صباح 8 مارس/آذار 1963، قام انقلاب عسكري في دمشق، شارك فيه ضباط بعثيون وناصريون وقوميون عرب ومستقلون، تحت شعار الوحدة العربية وتحقيق العدالة والاشتراكية والقضاء على الطبقات المستغِلة (بكسر الغين)، وجاء هذا ضمن تيار في العالم الثالث آنذاك، إذ قام في العديد من بلدانه انقلابات عسكرية، تولت السلطة السياسية، وقامت بإجراءات اقتصادية واجتماعية، وكان منها عدد من البلدان العربية، مصر عبد الناصر، العراق، سورية، الجزائر، ليبيا، اليمن الجنوبي.
أزاحت السلطة العسكرية الجديدة الطبقات السياسية القديمة، حيث أزاحت حكومة خالد العظم، وحلت البرلمان المنتخب، وصادرت حريات التنظيم والتعبير، فألغت الأحزاب السياسية والصحف والنقابات الحرة، ومنعت التنظيمات السياسية والاجتماعية، وبالتالي، مَرْكَزَت السلطة السياسية في يد الانقلابيين. ولكن، ما لبث هؤلاء أن اصطرعوا فيما بينهم، لتنتهي السلطة بيد المجموعة البعثية.
في الستينيات
صادرت سلطة البعث العسكرية، خلال عامي 1964 و1965، أملاك كبار ملاك الأراضي، ووزّعت جزءاً منها على الفلاحين، وأبقت جزءاً آخر أملاك دولة. كما قامت بتأميم الشركات الصناعية والتجارية والمصارف وشركات التأمين، وتدخلت الدولة في التجارة الداخلية. كما تم تأميم التعليم بمراحله كافة. وطبق نظام نقد غير قابل للتحويل الحر وخاضع لرقابة شديدة. وتوسعت فئة موظفي الحكومة عدة مرات، واندمجت أعداد أكبر من أبناء الريف وفقراء المدينة في الفئات الجديدة الصاعدة. وقد تراجع دور القطاع الخاص، حتى غدا، في مطلع السبعينيات، لا يملك أكثر من 25% من القدرات الصناعية، تتوزع في ورش ومشاغل بالدرجة الرئيسية. وأصبح القطاع الخاص الفردي والصغير جداً والصغير والمتوسط المسيطر على المشهد في كل قطاعات الاقتصاد الوطني.
نتيجة تلك الإجراءات، تم تجريد الطبقات والعائلات التقليدية وعائلات رجال الأعمال السابقة من قوتها الاقتصادية والسياسية، ومن مكانتها الاجتماعية أيضاً، ولم يبقَ لها النفوذ نفسه، واختفى عن المشهد أشخاص، مثل خالد العظم وأصبحت مذكراته ممنوعة في سورية، واختفت عائلات اليوسف والأتاسي والخوري والقوتلي والحفار والقباني والحلبوني وإبراهيم باشا وقطب وصائم الدهر والطباع و دياب أخوان والدسوقي والقدسي وسعادة وسكر وعبد المتين أخوان والططري وشبارق والزعيم والعظم والبرازي والشيشكلي واليكن والكيخيا وشلش والكنج وإسماعيل ومعمارباشي وأصفر ونجار وغيرهم، ولم يعد هؤلاء يركبون السيارات الفارهة، ولم يعد لهم نفوذ في دوائر الدولة.
"بدأ نشاط التهريب بالنمو، حين كان يمنع استيراد سلع كثيرة تخصصت بتهريبها مجموعات تلوذ بالقرابة للفئة الحاكمة"
بعد تلك الإجراءات، أصبح رجل الدولة، وخصوصاً قيادات الجيش والأمن وقيادات حزب البعث وقيادات منظمات العمال والفلاحين وبقية منظمات الدولة ومؤسساتها، هم من يملكون النفوذ، وهم من يركب السيارات الفخمة الحديثة، وأصبح رجال أعمال الأمس وملاك الأراضي يطلبون ودَّهم بأشكال مختلفة، وأصبح أصحاب الحاجات، وما أكثرهم، يتجهون إلى هؤلاء، بدلاً من أولئك، للتوسط لقضاء حاجاتهم، سواء كان صاحب الحاجة رجل أعمال، يبحث عن صفقة مربحة، أم مواطناً فقيراً يبحث عن عمل. تمركزت السلطات السياسية والاقتصادية، وحتى الاجتماعية، إلى حد بعيد، في يد الدولة المتغوّلة، فمن يجلس على كراسي الدولة، ويقبض على "مقودها"، يستطيع باسمها أن يوجه سيرها كما يريد. فالسيطرة على الدولة تعني السيطرة على كامل المجتمع من جوانبه كافة.
استبدل التحالف الحاكم السابق، المكون من الطبقات الإقطاعية والرأسمالية البازغة والعائلات التقليدية، الآن، بتحالف جديد حل محله، تحالف الجيش وفئات المثقفين "الثوريين" وفلاحو الريف وفقراء المدن بقيادة الجيش، وهي الصيغة التي وضعها أكرم الحوراني، وهو أحد أهم الشخصيات السياسية في سورية، منذ منتصف الأربعينيات وحتى منتصف ستينيات القرن العشرين.
في السبعينيات
رحبت الأوساط المدينية بإزاحة جناح صلاح جديد الراديكالي من السلطة، وتولي وزير الدفاع حافظ أسد، الأكثر براغماتية، السلطة، بعد انقلاب عسكري بتاريخ 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970. ورفعت البرجوازية المدينية شعاراتها الترحيبية في الأسواق التجارية، في دمشق وحلب وحمص وحماه، تقول: "طلبنا من الله المدد فجاءنا حافظ الأسد".
أعلن الأسد عن سياسة اقتصادية أكثر انفتاحاً على القطاع الخاص، ولم يقم بأي إجراء إضافي ذي طابع "اشتراكي"، واتبع ما سُميت سياسة "التعددية الاقتصادية"، وفتح الباب مواربة لاستثمارات القطاع الخاص بشكل ضيق. وبعد حرب تشرين 1973، أصدر تشريعات خاصة بإنشاء شركات سياحية وفندقية، شراكة بين القطاع الخاص والدولة، وقد أتاحت المساعدات التي حصلت عليها سورية من الدول العربية النفطية، وبلغت نحو 1.5 مليار دولار سنوياً، قدرة أكبر للإنفاق الحكومي، لإقامة مشروعات كثيرة للبنية التحتية، أو بناء مصانع وإقامة شركات أو مشتريات حكومية أخرى، ما أوجد جبهات عمل أوسع للقطاع الخاص الذي اندفع نشيطاً بعد نحو عقد من التأميم والتضييق.
"لم يتخذ الأسد، في التسعينات، أية خطوات إصلاحية أخرى تكميلية لمناخ الاستثمار"
ومنذ السبعينيات، بدأت أسماء رجال أعمال بالبروز، مثل الشلاح والعطار والنحاس والعائدي وألتون وتقلا وهدايا وغيرهم. وبدأت ظاهرة التشارك بين القيادات الإدارية والعسكرية بالنمو، وجلها قيادات من أصول ريفية فقيرة، وقطاع الأعمال الجديد، فلدى هذه القيادات القرار الذي يصنع فرصة الربح. ولكن، لا يمكنها ممارسة الأعمال مباشرة، وكان أبناؤهم ما زالوا صغاراً، فكان لا بد من شراكة رجال أعمال من القطاع الخاص وتقاسم المنافع. ومنذ السبعينيات، بدأ نشاط التهريب بالنمو، حيث كان يمنع استيراد سلع كثيرة تخصصت بتهريبها مجموعات تلوذ بالقرابة للفئة الحاكمة، مكونين ثروات كبيرة (الدخان، الأدوات الكهربائية، العملات الصعبة والذهب، وما شابهها).
في الثمانينيات
شهدت سورية أزمة اقتصادية خانقة، مما اضطر الأسد إلى الإفساح في المجال أوسع أمام القطاع الخاص، وتخلت الحكومة عن مزيد من احتكاراتها. وشجعت الاستثمار السياحي والزراعي الخاص والمشترك بين الدولة والقطاع الخاص الذي يقدم رأس المال. فكانت هذه مناسبة لنمو ثروات شركائهم من رجال السلطة. وقد خرجت سورية من هذه الأزمة، بسبب زيادة إنتاج النفط من الاكتشافات الجديدة، ومن المساعدات التي جاءتها بسبب انضمامها إلى الحلف الدولي لإخراج صدام حسين من الكويت، إضافة إلى اتباع سياسة جديدة بتشجيع الزراعة.
في التسعينيات
في أجواء انهيار المعسكر الشرقي "الصديق"، وبدء مفاوضات مدريد بين العرب وإسرائيل، خطت السلطة السورية خطوة أوسع باتجاه فتح الباب أمام القطاع الخاص، فصدر قانون تشجيع الاستثمار 10 لعام 1991، وتخلت الدولة عن مزيد من احتكاراتها، ما أحدث موجة من الاستثمارات، في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، في الصناعة والنقل خصوصاً. وبدأت تبرز مجموعات أعمال أكبر وأكثر وأسماء جديدة، وبدأت مجموعات الأعمال التي تعود إلى بعض أبناء المسؤولين بالظهور والتوسع. لكن، لم يتخذ الأسد، في التسعينيات، أية خطوات إصلاحية أخرى تكميلية لمناخ الاستثمار، فتراجعت وتيرة الاستثمارات. فبعد أن تم الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، شعر الأسد أنه بحاجة أقل لمزيد من الانفتاح على القطاع الخاص، بسبب خشيته من نمو قوته. لذلك، تراجعت الاستثمارات الخاصة وحدث ركود.
"أصبح قطاع الأعمال عام 2010 يساهم بنحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي"
ثمة دافع آخر للأسد الأب في اتخاذ مزيد من إجراءات الانفتاح الاقتصادي. فإضافة إلى اشتداد مرضه، أراد أن يؤجل اتخاذ تلك الخطوات الواسعة في الانفتاح الاقتصادي، لكي يقوم بها ولده بشار، الذي كان يتم تحضيره لوراثته في السلطة، كي تسجل إنجازاً لولده، وتخلق قبولاً أوسع لعملية التوريث غير المفهومة. وقد توفي الأسد الأب في العاشر من يونيو/حزيران 2000، وتم توريث السلطة لولده بشار، كما هو مخطط.
شكل انتقال السلطة بداية لتسريع الانفتاح الاقتصادي، واستكمال عودة الرأسمالية إلى الديار السورية. وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تخلت الدولة عن معظم احتكاراتها، وتم فتح قطاع المصارف والتأمين أمام القطاع الخاص، وأحدثت سوقاً مالية، وأبرمت سورية اتفاق تحرير تجارة مع تركيا، بعد أن كانت قد أبرمت اتفاق منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى "الجافتا" منذ 1997. وتم تحرير عقود الإيجار وتعديل قانون العلاقات الزراعية، وتم فتح قطاع التعليم، وفتح قطاع التطوير العقاري أمام القطاع الخاص، وكذلك فتح قطاع الإعلام وقطاع الإعلان ونشاط المعارض وغيرها. وفي هذه المرحلة، كان لأبناء المسؤولين وشركائهم الحصة الكبيرة في هذه الاستثمارات. ونتيجة ذلك كله، أصبح قطاع الأعمال عام 2010 يساهم بنحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي.
"عملت السلطة على تشكيل قطاع أعمال خاص قوي من أبناء المسؤولين، ومن يلوذ بهم"
خلال كامل الفترة السابقة، شكلت سلطة الدولة الرافعة التي كونت من خلالها الطبقة العسكرية السياسية الحاكمة ثرواتها الخاصة، ومكنت قبضتها الاقتصادية، إضافة إلى قبضتها السياسية والأمنية. فبعد إجراءات الستينات، أصبح الاقتصاد مسوراً بإجراءات ومؤسسات حكومية، يقف على بوابات أسوار اقتصادها مسؤولون حكوميون، تتحكم قراراتهم بالنشاط الاقتصادي، ما فتح الباب لهؤلاء "البوابين"، في إساءة استغلال سلطتهم، لتحقيق مكاسب مادية شخصية.
حرصت سلطة الأسد، ومنذ 1970، على أن تبقي قطاع الأعمال الخاص تحت قبضتها القوية، فأبقت البيروقراطية الشديدة أداة للتحكم به. كما أحدثت محاكم الأمن الاقتصادي، لتكون سيفاً مسلطاً على رقاب رجال الأعمال الذين لا يخضعون لإرادتها، أو مَن يسعى إلى تعظيم دور هذه الطبقة، على نحو مستقل عن سياستها، وقد تعسفت هذه المحاكم ضد رجال أعمالٍ، لم يفعلوا شيئاً يُذكر، بينما صمتت عن ارتكابات كبرى، كانت تقوم بها "رأسمالية المحاسيب".
من جهة أخرى، عملت السلطة على تشكيل قطاع أعمال خاص قوي من أبناء المسؤولين، ومن يلوذ بهم، وأن يكون هو القطاع الخاص الأكبر والمسيطر، فقد كبر أبناؤهم، ولم يعودوا بحاجة للتستر خلف رجال أعمال آخرين. هنا، أصبحت الأسماء الأكثر تداولاً في قطاع الأعمال هي رامي مخلوف وإخوته والأخوان رياض وذو الهمة شاليش وكمال الأسد وثلة من بيت الأسد وغسان مهنا ونزار الأسعد ومجموعة الخولي، ونبيل طعمة وسيلمان معروف، وخالد قدور وعائلة الشهابي وسمير الحسن ومهران خوندة ووهيب مرعي وعائلة طلاس وعائلة خدام ومجد سليمان ومحمد حمشو وطريف الأخرس وعائلة الخياط، وسليم دعبول وغيرهم.
ولكن، هذه المجموعة الريعية التي نمت على طبق الدولة، مباشرة أو برعايتها، لا تستطيع في معظمها أن تعيش بدون دعم الدولة ورعايتها، عكس الطبقات الرأسمالية المنتجة التي كانت سائدة في سورية قبل آذار/مارس 1963، والتي اتسمت بسمة إنتاجية، وحققت مكانتها وثرواتها عبر المنافسة، وتميزت بالحرص والاقتصاد في الإنفاق الشخصي الباذخ.
"أصبحت الأسماء الأكثر تداولاً في قطاع الأعمال هي رامي مخلوف وإخوته والأخوان رياض وذو الهمة شاليش وكمال الأسد"
إلى جانب تلك المجموعة، نما قطاع أعمال قريب من رجال الحكم، ويعتمد على علاقاته بهم لتوسيع نشاطه، لكنه أصبح، الآن، أقل التصاقاً بهم عما كان من قبل، مثل النحاس والشلاح والعطار والعائدي وهدايا وألتون وغريواتي وغراوي ودعبول-الميدان وطيارة وصبرا والشاعر وعزوز وسنقر والرهونجي ووتار والعقاد والحافظ وكركور وزيدو والصباغ والبزرة وأنبوبا وألتون وفرزات والأوبري والبيلاني وعساف وغيرهم. غير أن هذه المجموعة أصبحت تشكو من منافسة غير منصفة مع المجموعة الأولى التي تنحاز الدولة إلى جانبها.
وإلى جانب هاتين المجموعتين، نما عدد من رجال الأعمال، وخصوصاً في الصناعة، من الذين اعتمدوا على مهاراتهم وصبرهم لتحقيق نجاح ملحوظ، وأعادوا بذلك إحياء روح رجل الأعمال السوري، المعروف بمهارته، والتي هدرها نظام البعث خمسة عقود.
أخيراً
دارت الدورة، وعادت الرأسمالية إلى الديار السورية، الرأسمالية التي جاء انقلاب البعث إلى الحكم تحت شعار القضاء عليها، عادت كطبقة جديدة، تعكس تحالفاً جديداً بين السلطة السياسية الشمولية المعتمدة على العسكر، وطبقة رأسمالية، تعود في جزء كبير منها، إلى الطبقة السياسية الحاكمة، مكونة بذلك طغمة مالية سياسية عسكرية حاكمة، وأصبح التحالف السابق الذي أشرنا إليه أعلاه في خبر كان.
دأبت رنا على الاتصال بالشبكة السورية لحقوق الإنسان، وتكرار السؤال عن أي معلومة جديدة عن أخيها، وفي كل مرة يخفق قلبها في انتظار الإجابة التي لا تأتي بجديد، بالأمس انعكست الحكاية، رنا أرسلت المعلومات، رسالة قصيرة مختصرة مع صورة لبقايا إنسان... «هذا أخي».
من جديد يخرج ملف «سيزر أو قيصر» للإعلام، صاحب الـ55 ألف صورة لشهداء تحت التعذيب في أقبية النظام ومخابراته، وصور «سيزر» كما يسميها الإعلام العالمي ليست لأشخاص جدد، هي للشهداء أنفسهم. صور لا يمكن أن يحيط برعبها نظر إنسان عادي، 11 ألف إنسان تم تعذيبهم والتفنن بقتلهم، واقتلاع أعضائهم، وفقط من لا يوجد لها ابن في المعتقل هي من تستطيع مقاومة التفتيش بين الصور.
أرسل لي أخي «الذي لم أره منذ 3 سنوات إلا عبر شاشة الكومبيوتر»، صورتين «أرجوك ساعديني... هل ترين أنه الشخص نفسه... لا يمكن أن يكون نفسه». دموعه وحرقة قلبه وصلتني في الرسالة الإلكترونية، كدت أن أصرخ «لماذا اخترتني أنا لأساعدك؟... يا حسرتي يا حبيبي!... إنه هو... هو صديقك»، أما أم الشهيد صديق أخي، فإن الله اختار لها أن ترتاح وأن يقف قلبها فور مشاهدة الصورة والتعرف إلى ابنها.
اليوم ماتت خالتي، قلت لأمي «ادفنوها على عجل فقد ماتت في فراشها»، ولم أهتم للاستغراب والانزعاج في عين أمي، حتى أنني لم أفكر في أن أعزيها، ماذا سأقول «العمر إلك»، ولكنني انفجرت باكية دافنة رأسي في حضن أخت المتوفاة، «إنهن يتعرفن إلى بقايا أولادهن يا أمي... خالتي ماتت وانتهى... ابكي معي».
أنا المواطنة السورية المتهمة بأنني «داعشية» لأنني أحمل جواز سفر أزرق، ينسون أنني تعرفت إلى أخي من صورة على الإنترنت، ويتجاهلون عينيّ الزجاجيتين من كثرة البكاء على أمي، أدخل إلى المطارات فتستقبلني نظرات شك، ترسل إلي إشارات غير ودودة، غالباً سيتم الطلب مني الوقوف جانباً وانتظار تسهيل أمور باقي المسافرين «غير الداعشيين وغير الباكين، والذين تخلو أسرتهم من شهيد تحت التعذيب».
أنا المواطنة السورية، أكره الابتسامة، وأنتظر رغيف الخبز، أتمنى أن تموت أمي قبل أن ترى ما رأيت، ولا أمل من تكرار «ليس ابنك، ليس ابنك»، هل من قوة توقف جماح أم؟
أنا المواطنة السورية اليوم، يلقي علي التحية زميلي في العمل، فأستغرب الود الذي نسيته لكثرة أحزاني، ترمي صديقتي اللبنانية بنكتة في محاولة يائسة لسحب ابتسامة مني، فأهرب منها ومن العالم، أين سأهرب من شهداء سيزر؟
أنا المواطنة السورية التي تعيش الإحساس بالذنب في كل لحظة لأنها لا تزال على قيد الحياة، وتعيش الإحساس بالخوف كلما نشروا صورة جديدة تحمل على الجبين رقماً لعيناً لا أفهمه.
أنا المواطنة السورية التي يوقظها قلبها، تهرول إلى الأخبار، تنتظر من أختها أن ترد على الهاتف من دمشق، تغمرها السعادة أن أختها لا تزال على قيد الحياة، وتكره سعادتها لأن ثمة أختاً أخرى لسورية أخرى ماتت اليوم.
أنا المواطنة السورية التي جاء العالم بأسره ليحارب «داعش» على أرضها، وبقي الأسد على عرشه وعلى رقاب أهلها، أستمع إلى تصريحات أميركا وأوروبا والعالم بأسره، فيتملكني الغضب «إنهم لا يعترفون بالأسد، ولكنهم لا يحاربونه»، وبدل أن يحتضنني ذلك العالم «المتعاطف معي إعلامياً» لأنني الضحية الأولى للنظام والضحية الأولى لـ «داعش»، قرر أن ينبذني ويعاقبني على موتي مرة أخرى.
أنا المواطنة السورية، لست «داعشية»، ولست أسدية، قتلني النظام وشردني، وذبحني «داعش» ويتّمني، وهربت من الاثنين، فابتلعني البحر مرة وخنقتني الخيمة، تعرفت إلى أخي وابني وزوجي وأبي في صور لبقايا إنسان، ورفضني الناس مرات ومرات.
بعد مرور أربع سنوات من عمر الثورة الأيام تثبت انها لم تكن رمية من غير رام ولم تأت من فراغ ..
كيف تمكنت حوران من كسر القاعدة الذهبية لنظام آل الأسد ؟
خلال مرحلة حكم آل الأسد كان هناك قاعدة ذهبية تعتمد على تجويع الشعب ولكن دون الوصول الى مرحلة المجاعة جعل رغيف الخبز هو الشغل الشاغل للمواطن كي لايفكر باي شيء آخر ....
بالإضافة لإثارة النعرات القومية والطائفية والمناطقية
لم يكن يتوقع نظام الأسد أي حراك ينطلق من حوران
حوران كانت الخزان البشري السني الموالي لنظام الأسد ....
ما ميز حوران عن غيرها في الفترة الأخيرة ما قبل انطلاق الثورة
العامل المادي لم تعد حوران تعتمد على النظام من الناحية المادية بسبب زيادة نسبة الهجرة الى الخارج
هذا ما سهل كسر قاعدة التجويع
بل على العكس النظام هو من كان يعتمد على حوران من ناحية المادية ... القطع الأجنبي والاستثمارات
بالإضافة الى عدم الاعتماد على القطاع العام بتوظيف حوران من أقل المدن السورية بعدد الموظفين في القطاع العام
العامل الاجتماعي
في الفترة الأخيرة لم يعد هناك فرق ما بين مركز المدينة او أبعد قرية عن المركز من الناحية العمرانية والخدمية و التعليمية .... بالإضافة الى ان حوران ذات لون طائفي وأحد الى حد ما وتمسك بالعشائرية الايجابية
وأهم العوامل العامل التعليمي والثقافي في الفترة الأخيرة كانت حوران من أعلى المحافظات بنسبة التعليم
عندما تتوفر كل هذه العوامل باي مجتمع لابد ان يفكر بممارسة حقة السياسي والتفكير في السياسة....
هذا العوامل مكنت حوران من تصدر المشهد السوري منذ اليوم الأول لانطلاق الثورة والى اليوم ....
حوران وبعد أربع سنوات امثولة الثورة ليس لأنها اطلقت شرارة الثورة ولكن لأنها حافظت على روح الثورة
خلال أربع سنوات كانت جميع الرايات تحت راية الثورة وجميع الأفكار تحت فكر الثورة وجميع الاسماء تحت اسم الثورة ....
حوران ظاهرة ثورية تستحق الدراسة
لسان حال أهل حوران اليوم: قد يتمكن النظام من تعفيش المنازل لكنه لن يتمكن من تعفيش الحلم
تتجمع في جغرافية المنطقة ملامح تشكل لتكتل إقليمي من الدول العرببة وتركيا لمواجهة تداعيات الهجوم الإيراني على الشعوب العربية ومحاولتها فرض واقع سياسي وأمني يهدد إستقرار المنطقة لعقود ويجعلها رهينة لمزاج الحاكم الإيراني وأهواءه.
تعمل السعودية على بناء عناصر هذا التحالف وتأسيس هيكليته من مجموعة من الدول العربية والقوى الإقليمية، تركيا وباكستان، فيما يبدو انه مسعى لقيادة التحولات التي سوف تشهدها المنطقة في المرحلة القادمة، وذلك بهدف إعادة التوازن وضبط التفاعلات الخطيرة التي تواجهها المنطقة، والأهم من كل ذلك، مواجهة تداعيات الهجوم الإيراني الكاسح.
كان من المنتظر منذ زمن أن بتأسس مثل هذا التحالف، ذلك أن جرائم إيران فاقت حدود المعقول والتصور، عبر تغييرها العنيف للتركيبة الديمغرافية من خلال ما اقترفته أذرعها وميليشياتها من عمليات قتل واسعة النطاق وتهجير ممنهج طال ملايين السكان في العراق وسورية، في وقت نأى المجتمع الدولي بنفسه عن الإجرام الحاصل، وهو ما يجب تسجيله بإعتباره خيانة للقيم التي تأسست عليها شرعة الامم المتحدة، فلم يكن مطلوبا إرسال الجيوش لإقتلاع نظام الأسد الذي إستخدم كافة انواع الأسلحة لقتل المدنيين وتهجيرهم، بل وقف عدوان دولة خارجية ( إيران) أنفقت مليارات الدولارات ثمن لأسلحة صوبتها عصاباتها على شعب أعزل.
غير أن العبث الإيراني تجاوز كل الخطوط الحمر عندما بدأ بؤسس لمشروع يهدف السيطرة على مفاصل الخريطة الإقليمية برمتها والسيطرة على أهم ركائزها الجغرافية والديمغرافية وذلك حتى يتسنى لطهران التحكم باللعبة الإقليمية وتقديم تفسها للقوى الأخرى، أميركا وإسرائيل، على انها اللاعب الجدير بالثقة، على مصالح العرب والدول الإقليمية الأخرى، فثمة فارق بين الخطاب تسوقه إيران لشعوب المنطقة عن المقاومة والمظلومية، وبين ما توشوشه للدوائر الغربية عن كونها القوة القادرة على حفظ الإستقرار في المنطقة وحماية المصالح الغربية، وعلى رأسها إسرائيل، فإيران القوة الطائفية بإمتياز لا يعنيها من المشرق سوى الإنتقام من العرب السنة، وهي أصلاً لا تفعل سوى ذلك، مستغلة ظهور تنظيم داعش لتقديم نفسها على أنها القوة العقلانية الوحيدة في المنطقة.
هذه السياسات العدائية التخريبية في المنطقة والتي باتت تتخذ نمط العربدة كان من المنطقي ان تفرز إستجابات بحجم التحدي الذي تطرحه والذي وصل إلى حد إلغاء وجود المكونات المتناقضة معها، دولا كانت ام شعوبا، وقد أثارت هذه السياسات غضب شعوب المنطقة كما كانت السبب في ظهور إستجابات غير منظمة إتخذت طابع الإرهاب الموازي للإرهاب الإيراني وذلك نتيجة حالة اليأس من مواجهتها وإبعاد أثرها السلبي عن شعوب المنطقة.
ولعل دوائر صنع القرار في المنطقة أدركت أن إستمرار عدم التصدي للسياسات الإيرانية سينتج عنه حالات من التصدع المجتمعي والإنفلات الأمني بحيث تصبح دول الإقليم بين نار الجماعات المنفلتة ونار التوسع الإيراني الذي بات يضغط بقوة على جغرافية المنطقة ويهدد بتدمير بنياءاتها الإجتماعية والإقتصادية، من هنا جاءت المبادرة السعودية بتشكيل هذا التحالف، ولو بحدوده الدنيا، في إطار التنسيق بين الدول المتضررة، ورغم وجود العديد من التباينات بين أطراف التحالف المزمع عقده، إلا أن ثمة توجه يقضي بتنحية الخلافات الجانبية وإعادة ترتيب الأولويات وتعيين مصادر الخطر والتعامل معها حسب درجة إلحاحيتها وتأثيرها على أمن وإستقرار الدول.
ولا شك أن مواجهة الخطر الإيراني الذي بات يشكل كماشة على دول الخليج من العراق واليمن، فضلا عن محاولة تهديد إستقرار الأردن وعزل تركيا عن العالم الغربي، يأتي في مقدمة أولويات دول المنطقة، وبالتالي فمن المرجح أن تشهد الفترة القادمة بداية تصادم علني على أكثر من جبهة، الملامح الاولى بدأت في اليمن، والواضح أنه سيجري ترتيب البيئة المواجهة للحوثين من القوى اليمنية الرافضة للإنقلاب، كما ان سورية إحدى أهم الساحات المرشحة لمواجهات مقبلة، وخاصة بعد تعهد السعودية وتركيا بتقديم مساعدات للثوار تنتج تغييرات ملموسة على الأرض، ولعل الترجمة الفورية لمثل هذا التعهد تزويد الثوار، وخاصة في الجنوب والشمال بأسلحة نوعية من شأنها تغيير المعادلة على الأرض بعد محاولة إيران تدمير هاتين الجبهتين بكل ما أوتيت من قوة.
لم يعد ممكناً ترك الوحش الإيراني يتجول في المنطقة على هواه ويوزع الموت والدمار في كل مكان، فقد ثبت بالوقائع الدموية أن في إيران نظام عنصري طائفي لا مكان للقيم والأخلاق في سلوكه السياسي، وينتهج سياسات الغدر والتشفي ويتمنى لو أن العالم يغمض عينيه للحظة حتى يتمكن من إبادة شعوب المشرق.
يدعو وزير الخارجية الأردني، ناصر جودة، من طهران، إلى حوار عربي إيراني، في زيارة، نقل فيها رسالة من الملك عبد الله الثاني إلى الرئيس الإيراني، حسن روحاني، ربما يكون هذا الحوار المدعو إليه من مضامينها. وإذ تحسب الزيارة مؤشراً على تطور ملحوظ في العلاقات بين عمّان والجمهورية الإسلامية، بعد تعيين سفير أردني، قبل شهور، في طهران، وبعد زيارة وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، إلى عمّان، قبل أكثر من عام، فإنها، أيضاً، مؤشر على مزاج عربي بات في وارد الأخذ والرد مع إيران مباشرة، بالحوار والزيارات المتبادلة. وبذلك، يمكن حسبان زيارة جودة (وهو نائب لرئيس الوزراء في بلاده أيضاً)، إلى طهران تدشيناً لبادرة يد عربية ممدودة، خليجية تحديداً، تجاه إيران، والمرجح أن عمّان أوفدت وزيرها إلى طهران بعد استئناس آراء حلفائها في الخليج، وفي الرياض تحديداً، وإن تحدث وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، قبل أيام بحضور نظيره الأميركي جون كيري، عن احتلال إيراني في غير بلد عربي.
المساحة شاسعة بين مواقف الأردن وإيران في غير ملف، وإذا كانت الحرب ضد داعش موقفاً موحداً، فإن عمّان لا ترى في الميليشيات الشيعية المسلحة في العراق، والمسنودة ميدانياً، وبالعتاد والرجال والإشراف من إيران، لا ترى فيهم أنصاراً للأم تيريزا وأتباعاً للمهاتما غاندي. وإذا كانت الرياض عبّرت، بصراحةٍ، أن إرهاب هؤلاء لا يقل شناعة عما تقترفه داعش، فإن عمّان ليست بعيدة عن هذه الرؤية. على أن هذا الخلاف، وغيره كثير بشأن غير ساحة عربية تستبيحها إيران علناً، لم يعد يعني الاكتفاء بكظم الغيظ مع دب الصوت في الجرائد والفضائيات، بل صار يستوجب حواراً مع إيران، ومفاوضاتٍ معها تتداول في هذه الأمور. ومن بديهيات السياسة وطبائعها أن الحقائق تفرضها القوة الماثلة للعيان على الأرض، والقوة العربية، ناعمةً أو خشنة، في سورية والعراق واليمن ولبنان، غير ملحوظة إلى الحد الذي يجعل إيران ترعوي، فتراجع حساباتها، وتبادر إلى الحد من شهيتها في تعظيم دورها الإقليمي النافذ في المنطقة.
ثمة وجاهة وفيرة في الإحالة إلى حوارٍ أميركيٍّ نشط مع إيران، وصداقات أوروبية معها، وفي التذكير بأن رفع الحصار عن الجمهورية الإسلامية، وإلغاء العقوبات عليها (أو كثير منها) مسألة وقت. وهاهم مدراء شركات أوروبية عديدة يتقاطرون إلى طهران، لاستكشاف السوق الإيراني الواعد بشأن استثمارات ومبادلات تجارية. ومع اقتراب إنهاء قصة الملف النووي إياها، وإنْ بالكيفية الأميركية على الأغلب، غير المرضية لفرنسا على ما يتردد، فإن السعودية، ومعها دول الخليج وعموم العرب، سيجدون أن حواراً مع إيران لم يعد من النوافل، بل صار شديد الإلحاح، وهو الذي لم ينقطع بالمطلق، ففيما كان ظريف والفيصل يتداولان في جلسة محادثاتٍ بينهما، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في نيويورك، كان العبور الحوثي في صنعاء في اليوم نفسه، في سبتمبر/أيلول الماضي.
يمكن، إذن، حسبان الخطوة الأردنية باتجاه إيران تعبيراً عن مزاج عربي مستجد تجاه إيران، مؤهل للتطور، وفي البال أن ناصر جودة تسلم، أمس، رئاسة المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية، في اجتماعٍ من مهماته بحث موضوعات مؤتمر القمة العربية المرتقبة نهاية الشهر الجاري، يتسلم فيها عبد الفتاح السيسي رئاسة الدورة الجديدة لمؤسسة القمة، وهو الذي له خطوطه مع إيران، (هل من يتذكّر خطوط محمد مرسي معها أيضاً؟). وفي انتظار هذه الاستحقاقات، البروتوكولية في طابعها، ثمّة تقدم في النجاحات الإيرانية السياسية (والميدانية)، وثمّة سورية تترنح، وتعود القهقرى في النسيان العربي، وفي فم الحوت الإيراني، وثمّة لبنان ينتظر مباركة سعودية لقرار إيراني متخذ. هل ثمة سياسة عربية في مستوى الطموحات الإيرانية الغزيرة، بعد زيارة جودة، ورسالة من الملك عبدالله الثاني إلى روحاني؟
انشغلت قوى المعارضة السورية في الشهرين الأخيرين ببحث جوانب مختلفة للقضية السورية. وكان الأبرز في هذه الانشغالات لقاءات وحوارات، حصلت في القاهرة وإسطنبول ومدن أخرى في أوروبا، كان الأهم فيها موضوع الحل السياسي في سوريا، وما يحيط به من تفاصيل وحيثيات، تجعله قابلا للتحقق، وممكنا للتنفيذ.
وانشغال قوى المعارضة بموضوع الحل السياسي، لا ينفصل عن التطورات المحيطة بالقضية، ووعي المعارضة للضرورات السياسية القائمة، التي في مقدمتها، ضرورة توافق المعارضة على موقف واحد من الحل السياسي، وقد كان في الظاهر موضوعا خلافيا بين قوى المعارضة السورية لوقت طويل، سواء في الخلاف على الموضوع، أو في الخلاف على بعض محتوياته وآليات تحقيقه.
ووسط خلافات المعارضة على الحل السياسي، يبدو أن الأخيرة أدركت أن القضية السورية أحيطت بموضوعات، يمكن أن تحولها من قضية أساسية ومركزية، باعتبارها قضية شعب يطالب بالحرية وبنظام ديمقراطي، إلى واحدة من قضايا أخرى، تتصل بها أو هي إحدى نتائج الصراع مع نظام الاستبداد، مثل قضية إرهاب «داعش» وأخواتها، التي مدت حضورها في سوريا والعراق وفي الأبعد منهما، ومثل قضية اللاجئين السوريين، وهجرتهم، التي صارت لها أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية في البعدين الإقليمي والدولي، ومثل قضية التحالفات والصراعات الدولية والإقليمية بروابطها مع الوضع السوري، وكلها قضايا، أخذت تحتل المشهد السياسي والإعلامي على حساب القضية السورية، وتهددها بالتهميش، وتدفعها خارج الاهتمامات الأساسية في المستويين الإقليمي والدولي.
وسط تلك الظروف الصعبة والمعقدة، يبدو أن المعارضة السورية قررت أن تؤكد حضورها في المستويين الخاص والعام من جهة، وفي مستوى القضية من جهة أخرى، وفي هذا السياق جاء فتح باب الحوار بين أطرافها، فكانت لقاءات المعارضة بما فيها من تحالفات وقوى وشخصيات مستقلة، وبدا أن الحوار حول الحل السياسي هو الأهم في موضوعات الحوار، خصوصا أن أطرافا إقليمية ودولية مثل روسيا والسويد ومصر وغيرها، رأت أن فتح باب الحوار حول القضية السورية يمكن أن يكون عملا يخدمها، أو يخدم القضية السورية في وقت تغيب فيه جهود جدية وحاسمة في التعامل مع القضية السورية وموضوعاتها الأساسية.
وبلورت اجتماعات المعارضة السورية في الشهر الأخير، وثيقتين أساسيتين حول الحل السياسي في سوريا، كانت أولاها «نداء من أجل سوريا» الصادرة عن اجتماع القاهرة أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، والثانية وثيقة الحل السياسي التي أصدرتها الهيئة العامة للائتلاف الوطني السوري في اجتماعها الأخير بإسطنبول أواسط فبراير (شباط) الماضي. وأهمية الوثيقتين تتصل بـ3 نقاط أساسية؛ النقطة الأولى، حضور أغلب قوى المعارضة في اجتماعي القاهرة وإسطنبول، وخاصة الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق وبداخلهما غالبية القوى الكردية، الأمر الذي يعطي مشروعية أكبر لخيار الحل السياسي ومحتويات الوثيقتين، خاصة أنه عزل محتوياتهما عن حوارات جرت في القاهرة بين الائتلاف وهيئة التنسيق، جرى في خلالها تبادل أوراق تم التوافق على محتوياتها، ومما يدعم هذه النقطة أن ندوة استوكهولم، التي عقدت قبل أسبوعين بحضور شخصيات من المعارضة، أيدت نداء القاهرة، وشارك بعضهم في اجتماعات الائتلاف الأخيرة.
النقطة الثانية، وهي توافق الوثيقتين الجوهري على ضرورة الحل السياسي، واعتبار وثيقة جنيف بنقاطها الست والقرارات الدولية الخاصة بـ«جنيف 2» ومحتوياتها، ولا سيما موضوع هيئة الحكم الانتقالي بصلاحياتها الكاملة على الأمن والجيش، وأهداف العملية السياسية بإقامة نظام ديمقراطي جديد في سوريا باعتبارها مرجعية الحل السياسي المرتقب.
النقطة الثالثة، والمتضمنة ضرورة القيام بخطوات تمهيدية من قبل النظام، تؤكد قبوله الانخراط في عملية سياسية، تؤدي إلى نتائج عملية مثل إطلاق المعتقلين ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة، وتيسير دخول ووصول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى كل المناطق السورية، إضافة إلى ضرورة وجود ضمانات دولية برعاية الحل ووصوله إلى نتائج عملية.
ولعله لا يحتاج إلى تأكيد، قول إن خطوات المعارضة في تبني الحل السياسي، ورسم خريطة طريق نحوه على اختلاف بعض تفاصيلها، هو أمر إيجابي من حيث التوجه المشترك للمعارضة من جهة، ومن حيث وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، سواء لجهة معالجة القضية السورية، أو لجهة التزامه بما كان قد قرره في السابق، وساعد في دفعه للوصول إلى حل من خلال «جنيف 1» وما تلاه في «جنيف 2».
غير أن التطورات الإيجابية السابقة تحتاج إلى متابعة واستكمال نواقصها، التي يمكن أن يأتي في سياقها مجموعة من الخطوات الملحة والعاجلة، أبرزها العمل على عقد مؤتمر وطني سوري، يجمع أطراف المعارضة ويوحدها في رؤية واحدة ضمن وثيقة مشتركة حول الحل السياسي، ويمكن أن يقوم مؤتمر القاهرة المزمع عقده في أبريل (نيسان) المقبل بهذه المهمة، إذا أحسن الفريق المكلف بالتواصل لأجله والإعداد لأعماله فرصة مناسبة.
كما أن تنشيط الحوارات والاتصالات السورية والدولية حول الحل السياسي، ومؤتمر القاهرة، بين الخطوات الضرورية بهدف إيجاد حامل سياسي محلي ودولي للحل مستعد للذهاب في خطوات عملية وإجرائية، سواء عبر مجلس الأمن الدولي أو عبر صيغة دولية من خارجه، إذا بقيت روسيا والصين على موقفهما في استخدام حق النقض في معالجة القضية السورية في مجلس الأمن الدولي.
لقد شرعت المعارضة السورية بعمل ما هو مطلوب منها من الناحية السياسية، وكرست في اجتماعاتها حول رؤية الحل السياسي، ما كان قد بدأه الائتلاف الوطني العام الماضي في الذهاب إلى مؤتمر «جنيف 2» للتفاوض مع نظام الأسد استجابة لرغبة دولية، وبهذا صار المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، إذا كانت دوله وهيئاته لديها القدرة على أن تسمع وترى بعد كل ما حصل ويحصل في سوريا.
إذا كانت فوضى الحقبة الراهنة، بأوسع المعاني التي تشملها كلمة «فوضى»، قد أطلقت تنظيم «داعش»، فهي أيضاً أطلقت أهاجي لـ «داعش» لا يكاد أحد يتعفّف عنها. لكنّ الأهاجي لا تصنع نقداً، سيّما حين ينحصر الهجّاءون - النقّاد في تناول النتائج، لا المقدّمات.
و»داعش» نتيجةٌ في آخر المطاف، لا مقدّمة، نتيجةٌ كان الاستبداد العسكريّ والمؤدلج أحد أبرز مقدّماتها.
من هنا، قد تكون المقارنة لافتةً بين الهجائيّة التي استُقبلت بها ولادة «داعش»، والاحتفاليّة التي استُقبل بها ذات مرّة أبوها الاستبداديّ، والذي لا يزال نقده العميق، بل مجرّد الإقرار بأبوّته، مسكوتاً عنه.
فقبل يومين، وهذا مثَل غير حصريّ، استرجعت سوريّة ذكرى الانقلاب البعثيّ الذي عُرف بـ8 آذار (مارس) 1963، والذي أسّس النظام المستمرّ مذّاك، على رغم التغيّرات والتحوّلات الضخمة التي عرفها من داخل الخليّة الواحدة.
وإذا راجعنا صحف تلك المرحلة وقعنا على أوصاف حظي بها ذاك الانقلاب من قبيل: «إنهاء العهد الانفصاليّ البغيض»، «القضاء على أوكار الخيانة والعمالة»، «إعادة الوحدة مع مصر»، «الاستعداد لتحرير فلسطين». وفقط بعد انفجار الخلاف بين البعثيّين وجمال عبد الناصر، بدأ الهجوم على الانقلاب إيّاه بوصفه «مؤامرة على الوحدة» و»خيانةً للقضيّة» و»تنفيذاً للمخطّط الاستعماريّ». لكنّ مدح الفترة الأولى، مثله مثل قدح الفترة الثانية، لم يلحظ مسألة الحرّيّة أو خيار السوريّين، ولم يجد فيها ما يستحقّ التوقّف والتأمّل.
شيء مشابه كان قد حصل قبلذاك مع الناصريّة. فلئن أثار انقلاب يوليو 1952 بعض الانتقادات في مصر والعالم العربيّ بسبب قضمه الحياة الحزبيّة، فهذا ما شرع يختفي مع تحقيق الجلاء في 1954، وخصوصاً مع حرب السويس في 1956. مذّاك صار كلّ نقد لعبد الناصر، تمسّكاً بالحرّيّة أو طلباً للديموقراطيّة، يُعدّ هرطقة وخيانة للعروبة ولزعيمها الأوحد.
وحين كان صدّام حسين يخوض حروبه يمنةً ويسرةً، بدا من المستحيل لمؤيّديه تأييده باسم الحرّيّة، وهذا بديهيّ، لكنْ بدا أيضاً من الصعب لمعارضيه معارضته باسم الحرّيّة. فهو قد يُعارَض لأنّه تنكّر للعروبة وتحرير فلسطين بحربه على إيران، أو لأنّه أخلّ بالتزامه حيال الجبهة الوطنيّة مع الشيوعيّين، أو لأنّه أضعف التضامن العربيّ بغزوه الكويت. أمّا الحرّيّة فلا ترد إلاّ في أسفل القائمة.
وهذا كي لا نذكّر بتجارب من العنف «الطليعيّ»، كحكم «الطبقة العاملة» في جنوب اليمن، والحروب التدميريّة التي استدعتها الثورة الفلسطينيّة، والتمجيد النيكروفيليّ لـ»المليون شهيد» في الجزائر. فهذه سياقات وأحداث لم تصدر فحسب عن قرارات مستبدّة، بل ضربت في العنف أرقاماً قياسيّة تبحث دائماً عمّن يكسرها. لقد تراكم، والحال هذه، فائض عنفيّ وإدمان على العنف، بل عبادة للاهوته باسم الثورة أو التحرير.
وقصارى القول إنّ نقد الابن الذي هو «داعش» لم يسبقه إلاّ الاحتفال بأحد أبرز آبائه، وهو الاستبداد، بينما لا يزال محرّماً حتّى الآن التعرّض للقضايا «المصيريّة» التي ولّدها الاستبداد الأب قبل أن يعمّمها. والأمر نفسه يصحّ في ما خصّ آباء «داعش» الآخرين من أفكار وممارسات قروسطيّة لا تزال تُصنّف في خانة المقدّس، ولا تزال تُعتَبَر بعضاً من «أصالتنا» و»خصوصيّتنا» الحميمتين.
لقد تناول «النقدُ» الرائج ابناً من دون أب، ومن دون نقد الإجماعات التي تلتقي حولها الكثرة الكاثرة ولا تشكّ بها إلاّ القلّة القليلة. والنقد الناقص، وهو أقرب إلى أن يكون هجاء، يسفّ أحياناً فيغدو كذاك النقد الوحيد الذي سمحت به بلاطات القرون الوسطى، والذي ما كانت لتسمح به إلاّ لأنّه... تهريج.
لا مبالغة في القول إن العالم يعيش أياماً إيرانية. يتصرف جون كيري كمن يلتفت باستمرار إلى ساعته. يلتقي نظيره محمد جواد ظريف ثم يجول موزعاً التطمينات كي لا نقول الضمادات. واضح أن الغارة التي شنها بنيامين نتانياهو على سياسة باراك أوباما لم تدفع الأخير إلى مراجعة حساباته. الأمر نفسه بالنسبة إلى ملاحظات الحلفاء ومخاوف الأصدقاء. توحي واشنطن بأن أقصى ما يمكن فعله هو السعي إلى اتفاق يمكن الدفاع عنه، وإقناع العالم به. تقول إن العقوبات أوجعت الاقتصاد الإيراني لكنها لم تمنع تقدم البرنامج النووي. تلمّح إلى أن البديل للاتفاق هو الحرب التي لا يريد أحد دفع أثمانها.
ثمة من يعتقد بأن الغرب وقع في الفخ الإيراني منذ سنوات حين ارتضى إعطاء الأولوية للملف النووي الإيراني، مكرساً تغاضيه عن الشق الأهم في البرنامج الإيراني، وهو الدور الإقليمي. بين الذين زاروا طهران في الأعوام الماضية من يعتقد بأنها مهتمة بامتلاك القدرة على صنع القنبلة أكثر من إنتاجها في الوقت الحاضر، وأنها تستطيع إرجاء موعد الإنتاج لأنها ليست مهدّدة بغزو خارجي تشكل القنبلة النووية «بوليصة تأمين» ضده. أول ما فعله أوباما كان إقناع إيران بأن أميركا لا تخطط لعمل عسكري ضدها، ولا تعتبر نفسها معنية بتغيير النظام الإيراني بالقوة.
أشغلت إيران الدول الغربية بمفاوضات البرنامج النووي وسرّعت عملية بناء الدور الإقليمي. في ظل المفاوضات النووية حرّكت بيادقها ببراعة. تكريس الدور لا يحتمل التأجيل. يمكن إرجاء ولادة القنبلة التي قد تأتي لاحقاً، لحماية دور كبير فرضته الوقائع الميدانية.
في ظل انشغال الدول الست بالاقتراحات والاقتراحات المضادة كانت إيران تُحدِث تغييرات كبرى على الأرض. كان أهم ما حققته منع سقوط النظام السوري. كان من شأن إسقاط هذا النظام أن يدمّر الاستثمار الإيراني الكبير في معركة الدور. من دون سورية الحليفة يصبح الدور الإيراني في لبنان محدوداً، كي لا نقول مهدداً. تنتقل المعركة بالكامل إلى المسرح العراقي، أي إلى مكان قريب من الحدود الإيرانية. ألقت طهران بثقلها في المعركة السورية ومنعت انتزاع الحلقة السورية من «هلال الممانعة». كانت المعركة السورية حاسمة، واضطرت إيران إلى تحريك جميع حلفائها أو التنظيمات التابعة لها لتقاتل في الداخل السوري، دفاعاً عن «تحفة» إيران في الإقليم.
يعيش الشرق الأوسط أياماً إيرانية بامتياز. هذا ما تؤكده أي قراءة واقعية للأوضاع. إذا شئتَ اليوم إعادة الرئيس عبدربه منصور هادي إلى صنعاء وإعادة تحريك الحوار بين اليمنيين، عليك أن تتفاهم مع قائد «فيلق القدس» العميد قاسم سليماني. التفاهم يعني أن تعترف لإيران بأنها صاحبة دور كبير في اليمن.
إذا أردتَ اليوم إقناع النظام السوري بالجلوس إلى طاولة المفاوضات مع المعارضات السورية، والبحث جدياً عن حل، عليك التفاهم مع سليماني. والتفاهم يستلزم بالتأكيد التسليم بأن إيران هي اللاعب الخارجي الأول على المسرح السوري. مفتاح الحل في سورية موجود في طهران لا في موسكو.
دعكَ من الحوار بين «حزب الله» وتيار المستقبل. ودعكَ خصوصاً من هذا الحوار الدائر بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع والذي يؤكد هشاشة ما بقي من دور للموارنة. إذا أردتَ رؤية رئيس جديد للجمهورية في لبنان عليك التفاهم مع سليماني. والتفاهم يعني أن تعترف لإيران بدور استثنائي في لبنان، يفوق الدور الذي كان لسورية فيه.
دعكَ من التجاذبات داخل المكوّن الشيعي في العراق. ودعكَ من قدرة نوري المالكي على إحراج خلفه حيدر العبادي. إذا أردتَ تهدئة الصدامات بين المكوّنات في العراق عليك التفاهم مع سليماني. مفتاح الاستقرار على الأرض موجود في طهران لا في واشنطن، على رغم احتكار الطائرات الأميركية للأجواء العراقية. تكفي الإشارة إلى أن واشنطن حرصت قبل إرسال مستشاريها إلى العراق، على نيل ضمانات إيرانية لسلامتهم.
في المقابل هناك من يعتقد بأن الفتوحات الإيرانية أكبر من قدرة المنطقة على الاحتمال. تماماً كما أن القنبلة الإيرانية أكبر من قدرة الدول الست على الاحتمال. ويقول هؤلاء إن التمزقات في العراق وسورية ولبنان واليمن سابقة لظهور «داعش» ومرشحة للاستمرار بعده. وأن الاستقرار في هذه الدول يحتاج إلى استرجاع توازنات بين المكوّنات، أخلّت بها الانقلابات الإيرانية . وثمة من يجزم بأن الأيام الإيرانية مفتوحة على نزاعات مديدة بسبب «أزمة موقع السنّة في الهلال» والمخاوف التركية والخليجية ولأن «القبول بدورٍ لإيران شيء والقبول بزعامة إيران للإقليم شيء آخر».
قد كان الفن في عتمة الفقر الإبداعي طوال عقود حكم الأسد الأب و الابن، و ما يزال خارج نطاق الأمل من بعض الرقي فيه، حيث سُلِبَ معطفه الذي يقيه من صقيع السخافة و التصنّع، فتم تناسي كل أنواع الفنون و وضعها على الهامش حتى اعتقد المجتمع السوري بأن الدراما التلفزيونية السورية هي وحدها تُغني عن كل تلك الفنون السبعة، و هي وحدها القادرة على تمثيل سوريا فنيا و ثقافيا.
انتشر الوباء الفني حين جنّد الأسد كوكبة من الممثلين الذين كُرِّسوا للعمل في الدراما التلفزيونية، و تمتعوا بدعم كثيف من الأسد ذاته عندما أسس قناة سوريا دراما و شراء كافة الأعمال التي لم يتم بثها على القنوات الفضائية الأخرى، ربما لأنها تعتبر نوعا من التسلية و لسهولة مشاهدتها في كل بيت، لكن من ناحية أخرى، كان بمقدور الذي شجّع و ساند الدراما أن يعين و لو بقليل باقي الفنون المغلوب على أمرها و التي أُصيبت بغيبوبة لمدة ليست بقصيرة، بل كان باستطاعته أيضا أن يجعل شعبه يطّلع و ينفتح على العديد من الفنون المنسية و التي كانت على مدى التاريخ وسيلة للتعبير عن الأفكار و الآراء و المعتقدات، و أكثر جرأة لتسليط الضوء على مشكلات الإنسان و المجتمع، و اليوم مازالت قادرة هذه الفنون على إنعاش الفكر، مثل الرسم، النحت، الموسيقا، الرقص، السينما و المسرح الذي يعتبر هو الأب الروحي لكل الفنون.
الممثلون الذين صفقوا للأسد على هذه المبادرة "الحسنة"، لم يكترثوا و لو للحظة واحدة للمأساة التي ستقتحم ذوق المجتمع السوري و الكارثة التي ستهب علينا إذا اعطينا الدراما التلفزيونية أكثر من حقها، حتى وصل البعض إلى تقديس العاملين فيها. رجل المطر.. عمر أميرالاي الذي مات في الغياب دون أن يعرفه إلا القليل من الشعب السوري، كذلك سعد الله ونوس الذي ثارت كلماته على خشبة المسرح، و أسماء كثيرة عاشت و ماتت في مساحة ضيقة من وطنها، لأنها خلقت أعمالا و أفكارا لم تعجب الجنرال في بلدنا.
عملت هذه الأسماء على نقل تطلعات الشعب إلى الشاشة الكبيرة و تبنت كل آراء الشارع في المسارح و قصائد الشعر و اللوحات التشكيلية. لن أتجاهل الجهود التي برزت من شخوص مبدعة و التي حاولت أن تُدخل رؤية إخراجية سينمائية في أعمالها الدرامية التلفزيونية، لتعيد لها هيبتها بعيدا عن "الهشِّك بشِّك" الذي عكّر ذوق مجتمع بأكمله، أبرز تلك الأيقونات هو هيثم حقي الذي تمتع بإبداع راقٍ و تبعه حاتم علي الذي شكّل نموذجا سوريا حضاريا، أما على صعيد النصوص الدرامية هناك الكثير من كتاب السيناريو الذين رفعوا بكتاباتهم قيمة الدراما السورية، مثل يم مشهدي و سامر رضوان و أمل حنا و حسن سامي يوسف، التي كانت نصوصهم تخرج من قلب الشارع السوري و تُشعر المشاهد أنه أمام نص مختلف يفسر له الواقع بكل تفاصيله الحياتية المعقدة. جاءت الثورة السورية أيضا لتكشف لنا عن كذبة تسمى الدراما السورية، لتعيدها إلى حجمها الطبيعي و تعطي لكل من الفنون الأخرى حقها في التعبير و المشاركة في صنع فن سوري أكثر شياكة، عدد كبير من أفلام السينما اليوم التي مثلت الثورة السورية و تشارك في مهرجانات و توّجت بجوائز عالمية بارزة.
"ماء الفضة"، "العودة إلى حمص" و "بلدنا الرهيب".. اغتنت السينما السورية بهذه الأفلام التي كانت مرآة للإبداع. الطوفان سيغرق تفاهة البعث و سياسته، ليعيد الشعب السوري حياكة أيامه و مجده من جديد.
صالح ملص.
مع ارتفاع وتيرة قتال الإيرانيين وحلفائهم إلى جانب قوات نظام الأسد، وتولي الإيرانيين أيضا قيادة حروب القوات العراقية في تكريت وصلاح الدين، يدعو البعض إلى إعادة النظر في السياسة الحالية، والقبول بالتصالح مع نظام بشار الأسد.
وفي رأيي العكس صحيح، تماما. ربما كان التصالح مقبولا في بدايات الأزمة السورية، لكنه اليوم أسوأ قرار يمكن لأي حكومة عربية، خاصة خليجية أن تفكر فيه.
المشكلة ليست مع شخص الأسد بل مع ترِكتِه، وتوأمته مع نظام طهران، والبحر الهائل من الدماء التي أسالها. وقد كان الوعد حينها صادقا بمنحه فرصة الخروج، وحمايته من طالبي الثأر، وفتح صفحة جديدة مع بعض قيادات النظام وتشكيل حكومة انتقالية تجمع كل السوريين بطوائفهم وأعراقهم.
ولا يمكن النظر إلى الحرب في سوريا على أنها مشكلة سورية داخلية، ودون فهم المعادلة الإقليمية، وتحديدا الصراع مع إيران. وفي حال سايرت السعودية نصائح المصريين، أو دعوات المحللين، وقبلت بحل أو مصالحة يبقى فيها الأسد، فإنها تكون قد سلمت كامل الهلال، العراق وسوريا ولبنان إلى إيران! فهل يمكن لأي دارس علوم سياسية أن تفوته النتيجة الحتمية، وهي الهيمنة الإيرانية على شمال الخليج والسعودية؟!
حجة الانزعاج من تركيا و«الإخوان» و«داعش» صحيحة، لكنها ليست سببا لتسليم الإيرانيين سوريا والعراق. نحن في زمن فيه حروب متعددة، والخطر فيها درجات، الإيراني أعظمها، خاصة مع اقتراب عقد اتفاق النووي مع الغرب. وستترجم النتيجة إيران إلى شحنة هجوم غير مباشرة على خصومها على ضفة الخليج الغربية. ومهما وعدنا الأميركيون أنهم لن يسمحوا للإيرانيين بإيذاء جيرانهم فلا يمكن لنا تصديقهم، خاصة أننا نعرف أن قدرات الولايات المتحدة في منطقتنا تقلصت، وسياستها الجديدة صارت التوجه شرقا نحو الصين. لهذا فإن دعم المعارضة السورية المعتدلة سياسيا وعسكريا ضرورة قصوى لعرب الخليج، لحرمان الإيرانيين من سوريا، ناهيك عن كونها قضية إنسانية هي الأدمى في تاريخ المنطقة. لا يمكن للسعودية أن تتخلى عن عشرين مليون سوري مهما كانت الأسباب، ولا يمكن لها أن تغض النظر عن خطر التوسع الإيراني في بلاد الرافدين، ولا يفترض أن نقبل بنظرية مصالحة الأسد حيث لا مكان لها في حسابات الخليج العليا. هل يمكن للسعودية مصالحة الأسد الذي قتل ربع مليون إنسان من أجل محاربة عصابات داعش؟ مستحيل تماما. وكيف لنا إقناع العشرة ملايين مشرد الذين دكت طائرات الأسد بيوتهم وأحياءهم بالتخلي عنهم؟
أما بالنسبة لتركيا، فالمشكلة تتمثل في شخص رئيسها، الذي يسبب هذا الكم الكبير من الشقاق والإزعاج، لكنه وحكومته لم يفعلوا شيئا حتى لحماية مصالح بلادهم الهامة في سوريا، عدا حماية ثم جلب رفات سليمان شاه الذي شبع موتا من مئات السنين.
وعندما تأتي الساعة التي تصبح فيها القضية محل النقاش هي مصير الأسد في أي حرب أو حل سلمي مستقبلي، فإنه لا أحد سيهتم بمسألة الانتقام. فالتركيز اليوم هو على حلين متوازيين، دعم المعارضة المسلحة المعتدلة، الجيش السوري الحر، والثاني دعم أي حل سلمي يقوم على مصالحة كل السوريين، والمحافظة على النظام السوري دون قياداته العليا. ومن دون دعم الجيش الحر، فإن الحل السياسي لا يمكن فرضه بشكل عادل
يحاول مندوب الأسد في نيويورك بشار الجعفري القول الآن بأن الوقت قد حان كي تقبل أميركا والقوى الغربية الأخرى بأن بشار الأسد باق في السلطة، وأن تتخلى عما وصفها بأنها استراتيجية فاشلة تقوم على محاولة تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى جيوب طائفية.
ويقول الجعفري لوكالة «رويترز» عشية الذكرى السنوية الرابعة لاندلاع الثورة السورية إن الأسد مستعد للعمل مع الولايات المتحدة وغيرها لمكافحة الإرهاب، مشيرا إلى أنه يمكن للأسد أن يحقق الأهداف، لأنه قوي يحكم مؤسسة قوية هي الجيش، ويقاوم الضغوط منذ أربع سنوات. مضيفا أن الأسد «يمكنه تنفيذ أي حل»! هل هذا كلام دقيق؟ بكل تأكيد لا! هذه محاولة دعائية أسدية مفضوحة، وتتزايد الآن، والهدف منها هو القول إن الأسد أفضل من «داعش»، ولا بد من التعاون معه ضد الإرهاب، لكن الحقائق تقول إن «داعش» ما كانت لتتمدد، ومثلها «القاعدة» لولا جرائم الأسد، ولعبه بورقة الإرهاب والتطرف، خصوصا أن الأسد هو من أطلق سراح قيادات «داعش»، و«القاعدة» من سجونه، وهو الأمر نفسه الذي فعله نظام المالكي في العراق سابقا.
وهذا ليس كل شيء، حيث كشف مؤخرا عن مراكز تدريب إيرانية في سوريا لتدريب ميليشيات الحوثيين، وبإشراف إيراني تام، وليس لنظام الأسد أي سيطرة على ذلك، ورغم أن التدريب يتم في سوريا التي باتت مقسمة إلى أجزاء يتقاسمها حزب الله والميليشيات الشيعية الإيرانية من ناحية، تحت قيادة الجنرال الإيراني قاسم سليماني، بينما الأجزاء الأخرى في سوريا هي تحت سيطرة «داعش» و«القاعدة»، وجزء آخر تحت سيطرة الجيش السوري الحر. فأي قوة تلك التي بيد الأسد؟ وكيف يوصف بأنه الرجل القوي، بل هو الرجل الكارثة، وليس على سوريا وحسب، بل وعلى كل المنطقة، وحتى على المجتمع الدولي، خصوصا بعد الإعلان أول من أمس عن أن عشرة آلاف مقاتل أوروبي متطرف يتجهون إلى سوريا والعراق.
كل ذلك يقول لنا إن الأسد أساس المشكلة، وهو من حوّل سوريا إلى بؤرة تدريب، وتهريب، للإرهاب الإيراني، وغيره، فكيف يقال بعد كل ذلك إن الأسد هو الحل؟! الأكيد أن الأسد هو المشكلة، وهو الأزمة بحد ذاتها، وخطر الأسد لا يقل عن خطر «داعش»، و«القاعدة»، وحزب الله وإيران، والحقيقة التي سيدركها الجميع أن سقوط الأسد هو الحل، آجلا أو عاجلا، وهذا ما لا تحاول إدارة أوباما فهمه لأنها مشغولة لدرجة الهوس بالتفاوض مع إيران، ويبدو أن واشنطن وضعت ملف الأسد قيد الانتظار حتى الوصول إلى نقطة حسم بالتفاوض مع إيران، وهذا بالطبع يعد عامل هروب للأمام، لأن وقتها سيكون أوباما قد دخل مرحلة البطة العرجاء باقتراب نهاية فترته الرئاسية، وهذا يعني أن الكارثة ستكون أكبر على سوريا، والمنطقة، والمجتمع الدولي، لأن الأسد هو المشكلة، ولا يمكن أن يكون الحل.
علينا أن نُقرّ بأن بشار الأسد فعل المُتوقع منه منذ آذار 2011. فهو لا يتمتع بالخبرة والدهاء الكافي ليلعب بأدوات واستراتيجيات غير تلك التي أورثها له والده.
من يدقق في تلك اللحظات التاريخية التي مرّ عليها أربع سنوات، ويعالج الأمور بموضوعية، سيكتشف أن التاريخ في سوريا سار بالاتجاه المُتوقع له تماماً. فبشار الأسد كان وريث نظام، وليس صانع نظام، لذا لم يفعل أكثر من السير على النهج، ووفق الأدوات، المورّثة له.
كانت المفاجأة الحقيقية لو أن بشار الأسد سار على غير النهج الذي سار عليه في مواجهة الثورة السورية منذ بداياتها. أيضاً الطغمة المحيطة به، خاصة في أوساط العائلة، لم تفعل إلا المُتوقع منها. فهي طُغمة من الشخصيات الوريثة أيضاً، أياً منها لم يكن قد صنع ما وجد نفسه فيه، بنفسه. لذا جميعهم لعبوا وفق ذات النهج والأدوات المورّثة لهم.
أيضاً، الطغمة الأمنية المحيطة بالأسد وعائلته، لم تفعل إلا المُتوقع منها. فتلك الطغمة تدرجت في مناصبها في عهد حافظ الأسد، وتكونت شخصياتها وأدواتها وفق نهج الأسد الأب الذي وصل حدّ النضج خلال أزمة الثمانينات تحديداً. لذلك سلكت تلك الطُغمة نهج الثمانينات ذاته تقريباً، مع فروق محدودة في التفاصيل، لا في الخط العام.
النخب القريبة من النظام فعلت أيضاً المُتوقع منها، فالأسد الأب كان قد أتقن تجفيف البلاد من أي مجموعة منظمة، سياسية كانت أو طبقية أو آيديولوجية أو حتى دينية، إلا إذا كانت من صنيعة النظام، وتحت سيطرته المطلقة. فلا التجار والصناعيون فاجأوا المراقبين الحصفاء كثيراً في ردود أفعالهم، ولا المؤسسة الدينية الرسمية فعلت ما يُخالف ما جُبلت عليه. وبقيت وقفات البعض الشجاعة ضد قمع النظام استثناءات تؤكد القاعدة العامة.
منذ أربع سنوات وحتى اليوم، فعلت كل أطراف المأساة بسوريا المُتوقع منها. الشارع السوري تحرك في الأماكن التي يمكن أن يتحرك فيها بكلفة أقل، وكان أكثر تحفظاً في الأماكن الأكثر صعوبة. فلم تثُر دمشق بالصورة المأمولة. ولم يتخلَ سكان المدن الكبرى عن طبعهم المحافظ والميّال للاستقرار ومهادنة السلطات.
وحينما أوغل النظام في محاولات قمع الحراك السلمي في الأرياف والأطراف، كان حمل السلاح من قبل البعض نتيجة مُـتوقعة، بل ومرجحة. ورغم الإدانات النظرية لخط العسكرة في البلاد، فإن المُتوقع من المُنكل بهم أن يلجأوا لأية وسيلة تخفف من نير التنكيل بهم.
المنظّرون الذين طالبوا بعدم العسكرة، نسوا أن السوريين يفتقدون لعقود، الوعي السياسي، والثقافة السياسية، والأهم، التجربة السياسية. كما أنهم يفتقدون لعقود حنكة التنظيم السياسي.
في مجتمع جففت عقود الاستبداد نخبه وطبقاته من كل حراك مأمول، لا يمكن لأحد أن يتوقع غير رد الفعل.
القوى الإقليمية والدولية اللاعبة على الساحة السورية أيضاً، فعل كل منها المُتوقع منه، وحسب مصالحه. دول عربية أرادت تعقيد الموقف كي يكون درساً لشعوبها، وأخرى إقليمية أرادت استغلال الموقف لتحقيق آمال امبراطورية، وثالثة دولية وجدت في الفوضى المضبوطة، إلى حين، أفضل الوسائل لتحريك اقتصاد السلاح المؤثر في صنع القرار فيها، ومن ثم، مستقبلاً، تحريك شركات إعادة الإعمار التي تغذي رأس مالها.
في خضم كل ما سبق، كان من المُتوقع أن يلجأ المُنكل بهم إلى البعد الروحي لتبرير معاناتهم، ولشحذ هممهم. وكان من المُتوقع أن يخلق ذلك الظرف المُلائم لانتشار فيروس التفسير الطائفي للأحداث، ومن ثم سيادته على كامل المشهد. ووسط هذا الواقع، حيث الفوضى تعمّ، والحدود سائبة، كان من المُتوقع أن يُطل التطرف برأسه، في أبشع صوره.
كان من المُتوقع في مجتمع رصد فيه الجار جاره، في عهد الثمانينات، ليتربص به زلاته، حيث "للجدران آذان"، والجميع يخاف من "كتبة التقارير"، ألا يتماسك هذا المجتمع، وأن تطفو إلى السطح الأمراض الطائفية والمناطقية والطبقية، التي كانت شفهية في البيوت وفي اللقاءات المتجانسة فقط، لتتحول إلى سلوكية وفظة أثناء الاحتكاك بالشريك المغاير في الوطن.
قصة سوريا وفق ما سبق، كانت وما تزال مُتوقعة. تسردها قصص التاريخ في أكثر من بلد، وأكثر من تجربة. لذا فالمُتوقع أيضاً أن تسير الأمور، في قادم الأيام، وفق المُتوقع.
أن يسقط نظام الأسد في نهاية المطاف، وأن ينشأ نظام استبداد جديد، أقل وطأة نسبياً، لكنه أكثر فظاظة أحياناً. وأن يدوم هذا النظام الفترة المطلوبة لإشباع الرغبة للاستقرار المفقود خلال سنوات الأزمة، ومن ثم يحدث حراك آخر، تكون قياداته أكثر حنكة بحكم التجربة المريرة السابقة، وتكون قواعده أكثر وعياً بما قد تؤول إليه الأمور بحكم التاريخ القريب الذي علمهم، ويكون رد فعل النظام القائم حينها أكثر حنكة، ووعياً، حيال ما يمكن أن يحدث له ولحاضنته، إن سلوك الطريق ذاته الذي سلكه سابقه، وأن يُختتم المشهد، بعد عقود، كما اختُتم في تجارب عديدة سابقة، بديمقراطية لها طابعها الخاص، السوريّ، الذي يؤسسه أبناؤه كما يناسبهم، ويناسب تكوينات طيفهم.
لا ينفي ما سبق أن غير المُتوقع لن يحدث، فالتاريخ مليء بالمشاهد غير المُتوقعة، من قبيل "القيادات الكاريزمية" التي تغير مسار تاريخ بلدها مثلاً. في الحالة السورية لا شيء ينبئ بغير المُتوقع. أما الأفق الزمني لتتابع المشاهد وصولاً للخاتمة، فذلك هو غير المُتوقع الوحيد في التاريخ. في كل الحالات التاريخية، لا يمكن الجزم بالمدى الزمني المطلوب لإنضاج النقلات النوعية في حياة الشعوب والبلدان.
إذاً في سوريا، المستقبل مُتوقع، لكن متى نصل إليه، هو تحديداً غير المُتوقع.