرانسوا دولاتر في نيويورك كل حنكته الدبلوماسية للتوصل إلى تسوية مع الجانب الروسي الذي بدأ بالرفض كي يحصل على المزيد من التنازلات. وموقف فرنسا مع ضعف تأثيره دولياً بسبب تخلي باراك أوباما وتراجعه، تجب الإشادة به، لأن الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند لم يتراجع يوماً عن موقفه من النظام السوري ووحشيته، كما أنه حاول التحاور والتحدث مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، عكس ما يقوله البعض في المعارضة الفرنسية، وفي طليعتهم المرشح الرئاسي لحزب الجمهوريين فرانسوا فيون.
وفرنسا واكبت وانتظرت أن يتم الانتخاب الرئاسي في لبنان وتشكيل الحكومة كي يزور وزير الخارجية بيروت اليوم ويهنئ الرؤساء ميشال عون وسعد الحريري ونبيه بري ويدعو عون إلى زيارة فرنسا والنظر في كيفية مساعدة لبنان بعقد اجتماع داعم لهذا البلد.
نقل السفير الفرنسي في لبنان إيمانويل بون إلى النواب الفرنسيين انطباعاً إيجابياً عما جرى منذ انتخاب عون قائلاً إنه سيحمي سيادة لبنان. وهذا أمر مهم جداً للخارج. ولكن المشكلة أن «حزب الله» سيحاول باستمرار نزع هذه السيادة. فهو يجر أبناء لبنان الشيعة إلى حرب خاسرة لمصلحة حماية نظام فاسد ومجرم وحليفه الإيراني. إن مهمة الرئيسين عون والحريري حماية السيادة والنأي بالنفس عما يحصل في سورية بالغة الصعوبة، فحرب «حزب الله» في سورية ليست ضد الإرهاب، ولو كان ذلك صحيحاً لما تُركت لإرهاب «داعش» يدمرها، وشباب «حزب الله» يقاتلون المعارضين للنظام وليس الإرهابيين. وهم يقاتلون إلى جانب قوات روسية تنسق مع إسرائيل بشأن تدخلها في سورية، فأي سيادة لبنانية هذه التي يذهب خيرة شباب الشيعة الذين اعتقدوا أنهم ينتمون إلى ما يسمى مقاومة ليقتلوا شباناً عرباً مثلهم يقاومون نظاماً فاسداً؟ لقد دخل «حزب الله» مستنقع سورية، ومحاولته أخذ لبنان معه الى هذا المستنقع تنبغي مكافحتها من جانب عون والحريري. لكن السؤال: كيف يكون ذلك مع حزب هو أقوى من الدولة؟ وعلى رغم كل هذه التساؤلات التي تطرح دولياً، فإن فرنسا وأوروبا عازمتان على دعم لبنان ومؤسساته. صحيح أن إدارة هولاند في نهاية عهدها والمرشحون المحتملون قد يغيرون سياساتهم إزاء لبنان وسورية، حيث قال المرشح اليميني الأوفر حظاً بالفوز فرنسوا فيون، مرات عدة سابقًا إنه يريد التقارب مع إيران و «حزب الله» والتعامل مع بوتين واختيار الأسد. ولكن هناك تقليدياً استمرارية في الحرص على المصالح في الشرق الأوسط ولبنان من أي رئيس فرنسي. والأمل أن لا تتغير سياسة فرنسا في الشرق الأوسط. لكن المقلق أنه كثيراً ما ترتبط مواقف فرنسا بالولايات المتحدة الحليفة، ومجيء دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية أمر غير مطمئن على هذا الصعيد. ولكن إدارة هولاند ستبقى حتى إشعار آخر مهتمة بلبنان مستقل وسيد، وستسعى إلى مساعدته على النهوض. لكن النجاح في هذه المهمة يتطلب وقتاً أطول ولسوء حظ لبنان والشعب السوري فإن أمام إدارة هولاند أقل من ستة أشهر، وهي مهلة قصيرة للنجاح ولكن على الأقل ستبقى المؤسسات الفرنسية ساعية للمساعدة.
يختفي مع خروج الثائر الأخير ، الذي تم منذ قليل ، من أرض حلب الشهباء ، صوت “الحرية” الذي ظلّ حاضراً طوال السنوات الأربع و النصف الماضية على هذه المدينة ، لتغيب عن المشهد و تنضم لقائمة المدن المحتلة ، بعد أن تحولت من عاصمة الثقافة و التجارة لمدينة الركام و الدمار ، مدينة المكلومين والجرحى ، صاحبة الرقم الأعلى من المهجرين والمبعدين عن أراضيها.
اليوم في ٢٢ كانون الأول ٢٠١٦ ، تطوي حلب صفحة من تاريخها لتدخل في دهاليز الظلام المتعدد الرايات ، في ممرات المحتلين المتنوعين في الأشكال و المتحدين في المصالح و الأهداف ، والتي تدور حول محور واحد ألا وهو “التدمير” و “التهجير” و من ثم “التغيير”.
دفعت اليوم حلب بعد أربع سنوات ونيف من القتال ، الثمن الأكبر بشرياً و مادياً و اجتماعياً ، اذ بفقدها تختل التوازنات ، وتتيه معها الحسابات ، في قوائم تتبدل تبعاً لتبدل آراء الدول ومصالحها، ولكن هذا التبدل لم يجعل من حياة السوريين إلا أكثر بؤساً و أفدح خسارة .
بين صيف ٢٠١٢ و شتاء ٢٠١٦ ، صنعت حلب تاريخها الثوري بكل تفاصيله، رونقه وبياضه وصفاءه و ارثه الغني ، وشهدت سواده ومسالبه و أخطاءه القاتلة ، شهدت ولادة “متعسرة” للثورة و انتهاء أشد “عسرة” ، فضحّت في الولادة والوأد بما لايحتمله أي مدينة ، حملت في طياتها مئات الآلاف من الأبناء ، إلى جانبهم عشرات الآلاف من القبور و أسّرة الجرحى و كراسي المقعدين.
بين الصيف و الشتاء كان الأمل يتنقل بربيعه و خريفه ، وكانت الأمور تتطور لتلامس الحلم الكامل ، وتخبو حد اليأس بأن لا امكان للحياة .
حلب اليوم بعيدة عن الحرية ، بُعداً شديداً ، مغلقة على ذاتها في قوقعة يعتليها “عمامة” ذات شكل اسلامي ، تخفي حقد عمره أكثر من ألف عام ، بين كسر الفرس و زراعة الحقد الطائفي ، فهي النموذج لحجم “الغل” على العرب و المسلمين ، عبر مر السنين.
حلب هي أكثر من خُذل من قبل الجميع ، طعنت من الداخل عشرات المرات و من الخارج آلاف المرات ، شهدت أشنع الصفقات الدولية و أكثرها فجاجة ، لينتهي صوت “الحرية” مؤقتاً وسط طغيان طبول الأهازيج من شقها الثاني (المحتل ) ، هو طغيان مؤقت لادوام فيه ، فالباطل لايدوم و قد تكون العودة أقرب أو أفضل في القريب .
إن سقوط مدينة حلب بعد تدميرها تحت شعار حماية السيادة السورية ممثلة في بشار الأسد، ومحاربة الإرهاب، وتغاضي الغرب عن هذه المجازر المرتكبة، علاوة على عجز العرب عن وقف المذبحة وتضامن بعضهم مع نظام الأسد، توحي بأن تسوية متفق عليها في طور النضوج.
هذه التسوية قد تكون تركية روسية، لكنها تسوية هشة، يبـدو فيها الطـرف التـركي الأضعف، وبالتالي لن تكون بقدر طموحات الشعب السوري، بل، ربما، أقل من المتوقع بكثير.
هذه التسوية، وإن تمت، لن يكتب لها النجاح لأن الساحة السورية أصبحت ميدان عراك بين دول كثيرة، وبين تنظيمات لها فروعها المحلية والخارجية.
وللتدليل على عمق هذا التعقيد فقد سيطر تنظيم الدولة مؤخرا على مدينة تدمر، وهذا التنظيم المطوّق في العراق والمحاصر في مدينة الباب، قادر، كما يبدو، على هزيمة قوات النظام ومعها قوات الإيرانيين والروس، فهل هو حقا قادر بالفعل على ذلك؟
إن الجواب على هذا السؤال لا يمكن اختصاره فقط في نظرية المؤامرة (ونحن لا ننكرها) ولا في نظرية الفراغ التي تقول إن الروس والإيرانيين حشدوا قواتهم في الساحل وحلب ظنا أن لا خطر عليهم من تنظيم الدولة؛ فتفاجأوا بشنّ التنظيم حربا خاطفة على قواتهم والسيطرة على المدينة بما فيها من أسلحة وذخائر وعتاد.
ومما لا شك فيه أن دخول تنظيم الدولة على هذا الخط، سواء بالتنسيق مع النظام أو بفعل قوته، يؤكد أن الحل في سوريا لم يزل بعيدا، وأن النظام غير قادر على سد النقص في الرجال والعتاد، وأن إيران وروسيا لم يعد أمامهما إلا زيادة التدخل لتوطيد رؤيتهما المتناقضة في سوريا! تماما كما حدث للأميركان الذين دخلوا في فيتنام على أمل الانتهاء بسرعة فمكثوا مجبرين واضطروا للرحيل مرغمين.
لكن ما يحدث في سوريا يبدو مختلفا عن فيتنام لأن روسيا وإيران تتصرفان بموافقة أميركية، وعجز أوروبي، وتردد عربي، وانشغال تركي، إن لم يكن تخبّطا في كيفية مواجهة الخطر الكردي وحماية الاقتصاد.
هذا يعني أن منسوب النظام السوري من القوة له رافد مستمر، بينما منسوب الدعم للمعارضة السورية المسلحة متقطع ومرهون بمواقف دول إقليمية؛ وهذا يُضعف المقاومة المسلحة في سوريا، وقد شاهدنا ذلك مؤخرا بأم العين في حلب.
إذن روسيا وإيران ستكون لديهما القوة والوسيلة لمتابعة تصفية الثورة، وبعدها تكون أوراق المنتصر أقوى في المفاوضات إذا ما كان ثمة مؤتمر يعقد لحل ما يسمى زورا “سلميا”.
فالتفاوض هو عمليا تكريس للانتصار على الأرض، ولذلك فإن ظهور داعش وزيادة منسوب التوحش الذي يمارسه النظام، وتوسع دائرة الصمت الدولي، كلها عوامل ستتضاعف تداعياتها وستزيد من بيئة التطرف، وسيحصل تنظيم الدولة على مصداقية جديدة.
ألم يقل تنظيم الدولة إن الحرب هي ضد المسلمين السنة؟ ألا يثبت الواقع مقولته؟ ألم يقل إن أميركا ستبيع المعارضة وها هي تترك المعارضة تسحق ومعها الآلاف من الأبرياء. ألم تجتمع أمم الأرض على داعـش وهـا هو ينتصر في تدمر؟ كل ذلك يعطي زخما للتنظيم المتطرف الـذي لا يقـل وحشية عـن الأسـد، مع الاعتراف بأن عنف الأسد وحلفائه فاقه بكثير.
الثابت أن تنظيم الدولة يستمد بقاءه من تطرف النظام وداعميه وكذلك من كذب الغرب وتباكيه؛ وبهـذا يصبح داعش عبئا ثقيلا آخر على كاهل الشعب السوري، فوق عبء الأسد الذي لا يطاق.
ستقول روسيا، في ظل هذا الواقع، وبعد تصفيتها للمعارضة المعتدلة، انظروا إلى تنظيم الدولة المستحوذ على أراض سورية؟ هل تفضلونه على الأسد؟ سيكون الجواب قويا ومزلزلا: لن نقبل وسنحاربه؛ وسينضم الجميع لمقاتلة تنظيم الدولة، وبعد التصفية، تبدأ عملية التسوية في سوريا، في ظل بقاء الأسد وبلا أي معارضة حقيقية.
تبدأ عملية التسوية والشعب السوري بين مشرد وقتيل ومسجون ومعاق. تبدأ وسط مدن مدمرة وقرى محترقة، وسيتفق الجميع في التسوية على أن الأولوية هي للمسألة الإنسانية، إذ أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار ما لم تبدأ عملية البناء والإعمار.
سيعقد مؤتمر دولي لجمع التبرعات وسيساهم العرب مرغمين، وستتكرس سلطة الأسد بحكم الواقع الاضطراري، وتدريجيا تعود سوريا إلى عصر الاستبداد مجددا.
ثمة من يقول من محللي العرب إن الأسد لا يمكنه حكم سوريا، بعد كل ما جرى، وإنه إن حكم فحكمه مرهون لروسيا وإيران، لكن هذا ليس جديدا، وروسيا وإيران بحاجة إلى الأسد، بقدر حاجته لهما، فالعملية تبادلية، وأجزم بأن اليد الطولى مع الوقت للأسد إذا عرف كيف يتصرف، واستطاع أن يفرض سيطرته.
وبالطبع سيتناسى الغرب جرائم الأسد، وسنسمع الكثير مـن العبارات الـداعية للواقعية السيـاسية، وقد بدأنا نسمع الكثير منها هذه الأيام. ويبقى السؤال: هل يقبل الشعب السوري بذلك؟ الجواب ليس صعبا، إذا ما أخذنا حِكَم التاريخ: لن يقبل أبدا، ويجب عليه، لتجنب هذه الحقيقة المرة، الصمود، وعلى المعارضة السياسية ألا ترضخ مهما كانت الضغوط، وأن تعرف كيف تمارس السياسة، وعليها أن تؤمن بـأن المستقبل يصنعه الصمود والوحدة وتقديم مشروع كامل لسوريا المستقبل.
أياً تكن المآلات التي وصل إليها الحدث السوري، فإن عنوانه الأساس والدائم هو ثورة شعبية على نظام سياسي خارج منطق الدولة الحديثة، ويحكم بآليات لم تعد صالحة لحكم البشر. لكن مع ذلك، فإن إدارة الصراع من قبل اللاعبين الدوليين، ترتكز على تداعيات الحدث، سواء لجهة صناعة مخارج الأزمة وإنتاج تسوياتها أو حتى لجهة تعريف الصراع ذاته.
المنطق أن تتحمل أطراف الصراع المحلية الجزء الأكبر من مسؤولية مآلات الأحداث، من منطلق أنها الحاضن والمنتج والمشكّل لنمط الصراع الحاصل، لكن المسألة السورية تنطوي على جانب خاص، دولي وإقليمي، فالتدخلات المباشرة من إيران وروسيا كان لها دور فاعل وأساسي في صياغة توجهات الأحداث وتوضيبها على شاكلات معينة، وبالتالي فإن العالم يتحمّل قسطاً كبيراً من المسؤولية، عبر انخراطه في الصراع سلباً أو إيجاباً، ومن خلال إدارته إياه في جميع مراحله، وبخاصة أنه صراع يتراكب فيه المحلي بالإقليمي والدولي، إما بسبب وقوعه على خط الأزمات الدولية المعاصرة، والصراع الروسي- الغربي، أو بسبب تشابكه مع قضايا الأمن العالمي ومستلزماته، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومسألة الإرهاب، وتأثيرهما على السلم العالمي.
لقد حوّلت طريقة إدارة الصراع من اللاعبين الدوليين، سورية إلى كارثة ومستنقع خطر سوف يحتاج العالم لجهود مضنية وتكاليف مرتفعة للتخلص من الآثار السلبية لتداعياته، من خلال دمج الصراع في إستراتيجيات اللاعبين ومشاريعهم الجيوسياسية، في المنطقة والعالم، وبإسقاط رؤاهم وتصوراتهم الخاصة، وهو ما نتج عنه تهميش العنصر الأساسي في الحدث، وهو الشعب السوري ومصيره، وقد ضمنت تلك الإستراتيجيات على الدوام إنتاج ديناميكيات جديدة للصراع عبر تفاعلها مع منظومة أهداف المتصارعين المحليين، أو على الأقل اعتقاد هؤلاء أن اتجاهات الأحداث ستسير لمصلحتهم.
طوال مرحلة الصراع كانت هناك مؤشرات واضحة إلى التحوّلات الحاصلة والمخاطر المتحقّفة، لكن لم يجرِ التعامل معها بجدية، منذ أن هتف الشعب السوري «ياالله مالنا غيرك» كانت تلك رسالة حول هول المجزرة المتوقعة، ورغم توافر الفرص لإحداث تغييرات في ديناميكيات الصراع لم يجرِ استثمارها، أو جرى توظيفها لخدمة إستراتيجيات معينة، ولعل مثال حادثة الكيماوي الشهيرة وطريقة إدارتها خير مثال على ذلك. يومها لم يكن نظام الأسد يحلم بأن تجري مفاوضته على انتقال سياسي وتشكيل طاقم للحكم من المعارضة والنظام. كان يجهز نفسه للقتال الأخير، لكن البدائل التي أتاحتها إدارة أوباما، والتي تتسق مع إستراتيجيتها في تأمين إسرائيل قبل كل شيء، توضح بدرجة كبيرة الطبيعة الوحشية لإدارة المسألة السورية، ذلك أن أميركا فاضلت، وبانتهازية وعلى رؤوس الأشهاد، بين هدف إستراتيجي يتمثل في رغبتها بانتزاع الأسلحة الكيماوية السورية التي ستكون خطراً على إسرائيل تحت أي حكم في سورية، وبين إنقاذ السوريين من المذبحة وإنهاء آلامهم.
لم تكن النقلات التي أجراها اللاعبون الخارجيون، وخاصة أميركا، عبثية، وإنما جاءت في سياق إستراتيجية متكاملة كانت تهدف دائماً إلى تحقيق أهداف ملموسة وعوائد حقيقية، تحت عنوان الابتعاد عن الأزمة وتوريط الخصوم فيها. من يرجع لتاريخية الأزمة سيذهله حجم التصريحات التي أدلى بها قادة عسكريون أميركيون ونظراؤهم في حلف «الناتو» عن عدم وجود إستراتيجية للتدخل في سورية، حتى قبل التدخل الروسي بزمن طويل! كما أن انتقال روسيا إلى مرحلة التدخل المباشر، واتباعها سياسة الإبادة في سورية، لإرعاب الخصوم الدوليين وإثبات الجدارة، كان ترجمة مباشرة للإدارة المتوحشة التي سمحت لها باستعراض فائض قوتها، وشجعتها على ذلك، لعل قوّتها تستنفد بعيداً من خطوط التماس في أوروبا.
ليس ثمّة ما يشي بتغيرات مهمّة في إدارة الصراع في سورية. الأطراف جميعها لا زالت رهينة تقديراتها الخاصة جداً لمصالحها ورؤيتها البعد الاستثماري في الصراع، وانطلاقاً من ذلك، ستبقى محركات الصراع فاعلة، وستستمر عدّتها التشغيلية من موت السوريين واقتلاعهم من أرضهم إلى حين تمتلئ سلال اللاعبين الكبار بالنقاط والأهداف.
الصورة الشهيرة للجنرال الإيراني الدموي قاسم سليماني، وهو يمشي متبخترًا في شوارع حلب الخالية التي دمرتها قواته وقتلت سكانها وهجرتهم منها، تنطق بما لم يستطع القادة الخومينيون في إيران أن يقولوه.
الصورة رسالة إعلامية ضخمة سربتها إيران إلى وسائل الإعلام، وهي تحمل ألف رسالة ورسالة، كأني بسليماني الطاووس العسكري المزهو بانتصاراته يتمتم فيقول: بالأمس حررنا بغداد والمدن العراقية ثم صنعاء، ثم سيطرنا على بيروت، واليوم نحرر حلب، وسينفرط عقد بقية المدن السورية، هي مسألة وقت فقط، وستروني بعد حين أمشي بين أنقاض مدن «عربية» أخرى من منطقة الشرق الأوسط طال الزمن أم قصر، هزمتكم أيتها الشعوب العربية في حلب وفي عقر داركم، وفي عالمكم العربي المتفكك، حكومات تناصر حليفنا الرائع بشار، وهو الذي مكّن لنا في سوريا وهيّأ لأساطيلنا الجوية والبرية والبحرية أن تحتل سوريا، وأخمد ثورة شعبها الذي ينشد الحرية والكرامة، وكان الجسر الذي عبرناه للسيطرة على لبنان، وسمح لبعثاتنا «التشييعية» التبشيرية أن تصول وتجول في سوريا، بل وفي الدول التي أيدت نظام الأسد وناصرته، كل هذا التأييد لبشار فقط، لأنه خصم دموي لتوجهات سياسية تنافس هذه الحكومات في حلبة السياسة، حتى إنني طلبت صحف دولة في المنطقة بعد احتلالنا حلب فوجدت خبر تلوث الفراولة فيها يتقدم على سقوط حلب في أيدينا، وحتى حليفتنا الأزلية روسيا التي صبت وتصب حمم نيرانها على من تسمونهم «أهالينا في سوريا»، وكان دخولها معنا في معركتنا مع الشعب السوري، منحنى مفصليا في تحول ميزان القوى لكفتنا، ليس بوسع أحد أن يوقفها، وهي ماضية في عوننا بلا حدود.
وها هو ذا الهلال الشيعي يحاول الاكتمال في المنطقة، وبذلك يسهل علينا اختراق عالمكم بكل يسر وسهولة، نحن أيها العرب البائسون نجني اليوم في حلب ثمار تحالفاتنا المتماسكة التي تحقق غايات واضحة وأهدافا مرسومة، تحالفنا أيها العرب المشتتون خليط من الاثني عشرية والنصيرية والأرثوذكسية والعرب والفرس والروس، وأنتم كلكم عرب وكلكم سنة وكلكم مستهدفون منا على المدى القريب والبعيد، وكلكم متنافرون، وحتى ثورتكم تشظت لعشرات الثورات وعشرات الفصائل وعشرات الأحزاب وعشرات الخطط، وعشرات الغايات يأكل بعضها بعضًا، ويلعن بعضها بعضًا، يخربون بيوتهم بأيدينا وأيدي فصائلهم المتناحرة، هاتوا لنا قتالاً جرى بين دولنا أو أحزابنا أو فصائلنا أو مذاهبنا أو أعراقنا مع اختلاف مصالحنا وغاياتنا، الروسي والإيراني والعراقي مع نظام بشار كالبنيان المرصوص، استراتيجيتنا ثابتة وتحالفنا متماسك وخلافاتنا مستورة، أنتم أقل نباهة ويقظة من ذاك الثور الذي قال: ذبحت يوم أكل الثور الأبيض، لأننا ذبحنا الكثير ولم نسمع أحدًا من بني يعرب يقول: ذبحت يوم ذبحت سوريا والعراق ولبنان، فانتظروا قادمنا، وانتظروا صورتي تتكرر في مدن عربية مدمرة تنضم إلى قائمة احتلالاتنا.
لم يتقدّم القتل في حلب مجرّداً من «ثقافته». سبقته ورافقته «أفكار» سُلّحت بها جماهير القتل وروّجها موظّفوه وأعيان كلامه.
أبسط تعابير تلك «الثقافة» وأكثرها ابتذالاً عنوانان راجا: مكافحة الإرهاب وصدّ المؤامرة. هذان، كما نعلم جيّداً، من حواضر بيت الكلام الرخيص، تحفل بمثله سجلاّت أنظمة الزنازين والأقبية. ما هو أعقد، وإن كان أقلّ كتابةً وأشدّ تداولاً شفويّاً، أنّ الحلبيّين الذين قُتلوا ويُقتلون ليسوا حلبيّين: إنّهم غير أصليّين، وافدون من الأرياف، أميّون، فقراء، أجلاف وذوو أقدام مشقّقة كأنّها نِعال من لحم. المواصفات «الحضاريّة» التي نسبها النظام وحلفاؤه إلى «السوريّة» لا تنطبق عليهم. إنّهم عبء عليها وزائدة بلا لزوم.
هذا هو الشكل الأسديّ لنزع الأنسنة عن بشر ينبغي أن يختفوا، أو أن يُقتلعوا ويُعاد زرعهم بما يسهّل السيطرة على أنيابهم. بهذا فقط يُسدون خدمة للحضارة يكفّرون بها عن ذنب ولادتهم المستنكَرة.
ونعرف، من تجارب كثيرة سابقة، كيف يمهّد نزعُ الأنسنة لقتل البشر. فالأمور حين تُقدَّم على هذا النحو، مبنيّةً ضمناً على تشاوف طبقيّ وتمايز طائفيّ، تجفّف الحساسيّة المفترضة حيال طفل يُقصف من الجوّ وسيّدة تُغتصب في بيتها وعجوز يُداس بجنازير الدبّابات.
ذاك أنّ المشاعر الرفيعة التي يختصّ بها البشر ينبغي عدم تبديدها على مَن ليسوا بشراً. إنّها ممّا ينبغي الاحتفاظ به لمن هم مثلنا، للضالعين في الحضارة والموغلين في التقدّم.
لكنّ أولئك الذين لا أصول لهم، ليسوا فقط مطرودين من الواقع. إنّهم أيضاً مطرودون من التاريخ إلى زمن عبوديّ بائد يقفز من فوق الأرشيف إلى الأركيولوجيا. نقهرهم ونتفرّج عليهم ونتلذّذ بمرأى الآلات تقضم لحمهم، إذ الأمر لا يعدو كونه مصارعة مُسلّية ومحسومة النتيجة سلفاً بين وحوش جميلة وصامتة تنفّذ أوامرنا ووحوش كلّيّة التوحّش امتلأت أجسادها بدم متّسخ.
ونزع الأنسنة هذا ينسجم كلّ الانسجام مع تسليم النظام المستولي على دمشق بأن يتولّى روس وإيرانيّون ولبنانيّون وعراقيّون قتل سوريّين. فما دام الأخيرون منزوعي الإنسانيّة، حشراتٍ أو بهائم، فليقتلهم أيٌّ كان، لا سيّما وأنّ هذا الـ «أيّاً كان» شريك «حضاريّ» للنظام وقاعدته الوفيّة. هكذا، مثلاً، يُستضاف السيّد قاسم سليماني كي يُشرف بنفسه على سلخ جلودهم المتقرّحة والمجذومة.
ولأنّهم منزوعو الإنسانيّة، ولأنّهم جنس آخر خطير على الجنس البشريّ السويّ، صار غضّ النظر عن انتهاكات إسرائيل وإهاناتها لنظام دمشق أمراً طبيعيّاً أيضاً. ففي مواجهة الحشرات والبهائم، لا يعود مهمّاً ولا مُلحّاً أن يُهيننا مَن هم مثلنا. هذا عَرَض داخل الجنس الواحد، داخل العائلة الواحدة، بالقياس إلى الجوهريّ الذي يفصلنا عنهم.
وبالمعنى نفسه، وكمجرّد تفصيل عديم الأهميّة، لا يستوقفنا بتاتاً أن يكون فلاديمير بوتين، منقذُنا من الحشرات والبهائم، الحليفَ الكبير لبنيامين نتانياهو، أو أن يكون دونالد ترامب، «اليمينيّ» كما يقول جراميزنا «اليساريّون»، شريكاً طبيعيّاً في مكافحة الإرهاب. المهمّ تمتين التحالفات التي تضمن منع الوحشيّ والبهيميّ من أن ينتفض ويتمرّد.
وهم، في آخر المطاف، مجرّد موضوع لنا، ننقلهم إلى مناطق أخرى، ونجعلهم عرضة للتحويل الديموغرافيّ والهندسة الاجتماعيّة... وكم نستحقّ الشكر على معالجتهم بالجراحة بدل الإماتة الفوريّة التي عولج بها سابقون لهم؟
وهذا سلوك لا يقتصر بالطبع على النظام المستولي على دمشق... إلاّ أنّ الأخير صاحب طريقة في هذا السلوك. إنّه مثال وقدوة. إنّه أحد الآباء المؤسّسين. وهو، في الحساب الأخير، «دولة» يُفترض بأفعالها أن تتعالى قليلاً إلاّ أنّها، ومن غير انقطاع، تنحطّ كثيراً.
والحال أنّ مُوقّع هذه الأسطر ليس من المولعين بالهزيمة، ولا من الكارهين للانتصار. لكنّ الشيء الوحيد المؤكّد أنّ الهزيمة تبقى أرقى وأنبل من انتصار تحفّ به «ثقافة» كهذه ويجسّده سلوك كهذا.
وصلت الحرب السورية إلى نقطة التهجير الجماعي التي شاهدناها "لايف" على تلفزيونات العالم، حيث "تكفَّل" النظامُ السوري بنقل عشرات الآلاف ممن بقوا في القسم الشرقي من حلب إلى بقاعٍ أكثر أمناً.. يمكن أن نتساءل عن الجهد الدولي، ليس من باب الترف أو التسوّل أو محاولة الاستجداء، ولا حتى السخرية، بل هو تساؤلٌ مشروعٌ ينطلق من الواجبات التي يضعها المجتمع الدولي على عاتقه. وبعد قراءة ميثاق الأمم المتحدة، وبعض بنوده (إغاثي- أخلاقي- إنساني)، ليس المطلوب التدخل لصالح معظم الشعب السوري، ولكن الملح هو الضغط على الأطراف كافة، ليتم الدخول في حالة تفاوضٍ حقيقية، مع ضغط آخر لتجميد الأوضاع العسكرية في الداخل، حتى يتمكّن باقي السوريين من متابعة حياتهم..
في ظرف دولي تصالحي، أرسلت الولايات المتحدة سفيرَها الشهير روبرت فورد، بعد قطيعة السنوات التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري، وسحبْ الإدارة الجمهورية بقيادة جورج بوش سفيرتها آنذاك مارغريت سكوبي، وقرّر الرئيس باراك أوباما، ضمن موجة التوافق الواسعة، إعادة سفيرٍ إلى دمشق، ووجه البيت الأبيض الرسالة التالية: "إن تعيين روبرت فورد يمثل التزام أوباما بخدمة مصالح الولايات المتحدة، عن طريق التعاون وتحسين العلاقات مع سورية حكومة وشعباً".
بعد عام فقط من ذلك فوجئ أوباما، على ما يبدو، كما فوجئ العالم، بالثورة السورية، وكان على السفير عندها أن ينفذ بعض ما جاء في رسالة البيت الأبيض بتحسين العلاقات مع سورية، وتحديداً مع شعبها، بعد أن بيّنت الثورة أن هناك مسافة شاسعة بين القيادة وهذا الشعب. انتظر فورد أربعة أشهر، وانطلق بسيارته إلى حماه، حين سجلت ساحتها العدد الأكبر من المتظاهرين السلميين الذي تجاوز النصف مليون، حيث استقبله الحمويون بالورود وأغصان الزيتون، والتقط "سيلفي" في ساحة العاصي، ثم عاد إلى مقر سفارته.
تحولت، بعد هذه الزيارة، صفحات السفارة الأميركية على مواقع التواصل إلى ما يشبه صفحات الناشطين الذين يبثون الأخبار المحملة بوجهات النظر العاطفية، والصور المؤثرة المذيلة "بهاشتاغات" متنوعة، يَعثر عليها الباحث في الإنترنت على أي شيء. وصارت صفحة سفارة أعظم بلد في العالم تشبه تلك التابعة لصغار الفيسبوكيين، ما يعني العجز التام الذي يخفيه قناعٌ سميكٌ من بهلوانيات ذلك السفير الذي ملأ الدنيا صراخاً، لم ينتج عنه أي طحين. كانت مواقف فورد وتصريحاته وسلوكه العام متقدمةً بخطوة عن موقف حكومته الذي بدا بطيئاً وبليداً، وبدا الرجل الذي كان مطلوباً منه فتح صفحة جديدة مع النظام كأنه يحاول جرّ حكومته إلى اتخاذ موقفٍ شديد وحاسم، فانتهى به المطاف إلى التقاعد والخروج النهائي من سورية، ومن الدبلوماسية الأميركية برمتها.
لم يكن فورد هنا سياسياً حقيقياً، ويفصح تاريخه الخجول عن ذلك، حيث مارس السياسة بالكاميرا المحمولة والتصريح الغاضب، وتغريدات المواقع واسعة الانتشار، وغلب على نشاطه عندما كان في سورية الطابع الاستعراضي والإعلامي، وتحرّك في شوارع دمشق، كمن يغيظ النظام ليس أكثر، ونجح بالفعل فيما لم يكن له عائدٌ على المتظاهر السلمي.
لم يرفع السفير السابق يده عن الملف السوري، حتى بعد أن ترك السلك الدبلوماسي، فما زال يطل بأنفه عند كل مناسبة، وأصبح يتنبأ ويحلل من موقع الخبير الاستراتيجي، وتصرّ الصحف على أخذ ما يقوله على محمل الجد، وإبرازه في مقدماتها. أهم ما جاء، أخيراً، على لسانه تحذيرٌ من أن يحل بمدينة إدلب ما حل بشقيقتها الكبرى حلب! الحقيقة أن روبرت فورد وجه سياسي فاشل، لم يتخطَ مرتبة سفير، وشكلت معرفته باللغة العربية تذكرة عبور إلى مزاولة الدبلوماسية في بلادنا، ولم نرَ من نتائجها غير الإبهار البصري الذي تقدمه برامج "الشو". ويدل الواقع المؤسف على أن هذا النمط من الدبلوماسية ليس مختلفاً عموماً عن أسلوب التعامل مع الحرب السورية في معظم دول الغرب.
كأنها النكبة. الخروج. الحلم بالعودة والوعد بها. ولكن، من دون مفاتيح على الأغلب. فلا معنى لحمل مفاتيح بيوتٍ لم تعد موجودة على وجه الأرض. لا معنى لترك طبخةٍ على النار، إذ لم تكن هناك طبخة. ولكن، كانت هناك نيران التهمت كل شيء. مع ذلك يكتبون على الجدران، والقلوب، راجعين يا هوا. هذا ما يفعله واحدٌ نيابة عن مدينة. لا ضرورة لكثيرٍ من الكتابة. واحدٌ يختصر الكل. حائطٌ واحدٌ لا يزال في الوسع الكتابة عليه، ينوب عن جدرانٍ سقطت وعادت إلى مادتها الأولى. قلت كأنها النكبة. مجرّد تسطير هذه الكلمة يحضر العدو. فماذا نسمّي من يجرّدون حلب مما يجعلها مدينةً، ويجعلها قابلةً للسكنى، ويجعلها مجالاً للاجتماع البشري، على النحو الذي تلحظه كلمة مدينة في تاريخ العمران. ماذا نسميهم؟
كنا قادرين على التسمية. كان العدو واضحاً، والتسمية ممكنةً ولائقةً بالمسمّى. كان القاموس محدوداً: ثلاثة أو أربعة ألفاظ. وكان ذلك كافياً لوصف كل شيء. لا حاجة للمزيد. من يستطيع أن يزيد على كلمة عدو؟ لا أحد. لا مجال لاستزادة. غير أن ما يجري اليوم في حلب القتيلة، وسورية المثخنة بالجراح، يستعصي على التسمية، إن أردنا تجاوز قاموس التنابز السائد. أي مأساة أن يتقزَّم العدو، وتتضاءل أفعاله، ويرتد إلى الوراء، عندما تحضر حلب المكللة، مثل المسيح، بالشوك والدم والخذلان؟ أليس هذا أقسى ما تُمتحن به اللغة؟ وأقسى ما تُمتحن به المعاني؟ بل، وقبل كل شيء، أقسى ما تُمتحن به المشاعر؟ لن أدير وجهي إلى الجهة الأخرى، حيث يتحول الموت إلى حياة والهزيمة الإنسانية المريعة إلى انتصار، والخيانة الوطنية إلى مقاومة. لن أفعل. فعلى ذلك الجانب من الجرح ينقلب كل شيء إلى ضدّه، بل يصبح كاريكاتوراً مسخاً للوحشية، وانتهاكاً لدستورها. إذ حتى الوحشية لها حدّ تقف عنده.
لا كلمة "الثورة" كافية ليحلّ بحلب ما حلّ بها ولا "التحرير". هاتان كلمتان مزوّرتان في واقع حلب، بل في الواقع السوري كله. فلم تعد هناك ثورةٌ مذ تم دحر هبوب الشباب وخروجهم الجماعي إلى الساحات العامة، وطردهم إلى الخارج، إلقاؤهم في السجون، إعدامهم جماعياً، وإحلال قوى نظيرة للنظام الوحشي، ومماثلة له، في "الساحة"، أما التحرير فلا شبيه له إلا الاحتلال. ولم يكن صعباً على شرائح سورية واسعة أن تصف ما يجري بالاحتلال، أياً كانت وجوه الذين يتقدمون من المدن والبلدات المحاصرة. أياً كانت الرايات التي يرفعونها، فقد تساوت راية الدولة براية المليشيا. هذا هو رأيي. ولا انحياز لي في هذه الحرب إلا للسوريين، من بقي منهم، ومن ملأ طرقات العالم. هؤلاء هم الضحايا. وهم الذين يملكون كلمة الحق. لا طرف غيرهم. هم الذين دارت عليهم المحن، وباسمهم، من جانبي الخندق. وهم الذين كتبوا: راجعين يا هوا، بما تخزَّن في أسماعهم من أغنيات الصباح الفيروزية، السورية بامتياز. قلت من قبل كأنها النكبة. وهذا ما طُرح على صادق جلال العظم، في آخر حواراته المنشورة عندنا (ضفة ثالثة). على الرغم من كل هذا التهجير القسري الهائل، لم يقبل العظم، الدمشقي ابن الدمشقي، هذا الوصف. قال إنه ليس لدى السوريين، الذين هُجّروا، شعورٌ بأنهم فقدوا وطنهم، مثلما كان عليه الحال عند الفلسطينيين. تنبأ المفكر السوري الكبير الراحل بأن قسماً كبيراً من هؤلاء سيعودون. وكاد يقول إنه، هو نفسه، سيعود.. لكنه استدرك: لا أظن أنني سأعيش حتى تلك اللحظة بسبب وضعي الصحي. صدقت يا صادق جلال العظم. على الأقل في الشق الأخير، للأسف.