إذا فشلنا في تحديد مصدر البلاء المسمى داعش، فلن نتمكن من فهم ظاهرته أو التصدي لها. هذه ملاحظة دفعني إلى تسجيلها تعدد الآراء واختلافها بخصوص منشأ الظاهرة ومصدرها. وما استوقفني في تلك الآراء أن أغلبها -في مصر على الأقل- يشير إلى عوامل الخارج باعتبارها الجهة التي صنعت التنظيم وأطلقته، ورغم أننا اعتدنا أن نشير إلى إسرائيل في مثل هذه الحالات لأسباب مفهومة لا داعي للإفاضة فيها، إلا أنني لاحظت أن مدارس التفسير في الإعلام المصري كانت هذه المرة أكثر تجاوبا مع اتجاهات الريح السياسية، إذ ندُرت الإشارة إلى الدور الإسرائيلي في حين تعددت الإحالات إلى الدور الأمريكي، الذي يحظى بنصيب وافر من الهجوم والاتهام من جانب الإعلام المصري، ولا أعرف ما إذا كانت تلك مصادفة أم لا. وقد شجعني على مناقشة الموضوع ما كتبه الدكتور جلال أمين بخصوصه أخيرا في جريدة الأهرام (عدد 23/2). ذلك أنه تبنى الموقف ذاته وإن بصورة أكثر توازنا. فذكر أنه حين سمع بأمر «داعش» لأول مرة، فإنه لم يتردد في وصفها بأنها «ليست صناعة محلية، بل أجنبية، وإن لم أستطع حتى الآن أن أحدد ما هي بالضبط الأيدي الأجنبية التي صنعتها».
قبل مناقشة الفكرة فإنني أمهد بملاحظتين، هما:
* إننا في الظواهر الاجتماعية نخطئ إذا أرجعناها إلى سبب واحد، لأن السلوك الإنساني تتداخل في توجيهه عوامل عدة، بعضها ذاتي موروث وبعضها مكتسب والبعض الثالث بفعل عوامل ومتغيرات تطرأ على البيئة السياسية. وربما انضاف إلى تلك العوامل عنصر الضرورة الناشئ عن ضيق الخيارات أو ندرتها. وهو ما يعني أن الظاهرة قد تفرزها عوامل محلية، فتزكيها عوامل أخرى إقليمية، وتتلقفها قوى خارجية لتستفيد منها وتوظفها لخدمة مصالحها. بل إن ما تعتبره بلاء يثير فينا مشاعر الرفض والنفور، قد يبدو هدية مجانية لأطراف محلية أخرى، حين تهول من شأنها وتثير فزع الناس منها، لتبرر بذلك إجراءاتها القمعية وتغطي به فشلها على جبهات أخرى.
* إن الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية على رأسها، رغم أنها قد لا تتمنى لنا خيرا، إلا أنها ما عادت مضطرة للتآمر علينا، أولا لأن ما يحدث في العالم العربي جراء صراعاته الداخلية يحقق للشامتين والكارهين مرادهم بغير جهد من جانبهم.
وثانيا لأن أنظمة العالم العربي لم تعد تشكل مصدر إزعاج للدول الكبرى. وأيًّا كانت مواضع الاختلاف في بعض المواقف والسياسات، فالثابت أن العلاقات والمصالح الاستراتيجية ثابتة ومستقرة. ولا تلوح في أفق المنطقة أي بوادر للمساس بالاستراتيجيات والمصالح الغربية، الأمر الذي قد يضطر بعض تلك الدول إلى زعزعة الأوضاع في أنظمة المنطقة لتوجيه رسائل من أي نوع إلى قادتها.
إذا حاولنا تنزيل هذه الخلفية على أرض الواقع فسوف يلفت نظرنا أن تنظيم داعش الذي يعد جيلا متطورا من تنظيم القاعدة نشأ في العراق التي كانت بيئتها مواتية تماما لاستنبات ذلك المشروع، إذ رغم تعدد فضائل العراقيين، إلا أن أحدا لا ينكر أن ثقافة القسوة والعنف لها جذورها في بلادهم. ولئن قدم نظام الرئيس السابق صدام حسين نموذجا للقسوة والوحشية، إلا أنه لم يبتدع ذلك الأسلوب وإنما عممه فقط. فالسحل له تاريخ في العراق، إذ كان ذلك حظ الأمويين في شوارع البصرة في بداية الخلافة العباسية. وهو ما تعرض له اثنان من العائلة الملكية الهاشمية في بغداد بعد الثورة (فيصل الأول وخاله عبد الإله) وهو ذات المصير الذي لقيه رئيس الوزراء الأسبق نوري السعيد آنذاك (عام 1958).
كما لم يسلم منه الجنود الأمريكيون في الفلوجة، إذا أضفنا الاحتلال الأمريكي الذي أهان العراقيين وأذل المقاومين في سجن أبو غريب، وسياسة القمع والقهر المذهبي الذي تعرض له أهل السنة في ظل حكومة المالكي، فلا غرابة أن يستدعي كل ذلك النموذج الوحشي الذي شكلته داعش، واستخرجت لأجله مواريث العنف في مواجهة الآخر، مستفيدة من مشاعر القهر لدى أهل السنة في العراق.
وقد وجدت هذه الموجة ترحيبا في أوساط المتعصبين والمقهورين وأنصاف المتعلمين في العالم العربي إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
هذه الخلفية لا تحتاج إلى متآمر أجنبي، وإن كان من الطبيعي والمفهوم أن يحاول كل صاحب مصلحة الإفادة منها، وبقايا حزب البعث وجيش صدام حسين المنحل، بل والنظام السوري في مقدمة هؤلاء.
أما مسألة استعادة الخلافة وإزاحة كل من يعترض طريقها أو يتردد في إعلان البيعة لها، فهي لا تختلف كثيرا عن استدعاء فكرة المهدي المنتظر التي يشيع البعض أنه سيظهر في العام الحالي (2015). ولا ننسى أن مسألة الخلافة تدغدغ مشاعر أجيال المسلمين الذين نشأوا في الغرب، فعانوا من التمييز والدونية، كما عانوا من قلة المعرفة بدينهم. وكان ذلك سببا في سرعة انجذابهم إلى داعش ومشروعها.
لا يسرنا بطبيعة الحال أن تكون داعش صناعة محلية على عكس ما ذهب إليه الدكتور جلال أمين، ولكنها الحقيقة المحزنة التي يتعين الاعتراف بها. وأكرر أن ذلك لا يمنع من أن تحاول أطراف أخرى الإفادة منها. ذلك أن داعش قدمت أكبر خدمة للنظام السوري، لأنها أقنعت قطاعات عريضة من السوريين بأن جرائم نظام الأسد أهون من الفظائع التي أقدمت عليها داعش أو القاعدة، ثم أنها روعت العرب بصورة أنستهم قضية فلسطين ووضعت مسألة الإرهاب على رأس التحديات التي تواجههم.
ذلك فضلا عن أنها شوهت صورة الإسلام والمسلمين في العالم، من أوروبا وأمريكا إلى اليابان، بل إن المسلمين في العالم الغربي أصبحوا ضمن ضحاياها، بسبب تنامي الحملات العدائية التي دعت إلى طردهم.
قل ما شئت في التداعيات البائسة التي ترتبت على ظهور داعش في العالم العربي، ولك أن تضيف ما شئت من أطراف حاولت أن تشيع الخوف منها وتستثمر ذلك الخوف لخدمة أغراضها، لكنك لن تستطيع أن تتجاهل أنها خرجت من بيئتنا وأن خلفية القهر والظلم هي التي استدعتها، بحيث استخرجت من شرائح المتعصبين وأنصاف الأميين أسوأ ما فيهم لكي يشوهوا أعز ما عندنا.
فوجئ اللبنانيون، قبل أيام، بأمين عام حزب الله، حسن نصرالله، يدعوهم إلى القتال، ليس فقط في سورية، وإنما أيضاً في العراق، لمواجهة "داعش" ووقف تمدده، وعدم انتظار أميركا التي شكك في جدية نياتها بالقضاء على هذا التنظيم. واعتبر نصرالله أن "اللعبة في سورية انتهت"، وأن نظام بشار الأسد باق، وهو مستعد برأيه لـ "حل سياسي يسمح للمعارضة غير التكفيرية المشاركة في تسوية".
ليست هذه المرة الأولى التي يخاطب فيها نصرالله اللبنانيين. وأخيراً، راح يكثف إطلالاته، إلى درجة أنه أطل عليهم، للمرة الثالثة خلال شهر فبراير/شباط الجاري. وقد دأب على الظهور عبر الشاشة المتلفزة أمام جمهور يحتشد لسماعه، وكأنه حاضر بينهم، في إحدى ملاعب كرة القدم في الضاحية الجنوبية من بيروت، معقل حزب الله. وهو قادر باستمرار على حشد عشرات الآلاف من جمهوره (الشيعي) العريض، غير أن اللافت احتلال الصفوف الأمامية باستمرار من معظم وجوه ما يسمى "محور الممانعة"، بدءاً من قياديين في حزب الله، مروراً بمسؤولين من حركة أمل (الشقيقة اللدود)، وبقياديين من تيار الجنرال الأسبق، ميشال عون، (المسيحي)، ومن بقايا الحزب القومي السوري وبقايا حزب البعث، يتقدمهم السفير السوري في بيروت، ومن فلول أحزاب ما كانت تعرف في أثناء الحرب الأهلية باسم "الحركة الوطنية" (من ناصريين وقوميين وإسلاميين)، ومن يتامى أنصار نفوذ النظام السوري في لبنان، وأصحاب الحظوة، التي وجدوها، اليوم، أو يبحثون عنها لدى حزب الله.
ناهيك عن حشد من رجال الدين الشيعة وأصحاب العمامات، وقلة من رجال الدين السنة. يجلسون كلهم صاغين، لا ليستمعوا إلى نصرالله شخصياً خطيباً أمامهم بالصوت الحي، وإنما رافعين نظراتهم إلى فوق لمشاهدته، يظهر عليهم عبر شاشة عملاقة، توضع خصيصاً في صدر الملعب. وتلوح فوق رؤوس الجميع أعلام حزب الله الصفراء، فيما تندر مشاهدة علم لبنان يرفرف في الأفق.
وكان ظهوره المرة الأولى في بداية الشهر الجاري لتعبئة جمهوره، وشد عزيمته، بعد عملية القنيطرة التي ذهب ضحيتها ستة من كوادره، من بينهم ابن عماد مغنية وجنرال من الحرس الثوري الايراني. لم يتكلم نصرالله إلا بعد أن رد حزبه بمهاجمة دورية إسرائيلية في مزارع شبعا اللبنانية، بعد مرور اثني عشر يوماً على عملية القنيطرة. والثانية قبل أيام للاحتفال بذكرى شهدائه، والرد على زعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، الذي وصف مشاركة حزب الله في القتال دفاعاً عن النظام السوري بـ"الجنون"، وطالبه بالانسحاب من سورية. واعتبر "محاولة إنقاذ بشار الأسد ضرباً من ضروب الانتصار الوهمية".
ومن هنا، دعوة نصرالله للقتال في سورية (عملياً إلى جانب النظام)، محاولاً طمأنة اللبنانيين إلى أن "الوصاية السورية لن تعود". وبالفعل، لاقى الحريري في أكثر من منتصف الطريق، مؤكداً على استمرارية الحوار بين الطرفين، وأعلن تجاوبه مع أي مبادرةٍ، من شأنها أن تحل مشكلة الفراغ، وتؤدي إلى انتخاب رئيس للجمهورية، علماً أن نوابه ونواب التيار العوني
"شن هجوماً على معظم العرب، ووجه كلامه تحديداً إلى السعودية ودول الخليج التي منّنها بأن من يقاتلون "داعش" في العراق يدافعون عنها، ومنعوا وصول هذا التنظيم إليها"
يقاطعون منذ تسعة أشهر جلسات الانتخاب. وأكد على ضرورة استمرار الحكومة الحالية وتحصينها، لأن لا بديل لها.
ومقابل المرونة التي أبداها للحفاظ على الاستقرار في الداخل، رفع نصرالله من نبرة التحدي في خطابه، متناولاً الوضع الإقليمي، وشن هجوماً على معظم العرب، ووجه كلامه تحديداً إلى السعودية ودول الخليج التي منّنها بأن من يقاتلون "داعش" في العراق يدافعون عنها، ومنعوا وصول هذا التنظيم إليها. وذهب، صراحةً، إلى حد دعم التمرد الحوثي في اليمن، والاستيلاء على السلطة في صنعاء، فخاطب الخليجيين قائلاً: "ابحثوا عن أسباب فشلكم في اليمن، حيث هناك ثورة شعبية حقيقية"(!) يقودها جماعة أنصار الله (أي الحوثيون)، وأضاف حرفياً بتهكم: "لا تريدون أن تقرأوا يا جماعة الخليج"، أليس لديكم من يقرأ لكم؟".
ورداً على من يقول بعدم الغوص في الصراع الإقليمي الدائر، والسعي إلى تحييد لبنان وتحصين الداخل بوجه الحرائق المشتعلة، أكد نصرالله أنه "كلام نظري جميل. ولكن، أين يصرف..."، معلناً أنه يجب الانخراط في "ساحات المواجهات الدائرة في سورية والعراق واليمن و... في أي مكان، لأن الدول الكبرى تسعى وراء مصالحها، والتي هي، الآن، مهددة في المنطقة". ولا بد، إذن، من المشاركة، لكي يتأمن الحضور على طاولة المفاوضات، أي أنه يدعو، كما اعتبر أخصامه، إلى تقديم لبنان وقوداً لإيران في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة. وهو يعتبر، بطبيعة الحال، أن إيران هي اليوم في مصاف الدول الكبرى. في المقابل، ينصح اللبنانيين بأن لا ينتظروا أي حل أو تسوية للفراغ الرئاسي من الخارج، وأن لا يراهنوا على أي اتفاق سعودي – إيراني، أو على المفاوضات الأميركية – الإيرانية.
ليست المرة الأولى التي يتوهم فيها أمين عام حزب الله بأنه بات في منزلة تحقيق الانتصار على "الدول العظمى"، وقد سبق له أن اعتبر أنه أصبح لاعباً إقليمياً، إثر حرب يوليو/تموز 2006، والتي صمد فيها أمام الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وليست المرة الأولى التي يوهم فيها جمهوره أن الحل السياسي بات قاب قوسين في سورية، ويتكلم وكأنه أصبح الحاكم الفعلي في دمشق، مؤكداً أن الأسد باق. أما الخطوة الأخيرة فكانت محاولة إيهام جمهوره بأنه، اليوم، في سورية يقاتل إسرائيل التي تدعم وتسهل مرور مقاتلي "داعش" على جبهة القنيطرة، كما تروج صحف وأجهزة إعلام "الممانعة" ومعلقوها. ولا يتورع عن إضافة شعار تعبوي وديماغوجي آخر، معتبراً أن المعركة هي "دفاع عن الإسلام وليس عن محور".
غير أن دعوة نصرالله للقتال في سورية لم تلق، بطبيعة الحال، أي تجاوب لدى اللبنانيين، الذين يشاهدون النزف المستمر في صفوفه، والتشييع شبه اليومي لمقاتليه في سورية. لا بل، إن ما يطرحه لم يعد يثير أي اهتمام لديهم، خصوصاً وأنه بات يكرر نفسه سورياً واقليمياً، فيما حليفه عون يبحث عن مجد شخصي يكلل به رأسه في خريف العمر.
كتب وزيرا الخارجية البريطاني فيليب هاموند والفرنسي رولان فابيوس مقالاً مشتركاً خصا صحيفة «الحياة» بنشر نسخته العربية هنا نصه: «لا يكتفي بشار الأسد فقط بشن حرب ضد شعبه من القصر الذي يقبع به، بل إنه يحاول أيضاً تلميع صورته أمام العالم. وعبر وسائل الإعلام الغربية، يستغل الأسد فظائع المتطرفين ليطرح نفسه شريكاً لنا في مواجهة فوضى بلاده. ويبدو أن البعض يميلون إلى ذلك، قائلين إن ظلم الأسد ودكتاتوريته في وجه التطرف أفضل من الفوضى.
لكن الأسد هو نفسه في واقع الأمر من يغذي الظلم والفوضى والتطرف، وفرنسا والمملكة المتحدة عازمتان على الوقوف معاً لمواجهة هذه الأمور الثلاثة، وهذا ما يدعونا إلى التشكيك الشديد بكل ما يبدو موافقة من الأسد على وقف قصف المدنيين في مناطق حلب (شمال سورية) لمدة ستة أسابيع، وهو الاتفاق الذي توصل إليه مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا. نرحب بجهود دي ميستورا وتفانيه، ونريد جميعاً أن نرى انخفاضاً حقيقياً ومستداماً لمستويات العنف، لكن أفعال الأسد السابقة تعني أنه لا يمكننا تصديق ما يقول، إذ شن الأسد حرباً أهلية بربرية، وهناك قائمة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبها زاعماً أنها باسم مكافحة الإرهاب، لكنها ارتكبت فعلياً في سياق سياسة منهجية يطبقها النظام. وعلينا ألا ننسى استخدام الأسلحة الكيماوية والعنف العشوائي ضد المدنيين السوريين، والصور المروعة من جرائم التعذيب والقتل في سجون الأسد التي كشفها الى العالم منشق عن النظام يُعرف باسم «قيصر». الواقع أن الأسد بات الآن أضعف كثيراً مما كان قبل عام، وما برح يزداد ضعفاً، وأصبح جيشه مستنزفاً مع ارتفاع تسرب جنوده من الجيش، كما أُجبر على تجنيد مرتزقة من مناطق بعيدة تصل إلى آسيا، وهو الآن لعبة بأيدي الجهات الداعمة له في المنطقة، مثل «حزب الله»، التي تعتبر القوة وراء نظامه الحاكم.
لم يعد الأسد المسيطرَ على زمام الأمور في بلده، إذ خسر أراضي في شمال البلاد حيث تقاتل بشكل شجاعة جماعات المعارضة المعتدلة، وفي شرقها لا يبدي الأسد أي مقاومة لعناصر «داعش»، وفي شمال غربي البلاد أحكم موالون لتنظيم «القاعدة» قبضتهم على المنطقة وباتت حدود البلاد مخترقة من الجهات كافة.
إن اقتراح الأسد حلاً لمواجهة المتطرفين يعني عدم فهم مسببات التطرف، إذ بعد سقوط 220 ألف قتيل واضطرار ملايين السوريين إلى النزوح من بيوتهم، من الغباء والسذاجة افتراض أن غالبية السوريين على استعداد للعيش بإرادتهم تحت سيطرة من أحال حياتهم عذاباً. وسيكون عمْدُنا إلى تحطيم أحلامهم في أن يكون لهم مستقبل أفضل من دون الأسد، عاملاً في تحول مزيد من السوريين الى التطرف ودفع المعتدلين نحو التطرف بدل العكس، وتثبيت موطئ قدم الجهاديين في سورية.
بالتالي، فإنه للحفاظ على أمننا القومي علينا هزيمة «داعش» في سورية، ونحن في حاجة إلى شريك في سورية للعمل معه لمواجهة المتطرفين، وهذا يعني تسوية سياسية تتفق عليها الأطراف السورية وتؤدي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية في سورية. من المرجح أن يشمل ذلك بعض أقسام هيكل النظام الحالي و «الائتلاف الوطني السوري» وغير هؤلاء من المعتدلين، ممن يؤمنون بسورية تمثل الجميع وتحترم مختلف أطياف المجتمع السوري. إلا أنه من الواضح لنا أن الأسد لا يمكن أن يكون طرفاً في أي حكومة كهذه.
من شأن عملية الانتقال السياسي هذه، أن تتيح للشعب السوري استعادة الأمل في المستقبل، وأن تتيح لنا معالجة جذور مسببات وجود «داعش»، وهو ما نركز عليه في جهودنا السياسية. تلك ليست مهمة سهلة وعلينا جميعاً أن نؤدي دورنا، كل بطريقته، لكن فرنسا والمملكة المتحدة لن تدخرا جهداً لتحقيق هذا الهدف».
* وزيرا الخارجية البريطاني فيليب هاموند والفرنسي لوران فابيوس.
كما استطاع الإيرانيون، ومعهم بالطبع نظام بشار الأسد، تسويق «كذبة» أن المواجهة ومنذ البدايات، إنْ في سوريا وإنْ في العراق، هي مع الإرهاب المتمثل في «داعش» و«النصرة» و«القاعدة» كذلك فإنهم حاولوا وما زالوا يحاولون تسويق «كذبة» أن هذين النظامين، أي النظام السوري والنظام الإيراني، هما اللذان يحميان الأقليات الدينية والعرقية في كلا البلدين من عنف هذه التنظيمات الإرهابية التي يصفونها زورا وبهتانا ومجافاة لكل الحقائق المؤكدة بأنها من الطائفة السنية، والمقصود وهنا تحديدا هم السنة العرب الذين أصبحوا «مكسر عصا» وفقا لمعادلة بول بريمر القائلة: إن هناك، بعد حرب 2003، منتصرا ومهزوما وإن المهزومين هم العرب السنة!!
وفي هذا المجال لعل ما لا يحتاج لا إلى براهين ولا إلى أدلة هو أن العرب السنة كانوا وما زالوا، إنْ في العراق وإنْ في سوريا، ضحية القمع الطائفي الذي يمارسه نظام بشار الأسد والذي تمارسه التنظيمات المذهبية المرتبطة بالولي الفقيه في طهران وبالميليشيات الطائفية العراقية والإيرانية والأفغانية والباكستانية.. واليمنية أيضا التابعة لما يسمى «فيلق القدس» بقيادة الجنرال قاسم سليماني الذي بات يعتبر «سوبر مان هذه المنطقة».
إنه غير صحيح على الإطلاق أن نظام بشار الأسد، الذي ثبت أنه طائفي ومذهبي حتى العظم، والدليل أن حربه ضد الشعب السوري التي بقيت متواصلة منذ مارس (آذار) عام 2011 قد بدأت حربا مذهبية ولا تزال حربا مذهبية، هو من يوفر الحماية للمسيحيين والدروز والإسماعيليين، فالمستهدفون الحقيقة إنْ في العراق وإنْ في سوريا هم السنة العرب وهذا لا يعني أنه لم تجر بعض التعديات المفتعلة المدانة والمرفوضة على المسيحيين تحديدا وإنه قد ارتكبت مذابح مرعبة ضد الإيزيديين من قبل «داعش» ومن قبل بعض التنظيمات الإرهابية الأخرى لكن ومع هذا كله فإن ما لا يستطيع أحد إنكاره هو أن من دفع الثمن غاليا ولا يزال يدفعه هم الطائفة السنية ولا غير الطائفة السنية.
إن كل المدن والبلدات والقرى التي جرى تدميرها، إنْ كليا وإنْ جزئيا، إنْ في العراق وإنْ في سوريا هي مدن سنية وإن القتلة والمجرمين هم، بالإضافة إلى جيش بشار الأسد، جيش نوري المالكي وأجهزتهما الأمنية، هم قوات «الحشد الشعبي» بقيادة هادي العامري وهم أيضا كل هذه الميليشيات الطائفية التي تم استيرادها من إيران ومن باكستان وأفغانستان والهند ومن اليمن، غير السعيد، أيضا ومنها «ذو الفقار» و«أبو فضل العباس» و«الفاطميون».. والأسماء الأخرى التي كلها أسماء مذهبية صارخة وهذا بالإضافة إلى «حزب الله» الذي بقي أمينه العام يطل على العرب والعجم عبر شاشات الفضائيات ويصرخ بأعلى صوته «إننا شيعة علي بن أبي طالب في العالم» وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بريء منه ومن حزبه وكل هذه التشكيلات، التي تتحدث ظلما وبهتانا باسم التشيع، والشيعة.
إن من يحكم في العراق وأيضا في سوريا الآن هم الإيرانيون ولكن باسم الشيعة والتشيع وبحجة حماية المراقد والمقامات المقدسة في البلدين، وإن المستهدفين منهجيا وفي كلا البلدين أيضا هم السنة العرب أولا والأكراد ثانيا، وإلا لماذا يواصل هادي العامري، رغم تنديد السيد مقتدى الصدر وتحذيرات آية الله العظمى علي السيستاني، حربه على المناطق السنية في العراق، العربية والكردية، ولماذا يتم تحشيد أكثر من ثلاثين تشكيلا مذهبيا بقيادة ضباط إيرانيين على رأسهم قاسم سليماني وإرسالها إلى حلب الشهباء تحت راية صيحة «ساعة الصفر» التي أطلقها بشار الأسد بمباركة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا الذي كان ولا يزال يسوق مؤامرة مكشوفة ومعروفة عنوانها «وقف إطلاق النار في حلب أولا»!!
والملاحظ، بل المستغرب، أن الرئيس باراك أوباما، الذي هناك مؤشرات وأدلة على أن «هواه» إيراني وأنه يعتبر أن دولة الولي الفقيه هي الرقم الرئيسي بعد إسرائيل في معادلة هذه المنطقة وأن العرب كلهم بكل دولهم مجرد أرقام ثانوية، بقي مع وجهة نظر الإيرانيين والنظام السوري القائلة: إن بقاء بشار الأسد هو ضمان الأقليات العرقية والطائفية المهددة بوجودها من قبل التنظيمات والمجموعات المتطرفة وأن الخيار، بعد ظهور «داعش»، قد أصبح «إما هو وإما هذا التنظيم الإرهابي والتنظيمات الدموية الأخرى» وبالطبع فإن هذا ليس غباء سياسيا وعمى ألوان فقط بل مؤامرة على الشعبين العراقي والسوري وعلى السنة تحديدا وعلى الأمة العربية كلها.
لكن «أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا»، إذ إن ما قاله وما أكد عليه باراك أوباما في مؤتمر مواجهة الإرهاب الذي انعقد قبل ستة أيام في واشنطن يدل على تحول قد يكون جديا بالنسبة لقناعاته السابقة، حيث كان يرفض حقيقة أن «داعش» صناعة إيرانية – سورية وذلك على غرار رفضه السابق لحقيقة أن المستهدف الفعلي في كل هذا الذي يجري في العراق وسوريا هو العرب السنة، مع عدم إنكار تعرض المسيحيين والإيزيديين والأكراد بالطبع وفي كلا البلدين لتعديات وإساءات كثيرة وكبيرة، فالرئيس الأميركي فاجأ المؤتمرين والمشاهدين في العالم كله بالتأكيد على أن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي والرئيس السوري بشار الأسد وراء ظاهرة الإرهاب في البلدين وبالطبع فإن الذين سمعوا هذا الكلام فهموا أن المقصود بالإرهاب هو تنظيم داعش تحديدا الذي من اللافت فعلا أنه لم يحاول حتى مجرد محاولة القيام بأي عمل ضد إيران!!
ما كان أوباما يصدق أو أنه كان يعرف ولكنه لم يرد أن يصدق أن نوري المالكي وبشار الأسد، ووراءهما إيران، هما من خلقا تنظيم داعش بهدف تبرير البطش بالعرب السنة وبالأكراد أيضا فالمعروف، وهذا تم التطرق له سابقا مثنى وثلاث ورباع، أن المعادلة التي وضعها بول بريمر، بعد احتلال العراق وإطاحة نظام صدام حسين، قد أقصت «الطائفة» السنية ورموزها الأساسيين إقصاء نهائيا وأنها طبقت عليهم قانون العزل بحذافيره وأنها أدت لتعريضهم إلى القتل والمطاردات والحرمان واستباحة الأعراض والأموال وهذا جعلهم يحتمون مرغمين بتنظيم داعش الذي انبثق عن «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق» الذي كان أسسه أبو مصعب الزرقاوي وجعل عددا كبيرا من ضباط الجيش العراقي وجنوده ينضمون إلى هذا التنظيم المجرم.
إن نمو «داعش» على هذا النحو وبكل هذه السرعة سببه البطش الطائفي والمذهبي الذي تعرض له العرب السنة أولا في العراق، وثانيا بعد مارس (آذار) عام 2011 في سوريا وهنا فإن ما يثير الكثير من الأسئلة الموضوعية فعلا هو: لماذا يا ترى هذا التنظيم لم يستهدف لا نظام بشار الأسد ولا إيران على الإطلاق وأنه «صب جام غضبه» على الجيش السوري الحر وعلى المعارضة السورية «المعتدلة»، بل إن النظام السوري قد قام بتسليمه آبار النفط في الرقة ودير الزور وأنه بقي يشتري نحو ستين في المائة من البترول «الداعشي» على مدى الثلاثة أعوام الأخيرة وكل هذا وإنه، أي هذا التنظيم، لم يستهدف في العراق أساسا إلا السنة، «الصحوات»، الذين قاوموه والذين انحاز بعضهم إما للجيش العراقي وإما للقوات الأميركية.
والآن وإذ قام أوباما بهذه «التكويعة»، الانعطافة، الواعدة فإن عليه أن يستكملها بالتخلص من «كذبة» أن نظام بشار الأسد هو حامي حمى الأقليات الدينية والعرقية في سوريا وأن عدم استمراره سينتهي بسوريا، بعد حرب أهلية طويلة الأمد، إلى التقسيم والانشطار وأن عليه، أي الرئيس الأميركي، أن يدرك أن رهان الولايات المتحدة على إيران خاسر لا محالة وأن حكاية أن طهران الرقم الرئيسي في المعادلة الشرق أوسطية سيدفع في النهاية ثمنها الأميركيون غاليا.. ثم وإنه من غير الممكن القضاء على «داعش» و«القاعدة» إلا برفع الظلم والضيم عن العرب السنة.. إن الرهان يجب أن يكون على المستقبل وإن المستقبل هو العراق الديمقراطي الموحد وهو سوريا دون هذا النظام الذي أوصلها إلى كل هذه الأوضاع البائسة والمأساوية!!
الجيش التركي قام في ساعة متأخرة من يوم السبت الماضي، بعملية ناجحة في داخل الأراضي السورية أطلق عليها "عملية شاه الفرات"، وشارك فيها عشرات الجنود والدبابات والآليات العسكرية لنقل ضريح سليمان شاه، جد مؤسس الدولة العثمانية، وإجلاء الجنود الأتراك الذين يحرسون الضريح.
ونقل رفات سليمان شاه مؤقتا إلى تركيا، ليدفن لاحقا في المنطقة التي سيطر عليها الجيش التركي في محيط قرية "آشمة" السورية القريبة من الحدود التركية، ورفع العلم التركي في المنطقة المذكورة وبدأ العمل لبناء الضريح الجديد.
ضريح سليمان شاه سبق أن نقل مرتين؛ الأولى كانت عام 1939 في عهد عصمت إينونو، ونقل الضريح من سفوح قلعة جعبر إلى داخل القلعة في منطقة الجزيرة السورية على الضفة اليسرى لنهر الفرات على بعد 53 كيلومترا من مدينة الرقة. وكانت المرة الثانية عام 1975 بعد أن أوشكت مياه سد الفرات على إغراق القبر، ونقل الضريح إلى منطقة بالقرب من قرية قرة قوزاق.
الأرض التي بني عليها ضريح سليمان شاه مساحتها حوالي 10 دونمات وهي أرض خاضعة للسيادة التركية وفقا لمعاهدة أنقرة التي تم التوقيع عليها بين فرنسا وحكومة "المجلس الوطني الكبير" عام 1921. وتنص المادة التاسعة من الاتفاقية على بقاء القبر تحت الحكم التركي وإمكانية حمايته ورفع العلم التركي عليه. وهي الأرض الوحيدة ذات السيادة التركية خارج حدود تركيا. ولذلك فإنه لم يتم نقل الضريح إلى داخل الأراضي التركية حتى لا تتخلى تركيا عن أرضٍ تابعة لها، وكل ما تقوله المعارضة التركية حول تخلي الحكومة التركية عن جزء من أرض الوطن غير صحيح، بل إن كل ما في الأمر أنه تم تغيير مكان ذلك الجزء من منطقة إلى أخرى داخل الأراضي السورية لدواعٍ أمنية، كما أنه نقل قبل ذلك مرتين.
هناك خلط كبير لدى البعض بين موضوعي نقل ضريح سليمان شاه وما تمارسه إيران باسم "حماية المراقد المقدسة"، لأن إيران تزعم الدفاع عن الأماكن التي يعتبرها الشيعة مقدسة لتوسيع نفوذها، وإن كانت تلك الأماكن تحت سيادة دول أخرى. وأما ما قامت به تركيا، فهو الحفاظ على مساحة من الأرض بما تحتويه ونقلها إلى منطقة أخرى، وهي أرض خاضعة لسيادة تركيا يحرسها عدد من الجنود الأتراك وفقا للمعاهدات الدولية، وتعتبر جزءا من أرض الوطن وإن كانت خارج حدود تركيا ومحاطة بالأراضي السورية.
ومما لا شك فيه أن ضريح الصحابي الجليل خالد بن الوليد (رضي الله عنه) أولى للحماية والدفاع عنه من ضريح سليمان شاه، وأن الأحياء كذلك أولى بالحماية والدفاع عنهم من الأموات. ولو كانت الأرض التي دفن فيها الصحابي الجليل خالد بن الوليد (رضي الله عنه) تحت السيادة التركية وفقا للمعاهدات الدولية، لما ترددت تركيا في حمايتها والدفاع عنها. وليس من سياسة تركيا القتال من أجل المراقد، وهناك عشرات من المراقد العثمانية في أراضي دول أخرى وتحت سيادتها، ولا ترفع تركيا شعار القتال لحماية تلك المراقد، وإن كانت تعتبرها جزءا من التراث العثماني. وأما بما بالأحياء، فإن تركيا تأتي على رأس الدول التي بذلت وما زالت تبذل جهودا كبيرة لنصرة الشعب السوري وثورته، وهي الدولة الوحيدة التي اشترطت إقامة مناطق آمنة وحظر الطيران وإسقاط الأسد للانضمام إلى التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
تركيا تحاول التجنب بكل السبل الانجرار إلى حرب ليست حربها وليست لمصلحتها. وفي تعليقه على العملية، قال رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان إن "عملية ضريح سليمان شاه أدت إلى تفويت الفرصة على من أرادوا استخدام الضريح والجنود الأتراك لابتزاز تركيا". ويبدو أن الحكومة التركية علمت بمؤامرة تحاك لافتعال أزمة لإحراجها أمام الشعب قبيل الانتخابات البرلمانية التي ستجرى في السابع من حزيران/ يونيو المقبل، فتم استباقها.
العملية الناجحة التي قام بها الجيش التركي كشفت عن تناقض الأحزاب المعارضة، لأنها حين احتجز "داعش" القنصل التركي وأسرته والعاملين في القنصلية التركية بالموصل، فقد كانت تتهم الحكومة بالإهمال والتقصير وعدم الإسراع في إجلاء العاملين في القنصلية.. وها هي نفسها تنتقد اليوم الحكومة لأنها قامت باتخاذ التدابير اللازمة حتى لا يقع الجنود الأتراك رهائن في قبضة "داعش" أو آخرين يتظاهرون بأنهم من التنظيم المذكور. وليس متوقعا أن تغير عملية "شاه الفرات" وانتقادات المعارضة لها ميول الناخبين الأتراك وآراءهم في الانتخابات المقبلة، لأن تلك الانتقادات في مجملها إما أنها فاقدة للمصداقية أو أنها تعبر عن موقف مؤيد للنظام السوري وجرائمه.
ساد الظن بأن المجتمع الدولي بلغ ذروة عجزه وعقمه في مقاربة الأزمة السورية، بسبب خلاف الولايات المتحدة وروسيا، على رغم أن الدولتين أظهرتا أقصى درجات التوافق والتواطؤ في هذا النزاع إلى حدّ التستّر على النظام السوري في استخدامه السلاح الكيماوي، أحد أسوأ الانتهاكات للقانون الدولي. لكن مجلس الأمن قدّم نماذج أخرى من العجز في تعامله مع أزمات ليبيا واليمن والعراق وأوكرانيا. لم تكن هذه سوى إخفاقات جديدة للأمم المتحدة، ولها سوابق كثيرة في أفريقيا، بل إنها تعاني فشلاً مزمناً في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين.
من الواضح أن السمة الراسخة حالياً هي صعوبة التدخل، بل استحالته، حتى حين تمسّ الحاجة إليه لوقف سفك الدماء، سواء باسم «الإنسانية» أو حقوق الإنسان أو بسبب «جرائم حرب» و «جرائم ضد الإنسانية». كانت المنظومة الدولية وسّعت مفاهيم التدخل لمواجهة ازدياد حالات الاستبداد المحصّنة بـ «احترام سيادة الدول» وعدم الاختصاص الدولي بشؤونها الداخلية، لكنها مفاهيم أخضعت للمصالح والانقسامات الدولية وطُبّقت بكثير من التمييز و «الكيل بمكيالين»، لذلك فهي لا تنفكّ تتلاشى وتتآكل.
ثمة خلل في النظام الدولي يستفيض كثيرون في شرح أسبابه وعناصره والكوارث المترتّبة عليه، ولعل الأهم أن الدول الكبرى راكمت تاريخاً من التجاوزات أضعف القانون الدولي هيبةً ونفاذاً، ومن حالات تغليب المصالح على القيم المعلنة لهذا النظام (الديموقراطية، حقوق الإنسان...)، فباتت سلطتها وبالتالي سلطة الأمم المتحدة أقل قدرةً على مواجهة التحديات الآتية من دول فاشلة متفاوتة الحجم جغرافياً وشعوباً، أو من «فضاءات سائبة من دون حكم»، حتى مع التلويح بالقوة أو باستخدامها فعلاً. وإذ لم تقدّر الولايات المتحدة مفاعيل غزوها أفغانستان ثم العراق، بهدف تغيير النظامين واستئصال الإرهاب، فإن انعكاساته لا تزال تتفاعل إلى اليوم، بعدما جعلت من الإرهاب وتنظيماته لاعباً شبه معترف به، بحكم تأثيره في السلم والاستقرار.
وبالنظر إلى أداء مجلس الأمن حيال أزمات سورية وليبيا واليمن، فإن حتى محاربة الإرهاب لم تعد دافعاً حاسماً لتفعيل العمل الدولي أو لتصويبه. فالكل يقول أن الإرهاب وباء ينبغي القضاء عليه، والكل يعامله كأمر واقع ويحاول الاستفادة منه بأن تكون له يدٌ في نشره وتوظيفه. وهذا هو النمط الجديد من «الحروب بالوكالة» الذي تخوضه الولايات المتحدة وروسيا في استعادة مقيتة للحرب الباردة تجلّت أخيراً في أوكرانيا حيث لم تكن الأزمة «إرهابية»، لكن البروباغندا الروسية أضفت عليها مصطلحات الإرهاب لتعطي تدخّلها مشروعية. قبل ذلك كانت إرهاصات «الحروب بالوكالة» اشتعلت في المنطقة العربية، بعدما شكّلت الثورات والانتفاضات، وما تلاها من صراعات لترتيب توازنات جديدة داخل كل بلد، ثغرات للتدخل الخارجي الأميركي أولاً في مصر وتونس وليبيا فاليمن، ثم الروسي - الإيراني في سورية ولاحقاً - حالياً في اليمن. تغلغلت المجموعات الإرهابية (بمساعدات إقليمية ودولية شتى) في نسيج الثورات والانتفاضات، باحثة عن مكان لها في الصراع بين الإسلاميين والقوى التقليدية، بل فارضة مشروعها كما في حال تنظيم «داعش» الذي أقام أخيراً روابط وفروعاً في المغرب العربي بعدما أنجز عبثه بخرائط المشرق.
كانت التحوّلات العربية نقلت الحكم من نقيض إلى نقيض. وبمقدار ما ضغطت التدخلات الخارجية لترجيح استلام تيار الإسلام السياسي السلطة هنا وهناك معتبرةً أنه «بطل» الثورات وصانعها، بمقدار ما تجاهلت أن قوى هذا التيار ليست فقط غير جاهزة وغير مؤهلة لإدارة الدولة سياسياً وأمنياً واقتصادياً، بل الأهم أن المتدخلين تعاموا عن صلة الرحم الواقعية بين قوى التيار الإسلامي وبين الجماعات المتطرفة. وإذ قطع الإسلاميون «المعتدلون» تعهدات بضبط «المتطرفين»، فإن هؤلاء استغلوا ضعف الدولة وغياب الملاحقة القانونية والإفراج عن معتقلين لهم فأعادوا تنظيم صفوفهم وأنشطتهم، وكذلك تمايزهم ككيان مضاد للدولة.
بعد جريمة ذبح المصريين الأقباط على أيدي «داعش ليبيا»، كان النقاش خطيراً وفاضحاً، سواء من جانب ميليشيات طرابلس على أثر الضربة الجوية المصرية أو داخل مجلس الأمن. فالميليشيات التي حاولت الاستيلاء على الحكم في كل ليبيا، بالقوة ومن دون أي شرعية انتخابية، أسمعت صوتها للمرة الأولى حين انبرت لإدانة الغارة المصرية، ولم يكن قد صدر عنها أي موقف مناوئ لظهور «داعش» ولا لوجود مجموعات مرتبطة علناً بـ «القاعدة» في الكثير من المناطق، بل كانت ولا تزال متعايشة مع هذين التنظيمين كرافدين لها في معركتها ضد مجلس النواب المنتخب والحكومة الشرعية المنبثقة منه والجيش الوطني الموالي لهما. وهذه الميليشيات تريد على الأقل أن تكون لها حصة في الحكم، بل يراد لها أميركياً وبريطانياً أن تحتل موقعاً مهماً في السلطة من خلال حل سياسي تديره الأمم المتحدة بواسطة مبعوثها. وهذا ما تبارت الدول لتزكيته في مجلس الأمن، رافضة شمول ليبيا بعمليات «التحالف الدولي» على رغم وجود «داعش».
لم يكن ذلك سوى تكرار للخطأ المتعمّد الذي ارتكب في العراق أولاً، ثم في سورية واليمن. ففي كل هذه المحطات قيل ويقال أن الحل سياسي وليس عسكرياً، وكان الارهاب الرابح الوحيد من تعثّر هذا الحل السياسي أو تعذّره أو إفشاله أو ضرب مقوّماته. وفضّل المجتمع الدولي انتظار «داعش» كي يكبر ويستقطب ويسيطر ويتوسّع كي بواجهه بـ «حل عسكري» محض، متجاهلاً أن ما استجلب «داعش» هو صراعات الدول المعنية وفشلها في بلورة «الحل السياسي. وبذلك ارتسمت الإشكالية المرتبكة: هل يمكن إنجاز حل سياسي في غضون محاربة الإرهاب، وهل يمكن الخلاص من الإرهاب بتركيب حلول سياسية مبنية على أحكام الأمر الواقع، أم إن كل ذلك مجرد وسيلة لهروب المجتمع الدولي من مسؤوليات لم يعد قادراً عليها؟ ألا يكون «داعش» أو أشباهه، مثل روسيا أحياناً، أو أميركا أحياناً أخرى، معطّلاً لعمل مجلس الأمن كما بدت الحال لدى مناقشة الوضع الليبي؟
هذه الإشكالية فرضت نفسها في حالات الدولة الفاشلة (العراق وسورية واليمن) أو انهيار الدولة (ليبيا)، وكذلك حين يكون هناك وضع انتقالي (اليمن وليبيا) أو وضع ما قبل الانتقالي (سورية)، حيث استفحلت الأزمات واختلط فيها الجانب السياسي بصراع مسلح تقليدي وما لبث أن داخلها الإرهاب الموصوف. ففي العراق «عملية سياسية» موازية لحال إرهابية تسببت بها الدولة التي لم تحسّن أداءها بعد في الجانب السياسي ولا تزال تتلكّأ في المصالحة فيما يرعى أقطابُها الشيعة ميليشيات موالية لإيران وتنافس الجيش الحكومي، بل تتفوّق عليه. وفي اليمن كانت هناك «عملية انتقالية» وسط وضع مركّب (انفصاليون في الجنوب، «القاعدة» في الجنوب والوسط، وضغائن حزبية وقبلية في الشمال تغذّيها أجندة إيرانية تخريبية)، فتظاهر الحوثيون وحزب الرئيس السابق بأنهم شركاء في الحوار الوطني لا متآمرون إلى أن نضجت ظروف الانقلاب والاستحواذ على الدولة. وفي ليبيا أُسقط النظام السابق ورابطت الميليشيات في الشارع لمحاصرة محاولات إنهاض الدولة، شاركت في الانتخابات مرّتين وفشلت فلجأت إلى الترهيب، ونشأ إلى جانبها بعضٌ من أكثر مجموعات الإرهاب وحشيةً. وفي سورية جهد النظام في استدعاء الإرهابيين لتخليصه من شعبه، معتقداً أنه سيخرج منتصراً من إذكاء التطرف، وبعد أعوام أربعة مثقلة بالخسائر البشرية والاقتصادية والعمرانية لا يزال يأمل بالبقاء في سلطة بات معظمها الأكبر في أيدي الإيرانيين.
في كل هذه البلدان يسعى المجتمع الدولي إلى ضرب الإرهاب بقصد إنهائه، أو إضعافه، وفيها أيضاً قوى دولية وإقليمية تخوض صراعات ضارية تسليحاً وتمويلاً أو بالمشاركة المباشرة كما تفعل إيران في سورية والعراق واليمن. ولما كانت هذه الصراعات حالت دون معالجة سويّة للأزمات الداخلية التي صنعت الإرهاب أو استدرجته، فإنها هي ذاتها تجعل احتمالات القضاء على الإرهاب واهيةً جداً.
من درعا وحلب إلى باب المندب، تقوم إيران بتوسيع فرجار هجومها عبر قيادتها عملاً عسكرياً ممنهجاً، يتخذ في الشكل نمط معارك موضعية، تبدو أهدافها الظاهرية محدّدة ومحصورة في أماكن معينة، لكنها، في العمق، تهدف إلى إحداث تغييرات خطيرة في التوازنات القائمة على الأرض، وهي، في الوقت نفسه، تشكل اشتباكاً إقليميا لاقترابها من خطوط الصراع والنفوذ الإقليمي، المرتسمة في سورية، والتي تحولت، مع الوقت، إلى عناوين استراتيجية لأطراف المنطقة، وانعكاس لرؤاها وتصوراتها للواقع الإقليمي المقبل.
وتكشف مراقبة السلوك الإيراني، من خلال مصادره الأساسية في المركز طهران، ومن خلال المواقف الصادرة عن أذرعه في لبنان وسورية والعراق واليمن، عن وجود جملة من الأهداف، تنطوي عليها هذه النقلة الاستراتيجية في التعاطي الإقليمي.
الأول ذو طابع عملاني، وهو اختبار أدوات الصراع، ومعرفة مدى جدواها وقدرتها على الانخراط في صراعات أوسع. والمعلوم أن طهران عملت، أخيراً، وبناء على مقتضيات المواجهة، على توسيع حجم بنيتها القتالية في المنطقة، وزيادة رقعة انتشارها، وجزء مهم من تلك الماكينة لم يجر اختباره إلا ضمن مهام محدّدة. وبالتالي، تهدف هذه الحركة عملانياً إلى معرفة عناصر القوة والضعف ومدى الجاهزية وطريقة تحرك المفاصل ومدى التدخل المطلوب، فضلاً عن فعالية الأسلحة المستخدمة، بمعنى هي مناورة حربية بالمعنى العسكري.
" يسعى التحرّك الإيراني إلى تحويل التوجّهات الدولية الخجولة إلى وقائع على الأرض، وإجبار أصحابها على الاعتراف بها علناً "
الهدف الثاني اختبار ردة الفعل الدولي، ومعرفة نمط تفاعله مع هذه التطورات، لكي تبني على هذه المعارك الموضعية تحركات أكبر، وهي، بذلك، تتظلّل بالانعطافة الأميركية والدولية التي ترى بشار الأسد جزءاً من الحل، وبالتسريبات الإسرائيلية التي تقول إن الوضع مع بشار الأسد أفضل، وأكثر ضمانة للاستقرار. على ذلك، تعمل إيران تحت هذا السقف الذي يرتكز على دعامتين أساسيتين، الحفاظ على نظام بشار الأسد من الانهيار، وتعزيز قواعد الاشتباك مع إسرائيل تحديداً. وبالتالي، يسعى التحرّك الإيراني إلى تحويل تلك التوجّهات الدولية الخجولة إلى وقائع على الأرض، وإجبار أصحابها على الاعتراف بها علناً، وإسنادها من خلال السكوت على التحرّك الإيراني.
ثمّة أهداف أكثر تحديداً تدفع إيران إلى إجراء تحرّكها الحالي، منها ما له علاقة مباشرة بالفاعل الدّولي الأكبر في المنطقة، الولايات المتحدة الأميركية، ومنها ما له علاقة بالوضع الإقليمي، ومحاولة فحص توجّهاته وطبيعة تفاعلاته، فالواضح أن إيران تريد اختبار تفاهماتها مع واشنطن، فيما يخص نفوذها الإقليمي. وفيما يبدو أنه تفعيل سريع للبنود السرية في الاتفاق، قبل تطبيق الاتفاق نفسه، في شقه التقني، ما يعني أنّ طهران تريد القبض مقدّماً، ويدعم هذا الهدف في التقدير الإيراني اعتقاد صانع القرار أن المرونة في الملف النووي يمكنها أن تغطي على التحرك الإقليمي، وترسمل عليه.
ومن ضمن قائمة الأهداف الإيرانية المدروسة، من وراء تحرّكها الإقليمي، إحداث نقلات على مستوى ملفات معينة. وبالذّات ملف أسعار النفط، والاعتقاد بأن تزخيم المخاوف من إمكانية نشوب حرب إقليمية ستؤدي إلى تغيير إيجابي في السعر، والمعلوم أن إيران تأثرت كثيراً بانخفاض أسعار النفط، وهو أمر من شأن استمراره، ضمن هذا المدى السّعري في السوق الدولية، التأثير ليس على مشاريع إيران الخارجية، وإنما في الاستقرار الداخلي، نتيجة تأثيره على شرائح واسعة من المجتمع الإيراني التي تعتمد على أشكال معينة من الدعم الحكومي، وتتركز هذه الشرائح في الضواحي والأرياف. وكان النظام الإيراني قد أفشل الثورة الخضراء سنة 2009 بتحييده هذه المكوّنات، ولعلّ ذلك ما يفسر أسباب القلق الإيراني من استمرار انخفاض أسعار النفط.
"لم تعد طهران تثق بالاستشعار وسيلة لمعرفة توجهات الرياح، وهي تنتقل إلى مرحلة الاشتباك مع المعطيات"
على المستوى الإقليمي، تأتي هذه التطوّرات نوعاً من اختبار المتغيّرات الحاصلة في المنطقة، وطبيعة توجّهاتها، ولعل المستهدف الأول هو السعودية التي تمر بمرحلة انتقالية على مستوى الحكم، ومحاولة اختبار توجهات الحكم الجديد فيها، واستغلال انشغال الرياض في الترتيبات الداخلية، بحيث يتزامن إنجازها تلك التغييرات مع تبلور مشهد إقليمي جديد، لا يتيح لها سوى التكيف معه، وقبول مخرجاته، إضافة إلى فحص حدود التماسك الخليجي بعد المصالحة، إضافة، أيضاً، إلى معرفة مدى إمكانية حدوث تشبيك تركي- خليجي، بعد الحديث عن إمكانية حصول تقارب سعودي- تركي، وهل سيشمل هذا التقارب ملفات العراق وسورية، مع ملاحظة اختيار إيران التوقيت بعد أحداث إقليمية صادمة، كان داعش بطلها، وعلى ضوء محاولة نظام السيسي تغيير قواعد اللعبة في المنطقة برمتها، وتوجيه الجهود باتجاه ليبيا، ولولا العقبات التي واجهت القاهرة، لكانت اندفاعة التحرّكات الإيرانية أخذت طابعاً شرعياً بحكم الواقع، بحيث تصبح العدوانية الإيرانية في المشرق مكمّلة للجهد المصري في المغرب.
بكل الأحوال، لم تحتج الأطراف الإقليمية إلى الكشف عن أوراقها، ولم يغير الاختبار الميداني الإيراني وقائع كثيرة على الأرض، الشيء الوحيد الذي اكتشفته طهران، حتى اللحظة، عدم فعالية آليتها العسكرية، نتيجة أعطاب كثيرة طالتها في العامين الأخيرين. وعلى الرغم من عنصر المفاجأة وكثافة النيران التي استخدمتها طهران لتغيير المعادلة، تبين أن البنى المقابلة لها أكبر من بنى وقتية، ومن الصعب تفكيك استطالاتها الإقليمية، وأن السكوت الدولي ليس أكثر من إغراءات تكتيكية، لزيادة نزف إيران وأذرعها في المنطقة.
الواضح أنّ إيران لم تعد تثق بالاستشعار وسيلة لمعرفة توجهات الرياح، وهي تنتقل إلى مرحلة الاشتباك مع المعطيات، وتلمّسها بيدها مباشرة. لذا، أصابعها مرشحة للاحتراق في أكثر من مكان، كحصيلة للفارق بين التقديرات النظرية والوقائع العملانية.
ليس مهماً معرفة الأسباب التي أعلنت أنقرة أنها وراء العملية العسكرية في شمالي سورية، إن كانت لإنقاذ ضريح سليمان شاه جد السلالة العثمانية ورفاته، أم لإنقاذ 39 جنديا تركيا محاصرين منذ ثمانية أشهر من تنظيم داعش.
المهم الطريقة التي نفذت بها العملية وتوقيتها، ثم أبعاد هذا التدخل العسكري التركي، الأول من نوعه منذ تفجر الأزمة السورية، وانعكاساته المستقبلية على الوضع الميداني، خصوصا أن العملية ترافقت مع عدة معطيات مهمة:
ـ يطرح توقيت العملية العسكرية أسئلة كثيرة، في ظل غياب حاجة ملحة لها، إذ لم تقترب داعش إطلاقا ناحية الضريح، ولم تهدد الجنود الأتراك المحاصرين، وذلك ربما لأن تركيا لم تشارك في التحالف الدولي ضد داعش، أو ربما لتفاهمات تمت بين الطرفين منذ أشهر. بكل الأحوال، لا تعني هذه العملية سوى تحرير تركيا من عبء كان على كاهلها، حيث لا يمكنها ترك الوضع على ما هو عليه، وتخاطر، بالتالي، في ضوء المتغيرات الميدانية السريعة باحتمال شن داعش هجوماً على الضريح. وهنا، تجد أنقرة نفسها مضطرة لخوض عملية عسكرية واسعة ضد التنظيم، لا يريدها الطرفان، وهذا ما يفسر عدم تعرض القوات التركية لنيران من التنظيم.
ـ جاءت العملية بعد أيام من توقيع أنقرة وواشنطن اتفاقية لتدريب قوات المعارضة المعتدلة، وأيام من الاجتماع الذي عقد في جدة، بمشاركة مسؤولين عسكريين وأمنيين كبار في الدول المشاركة بالتحالف المضاد لداعش، وبحضور تركي على مستوى رئاسة الأركان، الأمر الذي يؤشر إلى أهمية تركيا ودورها في تغيير المعادلات على الأرض، بحكم موقعها الجغرافي، وربما يتعلق هذا الحضور بتقديم التحالف تنازلات لتركيا، قد نرى نتائجها في المرحلة المقبلة شمالي سورية.
ـ لم تنقل السلطات التركية رفات سليمان شاه إلى أراضيها، بل إلى شمالي قرية آشمة الخاضعة للمقاتلين الأكراد داخل الأراضي السورية، بالقرب من الحدود التركية، حيث رفع العلم التركي على الموقع الجديد، في إشارة إلى أن مكان رفات سليمان شاه تحول إلى أرض تركية، على غرار الأرض التي كان عليها الضريح بحسب اتفاقية 1921 مع فرنسا في أثناء الانتداب الفرنسي على سورية.
لماذا لم تنقل السلطات التركية الرفات إلى أراضيها؟ هل يتعلق الأمر بحفاظ أنقرة على تركية الأرض التي يوجد فيها الضريح؟ أم إنها تسعى إلى إيجاد مبرر مستقبلي لإنشاء منطقة آمنة، بحجة حمايته، خصوصا أن الضريح وضع على مقربة جداً من الحدود التركية، بعكس الموقع الأصلي الذي يبعد نحو أربعين كيلومترا.
ـ العملية تمت بالتنسيق مع القوات الكردية في محيط المنطقة، أو بعلم من هذه القوات التي أفسحت المجال واسعا للقوات التركية، وفي هذا دلالة كبيرة، لا سيما بعد التقارب الذي حصل بين الجانبين في أثناء تحرير عين العرب ـ كوباني من سيطرة داعش، وربما قد يترجم هذا التقارب، مستقبلاً، بتفاهمات جانبية، يكون رأسها الثالث الجيش الحر الذي كان أيضا على علم وتنسيق مع السلطات التركية في أثناء العملية العسكرية.
ـ حجم العملية، إذ تمت بمشاركة 600 عسكري، و60 مدرعة، ونحو 40 دبابة، وطائرات بدون طيار، وطائرات استطلاع، وهذا عتاد كبير لعملية من هذا النوع، ويبدو أن صناع القرار في أنقرة يوجهون رسائل عدة، لا سيما للحليف الأميركي و"الناتو" بأن تركيا قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية كبيرة في سورية، بالاتفاق مع الحلفاء، وربما تصريحات وزير الدفاع الأميركي، أشتون كارتر، في محادثاته مع مسؤولين عسكريين أميركيين في عريفجان في الكويت، بوجود حاجة لتعزيز الاستفادة من الإسهامات الفردية لكل عضو في التحالف، في إشارة إلى تركيا، على الرغم من أنها لم توقع على البيان الختامي لاجتماع جدة في العاشر من سبتمبر/أيلول من العام الماضي الذي أعلن فيه تشكيل نواة التحالف الدولي.
في أسبوع واحد، تبيّن كـم عمق الشرخ بين ثقافتين في لبنان. ثقافة الحياة في مواجهة مع ثقافـة المـوت. تسعى ثقافة الحياة إلى المحافظة على لبنان، فيما هم المروّجين لثقافة الموت تحويل اللبنانيين وقودا في حـروب تفـرضها إيران على المنطقة.
كان هناك الرئيس سعد الحريري الذي ألقى خطابا “متطرّفـا” في الانحيـاز إلى لبنان في الذكرى السنوية العاشرة لاغتيال والده.
وكان خطاب السيّد حسن نصرالله الأمين العام لـ“حزب الله” الذي سعى إلى الرد على “تطرّف” سعد الحريري معتمدا “الاعتدال”. كان معتدلا في كلّ شيء، خصوصا عندما وصف اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه قبل عشر سنوات بـ“الحادثة الأليمة”. أراد “مواساة” آل الفقيد واللبنانيين من دون أن يجيب عن سؤال في غاية البساطة: لماذا يرفض الحزب تسليم المتهمين بارتكاب الجريمة التي تندرج في سياق ما خطّط له، وما زال يخطّط له، المحور الإقليمي الذي ينتمي إليه الحزب؟
في خطاب الذكرى العاشرة لتفجير موكب والده الذي أعاد لبنان إلى خريطة المنطقة والعالم، كان سعد الحريري متطرّفا بامتياز، خصوصا عندما آخذ على “حزب الله” احتقاره لجامعة الدول العربية و”اختزال العرب في نظام بشّار الأسد ومجموعة ميليشيات وتنظيمات وقبائل مسلّحة تعيش على الدعم الإيراني لتقوم مقام الدول في سوريا ولبنان والعراق واليمن”. ذهب في التطرّف إلى أبعد حدود عندما تساءل “أين هي مصلحة لبنان بالتدخل في شؤون البحرين والإساءة إلى دولة لا تقابل لبنان واللبنانيين إلّا بالمحبّة والكلمة الطيّبة”؟
هذا السياسي والزعيم اللبناني الذي اسمه سعد الدين رفيق الحريري تجرّأ على القول “بالاختصار المفيد، نقول إنّ الحرب على الإرهاب مسؤولية وطنية تقع على عاتق اللبنانيين جميعا. وخلاف ذلك، سيصيب الحريق لبنان، مهما بذلنا من جهود لإطفاء الحرائق الصغيرة. النموذج العراقي بتفريخ ميليشيات وتسليح عشائر وطوائف وأحزاب وأفراد، لا ينفع في لبنان. وتكليف طائفة أو حزب بمهمّات عسكرية، هو تكليف بتسليم لبنان إلى الفوضى المسلّحة والفرز الطائفي”.
إنّه كلام كبير صدر عن سعد الحريري في الذكرى العاشرة لاغتيال والده ورفاقه. هذا الربط بين لبنان وما يجري في الإقليم دليل على عمق في استيعاب المعادلة الشرق أوسطية التي تسعى إيران إلى فرضها انطلاقا من العراق والزلزال الذي تعرّض له قبل نحو اثنتي عشرة سنة.
ما يبعث على الأمل أنّه لا يزال هناك زعيم عربي لبناني مسلم يتجرأ على تضمين خطابه مقطعا من نوع “أنا أتيت لأقول لكم: أنا لست معتدلا. أنا متطرّف للبنان، للدولة، للدستور. أنا متطرّف للمؤسسات، للشرعية، للجيش، لقوى الأمن الداخلي، أنا متطرّف للنموّ الاقتصادي، لفرص العمل، للحياة الكريمة، أنا متطرّف للعيش الواحد، للمناصفة، أنا متطرّف لبناء الدولة المدنية. نعم، للدولة المدنية، دولة القانون التي يُحكم على كلّ مواطنيها بالقانون، وفقط بالقانون، لأنّ اختلافات الفقه والدين والمذهب والتفسير، لا يجب أن تنسحب على الدولة ولا على الحياة العامة”.
كيف كان ردّ حسن نصرالله على هذا “التطرّف”، الذي يعني، بين ما يعني، انحيازا لثقافة الحياة والتي كان مهرجان “البيال” في بيروت أفضل تعبير عنها؟
كان ردّ نصرالله بالربط المباشر بين لبنان وأزمات المنطقة، مؤكّدا أن على لبنان التورط أكثر فأكثر في هذه الأزمات ذات الطابع المذهبي في معظمها. لم يكتف بمشاركة “حزب الله” في الحرب الظالمة التي يتعرّض لها الشعب السوري. دعا إلى “الذهاب معا إلى سوريا، بل تعالوا نذهب إلى أي مكان نواجه فيه هذا التهديد (تهديد داعش)”.
بالنسبة إلى نصرالله، هناك تجاهل تام لمصلحة لبنان واللبنانيين. لبنان بالنسبة إليه مجرّد ساحة تستخدمها إيران. أما اللبنانيون، فهم وقود للسياسة الإيرانية التي لا همّ لها هذه الأيّام سوى عقد صفقة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي.
غلّف الأمين العام للحزب خطابه بـ“الاعتدال”. لم يكن ذلك كافيا لتغطية الجريمة الكبرى التي ارتكبها في حقّ لبنان عندما قبل المشاركة في ذبح الشعب السوري. أين الفارق بين ما ارتكبه حزبه في سوريا، وما ترتكبه “داعش”. هل اللغة الناعمة تعطي البراميل المتفجّرة التي تلقى على السوريين شرعيّة ما؟
في النهاية، شارك “حزب الله” في الحرب على الشعب السوري من منطلق مذهبي ولا شيء آخر غير ذلك، تنفيذا لطلب إيراني. إنّه يضحّي بشبان لبنانيين دعما لنظام أقلّوي يحتقر شعبا يبحث عن كرامته منذ ما يزيد على نصف قرن.
ماذا فعلت “داعش”؟ سارت على خطى “حزب الله” عندما تجاهلت الحدود بين الدول ومفهوم السيادة الوطنية. فمثلما تجاوز الحزب الحدود بين سوريا ولبنان، تجاوزت بدورها الحدود بين العراق وسوريا من منطلق مذهبي أيضا.
لعلّ أخطر ما في خطاب نصرالله القراءة الخاطئة للتطورات الإقليمية. لا يوجد عاقل يستطيع الفصل بين ما يدور على أرض لبنان والأزمات الإقليمية. لكنّ لدى الأمين العام لـ“حزب الله” هناك رؤية بعين واحدة في كلّ مكان. ففي العراق مثلا، لم يتطرّق حتّى إلى الدور الذي لعبته حكومة نوري المالكي في خلق بيئة حاضنة لإرهاب “داعش” عندما شاركت في إقصاء أهل السنّة عن مراكز القرار، وتشجيع الميليشيات الحزبية على عمليات تطهير ذات طابع مذهبي في مناطق معيّنة.
بين “تطرّف” سعد الحريري المنحاز إلى لبنان وإلى ثقافة الحياة، و”اعتدال” حسن نصرالله، الذي يعني إلقاء اللبنانيين في أتون أزمات المنطقة وحروبها لا يمكن للبناني العادي إلّا أن يكون “متطرّفا”. لا مجال سوى لـ“التطرّف” خصوصا حين يتوجّب على اللبناني الاختيار بين مدرسة خرّجت خمسة وثلاثين ألف طالب وأعادت الحياة إلى بيروت وسعت إلى توسيع خطة الإنماء والإعمار لتشمل كلّ لبنان وربطه بالعالم العربي، وبين مدرسة تنتمي إلى ثقافة الموت. مدرسة تعمل يوميا على عزل لبنان عن محيطه العربي وتدمير ما بقي من مؤسسات الدولة اللبنانية وتصدير لبنانيين للقتال في حروب مذهبية لا طائل منها.
هل هذا الدور الجديد للبنان في مفهوم حسن نصرالله؟ هل يمكن التوفيق بين ثقافة الحياة وثقافة الموت؟ هذا أمر مستحيل. السؤال كيف يمكن حماية لبنان واللبنانيين في ظل استمرار هذه المواجهة وغياب أيّ قاسم مشترك بين الثقافتين؟
تغير الوضع الجيوسياسي والإستراتيجي في المنطقة الممتدة من شواطئ لبنان على البحر الأبيض المتوسط وحتى شواطئ اليمن على بحر العرب والبحر الأحمر، ومن الجولان المحتل وحتى طول سواحل الخليج العربي ومنها بالطبع الحدود العراقية الإيرانية، لصالح القوة الإيرانية المتنامية، سواء من الناحية الإيديولوجية أو من ناحية النفوذ الأمني والتعبوي لجميع الدول الموجودة ضمن هذا المجال الحيوي، بغض النظر عن حجم استقلالها وقوة حكوماتها.
ورغم معرفة حكومات دول كبيرة في المنطقة -مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- بخطورة التمدد الإيراني العلني والمباشر ضمن محيط أمنها القومي، فإنها لم تحرك كثيرا من إستراتيجياتها الساكنة لمواجهة هذا الأمر، بل إن ما يزيد الطين بلة هو أنها أوجدت لنفسها أعداء جددا كان من أبرزهم تنظيم الإخوان المسلمين (بشكل مطلق) وتنظيم الدولة الإسلامية، ناهيك عن تنظيمات وقوى أخرى معظمها إسلامي.
وعلى هذا الأساس؛ فإن الدول -التي ما زالت دولا في حقيقة الأمر- اعتبرت في مواقع معينة الوجود الإيراني عاملا مساعدا للقضاء على القوى الإسلامية وقواعدها الشعبية، كما حصل في اليمن على سبيل المثال، ويحصل أيضا في العراق. وقد قال لي أحد المنظرين في موضوع الأمن القومي لإحدى الدول الخليجية الكبرى إن سبب عدم دعم القوى المناهضة للتدخل الإيراني في العراق هو الخشية من أن تكون هذه القوى مرتبطة بشكل أو بآخر بتنظيم الإخوان المسلمين!
إن قصور الفكر الإستراتيجي لدول المنطقة -وتحديدا دول الخليج العربي- يجعل من موضوع التمدد الإيراني مثارا لجدل كبير بين أوساط شعوب المنطقة، خاصة في الوقت الذي أصبحت فيه التنظيمات الموالية لإيران تمارس التخريب والقتل في دول عربية كانت إلى وقت قريب تمثّل بوابات منيعة أمام المشروع الإيراني الكبير -الذي أسسه الخميني منذ أكثر من 35 عاما- كالعراق واليمن والبحرين والإمارات وغيرها، تضاف إليها أيضا بوابات الإعلام التي جندتها إيران لصالح نشر الفكر العقائدي المذهبي الطائفي في الدول العربية دون أي رد فعل عربي خليجي تحديدا.
"قال لي أحد المنظرين في موضوع الأمن القومي لإحدى الدول الخليجية الكبرى إن سبب عدم دعم القوى المناهضة للتدخل الإيراني في العراق هو الخشية من أن تكون هذه القوى مرتبطة بشكل أو بآخر بتنظيم الإخوان المسلمين!"
وتشير المصادر إلى وجود أكثر من 40 قناة فضائية تبث عبر القمرين نايل سات وعرب سات، وأن هناك حملات إعلامية منظمة للتأثير على النشء الجديد من خلال إنتاج وتسويق برامج وأفلام ومواد ترفيهية وتعليمية وتراثية عبر هذه القنوات، بينما أغلقت الدول الخليجية قنوات عربية إسلامية كثيرة كانت تقدم جرعات معقولة من المضادات الحيوية الفكرية لمواجهة تلك القنوات الإيرانية!
ما هي مآلات الموقف الخليجي إذن من موضوع التمدد الإيراني حول مناطق أمنها القومي؟ ولماذا تبدي دول الخليج هذا الضعف الإستراتيجي في وقت يمكن لها فيه أن تكون القوة الموازنة للنفوذ الإيراني في الإقليم؟ وهل هناك رؤية تخفي وراءها قوة خليجية تضمن لها السيادة وللمنطقة الأمن، وتحفظ لشعوبها خياراتها العقائدية الممتدة لمئات السنين؟
هذه أسئلة تدور بين مختلف مستويات الشعب في الخليج العربي وفي العراق وسوريا ولبنان والأردن ولاحقا اليمن وغيرها، ولا أعتقد أن أحدا يملك الإجابة العلمية والفعلية عن هذه التساؤلات. وربما يكون لموضوع مآلات الموقف الخليجي الصورة الأعتم، بحسب رؤية وتحليل الكثير من مراكز البحوث، وذلك بسبب هشاشة الأوضاع الاجتماعية والمعيشية والسياسية لدول المنطقة، وتخبط بعض قياداتها -كما ذكرنا- في موضوع العقدة الإخوانية، مما جعلهم ينظرون ويخططون في حدود ضيقة جدا، تاركين المستقبل لتحدده الإدارة الإيرانية، سواء قصدوا هذا الأمر أم لم يقصدوه.
إن دول الخليج العربي مطالبة -أكثر من أي وقت مضى- بأن يكون لها مشروع مؤسَّس له بشكل صحيح، يحفظ في الحد الأدنى أمنها القومي في صيغة مجلس التعاون الخليجي مجتمعا وليس في صيغة الدول بشكل فردي، خاصة بعد أن وضعت طهران يدها على صنعاء وبدأت تحاصر هذا المجلس مجتمعا (ربما باستثناء سلطنة عمان) من حدوده الشمالية وحتى أقصى جنوبه على حدود اليمن، وأعتقد أن الإدارة السعودية الجديدة ربما تكون لديها رؤية جديدة أكثر حزما مع المشروع الإيراني، ولديها الإمكانية لبناء مشروع مواجه إذا مكنتها بقية دول الخليج العربي من هذا الأمر بأعلى المستويات.
دولة الإمارات العربية المتحدة تمثل نموذجا آخر للعلاقة بين المشروع الإيراني والموقف الخليجي، فأبو ظبي مثلا تناست احتلال إيران لجزرها الثلاث، وانتشار عشرات التنظيمات الإيرانية الإرهابية داخل أراضيها، لتضع جل اهتمامها وهواجسها في موضوع تنظيم الإخوان المسلمين ليس في الإمارات فحسب بل في كل مكان من العالم. وهو لعمري موضوع بالغ الغرابة، وتحسس مفرط من خطر ربما يكون موجودا بشكل أو بآخر مقابل خطر حقيقي بدأ يحيط بها من خاصرتها ومحيطها الأمني!
"إن أسلوب عمل المخابرات الإيرانية لتنفيذ مشروع الخميني مبني على أساس بناء علاقات خيطية مع الأقليات الشيعية في كل الدول العربية وغير العربية، ومن هنا فإن الخطر الإيراني موجود دائما، ويجب أن يكون هو الأول في كل دول الخليج العربي "
إن أسلوب عمل المخابرات الإيرانية لتنفيذ مشروع الخميني مبني على أساس بناء علاقات خيطية مع الأقليات الشيعية في كل الدول العربية وغير العربية، ومن هنا فإن الخطر الإيراني موجود دائما، ويجب أن يكون هو الأول في كل دول الخليج العربي باستثناء قطر ربما وإلى حد ما.
وقد تعاظمت شبكة هذه الخيوط بعد الانشغال الانفعالي الكبير لقيادات هذه الدول بالمتغيرات السياسية في مصر خلال حقبة الرئيس محمد مرسي، ثم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، وباتت أكثر وضوحا الآن حقيقة المخطط الإيراني لتشكيل الهلال الممتد من باكستان وحتى لبنان ثم جنوبا إلى اليمن، من خلال تأجيج حركة الاضطرابات للأقليات الشيعية في دول الخليج العربي، ومن ثم تنصيب نفسها أبا روحيا وضامنا فعليا لهذه الأقليات.
إن دول الخليج العربي بحاجة فعلية إلى خطة عمل إستراتيجية واضحة للتعاطي مع التمدد الإيراني على أسس وطنية وقومية وإعلامية واثقة ومحددة، تواجه من خلالها المشروع الإيراني بكامله ومن ضمنه كل الأطراف المتحالفة مع طهران.
وعليهم ألا ينسوا أبدا ما صرح به العميد باقر زاده رئيس دائرة المفقودين في الحرب العراقية الإيرانية بالقوات المسلحة الإيرانية -خلال مؤتمر صحفي عُقد بالأحواز العربية، وبحضور كبار القادة والضباط من الصف الأول في الحرس الإيراني- حين قال: "علينا أن نرص صفوفنا، وأن نكون أقوى من أعدائنا الذين يتدخلون في شؤوننا الداخلية لشق الصف الوطني بين أبناء الشعب الإيراني".
والشأن الداخلي والصف الوطني هنا يقصد به كل شيعة المنطقة، والأخطر في تصريحات زاده هو قوله إن "خيارات الدول الخليجية أصبحت تتقلص في مواجهتها للمشروع الإيراني، ولم يعد في العراق اليوم لا صدام حسين، ولا ابن لادن في أفغانستان، وتستطيع إيران أن تصل إلى أماكن لا يتصورها زعماء العرب، بسبب تأثيرها على الشعوب الإسلامية الثائرة (شيعة الدول) ضد الظلم في العالم الإسلامي (الحكام السنّة)".
منذ أشهر بدأ الحديث عن الإمارة الجديدة التي تسعى إليها «جبهة النصرة» (فرع تنظيم القاعدة في سورية)، وخطورة سيطرتها على الأراضي التي توسّعت فيها أخيراً، إلا أن الأحاديث في تركيا تقلّل من أهمية هذا الموضوع، وليبدأ، منذ أكثر من شهر، وتحديداً مع اقتراب موعد اختيار رئيس جديد للائتلاف، الترويج أن «النصرة» ستفكّ ارتباطها بـ «القاعدة» تماماً، حتى أن قادة عسكريين لفصائل سورية أكّدوا هذه النية، وتحدثوا عن أن الموضوع قاب قوسين أو أدنى.
منذ ظهور اسم أبو محمد الجولاني، وهو مرتبط بأجندة «القاعدة» التي كانت تحلم بأن تطأ أرض الشام وتتوسّع إلى هُناك. فعلى رغم الشعارات التي أطلقها الثوار في أواخر 2011 عن رفضهم خطاب أيمن الظواهري، والنصائح التي قدّمها الى الثوار بأن يتنبهوا الى الوقوع في شرك أميركا، إلا أن الظواهري أشار إلى فرع العراق بإرسال بعض القادة لتشكيل ما يُسمى «جبهة النصرة». ترافق هذا الأمر مع إطلاق بشار الأسد بعض القادة المهمّين والعديد من الإسلاميين الذين كانوا في سجونه، وانسحابه من معابر حدودية ومناطق جغرافية عدّة في الشمال السوري على وقع ضربات «الجيش الحر»، الذي كان يشكّل تحدياً حقيقياً لشرعية الأسد في السيطرة العسكرية على سورية. فالحاضنة الشعبية للجيش الحر في غالبية المناطق السورية كانت كبيرة، بالإضافة إلى أن قادته كانوا محليين ويتمتعون بسمعة جيدة بين الأهالي وممن خرجوا في بدايات الثورة للمطالبة بالحقوق وتحقيق أهداف الثورة وحماية تظاهراتها.
تقلّبت المشاريع الجهادية خلال عامين على الساحة السورية، وتباينت فصائلها على رغم أن السمة الأوضح لقاداتها أنهم سجناء سابقون في سجن صيدنايا، لتنتقل اختلافاتهم الفكرية في الزنزانة إلى خلافات تمنع توحيدهم ضمن منظومة واحدة. وتشابهوا إلى حدّ كبير، فلم يطرح أي منهم رؤية مختلفة، وانحصر الاختلاف فقط في الراية واسم القائد وتمركز كل فصيل منهم في منطقة جغرافية محددة يسيطر عليها بشكل شبه كامل. ولكن بقيت «جبهة النصرة» مميّزة عنهم عبر إعلانها الارتباط المباشر بتنظيم «القاعدة» بقيادة الظواهري. وسرعان ما أُجبر التنظيم على أن يكون جزءاً من اللعبة السياسية الكبيرة في سورية، بخاصة بعد تدويلها وارتباطها بشكل مباشر بأهواء الدول المعنية، لتكون جماعة «القاعدة» في سورية ضمن محور تركيا - قطر، الذي لم يكن جلياً لولا الضغط الأميركي على تركيا بوجوب وضع «جبهة النصرة» في قائمة الإرهاب التركية مقابل ألا تضع أميركا فصائل سورية جديدة (محسوبة على تركيا) على قائمتها للإرهاب. وفعلاً، قامت تركيا بذلك وما لبثت أن أزالتها بعد فترة، لتعمل «جبهة النصرة» بفاعلية أكبر ووضوح أكثر ضمن الأجندة التركية.
تغيرت آلية عمل «النصرة» في سورية بعد هذا الحدث، إذ كانت تعتمد في البداية على خلايا صغيرة متوزّعة على كامل الجغرافيا السورية، مع عمليات نوعية تشارك فيها فصائل أخرى. لتتحوّل استراتيجية عملها العسكرية إلى تبني معارك ضد الأسد لنفسها فقط، وفي حال المشاركة مع فصائل أخرى كانت تعمد الى تغييب هذه الفصائل إعلامياً. أما ميدانياً، فقد عمدت إلى السيطرة على الشريط الحدودي بين تركيا وما يسمى بالمناطق المحررة. فشمالاً، اعتمدت على سيطرة تنظيم «جيش محمد» الذي كان متحالفاً مع «داعش»، ليعلن انتماءه الى «النصرة» عقب اشتباكات الجيش الحر مع «داعش» في بدايات العام المنصرم. وفي الشمال الغربي، قادت حملة استهدفت العابثين والمفسدين كما زعمت، لتسيطر على الشريط الحدودي في محافظة إدلب من المنطقة بجوار باب الهوى إلى حارم فدركوش، وصولاً إلى نقطة الالتقاء مع محافظة اللاذقية. أما في اللاذقية، فالسيطرة مشتركة مع الكتائب المحلية. وعقدت النصرة تحالفاً قوياً مع الفصائل المسيطرة على المنافذ الحدودية الرسمية في سورية مع عدم رغبتها في السيطرة المباشرة هناك، فيما يُعتقد أنه قد يُحرج تركيا في حال تم ذلك بسبب وجود «النصرة» على قائمة الإرهاب الأميركية.
انتقلت بعدها «النصرة» إلى التوسّع داخل «المناطق المحررة». ففي عمق محافظة إدلب، قامت بطرد فصائل سورية وتدميرها، وذلك عبر اتهامات مختلفة. ولم ترضَ أن تكون هناك مشاركة لكتائب محلية، فعملت على أن تكون الفصيل الوحيد المسيطر فيها ضمن تحالفات معيّنة مع فصائل أخرى، كـ «أحرار الشام» و»صقور الشام»، مقابل أن تلتزم ضمن مناطق سيطرتها وتتعاون قضائياً وعسكرياً مع «جبهة النصرة». أما في محافظة حلب، فقد تحالفت «النصرة» مع فصائل «الجبهة الإسلامية»، التي اتحدت لاحقاً مع فصائل جديدة تحت مسمى «الجبهة الشامية»، ضمن حملة محاربة المفسدين، ولكنها استهدفت فصائل خرجت عن قيادة «الجبهة الإسلامية» المتمثلة بأميرها عبد العزيز سلامة، والتي كان يُطلق عليها محلياً «لواء التوحيد - فرع مارع».
في حال إعلان الجولاني انفصاله عن «القاعدة» كما يروّج، سيكون هذا ثاني انشقاق لأكبر أذرع «القاعدة» دولياً، بعد انشقاق البغدادي وإعلانه «دولة الخلافة»، وسيتكرر سيناريو أنه عندما يشعر أحد أمراء «القاعدة» بأنه يحكم أرضاً ويملك مقومات دولة، فإنه مستعدّ للتخلي عن بيعته «القاعدة»، على رغم أن الجماعات الجهادية تعتبر نقض البيعات كالردة أحياناً وعقوبتها تصل الى القتل.
ستبقى قصة انفصال «النصرة» عن «القاعدة» ضمن دائرة الإشاعات، طالما لم تصدر بشكل رسمي وطالما بقي اسم «القاعدة» على رايات «جبهة النصرة» في سورية. ولكن في حال حدوثها، ستطرح كثيراً من التساؤلات عن مستقبل الفصيل والدور الذي سيؤديه في الساحة السورية، وهل من الممكن أن يشارك في الجانب السياسي بشكل مباشر؟ أم سيقتصر دوره على تحقيق المصالح المشتركة المتقاطعة مع الحليف التركي؟
تركياتحقيقاتتنظيم القاعدةسورياجبهة النصرة
لا حديث، هذه الأيام، في معظم وسائل الإعلام والمؤتمرات الدولية والإقليمية والمحلية، إلا عن داعش، حتى بدا لكثيرين وكأن هذه "الجماعة" قدر محتوم، لا يفصلهم عنه سوى أسابيع أو أشهر، لتصبح كامل المنطقة مجموعة إمارات تدين بالولاء لما تسمى دولة الخلافة، التي تتخذ من العراق مقراً ومرجعاً لها. وفي ذلك تسويق غير مقصود من وسائل الإعلام للمشروع السياسي لهذه الجماعة، التي افتكت المبادرة من بقية الجماعات الراديكالية داخل ما تسمى دائرة الإسلام السياسي، ما جعلها الأكثر قدرة على التجنيد والتعبئة والتوسع.
يجب الاعتراف بأن داعش نجح في فرض نفسه إعلامياً، ففي كل أسبوع، على الأقل، ينتج حدثاً جديداً يجعل الإعلاميين يلهثون وراءه ويتابعون تداعياته. ولا يكاد بلد، في المنطقة، إلا ووجد نفسه منخرطاً في حرب، ضد هذا التنظيم، مفتوحة على جميع الاحتمالات، فهو لم يترك أي طرف يمكنه الوقوف على الحياد، بدءاً من العراق وسورية، وصولاً إلى ليبيا والجزائر وتونس وموريتانيا، مروراً بمصر والسعودية، وبقية دول الخليج واليمن، إضافة إلى معظم دول العالم التي انخرطت في التحالف الموجه ضد داعش.
فتح التنظيم وفروعه مواجهات مع الجميع، ويخوض حالياً حروباً متعددة ضد جيوش كثيرة، على أمل أن ينتصر عليها جميعها مهما كانت خسائره. ففي 2014 وحدها قتل من أنصاره نحو ثلاثين ألف مناصر. لم يترك خطاً أحمر إلا وتجاوزه، لأنه يعتقد أن مهمته الرئيسية تغيير موازين القوى وإطاحة المنظومة السياسية السائدة إقليمياً وعالمياً. وعلى الرغم من أن المنطق العسكري يعتبر فتح الجبهات المتعددة، من أي كان، خطأً قاتلاً، يؤدي بأصحابه نحو الهزيمة الحتمية، إلا أن ذلك لم يمنع المسؤولين الأميركيين من القول، إن الحرب ضد ما تسمى الدولة الإسلامية ستستمر سنوات! فالذي فشل في تحقيقه تنظيم القاعدة، سواء في عهد أسامة بن لادن، أو حالياً، نجح أبو بكر البغدادي، ومن معه، في إنجازه، ويتعلق بتفجير بؤر الحرب والتوتر بشكل متتالٍ، ما جر عشرات الحكومات إلى حرب استنزاف طويلة المدى.
مع أهمية هذا المشهد المعقد والمتحرك، إلا أنه لا يبرر هذا الإدمان الإعلامي الخطير على الأسطورة الداعشية. فمن شأن ذلك أن يصيب الأفراد وشعوب المنطقة بالإحباط وانتظار المصير المظلم. كما أنه سيستنزف العقول والثروات لصالح الدول الغربية وشركاتها المصنعة للأسلحة، وسيطرد الأمل من نفوسنا، في إمكانية بناء مستقبل مختلف عن الاستبداد، الإرهاب معاً. وسيزيد من قدرات هذه الجماعات على استقطاب الشباب العربي الحائر واليائس، ويجعل بعضهم لا يرى بديلاً من هذه الأوضاع المنهارة، إلا الارتماء في حرب مجنونةـ عساها تولد الظروف الملائمة لاستعادة الخلافة الضائعة.
في تونس، حالة اختناق حقيقية تلمسها في وجوه الأفراد وأحاديث المواطنين وارتباك النخب، وخصوصاً لدى النساء. فما يجري في ليبيا أصبح كابوساً يخيم على الجميع، وكأن الخطر أصبح مباشراً وجدياً، وكأن مقاتلي داعش وأشباهها أصبحوا يطرقون أبواب تونس بقوة وعنف. وعلى الرغم من حجم المخاطر التي يمكن أن تنجرّ عما يجري داخل ليبيا، إلا أن ذلك يجب ألا يحجب أو يقلل من الخطوات الجبارة التي قطعت في السنوات القليلة الماضية. لا يزال الأمل قائماً في إمكانية حماية اللحمة الداخلية، وتعزيز ما تحقق على الجانب السياسي، بتقدمٍ يمكن إنجازه على الصعيدين، الاقتصادي والاجتماعي.
ليس الإعلام مطالباً بحجب الصورة الواقعية لتطور الظاهرة الإرهابية، لأنه بذلك يفقد مصداقيته، وفي الآن نفسه، يجب ألا يحشر نفسه، والرأي العام معه، في زاوية ضيقة من دون أفق، وإنما مطالب بأن تكون له رؤية شاملة، تمكّن الناس من النظر إلى ما وراء الجبل، وتستعيد الثقة في قدراتها على صناعة الأمل.