مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢ مارس ٢٠١٥
سوريا إيرانية.. النجاح الوحيد للنظام!

ليس بعيدا اليوم الذي تصبح فيه الأزمة السورية أزمة إيرانية أيضا. فإذا كان النظام السوري نجح إلى الآن في شيء، يمكن القول إنّه نجح في أمر واحد. وضع سوريا تحت الوصاية الإيرانية وذلك بكلّ ما تعنيه الوصاية من نتائج. قبل ذلك، حوّل الأزمة العميقة التي يعاني منها إلى أزمة سورية بامتياز، تمهيدا لتحوّلها إلى أزمة إيرانية بعدما صار على طهران زج مزيد من الرجال في الداخل السوري.

بات مستقبل سوريا في مهب الريح بعدما فشل النظام طوال أربع سنوات في قمع الشعب السوري وتدجينه. أكثر من ذلك، زاد النظام الأزمة السورية تعقيدا بعدما راهن على أنّ صعود “داعش” سيساعد في تأهيله. ولكن الأهمّ من ذلك كلّه، يظلّ جديد سوريا على بعد أيّام من دخول ثورتها السنة الخامسة، التورط الإيراني المباشر بالرجال في حرب داخلية فشل النظام في تحقيق أيّ نوع من الحسم فيها.

منذ مارس من العام 2011، تاريخ اندلاع الثورة الشعبية، سعت إيران إلى تزويد النظام بكلّ ما يحتاجه من مساعدات. كانت الأموال الإيرانية تتدفق في البداية على نحو مباشر. لكنّ الفساد الذي يعاني منه النظام، حمل إيران على مطالبة النظام بلائحة تتضمن تفاصيل ما يحتاجه كي يبقى على رجليه، وذلك بديلا من تقديم مبالغ نقدية.

على الصعيد البشري، اكتفت طهران في البداية بإرسال مستشارين عسكريين إلى دمشق والمناطق السورية المختلفة. لجأت بعد ذلك إلى تدريب آلاف العناصر السورية الأمنية في أراضيها بعدما اكتشفت أنّ هذه العناصر لا تمتلك أيّ خبرة في قمع الثورات الشعبية. استفاد النظام الإيراني في هذا المجال من الوسائل والأساليب التي اعتمدها في قمع الثورة الشعبية التي هدّدت وجوده في العام 2009.

استطاعت إيران، التي كانت تدفع ثمن معظم الأسلحة التي يحصل عليها النظام السوري، من روسيا، الحؤول دون تحرير دمشق بعدما ورّطت “حزب الله” والميليشيات المذهبية العراقية في الحرب التي يشنّها بشّار الأسد على شعبه.. وعندما نجحت في تغطية الاستخدام المكشوف للسلاح الكيميائي.

ساعدها في ذلك وجود إدارة أميركية، على رأسها باراك أوباما، تفضّل استمرار القتال الداخلي في سوريا إلى ما لا نهاية. الدليل على ذلك، امتناع أوباما عن تنفيذ تهديداته، حتّى عندما لجأ النظام السوري إلى السلاح الكيميائي صيف العام 2013. بدل توجيه ضربات محدّدة إلى قواعد جوّية بما يعطل القدرة على ضرب المدنيين وتدمير المدن والبلدات السورية على رؤوس سكّانها، كما يحصل حاليا في دوما القريبة من دمشق، استجابت واشنطن للنصائح الروسية واكتفت بتجريد النظام من مخزون السلاح الكيميائي. ليس معروفا، إلى اليوم ما الذي تريده إدارة أوباما في سوريا، خصوصا أنّه يصدر عنها الشيء وعكسه في اليوم ذاته. كيف يعترف الرئيس الأميركي بأنّ بشّار الأسد وراء صعود “داعش” ولا يفعل شيئا من أجل التخلّص من النظام؟ هل همّه الوحيد الملفّ النووي الإيراني الذي يختزل، إلى إشعار آخر، كلّ ملفات الشرق الأوسط؟

حمت إيران دمشق وأمّنت استكمال عملية تطهير ذات طابع مذهبي استهدفت حمص ومناطق أخرى وذلك من أجل إبقاء الطريق مفتوحة بين العاصمة والساحل السوري. ترافق ذلك مع إلقاء روسيا بثقلها من أجل عدم تحرير العاصمة. ساعدت إيران في منع سقوط النظام، بالسلاح والفيتو في مجلس الأمن!

لا وجود، أقلّه إلى اليوم، لقرار دولي بتحرير دمشق. كلّ ما هناك، رغبة في إبقاء الوضع على حاله. هناك كرّ وفرّ ولكن ليس في استطاعة أيّ طرف الحسم، مع ما يعنيه ذلك من صعود مستمرّ لـ”داعش” وتمدّدها مع تنظيمات أخرى مثل “جبهة النصرة”.

تبيّن مع مرور الوقت أنّ العراق لم يعد قادرا على توفير الدعم المطلوب، خصوصا مع استيلاء “داعش” على مناطق شاسعة فيه. كذلك، لم يعد نوري المالكي منذ العام الماضي رئيسا للوزراء، كما تحوّلت الدولة العراقية إلى دولة مفلسة نتيجة الفساد الذي لا حدود له من جهة وهبوط أسعار النفط من جهة أخرى. حتى لو شاء العراق دعم النظام السوري، لم تعد إمكاناته تسمح له بذلك.

تميّزت الأشهر القليلة الماضية بمزيد من التورّط الإيراني. كان أفضل تعبير عنه الدعوة الصادرة عن “المرشد” علي خامنئي إلى قتال الإيرانيين في سوريا والعراق ولبنان. كانت إيران، الشريك في الحرب على الشعب السوري، تسعى في الماضي إلى قتال هذا الشعب بالعراقيين واللبنانيين.. والأفغان. الآن، بات الوجود العراقي في سوريا مقتصرا على مجموعات صغيرة في ضوء حاجة الأحزاب المذهبية العراقية إلى ميليشياتها للوقوف في وجه “داعش” ومتابعة عملية تقليص الوجود السنّي في بغداد والمناطق المحيطة بها.

أمّا بالنسبة إلى “حزب الله” الذي ألقى بكل ما لديه من إمكانات في سوريا، ثمّة مشاكل كبيرة يواجهها على كلّ صعيد، بما في ذلك الدور الذي لعبه في نقل الحريق السوري إلى الداخل اللبناني على نحو تدريجي. فبغضّ النظر عن كلّ ما يصدر عن الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله، لا يمكن إلاّ أن يكون هناك، في نهاية المطاف، عقلاء في الطائفة الشيعية الكريمة يدركون أنّ لا مجال لانتصار النظام السوري على شعبه. أكثر من ذلك، سيولّد تورّط “حزب الله” في سوريا حقدا يُخشى أن يستمر، بكلّ أسف، سنوات طويلة. يستهدف الحقد الذي يكتنز صدور السوريين طائفة لبنانية بكاملها. هذا ليس بالأمر السهل في ظلّ حال الفوضى التي تبدو سوريا مقبلة عليها. سيكون مستبعدا أن يكون هناك نظام قويّ يسيطر على كل الأراضي السورية في السنوات القليلة المقبلة، خصوصا بعد تدمير النظام الحالي المتهالك كلّ مؤسسات الدولة ووضع نفسه تحت الوصاية الإيرانية…

الواضح أن عدد الإيرانيين المشاركين في المعارك يزداد في وقت يخوض النظام معركتين كبيرتين في درعا ومحيطها وفي حلب ومحيطها.

هل ستنجح إيران حيث فشل النظام السوري ومعه “حزب الله” والميليشيات العراقية؟

بات المطروح إيرانيا البحث عن بدائل. في غياب القدرة على السيطرة على سوريا كلّها، لم يعد مستبعدا أن تكتفي إيران بجزء من الأراضي السورية المرتبطة بالبقاع اللبناني ولديه واجهة بحرية.. مع تأكيد احترام هذا الجزء لكل الاتفاقات السورية ـ الإسرائيلية في الجولان. وحده الوقت سيكشف هل هذا رهان في محله.

الثابت أنّ سوريا بعد أربع سنوات من الثورة ما زالت تفاجئنا. تبقى المفاجأة الأولى في صمود شعبها في مقاومة نظام هدر له كرامته باسم حزب البعث أحيانا وباسم الطائفة والعائلة في كلّ الأحيان.

اقرأ المزيد
٢ مارس ٢٠١٥
قاسم سليماني يبتسم للصورة

قبل نحو عام تماما، كان الشك يحيط بأي بحث عن صورة أو معلومة أو خبر عنه. السائد حينها هو التكتم حول دوره وحركته، أعني قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني. كانت للرجل مهمة هي تصدير قيم ثورة الخميني خارج الحدود الإيرانية وما عناه ذلك من مزج بين الآيديولوجيا الدينية والعمل الأمني، لكن دائما تحت ستار من الغموض والسرّية.
تغير الحال الآن..
لم تعد اللقطات الخاصة بالرجل بكاميرات غير احترافية نادرة ولم تعد الفيديوهات الأرشيفية له مجرد ثوان من مناسبات عامة ظهر فيها سريعا. فمنذ أشهر باتت صور قاسم سليماني وفيرة وعالية الجودة. فقائد فيلق القدس وبشكل متعمد ومقصود يبتسم للكاميرا ويسهب في الظهور في لقطات ينظر فيها مباشرة إلى العدسة ليتحقق من نجاح لقطاته معانقا جنودا ومقاتلين إيرانيين وعراقيين وسوريين في العراق وسوريا متفقدا جبهات ومشاركا ومخططا للقتال. كان هنا في بيروت يزور ضريح قتلى حزب الله الذين سقطوا في القنيطرة السورية والخبر والصورة نشرا علنا..
لم يعد سليماني تلك الشخصية الكتومة التي تراوح دورها على امتداد عقدين تقريبا ما بين الأسطرة والحقيقة. ها هو يقولها لنا صراحة: نعم، أنا رجل إيران القوي المسؤول عن تمدد الدور العسكري الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، وهذه صوري وأنا أسافر وأوزع أدوارا وأدير معارك خارج حدودي، ومخترقا سيادات دول أخرى، وأولئك المقاتلون يأتمرون بما أقول.
الصور بحد ذاتها تحول في استراتيجية طهران التي قررت أن تشهر دورها بلا أي مواربة أو التباس. والحجة في هذا التحول جاهزة: «نحن نحارب (داعش) والتكفيريين. الصور والمقالات التي تروج لسليماني وحركته الظاهرة تقدمه بصفته الشخصية التي تواجه أبو بكر البغدادي. هل تعتقدون أن قوات التحالف هي من أوقف تقدم داعش»، قالها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في لقاء تلفزيوني ساخرا من الغرب وناسبا وقف تمدد «داعش» لسليماني وإيران..
إذن بحسب الرواية الإيرانية وروايات المتحالفين معها سليماني هو الشخص الوحيد القادر على إيقاف «داعش» وهو يقود الجبهة التي تواجه قاطعي الرؤوس والتكفيريين الذين يمارسون عنفا رهيبا..
لكن ما هي استراتيجيته في وقف هؤلاء الدمويين؟
في سوريا دعم سليماني جيش بشار الأسد وحال دون سقوطه، فهو يحاول ضبط قاطعي الرؤوس بمطلقي البراميل ويستعيض عن حارقي الجثث بمعذبي المساجين حتى الموت..
في العراق، وهي الساحة الأقرب والأهم لإيران، تجري محاربة «داعش» عبر ميليشيات من نوع «عصائب أهل الحق» و«كتيبة بدر».. ميليشيات خاضعة مباشرة لإمرة سليماني. أما كيف توقف هذه الميليشيات تمدد «داعش» فهذا ما توثقه لنا تقارير عديدة ليس آخرها ما نشرته منظمة «هيومان رايتس ووتش» عن اعتماد تلك الميليشيات عمليات إعدام جماعي لسجناء وحرق بعضهم وحرق وتجريف منازل في مناطق ديالى حيث السيطرة الإيرانية تامة اليوم في العراق..
يستعمل البعض حين يريد أن يقنعنا بإيران سؤالا ساذجا: أيهما أفضل إيران أم «داعش»؟ على اعتبار أن النتيجة محسومة.. ولكن من قال إن الخيار الذي نرغب به هو أي شيء أقل من «داعش»؟
ثم أن نقبل بممارسات «عصائب أهل الحق» و«كتيبة بدر» بذريعة أنها أقل إجراما من «داعش» فإن ذلك يشكل منتهى الانتهاك.. ناهيك أن المقارنة تفقد قيمتها حين تصبح المقارنة بين قاطع للرأس ومنفذ إعدام جماعي وحارق للسجناء.. ويبدو أن الفارق يضيق حين تبتعد الكاميرا.. «داعش» تصور شراهتها للموت والقتل. و«عصائب أهل الحق» تولت «هيومان رايتس ووتش» توثيق انتهاكاتها؛ فعليكم بقراءتها، فابتسامات قاسم سليماني لن تحجبها..

اقرأ المزيد
٢ مارس ٢٠١٥
شبح الإغتيال يلاحق قادة الحر إلى تركيا

بعد الاحداث الأخيرة في سوريا عامة والمناطق الشمالية خاصة بين فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة التي فرضت سيطرتها على مناطق الشمال في إدلب وحلب ، و قامت ببعد ذلك بملاحقة قادة الفصائل العسكرية التابعة للجيش الحر ما اضطرهم للفرار واللجوء للأراضي التركية هربا من الإعتقال والمسائلة على يد محاكم جبهة النصرة أو من أي محاولة اغتيال لهم من أي طرف كان .

و لكن ذلك لم يغير بالأمر شيء فقد لاحقهم شبح الموت الى داخل الحدود التركية إما بقتل أو خطف أو محاولة إغتيال ، فبعد إغتيال قائد القناصة في تجمع كتائب و ألوية شهداء سوريا التابع لجبهة ثوار سوريا محمد الأخرس والتمثيل بجثته منذ أكثر من شهر تقريبا ، حيث وجد مقتولا بثلاث طلقات من مسدس وقد مثل بجثته وحرق وجهه بالأسيد ورمي في إحدى غابات تركيا الجنوبية ، تأتي اليوم محاولة إغتيال فاشلة لقائد جبهة حق المقاتلة " يوسف الحسن " عن طريق تفخيخ سيارته في بلدة الريحانية في إقليم هاتي التركي حيث تمكنت الشرطة التركية من تفكيك السيارة قبل إنفجارها .
ولكن الفاعل هنا مجهول فيمكن أن يكون للنصرة أذرع خفية في تركيا تلاحق قادة الحر المطلوبين لها بجرائم عدة ، أم أن هناط طرفا ثالثا له مأرب أخرى !!؟؟

اقرأ المزيد
٢ مارس ٢٠١٥
عودة أميركا وظروف نشأة التحالف ضد داعش.. قراءة جديدة

بعد مرور نحو ستة أشهر على تشكيله، ما زال التحالف الدولي الذي عدّ الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قيامه شرطاً ضرورياً لإعلان "الحرب على تنظيم الدولة"، وتجنب استخدام عبارة "الحرب على الإرهاب" التي طبعت عهد سلفه، حتى لا يبدو الأمر كأنه استئناف لحروب بوش الابن التي لم تتوقف، أصلاً، وإن تغيّرت أدواتها نحو اعتماد أكبر على الطائرات من دون طيار، "درونز"، ما زال يشكل مادة دسمة للبحث والدراسة، وسيبقى، على الأرجح، كذلك لسنوات عديدة، بعد أن قرر أوباما أن هذه الحرب ستطول، حتى تتسلّم الراية إدارة جديدة في واشنطن.

تحالف ضد مَن؟
من النقاط التي سيركز عليها خبراء العلاقات الدولية والعلوم السياسية أن الرئيس الأميركي أنشأ تحالفاً، وأعلن حرباً على تنظيم لديه، على الرغم من كل الأساطير التي تنسج حوله، مصادر قوة محدودة جداً، ويتركز معظمها في العنصر البشري المؤدلج. والمعروف أن الحروب تُعلن وتُخاض عادة ضد دول، وتعد من أفعال السيادة التي تمارسها كيانات قائمة، بالمعنى السياسي والقانوني، في مصفوفة النظام الدولي، كما تحكمها قواعد وقوانين ومعاهدات، مثل تلك الخاصة بمعاملة أسرى الحرب، وحظر استخدام أسلحة محرمة وغيرها. أما التحالفات، فهي، في المبدأ، أداة من أدوات السياسة الأمنية والخارجية، الخاصة أيضاً بالدول، والتي يتم عادة اللجوء إلى تشكيلها، لمواجهة قوى لا تستطيع دولة بمفردها أن تواجهها (Hegemon Power). وكلا الشرطين غير متوفر في تحالف أوباما ضد تنظيم الدولة، فلا التنظيم دولة، بالمعنيين السياسي والقانوني، ولا هو كيان يمتلك من عوامل القوة ما يبرر إنشاء تحالف ضده، ولا يغيّر من الأمر شيئاً تسلّح أوباما بقرار مجلس الأمن رقم 2170 الذي صدر في 15 أغسطس/ آب 2014، ويدعو الى اتخاذ "جميع التدابير التي قد تكون ضرورية وملائمة... من أجل مواجهة....... ارتكاب أعمال إرهابية"، لأن هذا القرار يذكر "تنظيم الدولة" باعتباره تنظيماً عابراً للحدود، وليس دولة، كما أنه لا ينظر إليه باعتبار أن عليه ما على الدول من التزامات.


العودة على مضض
"داعش في النهاية، بعكس القاعدة، جاءت رد فعل على سياسات إيران وحلفائها في المنطقة، وهي من ثم تقدم نفسها باعتبارها ممثلة للمظلومية السنية"

من الأمور الأخرى التي ستثير اهتمام دارسي العلاقات الدولية حقيقة الأسباب التي دعت الرئيس أوباما إلى العودة إلى الخوض مباشرة في أزمات المنطقة، بعد أن ظل يحجم عن ذلك، منذ سحب آخر الجنود الأميركيين من العراق، نهاية عام 2011، على الرغم من كل الضغوط التي تعرّض لها. صحيح أن إدارة أوباما ظلّت تعد "الإرهاب" أكثر التهديدات الأمنية التي تواجهها أميركا خطورة، لكن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي أعلن عن نفسه في 10 إبريل/ نيسان 2013، لم يكن يشغلها كثيراً، حتى بعد أن سيطر على الرقة، وحوّلها إلى عاصمة لدولته، طالما أن نطاق عمله ظل محلياً، ويستهدف المجتمعات المحلية، وليس المصالح الأميركية. لكن الأمر تغيّر عندما سقطت الموصل، وبدأ التنظيم يعد لاجتياح أربيل، عاصمة إقليم كردستان، أوثق حلفاء أميركا في المنطقة، عندها فقط أقر أوباما، في مقابلة مع برنامج "60 دقيقة" على قناة "سي.بي.إس" التلفزيونية الأميركية، في أواخر سبتمبر/ أيلول 2014، أن إدارته قلّلت من خطورة تنظيم الدولة، في حين أنها بالغت في تقدير قوة الجيش العراقي في التصدي له. بسقوط الموصل، سقط "مبدأ أوباما"، فتحولت مواجهة تنظيم الدولة إلى مسألة أمن قومي بالنسبة لواشنطن، ومسألة شخصية تهدد إرث رئيس لا إرث له حتى الآن، خصوصاً بعد أن أحرجه تنظيم الدولة أكثر، بإقدامه على ذبح الصحافيَيْن الأميركييْن، وكأنه كان يدفعه دفعاً للتخلي عن تردده، وتلبية دعوته للنزال في أرض الهلال الخصيب.


غيتس... مهندس التقارب مع إيران

جاء الرئيس أوباما إلى الحكم ببرنامج انكفائي، هدفه الرئيس وقف استنزاف القوة الأميركية في الخارج، والتركيز على إعادة بنائها داخلياً. وهذه دورة طبيعية في السياسة الخارجية الأميركية، تعود إلى أيام الحرب الأميركية ـ الإسبانية عام 1898، وتعمل وفق قاعدة (تمدّد ـ إعياء ـ انكفاء ـ إعادة بناء ـ وانطلاق من جديد). الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة حصل بعد الحرب العالمية الثانية، لأن الحرب الباردة انطلقت بعدها مباشرة. كانت فكرة أوباما تقوم، ببساطة، على العودة إلى قاعدة كيسنجر الشهيرة التي جرى إطلاقها تحت اسم "مبدأ نيكسون" عام 1969، وجاءت على خلفية الاستنزاف الأميركي في فيتنام، والضغط الداخلي للانسحاب من جنوب شرق آسيا. يقوم المبدأ المذكور على فكرة الاستعاضة عن التدخل العسكري المباشر، بتهيئة وبناء وكلاء إقليميين، يتم تجهيزهم ودعمهم لحماية المصالح الأميركية حول العالم. في العراق، جاء تطبيق إدارة أوباما المبدأ من بوابة دعم حكومة نوري المالكي، وبناء وتجهيز وتدريب قوات الجيش العراقي، ليصبح قوة محلية قادرة على الإمساك بالأرض، ما يسمح بانسحاب القوات الأميركية، من دون مظاهر هزيمة، كما حصل في فيتنام عام 1975. ومن أجل سد الطريق أمام أي احتمال للعودة إلى التورط المباشر في العراق، كان أوباما المستعجل للخروج، في ظروف الاضطراب واللاـ يقين التي فرضها "الربيع العربي"، مستعداً للتغاضي عن كل سياسات حكومة المالكي، الطائفية والإقصائية من جهة، ومستميتاً، من جهة أخرى، في كسب تعاون إيران لمساعدته في تهيئة الظروف للخروج من العراق. من أجل ذلك، كان أوباما بدأ يطبّق خلاصات تقرير بيكر ـ هاملتون الداعية إلى الانفتاح على طهران، موكلاً تنفيذها إلى وزير الدفاع، روبرت غيتس، وهو المسؤول الوحيد الذي احتفظ به أوباما من إدارة بوش، ليس لإظهار وقوف الحزبين معاً في مواجهة التحديات الخارجية، كما قيل حينها، وإنما للإشراف على تنفيذ توصيات لجنة بيكر ـ هاملتون التي كان غيتس من أهم أعضائها، وهو الذي كتب توصياتها.


جزرة أميركية غيّرت موقف دمشق
"انهار الجيش العراقي، الذي استغرق الأميركيون نحو عقد في بنائه وتجهيزه وتدريبه، خلال أربع ساعات في الموصل وكل شمال غرب البلاد"

في الفترة بين عامي 2009 ومطلع عام 2011، أشرف روبرت غيتس على مفاوضات سرية مع طهران، كانت تهدف إلى تحقيق استقرار نسبي في العراق، يسمح بسحب القوات الأميركية في الموعد الذي حدده أوباما، وهو نهاية 2011. وكان من جملة نتائج الحوار أن أيّدت واشنطن خيار طهران دعم بقاء رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، على الرغم من خسارته انتخابات عام 2010 أمام القائمة العراقية التي كان يقودها إياد علاوي. ومن سخرية الأقدار، أن برزت سورية عقبة رئيسة في سبيل تطبيق الاتفاق الأميركي ـ الإيراني. كانت دمشق تعارض بشدة ولاية ثانية للمالكي، بعد أن اتهمها بالمسؤولية عمّا أصبحت تُعرف بتفجيرات "الأربعاء الدامي"، التي وقعت في 19 أغسطس 2009، واستهدفت وزارتي المالية والخارجية في بغداد، وأدت إلى مقتل وإصابة مئات الأشخاص. وقامت دمشق على الأثر باستدعاء سفيرها من بغداد، في الوقت الذي توجه فيه المالكي إلى مجلس الأمن مطالباً بتشكيل لجنة تحقيق دولية ومحاسبة المتورطين. في هذه المرحلة، بدا جلياً أن مصالح طهران ودمشق بدأت تفترق أكثر في العراق، وكان ملفتاً أن تركيا، وليس طهران، هي مَن تولّى جهود الوساطة بين المالكي والأسد لإنهاء الخلاف، من دون جدوى.

في عام 2010، دخلت دمشق على خط التحالفات في الانتخابات البرلمانية العراقية، بهدف إسقاط المالكي، وكانت واعية بوجود اتصالات أميركية ـ إيرانية، تمهيداً للانسحاب، ومع صدور نتائج الانتخابات التي تقدم فيها علاوي، اتفقت دمشق مع الدوحة وأنقرة على دعمه في مواجهة التوافق الأميركي ـ الإيراني على بقاء المالكي، لكن "جزرة" أميركية ظهرت فجأة غيّرت الموقف السوري، ودفعته، من جديد، إلى الحضن الإيراني، وتمثّلت بوعد قطعته إدارة أوباما بإعادة السفير الأميركي الى دمشق. وكانت النتيجة أن تمكن المالكي من تشكيل حكومة، بعد نحو عشرة أشهر من المراوحة في المكان، وكوفئت دمشق بإرسال روبرت فورد سفيراً إليها أواخر العام 2010.


سقوط مبدأ أوباما
لكن، لم تلبث هذه الترتيبات والسياسات أن تبيّن مدى قصر نظرها، فعادت، في سنوات قليلة، لتطارد أوباما وتقضي على كل "إنجازاته"، إذ عادت "القاعدة" إلى الظهور مجدداً، ولكن بنسخة أكثر قسوة، وأشد شكيمة، كنتيجة للسياسات الطائفية والإقصائية التي اتبعتها حكومة المالكي بحق المجتمع السني العراقي، ولتوجه ضربة قاصمة لكل سياسات أوباما ونظرياته في العراق. فالجيش العراقي، الذي استغرق الأميركيون نحو عقد في بنائه وتجهيزه وتدريبه، ليكون قوة يعتمد عليها في الإمساك بالأرض، انهار في غضون أربع ساعات في الموصل وكل شمال غرب البلاد، وانهار معه مبدأ أوباما القائل بإنشاء وكلاء محليين، بدل التورط المباشر.

زاد هذا الوضع من حدة الضغوط على إدارة أوباما، المتهمة أصلاً بإضعاف هيبة أميركا، بسبب مواقفها المترددة في أزمات الشرق الاوسط وأوكرانيا وشرق آسيا، فلم تجد بدّاً، خصوصاً مع تنامي استياء الرأي العام، بعد إعدام داعش صحافييْن أميركيين بقطع الرأس، من التحرك. لكن التحرك بشكل منفرد كان ليُفهَم أنه موجّه ضد المجتمعات السنية في العراق وسورية، وعموم المنطقة العربية، لأن داعش في النهاية، بعكس القاعدة، جاءت كرد فعل على سياسات إيران وحلفائها في المنطقة، وهي من ثم تقدم نفسها باعتبارها ممثلة للمظلومية السنية. من هنا، برزت الحاجة إلى إنشاء تحالف يضم الدول السنية المهمة في المنطقة، واستبعاد إيران، علناً على الأقل، التي تتلاقى مصالحها مع واشنطن، بخصوص مواجهة داعش أكثر من بعض الدول المنخرطة في التحالف. ولأن مصالح أطراف التحالف المنشود كانت تصل إلى حد التناقض (لا سيما تركيا ومصر والسعودية)، خاض ثلاثة من كبار مسؤولي إدارة الرئيس أوباما، هم وزيرا الخارجية والدفاع وقائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال لويد أوستن، مفاوضات مضنية، للتعامل مع مخاوف أعضائه واهتماماته.


حرب لترتيب أوضاع الإقليم
"يقوم "مبدأ نيكسون" على فكرة الاستعاضة عن التدخل العسكري المباشر، بتهيئة وبناء وكلاء إقليميين"

الأمر الأخير الذي يثير اهتماماً كبيراً في الحرب الأميركية على "تنظيم الدولة"، هو حقيقة الأهداف الاستراتيجية التي تسعى واشنطن إلى تحقيقها منها. صحيح أن الرئيس أوباما أعلن أن الهدف النهائي من الحرب على التنظيم احتواؤه، تمهيداً للقضاء عليه، لكنه بدا واضحاً أنه، في الأثناء، لا بأس من استخدام الصراع لتحقيق أهداف جانبية لا تقل أهمية. من هنا، استغربت صحيفة "واشنطن بوست"، في مقالة للكاتب المحافظ ماكس بوت (Max Boot)، نشرت في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، حجم الالتزام الأميركي تجاه هدف القضاء على تنظيم الدولة. فقد وجد الكاتب، في دراسة مقارنة، أنه خلال فترة 75 يوماً بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول و23 ديسمبر/ كانون الأول 2001، شنت الولايات المتحدة 6500 طلعة جوية، ألقت خلالها 17000 طن من القنابل ضد أهداف خاصة بالقاعدة و"طالبان" في الحملة الجوية في أفغانستان. في المقابل، خلال فترة الـ76 يوماً بين الثامن من أغسطس/ آب و23 أكتوبر 2014، شنت الولايات المتحدة 632 غارة، ألقت فيها 1700 طن من القنابل ضد أهداف وتجمعات داعش في سورية والعراق، أي بنسبة واحد إلى عشرة من حجم الضربات التي وجهتها أميركا للقاعدة.

هذا يعني أن الولايات المتحدة تحاول، عمداً، إطالة أمد الحرب، بما يتيح استخدامها أداةً للمساعدة في إنشاء نظام إقليمي جديد، وإعادة صوغ موازين القوى في المنطقة. وفضلاً عن أن واشنطن تعمل على استنزاف جميع القوى في المنطقة، في مواجهات ظاهرها مذهبي، يبدو أنها تمكنت من استعادة زمام المبادرة التي كانت فقدتها بعد انسحابها "مذؤومة" من العراق. فالحرب على تنظيم الدولة مكّنت الولايات المتحدة من استعادة بعض نفوذها في بغداد، بعد أن كانت فقدته كلياً لصالح إيران بعد عام 2011، وفيما تحاول واشنطن استخدام هذه الحرب أيضاً "جزرة" لجر إيران إلى اتفاق نووي، يسهل التقاء المصالح الأميركية ـ الإيرانية في القضاء على تنظيم الدولة، عملية إعادة تأهيل إيران عضواً "كامل الأهلية" في المجتمع الدولي، ويفتح الأبواب أمام الشركات الأميركية، للحصول على جزء من كعكة الـ250 مليار دولار التي تعتزم إيران طرحها للاستثمار، لإعادة تأهيل بناها التحتية المتهالكة، بمجرد رفع العقوبات عنها. أما الأكراد فقد ساعدت الحرب على تنظيم الدولة في تعزيز مواقعهم، بما يسمح بتحويلهم إلى أدوات ضغط، يجري استخدامها أميركياً ضد السياسات التركية الجامحة. أما العرب فعليهم أن يعملوا ليس فقط للدفاع عن المصالح الأميركية، واستطراداً الإيرانية، بل أيضاً نقيض مصالحهم، لمجرد دفع شبهة الإرهاب عن أنفسهم، وذلك بدخولهم الحرب ضد تنظيم الدولة من دون مناقشة. لكن، كل هذا ليس قدراً محتوماً، فلا إيران ولا أميركا ولا تنظيم الدولة، بإمكانها تحقيق مصالحها على حساب العرب، إذا قرروا أن يدافعوا عنها، كما تفعل تركيا.

اقرأ المزيد
٢ مارس ٢٠١٥
«أجنبية» النظام ـ «أجنبية» سوريا ـ «أجنبية» الدين نفسه

هل ثمة شيء اسمه الثورة السورية يدخل هذا الشهر عامه الخامس؟ وهل يمكن أن تدخل ثورة عاماً خامساً أكثر؟
السؤال الثاني هو البعد النظري للسؤال الأول. فالعلاقة شائكة بين مفهوم الثورة وبين حسابات الوقت والأمد. الثورات الكبرى الفرنسية والروسية والصينية تؤرّخ بسنة اطاحتها بالنظام القديم، لكن سنة الاطاحة هذه اما هي فاتحة حرب أهلية كما في الحالتين الفرنسية والروسية، واما هي خاتمة الحرب الأهلية كما في الحال الصينية. الراجح طبعاً ان الثورة السورية هي ثورة العام 2011 و»امتداده»، أياً كان المآل اللاحق للصراع بين المنتفضين على نظام الرئيس بشار الأسد وبين النظام ومؤيديه وداعميه. هنا، ليس انتصار الثورة هو الذي يشعل حرباً أهلية يولّدها منطق المزايدة داخلها، بالتفاعل مع ومناحي الثورة المضادة والتدخلات الأجنبية. بالأحرى، عدم انتصارها والتوازن الكارثي الذي سارت عليه الأمور منذ الأسابيع الأولى، والقمع الدموي الذي اعتمده النظام، والنزيف التحتي الذي شهده جيشه في مقابل تماسك نخاعه الشوكي ومعادلته المناطقية والطائفية، والطابعين المتداخلين «الجوهري» و»السرابي» لحسابات الأكثرية والأقلية بالميزان الطائفي، هو الذي دفع باتجاه الحرب الأهلية. استدراك توضيحي: الاحتساب بميزان أكثرية وأقلية «جوهري» من حيث رياء أي مكابرة على الرابطة الطائفية – المناطقية للمجموعة الحاكمة والتي اتخذت من السلك العسكري والتأطير الحزبي له رافعة لامساكها بالقبضة الأحادية المزمنة، بل الطامحة للأبدية. و»السرابي»، لأنّ الأنسجة الأكثرية من المجتمع السوري، يجمعها الانتماء للإسلام السني كمشترك عام، لكن ما يجمعها يعود فيقسمها، ذلك أنها تشترك في الانتماء إلى ديانة كونية، وشعور بالانتماء إلى مجال واسع جداً، وصعب استجماعه وتسخيره في نفس الوقت. تجاوز الأكثرية السنية لنفسها تحت شعار «الشعب السوري واحد» فيه ورطة، وموال تكتيل نفسها كقوم أكثري في مقابل القوم أو الأقوام الأقلية فيها ورطة.. الاستحالة. كل هذا جعلها حرباً أهلية لا هدنة فيها ولو ليوم واحد، وان وجد سجل من المفاوضات والمساعي بلا طائل، كون النظام يفاوض على ما ليس يمكن، من حيث طبيعته، ان يحتمله، اي اصلاح ولو جزئي داخله، وكون بعض الحسابات كانت تنبني على انه ينازع ويحتضر، في حين انه نجح في التحول سريعاً، وبجدارة مرعبة، من نظام يبدو محتضراً إلى نظام احتضار دموي، لا يتحكم تماماً بالحرب الأهلية، لكنه يتحكم باستمراريته فيها إلى اوسع حد.
ليس ثمة تناقض مطلق بين مفهومي الثورة والحرب الأهلية. لكن ثمة فوارق أساسية بين حالة وحالة. في الثورتين الفرنسية والروسية اتخذت الحرب الأهلية نفسها طابعاً ثورياً. عاد ذلك بصفة خاصة إلى كون الحربين الأهليتين التاليتين لانتصار الثورتين الفرنسية من عام 1789 والروسية من عام 1917 حربين طبقيتين بامتياز، اضافة إلى اشتغال الرؤى اليوتوبية التي تريد شقلبة المجتمع رأساً على عقب، ما أدى بثورة فرنسية، كانت ترمي أساساً لتنظيم الاكليروس في نطاقها، وتجذير منحاه الاستقلالي المتصاعد عن البابوية طيلة القرن الثامن عشر إلى الاصطدام سريعاً معه، ومن ثم إلى الاصطدام بالديانة الكاثوليكية من حيث هي كذلك، وصولاً إلى التجريب الديني الثوري في «عبادة الكائن الأسمى» وبدع أخرى. تطويع الكنيسة كانت نتيجته الطلاق الجمهوري معها، ما لم يتبلور الا بعد احد عشر عقداً من بداية هذا الصراع. وفي المقابل، الثورة الروسية التي آلت سريعاً للأكثر عدائية تجاه الدين والكنيسة، سرعان ما اتخذت مساراً مفارقاً: تحويل الالحاد نفسه إلى ديانة، يتعرف الحزب الثوري من خلاله على نفسه ككنيسة، ثم الاستعانة بالدين القديم عندما استدعت ظروف الاجتياح الهتلري ذلك. التاريخ الديني للثورتين الفرنسية والروسية متشعب وهو ميدان معرفي خطير بحد ذاته. فهل كان للثورة السورية بدورها تاريخها الديني؟ هي ثورة على نظام «علماني» من حيث هو يلتزم بعقيدة ايديولوجية لا تجد مصدرها في الدين، وليس من جهة قوانين الأحوال الشخصية مثلاً لمواطنيه. لكنها ثورة الشرخ الكبير بين نخبها، ومقاتليها، وقواعدها. القواعد الشعبية لهذه الثورة في فترة النضال الجماهيري، بدت أميل إلى جعل الانتماء الديني والتدين من عناوين الصراع مع النظام، ومدخل لـ»أجنبته» – تعميم النظرة له كنظام «أجنبي» نسبة إلى «الشعب» الثائر. لكن ذلك لم يأخذ نسقاً عقائدياً مستقراً وواضحاً. في المقابل، بدت المفارقة العسكرية لافتة، بين الاسم «العلماني» للجيش السوري الحرّ والاسماء الدينية ذات الرنّة المذهبية التصادمية أحياناً لكتائبه. كان هذا قبل أن يشيع تبرؤ الفصائل المقاتلة من شرك «الديمقراطية» لتوسع مشكلتها مع الاستبداد الأسدي إلى مشكلة مع الديمقراطية أيضاً، وليكسب تنظيم «الدولة» رحلة المزايدة حين لم يعد مراده «أجنبة» النظام في سوريا، بل «أجنبة» سوريا نفسها، والتشهير بها ككيان صنمي مفروض على الشعب «السوري» وينبغي تحريره منه. هذا عن القواعد و الفصائل المسلحة، أما نخب المعارضة السورية فإنها فضّلت تأجيل الخوض في «المسألة الدينية» وكانت لعبتها الأسهل الرد على الشاعر ادونيس في مسألة عدم تجويزه انطلاقة ثورة من المساجد.
وسريعاً تحول التاريخ الديني للصراع الحالي في سوريا إلى بوابة الصراع المذهبي السني الشيعي، والصراع بين المفاهيم المختلفة للتسنن، في حين برز تنظيم «الدولة» لوحده كحالة يمكن مقارنتها مع المشاريع اليوتوبية في سجل الثورات الكبرى، لكن هذه المرة، من زاوية اضافة ضلع جديد للمثلث: ثورة «تؤجنب» نظاماً تخرج عليه، تنظيم «يؤجنب» الكيان السوري نفسه، بمفاعيل توحيدية لشرق سوريا مع غرب العراق، لكن أيضاً تنظيم «يؤجنب» الدين نفسه، ويصيّره شيئاً «اكزوتيكياً». اللافت في كل هذا، ان ثورة يمكن بشراهة، اعمال التحليل الطبقي لانفجار أريافها، لم يشهد البعد الاجتماعي، وضمناً الطبقي لها، أي اعتراف سياسي أو برنامجي به. الليبراليون أرادوها ثورة «حرية» بلا فاصل «رغيفي». الإسلاميون مقتنعون بأن الانصاف آت بتحكيم الشرع، ورغبتهم في الفتنة بين المذاهب تتحول إلى سلام اجتماعي بين الطبقات. ثورة الفلاحين السورية لبّست عباءتين نافيتين لها في وقت واحد: ليبرالية وإسلامية. أما النظام، فيلبس بدل العباءة ألف، فهو علماني من جهة، ويتبع ثورة خميني من جهة، وهو فلاحي من جهة، ويحمي المدن من الفلاحين من جهة. هذا التفاوت في القدرة على انتحال العباءات والتكيف معها ما زال يطيل من عمر النظام، ويأكل من قابلية الكيان السوري نفسه للحياة المديدة.

اقرأ المزيد
١ مارس ٢٠١٥
المعارضة السورية: تدريب بـ’القطارة'

بعد أشهر من إعلانها عن نيّتها تدريب المعارضة السورية المسلحة، وبعد مماطلتها لنحو ثلاث سنوات في دعم “ثوار” سوريا، بحجة البحث عن مقاتلين “معتدلين”، وقّعت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي اتفاقية مع تركيا، وربما مع دول عربية أخرى، لتدريب مقاتلين من المعارضة السورية يبدأ تنفيذها خلال أيام، على أن تكون طليعتهم جاهزة للقتال بحلول نهاية العام.

ما هو مُعلن من الاتفاقية أن الولايات المتحدة ستبدأ بتدريب 1200 مقاتل حددت هويتهم، وستُدرب نحو خمسة آلاف سنويا، حصة تركيا منهم تقريبا النصف، ويُعتقد على نطاق واسع أن الأردن والسعودية وقطر ستكون معنية بتدريب النصف الثاني، دون أن يُعرف ما هي مهامهم أو أسلحتهم، هذا بالمختصر المفيد.

من حيث المضمون، هناك معطيات تدعو إلى الاعتقاد بأن البرنامج الأميركي مجرد مشروع وسد للذرائع وتخدير للمعارضة السورية من أجل كسب المزيد من الوقت لتأجيل حل أزمة بلدهم.

في مستوى أول، يُنهي هذا الاتفاق الخلاف بين تركيا وأميركا حول العدو الذي ستحاربه هذه القوات، فأنقرة تريدها قوات بمهمة مزدوجة لمقاتلة تنظيم الدولة والنظام على حد سواء، بينما تتمسك واشنطن بأولوية محاربة تنظيم الدولة وبعدها مقارعة النظام ليرضخ لحل سياسي، فمن رضخ لمن؟ وهذا الأمر سيحدد موقف جلّ مسلّحي سوريا من المشروع الأميركي.
    
    

على المستوى الثاني يعتبر تدريب 1200 مقاتل حتى نهاية العام الحالي عمل رمزي ليس إلا، فلن يقدر هذا العدد على فعل شيء وحده أمام جحافل التنظيمات الإرهابية في سوريا، وجحافل قوات النظام التي باتت تستقطب ميليشيات أجنبية من إيران ولبنان وأفغانستان واليمن، وبافتراض أن تدريبهم كان استثنائيا للوقوف بوجه كلا الكتلتين، التنظيمات الجهادية والنظام وميليشياته، فإن هذا العدد من المتدربين سيُشكّل نحو 1.5 بالمئة من إجمالي الكتلتين، ما يعني أن كل مقاتل متخرج من المدرسة الأميركية سيقف بوجهه 75 مقاتلا من الأطراف الأخرى، وهي معادلة قد تصلح في السينما الأميركية فقط.

على المستوى الثالث، هناك غموض في تحديد هوية المقاتلين “المعتدلين”، هل هم إسلاميون معتدلون، وهم ممن تعجّ بهم سوريا، أم علمانيون وقوميون، أم جنود منشقون عن المؤسسة العسكرية من المحترفين، أم كل من يلتزم بالقوانين الدولية المتعلقة بالحروب بغض النظر عن إيديولوجيته؟

على المستوى الرابع يقتصر البرنامج على التدريب، وهو آخر ما يحتاجه “ثوار” سوريا، فهناك أكثر من مئة ألف منشق عن الجيش النظامي، بينهم ضباط أمراء وخبراء عسكرتاريا، مدربون على الأسلحة وتكتيكات الحروب، مهمّشون من أميركا لأنهم لن يقبلوا بمحاربة الدولة الإسلامية وحدها وتجاهل النظام. كذلك هناك أكثر من مئة ألف مقاتل مدني انخرط في الحرب، واكتسب غالبيتهم خلال أربع سنوات، خبرات قتالية لا يُستهان بها، وبين كل هؤلاء يمكن الحزم بأن جلّهم يأمل في أن ينتهي النظام ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية.

كل هذه التساؤلات لا تجيب عليها الاتفاقية الأميركية – التركية، وتشير إلى خلل في الأعداد والمستهدفين وطبيعة البرنامج والهدف، وتكشف وجود الكثير من الثغرات.

واقعيا، لم تطلب المعارضة السورية المسلحة في أي وقت سابق المساعدة بالتدريب، واقتصر طلبها على أحد أمرين يوصلان إلى نفس الهدف، حظر جوي أو أسلحة مضادة للطيران، وهمّها ردع سلاح الطيران الذي يستخدمه النظام بكثافة لقصف كل منطقة خارجة عن سيطرته، وكل شارع وكل قرية يشارك أبنائها في القتال ضده، وقتل نحو 70 بالمئة من الضحايا المدنيين به، ودمّر البنى التحتية لنحو نصف سوريا، ومنع الثوار من تحقيق أي توازن ردع معه.

في حقيقة الأمر، ما ينقص المعارضة السورية المسلحة ليس التدريب، ولن تُحل مشاكلها بتدريب 15 ألف مقاتل خلال ثلاث سنوات، فغالبا بعد ثلاث سنوات ستكون سوريا قد بقيت مجرد أشلاء دولة يتقاسمها أمراء الحرب، بل ما تحتاجه قيادة محترفة جادة ذات خبرة، موثوقة ومعتدلة، وهي متوفرة في المنشقين عن الجيش النظامي، يساندها دعم بأسلحة نوعية تُوقف طيران النظام بأنواعه، حيث سيؤدي تحقق الشرط الأخير هذا إلى إرعاب النظام وقبوله بالحل السياسي ورضوخه للعدالة الانتقالية.

خَسِر النظام السوري نحو ثلثي مساحة سوريا ولم يقتنع بضرورة الحل السياسي وأصر على الحرب، واحتل تنظيم الدولة الإسلامية نحو ثلث مساحـة سوريـا ولم تهتز للنظام السوري شعـرة وبقي مصرّا على حربه المُدمّرة، وقطعت غالبية الدول العربية ودول العالم العلاقة معه ولم يهتم، وبالتالي فإن تدريب بضع آلاف من مقاتلي المعارضة لن يُرغمه على القبول بالحل السياسي.

للمعارضة السورية المسلحة تجربة سابقة غير مشجّعة مع الأميركيين، في البداية زودوها بمعدات غير قتالية، خوذات وبدلات عسكرية وأغذية، ثم دَرّبت عدة مئات على الأسلحة الفردية والتمارين الرياضية وألقت عليهم محاضرات فكرية عن أخلاق الحروب، ولم تستفد منهم بتغيير مسيرة الحرب السورية، وكذلك ماطلت بحجة البحث عن المعتدل، بينما سلّحت مقاتلين في عين العرب (كوباني) دون أن تعرفهم.

لم يعد للأزمة السورية إلا طريقين للحل، الأول عبر تسليح واسع النطاق للمعارضة مع دعم عسكري جوي كثيف، وهو ما تقدر عليه أميركا دون الرجوع إلى روسيا أو غيرها، ولنا في تجربة سحب الأسلحة الكيماوية دليل لكنه حل مستبعد أميركيا.

والثاني، صدور قرار أممي مُلزم للجميع، يعيد للشعب السوري حقوقه ويُحاسب من قتله ودمّر حاضره ومستقبله، ويضمن بناء دولة ديمقراطية تعددية تداولية، وهو الحل الأنسب للسوريين. ودون أحد هذين الحلين، سيبقى الاعتقاد قائما بأن ما تقوم به الولايات المتحدة لا هدف من ورائه سوى كسب الوقت.

اقرأ المزيد
١ مارس ٢٠١٥
فشل دي ميستورا

المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا نجح في شيء واحد فقط، زيادة غضب أغلبية الشعب السوري. بدأ مهمته بخطة مخيبة منذ أربعة أشهر، تقوم على وقف الاقتتال في حلب. ولم يحقق حتى الآن شيئا، رغم أنه قزم طموحاته إلى وقف إطلاق النار في حيين اثنين فقط في المدينة، وحتى هذا الاقتراح لم يجد استجابة ذات قيمة؛ فالرئيس السوري، بشار الأسد، أعطاه موافقة على حي واحد، لا يملك سلطة عليه، أما المعارضة المسلحة فلم ترَ في خرائط المبعوث الدولي مكانا لها.
الوسيط عمل مثل ستارة الدخان؛ ترك للتحالف الدولي أن يقاتل بالنيابة عن النظام في المناطق التي يحتلها تنظيم داعش، وصرف الأنظار عن الهجوم الممنهج اليومي الذي تمارسه قوات الأسد غالبا ضد مناطق مدنية، هدفها كان ولا يزال توسيع المأساة من أجل إجبار ملايين السوريين على الانشغال بالبحث عن طعام ومأوى يوما بيوم. دي ميستورا بدد أربعة أشهر لا يراه السوريون إلا باسما مع الأسد الذي قتل منهم أكثر من ربع مليون إنسان. هكذا ملأ الفراغ الدبلوماسي، كسابقيه، بما يكفي لإلهاء القوى المختلفة، وعشرين مليون سوري، معظمهم بلا مساكن أو موارد.
ما الذي يريد الوسيط الدولي تحقيقه حتى ينجح في مشروعه ويتوقف القتال في الحيين الحلبيين لستة أسابيع؟ ربما، إدخال المواد الغذائية؟ سبق إيصالها في مهمة إنقاذ سابقة دون الحاجة إلى اعتباره الحل السياسي. طبعا، يستطيع دي ميستورا أن يرمي الكرة في ملعبنا، ويسأل: ما الذي يمكنني أن أفعله وأنا لا أملك قوة، ولا تخويلا دوليا بالعقوبات؟
نحن نعرف أن دي ميستورا لا تزيد سلطته عن الممثلة أنجلينا جولي، التي تزور المنطقة في مهام إنسانية تحظى بالاحترام. نعرف أنه لن يستطيع فعل شيء دراماتيكي، مثل تحقيق رغبة الغالبية بالتخلص من الأسد ونظامه، إنما المتوقع منه على الأقل أن يبدأ من حيث انتهى مؤتمر جنيف، الذي يقول بنظام جديد هجين، مكون من نظام الأسد من دون الأسد نفسه، وقوى المعارضة، ومشاركة ممثلين عن مكونات المجتمع السوري بما فيه المكون العلوي. وهو إلى حد ما، كان قريبا مما كان يقوله بعض حلفاء النظام، مثل الروس، الذين كرروا مرات أنهم ليسوا متمسكين بشخص الأسد إذا وُجد حل يقبل به الجميع هناك ويحافظ على الدولة.
معادلة صعبة تستحق أن يقلبها الوسيط بأساليب مختلفة، واتصالات واسعة، ربما يجد المعادلة التي تقنع الأطراف بتنازلات تدريجية وتضيق المسافات. أما أن تمضي أربعة أشهر في سبيل أن يجرب إيقاف الاقتتال في حي أو حيين في مدينة واحدة في بلد كله مشتعل ويتم تدميره يوميا، فهي وساطة تشبه السباحة في المحيط. وأعتقد أنه بخطته تسبب في تشتيت الأفكار السابقة، وطمأن الأسد ونظامه، الذي كان خائفا من التدخل الدولي بحجة محاربة «داعش»، بأن الوسيط والوساطة مثل المكافأة تمنع الضغوط عليه، رغم أن عشرات الدول من أنحاء العالم تجول طائراتها وقواتها على أراضي سوريا. ما فعله دي ميستورا بجولاته منح الأسد ورجاله الثقة في أنهم يستطيعون المضي في قتل المزيد من عشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير المدن بالبراميل والصواريخ وميليشيات المرتزقة من إيران ولبنان والعراق. والذي زاد من شك السوريين فيه وغضبهم منه، أنه افتتح مهمته قائلا إن الحل المستقبلي الذي يحمله نظام يعترف فيه بالأسد!! عمليا، بكلامه ألغى دي ميستورا كل الجهد الدولي الضخم السابق، وبيانات جنيف، واصطف إلى جانب إيران. ومع أنه تراجع عن كلامه فإن تصرفاته ورحلاته توحي بأنه مثل وليد المعلم أو فيصل المقداد؛ مجرد موظف آخر في وزارة الخارجية السورية! كمعلقين سكتنا عليه أربعة أشهر، راجين أن يبتدع حلا لكن الوضع بوجوده صار أسوأ، لأنه يكسر آخر ما تبقى للأمم المتحدة من احترام.
وربما بات من الأفضل لدي ميستورا أن يحمل حقيبته ويغادر المنطقة لأنه يَزِيد من غضب الناس وليس من آمالهم.

اقرأ المزيد
١ مارس ٢٠١٥
غزو من الداخل

ارتبط الغزو، في وعينا وتاريخنا، بدخول قوى أجنبية بالقوة، أو سلمياً، إلى دولة، أو بلد، لتفرض مصالحها أو سياساتها أو تحالفاتها... وقد عرف القرنان، التاسع عشر والعشرون، تقنية معدلة للغزو الخارجي، قامت على تحالف أو انحياز دولة أو دول أجنبية إلى قوة داخلية، تصارع خصوماً أو أعداء، ودخولها إلى بلادها، لتعزز صفوفها، وتجعلها تتولى العبء الأكبر من القتال ضد عدوهما المشترك، فتحقن دماء جنودها، وتقلص مشاركتهم المباشرة في القتال أو الحرب. هذه التقنية عرفت باسم البلد الذي طبقت فيه، فسميت "الفتنمة" في فيتنام، و"العرقنة "في العراق، و"اللبننة" في لبنان ...إلخ.

واليوم، يقع تحوّل لا يستهان به في تقنيات الغزو من الداخل، نرى علاماته في أماكن من وطننا العربي: تتحالف إيران مع قوى داخلية في البلد المعني، تشاركها توجهاتها المذهبية والدينية، فتتولى قوة كبرى إقليمية تنظيمها عسكرياً، وتسليحها وتمويلها، والإنفاق على حاملها الشعبي، طوال مدى زمني متوسط إلى طويل، لتخترق، بواسطتها، بلدانها أمنياً وسياسياً، وتعطل دولها بطرقٍ تمكّنها من التحكم بخياراتها وأحزابها، وتغيير فهمها مصالحها وتحييد خصومها وشلهم. والنتيجة قيام القوى المحلية، كحزب الله والحوثيين، بدور يقوم به جيش طهران، لو قررت قيادته غزو البلدان المعنية واحتلالها وتنصيب حكومات دمى فيها. بذلك، لن تحتاج إيران ممارسة غزو مباشر من الخارج، فلديها جيوش في البلدان الأخرى تنشط، بالوكالة عنها، وكأنها فصيل من قواتها المسلحة، يرابط خارج حدودها، يدين بالولاء المذهبي الذي يدين به حرسها الثوري وجيشها، ويعتبرون إيران وطنهم الأم المقدس الذي يقوده معصومون، ومرجعيتهم الدينية والدنيوية، التي يلزمهم واجبهم الشرعي بخدمة خياراته الاستراتيجية، والتعامل معها، خيارات ملهمة وربانية.

يقوم جديد الغزو من الداخل على إحداث أو استثمار شرخ مذهبي في المجتمعات، ينتج ضرباً من الولاء لإيران، يجعل منها وطناً أصلياً لأتباعها، يسمو، في مرتبته ودوره، على ولائهم لجماعتهم المحلية ووطنها، ويؤسس لعلاقة مع إيران أقوى من أي علاقة داخلية كانت لهم، بما في ذلك مع الدولة والمجتمع المحليين، كما ينتج طرقاً في الفهم والوعي خارجية المركز، تمييزية المضمون، تفكّك الأواصر الوطنية والتاريخية الضرورية، لاستمرار الدولة والشعب القائمين، وتضع أحجار الأساس لدولةٍ ضمنية، لها كل ما للدول من مؤسسات إدارية، لكن جيشها يجب أن يتوقف، حتماً، على جيش وطنها، الذي يصير، أكثر فأكثر، افتراضياً ووهمياً، بينما يغدو الوطن الأم الروحي فوق أي نقد أو حوار، وتنتج العلاقة معه شرعية تسوّغ ملاحقة وتشويه سمعة من يتمسكون بوطنهم من أبنائه.

لسنا هنا حيال تدخل خارجي محدود زمانياً ومكانياً، لصالح فريق يقاتل فريقاً داخلياً آخر، بل حيال غزو متعدد المجالات ومفتوح زمنياً، يقوم على دمج هيكلي، أيديولوجي وشمولي، لقطاعٍ من الداخل الوطني، في نسيج خارجي أكبر، أساسه تماثل مذهبي، يجعل الخارج مرجعية مقدسة لدى تابعيه الداخليين، المنظمين بطرقٍ تمكّنهم من تطويع وطنهم ومجتمعهم، وشل مقاومتهما وإلحاقهما بالوطن المذهبي الأم، وتحقيق وظائف يؤديها الغازي الداخلي، تتخطى تجاوزاتها، الحقيقية والمحتملة (قبل الثورة، كانت حرب النظام على الشعب السوري إحدى التجاوزات المحتملة) ما يقوم به أي غاز أجنبي يقتحم البلد، بيد أنه يبقى برّانياً ومعادياً، في نظر شعبه.

هذا الغزو من الداخل يرجح أن يبقى مرشحاً للتصاعد في بلداننا. ولن يزول، ولن يزول خطره بغير اندماج مجتمعي، يساوي بين المواطنين في الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والمواطنة، يقوّي الدولة الوطنية التي لن تتمكن من ردع الغزو الداخلي، وقطع علاقاته مع منابعه وموارده الخارجية، إذا لم تطبق ديمقراطية الهوية والوظائف منظومة قيمية حرة وإنسانية، تقوّض منظومة الغزاة، المذهبية بأرديتها الثورية والوطنية التي توضع فوق أية مساءلة، لكونها الجزء المعنوي من عنف الغزاة المادي.

اقرأ المزيد
١ مارس ٢٠١٥
سوريا ايرانية... النجاح الوحيد للنظام!

ليس بعيدا اليوم الذي تصبح فيه الأزمة السورية أزمة ايرانية أيضا. فإذا كان النظام السوري نجح إلى الآن في شيء، يمكن القول أنّه نجح في أمر واحد. وضع سوريا تحت الوصاية الإيرانية وذلك بكلّ ما تعنيه الوصاية من نتائج.

قبل ذلك، حوّل الأزمة العميقة التي يعاني منها إلى أزمة سورية بامتياز، تمهيدا لتحوّلها إلى أزمة ايرانية بعدما صار على طهران زج مزيد من الرجال في الداخل السوري.

بات مستقبل سوريا في مهب الريح بعدما فشل النظام طوال أربع سنوات في قمع الشعب السوري وتدجينه. أكثر من ذلك، زاد النظام الأزمة السورية تعقيدا بعدما راهن على أنّ صعود "داعش" سيساعد في تأهيله. ولكن الأهمّ من ذلك كلّه، يظلّ جديد سوريا على بعد أيّام من دخول ثورتها السنة الخامسة، التورط الإيراني المباشر بالرجال في حرب داخلية فشل النظام في تحقيق أي نوع من الحسم فيها.

منذ آذار ـ مارس من العام 2011، تاريخ اندلاع الثورة الشعبية، سعت إيران إلى تزويد النظام بكلّ ما يحتاجه من مساعدات. كانت الأموال الإيرانية تتدفق في البداية على نحو مباشر. لكنّ الفساد الذي يعاني منه النظام، حمل ايران على مطالبة النظام بلائحة تتضمن تفاصيل ما يحتاجه كي يبقى على رجليه، وذلك بديلا من تقديم مبالغ نقدية.

على الصعيد البشري، اكتفت طهران في البداية بإرسال مستشارين عسكريين إلى دمشق والمناطق السورية المختلفة. لجأت بعد ذلك إلى تدريب آلاف العناصر السورية الأمنية في أراضيها بعدما إكتشفت أنّ هذه العناصر لا تمتلك أي خبرة في قمع الثورات الشعبية. إستفاد النظام الإيراني في هذا المجال من الوسائل والأساليب التي إعتمدها في قمع الثورة الشعبية التي هدّدت وجوده في العام 2009.

استطاعت ايران، التي كانت تدفع ثمن معظم الأسلحة التي يحصل عليها النظام السوري، من روسيا، الحؤول دون تحرير دمشق بعدما ورّطت "حزب الله" والميليشيات المذهبية العراقية في الحرب التي يشنّها بشّار الأسد على شعبه... وعندما نجحت في تغطية الإستخدام المكشوف للسلاح الكيميائي.

ساعدها في ذلك وجود إدارة اميركية، على رأسها باراك أوباما، تفضّل استمرار القتال الداخلي في سوريا إلى ما لا نهاية. الدليل على ذلك، امتناع أوباما عن تنفيذ تهديداته، حتّى عندما لجأ النظام السوري إلى السلاح الكيميائي صيف العام 2013. بدل توجيه ضربات محدّدة إلى قواعد جوّية بما يعطل القدرة على ضرب المدنيين وتدمير المدن والبلدات السورية على رؤوس سكّانها، كما يحصل حاليا في دوما القريبة من دمشق، إستجابت واشنطن للنصائح الروسية واكتفت بتجريد النظام من مخزون السلاح الكيميائي. ليس معروفا، إلى اليوم ما الذي تريده إدارة أوباما في سوريا، خصوصا أنّه يصدر عنها الشيء وعكسه في اليوم ذاته. كيف يعترف الرئيس الأميركي بأنّ بشّار الأسد وراء صعود "داعش" ولا يفعل شيئا من أجل التخلّص من النظام؟ هل همّه الوحيد الملفّ النووي الإيراني الذي يختزل، إلى إشعار آخر، كلّ ملفات الشرق الأوسط؟

حمت ايران دمشق وأمّنت استكمال عملية تطهير ذات طابع مذهبي استهدفت حمص ومناطق أخرى وذلك من أجل إبقاء الطريق مفتوحة بين العاصمة والساحل السوري. ترافق ذلك مع إلقاء روسيا بثقلها من أجل عدم تحرير العاصمة. ساعدت ايران في منع سقوط النظام، بالسلاح والفيتو في مجلس الأمن!

لا وجود، أقلّه إلى اليوم، لقرار دولي بتحرير دمشق. كلّ ما هناك، رغبة في إبقاء الوضع على حاله. هناك كرّ وفرّ ولكن ليس في استطاعة أيّ طرف الحسم، مع ما يعنيه ذلك من صعود مستمرّ لـ"داعش" وتمدّدها مع تنظيمات أخرى مثل "جبهة النصرة".

تبيّن مع مرور الوقت أنّ العراق لم يعد قادرا على توفير الدعم المطلوب، خصوصا مع استيلاء "داعش" على مناطق شاسعة فيه. كذلك، لم يعد نوري المالكي منذ العام الماضي رئيسا للوزراء، كما تحوّلت الدولة العراقية إلى دولة مفلسة نتيجة الفساد الذي لا حدود له من جهة وهبوط اسعار النفط من جهة أخرى. حتى لو شاء العراق دعم النظام السوري،لم تعد إمكاناته تسمح له بذلك.

تميّزت الأشهر القليلة الماضية بمزيد من التورّط الإيراني. كان أفضل تعبير عنه الدعوة الصادرة عن "المرشد" علي خامنئي إلى قتال الإيرانيين في سوريا والعراق ولبنان. كانت ايران، الشريك في الحرب على الشعب السوري، تسعى في الماضي إلى قتال هذا الشعب بالعراقيين واللبنانيين.. والأفغان. الآن، بات الوجود العراقي في سوريا مقتصرا على مجموعات صغيرة في ضوء حاجة الأحزاب المذهبية العراقية إلى ميليشياتها للوقوف في وجه "داعش" ومتابعة عملية تقليص الوجود السنّي في بغداد والمناطق المحيطة بها.

أمّا بالنسبة إلى "حزب الله" الذي ألقى بكل ما لديه من إمكانات في سوريا، ثمّة مشاكل كبيرة يواجهها على كلّ صعيد، بما في ذلك الدور الذي لعبه في نقل الحريق السوري إلى الداخل اللبناني على نحو تدريجي. فبغض النظر عن كلّ ما يصدر عن الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله، لا يمكن إلّا أن يكون هناك، في نهاية المطاف، عقلاء في الطائفة الشيعية الكريمة يدركون أنّ لا مجال لانتصار النظام السوري على شعبه. أكثر من ذلك، سيولّد تورّط "حزب الله" في سوريا حقدا يُخشى أن يستمر، بكلّ أسف،ّ سنوات طويلة. يستهدف الحقد الذي يكتنز صدور السوريين طائفة لبنانية بكاملها. هذا ليس بالأمر السهل في ظلّ حال الفوضى التي تبدو سوريا مقبلة عليها. سيكون مستبعدا أن يكون هناك نظام قويّ يسيطر على كل الأراضي السورية في السنوات القليلة المقبلة، خصوصا بعد تدمير النظام الحالي المتهالك كلّ مؤسسات الدولة ووضع نفسه تحت الوصاية الإيرانية...

الواضح أن عدد الإيرانيين المشاركين في المعارك يزداد في وقت يخوض النظام معركتين كبيرتين في درعا ومحيطها وفي حلب ومحيطها.

هل ستنجح إيران حيث فشل النظام السوري ومعه "حزب الله" والميليشيات العراقية؟

بات المطروح ايرانيا البحث عن بدائل. في غياب القدرة على السيطرة على سوريا كلّها، لم يعد مستبعدا أن تكتفي ايران بجزء من الأراضي السورية المرتبطة بالبقاع اللبناني ولديه واجهة بحرية... مع تأكيد احترام هذا الجزء لكل الإتفاقات السورية ـ الإسرائيلية في الجولان. وحده الوقت سيكشف هل هذا رهان في محله. الثابت أنّ سوريا بعد أربع سنوات من الثورة ما زالت تفاجئنا. تبقى المفاجأة الأولى في صمود شعبها في مقاومة نظام هدر له كرامته باسم حزب البعث احيانا وباسم الطائفة والعائلة في كلّ الأحيان.

اقرأ المزيد
١ مارس ٢٠١٥
شيوخ سورية يأكلون شبابها

إذا اقتفينا أثر بشار الأسد، في محاولته الدائبة لإعادة تعريف البديهيات، فسيكون أول ما يتعين علينا بعد العنوان هو تعريف المرحلة العمرية للشيوخ وللشباب. ذلك ليس من باب السخرية فحسب، لكن بشار الأسد نفسه منذ توليه السلطة، لا تزال وسائل إعلام غربية معروفة تصفه بالرئيس الشاب، من دون إشارة إلى السنة الوحيدة التي باتت تفصله عن عمر الخمسين. توني بلير وديفيد كاميرون، على سبيل المثال، لم تركّز وسائل الإعلام على وصفهما بالشابين في أثناء تولّيهما المسؤولية السياسية الأرفع في بلدهما، كما كان يحدث في توصيف بشار الأسد حتى مستهل الثورة. الأسد الأب أيضاً، أنجز انقلابه قبل إتمامه الأربعين ولم تجرِ العادة حينها على وصفه بالرئيس الشاب، أما القذافي فكان دون الثلاثين عندما تسلّم السلطة في ليبيا، وسرعان ما أنسى الناس حداثته في السن ولو من باب طرافته.

في سورية، هناك أفراد تقدموا إلى الفضاء العام، من بوابة السياسة أو الثقافة، ووُصفوا حينها بالشباب، ثم لازمهم الوصف على رغم وصولهم إلى مرحلة الكهولة، وربما تخطّيها. هناك، على الصعيد الأدبي، كتّاب وُصفوا بالجدد، ثم احتكروا الوصف طوال العقدين أو الثلاثة الأخيرة، ما يعني ضمناً عدم تقدّم كتّاب جدد آخرين ينالون منهم اللقب، أو ما يعني غالباً قدرتهم على مصادرة اللقب لأنفسهم ومنعه عن أجيال لاحقة. من جهة أخرى، ستكون القناعة بموقع الصدارة من فئة الشباب، مع تخطّي تلك السن، نوعاً من ترضية على العجز في تكريس الذات ضمن الفضاء العام بصرف النظر عن الفئة العمرية، وقبولاً بالتصنيف «التشجيعي» الذي يُضمر الاستخفاف. مع التذكير دائماً بوصف المجتمعات العربية كمجتمعات شابة، حيث يُفترض بناء عليه وجود الشباب في نسبة معتبرة من الحراك العام، وفق منطق المشاركة الحقيقية لا على قاعدة التسوّل أو التشجيع.

فوجئ المعارضون السوريون، قبل غيرهم، بشباب الثورة السورية مع مستهلها، المفاجأة أتت من العدد الضخم الذي انخرط سريعاً في نشاطات الثورة، ومن الكفاءات التي لم يكن السوريون على دراية بها سابقاً. قسم قليل جداً من أولئك الشباب كان معروفاً من قبل في الوسط الضيق للمعارضة، وكانت لأولئك المعروفين من قبل ميزة على أقرانهم عموماً، متأتية من الفكرة السائدة عن إعراض العموم عن السياسة. في البداية، راجت فكرة أننا أمام «ثورة في العشرين ومعارضة في السبعين»؛ الأجيال الخمسة الغائبة في تلك المقولة كانت في الواقع ضحية تغييب السياسة طوال خمسة عقود من حكم البعث، هي موجودة واقعياً لكن قلّة منها أيضاً موجودة كفاعلية سياسية، ومن المرجح وفق التصنيف السابق أن تلتحق غالبيتها بالمعارضة «السبعينية».

مع صدمة بداية الثورة، راحت المعارضة تتودد إلى الشباب المُكتَشف للتو، وسيتبين بعد وقت قصير أن التودد في غالبيته لا يعدو كونه رشوة لفظية تُقدّم للشباب كي لا ينافسوا شيوخ المعارضة على مواقعهم. الجيل الذي نشأ على العمل السياسي السري أيام الأسد الأب، والذي ظهر نسبياً إلى العلن مع ما سُمّي حينها بربيع دمشق، هو نفسه الذي تصدر هيئات المعارضة منذ بداية الثورة حتى الآن. الدماء الجديدة التي رفدت هيئات المعارضة وجودها شكلي، والصراعات ضمن كل هيئة هي صراعات فردية يقودها الشيوخ، إما امتداداً لصراعاتهم التنظيمية السابقة على الثورة أو في صراع مستجد على النفوذ الحالي ووهم السلطة القادمة.

مع ذلك، النفاق وحده لا يفسّر التودد العارض الذي أبداه الشيوخ إزاء الشباب، وربما من الأصح ردُّ معظمه إلى «نزوة ثورية» عابرة، عاد بعدها الشيوخ إلى ممارسة ما اعتادوا عليه. وإذا بقي بعضهم على التودد اللفظي إلى «شباب الثورة»، فبعضهم الآخر لم يعد يخفي تململه منهم، بل حتى تعاليه عليهم بوصفهم الشارع الذي لا يدرك مصلحته السياسية مثلما يدركها ذوو الخبرة المديدة في التعاطي مع النظام القمعي. الأمر لا يقتصر دائماً على الشباب؛ القادمون الجدد إلى تنظيمات المعارضة، بصرف النظر عن الفئة العمرية، ظلوا هامشيين ومهمّشين قياساً إلى الشيوخ الراسخين فيها وتكتيكاتهم التي لا تخيب. باستثناء المقاتلين وقلة يتضاءل عددها مع الوقت، توزّع الشباب في بلدان الشتات، والحق أنهم لم يلقوا رعاية سوى من بعض المنظمات الدولية التي لم تكن أياديها بيضاء طوال الوقت، وساهم بعضها «ولو عن حسن نية» في تنمية النوازع الانتهازية لدى شبان خرجوا للتو من معطف فساد مؤسسات النظام. على هذا الصعيد، كانت مفاجأة سارة، وفشلاً ذريعاً للنظام، أن ينقلب جيل تربى منذ طفولته الأولى في مؤسسات النظام التربوية والتعليمية وبقية مؤسساته الفاسدة، على مجمل تربيته، في توق إلى بديل نظيف. الفشل الذي لا يقل خطورة، هو فشل هيئات المعارضة في تقديم البديل النظيف، إن لجهة الابتعاد عن شبهات الفساد، أو لجهة طرح برنامج سياسي وأطر عمل يستوعبان تطلعات الشباب. في المحصلة، كل ما يُقال عن دور سلبي لمنظمات الـ»إن جي أوز» هو في الفراغ الذي تسببت به المعارضة.

بتعبير مجازي، أكلت المعارضة الثورة عندما التهم شيوخها شبابها. وفي ظل ظروف دولية غير مواتية، لم تراهن المعارضة على العمل السياسي ضمن صفوف الثورة نفسها، أي وقفت عائقاً أمام الحراك الثوري الداخلي. لذا سيكون من حسن الطوية لدى أحد ممّن لا يزالون يُحسبون على الجيل الشاب، براء موسى في مقاله المنشور في «الحياة» في 12/2/2015 «طاقات الشباب المهدورة في المعارضة السورية»، أن يبدو كأنه يطالب المعارضة برعاية الكفاءات الشابة. قد يكون مفيداً هنا التذكير بما يردده بعض النشطاء من أن حافظ الأسد لا يزال يحكم من قبره. استطراداً، لا يزال معارضو حافظ الأسد يتحكمون بالمعارضة أيضاً.

كان مُنتَظراً، على غرار تجارب مماثلة، شعور شباب الثورة بالتهميش بعد انتصارها والاستيلاء على ثمارها من جانب قوى أكثر رسوخاً وتقليدية. ما حدث في سورية أمرّ، لأن شيوخ المعارضة ضاق صدرهم سريعاً ولم تنضج الثمار، لذا باشروا بالتهام الأغصان.

اقرأ المزيد
٢٨ فبراير ٢٠١٥
"تجميد جلب " .. العبثية الجديدة

تدخل مباردة المبعوث الأممي لسوريا ستيافان دي مستورا إلى قائمة المشكلات و المعضلات التي تعيشها سوريا على مدى الأربع سنوات ، و تجعل منها عبثية إضافية ، لإهدار مزيد من الوقت بلا أي طائل ، فالمبادرة التي بدأت كجبل تمخض عنه حبة رمل.

كانت بداية الحديث ضمن مبادرة "تجميد القتال في حلب "عن حلب ككل بجميع أحيائها و شوارعها و أزقتها ، سرعان ما خفتت و ظهرت من جديد ، غاب صوتها أمام الضجيج ، و ها هي تعود للمداولة من جديد ، و لكن بشكل مصغر او ما يمكننا تسميته بـ"مجسم " للعرض فقد و ليس للبيع أو التداول ، وهو أمر طبيعي مع كتلة الأسلاك الشائكة و التي تلف و تفرش الأرض السورية .

والمراحل التي مرت على هذه المبادرة التي يصل عمرها إلى خمسة شهور ، تجعل منها نسخة من نسخ محاولات الحل التي فشلت في الماضي ابتداء من لجنة الرقابة الأممية إلى خطة الأخضر الإبراهيمي ، فجميعها تبدء كأنها الحل الحاسم ، و في النهاية يتم رميها في سلة المهملات كأوراق ، و ندفن معها آلاف الشهداء ، الذين يكونوا خارج الحساب طبعاً ، و كل ما يتم في النهاية هو استقالة صاحب الفكرة أو العامل على تطبيقها ، و دخول بديل جديد ليمارس عبثتيه.

ففي الوقت الحالي نتحدث عن تجميد القتال في حي واحد من كل حلب و هو حي صلاح الدين وفق ما أعلن نائب وزير خارجية الأسد فيصل المقداد الذي قال أن دي مستورا قد عرض "ورقة جديدة مختصرة تتضمن تجميد الوضع الميداني في حيين داخل مدينة حلب هما صلاح الدين وسيف الدولة، ونحن قلنا لهم حي واحد، وهو صلاح الدين أولا" ، و ووعود نظام الأسد الكلامية طبعاً لن يتعدى أن يكون وقف قصف بالأسلحة الثقيلة مع ضبابية في كيفية ضبط النظام من عدم تحويل صلاح الدين إلى وعر جديدة .

و طالما أننا ذكرنا الوعر ، يجب أن نذكر أن من الأمور المطروحة أن تجربة صلاح الدين اذا ما تم تطبيقها و حصولها على علامات النجاح ، فانه سيتم سحبها لتطبق على الوعر و من يعرف على الغوطة أيضاً ..!!

وعود و وعود ليست أكثر من عبثية ورقية التي لا تنطبق على الواقع نهائياً ، ففي الوقت الذي اجتمع فيه "قوى ثورية " وفق بيان الائتلاف الوطني السوري ، في مدينة كلس التركية ، كانت رحى المعارك على أشدها و لازالت بين حركة حزم و جبهة النصرة التي يبدو أنها تميل لمصلحة الأخير الذي سيطر على نقاط تمركز أساسية لحزم في ريف إدلب الأمر الذي يجعلها مهددة بالزوال .

و السؤال بعد سيطرة النصرة على غالبية المشهد في المنطقة الشمالية ، فهل الحديث عن مبادرة من أي وزن بما فيها مبادرة دي مستورا شيء من المنطق !!؟

لا شك أن من يفاوض أو من يسمى كـ"مفاوض" أن يكون يملك شيء من القرار أو من الأمور الميدانية التي تجعله يملك حيز المناورة ، فهل تملك اللجنة المشكلة من قبل "القوى الثورية " هذا الشيء أو ذاك ..؟

و ما مدى قوة كلمتها على الأرض ؟

دائماً نسرع خطى خلف كلام مبعثر حول "حل الأزمة السورية سياسياً" رغم قناعة الجميع ، أن هذا الحل هو حل عبثي لا أرضية له و لا مكان ، فحرب تستعر منذ أربع سنوات لن يطفئ لهيبها مثل هذه العبثية ، بل هي بحاجة لإنهاء عسكري ينهي ما بدأه الأسد منذ أول صرخة صدحة من حناجر السوريين ألا و هي " حرية".

وتسعى المعارضة إلى توسيع رقعة وقف القصف كي لا يقتصر على مدينة حلب وحدها، وهو ما أبلغه أعضاء وفد «الائتلاف» لدي ميستورا في اجتماعهم الأخير، وتلقوا منه تطمينات بأن تجميد القتال في حلب «لا يخرج عن دائرة النظرة العامة للمشهد في سوريا، ما يعني أن نجاح الخطوة في حلب سيعني انتقالها تلقائيا إلى باقي المناطق، خاصة الغوطة الشرقية ومنطقة الوعر (في حمص)».

اقرأ المزيد
٢٧ فبراير ٢٠١٥
جلب روسيا للتفاوض على الأسد

يذكر بعض الذين شاركوا في مفاوضات جنيف -التي عقدت بداية 2014 بين الأطراف السورية- أنّ الروس كانوا أكثر تشدداً من وفد النظام، وأنّ كل جهدهم تركز على ضمان إفشال العملية التفاوضية بأي ذريعة.

آنذاك كانت روسيا تنطلق من تقديرات خاصة لدى دوائر صناعة القرار بأنها أمام فرصة تاريخية لتغيير بنية وهيكلية النظام الدولي، واستعادة وضعية القطب الثاني عالميا، وكان من ضمن رهاناتها في إنجاز هذه المهمة أذرعها النفطية والغازية الضاربة في عمق الاقتصاد الأوروبي، وقدرتها على جعل شتاء أوروبا بارداً ومظلماً.

يومها أرادت روسيا إرسال رسالة واضحة للعالم بأنّ حل المسألة السورية إما أن يتم وفق رؤيتها وتصوراتها، بما يعنيه ذلك من انتصار لرواية نظام الأسد وإعادة تثبيته في الحكم وتعويمه دولياً، أو فإن الخيار الآخر هو استنزاف العالم وإرهاقه إلى أن تتم إعادته إلى الطريق الصحيح، وبالنسبة لروسيا فإنه لا مشكلة عندها في ذلك، إذ لديها ما يكفي من الاحتياطيات المالية والعالم في حاجة إليها، وأوروبا لن تستطيع مقاومة البرد في الشتاء القادم، فطالما كان جنرال البرد تاريخياً مقاتلاً خفياً مع الروس.

مرّ الشتاء، وللمفارقة فإنه كان أدفأ شتاء عاشته أوروبا منذ عقود بسبب انخفاض أسعار الوقود لسنوات بمستويات قياسية، بينما غرقت روسيا في وحول أزمة اقتصادية غيرت ديناميكيات الصراع كلها وخرجت عن حسابات وتقديرات صنّاع القرار في الكرملين.

واكتشف الروس أنهم لا يختلفون كثيراً عن الريف الفنزويلي الذي يعيش يوماً بيوم على عوائد المحروقات، وأن فلاديمير بوتين لم يصنع مشروعاً اقتصادياً يشكل رافعة لأحلام روسيا وعنترياتها.

وأن كل ما في الأمر هو بضعة فوائض مالية صنعتها عملية اندماج روسيا في الاقتصاد الرأسمالي على مدار العقد الأخير، وهي عبارة عن عوائد أتاحها النمو الاقتصادي العالمي ليعاد تدويرها في عملية استيراد المنتجات الغربية نفسها، ويستطيع هذا النظام الرأسمالي بآلياته وتكتيكاته تذويبها وتحويلها إلى مجرد احتياطيات لترقيع سعر صرف الروبل.

في هذه الأثناء، كانت روسيا قد وسّعت بيكار تدخّلها في أوكرانيا المجاورة وزاد حجم تورطها والتزاماتها.

وإزاء هذه التطورات الصادمة والفارق بين تقديراتها وحساباتها والنتائج المترتبة على أرض الواقع، تجد موسكو اليوم نفسها أمام موازنة خياراتها الإستراتيجية والقيام بإجراء نقلات سياسية مهمة تسمح بإعادة تموضعها، واستعادة وضعيتها التي كانت قبل تأزم علاقاتها مع الغرب. فماذا عن سوريا؟

    "تجد موسكو اليوم نفسها أمام موازنة خياراتها الإستراتيجية والقيام بإجراء نقلات سياسية مهمة تسمح بإعادة تموضعها، واستعادة وضعيتها التي كانت قبل تأزم علاقاتها مع الغرب، وهنا تقع سوريا في قلب أزمة روسيا وفي صلب حزمة متاعبها"

تقع سوريا في قلب أزمة روسيا وفي صلب حزمة متاعبها، بل تكاد تكون خط اشتباكها الأساسي مع العالم، ذلك أنه مع كل ما يقال عن أزمة أوكرانيا وتداعياتها الروسية إلا أنها تبقى إشكالية يمكن حلها ضمن أطر وقواعد العلاقات التي أتاحتها أوروبا للشريك الروسي، كما أن تداعياتها تبقى محصورة ضمن نطاق العلاقات الروسية الاقتصادية في الغرب، وهي علاقات ليست إستراتيجية على اعتبار أن روسيا تملك بدائل آسيوية من السهل التحول إليها.

في حين أنّ الأزمة السورية استدعت إجراءات تمس عناصر القوة الإستراتيجية لروسيا وهي أسعار الطاقة، حيث لا تملك روسيا بدائل ذات قيمة في هذه الحرب، وليس لديها هامش احتياطي يمكّنها من الصمود فترة طويلة في هذا النمط الصراعي.

إضافة لذلك، ثمة قناعة مدعّمة بتقديرات روسية واقعية مفادها استحالة إعادة سيطرة نظام الأسد، وتاليا استعادة نظامه السابق بشكله ومحتواه، بل حتى إنه يستحيل تثبيته مما يجعل استمرار ضخ المساعدات له أمرا غير ذي جدوى، وخاصة بعد اتساع دائرة أزمات النظام من الميداني إلى الاقتصادي والسياسي، وهي أزمات لا يمكن حلها، لأن جسد النظام ممزق من جميع جوانبه بما يجعل رتقه وترقيعه أمراً مستحيلاً.

ولعلّ الأمر الأهم في الإدراك الروسي الجديد أنه لا يمكن السير وراء تكتيكات نظام الأسد الطويلة الأمد في إخضاع الغرب وجلبه إلى رؤيته، فلم تعد روسيا تقتنع بتقديرات النظام فهي مبنية على "رغبوية"، وعلى افتراض حصول تطورات تدرك القيادة الروسية أنها لن تحصل، وإن حصلت فإن تكاليفها ستكون أعلى بكثير من العوائد التي ستحققها روسيا، وخاصة بعد تحول النظام إلى مجرد طرف مليشياوي ورأسه مجرد أمير حرب.

وبالتالي فإنّ عوائد التفاوض على النظام -في حال جرى توصيفه ضمن هذه الصفة- ستكون قليلة، مع إدراك موسكو أن الأطراف المواجهة لها جدّية جداً في صراعها، والأفضل هو اللجوء إلى التفاوض لأن جبهة المواجهة واسعة وتمتد من أوكرانيا وسوريا إلى خفض أسعار النقط والعقوبات الاقتصادية.

هل تقوم روسيا بعملية انسحاب أو نزول عن الشجرة؟ بمعنى هل ستجري روسيا استدارة في مواقفها من الأزمة؟ ثمّة مؤشرات عديدة على أنّ روسيا بدأت في تلك الاستدارة، وتقوم إستراتيجيتها بهذا الخصوص على إعادة صياغة النظام والمعارضة معا لإنتاج "كرستا" أو طاقم جديد يتوافق مع شكل استدارتها.

فهي في الواقع لم تشعر بالارتياح يوماً للمعارضة السورية بشكلها الحالي ولم تتوافق معها وخاصة شقها الائتلافي، كما أن النظام بتركيبته الحالية لم يعد يشكل عاملاً مساعداً على إنجاز ترتيباتها في الحيز السوري نتيجة اندماجه في إطار بنية صراعية إقليمية أوسع وخاصة على مستوى صناعة القرار فيه، لذا تدرك استحالة تحقيق أي اختراق ضمن هذه التركيبة، وبناء عليه صمّمت الدبلوماسية الروسية إستراتيجية لمواجهة هذا الواقع.

    "الأكيد هو أن روسيا ستضطر -عندما تكتشف استحالة تحقيق هذا الأمر والقبول به- إلى التخلي عن نطاقاتها التفاوضية أكثر وأكثر، وهذا الأمر لن يتحقق بالأمنيات بل من خلال تصميم إستراتيجية من قبل المعارضة تجعلها أكثر قوة وصلابة على الأرض، وتجعل موسكو تقتنع بأنه لا فائدة من التشدد في التمسك بالأسد ونظامه"

في الحقيقة، تبدو العملية التي تخوضها روسيا في هذا المضمار معقدة، تبدأ بإسقاط المحرمات التي شكّلت عناوين الأزمة طوال الفترة الماضية عبر طرح القضية للتداول بين الأطراف، على أن تأخذ المسألة بعداً ممنهجاً يتناول القضايا الأقل خلافية شرط أن يفتح ذلك الباب أمام قضايا أكثر إشكالية وهكذا.

ثم في مرحلة ثانية مناقشة الاقتراحات عبر تدوير زوايا بعضها وتوسعة مدى بعضها الآخر، ثم في مرحلة ثالثة مناقشة البدائل والممكنات وطرح ما هو مستحيل التحقق وتسليط الضوء على ما يمكن تحقيقه، وأخيرا التوافق حول حل ما.

روسيا في المرحلة المقبلة وفي سبيل إنجاح منهجيتها، ستحاول بناء تكتيكات عدة وتعتقد أنها تملك مساحة لتمرير تكتيكاتها تلك قبل الوصول إلى التنازل النهائي، أو هي تتعاطى مع سياق تفاوضي يجب أن يدار هكذا، وتدرك أنّ أوراقاً عدة ستعمل على حرقها، وأنّ تكتيكات ستفشل وهي موضوعة للاستهلاك من أجل تقوية الهدف الأساسي، وهو الحصول على حصّة من سوريا أو الاستفادة من الاستثمارات السياسية والاقتصادية التي صرفتها في سوريا أثناء انخراطها في الصراع من أجل تثبيت نظام الأسد في مواجهة الثورة ضده.

هذه الإجراءات تأتي في إطار رؤية روسية عبّر عنها نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف لدى لقائه بعض الشخصيات المعارضة والمدعوّة إلى "منتدى موسكو" بقوله إن النظام السوري القديم لم يعد موجوداً وإننا إزاء نظام جديد، وكان بوغدانوف نفسه قد طرح هذه الأفكار مع القيادة الإيرانية ومع الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، مما دفع هذا الأخير إلى تأكيد أن بشار الأسد هو خط أحمر لا يمكن الاقتراب منه.

غير أن حسابات روسيا تختلف عن حسابات حزب الله في هذا المجال، فهي وإن كانت تعادي الإسلام السني الذي تعتقد أنّ الثورة السورية أحد تجلياته، فإنها غير معنيّة بالصراع الشيعي/السني أو هو لا يشكّل أهم أولوياتها الراهنة، في الوقت الذي باتت تدفع فيه ثمن تداعياته واستحقاقاته.

هل يعني ذلك أنّ الاستدارة الروسية ستكون في صالح الشعب السوري وقضيته، وهل يمثّل ذلك دعوة للانخراط في جهودها ضمن هذا الأمر؟ الواقع أنّ روسيا يهمها بالدرجة الأولى إيجاد مخرج لأزمتها والحفاظ على مصالحها، ويقع نظام الأسد والأسد نفسه في قلب مصالحها، ويمكن إدراج مساعيها في إطار إعادة تأهيل هذا النظام وتعويمه عبر إعادة "ترشيقه" وإدماج كتلة المعارضين المقربين لها في أطره.

لكن الأكيد هو أن روسيا ستضطر -عندما تكتشف استحالة تحقيق هذا الأمر والقبول به- إلى التخلي عن نطاقاتها التفاوضية أكثر وأكثر، وهذا الأمر لن يتحقق بالأمنيات بل من خلال تصميم إستراتيجية من قبل المعارضة تجعلها أكثر قوة وصلابة على الأرض، وتجعل موسكو تقتنع بأنه لا فائدة من التشدد في التمسك بالأسد ونظامه، كما يستدعي ذلك صمود الأطراف العربية الداعمة للثورة السورية، وتحمل تبعات خفض أسعار الطاقة لوقت أطول.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل
● مقالات رأي
١٢ يونيو ٢٠٢٥
النقد البنّاء لا يعني انهياراً.. بل نضجاً لم يدركه أيتام الأسد
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان