الشطرنج لعبة رائعة، لا يستطيع أن يلعبها من لا يملك الذكاء والاستراتيجية والحنكة الكافية. والسياسة والدبلوماسية تشبه لعبة الشطرنج، فهذه أيضاً تتطلب الذكاء والاستراتيجية والحنكة، ويمكن أن نضيف هنا التواصل.
لقد تم القيام بحملات حرجة على صعيد السياسة الداخلية والدبلوماسية الدولية في هذه الفترة قبل الانتخابات، وهذه الحملات ستؤثر على مستقبل تركيا، وتزيد من قوتها في المنطقة.
مراكز العالم الإسلامي الأربعة
للعالم الإسلامي أربع دول مهمة، هي تركيا والسعودية ومصر وإيران، وللأسف بين هذه الدول الأربع الآن مشاكل كثيرة، كأنهم أرجل الكرسي الأربع، إن انكسرت إحداها لن يتمكن الكرسي من الوقوف.
أعتقد أن الانقلاب الذي حدث في مصر ضد مرسي هو أقوى ضربة هزت العلاقات بين هذه الدول، فلهذا السبب تأثرت العلاقة بين تركيا والسعودية التي كانت تدعم الانقلاب في مصر، وتأثرت علاقة إيران بكل الدول السنية بسبب سياستها المذهبية في سوريا. ولهذا السبب تأثرت علاقات كل الدول التي كانت تتحرك مع هذه الدول الأربع. ولكن يبدو أن السياسية التي سيتبعها ملك السعودية الجديد ستغير كل الموازين.
مبادرة "أردوغان" التي لا يعرف عنها أحد
زيارة "أردوغان" للمملكة العربية السعودية حولت الأنظار إلى مصير العلاقات بين هاتين الدولتين. ولكن "أردوغان" قبل هذه الزيارة قام بمبادرة لم يسمع عنها أحد، فقبل وفاة الملك عبد الله أراد السيد "أردوغان" أن يقوم بزيارة مرضية له، فأُبلغ ولي العهد سليمان بهذا الطلب، وسليمان أعلن أنهم سيسعدون بهذه الزيارة، لكنهم بعد يوم أو يومين سيبلغونهم أين سيستضيفون السيد "أردوغان"، فتوقعت أنقرة منذ ذلك الوقت أن الملك عبد الله قد توفي! وحقاً بعد يومين تحولت وجهة "أردوغان" من جدة لزيارة الملك في مرضه، إلى الرياض لحضور مراسم الجنازة، وقام رئيس الجمهورية بقطع زيارته للصومال، وذهب إلى الرياض للتعزية.
حملة السيد "أردوغان" المبكرة تسببت بسحب الملك الجديد سليمان دعمه لانقلاب مصر، وتحسين العلاقات بين أقوى دولتين في الشرق الأوسط، وعمل اتفاق بينهما، كما ستزداد العلاقات ترابطاً بعد الزيارة التي سيقوم بها الملك سلمان إلى تركيا. هذا الاتفاق سيكون سبباً لإعادة مصر وإيران وروسيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا النظر في جميع حملاتهم، إذ يعني أن جميع الدول التابعة لهذه الدول، أي قطر والإمارات والكويت والأردن والبحرين والكثير من دول أفريقيا، ستعيد النظر في علاقاتها، فمن الطبيعي أن نتيجة هذا هي تغيرات جدية في منتصف ساحة الشطرنج.
وداعاً للسلاح!
في الأيام المقبلة، سيرى العالم أثر هذه الحملات الدبلوماسية التي تقوم بها تركيا.
أمام حملة تركيا الأخرى التي ستؤثر بالدبلوماسية والاقتصاد والسلام المجتمعي والإقليمي فهي مسيرة السلام. رغم سعي بعض القوى الخارجية وعملائها في الداخل إلى إفشال مسيرة السلام، إلا أنها دخلت في مرحلة جديدة. المواد العشر التي صرح بها "إمرالي"، التي تأتي بمعنى ترك السلاح هي حملة مهمة جداً أثرت بموازين الشطرنج. فهكذا ستتقدم مسيرة السلام بسرعة أكبر.
"كيليتشدار أوغلو" يلعب الطاولة وليس الشطرنج
لقد حققت الحكومة خلال طريقها إلى الانتخابات نجاحاً عن طريق حملاتها في السياسية والدبلوماسية، ومع هذا النجاح سيملأ صوت السيد "أحمد داود أوغلو" ميادين الانتخابات. والآن علينا أن ننتظر حملة ستقوم بها الجبهة المقابلة في لعبة الشطرنج، وهذه الحملة لن يقوم بها "حزب الشعب الجمهوري" خصم حزب "العدالة والتنمية"؛ لأن "كيليتشدار أوغلو" لا يستطيع أن يلعب لعبة سوى الطاولة!
علينا أن ننتظر الحملة من "تحالف الشر" الذي يشكل لاعباً رئيسياً في الشطرنج، الذي يحاول الضغط على تركيا. وبحسب قناعتي، فإن هذه الحملة التي ستأتي من الخارج ستكون إيران مركزاً لها، وستسعى إيران وروسيا و"قنديل" و"حزب العمال الكردستاني" إلى سحب تركيا من الشرق الأوسط وإشغالها بنفسها.
أما في السياسية الداخلية، فسيسعون إلى تمزيق حزب "العدالة والتنمية" عن طريق تحديد أعضاء النواب والبنك المركزي، وخلق مشاكل بين "أردوغان" و"داود أوغلو"، فيدخل حزب "العدالة والتنمية" الانتخابات وهو منهك القوى.
هناك مظلومية كردية في سوريا عنوانها الأبرز غياب الحقوق التعليمية والثقافية والسياسية. وهي مضافة لجملة المشكلات التي كان يعانيها الشعب السوري وكانت سببا في ثورته. بعد أن حاصر داعش كوباني / عين العرب واحتل قرى واسعة للأكراد بصفة خاصة، برز للإعلام موقفا يقول إن كتيبة كردية جهادية اقتحامية لكوباني تقاتل مع داعش، ومقابل ذلك قيل أن هناك كتائب عربية قاتلت مع الأكراد داخل كوباني ذاتها. الأكراد قللوا من شأن كتيبة داعش الكردية أو العربية المناصرة لهم، وأكدوا أن داعش مدعوم من قرى عربية شارك شبابها في الحرب ضد القوى الكردية في كوباني.
فشل داعش في احتلال كوباني رغم أنّه دمرها ثم انسحب منها ومن قرى محيطة بها على وقع المقاومة الكردية والعربية بمساعدة قوات التحالف، ولكن القوات الكردية والعربية استغلت انسحاب داعش لتتقدم نحو قرى عربية في محيط الحسكة والرقة، وهنا برز موقف عربي يقول بتهجير الأكراد لقرى عربية وحرق بعضها نتيجة مشاركة تلك القرى في محاصرة عين العرب.
الأكراد يتهمون أهالي تلك القرى بمحاربتهم، والآن أصبح العرب يقولون إن الأكراد حرقوا قراهم، وبالتالي تتشكل مظلومية ثأرية بين السكان المحليين ويتعمق الصراع بينهما، فلم يعد بين أكراد مظلومين ونظام يدعي العروبة بل أصبح الأمر بين جماعات تتشكل منها المدن الشرقية.
يدعم ذلك التهجير الواسع للأهالي المدنيين عربا أو أكرادا أو أشوريين، وهذا ما ستستفيد منه قوات التحالف في تمزيق العلاقة بين تلك المجموعات. الأمر عينه يحدث في العراق، حيث دخلت داعش قرى كردية وباندحارها عادت القوات الكردية ودخلت قرى عربية، وباعتبار الحدود ملغاة بين المنطقتين بسبب دولة “الخلافة” وقوات التحالف وفشل الدولة المركزية، فإن احتمال اندلاع حروب ذات طبيعة قومية تتصاعد، وليست جولات الثأر الحالية إلا فصلا منها.
الأخطر الاتهام العنصري الذي يتم تداوله، أن كل عربي هو داعشي كما يقول الأكراد، وأن كل كردي ساع إلى دولة كردية مستقلة عن سوريا كما يقول العرب. هذا الاتهام تقوله قلة متعصبة من الطرفين. الحقيقة أن هناك عربا سوريين دواعش وهناك أكرادا انفصاليين، ولكنهم القلة بين المجموعتين القوميتين.
النظام السوري عمّق الخلاف بين الأكراد والعرب، وهناك انعدام ثقة بين الأطراف، وتخوّف من المستقبل بشأن العلاقة بين هذه الجماعات. فالأكراد لا يثقون بإمكانية إنصافهم مجددا ويتساءلون عن الضامن لتحقيق ذلك، والعرب لا يأمنون لطموحات الأكراد سيما أنهم لا يناضلون من أجل حقوقهم داخل سوريا كأقلية قومية، بل يعتبرون أنفسهم قومية مساوية للعربية ويطالبون بتغييرات دستورية وسياسية واسعة دون التوقف عن إطلاق المواقف السياسية اليومية والتي تشير إلى عمق العلاقة إما مع أكراد تركيا أو أكراد العراق.
بغض النظر عن هذه الالتباسات، فإن هناك مشكلة تتعلق بمستقبل العلاقة بين هذه الجماعات، ولا يمكن التقليل منها واعتبارها ليست قومية بل هي كذلك. ثم إن المشتركات بين العرب والأكراد لم تحدث تقاربا بينهما. إذن اختبار داعش للعلاقة بين القوميتين لم يدفعهما للتقارب بل زاد حدة التباعد.
الأكراد والعرب والأشوريون في سوريا أمام معادلة محددة، إما الإقرار بالهوية القومية وحينها سيكون الاعتراف بقومية عربية كبرى وقوميات صغرى وبالتالي ستتأسس الدولة القادمة وفق هذا الاعتبار، وإما الانطلاق من المواطنة وحينها سيكون الاعتراف بأن كافة المواطنين متساوون أمام الدستور مع وجود مناطق لها طبيعة قومية تتمتع بحقوق سياسية خاصة شريطة ألا يتعارض ذلك مع الحكومة المركزية.
في سوريا تختبر قوى قومية وجهادية العلاقة بين القوميات، وتستفيد أميركا وإيران الوالجة في سوريا والعراق من ذلك؛ وتفشل القوميتان في التغلب على هذا الاختبار والبحث عن المشتركات فهل يمكن تجاوز كل ذلك؛ ما قلناه كاحتمالات بداية الحل، وربما يستمر الاختبار الثأري حاليا.
انشغلت أوساط متابعي الشأن السوري، واحتفت أوساط الحلف الإيراني، مؤخراً بزيارة أربعة نواب فرنسيين إلى سوريا ولقائهم بشار الأسد. تزامناً مع الزيارة، كانت جريدة "لوبوان" قد أجرت استفتاء على موقعها يتضمن الإجابة على عودة العلاقات الدبلوماسية الفرنسية السورية بـ"نعم" أو "لا". أخذ الاستفتاء حيزاً من اهتمام النشطاء السوريين قبل اكتشاف ركاكته التقنية حيث بإمكان المشارك التصويت لمرات غير محدودة من خلال الكومبيوتر نفسه. ذلك في ما عدا التصور الذي لم يكن واضحاً عن أهمية الجريدة، إذ لا تعد في مقدمة الصحف الفرنسية، وتكاد نوعية قرائها تقتصر على شريحة من اليمين المتعصب، فضلاً عن أن سجلها حافل بإثارة الكراهية ضد المسلمين حتى في ميدان الرياضة. والجريدة على أية حال لم تُخف من قبل عداءها للربيع العربي عموماً.
في الرد على زيارة النواب الأربعة، اجتمع الرئيس الفرنسي السابق والحالي على وصفهم بالمهرّجين، وهو أمر لا يخلو من الدلالة لانتمائهم إلى التيارات المهيمنة في اليمين واليسار معاً، وربما شاءت المصادفة ليس إلا أن يُنشر مقال مشترك لوزيري الخارجية الفرنسي والبريطاني يجزمان فيه بعدم قبول مشاركة الأسد حتى في المرحلة الانتقالية المأمولة وفق بيان جنيف. إلا أن المحتفين بالزيارة والمتوجسين من دلالتها لم يعيروا تصريحات ساركوزي وهولاند ومقال رولان فايبوس أهمية مماثلة لأهميتها، ظناً منهم أن تغيراً قادماً في السياسة الغربية تجاه الأسد قد بدأت طلائعه، وأن الزيارة ما كان لها أن تحدث لو لم يحظَ أولئك النواب بموافقة أو تشجيع خفي من دوائر صنع القرار. وفي أحسن الأحوال تذهب التحليلات إلى التغير في المزاج الفرنسي إثر اعتداءات شارلي إيبدو.
مَن يتذكر جورج غالاوي وجهوده الحثيثة لمنع إسقاط صدام حسين؟ حينها لم يفلح غالاوي في التأثير على سياسة بلاده، على رغم وجود تيار محلي وعالمي قوي مناهض للحرب على صدام. وجه الشبه بين غالاوي والنواب الأربعة أنهم، لاعتبارات مختلفة، اجتمعوا على مشروعية لقاء مستبد فتك بشعبه وجيرانه، ينفرد غالاوي عنهم باعتناقه أيديولوجيا الممانعة، ويتميزون عنه بعنصرية لا تكترث بالإبادة ما دامت تحدث للآخرين. وجه الشبه الآخر أن النواب الأربعة على خطى غالاوي خرقوا الحياء الخاص بالطبقة السياسية في بلدهم، واعتلوا موجة شعبوية بعيدة عن المصالح والموجبات التي تحكم القرار السياسي العام، فما فعله النواب يُترجم شكلياً تلك الموجة التي تفاضل بين الأسد وداعش لمصلحة الأول بما أن إرهابه مقتصر على السوريين وأحياناً على اللبنانيين.
لكن تجربة الحكومة الفرنسية مع نظام الأسد، يمينية كانت أو يسارية، لا تدعم فرضية تكرار الأخطاء السابقة. الاشتراكيون في الأصل لم يكونوا يوماً على علاقة جيدة بالنظام، واليمين الذي قاد العلاقة من خلال الرئيسين شيراك وساركوزي مُني بخديعة كبرى في المرتين. في العام 2005، غداة اغتيال الرئيس الحريري، وجه كاتب هذه السطور سؤالاً مباشراً لدبلوماسية فرنسية مطِّلعة عن الموقف الفرنسي المستجد حينها، وما إذا كان مرتبطاً بشخص الرئيس الحريري تحديداً؟ إجابة الدبلوماسية يختصرها قولها عن الأسد "لقد خدعنا": لقد خدعنا عندما اتصلنا به ليساعد في إطلاق الصحافيين الفرنسيين المختَطفين في العراق، جورج مالبرونو وباتريك شيسنو، إذ رصدت مخابراتنا اتصالات من المخابرات السورية بالخاطفين تطلب منهم عدم الإفراج عنهما. لقد خدعنا عندما تعهد بإنجاح اتفاقيتي باريس1 وباريس2، الخاصتين بالاقتصاد اللبناني، وعمل من خلال أعوانه في لبنان على إفشالهما. لقد خدعنا عندما تعهد بمنح الأفضلية لشركات النفط الفرنسية في التنقيب في سوريا، ولم يحترم حتى قواعد المنافسة فمنح حق التنقيب لشركات أمريكية. لقد خدعنا عندما ورطنا في المشاركة في برامج الإصلاح الإداري في سوريا، مستغلاً السمعة الفرنسية، ولم يلتزم بأيٍّ من مشوراتنا المتعلقة بالإصلاح... وأخيراً لقد خدعنا عندما تعهد بحماية الرئيس الحريري ثم جرّده من الحماية العادية المخصصة له.
أغلب الظن أن تلك الدبلوماسية لم تقل سوى ما هو مسموح قوله، وأن أية حكومة فرنسية تتسلم السلطة ستجد أمامها ملفات ضخمة عن أكاذيب النظام على كافة المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية، وستجد أمامها عبرة ساركوزي الذي قدم نفسه كقائد "ثوري" على مستوى السياسة الفرنسية ككل، لكنه فشل تماماً في تأهيل النظام. وضع الفرنسيين والأوربيين عموماً مختلف عن وضع الإدارة الأمريكية، فالنظام تعاطى دائماً على أن في وسعه خداع الأوربيين طالما بقي مخلصاً وشفافاً في علاقته مع الإدارات الأمريكية، ويُسجّل له كونه "من خارج الحلفاء" الأكثر تعاوناً مع المخابرات الأمريكية في حربها على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر، حتى بعد الثورة لم يُخلّ النظام بأي من التزاماته الأمريكية وعلى رأسها صفقة الكيماوي.
نعم، هناك في الغرب تيار "داعشي" غير منظّم، داعشي بمعنى أنه مبني على الخوف من داعش، الخوف الذي يدفعه إلى القبول بالشيطان إذا كان مشاركاً في الحرب على داعش. هذا التيار عشوائي بقدر ما هي غريزة البحث عن الأمان عشوائية، ولا يتوقف عند المحددات الأخلاقية الإنسانية لأن أمانه الشخصي يعلو عليها. من حسن الحظ أن النواب الأربعة لم ينسبوا لمبادرتهم أو لمضيفهم فضائل أخلاقية، بل أشار أحدهم صراحة إلى عدم نسيانه ضحايا مضيفه قائلاً إنه يعشق "النقاش مع الشيطان"، ومن المعلوم أن التعاقد المزعوم مع الشيطان هو التفسير الأسطوري لما يُعتقد أنها إنجازات عبقرية، هكذا تقول الأسطورة الفاوستية بنسخها العديدة، لكن أياً من تلك النسخ لم يتحدث عن عقد بين المهرج والشيطان.
لم يتحرك الجهاديون اللبنانيون في بداياتهم وفق منظومة فكرية محددة، بل إن تجاربهم تطورت وأفضت مع الزمن إلى تشكيل ملامح هويتهم الحالية، وهي هوية تعاضد في تكوينها عامل تشابك الحضور الفلسطيني في الداخل اللبناني، مع ما يعنيه ذلك من شراكة في الحركة وتداخل في الأداء، ويمكن القول إن الفعل "الجهادي" في لبنان كان نتاج الموجات الخارجية التي انبعثت منذ الجهاد الأفغاني وتطورت مع تشكل تنظيم "القاعدة".
كما نلاحظ أنه لم يخرج من اللبنانيين رموز جهادية بارزة، كما كان الحال مع المجتمعات العربية الأخرى.
ما قبل "القاعدة"
كان الانتماء إلى الفكر الإخواني -ولا يزال- حالة مرنة، دخل في فلكها الكثيرون وغادروها إلى تجارب أخرى، منها ما هو علمي دعوي تربوي، ومنها ما هو تنظيمي حركي جهادي.
ينظر الإخوان المسلمون إلى قضية الجهاد باعتبارها جهاد دفع يلجؤون إليه في حال وقوع العدوان، بحيث تبقى المواجهة ضمن حدود الإقليم المعتدى عليه، ولا تتعداه لتصبح مواجهة شاملة.
وفي لبنان، شكلت "الجماعة الإسلامية" (تنظيم الإخوان بلبنان) جناحاً عسكرياً خلال الحرب الأهلية حمل اسم "المجاهدون" وشارك بشكل محدود في المواجهات الداخلية، وبعد الغزو الصهيوني للبنان عام 1982 تشكلت مجموعة مقاومة من شبان الجماعة وكانت الدافع الفعال في انسحابه من مدينة صيدا، التي شكلت مع مخيم عين الحلوة بعد ذلك محيطاً اتسم بخصوصية الخروج عن دائرة النظام السوري الأمنية، وانطلقت منه عمليات عسكرية استهدفت الوجود السوري في بيروت وطرابلس ومناطق أخرى.
لم يستطع مقاومو الاحتلال السوري الصمود في وجه تمدده وطغيانه على الحياة السياسية والأمنية، ولم تأخذ "الجماعة الإسلامية" خيار المواجهة العسكرية، فخرج معظم من قاتل القوات السورية من لبنان، ووقع الآخرون في قبضتها الأمنية ولبثوا في سجونها سنوات طوالاً.
انتهت الحرب اللبنانية باتفاق الطائف الذي قضى بحلّ المليشيات واستيعابها في الجيش وفي الأجهزة الأمنية، وهذا ما حصل مع مجمل المجموعات المقاتلة، باستثناء "المليشيات" السنية، مثل "حركة الناصريين المستقلين/ المرابطون" و"حركة التوحيد الإسلامي"، مما أوقع المقاتلين السنة فريسة الفقر والتهميش، وزاد الطين بلة إهمالُ حركة التوحيد وغيرها لعناصرهم ولعائلاتهم، وخاصة المعتقلين والجرحى.
وقد أدى تراكم عوامل الإقصاء والتهميش والإفقار إلى إيجاد بيئة تبحث عن المخارج المتاحة، حتى ولو كانت تحمل مخاطر الانتماء إلى تنظيمات تصنفها الدولة بأنها إرهابية ومحظورة.
العوامل الخارجية
لم تستقطب التعبئة للجهاد الأفغاني الكثير من الشباب اللبناني، باستثناء قلة محدودة كان أبرزهم بسام كنج الذي عاد إلى لبنان، وبلغ تحركه الذروة في "أحداث الضنية" أواخر عام 1999 وبداية عام 2000، التي كانت الأولى من نوعها بين مجموعة جهادية والجيش اللبناني، وتدخلت الوصاية السورية لإفشال كل الوساطات لمنع وقوع مواجهة دموية أسقطت في النهاية عشرات الضحايا في صفوف الطرفين. تلت أحداثَ الضنية حملةُ اعتقالات شملت بضع مئات من الموقوفين، خرجوا من السجن بموجب عفو عام 2005.
"في تقييم إجمالي لتجربة الضنية أواخر عام 1999 وبداية عام 2000، وما تلاها من أحداث، يتضح أن "الجهاديين اللبنانيين" -الذين نشطوا داخل الأراضي اللبنانية، ولم يشاركوا في تجارب الجهاد الخارجية- لم يمتلكوا القدرة على أداء أمني محترف قادر على إحداث اختراقات كبيرة في جدار الواقع اللبناني"
وفي تقييم إجمالي لتجربة الضنية وما تلاها، يتضح أن "الجهاديين اللبنانيين" -الذين نشطوا داخل الأراضي اللبنانية، ولم يشاركوا في تجارب الجهاد الخارجية- لم يمتلكوا القدرة على أداء أمني محترف قادر على إحداث اختراقات كبيرة في جدار الواقع اللبناني، بحيث بقيت تحركاتهم مقتصرة على بعض التفجيرات المحدودة، مثلما حصل في استهداف بعض المطاعم والمنشآت ذات الطابع الأجنبي.
ثم تطورت آليات استقطاب الشباب بعد الغزو الأميركي للعراق، حيث ارتفعت نسبة اللبنانيين المنخرطين في صفوف التنظيمات الجهادية، لكن العنصر الفلسطيني/اللبناني بقي الأكثر حضوراً، وخصوصاً من مخيم عين الحلوة، في أجواء استخدم النظام السوري الجهاديين ورقة ضغط وتفاوض مع الإدارة الأميركية، عبر التسهيل والتواطؤ المخابراتي مع واشنطن.
أما الاقتحام الأكبر للمجموعات الجهادية في لبنان فقد كان من خلال تنظيم "فتح الإسلام" الذي اصطدم بالجيش اللبناني في 20 مايو/أيار 2007، بعد أن أخرج النظام السوري قيادته من سجونه -وعلى رأسها شاكر العبسي- ليدفع بهم إلى المخيمات اللبنانية وينتهي بهم المطاف في مخيم نهر البارد، الذي تحوّل أنقاضاً بعد مواجهة شرسة تمكن في نهايتها العبسي وآخرون من مغادرة المخيم، في خطوة لا تزال لغزاً حتى الساعة.
أظهرت المواجهات مع "فتح الإسلام" خطورة وجود شبكة محترفة من الجهاديين على الأراضي اللبنانية، من حيث الكلفة البشرية والمادية، إلا أن حجم المشاركة اللبنانية في هذه المعارك بقي محدوداً، واقتصر على عشرات الشبان المتحدرين من مناطق شديدة التهميش في طرابلس (مقابر الغرباء وحي المنكوبين).
الثورة السورية: الاستقطاب الأكبر
مع اندلاع الثورة السورية وتحولها تحت وطأة قمع النظام إلى مواجهة ميدانية، ومع التورط الإيراني في دعم النظام؛ تحولت سوريا إلى مقصد لأعداد من الشباب المنتمين إلى أهل السنة في لبنان، الذين تحركوا بداية بمبادرات متعجلة أسقطت كثيرين منهم في الطريق على الحدود.
وفي أجواء الثورة السورية، شكّل المآل النهائي لمجموعة الشيخ أحمد الأسير نقطة تحوّل في مسار الجهاديين، حيث بدأ الشيخ حراكه سلمياً وانتهى بخوض معركة ضد الجيش اللبناني ومليشيات "حزب الله" في منطقة عبرا (صيدا)، بعد نجاح الحزب في إحداث الصدام بين الجيش والمجموعة الأسيرية، وتحوّل الناجون مع الشيخ الأسير إلى العمل والتنسيق مع المعارضة السورية، بحيث بات جزءاً من حركة المعارضة السورية، وإن كانت محدودة النطاق.
عند ظهور المجموعات الإسلامية الجهادية في سوريا، وتحديداً جبهة النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية"، وانتشارهما وتوسع مساحات سيطرتها، بدأت عمليات استقطاب الشباب بشكل منظم، في إطار مشروعيْ الجبهة والتنظيم، مما أحدث تحولاً جوهرياً في طبيعة انتشار الجهاديين في لبنان.
"مع اندلاع الثورة السورية وتحولها تحت وطأة قمع النظام إلى مواجهة ميدانية، ومع التورط الإيراني في دعم النظام؛ تحولت سوريا إلى مقصد لأعداد من الشباب المنتمين إلى أهل السنة في لبنان، الذين تحركوا بداية بمبادرات متعجلة أسقطت كثيرين منهم في الطريق على الحدود"
شهد لبنان خلال عام 2014 سلسلة تفجيرات استهدفت مناطق شيعية تخضع لنفوذ "حزب الله" شنتها "كتائب عبد الله عزام"، لكنها اتسمت بالتخبط ومحدودية الأثر، نظراً لارتفاع مستوى الاستنفار لدى الحزب، بالتوازي مع تسخير أجهزة الدولة اللبنانية في مواجهة تسبب الحزب في استجلابها إلى لبنان جراء تورطه في العدوان على الشعب السوري، فضلاً عن الاختراق الأمني ومحدودية التدريب والاحتراف لدى المجموعة المنفذة، باستثناء التفجير الذي استهدف السفارة الإيرانية.
وفي هذه الموجة شارك "انغماسيون" لبنانيون في بعض التفجيرات، وكان هذا مؤشراً إضافياً لتوسع دائرة الاستقطاب "الجهادي" للشباب اللبناني.
شهد لبنان مواجهات حدودية عند الحدود الشرقية على مراحل متعاقبة، بينما لا يزال عشرات الجنود اللبنانيين مخطوفين لدى جبهة النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية"، بعد أن سقط آخرون بين قتيل وجريح.
كانت المعادلة في هذه المرحلة مبنية على أن تدخل "حزب الله" في الحرب السورية استدعى الرد في الداخل اللبناني.
وبينما تُبقي جبهة النصرة مسافة تفصلها عن الداخل اللبناني، يضع تنظيم "الدولة الإسلامية" -مع تمدده في عدد من دول المنطقة- السيطرة على مساحة من لبنان نصب عينيه، بحيث يجعل منها منطلقاً لمشروعه التوسعي، الذي يشمل القرى الشيعية المحاذية للقلمون السورية وباتجاه الشمال اللبناني، بينما يزداد استثماره في حالات الاحتقان الداخلي على صعيد الصراع الشيعي/السني، وفي ارتفاع مستوى الاعتقالات ذات الطابع الانتقائي في الشارع السنـّي، وسط تراجع في الدور الاقتصادي وتقهقر في الحضور الخدماتي للدولة اللبنانية.
إن مشاركة الشباب اللبناني في القتال داخل سوريا جعل منهم مقاتلين في صفوف الجماعات السورية المعارضة، واستبعد فكرة قيام كيان جهادي لبناني صرف، حيث بات تنظيم "الدولة الإسلامية" يعلن الاستعداد لـ"تحرير ولاية لبنان"، في حين أنه تمكن من استقطاب أعداد وافرة من الشبان باتوا يتلقون التدريبات في معسكراته بسوريا، ويجهزون أنفسهم للدخول إلى المعادلة اللبنانية وفق أجندة التنظيم.
لبنان أرض جهاد
لم يعد لبنان منذ بضعة أشهر أرض نصرة، بل تحوّل في منظور تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى أرض جهاد ونزال ومواجهة، الأمر الذي سيرتب المزيد من وجوه الصراع، وهو ما تحدث عنه وزير الداخلية نهاد المشنوق عندما توقع أن يكون عام 2015 عاماً شديد الصعوبة على لبنان.
"بينما تُبقي جبهة النصرة مسافة تفصلها عن الداخل اللبناني، يضع تنظيم "الدولة الإسلامية" -مع تمدده في عدد من دول المنطقة- السيطرة على مساحة من لبنان نصب عينيه، بحيث يجعل منها منطلقاً لمشروعه التوسعي، الذي يشمل القرى الشيعية المحاذية للقلمون السورية وباتجاه الشمال اللبناني"
أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" مؤخراً الاستعداد لتحرير "ولاية لبنان"، بالتوازي مع إعلان كتائب عبد الله عزام دعوتها الجنود في الجيش اللبناني إلى الانشقاق على قيادتهم الخاضعة لـ"حزب الله"، في حين تتسرب الأنباء عن وجود مئات من الشباب اللبنانيين تلقوا في فترات ماضية دورات تدريب قتالية عالية المستوى، في حين يتخرج أقران لهم ويستعدون للعودة إلى لبنان، تلاقيهم في الداخل اللبناني مجموعات سورية منظمة باتت تعمل على ملاقاة مشروع التنظيم في الفترة المقبلة.
وقد بدت آثار هذا الاستقطاب من خلال المواجهة الأخيرة التي اندلعت في طرابلس والمنية (شمال لبنان) في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، انحصرت في مجموعة محسوبة على جبهة النصرة، وانتهت بانسحاب متقن للمقاتلين، في حين تمكن تنظيم "الدولة الإسلامية" من دفع شابين من طرابلس (حي المنكوبين) إلى القيام بتفجير "انغماسي" في محلة بعل محسن التي تسكنها أغلبية علوية، اتهِم بعضُ أبنائها الموالين للنظام السوري بتفجير مسجديْ السلام والتقوى عام 2013.
هناك من يذهب إلى الحديث عن دخول تنظيم "الدولة الإسلامية" المعادلة اللبنانية من خلال اختلال في المعادلات الإقليمية والحدودية، وعبر اختراقات في المناطق الحدودية أوسع مما حصل في جرود عرسال، حيث تسيطر جبهة النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية" على ما يقارب 4% من مساحة لبنان، ويراهن التنظيم على تحرك واسع النطاق -على غرار ما حققه في ليبيا- لإعلان مشروعه في لبنان، في تطور تجاوز مسألة المواجهة مع "حزب الله" ليدخل في إطار رسم معالم وحدود المرحلة الآتية على لبنان والمنطقة.
تسربت أقاويل عن تعيين الشيخ أحمد الأسير أميراً لولاية لبنان، وحسب المعلومات المتوافرة فإن هذا التعيين لم يحصل، لكن الأسير سيكون أميراً على أول بقعة يسيطر عليها تنظيم الدولة مستتقبلاً.
يكثف تنظيم الدولة ترتيباته ويحثّ خطواته لدخول لبنان، بينما تشير المعطيات إلى أن تجربته مع اللبنانيين الذين تعاونوا معه باتت نموذجاً فاشلاً، وهم باقون كواجهة ليس أكثر، في حين أن الفعل الميداني سيكون للتنظيم الذي يبدو أنه يستعد لمرحلة توسع جديدة في المناطق الحدودية، مراهناً على استقطاب ولاء الأهالي وسط مغريات الانفكاك من ثقل الانتماء إلى دولة باتت بعيدة عنهم في الحضور والرعاية، وسط حرب مذهبية تستدعي الاحتماء بالمذهب وتستحضر القوة عنصراً أساسياً في الحفاظ على الوجود.
تساؤلات كثيرة تفرض نفسها حول الآتي من الأيام، منها ما يتعلق ببقاء الجغرافيا والاجتماع السياسي على حاله.. أم أن رياح التغيير ستعصف ببعض الحدود ليدخل لبنان أتون الدول المتآكلة داخلياً وحدودياً؟
رفض الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وصف موقف مصر من الأزمة السورية بالحياد. وهو قال في حواره مع «الشرق الأوسط» الذي نشر السبت الماضي «نحن قلنا وجهة نظرنا منذ البداية وهي البحث عن حل سلمي سياسي والحفاظ على وحدة الأراضي السورية. هذا عنوان الحل والذي يشتمل على المعالجة المتزنة، وحل الميليشيات والعناصر المسلحة»، وزاد «فهل هذا حياد؟» وعن موقف القاهرة من قضية بقاء الرئيس بشار الأسد قال، «هناك فرق بين البحث عن حلول أو البحث عن استمرار الأزمة لسنوات. ومعنى حل سياسي سلمي لن يكون الحل لمصلحة طرف واحد وإنما لمصلحة الجميع».
هذا الموقف تكرر امس في البيان الذي صدر عن الرئاسة المصرية في نهاية زيارة الرئيس المصري للرياض. البيان اشار الى إن «الرئيس السيسي شدد على أن اهتمام مصر ينصرف إلى الحفاظ على الدولة السورية ذاتها وحماية مؤسساتها من الانهيار، مؤكداً أهمية التوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة». الموقف المصري من الأزمة السورية بقي مجرد رأي، يتردد في التصريحات الصحافية، والبيانات التي تعقب الزيارات المتبادلة. هل جاء الوقت الذي تتحرك فيه القاهرة، وتصوغ هذا الموقف في مبادرة يتم طرحها، رغم ما يبدو لبعضهم من حساسية هذا الموقف لدى السعودية وبعض دول الخليج؟
القاهرة ومعها الرياض تدركان الآن ان المجتمع الدولي لم يعد متحمساً لحرب في سورية، فضلاً عن ان موقف السعودية يلتقي مع مصر في هدف حقن دماء الشعب السوري، لكن يبقى الشق الثاني من «المبادرة» وهو القبول بالنظام كمرحلة انتقالية، او القبول ببعض رموزه.
من الواضح ان القاهرة وجدت، هذه المرة، تفهماً مختلفاً في الرياض لحل الأزمة السورية. وتضمين بيان الرئاسة المصرية موقفها من سورية، بعد محادثات الرياض، مؤشر الى ان السعودية اصبحت اكثر قرباً من الرؤية المصرية، وربما عاودت النظر في طريقة معالجة الأزمة على نحو ينسجم مع المرحلة الراهنة، ويطمئن مخاوف مصر، وما يشكله انهيار سورية على امنها القومي. لا شك في ان الرياض والقاهرة اصبحتا اليوم اكثر قربًا من بعضهما بعضاً في رؤية الملف السوري. وربما ارتضتا تراجعاً محسوباً لكل منهما، يفضي الى امكانية الحديث عن دور سعودي - مصري مقبل، لتسوية الصراع في سورية.
الأكيد ان القاهرة وجدت ترحيبًا من الرياض للعب دور مؤثر في ملف الأزمة السورية، وهي بالنسبة إلى السعودية ستكون وجهًا مقبولاً لإحداث تطور في المشهد السوري. فضلاً عن ان التوافق السعودي - المصري سيجعل القاهرة اكثر قدرة على الحركة، والتعامل مع اطراف الصراع من دون حساسية شركائها.
الامر لا يبدو معقداً ولا غريباً، يبدو بالفعل أن هناك قلقا أمريكيا من مستقبل التحولات السياسية المقبلة في تركيا، التي تتجه إلى الاستغناء الكلي عن الحليف الامريكي، وربما حلف الأطلسي، على الأقل هذا نبض الشارع.
وبعيدا عن الموقف الرسمي التركي، يبدو أن الامور تسير باتجاه نقل القـــاعدة الجوية إنجــــرليك، التي لن تتم باتجاه العراق، لأن مستقبلها في العـــراق قد لا يكون مناسباً بســبب وجـــود قاعدة أمريكـــية هناك تفي بالغـــرض، وهنا تطفو خطــوة نقل هذه القاعدة إلى الأراضي السورية، وهـــو أمر ممـــكن وسهل التنفيذ، ولا أستبعد أن يتم ذلك خلال الصيف المقبل.
وجود القاعدة بحد ذاته داخل تركيا لا يخدم الأمريكان البتة، خصوصا أن مجمل التحولات تؤكد أن حروبهــم في المنطقـــة طويلة، ولذلك فالبــديل يجب أن يكون مناسبا وبشكل أفضل على المدى البعيد، فما بين شمال لبنان وشمال سوريا، تبقى منطقة الشمال السوري مرشحة لهذا الأمــر، وهو ما يعكس قلق الامريكان ورفضــهم خلال الفــترة الماضية المقترحات التركية بخصوص منطـــقة عـــازلة، وكأن الامريكان كانوا ينتظــــرون نضوج كثير من المسائل بغية الوصول إلى هذا الاعلان، الذي تحت سقفه ستقيم أمريكا قاعدتها الجديدة في سوريا.
الأتراك وهم عملياً الأذكى في إدارة موقفهم من المسألة السورية، لأنهم حتى اللحظة جنبوا انفسهم الاشتباك المباشر على الأرض، هم يقومون بنقل ضريح سليمان شاه، في توقيت أعلن قبله عن توافق تركي أمريكي على تدريب عناصر من المعارضة السورية، ولهذا قراءته، فهناك جهة سورية تستعد امريكا لتقديمها على أنها الجهة التي تمثل المعارضة، وهي لن تكون مختلفة عن نمط الصحوات التي شهدناها في العراق، وتبقى الجغرافية الشمالية هي المهمة للأمريكان، لذلك سنشهد تحــولات قريبة، وبروز عشرات الآلاف في الشمال السوري، هدفهم قتال «تنظيم الدولة»، وهذا يعني بالضبط أن الأمريكان يقومون بتنفيذ أجندة خاصة، تبدأ من تدريب المعارضة إلى الاعـــلان عن منطـــقة عازلة يسيطرون عليها، أو الإعلان عن منطقة حظر جوي، وتكون عمليا خطــوات نقل القاعدة تجري على الارض.
الأهم من القاعدة ونقلها، هناك رؤية أمريكية ترى أن الصراع في سوريا طويل الأمد، وهو أحد وسائل إبقاء امريكا قوة عظمى تسيطر على المنطقة، وأحد أسباب تأمين بقاء إسرائيل أطول فترة، والأهم من ذلك الإدارة المباشرة للمنطقة، خصوصا أن النظام الرسمي العربي بات متهالكاً، لذلك فمسألة توظيف هذا النظام بالحروب، هي أفضل وسيلة لإطالة عمره، فالاستقرار النسبي إذا دخل المنطقة العربية فسيفتح مئات الملفات التي يعجز الامريكان عن إيجاد حلول لها من خلال أنظمة إذا ضعفت فقد تبدل مشهد التاريخ المقبل كله.
من دواعي نقل قاعدة انجرليك هو سهولة تقديم الامدادات اللوجستية على الارض، فالحرب الجوية ضد «تنظيم الدولة» لا قيمة لها على المدى البعيد، ولن تمنع تقدم هذا التنظيم في أكثر من مكان، وتبقى فكرة تغيير شكل الصراع في سوريا نقطة مهمة، وهو ما يعني بالضرورة وجودا برياً على الأرض للمشاركة ولو من بعيد في المعركة.
الحرب الاولى في سوريا ستكون بين القوة الايرانية ومعها حزب الله في الجنوب السوري والغوطة، وسيعمل الامريكان على دعم المعارضة هناك بما يضمن لهم استنزاف ايران اطول فترة ممكنة، وبما يضمن ايضا صمت المعارضة هناك عن تفاصيل المشهد السوري بعمومه.
المعركة الثانية هي استنزاف دول الخليج وإشراكهم في نشر جيوشهم في صحراء الأردن، لأن حماية الاردن هي نقطة المعادلة التي تعني المساس بأمن اسرائيل، وهذا الاستنزاف كفيل بان يوجه أنظار الامة بأكملها إلى الانغماس بمزيد من الصراعات الداخلية.
المعركة الثالثة هي اســـتنزاف الاكراد ومن تبقى من المعارضة السورية، في القــتال ضد «تنظـــيم الدولة»، وهي معـــركة تجري الاستعدادات لها بشكل كبير، وبخطط كبيرة يهدف الامريكان منها إلى إبعاد هذا التنظيم إلى عمق الصحراء، لتخفيف مخاطره.
بتقديري ان «تنظيم الدولة» يعي سياسياً الحدث، وهو بالفعل بدأ ينسحب باتجاه العمق، تاركاً للأمريكان الطريق مفتوحة للنزول إلى الأرض شمال سوريا وإقامة قاعدتهم، ولا اظن أن ما يحدث هو هزيمة للتنظيم، أو توافق مع الأمريكان لان هذا خارج المنطق.
نقل قاعدة إنجرليك من تركيا إلى شمال سوريا بات قريباً في الوقت الحالي، وما سيليه تحولات هائلة في شكل الحرب في سوريا، التي هي طويلة، وطويلة أيضا.
بوصول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى الرياض يكون تاسع زعيم يلتقي بالملك سلمان بن عبد العزيز في 4 أسابيع. الحراك السياسي الذي تقوده الرياض، واحتضنه قصر خادم الحرمين الشريفين بـبلدة "عرقة" يعطي دلالات عدة، ليس على مستوى التغير في السياسة الخارجية للسعودية فحسب كما يشير البعض، بل إلى حرص قادة من مختلف دول العالم إلى الالتقاء بالملك سلمان والتباحث في السياسات التي تتعلق بالوضع في المنطقة العربية والعالم.
هناك تنبؤات عاطفية، مبنية على اندفاع آيديولوجي، بأن زيارة إردوغان سيعقبها تغير في موقف الرياض من الإخوان المسلمين وغيرهم من جماعات الإسلام السياسي، وأخرى تتحدث عن مصالحة بين أنقرة والقاهرة تقودها الرياض، على الرغم من نفي الرئيس التركي أن يكون بينه وبين الرئيس المصري أي لقاء. لكن ما هو أهم من ذلك كله وقف التمدد الإيراني في المنطقة وإيجاد حل سريع للأزمة السورية.
الحراك السياسي الذي تقوده الرياض قد يكون محاولة لإعادة الصف العربي إلى ما كان عليه من الاجتماع، على الأقل بصورة أكثر سلمية وأمنا، مع الإبقاء على الاختلاف في وجهات النظر تجاه ملفات عدة. والحديث عن التحالف السعودي - التركي منطقي، لكن لا يوجد شيء في السياسة اسمه "الآن". كل شيء يأخذ وقته، حتى زيارة إردوغان للمملكة والتي تحدثت عنها مصادر في الرئاسة التركية أنها مجدولة منذ فترة وأجلت لظروف طارئة.
هناك من يتحدث أن الرياض، بقيادة الملك سلمان، ستلعب دور الحكم المحايد في الفترة القادمة، وستحاول تهدئة الوضع الملتهب في الشرق الأوسط، واجتذاب الأطراف المختلفة على طاولة الحوار والتقريب بين وجهات النظر، وفي الوقت ذاته ما تزال بعض الماكينات الإعلامية تحاول شرخ تلك الجهود وتعطيلها، من خلال مواصلة نشر ما يظنه البعض أسبابا كافية مثلاً لإرباك العلاقة بين دول الخليج ومصر. لكن المنطق والواقع كان معاكسا لأمنيات الغوغاء.
من يراقب وسائل التواصل الاجتماعي لدى كل زيارة لرئيس دولة أو حدث إقليمي، يجده في الشق الأول محللا مخمنا يصل في بعض الأحيان إلى مصدر للخبر، وطبعاً مصدر غير موثوق بل موتور أحياناً. أما فيما يتعلق بتعامل وسائل التواصل الاجتماعي مع الأحداث الإقليمية، ولعل آخرها احتلال الحوثيين للعاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر (أيلول) الماضي، يجد أن هناك أصواتا بنبرة مرتفعة تطالب بأن تتدخل السعودية ودول الخليج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن السياسة لا تبنى على "ما يطلبه المغردون" بالتأكيد، وبعد هدوء وتنسيق رفيع المستوى، كان قرار السعودية بنقل سفارتها إلى عدن، وتجديد التأكيد على شرعية الرئيس هادي، وهي الخطوة التي تبعها نقل سفارات دول خليجية وغربية إلى المدينة الجنوبية، في محاولة أشبه ما تكون لعزل التمرد الحوثي في صنعاء، بل إعلانها عاصمة "محتلة".
كل هذا الحراك تلعب الرياض فيه دورا رئيساً من خلال الواجب الذي تمليه عليها مكانتها العربية والإسلامية، لكن كيف يمكن إقناع البعض بأن التمدد الإيراني في المنطقة ليس نجاحاً ولا عبقرية، بل هو انتشار ما قبل الانحسار، ومن يستطع إقناعهم أن التضخم في طهران تضاعف 3 مرات منذ بدء الأزمة السورية؟ ومن يستطع أن يقنع البعض أنه لولا التدخل السريع لقوات "درع الجزيرة" في البحرين قبل سنوات لكان لإيران موطء قدم بطريقة أو أخرى؟
حين نقول إن حراكا سياسيا في الرياض، لا يعني أن الحراك لم يكن موجوداً من قبل، بل هو الآن في مرحلة إعادة ترتيب الأوراق والملفات، ومن الصعب القول بإعادة "التحالفات". لكن التقريب بين وجهات النظر في ملفات وتأجيل النظر في الاختلاف حول بعضها، قد يكون تحالفاً بصيغة أخرى.
في أول يوم من تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، نشرت صحيفة {النيويورك تايمز} الأميركية تحليلا سياسيا أن أبرز الملفات التي ستواجه خادم الحرمين الشريفين هي تعامله مع اتهام الإسلام بالإرهاب من خلال انتشار منظمات إرهابية كـ"داعش" و"جبهة النصرة" وغيرها، إلى جانب انخفاض أسعار النفط وقدرته على مواصلة عملية التنمية وتلبية تطلعات شعبه. وفي الأسبوع الأول، كانت جملة من القرارات والأوامر الملكية بإعادة تشكيل مجلس الوزراء، وضخ دماء شابة في المجلس وفي مناصب قيادية في الدولة، وكطمأنة لمن أقلقهم انخفاض أسعار النفط، كانت هناك زيادات في معاشات المتقاعدين وأمر الملك براتب شهرين لجميع موظفي الدولة وطلاب التعليم العالي داخل المملكة وخارجها، مما بعث برسالة مفادها ان انخفاض أسعار النفط يعد تحدياً في أمور أخرى، لكن ليس فيما يتعلق بالتنمية ورفاهية الشعب.
والأسبوع الماضي، قال الملك سلمان لدى استقباله ضيوف مؤتمر مكة العالمي لمحاربة الإرهاب، إن السعودية تدعم الإسلام المعتدل، مؤكداً على محاولة تشويه الإرهابيين لصورة الإسلام السمح.
هذا هو موقف السعودية القديم المتجدد من الجماعات الإرهابية. ولعل الحراك السياسي الذي تشهده الرياض هو محاولات مستمرة وحثيثة لترسية السلم والاستقرار في المنطقة العربية، ووقف جنون التمرد الإيراني، ورسم خريطة طريق عربية لإصلاح ما يمكن إصلاحه، ولتبديد أحلام التطرف والاستبداد.
أحد أوجه الحرب المعلنة على الشعوب العربية، منذ أربع سنوات، اتهام ثورات الربيع العربي بأنها التي قادت المجتمعات إلى الانقسام والفوضى والخراب الذي تعرفه، اليوم، بلدان عربية عديدة. والحال ليس ما تعيشه هذه المجتمعات نتيجة الثورات التي عرفتها، والتي كانت، على العموم، سلمية وسياسية، وإنما ثمرة إجهاضها، ودفع المجتمعات، من جديد، إلى السقوط في هاوية العبودية واليأس. فما نشهده، اليوم، من عودة الحرب المعلنة بين النخب المتكالبة على الدولة تحت شعار حمايتها، والدفاع عن مؤسساتها ضد "البرابرة" الجدد من جهة، والنخب الإسلامية التي وضعت يدها على الدين، لإضفاء الشرعية على صراعها، من أجل السلطة والمشاركة في الحكم، أو لانتزاعه ممّن أصبحوا يعتقدون أنهم أصحابه الشرعيون النهائيون، من جهة ثانية، هو بالضبط ما كان سائداً قبل ثورات الربيع العربي، وما جعل أنظمة عربية عديدة تحكم بقانون الطوارئ والأحكام العرفية، عقوداً، وتسحق كل بادرة احتجاج أو تعبير مختلف. وهذا هو الوضع الذي أنتج، أيضاً، جدلية التطرف والعنف، ودفع مجموعات معارضة عديدة إلى الانخراط في أعمال قتالية، ردت عليها السلطات الحاكمة بمجازر جماعية، كان ضحيتها، بالدرجة الأولى، المدنيون الأبرياء، ومثالها ونموذجها الأكبر مذبحة حماة في سورية عام 1982.
الثورة خيار الشعوب
"لن يقتصر أثر تفجير المجتمعات وزعزعة الأسس العميقة لاستقرارها على البلدان العربية والإسلامية وحده"
كانت هذه الحرب الأهلية المديدة تعبيراً عن الشرخ الذي ظهر مع بداية عهد الاستقلال، لكنه ما لبث أن توسّع وتعمّق، حتى قضى على الوطنية الوليدة كلها، بين كتلتين، أو نخبتين سياسيتين، ورؤيتين للدولة والمجتمع، تبني كل منهما مشروعها على إقصاء الأخرى، ولا ترى سبيلاً إلى تحقيق برنامجها، من دون الانفراد بالحكم والسيطرة الأحادية على الدولة، إما باسم الوفاء للهوية، منظوراً إليها من زاوية العقيدة الدينية، أو باسم الدفاع عن القيم "التقدمية" القومية أو "العلمانية" المرتبطة بالحداثة والمعاصرة. كلاهما تُخضِعان السياسة للعقيدة، وتضعان الدولة والإدارة العامة في خدمة تحقيق الأجندة الخاصة على حساب بلورة أجندة وطنية دامجة. كانت مظاهر هذه الحرب واضحة في الخطاب العدواني المتبادل، والاتهامات بالتخوين والتكفير، وبتحويل السجون إلى مقر إقامة دائمة و"تأهيل" ملايين الشباب الناشطين. لكن، حتى في هذه الحقبة، لم تعدم هذه الحرب الأهلية، ذات الوتيرة الضعيفة، لحظات اشتعال وتسعير قويين، ظهرت على شكل انتفاضات، أو عمليات مسلحة، أو حملات اعتقال وتعذيب وقتل بالجملة، حتى لو أنها كانت تسعى، دائماً، إلى إخفاء وجهها والتلطي خلف شعارات أمنية ودينية محايدة.
بل إن هذه الحرب المشتعلة جهاراً، أو تحت الرماد، التي دانت المجتمعات بالدوران في الفراغ والتخلّف والبؤس وعدم الاستقرار، هي المولّدة الحقيقية للثورة السلمية التي تفجّرت باسم الربيع العربي، وكان هدفها إصلاح ما أحدثته خيارات الدولة والمعارضة في الحقبة السابقة من فتنةٍ جعلت من الهوية نقيضاً للحداثة، ومن الحداثة نقيضاً للهوية، وقتلت أي أفق للتجديد والتغيير والانسجام الاجتماعي، وحكمت على المجتمعات بالدمار المعنوي والمادي. وكانت هذه الثورة، في مادتها وجمهورها وأسلوبها السلمي ومظاهرها الاحتجاجية الشعبية، وشعاراتها وصورها وأهازيجها، عيداً وطنياً جامعاً، ومناسبة لإعادة توحيد الشعوب والمجتمعات، وبث روح الألفة والانسجام والتفاهم والتسامح في ما بينها، في ما وراء انتماءات أفرادها الأهلية، الدينية والقومية والمذهبية، بعد شقاق مديد، أي كانت فرصة لولادة الشعب والأمة الدولة، ومصهراً تتعانق فيه الأجيال الجديدة مع الأجيال القديمة، ويتفاعل فيه التراث مع الحداثة، وتلتقي فيه السياسة بالثقافة والفن، وتصدح فيه الوطنية الجامعة بالقيم الإنسانية والنظرة العالمية. وككل ثورة، كان الربيع العربي طفرة وجدت فيها المجتمعات، التي فتّتها وشلّ إرادتها العنف والشك والعزلة والاضطهاد، نفسها في سياق جديد، أو خارج السياق الطبيعي، في لحظة يتكثف فيها التاريخ، وتشعر فيها الجماعات بقوة استثنائيةٍ، تدفعها إلى تخطي تناقضاتها ونزاعاتها القديمة، وكل ما عجزت عن تخطيه في الشروط العادية، والتجرؤ على قيود مادية ومعنوية كثيرة كبّلتها قروناً، لحظة تتصالح فيها المجتمعات مع ذاتها، ويتوحّد فيها الماضي مع الحاضر، والتاريخ مع الجغرافيا، والفرد مع الجماعة، ويمتزج فيها الحلم بالواقع، ويتطابق فيها المصير والمستقبل، تنجز فيها المجتمعات في أيام ما تعجز عن إنجازه في قرون.
"إجهاض ثورات الربيع العربي قنبلة تاريخية طويلة المدى والانفجار، لن تتوقف مفاعيلها قريباً"
لم تولد هذه الثورات من رحم السياسة الأيديولوجية والفئوية التي فرّغت المجتمعات من طاقاتها واستنزفتها، وصارت مثالاً للفساد والإفساد والتنازع والخلاف، وإنما في مواجهتها وضدها. ولدت من السياسة بالمعنى النبيل الذي يشير إلى عملية تحرير الأفراد والمجتمعات من مخانق التاريخ والأيديولوجيات وصراعاتها القديمة، ومن ورائها إلى ولادة المواطنة وبناء الوطنية كمشروع أخوّة جامعة تتجاوز الفوارق والتمايزات، وتوحد الأفراد في ظل قانون الحرية والكرامة والمساواة. ولدت في حضن جمهور لم يعرف السياسة القديمة أصلاً، ولم ينخرط في أي نزاعات على السلطة، ما عرفتها النخب السياسية السائدة. وقامت على أكتاف أجيال الشباب التي عانت، أكثر من أي فئات أخرى، القهر والإذلال والخوف والتهميش، أجيال ملّت المعارك الأيديولوجية والسياسية الفارغة، الشخصية والفئوية، التي سدّت على المجتمعات كل الأبواب، وأفرغت الدولة والدين معاً من وظائفهما الإنسانية الأساسية، بدل أن تفتح لها طريق التحرر والتغيير والخلاص. وفي هذه اللحظة الاستثنائية، اكتشف المجتمع، من جديد، المعنى الخالص للوطنية، وأطلق شعار الشعب الواحد، ومفهوم الدولة المدنية.
الثمن الباهظ لإجهاض الثورة
أشعلت هذه الثورات، التي حررت الشعوب من انقساماتها وفواتها التاريخي وتخلّف نخبها، ودفعت بها إلى قلب التاريخ، أملاً عظيماً عند ملايين الأفراد في تجاوز الأزمة الطويلة التي عاشتها الدول والمجتمعات، وما رافقها في عقود الاستقلال الطويلة من انقسامات مدمرة بين إسلاميين وعلمانيين، وقوميين وقطريين، ويساريين وليبراليين، ومتغربين وسلفيين، والانطلاق، أخيراً، موحدين نحو المستقبل.
"ربما دخلنا، منذ الآن، في المنطق الذي يعرف كل طرف فيه أنه لم يعد هناك ما يربحه، وأن الهدف تكبيد الخصم أكبر الخسائر، لا الانتصار عليه"
لكن، مرة أخرى، اصطدمت إرادة التحرر عند الشعوب بمصالح قوى محلية وإقليمية ودولية عاتية: المصالح الدنيئة للنُّظُم المافيوية الفاسدة التي حوّلت البلدان إلى مزارع وإمارات خاصة، والمصالح التوسعية للدول المأزومة، الباحثة عن نفوذ خارجي، تغطي به على تناقضاتها الداخلية، وفي مقدمها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومصالح النظم شبه الامبرطورية التي أرادت أن تعوّض بتعطيل المنظومة الدولية، واستعادة مناخ الحرب الباردة عن الدور الذي لم تعرف الوصول إليه بالمشاركة الإيجابية في العالم، ومصالح إسرائيلية وجدت في شعار "الأسد أو نحرق البلد" حرب التدمير الذاتية التي لطالما تمنتها، للقضاء على ما تبقى من قوى عربية. واصطدمت، أخيراً، بخواء منظومة الحق العالمية، وتخلي الأمم المتحدة والدول الكبرى عن مسؤولياتها، سواء نتيجة اعتقادها بأن سلام الشرق الأوسط ومستقبله ومصيره لم يعد يشكل مصلحة أساسية لها، أو بسبب جرثومة العنصرية المبطنة والخوف من الإسلام والعرب الذي لجم أي روح تضامن حقيقية في الغرب مع شعوب المنطقة منذ عقود طويلة. ومن الواضح أننا، اليوم، بصدد تبديد إحدى الفرص الكبرى النادرة التي قدمها التاريخ للمجتمعات العربية، لكي تنهض بنفسها، وتتحرر من عطالتها ودورانها الطويل على نفسها، وتدخل في صميم قيم العصر ودينامياته. وهي الفرصة التي كان العرب ينتظرونها منذ قرن، لاستعادة روح المبادرة التاريخية، وعودة الثقة بالنفس والقدرة على المراجعة الحرة لإرث الماضي السلبي، وتقاليده ونماذج تنظيمه.
وكما يحصل في كل الانكسارات، لن تكون نتيجة إجهاض ثورة الشباب العربي العودة البسيطة إلى ما كان عليه الوضع السياسي والاجتماعي من قبل. ما سنشهده هو أزمة مضاعفة مرات عديدة، عنوانها الرئيسي تعميم النزاع والعنف، من دون حدود ولا ضوابط ولا روادع. لن تستطيع أي نخبة أن تفرض سيادتها وسلطتها على أي مجتمع، ولا أن تعيد بناء أي دولة وإدارة ثابتة ومستقرة. ولن تبقى الحرب محصورة في التنافس الدموي بين نخبتين تتنازعان على احتكار السلطة والسيطرة على الدولة والمجتمع والفضاء العام، وإنما ستتحول إلى حروب مركبة ومتعددة واسعة الانتشار. وسوف يضاف إلى الحروب الناجمة عن إجهاض الوطنية الذي عرفناه في السابق، الحروب الجديدة النابعة من انفجار المجتمعات وتشظيها، بحيث لن يعود الصراع على الدولة هو المشكلة، وإنما سيحل محله صراع الجماعات والفئات المتعددة في ما بينها، وعلى أنقاض بعضها. فبعكس ما كان سائداً قبل الثورات، لن تبقى الصراعات ذات طبيعة سياسية، يقتصر الانخراط فيها على النخب التي تملك مشاريع وأجندات خاصة، لكنها سوف تدفع كل فئات المجتمع إلى الدخول فيها. وتحولها من حروب لغايات محددة، دينية أو سياسية، إلى حروب حياة أو موت لهذه الجماعات. وكما هو الحال في كل الحروب التي يكون طابعها الصراع من أجل البقاء، لن تحتمل هذه النزاعات أي تسويات أو حوارات، ولن تقيس ربحها وانتصارها إلا بحجم العنف والإبادة التي يكبّدها كل طرف للطرف الآخر، ومستوى الوحشية التي يعامل بها فريق غريمه. وربما دخلنا، منذ الآن، في هذا المنطق الذي يعرف كل طرف فيه أنه لم يعد هناك ما يربحه، وأن الهدف تكبيد الخصم أكبر الخسائر، لا الانتصار عليه. هذه هي حروب القتل الهمجي والتطهير العرقي المتبادل والانتقام.
"لن تبقى الصراعات ذات طبيعة سياسية، يقتصر الانخراط فيها على النخب التي تملك مشاريع وأجندات خاصة"
لن يكون القضاء على ثورات الربيع العربي إجهاضاً لمشروع ولادة أمم حديثة بقيت، منذ عقود طويلة، ضحية تلاعب الكبار وحكراً على سلطة العصبيات الأهلية ومافيات السياسة والمال فحسب، لكنه يعني، لا أكثر ولا أقل، الحكم على شعوب كاملة بالإعدام. ولن يقتصر أثر تفجير المجتمعات وزعزعة الأسس العميقة لاستقرارها على البلدان العربية والإسلامية وحدها، لكنه سيشكل الحلقة الأولى من مسلسل تعميم موسّع للفوضى والعنف، ومنطلق ارتدادات تهدد بتحويل العالم، شيئاً فشيئاً، إلى ميدان موحد للصراع، أقل أمناً بكثير ممّا كان عليه قبل هذه الثورات، وأكثر تشتتاً وتفتتاً وأقل استعداداً للانضباط والجمع والاتساق. إجهاض ثورات الربيع العربي قنبلة تاريخية طويلة المدى والانفجار، لن تتوقف مفاعيلها قريباً، ولن تستطيع قوة حصرها. وليس صعود موجة التطرف والإرهاب إلا الجزء البسيط البارز من جبل الإحباط والخوف والبؤس الذي يقبع على قلب المجتمعات المحطمة والمتروكة من دون أمل، ولا مستقبل، ولا أوهام.
يضع إجهاض هذه الثورات، كما لم يحصل من قبل، موضع السؤال من جديد، بناء الدول والانتقال التاريخي المعاق للمجتمعات نحو الحداثة والتصالح مع العالم، ويجدد التفكير في نقد الأسس التي أقام عليها النظام العالمي استقراره خلال القرن الماضي، ويكشف عن الزوايا الميتة التي تركها من حوله، ودفعت ولا تزال إلى تهميش ثلثي البشرية، وسد آفاق التطور والتقدم والنمو الأخلاقي والمادي أمامها. ولا يمكن أن يمر حرمان الشعوب من التقدم، وتجاهل تطلعاتها إلى الانخراط في عصرها، والتمتع بقيمه، من دون ثمن.
باختصار، كما كانت ثورات الربيع العربي خيار التحرر عند الشعوب، فإن داعش خيار اليأس والانتحار.
في تصريح لافت نقلته وكالة "فارس" الرسمية مؤخرا وفي سياق الاحتفالات بذكرى الثورة الإيرانية؛ أعلن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري اللواء قاسم سليماني أن "مؤشرات تصدير الثورة الإسلامية باتت مشهودة في كل المنطقة؛ من البحرين والعراق إلى سوريا واليمن وحتى شمال أفريقيا".
والحال أن مصطلح "تصدير الثورة" قد خرج من التداول الرسمي في الأدبيات الإيرانية منذ ما يقارب ثلاثة عقود؛ أيام الحرب العراقية الإيرانية التي كانت حجة العراق فيها هذا المصطلح الذي يعني أنه (أي العراق) الخطوة التالية لمد أو تمدد الثورة الإيرانية، ليس فقط لأنه دولة جوار، بل أيضا لأن ما يقارب نصف سكانه من الشيعة، مع التذكير بأن النِّسب هنا لا تخلو من جدل بشأنها بين مكونات العراق الثلاثة.
وحين نتحدث عن قاسم سليماني بوصفه صاحب التصريح، فنحن لا نتحدث عن سياسي أو عسكري أو أمني عادي في الدولة الإيرانية، بل نتحدث عن الرجل الذي يجري رفعه إلى مقام الأسطورة، وتدبَّج له الأغاني، ويتصدر المناسبات، ربما على نحو يختفي معه الرئيس مثلا، بل حتى المرشد نفسه في بعض الأحيان، مع أنه ينتسب إلى ذات المنظومة "المحافظة" التي تقف قبالتها منظومة أخرى تتمثل في التيار الإصلاحي الذي يتصدره كل من رفسنجاني وروحاني، بعد تغييب الآخرين بالإقامة الجبرية، وفي مقدمتهم مير حسين موسوي ومهدي كروبي.
"لا أحد يُذْكَر داخل إيران ولا في الأوساط الشيعية في الخارج كما يُذكر سليماني، الذي يعرف المعنيون بالشأن الإيراني منذ زمن أنه المسؤول الفعلي عن العمليات والعلاقات الخارجية لإيران، وهو الذي يديرها في شتى أرجاء الأرض"
لا أحد يُذْكَر داخل إيران ولا في الأوساط الشيعية في الخارج كما يُذكر سليماني، الذي يعرف المعنيون بالشأن الإيراني منذ زمن أنه المسؤول الفعلي عن العمليات والعلاقات الخارجية لإيران، وهو الذي يديرها في شتى أرجاء الأرض، بما في ذلك ما يتعلق بالجاليات الشيعية في الخارج، فضلا عن الأقليات الشيعية في الدول العربية والإسلامية.
إنه الرجل الذي يحرِّك عشرات المجموعات المسلحة ويتحكم في موازنات ضخمة، ولا يمكن تبعا لذلك التعاطي مع تصريحه بوصفه زلة لسان، بقدر ما يعبر عن إستراتيجية ورؤية تتبعها إرادة تطبيقها في أماكن كثيرة لم تصلها بعد، وفي مقدمتها تلك التي تؤوي أقليات شيعية يجري الخلاف حول نسبتها، وفي مقدمتها دون شك الكويت والمملكة العربية السعودية، فضلا عن البحرين التي يعتبر شيعتها أنهم الأحق بالحكم بوصفهم الأغلبية (النسب هنا محل جدل أيضا بين الحديث عن أغلبية كبيرة، أو أغلبية بتفوق بسيط).
منذ عامين ونحن نقول إن إيران تنتقل من الناحية الواقعية من برنامج المقاومة والممانعة (ما زالت تتاجر بشعاره لأغراض التسويق) إلى دولة المذهب التي تعتبر نفسها مسؤولة عن كل معتنقيه في شتى أرجاء الأرض، سواء أكانوا يمسكون بالسلطة أو ببعضها -كما هو الحال في الدول التي ذكرها سليماني (سوريا، العراق، اليمن) ومعها لبنان الذي لم يذكره، ربما لأنه نسيه، وربما لاعتبارات الوضع السياسي لحزب الله، بينما هو ضمن المجموعة- أم كانوا أقليات خارجية، فضلا عن أن تكون أغلبية نسبية كما هو الحال في البحرين.
جدير بالذكر أن سوريا تنهض كحالة خاصة، إذ إن الطائفة التي تمسك بالحكم عمليا ليست شيعية، وهي تصنف كافرة وفق الفقه الشيعي، والشيعة فيها يعدون أقلية محدودة جدا، لأن العلويين أنفسهم لا تتجاوز نسبتهم عشرة في المائة من السكان؛ وبالتالي، فهي حالة أقرب إلى الاحتلال السياسي والعسكري، وأقله الاستعمار الذي يختلف عن النماذج الأخرى.
ومع أن اليمن قد يبدو كذلك نظرا لحقيقة أن نسبة الحوثيين لا تصل عشرة في المائة، وإن ذهبت إيران نحو اعتبار جميع الزيديين في ذات المربع أيضا، وهم في مجموعهم لا يصلون ثلث السكان، مع أن أكثرهم لا يلتقون مع الحوثيين لا فكرا ولا سياسة، كما يبدو.
"حين يعلن سليماني رسميا استعادة مصطلح تصدير الثورة، فإن على الأنظمة العربية أن تدرك تبعا لذلك أن الأمر لم يعد مقصورا على سوريا والعراق واليمن ولبنان، بل سيشمل دولا أخرى كثيرة"
أيا يكن الأمر، فسليماني يعلن رسميا استعادة مصطلح تصدير الثورة، وعلى الأنظمة العربية أن تدرك تبعا لذلك أن الأمر لم يعد مقصورا على سوريا والعراق واليمن ولبنان، بل سيشمل دولا أخرى كثيرة (حديثه عن أفريقيا يستحق وقفة أخرى تبعا لمستويات التمدد في بعض بلدانها)، وهي إذا لم تجد سبيلا إلى صد هذه الهجمة ووقف هذا الجنون، فإن المأساة ستطول.
لن تعلن الأقلية الحرب على الأغلبية ثم تربحها، ولن توسِّع دولة نفوذها أكثر من قدرتها على الاحتمال إلا ووقعت أسيرة للاستنزاف، كما حصل للاتحاد السوفياتي ذات يوم؛ إن كان في أفغانستان، أم في سياق الحرب الباردة وسباق التسلح أثناء حقبتها. ومن يتابع وكالة "فارس" ويرى خبر تطوير الأسلحة بين يوم وآخر، لا بد أن يتذكر الاتحاد السوفياتي.
إيران تكرر القصة ذاتها. نحن واثقون من ذلك، لكن التصدي الجاد لجنونها وغطرستها سيقلل من المعاناة المترتبة عليها، بما في ذلك على إيران نفسها وشعبها الذي يعاني من العقوبات والنزيف على كل صعيد، إذ قد يدفعها هي أيضا إلى استعادة بعض الرشد مبكرا، لا سيما أن مؤشرات تقدم الإصلاحيين لا تبدو قوية، بافتراض أنهم أقرب إلى الرشد من المحافظين، وهم كذلك على ما يبدو برفضهم للمغامرات الخارجية، ربما باستثناء ما يتعلق بالعراق الذي يراه الجميع خاصرة مهمة، ومجالا حيويا لا يمكن التهاون حياله.
ليس بعيدا اليوم الذي تصبح فيه الأزمة السورية أزمة إيرانية أيضا. فإذا كان النظام السوري نجح إلى الآن في شيء، يمكن القول إنّه نجح في أمر واحد. وضع سوريا تحت الوصاية الإيرانية وذلك بكلّ ما تعنيه الوصاية من نتائج. قبل ذلك، حوّل الأزمة العميقة التي يعاني منها إلى أزمة سورية بامتياز، تمهيدا لتحوّلها إلى أزمة إيرانية بعدما صار على طهران زج مزيد من الرجال في الداخل السوري.
بات مستقبل سوريا في مهب الريح بعدما فشل النظام طوال أربع سنوات في قمع الشعب السوري وتدجينه. أكثر من ذلك، زاد النظام الأزمة السورية تعقيدا بعدما راهن على أنّ صعود “داعش” سيساعد في تأهيله. ولكن الأهمّ من ذلك كلّه، يظلّ جديد سوريا على بعد أيّام من دخول ثورتها السنة الخامسة، التورط الإيراني المباشر بالرجال في حرب داخلية فشل النظام في تحقيق أيّ نوع من الحسم فيها.
منذ مارس من العام 2011، تاريخ اندلاع الثورة الشعبية، سعت إيران إلى تزويد النظام بكلّ ما يحتاجه من مساعدات. كانت الأموال الإيرانية تتدفق في البداية على نحو مباشر. لكنّ الفساد الذي يعاني منه النظام، حمل إيران على مطالبة النظام بلائحة تتضمن تفاصيل ما يحتاجه كي يبقى على رجليه، وذلك بديلا من تقديم مبالغ نقدية.
على الصعيد البشري، اكتفت طهران في البداية بإرسال مستشارين عسكريين إلى دمشق والمناطق السورية المختلفة. لجأت بعد ذلك إلى تدريب آلاف العناصر السورية الأمنية في أراضيها بعدما اكتشفت أنّ هذه العناصر لا تمتلك أيّ خبرة في قمع الثورات الشعبية. استفاد النظام الإيراني في هذا المجال من الوسائل والأساليب التي اعتمدها في قمع الثورة الشعبية التي هدّدت وجوده في العام 2009.
استطاعت إيران، التي كانت تدفع ثمن معظم الأسلحة التي يحصل عليها النظام السوري، من روسيا، الحؤول دون تحرير دمشق بعدما ورّطت “حزب الله” والميليشيات المذهبية العراقية في الحرب التي يشنّها بشّار الأسد على شعبه.. وعندما نجحت في تغطية الاستخدام المكشوف للسلاح الكيميائي.
ساعدها في ذلك وجود إدارة أميركية، على رأسها باراك أوباما، تفضّل استمرار القتال الداخلي في سوريا إلى ما لا نهاية. الدليل على ذلك، امتناع أوباما عن تنفيذ تهديداته، حتّى عندما لجأ النظام السوري إلى السلاح الكيميائي صيف العام 2013. بدل توجيه ضربات محدّدة إلى قواعد جوّية بما يعطل القدرة على ضرب المدنيين وتدمير المدن والبلدات السورية على رؤوس سكّانها، كما يحصل حاليا في دوما القريبة من دمشق، استجابت واشنطن للنصائح الروسية واكتفت بتجريد النظام من مخزون السلاح الكيميائي. ليس معروفا، إلى اليوم ما الذي تريده إدارة أوباما في سوريا، خصوصا أنّه يصدر عنها الشيء وعكسه في اليوم ذاته. كيف يعترف الرئيس الأميركي بأنّ بشّار الأسد وراء صعود “داعش” ولا يفعل شيئا من أجل التخلّص من النظام؟ هل همّه الوحيد الملفّ النووي الإيراني الذي يختزل، إلى إشعار آخر، كلّ ملفات الشرق الأوسط؟
حمت إيران دمشق وأمّنت استكمال عملية تطهير ذات طابع مذهبي استهدفت حمص ومناطق أخرى وذلك من أجل إبقاء الطريق مفتوحة بين العاصمة والساحل السوري. ترافق ذلك مع إلقاء روسيا بثقلها من أجل عدم تحرير العاصمة. ساعدت إيران في منع سقوط النظام، بالسلاح والفيتو في مجلس الأمن!
لا وجود، أقلّه إلى اليوم، لقرار دولي بتحرير دمشق. كلّ ما هناك، رغبة في إبقاء الوضع على حاله. هناك كرّ وفرّ ولكن ليس في استطاعة أيّ طرف الحسم، مع ما يعنيه ذلك من صعود مستمرّ لـ”داعش” وتمدّدها مع تنظيمات أخرى مثل “جبهة النصرة”.
تبيّن مع مرور الوقت أنّ العراق لم يعد قادرا على توفير الدعم المطلوب، خصوصا مع استيلاء “داعش” على مناطق شاسعة فيه. كذلك، لم يعد نوري المالكي منذ العام الماضي رئيسا للوزراء، كما تحوّلت الدولة العراقية إلى دولة مفلسة نتيجة الفساد الذي لا حدود له من جهة وهبوط أسعار النفط من جهة أخرى. حتى لو شاء العراق دعم النظام السوري، لم تعد إمكاناته تسمح له بذلك.
تميّزت الأشهر القليلة الماضية بمزيد من التورّط الإيراني. كان أفضل تعبير عنه الدعوة الصادرة عن “المرشد” علي خامنئي إلى قتال الإيرانيين في سوريا والعراق ولبنان. كانت إيران، الشريك في الحرب على الشعب السوري، تسعى في الماضي إلى قتال هذا الشعب بالعراقيين واللبنانيين.. والأفغان. الآن، بات الوجود العراقي في سوريا مقتصرا على مجموعات صغيرة في ضوء حاجة الأحزاب المذهبية العراقية إلى ميليشياتها للوقوف في وجه “داعش” ومتابعة عملية تقليص الوجود السنّي في بغداد والمناطق المحيطة بها.
أمّا بالنسبة إلى “حزب الله” الذي ألقى بكل ما لديه من إمكانات في سوريا، ثمّة مشاكل كبيرة يواجهها على كلّ صعيد، بما في ذلك الدور الذي لعبه في نقل الحريق السوري إلى الداخل اللبناني على نحو تدريجي. فبغضّ النظر عن كلّ ما يصدر عن الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله، لا يمكن إلاّ أن يكون هناك، في نهاية المطاف، عقلاء في الطائفة الشيعية الكريمة يدركون أنّ لا مجال لانتصار النظام السوري على شعبه. أكثر من ذلك، سيولّد تورّط “حزب الله” في سوريا حقدا يُخشى أن يستمر، بكلّ أسف، سنوات طويلة. يستهدف الحقد الذي يكتنز صدور السوريين طائفة لبنانية بكاملها. هذا ليس بالأمر السهل في ظلّ حال الفوضى التي تبدو سوريا مقبلة عليها. سيكون مستبعدا أن يكون هناك نظام قويّ يسيطر على كل الأراضي السورية في السنوات القليلة المقبلة، خصوصا بعد تدمير النظام الحالي المتهالك كلّ مؤسسات الدولة ووضع نفسه تحت الوصاية الإيرانية…
الواضح أن عدد الإيرانيين المشاركين في المعارك يزداد في وقت يخوض النظام معركتين كبيرتين في درعا ومحيطها وفي حلب ومحيطها.
هل ستنجح إيران حيث فشل النظام السوري ومعه “حزب الله” والميليشيات العراقية؟
بات المطروح إيرانيا البحث عن بدائل. في غياب القدرة على السيطرة على سوريا كلّها، لم يعد مستبعدا أن تكتفي إيران بجزء من الأراضي السورية المرتبطة بالبقاع اللبناني ولديه واجهة بحرية.. مع تأكيد احترام هذا الجزء لكل الاتفاقات السورية ـ الإسرائيلية في الجولان. وحده الوقت سيكشف هل هذا رهان في محله.
الثابت أنّ سوريا بعد أربع سنوات من الثورة ما زالت تفاجئنا. تبقى المفاجأة الأولى في صمود شعبها في مقاومة نظام هدر له كرامته باسم حزب البعث أحيانا وباسم الطائفة والعائلة في كلّ الأحيان.
قبل نحو عام تماما، كان الشك يحيط بأي بحث عن صورة أو معلومة أو خبر عنه. السائد حينها هو التكتم حول دوره وحركته، أعني قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني. كانت للرجل مهمة هي تصدير قيم ثورة الخميني خارج الحدود الإيرانية وما عناه ذلك من مزج بين الآيديولوجيا الدينية والعمل الأمني، لكن دائما تحت ستار من الغموض والسرّية.
تغير الحال الآن..
لم تعد اللقطات الخاصة بالرجل بكاميرات غير احترافية نادرة ولم تعد الفيديوهات الأرشيفية له مجرد ثوان من مناسبات عامة ظهر فيها سريعا. فمنذ أشهر باتت صور قاسم سليماني وفيرة وعالية الجودة. فقائد فيلق القدس وبشكل متعمد ومقصود يبتسم للكاميرا ويسهب في الظهور في لقطات ينظر فيها مباشرة إلى العدسة ليتحقق من نجاح لقطاته معانقا جنودا ومقاتلين إيرانيين وعراقيين وسوريين في العراق وسوريا متفقدا جبهات ومشاركا ومخططا للقتال. كان هنا في بيروت يزور ضريح قتلى حزب الله الذين سقطوا في القنيطرة السورية والخبر والصورة نشرا علنا..
لم يعد سليماني تلك الشخصية الكتومة التي تراوح دورها على امتداد عقدين تقريبا ما بين الأسطرة والحقيقة. ها هو يقولها لنا صراحة: نعم، أنا رجل إيران القوي المسؤول عن تمدد الدور العسكري الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، وهذه صوري وأنا أسافر وأوزع أدوارا وأدير معارك خارج حدودي، ومخترقا سيادات دول أخرى، وأولئك المقاتلون يأتمرون بما أقول.
الصور بحد ذاتها تحول في استراتيجية طهران التي قررت أن تشهر دورها بلا أي مواربة أو التباس. والحجة في هذا التحول جاهزة: «نحن نحارب (داعش) والتكفيريين. الصور والمقالات التي تروج لسليماني وحركته الظاهرة تقدمه بصفته الشخصية التي تواجه أبو بكر البغدادي. هل تعتقدون أن قوات التحالف هي من أوقف تقدم داعش»، قالها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في لقاء تلفزيوني ساخرا من الغرب وناسبا وقف تمدد «داعش» لسليماني وإيران..
إذن بحسب الرواية الإيرانية وروايات المتحالفين معها سليماني هو الشخص الوحيد القادر على إيقاف «داعش» وهو يقود الجبهة التي تواجه قاطعي الرؤوس والتكفيريين الذين يمارسون عنفا رهيبا..
لكن ما هي استراتيجيته في وقف هؤلاء الدمويين؟
في سوريا دعم سليماني جيش بشار الأسد وحال دون سقوطه، فهو يحاول ضبط قاطعي الرؤوس بمطلقي البراميل ويستعيض عن حارقي الجثث بمعذبي المساجين حتى الموت..
في العراق، وهي الساحة الأقرب والأهم لإيران، تجري محاربة «داعش» عبر ميليشيات من نوع «عصائب أهل الحق» و«كتيبة بدر».. ميليشيات خاضعة مباشرة لإمرة سليماني. أما كيف توقف هذه الميليشيات تمدد «داعش» فهذا ما توثقه لنا تقارير عديدة ليس آخرها ما نشرته منظمة «هيومان رايتس ووتش» عن اعتماد تلك الميليشيات عمليات إعدام جماعي لسجناء وحرق بعضهم وحرق وتجريف منازل في مناطق ديالى حيث السيطرة الإيرانية تامة اليوم في العراق..
يستعمل البعض حين يريد أن يقنعنا بإيران سؤالا ساذجا: أيهما أفضل إيران أم «داعش»؟ على اعتبار أن النتيجة محسومة.. ولكن من قال إن الخيار الذي نرغب به هو أي شيء أقل من «داعش»؟
ثم أن نقبل بممارسات «عصائب أهل الحق» و«كتيبة بدر» بذريعة أنها أقل إجراما من «داعش» فإن ذلك يشكل منتهى الانتهاك.. ناهيك أن المقارنة تفقد قيمتها حين تصبح المقارنة بين قاطع للرأس ومنفذ إعدام جماعي وحارق للسجناء.. ويبدو أن الفارق يضيق حين تبتعد الكاميرا.. «داعش» تصور شراهتها للموت والقتل. و«عصائب أهل الحق» تولت «هيومان رايتس ووتش» توثيق انتهاكاتها؛ فعليكم بقراءتها، فابتسامات قاسم سليماني لن تحجبها..
بعد الاحداث الأخيرة في سوريا عامة والمناطق الشمالية خاصة بين فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة التي فرضت سيطرتها على مناطق الشمال في إدلب وحلب ، و قامت ببعد ذلك بملاحقة قادة الفصائل العسكرية التابعة للجيش الحر ما اضطرهم للفرار واللجوء للأراضي التركية هربا من الإعتقال والمسائلة على يد محاكم جبهة النصرة أو من أي محاولة اغتيال لهم من أي طرف كان .
و لكن ذلك لم يغير بالأمر شيء فقد لاحقهم شبح الموت الى داخل الحدود التركية إما بقتل أو خطف أو محاولة إغتيال ، فبعد إغتيال قائد القناصة في تجمع كتائب و ألوية شهداء سوريا التابع لجبهة ثوار سوريا محمد الأخرس والتمثيل بجثته منذ أكثر من شهر تقريبا ، حيث وجد مقتولا بثلاث طلقات من مسدس وقد مثل بجثته وحرق وجهه بالأسيد ورمي في إحدى غابات تركيا الجنوبية ، تأتي اليوم محاولة إغتيال فاشلة لقائد جبهة حق المقاتلة " يوسف الحسن " عن طريق تفخيخ سيارته في بلدة الريحانية في إقليم هاتي التركي حيث تمكنت الشرطة التركية من تفكيك السيارة قبل إنفجارها .
ولكن الفاعل هنا مجهول فيمكن أن يكون للنصرة أذرع خفية في تركيا تلاحق قادة الحر المطلوبين لها بجرائم عدة ، أم أن هناط طرفا ثالثا له مأرب أخرى !!؟؟