رفض الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وصف موقف مصر من الأزمة السورية بالحياد. وهو قال في حواره مع «الشرق الأوسط» الذي نشر السبت الماضي «نحن قلنا وجهة نظرنا منذ البداية وهي البحث عن حل سلمي سياسي والحفاظ على وحدة الأراضي السورية. هذا عنوان الحل والذي يشتمل على المعالجة المتزنة، وحل الميليشيات والعناصر المسلحة»، وزاد «فهل هذا حياد؟» وعن موقف القاهرة من قضية بقاء الرئيس بشار الأسد قال، «هناك فرق بين البحث عن حلول أو البحث عن استمرار الأزمة لسنوات. ومعنى حل سياسي سلمي لن يكون الحل لمصلحة طرف واحد وإنما لمصلحة الجميع».
هذا الموقف تكرر امس في البيان الذي صدر عن الرئاسة المصرية في نهاية زيارة الرئيس المصري للرياض. البيان اشار الى إن «الرئيس السيسي شدد على أن اهتمام مصر ينصرف إلى الحفاظ على الدولة السورية ذاتها وحماية مؤسساتها من الانهيار، مؤكداً أهمية التوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة». الموقف المصري من الأزمة السورية بقي مجرد رأي، يتردد في التصريحات الصحافية، والبيانات التي تعقب الزيارات المتبادلة. هل جاء الوقت الذي تتحرك فيه القاهرة، وتصوغ هذا الموقف في مبادرة يتم طرحها، رغم ما يبدو لبعضهم من حساسية هذا الموقف لدى السعودية وبعض دول الخليج؟
القاهرة ومعها الرياض تدركان الآن ان المجتمع الدولي لم يعد متحمساً لحرب في سورية، فضلاً عن ان موقف السعودية يلتقي مع مصر في هدف حقن دماء الشعب السوري، لكن يبقى الشق الثاني من «المبادرة» وهو القبول بالنظام كمرحلة انتقالية، او القبول ببعض رموزه.
من الواضح ان القاهرة وجدت، هذه المرة، تفهماً مختلفاً في الرياض لحل الأزمة السورية. وتضمين بيان الرئاسة المصرية موقفها من سورية، بعد محادثات الرياض، مؤشر الى ان السعودية اصبحت اكثر قرباً من الرؤية المصرية، وربما عاودت النظر في طريقة معالجة الأزمة على نحو ينسجم مع المرحلة الراهنة، ويطمئن مخاوف مصر، وما يشكله انهيار سورية على امنها القومي. لا شك في ان الرياض والقاهرة اصبحتا اليوم اكثر قربًا من بعضهما بعضاً في رؤية الملف السوري. وربما ارتضتا تراجعاً محسوباً لكل منهما، يفضي الى امكانية الحديث عن دور سعودي - مصري مقبل، لتسوية الصراع في سورية.
الأكيد ان القاهرة وجدت ترحيبًا من الرياض للعب دور مؤثر في ملف الأزمة السورية، وهي بالنسبة إلى السعودية ستكون وجهًا مقبولاً لإحداث تطور في المشهد السوري. فضلاً عن ان التوافق السعودي - المصري سيجعل القاهرة اكثر قدرة على الحركة، والتعامل مع اطراف الصراع من دون حساسية شركائها.
الامر لا يبدو معقداً ولا غريباً، يبدو بالفعل أن هناك قلقا أمريكيا من مستقبل التحولات السياسية المقبلة في تركيا، التي تتجه إلى الاستغناء الكلي عن الحليف الامريكي، وربما حلف الأطلسي، على الأقل هذا نبض الشارع.
وبعيدا عن الموقف الرسمي التركي، يبدو أن الامور تسير باتجاه نقل القـــاعدة الجوية إنجــــرليك، التي لن تتم باتجاه العراق، لأن مستقبلها في العـــراق قد لا يكون مناسباً بســبب وجـــود قاعدة أمريكـــية هناك تفي بالغـــرض، وهنا تطفو خطــوة نقل هذه القاعدة إلى الأراضي السورية، وهـــو أمر ممـــكن وسهل التنفيذ، ولا أستبعد أن يتم ذلك خلال الصيف المقبل.
وجود القاعدة بحد ذاته داخل تركيا لا يخدم الأمريكان البتة، خصوصا أن مجمل التحولات تؤكد أن حروبهــم في المنطقـــة طويلة، ولذلك فالبــديل يجب أن يكون مناسبا وبشكل أفضل على المدى البعيد، فما بين شمال لبنان وشمال سوريا، تبقى منطقة الشمال السوري مرشحة لهذا الأمــر، وهو ما يعكس قلق الامريكان ورفضــهم خلال الفــترة الماضية المقترحات التركية بخصوص منطـــقة عـــازلة، وكأن الامريكان كانوا ينتظــــرون نضوج كثير من المسائل بغية الوصول إلى هذا الاعلان، الذي تحت سقفه ستقيم أمريكا قاعدتها الجديدة في سوريا.
الأتراك وهم عملياً الأذكى في إدارة موقفهم من المسألة السورية، لأنهم حتى اللحظة جنبوا انفسهم الاشتباك المباشر على الأرض، هم يقومون بنقل ضريح سليمان شاه، في توقيت أعلن قبله عن توافق تركي أمريكي على تدريب عناصر من المعارضة السورية، ولهذا قراءته، فهناك جهة سورية تستعد امريكا لتقديمها على أنها الجهة التي تمثل المعارضة، وهي لن تكون مختلفة عن نمط الصحوات التي شهدناها في العراق، وتبقى الجغرافية الشمالية هي المهمة للأمريكان، لذلك سنشهد تحــولات قريبة، وبروز عشرات الآلاف في الشمال السوري، هدفهم قتال «تنظيم الدولة»، وهذا يعني بالضبط أن الأمريكان يقومون بتنفيذ أجندة خاصة، تبدأ من تدريب المعارضة إلى الاعـــلان عن منطـــقة عازلة يسيطرون عليها، أو الإعلان عن منطقة حظر جوي، وتكون عمليا خطــوات نقل القاعدة تجري على الارض.
الأهم من القاعدة ونقلها، هناك رؤية أمريكية ترى أن الصراع في سوريا طويل الأمد، وهو أحد وسائل إبقاء امريكا قوة عظمى تسيطر على المنطقة، وأحد أسباب تأمين بقاء إسرائيل أطول فترة، والأهم من ذلك الإدارة المباشرة للمنطقة، خصوصا أن النظام الرسمي العربي بات متهالكاً، لذلك فمسألة توظيف هذا النظام بالحروب، هي أفضل وسيلة لإطالة عمره، فالاستقرار النسبي إذا دخل المنطقة العربية فسيفتح مئات الملفات التي يعجز الامريكان عن إيجاد حلول لها من خلال أنظمة إذا ضعفت فقد تبدل مشهد التاريخ المقبل كله.
من دواعي نقل قاعدة انجرليك هو سهولة تقديم الامدادات اللوجستية على الارض، فالحرب الجوية ضد «تنظيم الدولة» لا قيمة لها على المدى البعيد، ولن تمنع تقدم هذا التنظيم في أكثر من مكان، وتبقى فكرة تغيير شكل الصراع في سوريا نقطة مهمة، وهو ما يعني بالضرورة وجودا برياً على الأرض للمشاركة ولو من بعيد في المعركة.
الحرب الاولى في سوريا ستكون بين القوة الايرانية ومعها حزب الله في الجنوب السوري والغوطة، وسيعمل الامريكان على دعم المعارضة هناك بما يضمن لهم استنزاف ايران اطول فترة ممكنة، وبما يضمن ايضا صمت المعارضة هناك عن تفاصيل المشهد السوري بعمومه.
المعركة الثانية هي استنزاف دول الخليج وإشراكهم في نشر جيوشهم في صحراء الأردن، لأن حماية الاردن هي نقطة المعادلة التي تعني المساس بأمن اسرائيل، وهذا الاستنزاف كفيل بان يوجه أنظار الامة بأكملها إلى الانغماس بمزيد من الصراعات الداخلية.
المعركة الثالثة هي اســـتنزاف الاكراد ومن تبقى من المعارضة السورية، في القــتال ضد «تنظـــيم الدولة»، وهي معـــركة تجري الاستعدادات لها بشكل كبير، وبخطط كبيرة يهدف الامريكان منها إلى إبعاد هذا التنظيم إلى عمق الصحراء، لتخفيف مخاطره.
بتقديري ان «تنظيم الدولة» يعي سياسياً الحدث، وهو بالفعل بدأ ينسحب باتجاه العمق، تاركاً للأمريكان الطريق مفتوحة للنزول إلى الأرض شمال سوريا وإقامة قاعدتهم، ولا اظن أن ما يحدث هو هزيمة للتنظيم، أو توافق مع الأمريكان لان هذا خارج المنطق.
نقل قاعدة إنجرليك من تركيا إلى شمال سوريا بات قريباً في الوقت الحالي، وما سيليه تحولات هائلة في شكل الحرب في سوريا، التي هي طويلة، وطويلة أيضا.
بوصول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى الرياض يكون تاسع زعيم يلتقي بالملك سلمان بن عبد العزيز في 4 أسابيع. الحراك السياسي الذي تقوده الرياض، واحتضنه قصر خادم الحرمين الشريفين بـبلدة "عرقة" يعطي دلالات عدة، ليس على مستوى التغير في السياسة الخارجية للسعودية فحسب كما يشير البعض، بل إلى حرص قادة من مختلف دول العالم إلى الالتقاء بالملك سلمان والتباحث في السياسات التي تتعلق بالوضع في المنطقة العربية والعالم.
هناك تنبؤات عاطفية، مبنية على اندفاع آيديولوجي، بأن زيارة إردوغان سيعقبها تغير في موقف الرياض من الإخوان المسلمين وغيرهم من جماعات الإسلام السياسي، وأخرى تتحدث عن مصالحة بين أنقرة والقاهرة تقودها الرياض، على الرغم من نفي الرئيس التركي أن يكون بينه وبين الرئيس المصري أي لقاء. لكن ما هو أهم من ذلك كله وقف التمدد الإيراني في المنطقة وإيجاد حل سريع للأزمة السورية.
الحراك السياسي الذي تقوده الرياض قد يكون محاولة لإعادة الصف العربي إلى ما كان عليه من الاجتماع، على الأقل بصورة أكثر سلمية وأمنا، مع الإبقاء على الاختلاف في وجهات النظر تجاه ملفات عدة. والحديث عن التحالف السعودي - التركي منطقي، لكن لا يوجد شيء في السياسة اسمه "الآن". كل شيء يأخذ وقته، حتى زيارة إردوغان للمملكة والتي تحدثت عنها مصادر في الرئاسة التركية أنها مجدولة منذ فترة وأجلت لظروف طارئة.
هناك من يتحدث أن الرياض، بقيادة الملك سلمان، ستلعب دور الحكم المحايد في الفترة القادمة، وستحاول تهدئة الوضع الملتهب في الشرق الأوسط، واجتذاب الأطراف المختلفة على طاولة الحوار والتقريب بين وجهات النظر، وفي الوقت ذاته ما تزال بعض الماكينات الإعلامية تحاول شرخ تلك الجهود وتعطيلها، من خلال مواصلة نشر ما يظنه البعض أسبابا كافية مثلاً لإرباك العلاقة بين دول الخليج ومصر. لكن المنطق والواقع كان معاكسا لأمنيات الغوغاء.
من يراقب وسائل التواصل الاجتماعي لدى كل زيارة لرئيس دولة أو حدث إقليمي، يجده في الشق الأول محللا مخمنا يصل في بعض الأحيان إلى مصدر للخبر، وطبعاً مصدر غير موثوق بل موتور أحياناً. أما فيما يتعلق بتعامل وسائل التواصل الاجتماعي مع الأحداث الإقليمية، ولعل آخرها احتلال الحوثيين للعاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر (أيلول) الماضي، يجد أن هناك أصواتا بنبرة مرتفعة تطالب بأن تتدخل السعودية ودول الخليج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن السياسة لا تبنى على "ما يطلبه المغردون" بالتأكيد، وبعد هدوء وتنسيق رفيع المستوى، كان قرار السعودية بنقل سفارتها إلى عدن، وتجديد التأكيد على شرعية الرئيس هادي، وهي الخطوة التي تبعها نقل سفارات دول خليجية وغربية إلى المدينة الجنوبية، في محاولة أشبه ما تكون لعزل التمرد الحوثي في صنعاء، بل إعلانها عاصمة "محتلة".
كل هذا الحراك تلعب الرياض فيه دورا رئيساً من خلال الواجب الذي تمليه عليها مكانتها العربية والإسلامية، لكن كيف يمكن إقناع البعض بأن التمدد الإيراني في المنطقة ليس نجاحاً ولا عبقرية، بل هو انتشار ما قبل الانحسار، ومن يستطع إقناعهم أن التضخم في طهران تضاعف 3 مرات منذ بدء الأزمة السورية؟ ومن يستطع أن يقنع البعض أنه لولا التدخل السريع لقوات "درع الجزيرة" في البحرين قبل سنوات لكان لإيران موطء قدم بطريقة أو أخرى؟
حين نقول إن حراكا سياسيا في الرياض، لا يعني أن الحراك لم يكن موجوداً من قبل، بل هو الآن في مرحلة إعادة ترتيب الأوراق والملفات، ومن الصعب القول بإعادة "التحالفات". لكن التقريب بين وجهات النظر في ملفات وتأجيل النظر في الاختلاف حول بعضها، قد يكون تحالفاً بصيغة أخرى.
في أول يوم من تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، نشرت صحيفة {النيويورك تايمز} الأميركية تحليلا سياسيا أن أبرز الملفات التي ستواجه خادم الحرمين الشريفين هي تعامله مع اتهام الإسلام بالإرهاب من خلال انتشار منظمات إرهابية كـ"داعش" و"جبهة النصرة" وغيرها، إلى جانب انخفاض أسعار النفط وقدرته على مواصلة عملية التنمية وتلبية تطلعات شعبه. وفي الأسبوع الأول، كانت جملة من القرارات والأوامر الملكية بإعادة تشكيل مجلس الوزراء، وضخ دماء شابة في المجلس وفي مناصب قيادية في الدولة، وكطمأنة لمن أقلقهم انخفاض أسعار النفط، كانت هناك زيادات في معاشات المتقاعدين وأمر الملك براتب شهرين لجميع موظفي الدولة وطلاب التعليم العالي داخل المملكة وخارجها، مما بعث برسالة مفادها ان انخفاض أسعار النفط يعد تحدياً في أمور أخرى، لكن ليس فيما يتعلق بالتنمية ورفاهية الشعب.
والأسبوع الماضي، قال الملك سلمان لدى استقباله ضيوف مؤتمر مكة العالمي لمحاربة الإرهاب، إن السعودية تدعم الإسلام المعتدل، مؤكداً على محاولة تشويه الإرهابيين لصورة الإسلام السمح.
هذا هو موقف السعودية القديم المتجدد من الجماعات الإرهابية. ولعل الحراك السياسي الذي تشهده الرياض هو محاولات مستمرة وحثيثة لترسية السلم والاستقرار في المنطقة العربية، ووقف جنون التمرد الإيراني، ورسم خريطة طريق عربية لإصلاح ما يمكن إصلاحه، ولتبديد أحلام التطرف والاستبداد.
أحد أوجه الحرب المعلنة على الشعوب العربية، منذ أربع سنوات، اتهام ثورات الربيع العربي بأنها التي قادت المجتمعات إلى الانقسام والفوضى والخراب الذي تعرفه، اليوم، بلدان عربية عديدة. والحال ليس ما تعيشه هذه المجتمعات نتيجة الثورات التي عرفتها، والتي كانت، على العموم، سلمية وسياسية، وإنما ثمرة إجهاضها، ودفع المجتمعات، من جديد، إلى السقوط في هاوية العبودية واليأس. فما نشهده، اليوم، من عودة الحرب المعلنة بين النخب المتكالبة على الدولة تحت شعار حمايتها، والدفاع عن مؤسساتها ضد "البرابرة" الجدد من جهة، والنخب الإسلامية التي وضعت يدها على الدين، لإضفاء الشرعية على صراعها، من أجل السلطة والمشاركة في الحكم، أو لانتزاعه ممّن أصبحوا يعتقدون أنهم أصحابه الشرعيون النهائيون، من جهة ثانية، هو بالضبط ما كان سائداً قبل ثورات الربيع العربي، وما جعل أنظمة عربية عديدة تحكم بقانون الطوارئ والأحكام العرفية، عقوداً، وتسحق كل بادرة احتجاج أو تعبير مختلف. وهذا هو الوضع الذي أنتج، أيضاً، جدلية التطرف والعنف، ودفع مجموعات معارضة عديدة إلى الانخراط في أعمال قتالية، ردت عليها السلطات الحاكمة بمجازر جماعية، كان ضحيتها، بالدرجة الأولى، المدنيون الأبرياء، ومثالها ونموذجها الأكبر مذبحة حماة في سورية عام 1982.
الثورة خيار الشعوب
"لن يقتصر أثر تفجير المجتمعات وزعزعة الأسس العميقة لاستقرارها على البلدان العربية والإسلامية وحده"
كانت هذه الحرب الأهلية المديدة تعبيراً عن الشرخ الذي ظهر مع بداية عهد الاستقلال، لكنه ما لبث أن توسّع وتعمّق، حتى قضى على الوطنية الوليدة كلها، بين كتلتين، أو نخبتين سياسيتين، ورؤيتين للدولة والمجتمع، تبني كل منهما مشروعها على إقصاء الأخرى، ولا ترى سبيلاً إلى تحقيق برنامجها، من دون الانفراد بالحكم والسيطرة الأحادية على الدولة، إما باسم الوفاء للهوية، منظوراً إليها من زاوية العقيدة الدينية، أو باسم الدفاع عن القيم "التقدمية" القومية أو "العلمانية" المرتبطة بالحداثة والمعاصرة. كلاهما تُخضِعان السياسة للعقيدة، وتضعان الدولة والإدارة العامة في خدمة تحقيق الأجندة الخاصة على حساب بلورة أجندة وطنية دامجة. كانت مظاهر هذه الحرب واضحة في الخطاب العدواني المتبادل، والاتهامات بالتخوين والتكفير، وبتحويل السجون إلى مقر إقامة دائمة و"تأهيل" ملايين الشباب الناشطين. لكن، حتى في هذه الحقبة، لم تعدم هذه الحرب الأهلية، ذات الوتيرة الضعيفة، لحظات اشتعال وتسعير قويين، ظهرت على شكل انتفاضات، أو عمليات مسلحة، أو حملات اعتقال وتعذيب وقتل بالجملة، حتى لو أنها كانت تسعى، دائماً، إلى إخفاء وجهها والتلطي خلف شعارات أمنية ودينية محايدة.
بل إن هذه الحرب المشتعلة جهاراً، أو تحت الرماد، التي دانت المجتمعات بالدوران في الفراغ والتخلّف والبؤس وعدم الاستقرار، هي المولّدة الحقيقية للثورة السلمية التي تفجّرت باسم الربيع العربي، وكان هدفها إصلاح ما أحدثته خيارات الدولة والمعارضة في الحقبة السابقة من فتنةٍ جعلت من الهوية نقيضاً للحداثة، ومن الحداثة نقيضاً للهوية، وقتلت أي أفق للتجديد والتغيير والانسجام الاجتماعي، وحكمت على المجتمعات بالدمار المعنوي والمادي. وكانت هذه الثورة، في مادتها وجمهورها وأسلوبها السلمي ومظاهرها الاحتجاجية الشعبية، وشعاراتها وصورها وأهازيجها، عيداً وطنياً جامعاً، ومناسبة لإعادة توحيد الشعوب والمجتمعات، وبث روح الألفة والانسجام والتفاهم والتسامح في ما بينها، في ما وراء انتماءات أفرادها الأهلية، الدينية والقومية والمذهبية، بعد شقاق مديد، أي كانت فرصة لولادة الشعب والأمة الدولة، ومصهراً تتعانق فيه الأجيال الجديدة مع الأجيال القديمة، ويتفاعل فيه التراث مع الحداثة، وتلتقي فيه السياسة بالثقافة والفن، وتصدح فيه الوطنية الجامعة بالقيم الإنسانية والنظرة العالمية. وككل ثورة، كان الربيع العربي طفرة وجدت فيها المجتمعات، التي فتّتها وشلّ إرادتها العنف والشك والعزلة والاضطهاد، نفسها في سياق جديد، أو خارج السياق الطبيعي، في لحظة يتكثف فيها التاريخ، وتشعر فيها الجماعات بقوة استثنائيةٍ، تدفعها إلى تخطي تناقضاتها ونزاعاتها القديمة، وكل ما عجزت عن تخطيه في الشروط العادية، والتجرؤ على قيود مادية ومعنوية كثيرة كبّلتها قروناً، لحظة تتصالح فيها المجتمعات مع ذاتها، ويتوحّد فيها الماضي مع الحاضر، والتاريخ مع الجغرافيا، والفرد مع الجماعة، ويمتزج فيها الحلم بالواقع، ويتطابق فيها المصير والمستقبل، تنجز فيها المجتمعات في أيام ما تعجز عن إنجازه في قرون.
"إجهاض ثورات الربيع العربي قنبلة تاريخية طويلة المدى والانفجار، لن تتوقف مفاعيلها قريباً"
لم تولد هذه الثورات من رحم السياسة الأيديولوجية والفئوية التي فرّغت المجتمعات من طاقاتها واستنزفتها، وصارت مثالاً للفساد والإفساد والتنازع والخلاف، وإنما في مواجهتها وضدها. ولدت من السياسة بالمعنى النبيل الذي يشير إلى عملية تحرير الأفراد والمجتمعات من مخانق التاريخ والأيديولوجيات وصراعاتها القديمة، ومن ورائها إلى ولادة المواطنة وبناء الوطنية كمشروع أخوّة جامعة تتجاوز الفوارق والتمايزات، وتوحد الأفراد في ظل قانون الحرية والكرامة والمساواة. ولدت في حضن جمهور لم يعرف السياسة القديمة أصلاً، ولم ينخرط في أي نزاعات على السلطة، ما عرفتها النخب السياسية السائدة. وقامت على أكتاف أجيال الشباب التي عانت، أكثر من أي فئات أخرى، القهر والإذلال والخوف والتهميش، أجيال ملّت المعارك الأيديولوجية والسياسية الفارغة، الشخصية والفئوية، التي سدّت على المجتمعات كل الأبواب، وأفرغت الدولة والدين معاً من وظائفهما الإنسانية الأساسية، بدل أن تفتح لها طريق التحرر والتغيير والخلاص. وفي هذه اللحظة الاستثنائية، اكتشف المجتمع، من جديد، المعنى الخالص للوطنية، وأطلق شعار الشعب الواحد، ومفهوم الدولة المدنية.
الثمن الباهظ لإجهاض الثورة
أشعلت هذه الثورات، التي حررت الشعوب من انقساماتها وفواتها التاريخي وتخلّف نخبها، ودفعت بها إلى قلب التاريخ، أملاً عظيماً عند ملايين الأفراد في تجاوز الأزمة الطويلة التي عاشتها الدول والمجتمعات، وما رافقها في عقود الاستقلال الطويلة من انقسامات مدمرة بين إسلاميين وعلمانيين، وقوميين وقطريين، ويساريين وليبراليين، ومتغربين وسلفيين، والانطلاق، أخيراً، موحدين نحو المستقبل.
"ربما دخلنا، منذ الآن، في المنطق الذي يعرف كل طرف فيه أنه لم يعد هناك ما يربحه، وأن الهدف تكبيد الخصم أكبر الخسائر، لا الانتصار عليه"
لكن، مرة أخرى، اصطدمت إرادة التحرر عند الشعوب بمصالح قوى محلية وإقليمية ودولية عاتية: المصالح الدنيئة للنُّظُم المافيوية الفاسدة التي حوّلت البلدان إلى مزارع وإمارات خاصة، والمصالح التوسعية للدول المأزومة، الباحثة عن نفوذ خارجي، تغطي به على تناقضاتها الداخلية، وفي مقدمها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومصالح النظم شبه الامبرطورية التي أرادت أن تعوّض بتعطيل المنظومة الدولية، واستعادة مناخ الحرب الباردة عن الدور الذي لم تعرف الوصول إليه بالمشاركة الإيجابية في العالم، ومصالح إسرائيلية وجدت في شعار "الأسد أو نحرق البلد" حرب التدمير الذاتية التي لطالما تمنتها، للقضاء على ما تبقى من قوى عربية. واصطدمت، أخيراً، بخواء منظومة الحق العالمية، وتخلي الأمم المتحدة والدول الكبرى عن مسؤولياتها، سواء نتيجة اعتقادها بأن سلام الشرق الأوسط ومستقبله ومصيره لم يعد يشكل مصلحة أساسية لها، أو بسبب جرثومة العنصرية المبطنة والخوف من الإسلام والعرب الذي لجم أي روح تضامن حقيقية في الغرب مع شعوب المنطقة منذ عقود طويلة. ومن الواضح أننا، اليوم، بصدد تبديد إحدى الفرص الكبرى النادرة التي قدمها التاريخ للمجتمعات العربية، لكي تنهض بنفسها، وتتحرر من عطالتها ودورانها الطويل على نفسها، وتدخل في صميم قيم العصر ودينامياته. وهي الفرصة التي كان العرب ينتظرونها منذ قرن، لاستعادة روح المبادرة التاريخية، وعودة الثقة بالنفس والقدرة على المراجعة الحرة لإرث الماضي السلبي، وتقاليده ونماذج تنظيمه.
وكما يحصل في كل الانكسارات، لن تكون نتيجة إجهاض ثورة الشباب العربي العودة البسيطة إلى ما كان عليه الوضع السياسي والاجتماعي من قبل. ما سنشهده هو أزمة مضاعفة مرات عديدة، عنوانها الرئيسي تعميم النزاع والعنف، من دون حدود ولا ضوابط ولا روادع. لن تستطيع أي نخبة أن تفرض سيادتها وسلطتها على أي مجتمع، ولا أن تعيد بناء أي دولة وإدارة ثابتة ومستقرة. ولن تبقى الحرب محصورة في التنافس الدموي بين نخبتين تتنازعان على احتكار السلطة والسيطرة على الدولة والمجتمع والفضاء العام، وإنما ستتحول إلى حروب مركبة ومتعددة واسعة الانتشار. وسوف يضاف إلى الحروب الناجمة عن إجهاض الوطنية الذي عرفناه في السابق، الحروب الجديدة النابعة من انفجار المجتمعات وتشظيها، بحيث لن يعود الصراع على الدولة هو المشكلة، وإنما سيحل محله صراع الجماعات والفئات المتعددة في ما بينها، وعلى أنقاض بعضها. فبعكس ما كان سائداً قبل الثورات، لن تبقى الصراعات ذات طبيعة سياسية، يقتصر الانخراط فيها على النخب التي تملك مشاريع وأجندات خاصة، لكنها سوف تدفع كل فئات المجتمع إلى الدخول فيها. وتحولها من حروب لغايات محددة، دينية أو سياسية، إلى حروب حياة أو موت لهذه الجماعات. وكما هو الحال في كل الحروب التي يكون طابعها الصراع من أجل البقاء، لن تحتمل هذه النزاعات أي تسويات أو حوارات، ولن تقيس ربحها وانتصارها إلا بحجم العنف والإبادة التي يكبّدها كل طرف للطرف الآخر، ومستوى الوحشية التي يعامل بها فريق غريمه. وربما دخلنا، منذ الآن، في هذا المنطق الذي يعرف كل طرف فيه أنه لم يعد هناك ما يربحه، وأن الهدف تكبيد الخصم أكبر الخسائر، لا الانتصار عليه. هذه هي حروب القتل الهمجي والتطهير العرقي المتبادل والانتقام.
"لن تبقى الصراعات ذات طبيعة سياسية، يقتصر الانخراط فيها على النخب التي تملك مشاريع وأجندات خاصة"
لن يكون القضاء على ثورات الربيع العربي إجهاضاً لمشروع ولادة أمم حديثة بقيت، منذ عقود طويلة، ضحية تلاعب الكبار وحكراً على سلطة العصبيات الأهلية ومافيات السياسة والمال فحسب، لكنه يعني، لا أكثر ولا أقل، الحكم على شعوب كاملة بالإعدام. ولن يقتصر أثر تفجير المجتمعات وزعزعة الأسس العميقة لاستقرارها على البلدان العربية والإسلامية وحدها، لكنه سيشكل الحلقة الأولى من مسلسل تعميم موسّع للفوضى والعنف، ومنطلق ارتدادات تهدد بتحويل العالم، شيئاً فشيئاً، إلى ميدان موحد للصراع، أقل أمناً بكثير ممّا كان عليه قبل هذه الثورات، وأكثر تشتتاً وتفتتاً وأقل استعداداً للانضباط والجمع والاتساق. إجهاض ثورات الربيع العربي قنبلة تاريخية طويلة المدى والانفجار، لن تتوقف مفاعيلها قريباً، ولن تستطيع قوة حصرها. وليس صعود موجة التطرف والإرهاب إلا الجزء البسيط البارز من جبل الإحباط والخوف والبؤس الذي يقبع على قلب المجتمعات المحطمة والمتروكة من دون أمل، ولا مستقبل، ولا أوهام.
يضع إجهاض هذه الثورات، كما لم يحصل من قبل، موضع السؤال من جديد، بناء الدول والانتقال التاريخي المعاق للمجتمعات نحو الحداثة والتصالح مع العالم، ويجدد التفكير في نقد الأسس التي أقام عليها النظام العالمي استقراره خلال القرن الماضي، ويكشف عن الزوايا الميتة التي تركها من حوله، ودفعت ولا تزال إلى تهميش ثلثي البشرية، وسد آفاق التطور والتقدم والنمو الأخلاقي والمادي أمامها. ولا يمكن أن يمر حرمان الشعوب من التقدم، وتجاهل تطلعاتها إلى الانخراط في عصرها، والتمتع بقيمه، من دون ثمن.
باختصار، كما كانت ثورات الربيع العربي خيار التحرر عند الشعوب، فإن داعش خيار اليأس والانتحار.
في تصريح لافت نقلته وكالة "فارس" الرسمية مؤخرا وفي سياق الاحتفالات بذكرى الثورة الإيرانية؛ أعلن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري اللواء قاسم سليماني أن "مؤشرات تصدير الثورة الإسلامية باتت مشهودة في كل المنطقة؛ من البحرين والعراق إلى سوريا واليمن وحتى شمال أفريقيا".
والحال أن مصطلح "تصدير الثورة" قد خرج من التداول الرسمي في الأدبيات الإيرانية منذ ما يقارب ثلاثة عقود؛ أيام الحرب العراقية الإيرانية التي كانت حجة العراق فيها هذا المصطلح الذي يعني أنه (أي العراق) الخطوة التالية لمد أو تمدد الثورة الإيرانية، ليس فقط لأنه دولة جوار، بل أيضا لأن ما يقارب نصف سكانه من الشيعة، مع التذكير بأن النِّسب هنا لا تخلو من جدل بشأنها بين مكونات العراق الثلاثة.
وحين نتحدث عن قاسم سليماني بوصفه صاحب التصريح، فنحن لا نتحدث عن سياسي أو عسكري أو أمني عادي في الدولة الإيرانية، بل نتحدث عن الرجل الذي يجري رفعه إلى مقام الأسطورة، وتدبَّج له الأغاني، ويتصدر المناسبات، ربما على نحو يختفي معه الرئيس مثلا، بل حتى المرشد نفسه في بعض الأحيان، مع أنه ينتسب إلى ذات المنظومة "المحافظة" التي تقف قبالتها منظومة أخرى تتمثل في التيار الإصلاحي الذي يتصدره كل من رفسنجاني وروحاني، بعد تغييب الآخرين بالإقامة الجبرية، وفي مقدمتهم مير حسين موسوي ومهدي كروبي.
"لا أحد يُذْكَر داخل إيران ولا في الأوساط الشيعية في الخارج كما يُذكر سليماني، الذي يعرف المعنيون بالشأن الإيراني منذ زمن أنه المسؤول الفعلي عن العمليات والعلاقات الخارجية لإيران، وهو الذي يديرها في شتى أرجاء الأرض"
لا أحد يُذْكَر داخل إيران ولا في الأوساط الشيعية في الخارج كما يُذكر سليماني، الذي يعرف المعنيون بالشأن الإيراني منذ زمن أنه المسؤول الفعلي عن العمليات والعلاقات الخارجية لإيران، وهو الذي يديرها في شتى أرجاء الأرض، بما في ذلك ما يتعلق بالجاليات الشيعية في الخارج، فضلا عن الأقليات الشيعية في الدول العربية والإسلامية.
إنه الرجل الذي يحرِّك عشرات المجموعات المسلحة ويتحكم في موازنات ضخمة، ولا يمكن تبعا لذلك التعاطي مع تصريحه بوصفه زلة لسان، بقدر ما يعبر عن إستراتيجية ورؤية تتبعها إرادة تطبيقها في أماكن كثيرة لم تصلها بعد، وفي مقدمتها تلك التي تؤوي أقليات شيعية يجري الخلاف حول نسبتها، وفي مقدمتها دون شك الكويت والمملكة العربية السعودية، فضلا عن البحرين التي يعتبر شيعتها أنهم الأحق بالحكم بوصفهم الأغلبية (النسب هنا محل جدل أيضا بين الحديث عن أغلبية كبيرة، أو أغلبية بتفوق بسيط).
منذ عامين ونحن نقول إن إيران تنتقل من الناحية الواقعية من برنامج المقاومة والممانعة (ما زالت تتاجر بشعاره لأغراض التسويق) إلى دولة المذهب التي تعتبر نفسها مسؤولة عن كل معتنقيه في شتى أرجاء الأرض، سواء أكانوا يمسكون بالسلطة أو ببعضها -كما هو الحال في الدول التي ذكرها سليماني (سوريا، العراق، اليمن) ومعها لبنان الذي لم يذكره، ربما لأنه نسيه، وربما لاعتبارات الوضع السياسي لحزب الله، بينما هو ضمن المجموعة- أم كانوا أقليات خارجية، فضلا عن أن تكون أغلبية نسبية كما هو الحال في البحرين.
جدير بالذكر أن سوريا تنهض كحالة خاصة، إذ إن الطائفة التي تمسك بالحكم عمليا ليست شيعية، وهي تصنف كافرة وفق الفقه الشيعي، والشيعة فيها يعدون أقلية محدودة جدا، لأن العلويين أنفسهم لا تتجاوز نسبتهم عشرة في المائة من السكان؛ وبالتالي، فهي حالة أقرب إلى الاحتلال السياسي والعسكري، وأقله الاستعمار الذي يختلف عن النماذج الأخرى.
ومع أن اليمن قد يبدو كذلك نظرا لحقيقة أن نسبة الحوثيين لا تصل عشرة في المائة، وإن ذهبت إيران نحو اعتبار جميع الزيديين في ذات المربع أيضا، وهم في مجموعهم لا يصلون ثلث السكان، مع أن أكثرهم لا يلتقون مع الحوثيين لا فكرا ولا سياسة، كما يبدو.
"حين يعلن سليماني رسميا استعادة مصطلح تصدير الثورة، فإن على الأنظمة العربية أن تدرك تبعا لذلك أن الأمر لم يعد مقصورا على سوريا والعراق واليمن ولبنان، بل سيشمل دولا أخرى كثيرة"
أيا يكن الأمر، فسليماني يعلن رسميا استعادة مصطلح تصدير الثورة، وعلى الأنظمة العربية أن تدرك تبعا لذلك أن الأمر لم يعد مقصورا على سوريا والعراق واليمن ولبنان، بل سيشمل دولا أخرى كثيرة (حديثه عن أفريقيا يستحق وقفة أخرى تبعا لمستويات التمدد في بعض بلدانها)، وهي إذا لم تجد سبيلا إلى صد هذه الهجمة ووقف هذا الجنون، فإن المأساة ستطول.
لن تعلن الأقلية الحرب على الأغلبية ثم تربحها، ولن توسِّع دولة نفوذها أكثر من قدرتها على الاحتمال إلا ووقعت أسيرة للاستنزاف، كما حصل للاتحاد السوفياتي ذات يوم؛ إن كان في أفغانستان، أم في سياق الحرب الباردة وسباق التسلح أثناء حقبتها. ومن يتابع وكالة "فارس" ويرى خبر تطوير الأسلحة بين يوم وآخر، لا بد أن يتذكر الاتحاد السوفياتي.
إيران تكرر القصة ذاتها. نحن واثقون من ذلك، لكن التصدي الجاد لجنونها وغطرستها سيقلل من المعاناة المترتبة عليها، بما في ذلك على إيران نفسها وشعبها الذي يعاني من العقوبات والنزيف على كل صعيد، إذ قد يدفعها هي أيضا إلى استعادة بعض الرشد مبكرا، لا سيما أن مؤشرات تقدم الإصلاحيين لا تبدو قوية، بافتراض أنهم أقرب إلى الرشد من المحافظين، وهم كذلك على ما يبدو برفضهم للمغامرات الخارجية، ربما باستثناء ما يتعلق بالعراق الذي يراه الجميع خاصرة مهمة، ومجالا حيويا لا يمكن التهاون حياله.
ليس بعيدا اليوم الذي تصبح فيه الأزمة السورية أزمة إيرانية أيضا. فإذا كان النظام السوري نجح إلى الآن في شيء، يمكن القول إنّه نجح في أمر واحد. وضع سوريا تحت الوصاية الإيرانية وذلك بكلّ ما تعنيه الوصاية من نتائج. قبل ذلك، حوّل الأزمة العميقة التي يعاني منها إلى أزمة سورية بامتياز، تمهيدا لتحوّلها إلى أزمة إيرانية بعدما صار على طهران زج مزيد من الرجال في الداخل السوري.
بات مستقبل سوريا في مهب الريح بعدما فشل النظام طوال أربع سنوات في قمع الشعب السوري وتدجينه. أكثر من ذلك، زاد النظام الأزمة السورية تعقيدا بعدما راهن على أنّ صعود “داعش” سيساعد في تأهيله. ولكن الأهمّ من ذلك كلّه، يظلّ جديد سوريا على بعد أيّام من دخول ثورتها السنة الخامسة، التورط الإيراني المباشر بالرجال في حرب داخلية فشل النظام في تحقيق أيّ نوع من الحسم فيها.
منذ مارس من العام 2011، تاريخ اندلاع الثورة الشعبية، سعت إيران إلى تزويد النظام بكلّ ما يحتاجه من مساعدات. كانت الأموال الإيرانية تتدفق في البداية على نحو مباشر. لكنّ الفساد الذي يعاني منه النظام، حمل إيران على مطالبة النظام بلائحة تتضمن تفاصيل ما يحتاجه كي يبقى على رجليه، وذلك بديلا من تقديم مبالغ نقدية.
على الصعيد البشري، اكتفت طهران في البداية بإرسال مستشارين عسكريين إلى دمشق والمناطق السورية المختلفة. لجأت بعد ذلك إلى تدريب آلاف العناصر السورية الأمنية في أراضيها بعدما اكتشفت أنّ هذه العناصر لا تمتلك أيّ خبرة في قمع الثورات الشعبية. استفاد النظام الإيراني في هذا المجال من الوسائل والأساليب التي اعتمدها في قمع الثورة الشعبية التي هدّدت وجوده في العام 2009.
استطاعت إيران، التي كانت تدفع ثمن معظم الأسلحة التي يحصل عليها النظام السوري، من روسيا، الحؤول دون تحرير دمشق بعدما ورّطت “حزب الله” والميليشيات المذهبية العراقية في الحرب التي يشنّها بشّار الأسد على شعبه.. وعندما نجحت في تغطية الاستخدام المكشوف للسلاح الكيميائي.
ساعدها في ذلك وجود إدارة أميركية، على رأسها باراك أوباما، تفضّل استمرار القتال الداخلي في سوريا إلى ما لا نهاية. الدليل على ذلك، امتناع أوباما عن تنفيذ تهديداته، حتّى عندما لجأ النظام السوري إلى السلاح الكيميائي صيف العام 2013. بدل توجيه ضربات محدّدة إلى قواعد جوّية بما يعطل القدرة على ضرب المدنيين وتدمير المدن والبلدات السورية على رؤوس سكّانها، كما يحصل حاليا في دوما القريبة من دمشق، استجابت واشنطن للنصائح الروسية واكتفت بتجريد النظام من مخزون السلاح الكيميائي. ليس معروفا، إلى اليوم ما الذي تريده إدارة أوباما في سوريا، خصوصا أنّه يصدر عنها الشيء وعكسه في اليوم ذاته. كيف يعترف الرئيس الأميركي بأنّ بشّار الأسد وراء صعود “داعش” ولا يفعل شيئا من أجل التخلّص من النظام؟ هل همّه الوحيد الملفّ النووي الإيراني الذي يختزل، إلى إشعار آخر، كلّ ملفات الشرق الأوسط؟
حمت إيران دمشق وأمّنت استكمال عملية تطهير ذات طابع مذهبي استهدفت حمص ومناطق أخرى وذلك من أجل إبقاء الطريق مفتوحة بين العاصمة والساحل السوري. ترافق ذلك مع إلقاء روسيا بثقلها من أجل عدم تحرير العاصمة. ساعدت إيران في منع سقوط النظام، بالسلاح والفيتو في مجلس الأمن!
لا وجود، أقلّه إلى اليوم، لقرار دولي بتحرير دمشق. كلّ ما هناك، رغبة في إبقاء الوضع على حاله. هناك كرّ وفرّ ولكن ليس في استطاعة أيّ طرف الحسم، مع ما يعنيه ذلك من صعود مستمرّ لـ”داعش” وتمدّدها مع تنظيمات أخرى مثل “جبهة النصرة”.
تبيّن مع مرور الوقت أنّ العراق لم يعد قادرا على توفير الدعم المطلوب، خصوصا مع استيلاء “داعش” على مناطق شاسعة فيه. كذلك، لم يعد نوري المالكي منذ العام الماضي رئيسا للوزراء، كما تحوّلت الدولة العراقية إلى دولة مفلسة نتيجة الفساد الذي لا حدود له من جهة وهبوط أسعار النفط من جهة أخرى. حتى لو شاء العراق دعم النظام السوري، لم تعد إمكاناته تسمح له بذلك.
تميّزت الأشهر القليلة الماضية بمزيد من التورّط الإيراني. كان أفضل تعبير عنه الدعوة الصادرة عن “المرشد” علي خامنئي إلى قتال الإيرانيين في سوريا والعراق ولبنان. كانت إيران، الشريك في الحرب على الشعب السوري، تسعى في الماضي إلى قتال هذا الشعب بالعراقيين واللبنانيين.. والأفغان. الآن، بات الوجود العراقي في سوريا مقتصرا على مجموعات صغيرة في ضوء حاجة الأحزاب المذهبية العراقية إلى ميليشياتها للوقوف في وجه “داعش” ومتابعة عملية تقليص الوجود السنّي في بغداد والمناطق المحيطة بها.
أمّا بالنسبة إلى “حزب الله” الذي ألقى بكل ما لديه من إمكانات في سوريا، ثمّة مشاكل كبيرة يواجهها على كلّ صعيد، بما في ذلك الدور الذي لعبه في نقل الحريق السوري إلى الداخل اللبناني على نحو تدريجي. فبغضّ النظر عن كلّ ما يصدر عن الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله، لا يمكن إلاّ أن يكون هناك، في نهاية المطاف، عقلاء في الطائفة الشيعية الكريمة يدركون أنّ لا مجال لانتصار النظام السوري على شعبه. أكثر من ذلك، سيولّد تورّط “حزب الله” في سوريا حقدا يُخشى أن يستمر، بكلّ أسف، سنوات طويلة. يستهدف الحقد الذي يكتنز صدور السوريين طائفة لبنانية بكاملها. هذا ليس بالأمر السهل في ظلّ حال الفوضى التي تبدو سوريا مقبلة عليها. سيكون مستبعدا أن يكون هناك نظام قويّ يسيطر على كل الأراضي السورية في السنوات القليلة المقبلة، خصوصا بعد تدمير النظام الحالي المتهالك كلّ مؤسسات الدولة ووضع نفسه تحت الوصاية الإيرانية…
الواضح أن عدد الإيرانيين المشاركين في المعارك يزداد في وقت يخوض النظام معركتين كبيرتين في درعا ومحيطها وفي حلب ومحيطها.
هل ستنجح إيران حيث فشل النظام السوري ومعه “حزب الله” والميليشيات العراقية؟
بات المطروح إيرانيا البحث عن بدائل. في غياب القدرة على السيطرة على سوريا كلّها، لم يعد مستبعدا أن تكتفي إيران بجزء من الأراضي السورية المرتبطة بالبقاع اللبناني ولديه واجهة بحرية.. مع تأكيد احترام هذا الجزء لكل الاتفاقات السورية ـ الإسرائيلية في الجولان. وحده الوقت سيكشف هل هذا رهان في محله.
الثابت أنّ سوريا بعد أربع سنوات من الثورة ما زالت تفاجئنا. تبقى المفاجأة الأولى في صمود شعبها في مقاومة نظام هدر له كرامته باسم حزب البعث أحيانا وباسم الطائفة والعائلة في كلّ الأحيان.
قبل نحو عام تماما، كان الشك يحيط بأي بحث عن صورة أو معلومة أو خبر عنه. السائد حينها هو التكتم حول دوره وحركته، أعني قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني. كانت للرجل مهمة هي تصدير قيم ثورة الخميني خارج الحدود الإيرانية وما عناه ذلك من مزج بين الآيديولوجيا الدينية والعمل الأمني، لكن دائما تحت ستار من الغموض والسرّية.
تغير الحال الآن..
لم تعد اللقطات الخاصة بالرجل بكاميرات غير احترافية نادرة ولم تعد الفيديوهات الأرشيفية له مجرد ثوان من مناسبات عامة ظهر فيها سريعا. فمنذ أشهر باتت صور قاسم سليماني وفيرة وعالية الجودة. فقائد فيلق القدس وبشكل متعمد ومقصود يبتسم للكاميرا ويسهب في الظهور في لقطات ينظر فيها مباشرة إلى العدسة ليتحقق من نجاح لقطاته معانقا جنودا ومقاتلين إيرانيين وعراقيين وسوريين في العراق وسوريا متفقدا جبهات ومشاركا ومخططا للقتال. كان هنا في بيروت يزور ضريح قتلى حزب الله الذين سقطوا في القنيطرة السورية والخبر والصورة نشرا علنا..
لم يعد سليماني تلك الشخصية الكتومة التي تراوح دورها على امتداد عقدين تقريبا ما بين الأسطرة والحقيقة. ها هو يقولها لنا صراحة: نعم، أنا رجل إيران القوي المسؤول عن تمدد الدور العسكري الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، وهذه صوري وأنا أسافر وأوزع أدوارا وأدير معارك خارج حدودي، ومخترقا سيادات دول أخرى، وأولئك المقاتلون يأتمرون بما أقول.
الصور بحد ذاتها تحول في استراتيجية طهران التي قررت أن تشهر دورها بلا أي مواربة أو التباس. والحجة في هذا التحول جاهزة: «نحن نحارب (داعش) والتكفيريين. الصور والمقالات التي تروج لسليماني وحركته الظاهرة تقدمه بصفته الشخصية التي تواجه أبو بكر البغدادي. هل تعتقدون أن قوات التحالف هي من أوقف تقدم داعش»، قالها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في لقاء تلفزيوني ساخرا من الغرب وناسبا وقف تمدد «داعش» لسليماني وإيران..
إذن بحسب الرواية الإيرانية وروايات المتحالفين معها سليماني هو الشخص الوحيد القادر على إيقاف «داعش» وهو يقود الجبهة التي تواجه قاطعي الرؤوس والتكفيريين الذين يمارسون عنفا رهيبا..
لكن ما هي استراتيجيته في وقف هؤلاء الدمويين؟
في سوريا دعم سليماني جيش بشار الأسد وحال دون سقوطه، فهو يحاول ضبط قاطعي الرؤوس بمطلقي البراميل ويستعيض عن حارقي الجثث بمعذبي المساجين حتى الموت..
في العراق، وهي الساحة الأقرب والأهم لإيران، تجري محاربة «داعش» عبر ميليشيات من نوع «عصائب أهل الحق» و«كتيبة بدر».. ميليشيات خاضعة مباشرة لإمرة سليماني. أما كيف توقف هذه الميليشيات تمدد «داعش» فهذا ما توثقه لنا تقارير عديدة ليس آخرها ما نشرته منظمة «هيومان رايتس ووتش» عن اعتماد تلك الميليشيات عمليات إعدام جماعي لسجناء وحرق بعضهم وحرق وتجريف منازل في مناطق ديالى حيث السيطرة الإيرانية تامة اليوم في العراق..
يستعمل البعض حين يريد أن يقنعنا بإيران سؤالا ساذجا: أيهما أفضل إيران أم «داعش»؟ على اعتبار أن النتيجة محسومة.. ولكن من قال إن الخيار الذي نرغب به هو أي شيء أقل من «داعش»؟
ثم أن نقبل بممارسات «عصائب أهل الحق» و«كتيبة بدر» بذريعة أنها أقل إجراما من «داعش» فإن ذلك يشكل منتهى الانتهاك.. ناهيك أن المقارنة تفقد قيمتها حين تصبح المقارنة بين قاطع للرأس ومنفذ إعدام جماعي وحارق للسجناء.. ويبدو أن الفارق يضيق حين تبتعد الكاميرا.. «داعش» تصور شراهتها للموت والقتل. و«عصائب أهل الحق» تولت «هيومان رايتس ووتش» توثيق انتهاكاتها؛ فعليكم بقراءتها، فابتسامات قاسم سليماني لن تحجبها..
بعد الاحداث الأخيرة في سوريا عامة والمناطق الشمالية خاصة بين فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة التي فرضت سيطرتها على مناطق الشمال في إدلب وحلب ، و قامت ببعد ذلك بملاحقة قادة الفصائل العسكرية التابعة للجيش الحر ما اضطرهم للفرار واللجوء للأراضي التركية هربا من الإعتقال والمسائلة على يد محاكم جبهة النصرة أو من أي محاولة اغتيال لهم من أي طرف كان .
و لكن ذلك لم يغير بالأمر شيء فقد لاحقهم شبح الموت الى داخل الحدود التركية إما بقتل أو خطف أو محاولة إغتيال ، فبعد إغتيال قائد القناصة في تجمع كتائب و ألوية شهداء سوريا التابع لجبهة ثوار سوريا محمد الأخرس والتمثيل بجثته منذ أكثر من شهر تقريبا ، حيث وجد مقتولا بثلاث طلقات من مسدس وقد مثل بجثته وحرق وجهه بالأسيد ورمي في إحدى غابات تركيا الجنوبية ، تأتي اليوم محاولة إغتيال فاشلة لقائد جبهة حق المقاتلة " يوسف الحسن " عن طريق تفخيخ سيارته في بلدة الريحانية في إقليم هاتي التركي حيث تمكنت الشرطة التركية من تفكيك السيارة قبل إنفجارها .
ولكن الفاعل هنا مجهول فيمكن أن يكون للنصرة أذرع خفية في تركيا تلاحق قادة الحر المطلوبين لها بجرائم عدة ، أم أن هناط طرفا ثالثا له مأرب أخرى !!؟؟
بعد مرور نحو ستة أشهر على تشكيله، ما زال التحالف الدولي الذي عدّ الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قيامه شرطاً ضرورياً لإعلان "الحرب على تنظيم الدولة"، وتجنب استخدام عبارة "الحرب على الإرهاب" التي طبعت عهد سلفه، حتى لا يبدو الأمر كأنه استئناف لحروب بوش الابن التي لم تتوقف، أصلاً، وإن تغيّرت أدواتها نحو اعتماد أكبر على الطائرات من دون طيار، "درونز"، ما زال يشكل مادة دسمة للبحث والدراسة، وسيبقى، على الأرجح، كذلك لسنوات عديدة، بعد أن قرر أوباما أن هذه الحرب ستطول، حتى تتسلّم الراية إدارة جديدة في واشنطن.
تحالف ضد مَن؟
من النقاط التي سيركز عليها خبراء العلاقات الدولية والعلوم السياسية أن الرئيس الأميركي أنشأ تحالفاً، وأعلن حرباً على تنظيم لديه، على الرغم من كل الأساطير التي تنسج حوله، مصادر قوة محدودة جداً، ويتركز معظمها في العنصر البشري المؤدلج. والمعروف أن الحروب تُعلن وتُخاض عادة ضد دول، وتعد من أفعال السيادة التي تمارسها كيانات قائمة، بالمعنى السياسي والقانوني، في مصفوفة النظام الدولي، كما تحكمها قواعد وقوانين ومعاهدات، مثل تلك الخاصة بمعاملة أسرى الحرب، وحظر استخدام أسلحة محرمة وغيرها. أما التحالفات، فهي، في المبدأ، أداة من أدوات السياسة الأمنية والخارجية، الخاصة أيضاً بالدول، والتي يتم عادة اللجوء إلى تشكيلها، لمواجهة قوى لا تستطيع دولة بمفردها أن تواجهها (Hegemon Power). وكلا الشرطين غير متوفر في تحالف أوباما ضد تنظيم الدولة، فلا التنظيم دولة، بالمعنيين السياسي والقانوني، ولا هو كيان يمتلك من عوامل القوة ما يبرر إنشاء تحالف ضده، ولا يغيّر من الأمر شيئاً تسلّح أوباما بقرار مجلس الأمن رقم 2170 الذي صدر في 15 أغسطس/ آب 2014، ويدعو الى اتخاذ "جميع التدابير التي قد تكون ضرورية وملائمة... من أجل مواجهة....... ارتكاب أعمال إرهابية"، لأن هذا القرار يذكر "تنظيم الدولة" باعتباره تنظيماً عابراً للحدود، وليس دولة، كما أنه لا ينظر إليه باعتبار أن عليه ما على الدول من التزامات.
العودة على مضض
"داعش في النهاية، بعكس القاعدة، جاءت رد فعل على سياسات إيران وحلفائها في المنطقة، وهي من ثم تقدم نفسها باعتبارها ممثلة للمظلومية السنية"
من الأمور الأخرى التي ستثير اهتمام دارسي العلاقات الدولية حقيقة الأسباب التي دعت الرئيس أوباما إلى العودة إلى الخوض مباشرة في أزمات المنطقة، بعد أن ظل يحجم عن ذلك، منذ سحب آخر الجنود الأميركيين من العراق، نهاية عام 2011، على الرغم من كل الضغوط التي تعرّض لها. صحيح أن إدارة أوباما ظلّت تعد "الإرهاب" أكثر التهديدات الأمنية التي تواجهها أميركا خطورة، لكن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي أعلن عن نفسه في 10 إبريل/ نيسان 2013، لم يكن يشغلها كثيراً، حتى بعد أن سيطر على الرقة، وحوّلها إلى عاصمة لدولته، طالما أن نطاق عمله ظل محلياً، ويستهدف المجتمعات المحلية، وليس المصالح الأميركية. لكن الأمر تغيّر عندما سقطت الموصل، وبدأ التنظيم يعد لاجتياح أربيل، عاصمة إقليم كردستان، أوثق حلفاء أميركا في المنطقة، عندها فقط أقر أوباما، في مقابلة مع برنامج "60 دقيقة" على قناة "سي.بي.إس" التلفزيونية الأميركية، في أواخر سبتمبر/ أيلول 2014، أن إدارته قلّلت من خطورة تنظيم الدولة، في حين أنها بالغت في تقدير قوة الجيش العراقي في التصدي له. بسقوط الموصل، سقط "مبدأ أوباما"، فتحولت مواجهة تنظيم الدولة إلى مسألة أمن قومي بالنسبة لواشنطن، ومسألة شخصية تهدد إرث رئيس لا إرث له حتى الآن، خصوصاً بعد أن أحرجه تنظيم الدولة أكثر، بإقدامه على ذبح الصحافيَيْن الأميركييْن، وكأنه كان يدفعه دفعاً للتخلي عن تردده، وتلبية دعوته للنزال في أرض الهلال الخصيب.
غيتس... مهندس التقارب مع إيران
جاء الرئيس أوباما إلى الحكم ببرنامج انكفائي، هدفه الرئيس وقف استنزاف القوة الأميركية في الخارج، والتركيز على إعادة بنائها داخلياً. وهذه دورة طبيعية في السياسة الخارجية الأميركية، تعود إلى أيام الحرب الأميركية ـ الإسبانية عام 1898، وتعمل وفق قاعدة (تمدّد ـ إعياء ـ انكفاء ـ إعادة بناء ـ وانطلاق من جديد). الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة حصل بعد الحرب العالمية الثانية، لأن الحرب الباردة انطلقت بعدها مباشرة. كانت فكرة أوباما تقوم، ببساطة، على العودة إلى قاعدة كيسنجر الشهيرة التي جرى إطلاقها تحت اسم "مبدأ نيكسون" عام 1969، وجاءت على خلفية الاستنزاف الأميركي في فيتنام، والضغط الداخلي للانسحاب من جنوب شرق آسيا. يقوم المبدأ المذكور على فكرة الاستعاضة عن التدخل العسكري المباشر، بتهيئة وبناء وكلاء إقليميين، يتم تجهيزهم ودعمهم لحماية المصالح الأميركية حول العالم. في العراق، جاء تطبيق إدارة أوباما المبدأ من بوابة دعم حكومة نوري المالكي، وبناء وتجهيز وتدريب قوات الجيش العراقي، ليصبح قوة محلية قادرة على الإمساك بالأرض، ما يسمح بانسحاب القوات الأميركية، من دون مظاهر هزيمة، كما حصل في فيتنام عام 1975. ومن أجل سد الطريق أمام أي احتمال للعودة إلى التورط المباشر في العراق، كان أوباما المستعجل للخروج، في ظروف الاضطراب واللاـ يقين التي فرضها "الربيع العربي"، مستعداً للتغاضي عن كل سياسات حكومة المالكي، الطائفية والإقصائية من جهة، ومستميتاً، من جهة أخرى، في كسب تعاون إيران لمساعدته في تهيئة الظروف للخروج من العراق. من أجل ذلك، كان أوباما بدأ يطبّق خلاصات تقرير بيكر ـ هاملتون الداعية إلى الانفتاح على طهران، موكلاً تنفيذها إلى وزير الدفاع، روبرت غيتس، وهو المسؤول الوحيد الذي احتفظ به أوباما من إدارة بوش، ليس لإظهار وقوف الحزبين معاً في مواجهة التحديات الخارجية، كما قيل حينها، وإنما للإشراف على تنفيذ توصيات لجنة بيكر ـ هاملتون التي كان غيتس من أهم أعضائها، وهو الذي كتب توصياتها.
جزرة أميركية غيّرت موقف دمشق
"انهار الجيش العراقي، الذي استغرق الأميركيون نحو عقد في بنائه وتجهيزه وتدريبه، خلال أربع ساعات في الموصل وكل شمال غرب البلاد"
في الفترة بين عامي 2009 ومطلع عام 2011، أشرف روبرت غيتس على مفاوضات سرية مع طهران، كانت تهدف إلى تحقيق استقرار نسبي في العراق، يسمح بسحب القوات الأميركية في الموعد الذي حدده أوباما، وهو نهاية 2011. وكان من جملة نتائج الحوار أن أيّدت واشنطن خيار طهران دعم بقاء رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، على الرغم من خسارته انتخابات عام 2010 أمام القائمة العراقية التي كان يقودها إياد علاوي. ومن سخرية الأقدار، أن برزت سورية عقبة رئيسة في سبيل تطبيق الاتفاق الأميركي ـ الإيراني. كانت دمشق تعارض بشدة ولاية ثانية للمالكي، بعد أن اتهمها بالمسؤولية عمّا أصبحت تُعرف بتفجيرات "الأربعاء الدامي"، التي وقعت في 19 أغسطس 2009، واستهدفت وزارتي المالية والخارجية في بغداد، وأدت إلى مقتل وإصابة مئات الأشخاص. وقامت دمشق على الأثر باستدعاء سفيرها من بغداد، في الوقت الذي توجه فيه المالكي إلى مجلس الأمن مطالباً بتشكيل لجنة تحقيق دولية ومحاسبة المتورطين. في هذه المرحلة، بدا جلياً أن مصالح طهران ودمشق بدأت تفترق أكثر في العراق، وكان ملفتاً أن تركيا، وليس طهران، هي مَن تولّى جهود الوساطة بين المالكي والأسد لإنهاء الخلاف، من دون جدوى.
في عام 2010، دخلت دمشق على خط التحالفات في الانتخابات البرلمانية العراقية، بهدف إسقاط المالكي، وكانت واعية بوجود اتصالات أميركية ـ إيرانية، تمهيداً للانسحاب، ومع صدور نتائج الانتخابات التي تقدم فيها علاوي، اتفقت دمشق مع الدوحة وأنقرة على دعمه في مواجهة التوافق الأميركي ـ الإيراني على بقاء المالكي، لكن "جزرة" أميركية ظهرت فجأة غيّرت الموقف السوري، ودفعته، من جديد، إلى الحضن الإيراني، وتمثّلت بوعد قطعته إدارة أوباما بإعادة السفير الأميركي الى دمشق. وكانت النتيجة أن تمكن المالكي من تشكيل حكومة، بعد نحو عشرة أشهر من المراوحة في المكان، وكوفئت دمشق بإرسال روبرت فورد سفيراً إليها أواخر العام 2010.
سقوط مبدأ أوباما
لكن، لم تلبث هذه الترتيبات والسياسات أن تبيّن مدى قصر نظرها، فعادت، في سنوات قليلة، لتطارد أوباما وتقضي على كل "إنجازاته"، إذ عادت "القاعدة" إلى الظهور مجدداً، ولكن بنسخة أكثر قسوة، وأشد شكيمة، كنتيجة للسياسات الطائفية والإقصائية التي اتبعتها حكومة المالكي بحق المجتمع السني العراقي، ولتوجه ضربة قاصمة لكل سياسات أوباما ونظرياته في العراق. فالجيش العراقي، الذي استغرق الأميركيون نحو عقد في بنائه وتجهيزه وتدريبه، ليكون قوة يعتمد عليها في الإمساك بالأرض، انهار في غضون أربع ساعات في الموصل وكل شمال غرب البلاد، وانهار معه مبدأ أوباما القائل بإنشاء وكلاء محليين، بدل التورط المباشر.
زاد هذا الوضع من حدة الضغوط على إدارة أوباما، المتهمة أصلاً بإضعاف هيبة أميركا، بسبب مواقفها المترددة في أزمات الشرق الاوسط وأوكرانيا وشرق آسيا، فلم تجد بدّاً، خصوصاً مع تنامي استياء الرأي العام، بعد إعدام داعش صحافييْن أميركيين بقطع الرأس، من التحرك. لكن التحرك بشكل منفرد كان ليُفهَم أنه موجّه ضد المجتمعات السنية في العراق وسورية، وعموم المنطقة العربية، لأن داعش في النهاية، بعكس القاعدة، جاءت كرد فعل على سياسات إيران وحلفائها في المنطقة، وهي من ثم تقدم نفسها باعتبارها ممثلة للمظلومية السنية. من هنا، برزت الحاجة إلى إنشاء تحالف يضم الدول السنية المهمة في المنطقة، واستبعاد إيران، علناً على الأقل، التي تتلاقى مصالحها مع واشنطن، بخصوص مواجهة داعش أكثر من بعض الدول المنخرطة في التحالف. ولأن مصالح أطراف التحالف المنشود كانت تصل إلى حد التناقض (لا سيما تركيا ومصر والسعودية)، خاض ثلاثة من كبار مسؤولي إدارة الرئيس أوباما، هم وزيرا الخارجية والدفاع وقائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال لويد أوستن، مفاوضات مضنية، للتعامل مع مخاوف أعضائه واهتماماته.
حرب لترتيب أوضاع الإقليم
"يقوم "مبدأ نيكسون" على فكرة الاستعاضة عن التدخل العسكري المباشر، بتهيئة وبناء وكلاء إقليميين"
الأمر الأخير الذي يثير اهتماماً كبيراً في الحرب الأميركية على "تنظيم الدولة"، هو حقيقة الأهداف الاستراتيجية التي تسعى واشنطن إلى تحقيقها منها. صحيح أن الرئيس أوباما أعلن أن الهدف النهائي من الحرب على التنظيم احتواؤه، تمهيداً للقضاء عليه، لكنه بدا واضحاً أنه، في الأثناء، لا بأس من استخدام الصراع لتحقيق أهداف جانبية لا تقل أهمية. من هنا، استغربت صحيفة "واشنطن بوست"، في مقالة للكاتب المحافظ ماكس بوت (Max Boot)، نشرت في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، حجم الالتزام الأميركي تجاه هدف القضاء على تنظيم الدولة. فقد وجد الكاتب، في دراسة مقارنة، أنه خلال فترة 75 يوماً بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول و23 ديسمبر/ كانون الأول 2001، شنت الولايات المتحدة 6500 طلعة جوية، ألقت خلالها 17000 طن من القنابل ضد أهداف خاصة بالقاعدة و"طالبان" في الحملة الجوية في أفغانستان. في المقابل، خلال فترة الـ76 يوماً بين الثامن من أغسطس/ آب و23 أكتوبر 2014، شنت الولايات المتحدة 632 غارة، ألقت فيها 1700 طن من القنابل ضد أهداف وتجمعات داعش في سورية والعراق، أي بنسبة واحد إلى عشرة من حجم الضربات التي وجهتها أميركا للقاعدة.
هذا يعني أن الولايات المتحدة تحاول، عمداً، إطالة أمد الحرب، بما يتيح استخدامها أداةً للمساعدة في إنشاء نظام إقليمي جديد، وإعادة صوغ موازين القوى في المنطقة. وفضلاً عن أن واشنطن تعمل على استنزاف جميع القوى في المنطقة، في مواجهات ظاهرها مذهبي، يبدو أنها تمكنت من استعادة زمام المبادرة التي كانت فقدتها بعد انسحابها "مذؤومة" من العراق. فالحرب على تنظيم الدولة مكّنت الولايات المتحدة من استعادة بعض نفوذها في بغداد، بعد أن كانت فقدته كلياً لصالح إيران بعد عام 2011، وفيما تحاول واشنطن استخدام هذه الحرب أيضاً "جزرة" لجر إيران إلى اتفاق نووي، يسهل التقاء المصالح الأميركية ـ الإيرانية في القضاء على تنظيم الدولة، عملية إعادة تأهيل إيران عضواً "كامل الأهلية" في المجتمع الدولي، ويفتح الأبواب أمام الشركات الأميركية، للحصول على جزء من كعكة الـ250 مليار دولار التي تعتزم إيران طرحها للاستثمار، لإعادة تأهيل بناها التحتية المتهالكة، بمجرد رفع العقوبات عنها. أما الأكراد فقد ساعدت الحرب على تنظيم الدولة في تعزيز مواقعهم، بما يسمح بتحويلهم إلى أدوات ضغط، يجري استخدامها أميركياً ضد السياسات التركية الجامحة. أما العرب فعليهم أن يعملوا ليس فقط للدفاع عن المصالح الأميركية، واستطراداً الإيرانية، بل أيضاً نقيض مصالحهم، لمجرد دفع شبهة الإرهاب عن أنفسهم، وذلك بدخولهم الحرب ضد تنظيم الدولة من دون مناقشة. لكن، كل هذا ليس قدراً محتوماً، فلا إيران ولا أميركا ولا تنظيم الدولة، بإمكانها تحقيق مصالحها على حساب العرب، إذا قرروا أن يدافعوا عنها، كما تفعل تركيا.
هل ثمة شيء اسمه الثورة السورية يدخل هذا الشهر عامه الخامس؟ وهل يمكن أن تدخل ثورة عاماً خامساً أكثر؟
السؤال الثاني هو البعد النظري للسؤال الأول. فالعلاقة شائكة بين مفهوم الثورة وبين حسابات الوقت والأمد. الثورات الكبرى الفرنسية والروسية والصينية تؤرّخ بسنة اطاحتها بالنظام القديم، لكن سنة الاطاحة هذه اما هي فاتحة حرب أهلية كما في الحالتين الفرنسية والروسية، واما هي خاتمة الحرب الأهلية كما في الحال الصينية. الراجح طبعاً ان الثورة السورية هي ثورة العام 2011 و»امتداده»، أياً كان المآل اللاحق للصراع بين المنتفضين على نظام الرئيس بشار الأسد وبين النظام ومؤيديه وداعميه. هنا، ليس انتصار الثورة هو الذي يشعل حرباً أهلية يولّدها منطق المزايدة داخلها، بالتفاعل مع ومناحي الثورة المضادة والتدخلات الأجنبية. بالأحرى، عدم انتصارها والتوازن الكارثي الذي سارت عليه الأمور منذ الأسابيع الأولى، والقمع الدموي الذي اعتمده النظام، والنزيف التحتي الذي شهده جيشه في مقابل تماسك نخاعه الشوكي ومعادلته المناطقية والطائفية، والطابعين المتداخلين «الجوهري» و»السرابي» لحسابات الأكثرية والأقلية بالميزان الطائفي، هو الذي دفع باتجاه الحرب الأهلية. استدراك توضيحي: الاحتساب بميزان أكثرية وأقلية «جوهري» من حيث رياء أي مكابرة على الرابطة الطائفية – المناطقية للمجموعة الحاكمة والتي اتخذت من السلك العسكري والتأطير الحزبي له رافعة لامساكها بالقبضة الأحادية المزمنة، بل الطامحة للأبدية. و»السرابي»، لأنّ الأنسجة الأكثرية من المجتمع السوري، يجمعها الانتماء للإسلام السني كمشترك عام، لكن ما يجمعها يعود فيقسمها، ذلك أنها تشترك في الانتماء إلى ديانة كونية، وشعور بالانتماء إلى مجال واسع جداً، وصعب استجماعه وتسخيره في نفس الوقت. تجاوز الأكثرية السنية لنفسها تحت شعار «الشعب السوري واحد» فيه ورطة، وموال تكتيل نفسها كقوم أكثري في مقابل القوم أو الأقوام الأقلية فيها ورطة.. الاستحالة. كل هذا جعلها حرباً أهلية لا هدنة فيها ولو ليوم واحد، وان وجد سجل من المفاوضات والمساعي بلا طائل، كون النظام يفاوض على ما ليس يمكن، من حيث طبيعته، ان يحتمله، اي اصلاح ولو جزئي داخله، وكون بعض الحسابات كانت تنبني على انه ينازع ويحتضر، في حين انه نجح في التحول سريعاً، وبجدارة مرعبة، من نظام يبدو محتضراً إلى نظام احتضار دموي، لا يتحكم تماماً بالحرب الأهلية، لكنه يتحكم باستمراريته فيها إلى اوسع حد.
ليس ثمة تناقض مطلق بين مفهومي الثورة والحرب الأهلية. لكن ثمة فوارق أساسية بين حالة وحالة. في الثورتين الفرنسية والروسية اتخذت الحرب الأهلية نفسها طابعاً ثورياً. عاد ذلك بصفة خاصة إلى كون الحربين الأهليتين التاليتين لانتصار الثورتين الفرنسية من عام 1789 والروسية من عام 1917 حربين طبقيتين بامتياز، اضافة إلى اشتغال الرؤى اليوتوبية التي تريد شقلبة المجتمع رأساً على عقب، ما أدى بثورة فرنسية، كانت ترمي أساساً لتنظيم الاكليروس في نطاقها، وتجذير منحاه الاستقلالي المتصاعد عن البابوية طيلة القرن الثامن عشر إلى الاصطدام سريعاً معه، ومن ثم إلى الاصطدام بالديانة الكاثوليكية من حيث هي كذلك، وصولاً إلى التجريب الديني الثوري في «عبادة الكائن الأسمى» وبدع أخرى. تطويع الكنيسة كانت نتيجته الطلاق الجمهوري معها، ما لم يتبلور الا بعد احد عشر عقداً من بداية هذا الصراع. وفي المقابل، الثورة الروسية التي آلت سريعاً للأكثر عدائية تجاه الدين والكنيسة، سرعان ما اتخذت مساراً مفارقاً: تحويل الالحاد نفسه إلى ديانة، يتعرف الحزب الثوري من خلاله على نفسه ككنيسة، ثم الاستعانة بالدين القديم عندما استدعت ظروف الاجتياح الهتلري ذلك. التاريخ الديني للثورتين الفرنسية والروسية متشعب وهو ميدان معرفي خطير بحد ذاته. فهل كان للثورة السورية بدورها تاريخها الديني؟ هي ثورة على نظام «علماني» من حيث هو يلتزم بعقيدة ايديولوجية لا تجد مصدرها في الدين، وليس من جهة قوانين الأحوال الشخصية مثلاً لمواطنيه. لكنها ثورة الشرخ الكبير بين نخبها، ومقاتليها، وقواعدها. القواعد الشعبية لهذه الثورة في فترة النضال الجماهيري، بدت أميل إلى جعل الانتماء الديني والتدين من عناوين الصراع مع النظام، ومدخل لـ»أجنبته» – تعميم النظرة له كنظام «أجنبي» نسبة إلى «الشعب» الثائر. لكن ذلك لم يأخذ نسقاً عقائدياً مستقراً وواضحاً. في المقابل، بدت المفارقة العسكرية لافتة، بين الاسم «العلماني» للجيش السوري الحرّ والاسماء الدينية ذات الرنّة المذهبية التصادمية أحياناً لكتائبه. كان هذا قبل أن يشيع تبرؤ الفصائل المقاتلة من شرك «الديمقراطية» لتوسع مشكلتها مع الاستبداد الأسدي إلى مشكلة مع الديمقراطية أيضاً، وليكسب تنظيم «الدولة» رحلة المزايدة حين لم يعد مراده «أجنبة» النظام في سوريا، بل «أجنبة» سوريا نفسها، والتشهير بها ككيان صنمي مفروض على الشعب «السوري» وينبغي تحريره منه. هذا عن القواعد و الفصائل المسلحة، أما نخب المعارضة السورية فإنها فضّلت تأجيل الخوض في «المسألة الدينية» وكانت لعبتها الأسهل الرد على الشاعر ادونيس في مسألة عدم تجويزه انطلاقة ثورة من المساجد.
وسريعاً تحول التاريخ الديني للصراع الحالي في سوريا إلى بوابة الصراع المذهبي السني الشيعي، والصراع بين المفاهيم المختلفة للتسنن، في حين برز تنظيم «الدولة» لوحده كحالة يمكن مقارنتها مع المشاريع اليوتوبية في سجل الثورات الكبرى، لكن هذه المرة، من زاوية اضافة ضلع جديد للمثلث: ثورة «تؤجنب» نظاماً تخرج عليه، تنظيم «يؤجنب» الكيان السوري نفسه، بمفاعيل توحيدية لشرق سوريا مع غرب العراق، لكن أيضاً تنظيم «يؤجنب» الدين نفسه، ويصيّره شيئاً «اكزوتيكياً». اللافت في كل هذا، ان ثورة يمكن بشراهة، اعمال التحليل الطبقي لانفجار أريافها، لم يشهد البعد الاجتماعي، وضمناً الطبقي لها، أي اعتراف سياسي أو برنامجي به. الليبراليون أرادوها ثورة «حرية» بلا فاصل «رغيفي». الإسلاميون مقتنعون بأن الانصاف آت بتحكيم الشرع، ورغبتهم في الفتنة بين المذاهب تتحول إلى سلام اجتماعي بين الطبقات. ثورة الفلاحين السورية لبّست عباءتين نافيتين لها في وقت واحد: ليبرالية وإسلامية. أما النظام، فيلبس بدل العباءة ألف، فهو علماني من جهة، ويتبع ثورة خميني من جهة، وهو فلاحي من جهة، ويحمي المدن من الفلاحين من جهة. هذا التفاوت في القدرة على انتحال العباءات والتكيف معها ما زال يطيل من عمر النظام، ويأكل من قابلية الكيان السوري نفسه للحياة المديدة.
بعد أشهر من إعلانها عن نيّتها تدريب المعارضة السورية المسلحة، وبعد مماطلتها لنحو ثلاث سنوات في دعم “ثوار” سوريا، بحجة البحث عن مقاتلين “معتدلين”، وقّعت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي اتفاقية مع تركيا، وربما مع دول عربية أخرى، لتدريب مقاتلين من المعارضة السورية يبدأ تنفيذها خلال أيام، على أن تكون طليعتهم جاهزة للقتال بحلول نهاية العام.
ما هو مُعلن من الاتفاقية أن الولايات المتحدة ستبدأ بتدريب 1200 مقاتل حددت هويتهم، وستُدرب نحو خمسة آلاف سنويا، حصة تركيا منهم تقريبا النصف، ويُعتقد على نطاق واسع أن الأردن والسعودية وقطر ستكون معنية بتدريب النصف الثاني، دون أن يُعرف ما هي مهامهم أو أسلحتهم، هذا بالمختصر المفيد.
من حيث المضمون، هناك معطيات تدعو إلى الاعتقاد بأن البرنامج الأميركي مجرد مشروع وسد للذرائع وتخدير للمعارضة السورية من أجل كسب المزيد من الوقت لتأجيل حل أزمة بلدهم.
في مستوى أول، يُنهي هذا الاتفاق الخلاف بين تركيا وأميركا حول العدو الذي ستحاربه هذه القوات، فأنقرة تريدها قوات بمهمة مزدوجة لمقاتلة تنظيم الدولة والنظام على حد سواء، بينما تتمسك واشنطن بأولوية محاربة تنظيم الدولة وبعدها مقارعة النظام ليرضخ لحل سياسي، فمن رضخ لمن؟ وهذا الأمر سيحدد موقف جلّ مسلّحي سوريا من المشروع الأميركي.
على المستوى الثاني يعتبر تدريب 1200 مقاتل حتى نهاية العام الحالي عمل رمزي ليس إلا، فلن يقدر هذا العدد على فعل شيء وحده أمام جحافل التنظيمات الإرهابية في سوريا، وجحافل قوات النظام التي باتت تستقطب ميليشيات أجنبية من إيران ولبنان وأفغانستان واليمن، وبافتراض أن تدريبهم كان استثنائيا للوقوف بوجه كلا الكتلتين، التنظيمات الجهادية والنظام وميليشياته، فإن هذا العدد من المتدربين سيُشكّل نحو 1.5 بالمئة من إجمالي الكتلتين، ما يعني أن كل مقاتل متخرج من المدرسة الأميركية سيقف بوجهه 75 مقاتلا من الأطراف الأخرى، وهي معادلة قد تصلح في السينما الأميركية فقط.
على المستوى الثالث، هناك غموض في تحديد هوية المقاتلين “المعتدلين”، هل هم إسلاميون معتدلون، وهم ممن تعجّ بهم سوريا، أم علمانيون وقوميون، أم جنود منشقون عن المؤسسة العسكرية من المحترفين، أم كل من يلتزم بالقوانين الدولية المتعلقة بالحروب بغض النظر عن إيديولوجيته؟
على المستوى الرابع يقتصر البرنامج على التدريب، وهو آخر ما يحتاجه “ثوار” سوريا، فهناك أكثر من مئة ألف منشق عن الجيش النظامي، بينهم ضباط أمراء وخبراء عسكرتاريا، مدربون على الأسلحة وتكتيكات الحروب، مهمّشون من أميركا لأنهم لن يقبلوا بمحاربة الدولة الإسلامية وحدها وتجاهل النظام. كذلك هناك أكثر من مئة ألف مقاتل مدني انخرط في الحرب، واكتسب غالبيتهم خلال أربع سنوات، خبرات قتالية لا يُستهان بها، وبين كل هؤلاء يمكن الحزم بأن جلّهم يأمل في أن ينتهي النظام ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية.
كل هذه التساؤلات لا تجيب عليها الاتفاقية الأميركية – التركية، وتشير إلى خلل في الأعداد والمستهدفين وطبيعة البرنامج والهدف، وتكشف وجود الكثير من الثغرات.
واقعيا، لم تطلب المعارضة السورية المسلحة في أي وقت سابق المساعدة بالتدريب، واقتصر طلبها على أحد أمرين يوصلان إلى نفس الهدف، حظر جوي أو أسلحة مضادة للطيران، وهمّها ردع سلاح الطيران الذي يستخدمه النظام بكثافة لقصف كل منطقة خارجة عن سيطرته، وكل شارع وكل قرية يشارك أبنائها في القتال ضده، وقتل نحو 70 بالمئة من الضحايا المدنيين به، ودمّر البنى التحتية لنحو نصف سوريا، ومنع الثوار من تحقيق أي توازن ردع معه.
في حقيقة الأمر، ما ينقص المعارضة السورية المسلحة ليس التدريب، ولن تُحل مشاكلها بتدريب 15 ألف مقاتل خلال ثلاث سنوات، فغالبا بعد ثلاث سنوات ستكون سوريا قد بقيت مجرد أشلاء دولة يتقاسمها أمراء الحرب، بل ما تحتاجه قيادة محترفة جادة ذات خبرة، موثوقة ومعتدلة، وهي متوفرة في المنشقين عن الجيش النظامي، يساندها دعم بأسلحة نوعية تُوقف طيران النظام بأنواعه، حيث سيؤدي تحقق الشرط الأخير هذا إلى إرعاب النظام وقبوله بالحل السياسي ورضوخه للعدالة الانتقالية.
خَسِر النظام السوري نحو ثلثي مساحة سوريا ولم يقتنع بضرورة الحل السياسي وأصر على الحرب، واحتل تنظيم الدولة الإسلامية نحو ثلث مساحـة سوريـا ولم تهتز للنظام السوري شعـرة وبقي مصرّا على حربه المُدمّرة، وقطعت غالبية الدول العربية ودول العالم العلاقة معه ولم يهتم، وبالتالي فإن تدريب بضع آلاف من مقاتلي المعارضة لن يُرغمه على القبول بالحل السياسي.
للمعارضة السورية المسلحة تجربة سابقة غير مشجّعة مع الأميركيين، في البداية زودوها بمعدات غير قتالية، خوذات وبدلات عسكرية وأغذية، ثم دَرّبت عدة مئات على الأسلحة الفردية والتمارين الرياضية وألقت عليهم محاضرات فكرية عن أخلاق الحروب، ولم تستفد منهم بتغيير مسيرة الحرب السورية، وكذلك ماطلت بحجة البحث عن المعتدل، بينما سلّحت مقاتلين في عين العرب (كوباني) دون أن تعرفهم.
لم يعد للأزمة السورية إلا طريقين للحل، الأول عبر تسليح واسع النطاق للمعارضة مع دعم عسكري جوي كثيف، وهو ما تقدر عليه أميركا دون الرجوع إلى روسيا أو غيرها، ولنا في تجربة سحب الأسلحة الكيماوية دليل لكنه حل مستبعد أميركيا.
والثاني، صدور قرار أممي مُلزم للجميع، يعيد للشعب السوري حقوقه ويُحاسب من قتله ودمّر حاضره ومستقبله، ويضمن بناء دولة ديمقراطية تعددية تداولية، وهو الحل الأنسب للسوريين. ودون أحد هذين الحلين، سيبقى الاعتقاد قائما بأن ما تقوم به الولايات المتحدة لا هدف من ورائه سوى كسب الوقت.
المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا نجح في شيء واحد فقط، زيادة غضب أغلبية الشعب السوري. بدأ مهمته بخطة مخيبة منذ أربعة أشهر، تقوم على وقف الاقتتال في حلب. ولم يحقق حتى الآن شيئا، رغم أنه قزم طموحاته إلى وقف إطلاق النار في حيين اثنين فقط في المدينة، وحتى هذا الاقتراح لم يجد استجابة ذات قيمة؛ فالرئيس السوري، بشار الأسد، أعطاه موافقة على حي واحد، لا يملك سلطة عليه، أما المعارضة المسلحة فلم ترَ في خرائط المبعوث الدولي مكانا لها.
الوسيط عمل مثل ستارة الدخان؛ ترك للتحالف الدولي أن يقاتل بالنيابة عن النظام في المناطق التي يحتلها تنظيم داعش، وصرف الأنظار عن الهجوم الممنهج اليومي الذي تمارسه قوات الأسد غالبا ضد مناطق مدنية، هدفها كان ولا يزال توسيع المأساة من أجل إجبار ملايين السوريين على الانشغال بالبحث عن طعام ومأوى يوما بيوم. دي ميستورا بدد أربعة أشهر لا يراه السوريون إلا باسما مع الأسد الذي قتل منهم أكثر من ربع مليون إنسان. هكذا ملأ الفراغ الدبلوماسي، كسابقيه، بما يكفي لإلهاء القوى المختلفة، وعشرين مليون سوري، معظمهم بلا مساكن أو موارد.
ما الذي يريد الوسيط الدولي تحقيقه حتى ينجح في مشروعه ويتوقف القتال في الحيين الحلبيين لستة أسابيع؟ ربما، إدخال المواد الغذائية؟ سبق إيصالها في مهمة إنقاذ سابقة دون الحاجة إلى اعتباره الحل السياسي. طبعا، يستطيع دي ميستورا أن يرمي الكرة في ملعبنا، ويسأل: ما الذي يمكنني أن أفعله وأنا لا أملك قوة، ولا تخويلا دوليا بالعقوبات؟
نحن نعرف أن دي ميستورا لا تزيد سلطته عن الممثلة أنجلينا جولي، التي تزور المنطقة في مهام إنسانية تحظى بالاحترام. نعرف أنه لن يستطيع فعل شيء دراماتيكي، مثل تحقيق رغبة الغالبية بالتخلص من الأسد ونظامه، إنما المتوقع منه على الأقل أن يبدأ من حيث انتهى مؤتمر جنيف، الذي يقول بنظام جديد هجين، مكون من نظام الأسد من دون الأسد نفسه، وقوى المعارضة، ومشاركة ممثلين عن مكونات المجتمع السوري بما فيه المكون العلوي. وهو إلى حد ما، كان قريبا مما كان يقوله بعض حلفاء النظام، مثل الروس، الذين كرروا مرات أنهم ليسوا متمسكين بشخص الأسد إذا وُجد حل يقبل به الجميع هناك ويحافظ على الدولة.
معادلة صعبة تستحق أن يقلبها الوسيط بأساليب مختلفة، واتصالات واسعة، ربما يجد المعادلة التي تقنع الأطراف بتنازلات تدريجية وتضيق المسافات. أما أن تمضي أربعة أشهر في سبيل أن يجرب إيقاف الاقتتال في حي أو حيين في مدينة واحدة في بلد كله مشتعل ويتم تدميره يوميا، فهي وساطة تشبه السباحة في المحيط. وأعتقد أنه بخطته تسبب في تشتيت الأفكار السابقة، وطمأن الأسد ونظامه، الذي كان خائفا من التدخل الدولي بحجة محاربة «داعش»، بأن الوسيط والوساطة مثل المكافأة تمنع الضغوط عليه، رغم أن عشرات الدول من أنحاء العالم تجول طائراتها وقواتها على أراضي سوريا. ما فعله دي ميستورا بجولاته منح الأسد ورجاله الثقة في أنهم يستطيعون المضي في قتل المزيد من عشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير المدن بالبراميل والصواريخ وميليشيات المرتزقة من إيران ولبنان والعراق. والذي زاد من شك السوريين فيه وغضبهم منه، أنه افتتح مهمته قائلا إن الحل المستقبلي الذي يحمله نظام يعترف فيه بالأسد!! عمليا، بكلامه ألغى دي ميستورا كل الجهد الدولي الضخم السابق، وبيانات جنيف، واصطف إلى جانب إيران. ومع أنه تراجع عن كلامه فإن تصرفاته ورحلاته توحي بأنه مثل وليد المعلم أو فيصل المقداد؛ مجرد موظف آخر في وزارة الخارجية السورية! كمعلقين سكتنا عليه أربعة أشهر، راجين أن يبتدع حلا لكن الوضع بوجوده صار أسوأ، لأنه يكسر آخر ما تبقى للأمم المتحدة من احترام.
وربما بات من الأفضل لدي ميستورا أن يحمل حقيبته ويغادر المنطقة لأنه يَزِيد من غضب الناس وليس من آمالهم.