
ثقب أسود للمعلومات: كيف غذّت الطائفية ووسائل التواصل فوضى ما بعد الأسد في سوريا
في دراسة معمقة صادرة عن "المجلس الأطلسي"، تناول الباحث غريغوري ووترز، المتخصص في الأرشيف السوري، والباحثة كايلا كونتز من مدرسة كارتر لتحليل الصراعات، شبكة معقدة من التحديات الإعلامية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وقد ركزت الدراسة على تزايد الطائفية، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، والفراغ المعلوماتي الذي وُصف بـ"الثقب الأسود"، وانعكاس ذلك على استقرار البلاد.
إشكالية الحقيقة في زمن ما بعد الأسد
أكد الباحثان أن السوريين ما زالوا يكافحون، بعد الإطاحة بالديكتاتور بشار الأسد، من أجل الوصول إلى معلومات دقيقة بشأن الوضع الأمني وقرارات السلطة الجديدة، ومع غياب قنوات إعلامية موثوقة، بات معظم السكان يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار، ما أدى إلى تفشي الشائعات، وتضخيم الخوف، وتغذية الانقسام الطائفي.
وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر فوضوي
تشير الدراسة إلى أن الساحل السوري، الذي يعد مركزاً للطائفة العلوية، غرق خلال الأشهر الماضية في أخبار كاذبة، لا سيما عقب مجازر دامية شهدها الساحل. وقد ساهم ذلك في تبني روايات متضاربة بين الطوائف، زادت من عمق الهوة المجتمعية. وتعتمد هذه الروايات في الغالب على صفحات فيسبوك ومجموعات واتساب، في ظل انعدام قنوات اتصال حكومية فاعلة.
ثلاث سمات أساسية لأزمة الإعلام السوري "هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، من الشائعات المحلية إلى الحملات المضللة العابرة للحدود، استخدام مجموعات واتساب وصفحات فيسبوك كوسائل بديلة للمعلومة، دون القدرة على تنظيم قنوات رسمية، اتساع الخوف الطائفي كنتيجة مباشرة لهذا الفراغ الاتصالي، مما خلق مناخاً من عدم الاستقرار المجتمعي.
فيسبوك.. المشكلة الأكبر
وصفت الدراسة فيسبوك بأنه اللاعب الأهم – والأخطر – في المشهد الإعلامي السوري. فمنذ انطلاق الثورة عام 2011 وحتى الانهيار الأخير للنظام، كانت هذه المنصة مصدراً رئيسياً للأخبار، ولكنها في الوقت ذاته كانت أداة لنشر الكراهية والمعلومات المضللة.
مثال على ذلك: يوم 6 آذار، حيث انتشرت أخبار عن مذبحة استهدفت العلويين. ورغم تباين الروايات، كانت النتيجة واحدة: تراشق طائفي على الإنترنت، وترسخ لمفاهيم إبادة جماعية من طرف، وتزييف للحقائق من طرف آخر. أحد عناصر الأمن في مدينة القدموس وصفها بـ"معركة روايات تهدد السلام المجتمعي".
التحريض العابر للحدود
تؤكد الدراسة أن وسائل الإعلام الأجنبية الداعمة لمحاور إقليمية (مثل إيران، إسرائيل، وحزب الله) لعبت دوراً في تضخيم الأخبار الكاذبة، مثل شائعة عودة ماهر الأسد إلى الساحل، والتي تسببت في احتفالات مسلحة ومخاوف من عودة الحرب. وقد ترافقت هذه الشائعات مع حملة واسعة على وسائل التواصل، توعد فيها علويون بالانتقام من السنة، ما أجج التوتر على الأرض.
ارتباك المعلومات وتراجع الثقة بالحكومة
رغم بعض المحاولات الرسمية، مثل إنشاء صفحات فيسبوك لمحافظات اللاذقية وطرطوس، إلا أن تأثيرها بقي محدوداً مقارنة بصفحات خاصة أكثر تفاعلاً. ومع غياب ثقة الأهالي بالحكومة، لم يُعترف بهذه القنوات كمصادر رسمية.
كما ظهرت مجموعات واتساب يديرها مسؤولون محليون لنقل المعلومات الأمنية، لكنها بقيت محدودة بعدد أعضائها، وغالباً ما طغت عليها أحاديث غير متعلقة بالأمن، أو اقتصرت على الذكور دون النساء.
معضلة الاتصال الرسمي
لا تزال السلطات تعاني من غياب آليات اتصال مزدوجة الاتجاه. فصفحة واحدة تابعة لوزارة الداخلية لا تكفي، ولا توجد وسيلة رسمية للرد على الشائعات أو تقديم بلاغات من المواطنين.
الارتباك حول هوية الدولة الجديدة
واحدة من الإشكاليات الأساسية، بحسب الدراسة، هي أن السوريين ما زالوا يتساءلون: "من يمثل الحكومة؟"، في ظل غياب واضح للرؤية المؤسسية. فحتى القوانين الجديدة مثل حظر التجوال أو تسوية أوضاع الجنود السابقين لا تصل إلى السكان بشكل واضح، ففي مدينة طرطوس، عبّر كاهن من السقيلبية عن قلقه قائلاً: "الناس تسألني من هو مجرم الحرب؟ من الذي سيتم اعتقاله؟"، في إشارة إلى الغموض السائد حول السياسات الجديدة.
التناقض بين الحقائق الطائفية
في اللاذقية، أقر بعض السنة بأنهم لم يعرفوا إذا كانت المجازر حقيقية أم لا، بينما قال علويون إن ما حدث إبادة جماعية بحقهم. هذا التضارب لم يقتصر على الإنترنت، بل أصبح جزءاً من الهوية المجتمعية الطائفية، وحوّل محاولات الحوار إلى مشادات حول "الحقائق".
مقترحات لحل الأزمة الإعلامية
توصي الدراسة بعدة خطوات لمعالجة هذا الانهيار الإعلامي "إصدار تقرير رسمي وموثوق من لجنة تحقيق مستقلة حول أحداث 6 آذار، وتوسيع شبكات المجتمع المدني وتدريب صحفيين محليين ليكونوا مصدراً موثوقاً للأخبار، وإنشاء قنوات حكومية للإعلان عن المعلومات الأمنية الهامة، ودعم مالي دولي لمنصات الإعلام المحلي التي تعمل وفق المعايير المهنية"
ترى الدراسة أن إعادة بناء منظومة المعلومات في سوريا لا يمكن أن تتم بين ليلة وضحاها، ولكنها ضرورية لردم الانقسام الطائفي، ومواجهة الخوف، وإرساء قواعد الاستقرار في مرحلة ما بعد الأسد. فبينما لا يمكن فصل البلاد عن وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، إلا أن الحل يبدأ بإعادة الثقة في المعلومات الرسمية، وتوسيع قنوات الحوار، وبناء إعلام حقيقي يخدم الناس لا الطوائف.