عامان مثقلان بالأحداث، لم يمحيا من ذاكرة المخيم ذلك اليوم. اسألْ أياً من أبناء المخيم عن "الأربعاء الدامي"، سيروي لك فصولاً من وجع محفور في عمق الذاكرة، وسيحدثك عن أتعس يوم طلعت فيه الشمس على المخيم، إنه الجرح الذي ترك ندبةً دائمة على جدار القلب.
صباح يوم الأربعاء 13/3/2013، كان المخيم على موعدٍ مع الموت، كانت إشاعات تتناهى إلى المسامع منذ أيامٍ عن نية الثوار اقتحام مقر "الإسكان العسكري"، آخر معاقل النظام السوريّ داخل المخيّم. ولكن، ربما ظنّ كثيرون، وأنا منهم، بأنها الحرب النفسيّة، إذ كيف يمكن للخطط العسكريّة أن تتحول إلى حديث الشارع؟
عند السادسة صباحاً، كانت رشقاتٌ كثيفةٌ من الرصاص مسموعة، لا جديد، فالاشتباكات من واقع الحال يوميّاً، إلا أنّ المقر العسكري كان يسقط شيئاً فشيئاً في يد الثوّار. حكاية الخيانة التي جعلت من سور الصين العظيم أضحوكة الغزاة تتكرر مجدداً، ثكنةٌ منيعةٌ مدججةٌ بالدبابات والآليات سقطت بيد شبابٍ بأسلحةٍ خفيفة، بعضهم جاء صباحاً على متن درّاجة، وعاد على متن دبّابة أو ناقلة جند.
أخبار السقوط ومرارته دفعت ضابطاً مناوباً في قطعةٍ عسكريةٍ على رأس تلةٍ تقع إلى الغرب، إلى الانتقام من أبناء المخيّم ومعاقبتهم بجريمةٍ لم يرتكبوها، فأطلق نيران المدافع والدبابات باتجاه المدنيين طوال يومٍ، بدأ القصف منذ السادسة والنصف صباحاً، حين سقطت أول قذيفة. وخلال النهار، ظلت الحمم تتساقط على منازل المخيم. كان القصف بمعدل ثلاث أو أربع قذائف في الدقيقة، وبلا توقف. الاتصالات شبه مقطوعة، والكهرباء غير متوفرة، والسّير في الشارع انتحارٌ حقيقيٌ، كان يوماً أسود بكل معنى الكلمة. القصف عشوائيٌ، لم تفلت منه المنازل ولا المدارس ولا حتى المساجد، الأخبار المؤلمة تتوالى بسقوط الجرحى، والأصوات تثير في النفس مشاعر كثيرة، أصوات الصّراخ والانفجارات والزجاج المتحطم، إلا أن أسوأها كان صفير القذيفة في السماء. يقال إنّ المرء يجب ألا يخاف من صفير الرصاصة، لأن سماعه يعني أنها تجاوزته، إلا أنّ الأمر مختلف مع القذائف، صوت الإطلاق عميقٌ وبعيد، وصوت الانفجار، وبينهما صوت صفيرٍ يجعلك تنتظر بحيرةٍ، محاولاً تحديد ما إذا كان يتجه نحوك أم لا؟ وعندما تكتشف النتيجة، لن يكون أمامك وقتٌ، إلا لمواجهة قدرك.
في خضمّ هذه الأحداث، كان غريباً أن يظهر رجلٌ غريبٌ بسيارةٍ صفراء، يركنها وسط حيٍّ سكنيّ، يترجّل منها ويمضي مبتعداً، عندما حاول بعضهم التحقق منه، وسؤاله عن وجهته، راوغ قليلاً ثم انبطح، واستخدم زر التفجير في يده. سيارة مفخخة تنفجر، وسط المنازل التي تتعرض للقصف منذ الصباح. أيُّ همجيّةٍ وإمعانٍ في القتل لدى هؤلاء؟ شدّة الانفجار حطّمت منازل الحي وجرحت كثيرين، وأجزاءٌ من السيارة تناثرت على مساحةِ شارعين، أمّا الرجل فركض هارباً بين الأزقّة. لكن، هيهات؟ أقسم العجوز، قبل الشاب، على الإمساك به، أراد الجميع قطف رأسه، لكنّه كان بقبضة الثوار خلال دقائق، أمضى الرجل آخر يومٍ في حياته كأسوأ ما يكون، اعترف لمن حقق معه بأنه قبض مبلغاً ليضع السّيارة في المخيم. اعترافٌ لم يكن لينقذ حياته، أو يعطيه الوقت للتوبة، وربما لم يطلبها، كانت النفوس تغلي على وقع القصف وأخبار الشهداء، وخلال ساعات، كان مربوطاً إلى برج للكهرباء ميتاً، يلبس كيساً قماشياً عليه عبارة "هذا جزاء ما قدمت يداك".
في الحيّ الشرقي للمخيم دمارٌ هائلٌ، وأسقف هبطت بأكملها إلى الأرض، الشوارع سُدّت بالركام، وبات واضحاً أن القصف الذي استمر على الحيّ طوال ساعات المساء، يهدف إلى تدميره بأكمله، كان بعض الأهالي ما زال يأمل أن يجد الأمان في منزله، بعيداً عن الجدران الخارجيّة، لكنّ شدّة القصف أجبرت محمد على الخروج تحت النار نحو الملاجئ، خوفه على ولديه دفعه لركوب المجازفة، كيف لا؟ فياسمين وضياء ليسا مثل بقيّة الأطفال، هما هبةُ الله لرجلٍ مسنٍ أنفق ماله وشبابه للعلاج من العقم، أمضى نصف عمره ينتظر حتى فرح بقدومهما معه كلُّ أهل المخيم، كان يودُّ، في ذلك اليوم، لو يحميهما بدمه وعيونه. ركضت العائلة من زقاقٍ إلى آخر، لتكون على موعدٍ مع الموت بقذيفةٍ حاقدٍة قطّعت الأطفال وأمّهم إلى أشلاء محترقةٍ، وأبقت على الرجل ليتجرّع حسرتهم بقيّة عمره.
مشاهدُ كثيرةٌ لا تنسى في ذلك اليوم، كان فريقٌ من المتطوعين يحملون حقائب الإسعافات الأوليّة على ظهورهم، يركضون من حيّ إلى آخر، بحثاً عن الجرحى، يطاردون القذائف! يخاطرون بحياتهم ومستقبلهم لإنقاذ الآخرين، مشهدٌ يختصر معاني الشجاعة والتضحية، غير آبهين بالخطر ينقلون الجرحى إلى الملاجئ، حيث يوجد من بقي من أطباء المخيّم الذي كان، يومها، مثل خلية نحلٍ كبيرة. خصّص بعضهم سيارته لنقل الجرحى، وتطوّع آخرون لنقل الفراش والماء للملاجئ، وأفواجٌ من النّاس كانت تجري، من حيٍّ إلى آخر، للمساعدة في انتشال الجرحى وإخلاء المنازل والاطمئنان على الأقرباء والجيران، على الرغم من أنّ القصف لم يهدأ لحظةً.
"لم يكن أبناء المخيم يوماً يداً واحدةً، كما كانوا في ذلك الوقت"
عدت إلى المنزل ليلاً، كان الظّلام يلفُّ كل شيءٍ والأسى يملأ صدري، فتحت الباب الخارجيّ. لم أشعر بوحشةٍ في بيتي قط كما شعرت في تلك اللحظة، لم يطل تفكيري، إذ وجدت اللصوص قد اقتحموا المخزن، وسرقوا منه مولّداً كهربائيّاً وعشرات الليترات من الوقود، سلعةٌ لا يعرف قدرها إلا من جرّب الحصار، زادتني السّرقة قهراً على قهر، وهمّاً فوق همّ، إلا أن أكثر ما كان يشغل بالي حينها هو الهجرة المتوقعة في اليوم التالي، كنّا نعتقد أن بقاء الأهالي في المخيّم أفضل ضامنٍ لسلامته، وكنّا نستلهم العبرة من مخيّم اليرموك الذي خرج معظم الأهالي منه، عقب غارة الطيران الحربي على جامع عبد القادر الحسيني، حدث ذلك قبل ثلاثة أشهر، كان هذا أكثر ما يرعبني، لم أستطع أن أتخيّل نفسي نازحاً أتقاسم، أنا وأهلي، صفّاً مدرسيّاً مع عائلتين.
في الأيام التالية، سقط شهداء آخرون، وكان منظر الباصات وهي تحمل العفش والأطفال أكثر ما يكون بؤساً وإثارةً للقهر، خرج بعض الأهالي عبر الطريق البديلة للمخيم المحاصر، إلا أنّ إرادة الحياة بداخله كانت أقوى، لم يكن أبناء المخيم يوماً يداً واحدةً، كما كانوا في ذلك الوقت، عشراتٌ من الشباب تعاهدوا على الحفاظ على مقومات الحياة في المخيم، وفي مقدمتها صيانة شبكة الكهرباء والماء والهاتف، وكانت في وضعٍ مزرٍ. انتشر على تلك الأعمدة شبابٌ لا ينتظرون أجراً ولا شكراً. بعد أسبوع، عادت الشبكة وبدأت الحياة تسري مجدداً في أزقة المخيّم، انتصر المخيم وهُزم ذلك القاتل. نعم هُزم، حتى أنَّ جندياً لم يعرف الماء سبيلاً لجسمه منذ أشهر، كان يتأمل طابور السيارات الواقف أمامه على الحاجز، سأل أحدها عن جهة قدومها. قالوا له جئنا من مخيم خان الشيح. باستغرابٍ ردّ عليهم: "العَمَىْ بقلبكِنْ... تلات آلاف قزيفةِ ضْرَبنا عليكِنْ.. لَكْ لسَّاتكِنْ عايشين؟!".
لا جديد بالنسبة لي فيما يتعلق بتصريح مدير المخابرات الأميركية الذي قال إن أميركا لا تريد انهيار النظام السوري، فهذه النقطة من أكثر النقاط التي بذلت شخصياً جهداً من أجل تثبيتها لدى السادة "المعارضين" منذ الشهر الأول للثورة، وكتبت عنه في دراسة مطولة في أواسط 2011 وزعت على جميع "أقطاب" "المعارضة". لا يحتاج إدراك هذا الأمر إلى مقابلة سفراء ووزراء، ولا إلى وثائق، بل يحتاج إلى عقل سياسي فحسب يدرك طبيعة النظام السوري والوضعية الخاصة لسورية وأهداف السياسة الأميركية.
كان هناك حماقة أكيدة لدى "المعارضين" الذين توقعوا تدخلاً عسكرياً أميركياً لإسقاط النظام، وصرعوا الدنيا يطالبون به. كما كان هناك حماقة أخرى مقابلة لدى أولئك الذين صرعونا أيضاً بشعار "لا للتدخل الخارجي" (وهو شعار رفع تحديداً إزاء التدخل العسكري الأميركي ولا شيء سواه)، لأن من يرفع هذا الشعار يعتقد أيضاً، وضمناً، أن هذا التدخل وارد، أو ربما أرادوا أن يثبتوا للنظام "الوطني" كم هم وطنيون.
التدخل العسكري الأميركي لإسقاط النظام السوري وهم، والأحمق من يصطنع خلافاً حول هذا الوهم، سواء المنادي به أو الرافض له. للأسف هذا الخلاف الوهمي صرعنا به هؤلاء الحمقى من الطرفين، وبنوا تشكيلات سياسية هشة استناداً إليه، لا تزال تشكل عقبة حقيقية أمام أي عمل سياسي حقيقي وجدي.
العقلاء فحسب هم أولئك الذين طالبوا وصرخوا بأنه ينبغي علينا ألا نختلف إزاء شيء هو في عداد الوهم، وهؤلاء يعدون على أصابع اليد الواحدة.
بعد أربع سنوات على الثورة السورية، سأتفق بشكل كامل دون أي تردد مع النظام السوري ووسائل إعلامه وكل القوى المتحالفة معه بأن سوريا تعرضت لمؤامرة شيطانية كان هدفها تدمير سوريا، وتشريد شعبها والقضاء على دورها الاستراتيجي التاريخي في المنطقة. سأتفق أن المؤامرة استهدفت «قلب العروبة النابض» وخنق آخر رمق عروبي قومي في المنطقة العربية. لن أختلف معكم. أتفق معكم أن المطلوب هو الإجهاز على كل من يرفع شعاراً عروبياً يذكـّر العرب بهويتهم، ويريد أن يجمع شملهم تحت راية عربية واحدة. ماشي. سأتفق معكم أن المطلوب تدمير أي نظام عربي يحلم بأن يكون لديه قرار وطني مستقل حقيقي. ولن أختلف مع الرئيس السوري عندما قال قبل أيام في لقاء مع مسؤول كوري شمالي إن سوريا وكوريا الشمالية مستهدفتان من أمريكا لأنهما صاحبتا قرار وطني مستقل، وترفضان الهيمنة الامبريالية والصهيونية على العالم. ماشي يا سيادة الرئيس.
سأتفق مع حلف الممانعة والمقاومة، وسأبصم له بالعشرة أن رأس سوريا مطلوب لأنها العمود الرئيس في حلف الصمود والتصدي لقوى الهيمنة والاستكبار العالمي. ماشي. سأتفق معكم مئة في المئة أن المطلوب من المؤامرة على سوريا ضرب الجيش السوري في الصميم وتفكيكه كونه أحد الجيوش العربية القليلة الباقية شوكة في خاصرة العدو الصهيوني إسرائيل. سأتفق معكم أنهم قضوا على الجيش العراقي، وقد جاء دور القضاء على الجيش السوري الباسل. ماشي.
لن أناقشكم بأن سوريا هي البلد العربي الوحيد الذي استطاع تأمين الأمن الغذائي والدوائي، فأمّن مخزوناً استراتيجياً من القمح لعشرات السنين، كما بنى مصانع أدوية عظيمة أمنت للسوريين الدواء، لا بل كانت تقوم بتصدير الفائض إلى الخارج. لن أختلف معكم في أن المطلوب كان القضاء على البنية الصناعية في سوريا، وخاصة في حلب التي كانت تحتض أهم المعامل في سوريا، وتنتج أعظم السلع والبضائع. لن أختلف أيضاً معكم بأن المؤامرة استهدفت الاقتصاد السوري الذي بدأ يتعافى بشكل رائع في العقد الأول من هذا القرن. إن قلتم إن سوريا تعرضت لمؤامرة، سأقول لكم، لا بل تعرضت لأبشع مؤامرة عرفها العرب خلال تاريخهم الحديث. ماذا تريدون أكثر من ذلك. نحن متفقون.
لكن دعوني الآن أسألكم: من الذي نفذ تلك المؤامرة الحقيرة على سوريا، ومن الذي وفر لها كل أسباب النجاح؟ من الذي قضى على دور سوريا في المنطقة، وحوّلها من لاعب إلى ملعب، أو حتى إلى ملعوب به؟ من الذي حوّل سوريا من فاعل إلى مفعول به؟ أليس الذي ورطها في صراع داخلي، وفتح كل الأبواب للقاصي والداني كي يدخل ويعبث بأمن سوريا، ويجعلها ساحة لتصفية حسابات دولية وإقليمية وعربية؟ البادئ دائماً أظلم. ومن بدأ اللعبة الخطيرة؟ إنه النظام الذي يشتكي الآن من المؤامرة.
من الذي جعل سوريا تابعاً ذليلاً الآن لقوى إقليمية كأيران؟ من الذي جعل الجنرال الإيراني قاسم سليماني يظهر في الإعلام على أنه القائد الحقيقي لسوريا عسكرياً وسياسياً؟ من الذي جعل أصغر مسؤول إيراني يصرح بأن دمشق هي مربط خيلهم؟ من الذي جعل الإيرانيين يتشدقون ليل نهار بأنه لولاهم لما صمد بشار الأسد ساعة واحدة؟ هل كنتم ستسمحون لإيران بأن تتصرف بهذه الطريقة لو كان لديكم فعلاً قرار وطني مستقل يا سيادة الرئيس؟ ألا تشعرون بالخجل والدونية عندما تسمعون هيثم مناع «المعارض الوطني الشريف» وهو يتهم النظام بأنه ليس سيـّد قراره، وبأن أهل الحل والعقد، المسؤولين عن سوريا، موجودون في طهران وليس في دمشق؟ كيف تردون على المبعوث الدولي إلى سوريا الأخضر الابراهيمي عندما يكرر كلام هيثم مناع بحذافيره؟ ستقولون الآن إن المؤمرة هي التي جعلت النظام يسلم مقاليد الأمور لإيران. وطبعاً هذا كلام فارغ، فلو أنكم تصرفتم بحكمة في بداية الثورة، ولم تضحك عليكم إيران وروسيا وتدفعا بكم لمواجهة الشعب بالحديد والنار لما أصبحتم الآن مجرد ألعوبة في أيدي الملالي. لماذا لم تقولوا لإيران التي قالت لكم إنها قادرة على القضاء على الثورة السورية كما قضت على الثورة الخضراء، لماذا لم تقولوا لها إننا لا نريد أن نفتح أبواب جهنم على سوريا؟ لماذا قبلتم معها بسحق الثورة بدل النزول عند مطالب الناس؟ هل كنتم ستجدون أنفسكم الآن لعبة في أيدي إيران لو أنكم لم تتركوا الأمور تنفلت من أيديكم بسبب حساباتكم الحمقاء؟ هل كنتم ستفقدون السيطرة على قراركم الوطني المستقل؟
رأس العروبة مطلوب في دمشق. صحيح. لكن من الذي جعل السوريين يكفرون بعروبتهم؟ أليس الذي لم يترك سلاحاً إلا واستخدمه ضدهم لمجرد أنهم طالبوا بقليل من أوكسجين الحرية؟ كيف تريدون من السوريين أن يفتخروا بهويتهم إذا سلطتم عليهم أبشع أنواع الوحوش العسكرية والأمنية؟ إن السياسة التي اتبعتموها مع السوريين بعد أن ثاروا شبيهة تماماً بما تفعلونه مع الجنود السوريين عندما يلتحقون بالجيش لأول مرة. لطالما شاهدنا الضباط يدوسون كرامة الجنود، ثم يطالبونهم بأن يعتزوا بأنفسهم. نكتة. هل كان العالم ليعزلكم ويحاصركم ويطردكم من المنظمات العربية والدولية، ويحرم السوريين من أبسط المواد لو أنكم لم تجرموا بحق السوريين؟ هل كان الشعب السوري سيجد نفسه في بطون الحيتان والأسماك في عرض البحار لو أنكم لم تفضلوا الحل العسكري الأمني الإجرامي على الحل المدني منذ الأيام الأولى للثورة؟
لن نختلف معكم بأن سوريا كانت حاضنة لكل حركات المقاومة في المنطقة. ماشي. لكن من الذي دمر هذه الحاضنة الآن سوى طيشكم وعنجهيتكم؟
هل كنتم لتستعينوا بكل الميليشيات المرتزقة لو أن جيشكم مازال قادراً على مواجهة المؤامرة؟ من الذي أوصل الجيش السوري إلى هذا الحال البائس؟ المؤامرة أم سياستكم الرعناء؟ ترمون بجيشكم في قلب جهنم ثم تشتكون من المؤامرة. نعم فإن أعداء سوريا يريدون القضاء على الجيش السوري، لكن بربكم من يقود الجيش؟ ليس بإمكانكم أن تتهموا أمريكا وإسرائيل مباشرة هنا، فأمريكا لم تطلق ولا حتى وردة على جيشكم، لا بل هبت بطائراتها لنجدتكم في شرق وشمال سوريا عندما بدأت تهددكم داعش فعلياً. إذاً: لا تقولوا لنا إن أمريكا دمرت جيشكم كما فعلت في العراق.
لنتحدث أخيراً عن الدمار الهائل الذي جعل سوريا تبدو كمدن الحرب العالمية الثانية وربما أبشع. لقد تحولت المصانع والصوامع إلى حطام. لكن كل ذلك بفضل همجيتكم. لم تتركوا مصنعاً ولا مدرسة ولا جامعاً ولا صومعة إلا وأحرقتموها بحجة دخول الإرهابيين إليها. ثم تشتكون من تدمير سوريا ونهضتها واقتصادها. لن أختلف معكم أن العصابات المسلحة ساهمت في التدمير والتهجير. لكن هذا الدمار الهائل يحتاج إلى طائرات، وصواريخ عابرة للمدن، وجحافل دبابات، ومدرعات، ومدفعية ثقيلة جداً، وراجمات صواريخ، وسلاح كيماوي. وكل ذلك ليس متوفراً لدى الجماعات الإرهابية. ولو توفر بعضه، فبالتأكيد لن يكون قادراً على إحداث كل هذا الدمار الرهيب. ربما دمرت الجماعات الإرهابية عشرين في المئة، لكنكم أنتم دمرتم ثمانين في المئة من سوريا بهمجيتكم وسياسة الأرض المحروقة، لأن جيشكم هو الوحيد الذي يملك القوة التدميرية العسكرية الحقيقية. إذاً من المتآمر على تدمير سوريا؟ بالتأكيد أنتم وجيشكم. أو كي لا تزعلوا: من الذي نفذ المؤامرة الحقيرة؟ أنتم بالتأكيد يا من تشتكون ليل نهار من المؤامرة الكونية.
وأخيراً، حتى لو نجحت العصابات المسلحة فعلاً في تهجير خمسة عشر مليون سوري وتدمير ثلاثة أرباع سوريا، فهذه وصمة عار في جبينكم وجبين جيشكم يا سيادة الرئيس، لأنها تعني شيئاً واحداً: أن النظام الذي يحكم سوريا نظام بائس تعيس فاشل لم ينجح في حماية سوريا وشعبها من هؤلاء الإرهابيين. وبالتالي هو المسؤول عن نجاح المؤامرة.
تشتكون من المؤامرة، وأنتم من نفذها بحذافيرها.
ها نحن ندق خامس أعمدة الثورة التي انطلقت قبل أربع أعوام أو سنين ، كانت جميلة بأصواتها .. بزغاريدها .. بخروجهم من سجن فاق المؤبد بشوط كبير، مريرة بمآسيها .. آلامها .. أوجاعها .. فقدها و خسائرها ، معاداة عالم بأكمله ... فهي وُلدت يتيمة ..
أربع سنوات من العذاب بكل أصنافه و أشكاله .. أربع سنوات من الآلام بكل أنواعه و مستوياته .. أربع سنوات من التشتت بكل موبقاته و عيوبه .. أربع سنوات من الموت بكل درجاته و تدرجاته ..
أربعة أعوام من العمل بكل ما نملك و ما يتجاوز حدود الملكية .. أربعة أعوام من الحرب المشرفة بكل مكان و زمان .. أربعة أعوام من المواجهة المتواصلة والمتتابعة والمتتالية ...
كثير ما نتسأل حول نستمر بالثورة .. و لماذا نتابع في طريق فيه هذا الكم الهائل من الأشواك و العقبات .. الخلافات و التضاربات .. طريقٌ فيه من تشابكات المصالح و تصارعها ما يكفي لان يكون سبب لحرب عالمية ثالثة و رابعة و خامسة ...
لماذا نستمر ؟؟
لا يمكن ان نجيب على هذا السؤال من وجهة نظر كلامية أو فلسفية .. بل يجب أن يصدر هذا الأمر ممن له حق الاكمال او عدمه ، وهم أصحاب الدم .. أصحاب الألم .. أصحاب الفقد .. أصحاب الحق .. وأصحاب الدية ...
نعم هم من لهم الحق الوحيد في القرار والإقرار والتنفيذ ... فهم على الأرض و هم المالكون الوحيدون .. و هم المنفردون في أي سبيل يسيرون عليه .. و كل ما عداهم هم عبارة عن أغنام لا يصدر عنها إلا أصوات أو رنين الأجراس في الرقاب ، لا تأثير لها إلا كضوضاء في الآذان.
ثورة تستحق أن تستمر .. لدموع الأطفال .. لكسر الأمهات .. و قهر الرجال .. لوجع الكبار .. ثورة تستحق أن تستمر لتكمل مشوار بدأه شرفاء ، أنقياء ، أطهار .. أعلنوا البداية و قدموا العربون .. وأرواحهم هي من تحاسبنا وتوجهنا ...
أربع سنوات من الحرب المستمرة منذ أول كلمة "حرية" .. و حتى لنقضي على "الرافضية" .. مصطلحات وتدرجات دخلناها مرغمين صاغرين ... فهم من دفعنا ...
ثورة تستحق أن تستمر بنفس أقوى .. و عزيمة أكبر .. فالقضية لم تعد قضية نظام و بشار الأسد و ما إلى ذلك من الألعاب .. فالقضية باتت قضية أمة .. تعاني من مخاض الولادة من الجديد .. الولادة من رحم الموت الذي يحاصرها .. الذي يحاول إنهائها ..
ثورة على مدى أربع سنوات بقيت صامدة في وجه هذا الكم الذي لا يحصى من الأعداء و المصاعب ..
ثورة على مدى أربعة أعوام ، تقدمت و كسرك كل شيء .. نجحت و تجاوزت آلاف المطبات ..
ثورة على مدى أربع أعوام أو أربع سنوات .. استمرت بهذا الزخم .. فهي ثورة تستحق أن تستمر .. ثورة تستحق أن تنتصر ...
شنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» هجمات غير متوقعة على منطقة تقع في أقصى شمال شرق سوريا وتضم قرى صغيرة جدا سكانها من الآشوريين (السريان) ممتدة على شريط يحاذي مناطق يسيطر عليها أكراد سوريون، وكانت غالبية هذه القرى خالية من سكانها منذ أشهر وليس فيها سوى عدة مقاتلين لحماية أملاك السكان، واختطف التنظيم نحو 250 آشوريا هم بقايا السكان في هذه القرى، وتسبب الخوف في نزوح عدة آلاف منهم من قرى أخرى مجاورة.
أدانت المعارضة السورية ما قام به التنظيم الإرهابي واعتبرته عملا لا يمثل الثورة ولا يمثل الإسلام ومرفوض بكل المقاييس، وتعهّدت قوى الثورة بالدفاع عن الأقليات التي تتعرض للإضطهاد، وكرروا اتهامهم للنظام وإيران بأنهم هم من صنعوا تنظيم الدولة، ووجهت الأحزاب والمنظمات الآشورية نداء استغاثة إلى المجتمع الدولي للتحرك لمنع وقوع مجزرة بحقهم وتوفير الحماية لهم، وكذلك أدان المجتمع الدولي هذا العمل واعتبره محاولة لإفراغ المنطقة من مسيحييها.
الآشوريون الذين اشتهروا في التاريخ القديم بصيد الأسود، وعُرِفوا بالقوة والبأس، وبتطوير وسائل الدفاع والحصار وأدوات القتال، اصطادتهم الوحوش هذه المرة، وليس غريبا أن يتضامن معهم الشعب السوري، مسلمين وغير مسلميـن، فهم السكان الأصليون للمنطقة، علّموا العالم الأبجدية، وساهموا في تأسيس علم الفلك وبرزوا في فنّ النحت، وُجِدوا قبل المسيح بسبعة آلاف سنة، وإلههم (آشور) غير منظور، نافسوا بابل ومصر على زعامة العالم القديم، وانتصروا على هذه الممالك، وهم من أوائل الشعوب التي اعتنقت الديانة المسيحية، وساهموا في نموّ هذه الديانة لاهوتيا، ثم هزمهم البابليون، فأسسوا حكما آخر أصغر بكثير، وحماهم الـرومان، ثم غزاهم الفُرس الذين قضوا على ما تبقى من دولتهم.
لكن بالأساس، وبعيدا عن سرديات التاريخ والشراكات الوطنية، يُطرح سؤال ملحّ: لماذا هاجم تنظيم الدولة الإسلامية هذه القرى الآن، رغم أنها منذ نحو سنة كانت تقع تحت مرمى نيرانه وعلى بعد خطوات من مقراته ومعسكراته، ومع ذلك لم يهاجمها مطلقا؟ ربما تساعد معرفة الأسباب في فهم الحالة السورية وما يمكن أن يحمله المستقبل.
أجمع المحللون، ومعهم المعارضة السياسية السورية، والآشوريون أنفسهم، على وجود ثلاثة أسباب لا رابع لها، دفعت التنظيم المتشدد، المنفلت عن عقاله، إلى مهاجمة من يدعوهم السوريون “ملح الأرض”، ولا بد من التنويه بأنه يصعب، على الصعيد الشخصي، تبنّي أي من هذه الأسباب.
أولى هذه الأسباب تبنّاها آشوريون، وخلاصتها انتقام الدولة الإسلامية من المواطنين الآشوريين الذين دافعوا عن أرضهم في وجه التنظيم إلى جانب المقاتلين الأكراد في حرب عين العرب (كوباني) وما حولها، فانتقموا منهم بسبب مساعدتهم لوحدات الحماية الشعبية الكردية والبيشمركة، حيث رأى التنظيم أن هذه القرى هي نقطة ضعف يمكن من خلالها المرور إلى الحسكة، وهي منطقة فيها خليط مسيحي كردي عربي، وأخذوا رهائن لضمان عدم قصف التحالف الدولي لهم.
لماذا هاجم تنظيم الدولة الإسلامية هذه القرى الآن، رغم أنها منذ نحو سنة كانت تقع تحت مرمى نيرانه وعلى بعد خطوات من مقراته ومعسكراته
السبب الثاني تبنّاه سياسيون غربيون، خلاصته أن التنظيم المتطرف قرر فتح جبهة جديدة ضد المسيحيين للتأكيد على أن حربه موجهة ضد الغرب، ولتشتيت التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، لكنّ هذا السبب قد ينطبق على تنظيم الدولة الذي لا يتوانى عن فعل أي شيء لتحقيق إستراتيجيته، وينطبق بنفس الوقت على النظام السوري الذي لعب بورقة الأقليات في أكثر من مرحلة، فجيش النظام لم يكن يبعد أكثر من 20 كيلومترا عن القرى التي اجتاحها تنظيم الدولة الإسلامية، وهو يمتلك طيرانا ومدافع وقوات برية، لكنّه لم يتدخل بالمطلق ولم يقصف التنظيم أثناء تقدّمه، وربّما سهّل عليه التقدّم بوقوفه موقف المتفرج، فمن مصلحته أيضا تخويف الغرب من “إرهاب” الثورة وتشتيت التحالف.
السبب الثالث تبنّاه معارضون سوريون، وهو يتعلق بموقف الأكراد، فقد سارع الأكراد إلى الهجوم على تنظيم الدولة في هذه القرى، وهي أول مرة تهتم فيها القوات الكردية بمقاتلة التنظيم في أي مكان بسوريا لا يسكنه أكراد، واتهمتها المعارضة السورية، علنا ورسميا، بأنهم وبعد أن استعادوا بعض القرى الآشورية قاموا بحرق الكثير من البيوت وهجّروا سكان قرى أخرى مجاورة يقطنها مسلمون وحرقوها.
تبنّى بعض السوريين فرضية وجود مصلحة للأكراد في تهجير مسيحيي المنطقة لأن قراهم تدخل ضمن خارطة يوزعها الأكراد لدولتهم التي ينشدونها تحت اسم “غرب كردستان”، ويريدون إخلاء المنطقة برمتها من أي تجمع قومي ليسهل عليهم لاحقا ضم المنطقة إلى إقليمهم، خاصة أن الآشوريين يعتبرون ثالث أكبر قومية في سوريا بعد العرب والأكراد.
ويذهب البعض الأكثر تحفظا ضد الأكراد، ليُذكّر بأن ما حصل مع آشوريي سوريا كان قد حصل سابقا مع آشوريي العراق حين سيطر الأكراد على الشمال خلال الحرب العراقية، وطردوا الآشوريين والسريان من قراهم واستوطنوها ليوسّعوا رقعة إقليمهم.
ثلاثة أسباب بعضها متناقض، وبعضها يمتلك البنية الأساسية ليكون سببا مشتركا لمنفعة ثنائية لهذا الطرف أو ذاك.
وتحظى هذه الأسباب بمن ينفيها وبمن يدافع عنها ويتبناها، ومن يشتم من يطرحها، لكنها في واقع الأمر أسباب لا بد من الوقوف عندها، والأيام المقبلة ستدل على المستفيد الأكبر.
في كل الحالات، ما يتعرض له الآشوريون هو جزء مما يتعرض له السوريون من مؤامرات، ورغم كثرتها على هذا الشعب المسكين، إلا أنها لم تغيّر البوصلة، فالهدف الأول للثوار (بما تحمله الكلمة من معنى نبيل) ما زال القضاء على الديكتاتورية والظلم والطائفية والتمييز.
لم تبق في سوريا قومية أو طائفة إلا وتضررت من الحرب التي يُصر النظام السوري على أنها “حرب ضد مؤامرة كونية”، ولم تبق أقلية أو أكثرية إلا وتشردت وهرب خيرة من فيها، وما لم يتم وضع حد حاسم لهذه الحرب، فإن القادم سيكون أسوأ، ليس بالنسبة إلى الأقليات فقط، وإنما بالنسبة إلى كل السوريين.
جريمة بحجم الإبادة السورية لا يمكن لجهة مهما كانت ادعائها ، بأنها مطلعة على كافة الأمور الميدانية و تمتلك ناشطين و خبراء و ما إلى ذلك ، لا يمكن لها أن تحصر حجم الخسائر في رقم معين و تطرحه للتداول العالمي ، فالخطأ هنا ليس خطأ مقبول أو جائز الحصول ، إنما الخطأ هنا هو الخطأ القاتل والذي ينهي مسيرة عملية طويلة ، سيما إن شاب هذه المسيرة آلاف إشارات الاستفهام و التعجب.
ولعل اعلان المرصد السوري لحقوق الإنسان عن تمكنه من "توثيق استشهاد 12751 معتقلاً، داخل معتقلات وسجون وأقبية أفرع مخابرات نظام الأسد ، منذ انطلاق الثورة في 18/3/2011 و حتى اليوم " ، هو الخطأ القاتل الذي ارتكبه المرصد ، و للأسف ليس بحقه كوسيلة إعلامية حقوقية ، إنما بحق شعب بأكمله ، و قدم خدمة كبيرة لجميع من هاجم الشعب السوري ليقول أن كل ما تتحدثون عنه و عن عشرات آلاف الشهداء تحت التعذيب أو مئات آلاف المفقودين ، ما هو إلا غثاء لا يمت للصحة إطلاقاً .
لستُ هنا أقف موقف المهاجم على المرصد السوري لحقوق الإنسان ، و جميع العاملين فيه ، و لا أبخث حق أي منهم ، لكن أن تختصر الرقم بـ 12751 ، في حين أن صور ما بات يعرف بـ "القيصر" وحدها وثقة 11 ألف شهيد تحت التعذيب داخل رقعة جغرافية واحدة أو جزء من سوريا ، فكيف بعد أكثر من عام يخرج المرصد بهذا الرقم .
و لا يبرر للمرصد الإشارة إلى أن هذه الإحصائية "لا تشمل مصير أكثر من 20 ألف مفقود داخل معتقلات قوات النظام وأجهزته الأمنية، وآلاف آخرون فُقِدوا خلال اقتحام قوات النظام والمسلحين الموالين لها لعدة مناطق سورية، وارتكابها مجازر فيها، الذين يخشى المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن يلقوا مصيراً كمصير آلاف المعتقلين، ممن تمكن من توثيق استشهادهم في معتقلات النظام السوري" ، فهو حديث كذر الرماد في العيون.
مهما اختلفنا في المجريات على الأرض و كيفية النظرة إل الأمور و تطوراتها و تحولاتها، لكن لا يمكن أن يصل الأمر إلى التلاعب بمشاعر أكثر من تعرض للظلم ، و القهر و التغييب و الحرمان و الألم .. ألا وهم المعتقلين.
شخصياً أتمنى تلافي هذا الخطأ و سيما في هذا التوقيت مع اقتراب اشعال الشمعة الخامسة لإنطلاق ثورة العز و الكبرياء .. ثورة التضحية .. الثورة التي ستغير ليس مكان بعينه ، إنما ستقلب موازين كثيرة .
أعادت تسريبات "القيصر" إلهاب جرح لم ولن يندمل أو يعرف العلاج أو الشفاء مهما تعددت الحلول و تنوعت و شملت على كل شيء كان سبب في هذا الشقاء...
جرح غائر لن يلتئم لو رحل بشار الأسد و كل مجموعته المجرمة .. لو زالت ايران و اختفت .. لو انتهى العالم المتخاذل من شرق لغربه .. من شماله لجنوبه ..
صور "القيصر" هي عبارة عن إعادة تحريك السكين المغروسة داخل أرواح جميع السوريين ، إعادة نقل السم ليقضي على ما تبقى من اجسادنا الهزيلة و أرواحنا الميتة ...
55 الف صورة لـ 11 انسان هم جزء بسيط من عشرات بل مئات الآلاف الذين غابوا عنا قصراً في أشد الأماكن حلكة و ظلمة و قهر... اشد الأماكن كره و حقد و موت .. مرت عليهم أشد الأيام طولاً وأكثر الساعات مشقة وأصغر الثواني كدهور...
تجرعوا من الألم ما يكفي لأن توّلد أحقاد و نيران داخلهم و داخل عوائلهم و كل شعبهم لن تنطفئ بأن وسيلة مهما كانت أو أي عدالة بشرية مهما ارتقت ..
لا يمكننا مجرد التخيل ما معنى أن يموت الإنسان تحت التعذيب .. و لا يمكن وصف حجم الألم الناتج و المستمر و المتواصل .. و لا يمكننا تحديد مدى بطئ و عنف و شدة ساعات الوجع التي أدت إلى الارتقاء في نهاية المطاف كطير يحلق في سماء الشهادة ..
صور شهدائنا المعتقلين ، الذين تم قتلهم بكامل الإصرار و ترصد ، لن ُتنسى لو تغاضى عنها العالم بأسره .. لو نامت البشرية جمعاء .. صور لن ينساها أي سوري وُجد حاليا أو سيوجد في المستقبل ... صور ستلاحق مرتكبيها .. كما ستلاحق كل من خذلهم .. و ستلاحقنا أيضاً إن صمتنا أو رضينا بحل غير اقتلاع كل من شارك لو بحرف أو اكتفى بالصمت ..
لن يكون أي تسوية أو كلام أو تفكير مالم يكن الذين مازالوا داخل غياهب الموت على رأس القائمة .. مالم يكن حساب من ارتكب هذا الفعل الذي يتجاوز حد الجريمة بأشواط على رأس القائمة .. مالم يكن الموت أو الأشد من الموت عقوبة من اقترف هذا الأمر الذي يخرج عن الوصف ...
لن يكون علاج مئات آلاف القلوب التي ذبلت و ماتت حنقاً ، غضباً ، ألماً ، كمداً ، على فلذات الأكباد و أبناء الروح ، و رفقاء الدرب ، و نجوم المستقبل ، و نور الحاضر ، لن يكون العلاج بمسكنات أو بأفكار تدريجية ... فالأمر ليس قضية شخصية .. فالأمر قضية أمة .. أمة أُريد لها الفناء بكل الأشكال والممارسات التي عُرفت أو التي لم تُعرف بعد.
غالباً ما تُقدم مقاربة مقلوبة لتصورات الحل في سورية. يجري الآن تداول خطط وتصورات مرحلية وموضعية من نوع خطة المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا لوقف القتال في حلب. ويذكّر كتاب وسياسيون بأهمية «الحفاظ على الدولة» في سورية والفصل بينها وبين نظام بشار الأسد، فيما لا يمانع معارضون بقاء الرئيس الحالي في منصبه إذا أوقف التدمير وسمح بعودة اللاجئين ما يتيح الانطلاق إلى مرحلة جديدة من عملية التغيير الطويلة في البلاد.
تتأسس هذه الآراء إما على فهم مجتزأ لطبيعة النظام السوري، وإما على تأييد ضمني لسلوك الأسد والمحيطين به ورعاته الخارجيين، وإما على تفكير رغبوي يصبو إلى رؤية الأفكار تتحول إلى حقائق مادية من دون امتلاك القدرة الفعلية على إخراجها إلى حيز الواقع.
المسألة لم تكن في يوم، منذ انطلاق الثورة قبل أربعة أعوام، في ما يقبل به الشعب السوري والمعارضة وفصائلها المسلحة – بغض النظر عن مهازل من تنطع لأداء دور الممثل السياسي للثورة، أي «المجلس الوطني» ثم «الائتلاف»- المسألة، كل المسألة، في تصور النظام لمستقبل البلاد ومصير النظام ووصولاً إلى ما ينتظر المعارضة والمعارضين.
سلسلة معقدة من الاختبارات والفرص التي قُدمت للنظام، ابتداء من زيارات مبعوثي الدول العربية والمجاورة بحثاً عن تسوية ما وإصلاح معقول يوقفان الانهيار الماثل أمام الجميع، وصولاً إلى اجتماعات موسكو الكوميدية، لم يغير فيها الأسد ورعاته مقدار أنملة ما يرونه طريقاً للحل: بقاء النظام كما هو واستسلام السوريين، جميعاً، لمصيرهم المحتوم.
واليوم، ومع اقتراب إيران، الراعي الأكبر والأشرس لبشار الأسد، من تحقيق انتصار تاريخي بتوقيعها الاتفاق النووي مع الغرب، يبدو شديد الاغتراب عن الواقع وعن فهم ألف باء السياسة في هذا الجزء من العالم، من يتصور للحظة أن الأسد سيقبل بأقل من رؤية رؤوس أعدائه مرفوعة على الحراب.
وواهم بالقدر ذاته من يظن أن النظام الذي كرس جزءاً مهماً من حربه على السوريين لفرض تغيير ديموغرافي في المناطق التي يعتبرها مفيدة له، سيقبل بعودة اللاجئين إلى بيوتهم. تعديل الطبيعة السكانية قضية لا تحتاج إلى إثباتات. ومن يشك، فليسأل مهجري القصير ويبرود وغيرهما من الموجودين على بعد كيلومترات قليلة عن بيوتهم عن السبب الذي يجعلهم يقيمون في الخيام ولا يعودون إلى قراهم. هذا ناهيك عن وقف القتال سواء في حلب أو في حوران.
وأمام الطريق المسدود الذي بلغته الثورة، قد تلاقي محاولات ترميم صورة النظام السوري بعض النجاح عن طريق ربط مصيره بالصفقة الكبرى الأميركية – الإيرانية، لكن ذلك سيعيد التأكيد على ما يتجاهله دعاة «الحفاظ على الدولة ومؤسساتها» من أن النظام هو الدولة والدولة هي النظام ولا يمكن التفريق بينهما إلا في افتراضات ذهنية لا مكان لها في الواقع.
بمنطق الالتصاق بين الدولة والنظام نشأت الميليشيات الموالية وبالمنطق ذاته يتمسك النظام وإيران ببقاء بشار الأسد باعتباره الممر الإجباري إلى الحل. وهذا لا يزيد، حكماً، عن ارتهان النظام ارتهاناً كاملاً للمشروع الامبراطوري الإيراني خارجياً، والاستمرار في حكم العائلة المسلحة، داخلياً، إلى أن يقضي الله أمراً.
أسقطت سياسات إيران جميع أنواع السياسات العربية السائدة، وخصوصاً منها سياسة "نتركهم بحالهم فيتركونا بحالنا"، وسياسة "نستطيع احتواء خطرهم بالتقارب منهم واسترضائهم"، وسياسة "دولتنا وحدها تستطيع ردعهم"، وسياسة "نقوي سلطتنا فيهابوها ويخشوا مواجهتنا"، وسياسة "لا يمكن أن يكونوا على ذلك القدر من السوء الذي يشتهرون به"، وأخيراً سياسة "لسنا بحاجة إلى أية سياسة حيال إيران، فهي دولة مسلمة وجارة وشقيقة، وتريد لنا ما نريده لها من خير".
صار من الواضح أنه ليس لدى العرب سياسة فاعلة تجاه إيران، وأنهم تركوا جميع المنافذ التي يمكن أن تتسلل منها إلى ضعفهم، داخلية كانت أم خارجية، مفتوحة على مصراعيها. وبدل أن يدرسوا بدقة وشمول وهلع النتائج التي يمكن أن تواجههم بعد قيام وتكريس نظام طائفي، يحكمه معصومون/مقدسون، يعتبرون أنفسهم وكلاء عن الله وناطقين باسمه، أعلنوا حتى قبل نجاح ثورتهم تصميمهم على تصديرها إلى جيرانهم، المسلمين طبعاً الذين تستطيع "الثورة" استغلال عواطفهم الدينية، وسذاجتهم الإيمانية، لاختراقهم والتلاعب بهم، بالتلازم مع وضع يد طهران على قضاياهم، وخصوصاً منها قضية فلسطين، وتحويلها إلى سلاح ابتزاز موجه إلى صدورهم، تنزع إيران بواسطته شرعية نظمهم الوطنية و"الجهادية"، وتحفر هوة توسعها باستمرار بينهم وبين قطاعات كبيرة من شعبهم، بينما تعمل على نقل ولائهم إلى نظامها وقادتها، وتحرص على تعميق يأسهم من حكامهم، وتوطيد اقتناعهم بأن قضاياهم صارت في أيديها الأمينة، وأنها ترسم سياساتها، وتحدد أهدافها في ضوء قيمهم الدينية، ورغبتها في
"صار من الواضح أنه ليس لدى العرب سياسة فاعلة تجاه إيران، وأنهم تركوا جميع المنافذ التي يمكن أن تتسلل منها إلى ضعفهم، داخلية كانت أم خارجية، مفتوحة على مصراعيها"
حمايتهم والدفاع عنهم، انطلاقاً من واجب ديني يحملها أعباء، ولا يعود عليها بأية منافع غير خدمة الإسلام والمسلمين، فلا بأس إن هي نظمت، لهذا الهدف المفعم بالرغبة في التضحية من أجلهم، الفئات الموالية لها ومولتها وسلحتها، وأسست لها جيشاً، لا ضير إن كان بقوة جيش الدولة أو أقوى منه، ما دام خارجي المهام، ولن يقاتل غير الصهاينة والأميركيين، أو يتوقف يوماً عن الجهاد من أجل تحرير فلسطين. اليوم، يقف العرب أمام عجزهم وغفلتهم، وهم يواجهون جيوشاً داخلية تنوب عن الجيش الإيراني في غزو بلدانها، وإخضاعها لطهران وحكامها الأطهار (قدس الله سرهم)، وإطاحة الدولة المحلية ووحدة الشعب والمجتمع، باسم ثورتهما بقوة السلاح.
هذه استراتيجية سياسية إيرانية، وليست مؤامرة، يكفي الرد الأمني لإحباطها. لذلك، من المحتم مواجهتها باستراتيجية مضادة، تبني على تفوق العالم العربي على جميع جيرانه، في كل ما يتعلق بالعناصر المعطلة، كالقدرات البشرية والموارد والثروات والخبرة الحضارية والتاريخية، ولا تبنى على خلافات النظام وضعفه وتناحره، وتجهيل الشعوب وتجهيلها وإفقارها، على أن تكون داخلية الأبعاد أيضا، وتطاول طبيعة النظم وآليات اشتغالها وعلاقاتها بمجتمعاتها، في إطار ما هو ضروري جداً من شراكة بينهما، وأن تغطي الدول الإقليمية والعالم الخارجي. هذه الاستراتيجية التي تتخطى قدرات أية دولة، وستطبق كي تنجح على مستوى عابر للدول، من المنطقي والحتمي أن تكون عربية المنطلق والمآل، تعيد إلى الانتماء العربي أبعاده الضائعة، حتى في حال انطلقت، أولاً، من بلد واحد، أو تجمّع بلدان بعينه، فالأساس في الرد أن يضم قدرات البلدان والشعوب العربية، ويوجه طاقاتهم الهائلة نحو ما سيرسمه لها من أهداف عليا، تحققها سياسات متطابقة، أو متكاملة، تكورهم حول ذاتهم، وتحصّنهم بقوة واقع أن العرب هم وسيبقون أمة واحدة، وعليهم التصرف ككيان واحد، يحمي كل جزء منها باقي أجزائه، كما لو كان الخطر البعيد عنه يستهدفه هو أيضاً، ويهدد وجوده.
لن يصد الخطر الإيراني خصوصاً، والخارجي عموماً، أي رد محلي أو جزئي مقطوع الجذور بباقي أجزاء الجسد العربي، كما لم ينجح من قبل في صد الخطر الصهيوني. ومع أنني لا أقلل من أهمية الرد الوطني، بل وأعتبره حاسماً في التصدي لأي معتد، فإنني أؤمن بأن طابعه تغير، وأنه فقد الكثير من طاقاته التعبوية والمعنوية، بعد تراجع البعد العربي في السياسات المحلية، وأنه في سبيله، اليوم، إلى التلاشي، تحت وطأة ما ينزل بنا من هزائم في كل مكان، ويبرز من أخطار تعجز، اليوم، أية دولة عربية عن مواجهتها منفردة، إلا إذا كانت تريد أن تتعرض للدمار الكامل والشامل، بقوة التعاون بين إيران واختراقاتها الداخلية التي تمتلك جيوشاً تتمتع بقوة تدميرية كبيرة، كما حال حزب الله في لبنان وسورية، والحوثي في اليمن.
ليست هذه دعوة إلى تجديد الصراعات العربية/ العربية التي قتلتنا في الماضي باسم الوحدة القومية؟ إنها دعوة إلى التقدم نحو زمن عربي، يحمي العرب فيه وجودهم ودولهم بمشتركاتهم الجامعة، وبما بينهم من مقومات تحول دون جعل الدول القائمة محل إنكار وصراع، يدفعهم إلى ممارسة أوسع قدر ممكن من التعاون والشراكة، فيما بين بلدانها.
إيران موحدة ومركزية وعدوانية، وتمتلك مرتكزات منظمة ومسلحة داخل بلداننا. ولن ننجح إذا لم نواجهها بعالم عربي موحد الإرادة والوسائل والأهداف، لا يفيد من قدراته الذاتية وحدها، بل كذلك من قدرات العرب الذين يعيشون داخلها، وهم في أسوأ حال، تحيق بهم أخطار الاستيطان الفارسي والطرد من وطنهم.
لا محل، من الآن فصاعداً، لأنصاف السياسات والمواقف حيال إيران. يكفينا العراق ولبنان وسورية واليمن، حيث يذبح أتباع إيران شعوبنا ويدمرون بلدانها، بمشاركة مباشرة من كبار قادتها وجيشها. من يؤمن بأنصاف الحلول والمواقف يجد نفسه، ذات يوم غير بعيد، لاجئاً في خيمة أو في فندق فخم، وسيدركه القتل والإذلال، ولو كان في بروج مشيدة. عندئذ، لن يبقى له غير البكاء على أطلال وطنه وحكمه.
عام رابع ينقضي على انتفاضة السوريين ضد الاستبداد وسلطة التسلط والقمع، في انطلاقة تاريخية جسدتها الثورة السورية، تحت هدف رئيس وجامع هو الحرية والكرامة، في بلد رزح تحت طغمة أمنية عسكرية حاكمة باسم البعث منذ 1963، صادرت الحريات الأساسية للمجتمع السوري، ووضعت حدا لمخاضات الدولة المدنية، التي كانت تتشكل حتى قيام الوحدة السورية المصرية، التي كانت سباقة بدورها، في وأد الحياة السياسية السورية، وصولا إلى استراتيجية ممنهجة لعسكرة المجتمع والدولة بتنظيمات شعبية غير حكومية، غير مستقلة، تدين بالولاء للمؤسسات الأمنية البعثية، التي تفردت بحكم سوريا لما يزيد عن أربعين عاما، ولا تزال حتى اليوم، عبر ما عرف بقانون الطوارئ، وملاحقة المثقفين والسياسيين، ذوي الانتماءات اليسارية المدنية، باستخدام كل وسائل التصفية والتغييب القسري بمختلف أشكالها.
واجه نظام الأسد الثورة ببطش وفظائع متواصلة، موصوفة كجرائم حرب وفق القانون الدولي الإنساني، وأجبر السوريين على حمل السلاح، للدفاع عن أنفسهم وحماية أعراضهم وممتلكاتهم وعن حقهم المشروع في المطالبة بالحريات والحقوق. كانت سياسات النظام، أكثر مما يمكن تصوره، مع إدراك مبلغ الاحتراف في القتل والتدمير. لكن المجتمع الدولي الذي يمتلك القدرة، عبر أدوات سياسية بالدرجة الأولى، لم يكن ينظر إلى ما يحدث سوى أنه تمرد لقطاعات وطنية سورية مسلحة إسلامية، تاليا، ضد السلطة الحاكمة في دمشق، ترتب على هذه القناعة، إيهام السوريين بتقديم الدعم للثورة وقوى حراكها الوطني، لكن التغاضي عن جرائم الأسد كان الحقيقة التي استطاع الأسد الإستفادة منها إلى أقصى درجة، وصلت اليوم إلى المجاهرة بإمكانية إعادة تأهيل النظام للانخراط في تسوية سياسية، لا يرى الغرب بديلا عنها طالما أنه لا يريد لأي طرف أن يحقق تقدما يفرض الذهاب إلى التفاوض.
عززت السنوات الأربع من عمر المواجهة بين قوى الثورة ونظام الأسد، جملة معطيات تتأصل كسمات وظواهر للصراعات، وتتعمق كحقائق في مسار الحالة السورية وهي:
أولا؛ انقسام قوى وتيارات المعارضة السورية، التي لم تستطع مؤسسات المعارضة، التخفيف من حدتها، أو أن تفضي إلى حوار بناء فيما بينها.
أدت التناحرات والانقسامات وعمليات الإقصاء والتهميش والفساد المالي والإداري، وتسلط تيارات على أخرى واستئثارها بالقرار في مختلف مؤسسات المعارضة، إلى فشلها، وانعكاس ذلك على الثورة السورية، تتحمل مسؤولياته القوى المكونة للائتلاف والمجلس الوطني.
ثانيا؛ التأثير المباشر للقوى الإقليمية في الثورة السورية، وتصاعد حدة المواجهة في دائرة التجاذبات الدولية، بما يشكل تدخلا واضحا في صناعة الأحداث على الأرض وفي مجرياتها، ما أفقدها استقلالية القرار الوطني، خاصة في الدول المضيفة للمعارضة السورية، وهو في محصلة أربعة أعوام تأثير سلبي، أفقد الثورة الكثير من خصائصها، في لعبة المصالح والتوازنات الإقليمية.
ثالثا؛ ظهور التنظيمات الإرهابية التي استولت على مناطق الثورة، وحاربت قواها ومنعت العمل المدني ولاحقت نشطاءه، أسوة بما يرتكبه نظام الأسد، الأمر الذي أدى، إضافة إلى شلل المعارضة، إلى انحسار الدعم الدولي لقوى الثورة، مع استمرار دعم نظام الأسد بصورة لا محدودة من قبل إيران وروسيا، ودول أخرى غير منظورة. وأضحت محاربة الإرهاب، أولوية على إنهاء أسباب نشوئه وانتشاره في المنطقة.
رابعا؛ التدخل الخارجي في سوريا من أوسع أبوابه، ويتمثل اليوم في احتلال إيراني عسكري مباشر، في مناطق مختلفة من سوريا، وسيطرة طهران على المؤسسات الأمنية والعسكرية، عبر الإشراف على إدارتها ووضع مخططات عملها وتنفيذها.
خامسا؛ خسر السوريون استقرارهم وقضى ما يزيد على مئتي ألف شهيد، وأكثر من ربع مليون معتقل، و11 مليون نازح ومهجر ولاجئ، 4 ملايين منهم في دول الجوار.
بعد كل تلك الاخفاقات تبدو المسألة السورية، في عنق الزجاجة مع فشل المبعوثين الدوليين، وانسداد أفق العمل السياسي، وفشل مؤسسات المعارضة في استثمار الموارد التي أتيحت لها والإمكانيات التي وضعت بين يديها، وأعني فرص العمل الحقيقي والجاد عبر استراتيجية عمل وطني غائبة، تسببت الانقسامات في عدم التوصل إلى تفاهمات حول خطة طريق، تُمكن المعارضة السورية من أن تكون لاعبا أساسيا في قضيتها الوطنية.
فشل الائتلاف الوطني ومؤسساته العسكرية والتنفيذية، يؤكد الحاجة إلى تجاوزه، وإطلاق مؤسسة وطنية تضم جميع الأطراف السياسية وقوى الحراك المدني والثوري، دون تهميش أو إقصاء، وأن تكون معايير الشفافية والمراقبة والمحاسبة، جزءا من المبادئ المعبرة عن قيم الثورة وأهدافها. والتي يجب أن ترتكز إلى العمل الجماعي، واستقلالية القرار ووضع خارطة طريق تقود إلى إقامة الدولة المدنية الحرة.
مباحثات القاهرة، والحراك الإقليمي، قد يقود إلى ولادة جديدة، تضخ حياة في جسد المعارضة المعتل.. ثمة أمل.
"شكراً تركيا" عبارة رفعها أغلبية الشعب السوري في الداخل والخارج، نظراً للمواقف الأخلاقية والإنسانية التي اتخذتها تركيا في جميع القضايا التي تخص سورية منذ مارس/آذار 2011.
انطلاقاً من وقوفها إلى جانب مطالب الشعب السوري في الحرية والكرامة، ونصائحها لبشار الأسد بضرورة الاستجابة لمطالب المتظاهرين، وعدم استخدام العنف في مواجهة التظاهرات السلمية، وتقديم إصلاحات حقيقية للشعب السوري، حرصاً منها على بقاء سورية الجارة دولة قوية متماسكة، تشكل مع تركيا دعامة قوية للاستقرار في المنطقة. كلنا يعلم كيف كان رد الأسد على النصائح التركية. مروراً باستقبالها مئات آلاف اللاجئين السوريين على أراضيها، الذين لجأوا إليها من طائرات الأسد وبراميله، ويشهد القاصي والداني على مدى الحفاوة التركية باللاجئين السوريين، ومدى الدعم المقدم لهم من الحكومة التركية، طوال أربع سنوات، والذي بلغ مليارات الدولارات.
أصبحت تركيا، اليوم، (تقريباً) الدولة الوحيدة في الإقليم التي تدرك تماماً فداحة الأضرار الناجمة عن استمرار الأزمة السورية، متمثلة في استمرار الأسد على رأس السلطة في سورية، حيث ترى في ذلك محفزاً لمزيد من تفشي العنف والتطرف في المنطقة، فيما تنقسم مواقف بقية الدول بين مؤيد وداعم للأسد، وبين من يبني مواقفه تماشيّاً مع توجهات غربية، من الواضح جدّاً أنها، وعلى الرغم من المجازر الفظيعة والمأساة الإنسانية اليومية للشعب السوري، ما زالت تعارض أي مساس بالأسد، على الأقل في الوقت الراهن.
بعد تمدد تنظيم داعش في سورية والعراق، وتشكيل التحالف الدولي لمحاربة "الإرهاب" بقيادة الولايات المتحدة، أعلنت تركيا عن رؤيتها ومقاربتها لمعالجة الأمر، وأعلنت عن شروطها للانضمام له، تلك الشروط الحيوية الضرورية لنجاح التحالف في مهمته، من إنشاء منطقة آمنة للاجئين السوريين على الحدود، إلى إقامة حظر جوي فوق الأجواء في سورية، وصولاً إلى حل الأزمة السورية جذرياً، والتي يعتبر استمرارها أكبر مكان ملائم لانتشار الإرهاب، وهو ما عبرت عنه عشرات الأبحاث الصادرة عن أرقى المراكز الغربية.
لم ترق الرؤية التركية للإدارة الأميركية التي لا تريد أن ترتب على نفسها أي التزامات جدية، على الرغم من الحرائق اليومية المستعرة في المنطقة، حتى يخال بعضهم أن هذا ما تريده أميركا. وبعد عدة أشهر من إنشاء التحالف، أثبتت الرؤية التركية صوابها، حيث أخفق التحالف، بقيادة الولايات المتحدة، في تحقيق أي تقدم يذكر، حتى حذا الأمر بالجنرال ديمبسي، اليوم، أن يتحدث عن تفكك التحالف.
بدأت الضغوط على تركيا، عقب رفضها الانضمام إلى التحالف الذي لا يملك رؤية واضحة واستراتيجية مجدية، عندما اتهمها نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، بتسهيلها مرور المتطرفين والذي عاد وتراجع عنه، ما يثبت عدم قناعته فيما كان يقول.
ولقد شهدنا، أخيراً، ضغوطاً تعرضت لها الليرة التركية، ما أدى إلى انخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار، ما يخلق أو يشي بحالة من عدم الاستقرار في الاقتصاد التركي. كذلك القرار الصادر عن "الأمم المتحدة"، والقاضي بوقف المساعدات عن مئات آلاف اللاجئين السوريين في 9 مخيمات في تركيا، والذي جاء في وقت أعلنت فيه الحكومة التركية عن إنشاء مخيم جديد للسوريين يكلف عشرات الملايين من الدولارات.
نعم، كانت تركيا مصيبة في رؤيتها حول كيفية وجوب عمل التحالف الدولي، لأنها على اطلاع واسع بحقيقة مجريات الأمور في المنطقة، ولأنها تبذل حقّاً جهوداً حثيثة لحل المشكلة والقضاء على الإرهاب من جذوره، لا استغلاله لتحقيق مصالحها، وكانت محقة من قبل في وقوفها إلى جانب مطالب الشعب السوري المشروعة، متجاوزة بذلك السياسة القائمة على المصالح الضيقة ومتعالية عليها، ومقدمة نموذجاً في السياسة القائمة على الإنسانية والأخلاق.
ستستمر الضغوط على تركيا طالما أنها تنحاز إلى الشعب السوري وتعمل لصالح الأمن والاستقرار في المنطقة، وربما تتصاعد أكثر، لكن الشعب السوري سينتصر، وسينتصر معه كل من وقف إلى جانبه، هذا ما يقوله العقل والمنطق، والتجارب والتاريخ، والديانات والأخلاق والأعراف.
لنقل الامور بصراحة، لا يمكن انقاذ المشرق العربي مما يسميه كثيرون في العواصم العربية الكبرى "الاحتلال الايراني" من دون الحاق هزيمة حاسمة بالمشروع التوسعي الايراني في سوريا. فسوريا هي حجر الرحى، وتفوق العراق اهمية كونها واقعة في قلب المشرق العربي. وبكلام لا يقل صراحة لا يمكن الحاق هزيمة حاسمة بالمشروع الايراني من دون انشاء "جبهة عربية" تتكون من دول الخليج العربي، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، مع مصر، وتكون متحالفة مع تركيا تضع ثقلها في معركة سوريا التي توشك ان تصير حرب تحرير عربية بصرف النظر عن واقع تنظيم "داعش" الذي يجري التحجج بوجوده في الشرق من اجل ادامة نظام بشار الاسد المهترئ، وتستغله ايران من اجل تقديم مشروعها على انه مجرد حرب ضد "الارهاب" حين ان الارهاب الذي يمارس ضد الشعب السوري، و سنة العراق لا يقل فظاعة عن ارتكابات "داعش". لذلك يجب تجاوز ذريعة "الحرب على الارهاب" بخطوات ملموسة في اتجاه الفصائل الثورية السورية التي بتحالفها تحت مظلة مشروع عربي متحالف مع تركيا يمكن ان تقلب الموازين على الارض، وتعجل في اسقاط نظام بشار الاسد.
لم يعد من المسموح عربيا القبول بالقراءة الاميركية للواقع السوري، فالسياسة التي انتهجتها ادارة الرئيس باراك اوباما تتسبب بالكوارث، وبتسليم المنطقة الى ايران على طبق من ذهب، بعدما ادى تأييد الاميركيين لتولي نوري المالكي الحكم في العراق الى انهيار ذلك البلد بفعل التنكيل بالمكوّن السني. اما في سوريا فأدى تمسك الادارة الاميركية ببقاء نظام بشار الاسد الى انهيار المعارضة المعتدلة من جهة، وتمكين الميليشيات الطائفية التابعة لطهران من العبث بالكيان السوري وتوازناته من جهة.
كما ادى الى تنامي قوة التطرف السني على حساب الاعتدال، من دون ان ننسى تجاوز عدد الضحايا في سوريا عتبة المئتي الف قتيل (ثمة تقديرات بثلاثمئة الف قتيل). لم يعد مقبولا الرضوخ لقراءة ادارة الرئيس باراك اوباما للخريطة الاقليمية. حان اوان القول للرئيس اوباما كفى. لقد ادت سياسة الادارة الاميركية الى افقاد اميركا اهم عنصرين في سياستها الخارجية ثقة الحلفاء وخشية الخصوم.
اذا غابت مصر عن "الجبهة العربية" لا يمكن ان تقوم. واذا غابت تركيا عن الحلف العربي - التركي لا يمكن مواجهة سياسة اوباما الكارثية على العرب.
تقول واشنطن أن الاولوية هي لمقاتلة "داعش" ثم يمكن النظر في مصير نظام الاسد. نحن نقول ان الاولوية لتحرير سوريا انقاذها من نظام بشار الاسد والميليشيات الطائفية التابعة لايران.
هذا ليس كلاما راديكاليا ولا حالما. ومن هنا اهمية السعي السعودي الى حل الخلافات العميقة مع تركيا، وحث انقره على تغيير تعاملها مع مصر ما بعد الاخوان، بما يسهل وضع مصر في قلب "الجبهة العربية" لمواجهة التمدد الايراني. ولمصر مصلحة في احتلال موقع متقدم في مواجهة التمدد الايراني الذي يستهدف الهوية العربية قبل اي شيء آخر.