ها نحن ندق خامس أعمدة الثورة التي انطلقت قبل أربع أعوام أو سنين ، كانت جميلة بأصواتها .. بزغاريدها .. بخروجهم من سجن فاق المؤبد بشوط كبير، مريرة بمآسيها .. آلامها .. أوجاعها .. فقدها و خسائرها ، معاداة عالم بأكمله ... فهي وُلدت يتيمة ..
أربع سنوات من العذاب بكل أصنافه و أشكاله .. أربع سنوات من الآلام بكل أنواعه و مستوياته .. أربع سنوات من التشتت بكل موبقاته و عيوبه .. أربع سنوات من الموت بكل درجاته و تدرجاته ..
أربعة أعوام من العمل بكل ما نملك و ما يتجاوز حدود الملكية .. أربعة أعوام من الحرب المشرفة بكل مكان و زمان .. أربعة أعوام من المواجهة المتواصلة والمتتابعة والمتتالية ...
كثير ما نتسأل حول نستمر بالثورة .. و لماذا نتابع في طريق فيه هذا الكم الهائل من الأشواك و العقبات .. الخلافات و التضاربات .. طريقٌ فيه من تشابكات المصالح و تصارعها ما يكفي لان يكون سبب لحرب عالمية ثالثة و رابعة و خامسة ...
لماذا نستمر ؟؟
لا يمكن ان نجيب على هذا السؤال من وجهة نظر كلامية أو فلسفية .. بل يجب أن يصدر هذا الأمر ممن له حق الاكمال او عدمه ، وهم أصحاب الدم .. أصحاب الألم .. أصحاب الفقد .. أصحاب الحق .. وأصحاب الدية ...
نعم هم من لهم الحق الوحيد في القرار والإقرار والتنفيذ ... فهم على الأرض و هم المالكون الوحيدون .. و هم المنفردون في أي سبيل يسيرون عليه .. و كل ما عداهم هم عبارة عن أغنام لا يصدر عنها إلا أصوات أو رنين الأجراس في الرقاب ، لا تأثير لها إلا كضوضاء في الآذان.
ثورة تستحق أن تستمر .. لدموع الأطفال .. لكسر الأمهات .. و قهر الرجال .. لوجع الكبار .. ثورة تستحق أن تستمر لتكمل مشوار بدأه شرفاء ، أنقياء ، أطهار .. أعلنوا البداية و قدموا العربون .. وأرواحهم هي من تحاسبنا وتوجهنا ...
أربع سنوات من الحرب المستمرة منذ أول كلمة "حرية" .. و حتى لنقضي على "الرافضية" .. مصطلحات وتدرجات دخلناها مرغمين صاغرين ... فهم من دفعنا ...
ثورة تستحق أن تستمر بنفس أقوى .. و عزيمة أكبر .. فالقضية لم تعد قضية نظام و بشار الأسد و ما إلى ذلك من الألعاب .. فالقضية باتت قضية أمة .. تعاني من مخاض الولادة من الجديد .. الولادة من رحم الموت الذي يحاصرها .. الذي يحاول إنهائها ..
ثورة على مدى أربع سنوات بقيت صامدة في وجه هذا الكم الذي لا يحصى من الأعداء و المصاعب ..
ثورة على مدى أربعة أعوام ، تقدمت و كسرك كل شيء .. نجحت و تجاوزت آلاف المطبات ..
ثورة على مدى أربع أعوام أو أربع سنوات .. استمرت بهذا الزخم .. فهي ثورة تستحق أن تستمر .. ثورة تستحق أن تنتصر ...
شنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» هجمات غير متوقعة على منطقة تقع في أقصى شمال شرق سوريا وتضم قرى صغيرة جدا سكانها من الآشوريين (السريان) ممتدة على شريط يحاذي مناطق يسيطر عليها أكراد سوريون، وكانت غالبية هذه القرى خالية من سكانها منذ أشهر وليس فيها سوى عدة مقاتلين لحماية أملاك السكان، واختطف التنظيم نحو 250 آشوريا هم بقايا السكان في هذه القرى، وتسبب الخوف في نزوح عدة آلاف منهم من قرى أخرى مجاورة.
أدانت المعارضة السورية ما قام به التنظيم الإرهابي واعتبرته عملا لا يمثل الثورة ولا يمثل الإسلام ومرفوض بكل المقاييس، وتعهّدت قوى الثورة بالدفاع عن الأقليات التي تتعرض للإضطهاد، وكرروا اتهامهم للنظام وإيران بأنهم هم من صنعوا تنظيم الدولة، ووجهت الأحزاب والمنظمات الآشورية نداء استغاثة إلى المجتمع الدولي للتحرك لمنع وقوع مجزرة بحقهم وتوفير الحماية لهم، وكذلك أدان المجتمع الدولي هذا العمل واعتبره محاولة لإفراغ المنطقة من مسيحييها.
الآشوريون الذين اشتهروا في التاريخ القديم بصيد الأسود، وعُرِفوا بالقوة والبأس، وبتطوير وسائل الدفاع والحصار وأدوات القتال، اصطادتهم الوحوش هذه المرة، وليس غريبا أن يتضامن معهم الشعب السوري، مسلمين وغير مسلميـن، فهم السكان الأصليون للمنطقة، علّموا العالم الأبجدية، وساهموا في تأسيس علم الفلك وبرزوا في فنّ النحت، وُجِدوا قبل المسيح بسبعة آلاف سنة، وإلههم (آشور) غير منظور، نافسوا بابل ومصر على زعامة العالم القديم، وانتصروا على هذه الممالك، وهم من أوائل الشعوب التي اعتنقت الديانة المسيحية، وساهموا في نموّ هذه الديانة لاهوتيا، ثم هزمهم البابليون، فأسسوا حكما آخر أصغر بكثير، وحماهم الـرومان، ثم غزاهم الفُرس الذين قضوا على ما تبقى من دولتهم.
لكن بالأساس، وبعيدا عن سرديات التاريخ والشراكات الوطنية، يُطرح سؤال ملحّ: لماذا هاجم تنظيم الدولة الإسلامية هذه القرى الآن، رغم أنها منذ نحو سنة كانت تقع تحت مرمى نيرانه وعلى بعد خطوات من مقراته ومعسكراته، ومع ذلك لم يهاجمها مطلقا؟ ربما تساعد معرفة الأسباب في فهم الحالة السورية وما يمكن أن يحمله المستقبل.
أجمع المحللون، ومعهم المعارضة السياسية السورية، والآشوريون أنفسهم، على وجود ثلاثة أسباب لا رابع لها، دفعت التنظيم المتشدد، المنفلت عن عقاله، إلى مهاجمة من يدعوهم السوريون “ملح الأرض”، ولا بد من التنويه بأنه يصعب، على الصعيد الشخصي، تبنّي أي من هذه الأسباب.
أولى هذه الأسباب تبنّاها آشوريون، وخلاصتها انتقام الدولة الإسلامية من المواطنين الآشوريين الذين دافعوا عن أرضهم في وجه التنظيم إلى جانب المقاتلين الأكراد في حرب عين العرب (كوباني) وما حولها، فانتقموا منهم بسبب مساعدتهم لوحدات الحماية الشعبية الكردية والبيشمركة، حيث رأى التنظيم أن هذه القرى هي نقطة ضعف يمكن من خلالها المرور إلى الحسكة، وهي منطقة فيها خليط مسيحي كردي عربي، وأخذوا رهائن لضمان عدم قصف التحالف الدولي لهم.
لماذا هاجم تنظيم الدولة الإسلامية هذه القرى الآن، رغم أنها منذ نحو سنة كانت تقع تحت مرمى نيرانه وعلى بعد خطوات من مقراته ومعسكراته
السبب الثاني تبنّاه سياسيون غربيون، خلاصته أن التنظيم المتطرف قرر فتح جبهة جديدة ضد المسيحيين للتأكيد على أن حربه موجهة ضد الغرب، ولتشتيت التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، لكنّ هذا السبب قد ينطبق على تنظيم الدولة الذي لا يتوانى عن فعل أي شيء لتحقيق إستراتيجيته، وينطبق بنفس الوقت على النظام السوري الذي لعب بورقة الأقليات في أكثر من مرحلة، فجيش النظام لم يكن يبعد أكثر من 20 كيلومترا عن القرى التي اجتاحها تنظيم الدولة الإسلامية، وهو يمتلك طيرانا ومدافع وقوات برية، لكنّه لم يتدخل بالمطلق ولم يقصف التنظيم أثناء تقدّمه، وربّما سهّل عليه التقدّم بوقوفه موقف المتفرج، فمن مصلحته أيضا تخويف الغرب من “إرهاب” الثورة وتشتيت التحالف.
السبب الثالث تبنّاه معارضون سوريون، وهو يتعلق بموقف الأكراد، فقد سارع الأكراد إلى الهجوم على تنظيم الدولة في هذه القرى، وهي أول مرة تهتم فيها القوات الكردية بمقاتلة التنظيم في أي مكان بسوريا لا يسكنه أكراد، واتهمتها المعارضة السورية، علنا ورسميا، بأنهم وبعد أن استعادوا بعض القرى الآشورية قاموا بحرق الكثير من البيوت وهجّروا سكان قرى أخرى مجاورة يقطنها مسلمون وحرقوها.
تبنّى بعض السوريين فرضية وجود مصلحة للأكراد في تهجير مسيحيي المنطقة لأن قراهم تدخل ضمن خارطة يوزعها الأكراد لدولتهم التي ينشدونها تحت اسم “غرب كردستان”، ويريدون إخلاء المنطقة برمتها من أي تجمع قومي ليسهل عليهم لاحقا ضم المنطقة إلى إقليمهم، خاصة أن الآشوريين يعتبرون ثالث أكبر قومية في سوريا بعد العرب والأكراد.
ويذهب البعض الأكثر تحفظا ضد الأكراد، ليُذكّر بأن ما حصل مع آشوريي سوريا كان قد حصل سابقا مع آشوريي العراق حين سيطر الأكراد على الشمال خلال الحرب العراقية، وطردوا الآشوريين والسريان من قراهم واستوطنوها ليوسّعوا رقعة إقليمهم.
ثلاثة أسباب بعضها متناقض، وبعضها يمتلك البنية الأساسية ليكون سببا مشتركا لمنفعة ثنائية لهذا الطرف أو ذاك.
وتحظى هذه الأسباب بمن ينفيها وبمن يدافع عنها ويتبناها، ومن يشتم من يطرحها، لكنها في واقع الأمر أسباب لا بد من الوقوف عندها، والأيام المقبلة ستدل على المستفيد الأكبر.
في كل الحالات، ما يتعرض له الآشوريون هو جزء مما يتعرض له السوريون من مؤامرات، ورغم كثرتها على هذا الشعب المسكين، إلا أنها لم تغيّر البوصلة، فالهدف الأول للثوار (بما تحمله الكلمة من معنى نبيل) ما زال القضاء على الديكتاتورية والظلم والطائفية والتمييز.
لم تبق في سوريا قومية أو طائفة إلا وتضررت من الحرب التي يُصر النظام السوري على أنها “حرب ضد مؤامرة كونية”، ولم تبق أقلية أو أكثرية إلا وتشردت وهرب خيرة من فيها، وما لم يتم وضع حد حاسم لهذه الحرب، فإن القادم سيكون أسوأ، ليس بالنسبة إلى الأقليات فقط، وإنما بالنسبة إلى كل السوريين.
جريمة بحجم الإبادة السورية لا يمكن لجهة مهما كانت ادعائها ، بأنها مطلعة على كافة الأمور الميدانية و تمتلك ناشطين و خبراء و ما إلى ذلك ، لا يمكن لها أن تحصر حجم الخسائر في رقم معين و تطرحه للتداول العالمي ، فالخطأ هنا ليس خطأ مقبول أو جائز الحصول ، إنما الخطأ هنا هو الخطأ القاتل والذي ينهي مسيرة عملية طويلة ، سيما إن شاب هذه المسيرة آلاف إشارات الاستفهام و التعجب.
ولعل اعلان المرصد السوري لحقوق الإنسان عن تمكنه من "توثيق استشهاد 12751 معتقلاً، داخل معتقلات وسجون وأقبية أفرع مخابرات نظام الأسد ، منذ انطلاق الثورة في 18/3/2011 و حتى اليوم " ، هو الخطأ القاتل الذي ارتكبه المرصد ، و للأسف ليس بحقه كوسيلة إعلامية حقوقية ، إنما بحق شعب بأكمله ، و قدم خدمة كبيرة لجميع من هاجم الشعب السوري ليقول أن كل ما تتحدثون عنه و عن عشرات آلاف الشهداء تحت التعذيب أو مئات آلاف المفقودين ، ما هو إلا غثاء لا يمت للصحة إطلاقاً .
لستُ هنا أقف موقف المهاجم على المرصد السوري لحقوق الإنسان ، و جميع العاملين فيه ، و لا أبخث حق أي منهم ، لكن أن تختصر الرقم بـ 12751 ، في حين أن صور ما بات يعرف بـ "القيصر" وحدها وثقة 11 ألف شهيد تحت التعذيب داخل رقعة جغرافية واحدة أو جزء من سوريا ، فكيف بعد أكثر من عام يخرج المرصد بهذا الرقم .
و لا يبرر للمرصد الإشارة إلى أن هذه الإحصائية "لا تشمل مصير أكثر من 20 ألف مفقود داخل معتقلات قوات النظام وأجهزته الأمنية، وآلاف آخرون فُقِدوا خلال اقتحام قوات النظام والمسلحين الموالين لها لعدة مناطق سورية، وارتكابها مجازر فيها، الذين يخشى المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن يلقوا مصيراً كمصير آلاف المعتقلين، ممن تمكن من توثيق استشهادهم في معتقلات النظام السوري" ، فهو حديث كذر الرماد في العيون.
مهما اختلفنا في المجريات على الأرض و كيفية النظرة إل الأمور و تطوراتها و تحولاتها، لكن لا يمكن أن يصل الأمر إلى التلاعب بمشاعر أكثر من تعرض للظلم ، و القهر و التغييب و الحرمان و الألم .. ألا وهم المعتقلين.
شخصياً أتمنى تلافي هذا الخطأ و سيما في هذا التوقيت مع اقتراب اشعال الشمعة الخامسة لإنطلاق ثورة العز و الكبرياء .. ثورة التضحية .. الثورة التي ستغير ليس مكان بعينه ، إنما ستقلب موازين كثيرة .
أعادت تسريبات "القيصر" إلهاب جرح لم ولن يندمل أو يعرف العلاج أو الشفاء مهما تعددت الحلول و تنوعت و شملت على كل شيء كان سبب في هذا الشقاء...
جرح غائر لن يلتئم لو رحل بشار الأسد و كل مجموعته المجرمة .. لو زالت ايران و اختفت .. لو انتهى العالم المتخاذل من شرق لغربه .. من شماله لجنوبه ..
صور "القيصر" هي عبارة عن إعادة تحريك السكين المغروسة داخل أرواح جميع السوريين ، إعادة نقل السم ليقضي على ما تبقى من اجسادنا الهزيلة و أرواحنا الميتة ...
55 الف صورة لـ 11 انسان هم جزء بسيط من عشرات بل مئات الآلاف الذين غابوا عنا قصراً في أشد الأماكن حلكة و ظلمة و قهر... اشد الأماكن كره و حقد و موت .. مرت عليهم أشد الأيام طولاً وأكثر الساعات مشقة وأصغر الثواني كدهور...
تجرعوا من الألم ما يكفي لأن توّلد أحقاد و نيران داخلهم و داخل عوائلهم و كل شعبهم لن تنطفئ بأن وسيلة مهما كانت أو أي عدالة بشرية مهما ارتقت ..
لا يمكننا مجرد التخيل ما معنى أن يموت الإنسان تحت التعذيب .. و لا يمكن وصف حجم الألم الناتج و المستمر و المتواصل .. و لا يمكننا تحديد مدى بطئ و عنف و شدة ساعات الوجع التي أدت إلى الارتقاء في نهاية المطاف كطير يحلق في سماء الشهادة ..
صور شهدائنا المعتقلين ، الذين تم قتلهم بكامل الإصرار و ترصد ، لن ُتنسى لو تغاضى عنها العالم بأسره .. لو نامت البشرية جمعاء .. صور لن ينساها أي سوري وُجد حاليا أو سيوجد في المستقبل ... صور ستلاحق مرتكبيها .. كما ستلاحق كل من خذلهم .. و ستلاحقنا أيضاً إن صمتنا أو رضينا بحل غير اقتلاع كل من شارك لو بحرف أو اكتفى بالصمت ..
لن يكون أي تسوية أو كلام أو تفكير مالم يكن الذين مازالوا داخل غياهب الموت على رأس القائمة .. مالم يكن حساب من ارتكب هذا الفعل الذي يتجاوز حد الجريمة بأشواط على رأس القائمة .. مالم يكن الموت أو الأشد من الموت عقوبة من اقترف هذا الأمر الذي يخرج عن الوصف ...
لن يكون علاج مئات آلاف القلوب التي ذبلت و ماتت حنقاً ، غضباً ، ألماً ، كمداً ، على فلذات الأكباد و أبناء الروح ، و رفقاء الدرب ، و نجوم المستقبل ، و نور الحاضر ، لن يكون العلاج بمسكنات أو بأفكار تدريجية ... فالأمر ليس قضية شخصية .. فالأمر قضية أمة .. أمة أُريد لها الفناء بكل الأشكال والممارسات التي عُرفت أو التي لم تُعرف بعد.
غالباً ما تُقدم مقاربة مقلوبة لتصورات الحل في سورية. يجري الآن تداول خطط وتصورات مرحلية وموضعية من نوع خطة المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا لوقف القتال في حلب. ويذكّر كتاب وسياسيون بأهمية «الحفاظ على الدولة» في سورية والفصل بينها وبين نظام بشار الأسد، فيما لا يمانع معارضون بقاء الرئيس الحالي في منصبه إذا أوقف التدمير وسمح بعودة اللاجئين ما يتيح الانطلاق إلى مرحلة جديدة من عملية التغيير الطويلة في البلاد.
تتأسس هذه الآراء إما على فهم مجتزأ لطبيعة النظام السوري، وإما على تأييد ضمني لسلوك الأسد والمحيطين به ورعاته الخارجيين، وإما على تفكير رغبوي يصبو إلى رؤية الأفكار تتحول إلى حقائق مادية من دون امتلاك القدرة الفعلية على إخراجها إلى حيز الواقع.
المسألة لم تكن في يوم، منذ انطلاق الثورة قبل أربعة أعوام، في ما يقبل به الشعب السوري والمعارضة وفصائلها المسلحة – بغض النظر عن مهازل من تنطع لأداء دور الممثل السياسي للثورة، أي «المجلس الوطني» ثم «الائتلاف»- المسألة، كل المسألة، في تصور النظام لمستقبل البلاد ومصير النظام ووصولاً إلى ما ينتظر المعارضة والمعارضين.
سلسلة معقدة من الاختبارات والفرص التي قُدمت للنظام، ابتداء من زيارات مبعوثي الدول العربية والمجاورة بحثاً عن تسوية ما وإصلاح معقول يوقفان الانهيار الماثل أمام الجميع، وصولاً إلى اجتماعات موسكو الكوميدية، لم يغير فيها الأسد ورعاته مقدار أنملة ما يرونه طريقاً للحل: بقاء النظام كما هو واستسلام السوريين، جميعاً، لمصيرهم المحتوم.
واليوم، ومع اقتراب إيران، الراعي الأكبر والأشرس لبشار الأسد، من تحقيق انتصار تاريخي بتوقيعها الاتفاق النووي مع الغرب، يبدو شديد الاغتراب عن الواقع وعن فهم ألف باء السياسة في هذا الجزء من العالم، من يتصور للحظة أن الأسد سيقبل بأقل من رؤية رؤوس أعدائه مرفوعة على الحراب.
وواهم بالقدر ذاته من يظن أن النظام الذي كرس جزءاً مهماً من حربه على السوريين لفرض تغيير ديموغرافي في المناطق التي يعتبرها مفيدة له، سيقبل بعودة اللاجئين إلى بيوتهم. تعديل الطبيعة السكانية قضية لا تحتاج إلى إثباتات. ومن يشك، فليسأل مهجري القصير ويبرود وغيرهما من الموجودين على بعد كيلومترات قليلة عن بيوتهم عن السبب الذي يجعلهم يقيمون في الخيام ولا يعودون إلى قراهم. هذا ناهيك عن وقف القتال سواء في حلب أو في حوران.
وأمام الطريق المسدود الذي بلغته الثورة، قد تلاقي محاولات ترميم صورة النظام السوري بعض النجاح عن طريق ربط مصيره بالصفقة الكبرى الأميركية – الإيرانية، لكن ذلك سيعيد التأكيد على ما يتجاهله دعاة «الحفاظ على الدولة ومؤسساتها» من أن النظام هو الدولة والدولة هي النظام ولا يمكن التفريق بينهما إلا في افتراضات ذهنية لا مكان لها في الواقع.
بمنطق الالتصاق بين الدولة والنظام نشأت الميليشيات الموالية وبالمنطق ذاته يتمسك النظام وإيران ببقاء بشار الأسد باعتباره الممر الإجباري إلى الحل. وهذا لا يزيد، حكماً، عن ارتهان النظام ارتهاناً كاملاً للمشروع الامبراطوري الإيراني خارجياً، والاستمرار في حكم العائلة المسلحة، داخلياً، إلى أن يقضي الله أمراً.
أسقطت سياسات إيران جميع أنواع السياسات العربية السائدة، وخصوصاً منها سياسة "نتركهم بحالهم فيتركونا بحالنا"، وسياسة "نستطيع احتواء خطرهم بالتقارب منهم واسترضائهم"، وسياسة "دولتنا وحدها تستطيع ردعهم"، وسياسة "نقوي سلطتنا فيهابوها ويخشوا مواجهتنا"، وسياسة "لا يمكن أن يكونوا على ذلك القدر من السوء الذي يشتهرون به"، وأخيراً سياسة "لسنا بحاجة إلى أية سياسة حيال إيران، فهي دولة مسلمة وجارة وشقيقة، وتريد لنا ما نريده لها من خير".
صار من الواضح أنه ليس لدى العرب سياسة فاعلة تجاه إيران، وأنهم تركوا جميع المنافذ التي يمكن أن تتسلل منها إلى ضعفهم، داخلية كانت أم خارجية، مفتوحة على مصراعيها. وبدل أن يدرسوا بدقة وشمول وهلع النتائج التي يمكن أن تواجههم بعد قيام وتكريس نظام طائفي، يحكمه معصومون/مقدسون، يعتبرون أنفسهم وكلاء عن الله وناطقين باسمه، أعلنوا حتى قبل نجاح ثورتهم تصميمهم على تصديرها إلى جيرانهم، المسلمين طبعاً الذين تستطيع "الثورة" استغلال عواطفهم الدينية، وسذاجتهم الإيمانية، لاختراقهم والتلاعب بهم، بالتلازم مع وضع يد طهران على قضاياهم، وخصوصاً منها قضية فلسطين، وتحويلها إلى سلاح ابتزاز موجه إلى صدورهم، تنزع إيران بواسطته شرعية نظمهم الوطنية و"الجهادية"، وتحفر هوة توسعها باستمرار بينهم وبين قطاعات كبيرة من شعبهم، بينما تعمل على نقل ولائهم إلى نظامها وقادتها، وتحرص على تعميق يأسهم من حكامهم، وتوطيد اقتناعهم بأن قضاياهم صارت في أيديها الأمينة، وأنها ترسم سياساتها، وتحدد أهدافها في ضوء قيمهم الدينية، ورغبتها في
"صار من الواضح أنه ليس لدى العرب سياسة فاعلة تجاه إيران، وأنهم تركوا جميع المنافذ التي يمكن أن تتسلل منها إلى ضعفهم، داخلية كانت أم خارجية، مفتوحة على مصراعيها"
حمايتهم والدفاع عنهم، انطلاقاً من واجب ديني يحملها أعباء، ولا يعود عليها بأية منافع غير خدمة الإسلام والمسلمين، فلا بأس إن هي نظمت، لهذا الهدف المفعم بالرغبة في التضحية من أجلهم، الفئات الموالية لها ومولتها وسلحتها، وأسست لها جيشاً، لا ضير إن كان بقوة جيش الدولة أو أقوى منه، ما دام خارجي المهام، ولن يقاتل غير الصهاينة والأميركيين، أو يتوقف يوماً عن الجهاد من أجل تحرير فلسطين. اليوم، يقف العرب أمام عجزهم وغفلتهم، وهم يواجهون جيوشاً داخلية تنوب عن الجيش الإيراني في غزو بلدانها، وإخضاعها لطهران وحكامها الأطهار (قدس الله سرهم)، وإطاحة الدولة المحلية ووحدة الشعب والمجتمع، باسم ثورتهما بقوة السلاح.
هذه استراتيجية سياسية إيرانية، وليست مؤامرة، يكفي الرد الأمني لإحباطها. لذلك، من المحتم مواجهتها باستراتيجية مضادة، تبني على تفوق العالم العربي على جميع جيرانه، في كل ما يتعلق بالعناصر المعطلة، كالقدرات البشرية والموارد والثروات والخبرة الحضارية والتاريخية، ولا تبنى على خلافات النظام وضعفه وتناحره، وتجهيل الشعوب وتجهيلها وإفقارها، على أن تكون داخلية الأبعاد أيضا، وتطاول طبيعة النظم وآليات اشتغالها وعلاقاتها بمجتمعاتها، في إطار ما هو ضروري جداً من شراكة بينهما، وأن تغطي الدول الإقليمية والعالم الخارجي. هذه الاستراتيجية التي تتخطى قدرات أية دولة، وستطبق كي تنجح على مستوى عابر للدول، من المنطقي والحتمي أن تكون عربية المنطلق والمآل، تعيد إلى الانتماء العربي أبعاده الضائعة، حتى في حال انطلقت، أولاً، من بلد واحد، أو تجمّع بلدان بعينه، فالأساس في الرد أن يضم قدرات البلدان والشعوب العربية، ويوجه طاقاتهم الهائلة نحو ما سيرسمه لها من أهداف عليا، تحققها سياسات متطابقة، أو متكاملة، تكورهم حول ذاتهم، وتحصّنهم بقوة واقع أن العرب هم وسيبقون أمة واحدة، وعليهم التصرف ككيان واحد، يحمي كل جزء منها باقي أجزائه، كما لو كان الخطر البعيد عنه يستهدفه هو أيضاً، ويهدد وجوده.
لن يصد الخطر الإيراني خصوصاً، والخارجي عموماً، أي رد محلي أو جزئي مقطوع الجذور بباقي أجزاء الجسد العربي، كما لم ينجح من قبل في صد الخطر الصهيوني. ومع أنني لا أقلل من أهمية الرد الوطني، بل وأعتبره حاسماً في التصدي لأي معتد، فإنني أؤمن بأن طابعه تغير، وأنه فقد الكثير من طاقاته التعبوية والمعنوية، بعد تراجع البعد العربي في السياسات المحلية، وأنه في سبيله، اليوم، إلى التلاشي، تحت وطأة ما ينزل بنا من هزائم في كل مكان، ويبرز من أخطار تعجز، اليوم، أية دولة عربية عن مواجهتها منفردة، إلا إذا كانت تريد أن تتعرض للدمار الكامل والشامل، بقوة التعاون بين إيران واختراقاتها الداخلية التي تمتلك جيوشاً تتمتع بقوة تدميرية كبيرة، كما حال حزب الله في لبنان وسورية، والحوثي في اليمن.
ليست هذه دعوة إلى تجديد الصراعات العربية/ العربية التي قتلتنا في الماضي باسم الوحدة القومية؟ إنها دعوة إلى التقدم نحو زمن عربي، يحمي العرب فيه وجودهم ودولهم بمشتركاتهم الجامعة، وبما بينهم من مقومات تحول دون جعل الدول القائمة محل إنكار وصراع، يدفعهم إلى ممارسة أوسع قدر ممكن من التعاون والشراكة، فيما بين بلدانها.
إيران موحدة ومركزية وعدوانية، وتمتلك مرتكزات منظمة ومسلحة داخل بلداننا. ولن ننجح إذا لم نواجهها بعالم عربي موحد الإرادة والوسائل والأهداف، لا يفيد من قدراته الذاتية وحدها، بل كذلك من قدرات العرب الذين يعيشون داخلها، وهم في أسوأ حال، تحيق بهم أخطار الاستيطان الفارسي والطرد من وطنهم.
لا محل، من الآن فصاعداً، لأنصاف السياسات والمواقف حيال إيران. يكفينا العراق ولبنان وسورية واليمن، حيث يذبح أتباع إيران شعوبنا ويدمرون بلدانها، بمشاركة مباشرة من كبار قادتها وجيشها. من يؤمن بأنصاف الحلول والمواقف يجد نفسه، ذات يوم غير بعيد، لاجئاً في خيمة أو في فندق فخم، وسيدركه القتل والإذلال، ولو كان في بروج مشيدة. عندئذ، لن يبقى له غير البكاء على أطلال وطنه وحكمه.
عام رابع ينقضي على انتفاضة السوريين ضد الاستبداد وسلطة التسلط والقمع، في انطلاقة تاريخية جسدتها الثورة السورية، تحت هدف رئيس وجامع هو الحرية والكرامة، في بلد رزح تحت طغمة أمنية عسكرية حاكمة باسم البعث منذ 1963، صادرت الحريات الأساسية للمجتمع السوري، ووضعت حدا لمخاضات الدولة المدنية، التي كانت تتشكل حتى قيام الوحدة السورية المصرية، التي كانت سباقة بدورها، في وأد الحياة السياسية السورية، وصولا إلى استراتيجية ممنهجة لعسكرة المجتمع والدولة بتنظيمات شعبية غير حكومية، غير مستقلة، تدين بالولاء للمؤسسات الأمنية البعثية، التي تفردت بحكم سوريا لما يزيد عن أربعين عاما، ولا تزال حتى اليوم، عبر ما عرف بقانون الطوارئ، وملاحقة المثقفين والسياسيين، ذوي الانتماءات اليسارية المدنية، باستخدام كل وسائل التصفية والتغييب القسري بمختلف أشكالها.
واجه نظام الأسد الثورة ببطش وفظائع متواصلة، موصوفة كجرائم حرب وفق القانون الدولي الإنساني، وأجبر السوريين على حمل السلاح، للدفاع عن أنفسهم وحماية أعراضهم وممتلكاتهم وعن حقهم المشروع في المطالبة بالحريات والحقوق. كانت سياسات النظام، أكثر مما يمكن تصوره، مع إدراك مبلغ الاحتراف في القتل والتدمير. لكن المجتمع الدولي الذي يمتلك القدرة، عبر أدوات سياسية بالدرجة الأولى، لم يكن ينظر إلى ما يحدث سوى أنه تمرد لقطاعات وطنية سورية مسلحة إسلامية، تاليا، ضد السلطة الحاكمة في دمشق، ترتب على هذه القناعة، إيهام السوريين بتقديم الدعم للثورة وقوى حراكها الوطني، لكن التغاضي عن جرائم الأسد كان الحقيقة التي استطاع الأسد الإستفادة منها إلى أقصى درجة، وصلت اليوم إلى المجاهرة بإمكانية إعادة تأهيل النظام للانخراط في تسوية سياسية، لا يرى الغرب بديلا عنها طالما أنه لا يريد لأي طرف أن يحقق تقدما يفرض الذهاب إلى التفاوض.
عززت السنوات الأربع من عمر المواجهة بين قوى الثورة ونظام الأسد، جملة معطيات تتأصل كسمات وظواهر للصراعات، وتتعمق كحقائق في مسار الحالة السورية وهي:
أولا؛ انقسام قوى وتيارات المعارضة السورية، التي لم تستطع مؤسسات المعارضة، التخفيف من حدتها، أو أن تفضي إلى حوار بناء فيما بينها.
أدت التناحرات والانقسامات وعمليات الإقصاء والتهميش والفساد المالي والإداري، وتسلط تيارات على أخرى واستئثارها بالقرار في مختلف مؤسسات المعارضة، إلى فشلها، وانعكاس ذلك على الثورة السورية، تتحمل مسؤولياته القوى المكونة للائتلاف والمجلس الوطني.
ثانيا؛ التأثير المباشر للقوى الإقليمية في الثورة السورية، وتصاعد حدة المواجهة في دائرة التجاذبات الدولية، بما يشكل تدخلا واضحا في صناعة الأحداث على الأرض وفي مجرياتها، ما أفقدها استقلالية القرار الوطني، خاصة في الدول المضيفة للمعارضة السورية، وهو في محصلة أربعة أعوام تأثير سلبي، أفقد الثورة الكثير من خصائصها، في لعبة المصالح والتوازنات الإقليمية.
ثالثا؛ ظهور التنظيمات الإرهابية التي استولت على مناطق الثورة، وحاربت قواها ومنعت العمل المدني ولاحقت نشطاءه، أسوة بما يرتكبه نظام الأسد، الأمر الذي أدى، إضافة إلى شلل المعارضة، إلى انحسار الدعم الدولي لقوى الثورة، مع استمرار دعم نظام الأسد بصورة لا محدودة من قبل إيران وروسيا، ودول أخرى غير منظورة. وأضحت محاربة الإرهاب، أولوية على إنهاء أسباب نشوئه وانتشاره في المنطقة.
رابعا؛ التدخل الخارجي في سوريا من أوسع أبوابه، ويتمثل اليوم في احتلال إيراني عسكري مباشر، في مناطق مختلفة من سوريا، وسيطرة طهران على المؤسسات الأمنية والعسكرية، عبر الإشراف على إدارتها ووضع مخططات عملها وتنفيذها.
خامسا؛ خسر السوريون استقرارهم وقضى ما يزيد على مئتي ألف شهيد، وأكثر من ربع مليون معتقل، و11 مليون نازح ومهجر ولاجئ، 4 ملايين منهم في دول الجوار.
بعد كل تلك الاخفاقات تبدو المسألة السورية، في عنق الزجاجة مع فشل المبعوثين الدوليين، وانسداد أفق العمل السياسي، وفشل مؤسسات المعارضة في استثمار الموارد التي أتيحت لها والإمكانيات التي وضعت بين يديها، وأعني فرص العمل الحقيقي والجاد عبر استراتيجية عمل وطني غائبة، تسببت الانقسامات في عدم التوصل إلى تفاهمات حول خطة طريق، تُمكن المعارضة السورية من أن تكون لاعبا أساسيا في قضيتها الوطنية.
فشل الائتلاف الوطني ومؤسساته العسكرية والتنفيذية، يؤكد الحاجة إلى تجاوزه، وإطلاق مؤسسة وطنية تضم جميع الأطراف السياسية وقوى الحراك المدني والثوري، دون تهميش أو إقصاء، وأن تكون معايير الشفافية والمراقبة والمحاسبة، جزءا من المبادئ المعبرة عن قيم الثورة وأهدافها. والتي يجب أن ترتكز إلى العمل الجماعي، واستقلالية القرار ووضع خارطة طريق تقود إلى إقامة الدولة المدنية الحرة.
مباحثات القاهرة، والحراك الإقليمي، قد يقود إلى ولادة جديدة، تضخ حياة في جسد المعارضة المعتل.. ثمة أمل.
"شكراً تركيا" عبارة رفعها أغلبية الشعب السوري في الداخل والخارج، نظراً للمواقف الأخلاقية والإنسانية التي اتخذتها تركيا في جميع القضايا التي تخص سورية منذ مارس/آذار 2011.
انطلاقاً من وقوفها إلى جانب مطالب الشعب السوري في الحرية والكرامة، ونصائحها لبشار الأسد بضرورة الاستجابة لمطالب المتظاهرين، وعدم استخدام العنف في مواجهة التظاهرات السلمية، وتقديم إصلاحات حقيقية للشعب السوري، حرصاً منها على بقاء سورية الجارة دولة قوية متماسكة، تشكل مع تركيا دعامة قوية للاستقرار في المنطقة. كلنا يعلم كيف كان رد الأسد على النصائح التركية. مروراً باستقبالها مئات آلاف اللاجئين السوريين على أراضيها، الذين لجأوا إليها من طائرات الأسد وبراميله، ويشهد القاصي والداني على مدى الحفاوة التركية باللاجئين السوريين، ومدى الدعم المقدم لهم من الحكومة التركية، طوال أربع سنوات، والذي بلغ مليارات الدولارات.
أصبحت تركيا، اليوم، (تقريباً) الدولة الوحيدة في الإقليم التي تدرك تماماً فداحة الأضرار الناجمة عن استمرار الأزمة السورية، متمثلة في استمرار الأسد على رأس السلطة في سورية، حيث ترى في ذلك محفزاً لمزيد من تفشي العنف والتطرف في المنطقة، فيما تنقسم مواقف بقية الدول بين مؤيد وداعم للأسد، وبين من يبني مواقفه تماشيّاً مع توجهات غربية، من الواضح جدّاً أنها، وعلى الرغم من المجازر الفظيعة والمأساة الإنسانية اليومية للشعب السوري، ما زالت تعارض أي مساس بالأسد، على الأقل في الوقت الراهن.
بعد تمدد تنظيم داعش في سورية والعراق، وتشكيل التحالف الدولي لمحاربة "الإرهاب" بقيادة الولايات المتحدة، أعلنت تركيا عن رؤيتها ومقاربتها لمعالجة الأمر، وأعلنت عن شروطها للانضمام له، تلك الشروط الحيوية الضرورية لنجاح التحالف في مهمته، من إنشاء منطقة آمنة للاجئين السوريين على الحدود، إلى إقامة حظر جوي فوق الأجواء في سورية، وصولاً إلى حل الأزمة السورية جذرياً، والتي يعتبر استمرارها أكبر مكان ملائم لانتشار الإرهاب، وهو ما عبرت عنه عشرات الأبحاث الصادرة عن أرقى المراكز الغربية.
لم ترق الرؤية التركية للإدارة الأميركية التي لا تريد أن ترتب على نفسها أي التزامات جدية، على الرغم من الحرائق اليومية المستعرة في المنطقة، حتى يخال بعضهم أن هذا ما تريده أميركا. وبعد عدة أشهر من إنشاء التحالف، أثبتت الرؤية التركية صوابها، حيث أخفق التحالف، بقيادة الولايات المتحدة، في تحقيق أي تقدم يذكر، حتى حذا الأمر بالجنرال ديمبسي، اليوم، أن يتحدث عن تفكك التحالف.
بدأت الضغوط على تركيا، عقب رفضها الانضمام إلى التحالف الذي لا يملك رؤية واضحة واستراتيجية مجدية، عندما اتهمها نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، بتسهيلها مرور المتطرفين والذي عاد وتراجع عنه، ما يثبت عدم قناعته فيما كان يقول.
ولقد شهدنا، أخيراً، ضغوطاً تعرضت لها الليرة التركية، ما أدى إلى انخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار، ما يخلق أو يشي بحالة من عدم الاستقرار في الاقتصاد التركي. كذلك القرار الصادر عن "الأمم المتحدة"، والقاضي بوقف المساعدات عن مئات آلاف اللاجئين السوريين في 9 مخيمات في تركيا، والذي جاء في وقت أعلنت فيه الحكومة التركية عن إنشاء مخيم جديد للسوريين يكلف عشرات الملايين من الدولارات.
نعم، كانت تركيا مصيبة في رؤيتها حول كيفية وجوب عمل التحالف الدولي، لأنها على اطلاع واسع بحقيقة مجريات الأمور في المنطقة، ولأنها تبذل حقّاً جهوداً حثيثة لحل المشكلة والقضاء على الإرهاب من جذوره، لا استغلاله لتحقيق مصالحها، وكانت محقة من قبل في وقوفها إلى جانب مطالب الشعب السوري المشروعة، متجاوزة بذلك السياسة القائمة على المصالح الضيقة ومتعالية عليها، ومقدمة نموذجاً في السياسة القائمة على الإنسانية والأخلاق.
ستستمر الضغوط على تركيا طالما أنها تنحاز إلى الشعب السوري وتعمل لصالح الأمن والاستقرار في المنطقة، وربما تتصاعد أكثر، لكن الشعب السوري سينتصر، وسينتصر معه كل من وقف إلى جانبه، هذا ما يقوله العقل والمنطق، والتجارب والتاريخ، والديانات والأخلاق والأعراف.
لنقل الامور بصراحة، لا يمكن انقاذ المشرق العربي مما يسميه كثيرون في العواصم العربية الكبرى "الاحتلال الايراني" من دون الحاق هزيمة حاسمة بالمشروع التوسعي الايراني في سوريا. فسوريا هي حجر الرحى، وتفوق العراق اهمية كونها واقعة في قلب المشرق العربي. وبكلام لا يقل صراحة لا يمكن الحاق هزيمة حاسمة بالمشروع الايراني من دون انشاء "جبهة عربية" تتكون من دول الخليج العربي، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، مع مصر، وتكون متحالفة مع تركيا تضع ثقلها في معركة سوريا التي توشك ان تصير حرب تحرير عربية بصرف النظر عن واقع تنظيم "داعش" الذي يجري التحجج بوجوده في الشرق من اجل ادامة نظام بشار الاسد المهترئ، وتستغله ايران من اجل تقديم مشروعها على انه مجرد حرب ضد "الارهاب" حين ان الارهاب الذي يمارس ضد الشعب السوري، و سنة العراق لا يقل فظاعة عن ارتكابات "داعش". لذلك يجب تجاوز ذريعة "الحرب على الارهاب" بخطوات ملموسة في اتجاه الفصائل الثورية السورية التي بتحالفها تحت مظلة مشروع عربي متحالف مع تركيا يمكن ان تقلب الموازين على الارض، وتعجل في اسقاط نظام بشار الاسد.
لم يعد من المسموح عربيا القبول بالقراءة الاميركية للواقع السوري، فالسياسة التي انتهجتها ادارة الرئيس باراك اوباما تتسبب بالكوارث، وبتسليم المنطقة الى ايران على طبق من ذهب، بعدما ادى تأييد الاميركيين لتولي نوري المالكي الحكم في العراق الى انهيار ذلك البلد بفعل التنكيل بالمكوّن السني. اما في سوريا فأدى تمسك الادارة الاميركية ببقاء نظام بشار الاسد الى انهيار المعارضة المعتدلة من جهة، وتمكين الميليشيات الطائفية التابعة لطهران من العبث بالكيان السوري وتوازناته من جهة.
كما ادى الى تنامي قوة التطرف السني على حساب الاعتدال، من دون ان ننسى تجاوز عدد الضحايا في سوريا عتبة المئتي الف قتيل (ثمة تقديرات بثلاثمئة الف قتيل). لم يعد مقبولا الرضوخ لقراءة ادارة الرئيس باراك اوباما للخريطة الاقليمية. حان اوان القول للرئيس اوباما كفى. لقد ادت سياسة الادارة الاميركية الى افقاد اميركا اهم عنصرين في سياستها الخارجية ثقة الحلفاء وخشية الخصوم.
اذا غابت مصر عن "الجبهة العربية" لا يمكن ان تقوم. واذا غابت تركيا عن الحلف العربي - التركي لا يمكن مواجهة سياسة اوباما الكارثية على العرب.
تقول واشنطن أن الاولوية هي لمقاتلة "داعش" ثم يمكن النظر في مصير نظام الاسد. نحن نقول ان الاولوية لتحرير سوريا انقاذها من نظام بشار الاسد والميليشيات الطائفية التابعة لايران.
هذا ليس كلاما راديكاليا ولا حالما. ومن هنا اهمية السعي السعودي الى حل الخلافات العميقة مع تركيا، وحث انقره على تغيير تعاملها مع مصر ما بعد الاخوان، بما يسهل وضع مصر في قلب "الجبهة العربية" لمواجهة التمدد الايراني. ولمصر مصلحة في احتلال موقع متقدم في مواجهة التمدد الايراني الذي يستهدف الهوية العربية قبل اي شيء آخر.
صباح 8 مارس/آذار 1963، قام انقلاب عسكري في دمشق، شارك فيه ضباط بعثيون وناصريون وقوميون عرب ومستقلون، تحت شعار الوحدة العربية وتحقيق العدالة والاشتراكية والقضاء على الطبقات المستغِلة (بكسر الغين)، وجاء هذا ضمن تيار في العالم الثالث آنذاك، إذ قام في العديد من بلدانه انقلابات عسكرية، تولت السلطة السياسية، وقامت بإجراءات اقتصادية واجتماعية، وكان منها عدد من البلدان العربية، مصر عبد الناصر، العراق، سورية، الجزائر، ليبيا، اليمن الجنوبي.
أزاحت السلطة العسكرية الجديدة الطبقات السياسية القديمة، حيث أزاحت حكومة خالد العظم، وحلت البرلمان المنتخب، وصادرت حريات التنظيم والتعبير، فألغت الأحزاب السياسية والصحف والنقابات الحرة، ومنعت التنظيمات السياسية والاجتماعية، وبالتالي، مَرْكَزَت السلطة السياسية في يد الانقلابيين. ولكن، ما لبث هؤلاء أن اصطرعوا فيما بينهم، لتنتهي السلطة بيد المجموعة البعثية.
في الستينيات
صادرت سلطة البعث العسكرية، خلال عامي 1964 و1965، أملاك كبار ملاك الأراضي، ووزّعت جزءاً منها على الفلاحين، وأبقت جزءاً آخر أملاك دولة. كما قامت بتأميم الشركات الصناعية والتجارية والمصارف وشركات التأمين، وتدخلت الدولة في التجارة الداخلية. كما تم تأميم التعليم بمراحله كافة. وطبق نظام نقد غير قابل للتحويل الحر وخاضع لرقابة شديدة. وتوسعت فئة موظفي الحكومة عدة مرات، واندمجت أعداد أكبر من أبناء الريف وفقراء المدينة في الفئات الجديدة الصاعدة. وقد تراجع دور القطاع الخاص، حتى غدا، في مطلع السبعينيات، لا يملك أكثر من 25% من القدرات الصناعية، تتوزع في ورش ومشاغل بالدرجة الرئيسية. وأصبح القطاع الخاص الفردي والصغير جداً والصغير والمتوسط المسيطر على المشهد في كل قطاعات الاقتصاد الوطني.
نتيجة تلك الإجراءات، تم تجريد الطبقات والعائلات التقليدية وعائلات رجال الأعمال السابقة من قوتها الاقتصادية والسياسية، ومن مكانتها الاجتماعية أيضاً، ولم يبقَ لها النفوذ نفسه، واختفى عن المشهد أشخاص، مثل خالد العظم وأصبحت مذكراته ممنوعة في سورية، واختفت عائلات اليوسف والأتاسي والخوري والقوتلي والحفار والقباني والحلبوني وإبراهيم باشا وقطب وصائم الدهر والطباع و دياب أخوان والدسوقي والقدسي وسعادة وسكر وعبد المتين أخوان والططري وشبارق والزعيم والعظم والبرازي والشيشكلي واليكن والكيخيا وشلش والكنج وإسماعيل ومعمارباشي وأصفر ونجار وغيرهم، ولم يعد هؤلاء يركبون السيارات الفارهة، ولم يعد لهم نفوذ في دوائر الدولة.
"بدأ نشاط التهريب بالنمو، حين كان يمنع استيراد سلع كثيرة تخصصت بتهريبها مجموعات تلوذ بالقرابة للفئة الحاكمة"
بعد تلك الإجراءات، أصبح رجل الدولة، وخصوصاً قيادات الجيش والأمن وقيادات حزب البعث وقيادات منظمات العمال والفلاحين وبقية منظمات الدولة ومؤسساتها، هم من يملكون النفوذ، وهم من يركب السيارات الفخمة الحديثة، وأصبح رجال أعمال الأمس وملاك الأراضي يطلبون ودَّهم بأشكال مختلفة، وأصبح أصحاب الحاجات، وما أكثرهم، يتجهون إلى هؤلاء، بدلاً من أولئك، للتوسط لقضاء حاجاتهم، سواء كان صاحب الحاجة رجل أعمال، يبحث عن صفقة مربحة، أم مواطناً فقيراً يبحث عن عمل. تمركزت السلطات السياسية والاقتصادية، وحتى الاجتماعية، إلى حد بعيد، في يد الدولة المتغوّلة، فمن يجلس على كراسي الدولة، ويقبض على "مقودها"، يستطيع باسمها أن يوجه سيرها كما يريد. فالسيطرة على الدولة تعني السيطرة على كامل المجتمع من جوانبه كافة.
استبدل التحالف الحاكم السابق، المكون من الطبقات الإقطاعية والرأسمالية البازغة والعائلات التقليدية، الآن، بتحالف جديد حل محله، تحالف الجيش وفئات المثقفين "الثوريين" وفلاحو الريف وفقراء المدن بقيادة الجيش، وهي الصيغة التي وضعها أكرم الحوراني، وهو أحد أهم الشخصيات السياسية في سورية، منذ منتصف الأربعينيات وحتى منتصف ستينيات القرن العشرين.
في السبعينيات
رحبت الأوساط المدينية بإزاحة جناح صلاح جديد الراديكالي من السلطة، وتولي وزير الدفاع حافظ أسد، الأكثر براغماتية، السلطة، بعد انقلاب عسكري بتاريخ 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970. ورفعت البرجوازية المدينية شعاراتها الترحيبية في الأسواق التجارية، في دمشق وحلب وحمص وحماه، تقول: "طلبنا من الله المدد فجاءنا حافظ الأسد".
أعلن الأسد عن سياسة اقتصادية أكثر انفتاحاً على القطاع الخاص، ولم يقم بأي إجراء إضافي ذي طابع "اشتراكي"، واتبع ما سُميت سياسة "التعددية الاقتصادية"، وفتح الباب مواربة لاستثمارات القطاع الخاص بشكل ضيق. وبعد حرب تشرين 1973، أصدر تشريعات خاصة بإنشاء شركات سياحية وفندقية، شراكة بين القطاع الخاص والدولة، وقد أتاحت المساعدات التي حصلت عليها سورية من الدول العربية النفطية، وبلغت نحو 1.5 مليار دولار سنوياً، قدرة أكبر للإنفاق الحكومي، لإقامة مشروعات كثيرة للبنية التحتية، أو بناء مصانع وإقامة شركات أو مشتريات حكومية أخرى، ما أوجد جبهات عمل أوسع للقطاع الخاص الذي اندفع نشيطاً بعد نحو عقد من التأميم والتضييق.
"لم يتخذ الأسد، في التسعينات، أية خطوات إصلاحية أخرى تكميلية لمناخ الاستثمار"
ومنذ السبعينيات، بدأت أسماء رجال أعمال بالبروز، مثل الشلاح والعطار والنحاس والعائدي وألتون وتقلا وهدايا وغيرهم. وبدأت ظاهرة التشارك بين القيادات الإدارية والعسكرية بالنمو، وجلها قيادات من أصول ريفية فقيرة، وقطاع الأعمال الجديد، فلدى هذه القيادات القرار الذي يصنع فرصة الربح. ولكن، لا يمكنها ممارسة الأعمال مباشرة، وكان أبناؤهم ما زالوا صغاراً، فكان لا بد من شراكة رجال أعمال من القطاع الخاص وتقاسم المنافع. ومنذ السبعينيات، بدأ نشاط التهريب بالنمو، حيث كان يمنع استيراد سلع كثيرة تخصصت بتهريبها مجموعات تلوذ بالقرابة للفئة الحاكمة، مكونين ثروات كبيرة (الدخان، الأدوات الكهربائية، العملات الصعبة والذهب، وما شابهها).
في الثمانينيات
شهدت سورية أزمة اقتصادية خانقة، مما اضطر الأسد إلى الإفساح في المجال أوسع أمام القطاع الخاص، وتخلت الحكومة عن مزيد من احتكاراتها. وشجعت الاستثمار السياحي والزراعي الخاص والمشترك بين الدولة والقطاع الخاص الذي يقدم رأس المال. فكانت هذه مناسبة لنمو ثروات شركائهم من رجال السلطة. وقد خرجت سورية من هذه الأزمة، بسبب زيادة إنتاج النفط من الاكتشافات الجديدة، ومن المساعدات التي جاءتها بسبب انضمامها إلى الحلف الدولي لإخراج صدام حسين من الكويت، إضافة إلى اتباع سياسة جديدة بتشجيع الزراعة.
في التسعينيات
في أجواء انهيار المعسكر الشرقي "الصديق"، وبدء مفاوضات مدريد بين العرب وإسرائيل، خطت السلطة السورية خطوة أوسع باتجاه فتح الباب أمام القطاع الخاص، فصدر قانون تشجيع الاستثمار 10 لعام 1991، وتخلت الدولة عن مزيد من احتكاراتها، ما أحدث موجة من الاستثمارات، في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، في الصناعة والنقل خصوصاً. وبدأت تبرز مجموعات أعمال أكبر وأكثر وأسماء جديدة، وبدأت مجموعات الأعمال التي تعود إلى بعض أبناء المسؤولين بالظهور والتوسع. لكن، لم يتخذ الأسد، في التسعينيات، أية خطوات إصلاحية أخرى تكميلية لمناخ الاستثمار، فتراجعت وتيرة الاستثمارات. فبعد أن تم الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، شعر الأسد أنه بحاجة أقل لمزيد من الانفتاح على القطاع الخاص، بسبب خشيته من نمو قوته. لذلك، تراجعت الاستثمارات الخاصة وحدث ركود.
"أصبح قطاع الأعمال عام 2010 يساهم بنحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي"
ثمة دافع آخر للأسد الأب في اتخاذ مزيد من إجراءات الانفتاح الاقتصادي. فإضافة إلى اشتداد مرضه، أراد أن يؤجل اتخاذ تلك الخطوات الواسعة في الانفتاح الاقتصادي، لكي يقوم بها ولده بشار، الذي كان يتم تحضيره لوراثته في السلطة، كي تسجل إنجازاً لولده، وتخلق قبولاً أوسع لعملية التوريث غير المفهومة. وقد توفي الأسد الأب في العاشر من يونيو/حزيران 2000، وتم توريث السلطة لولده بشار، كما هو مخطط.
شكل انتقال السلطة بداية لتسريع الانفتاح الاقتصادي، واستكمال عودة الرأسمالية إلى الديار السورية. وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تخلت الدولة عن معظم احتكاراتها، وتم فتح قطاع المصارف والتأمين أمام القطاع الخاص، وأحدثت سوقاً مالية، وأبرمت سورية اتفاق تحرير تجارة مع تركيا، بعد أن كانت قد أبرمت اتفاق منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى "الجافتا" منذ 1997. وتم تحرير عقود الإيجار وتعديل قانون العلاقات الزراعية، وتم فتح قطاع التعليم، وفتح قطاع التطوير العقاري أمام القطاع الخاص، وكذلك فتح قطاع الإعلام وقطاع الإعلان ونشاط المعارض وغيرها. وفي هذه المرحلة، كان لأبناء المسؤولين وشركائهم الحصة الكبيرة في هذه الاستثمارات. ونتيجة ذلك كله، أصبح قطاع الأعمال عام 2010 يساهم بنحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي.
"عملت السلطة على تشكيل قطاع أعمال خاص قوي من أبناء المسؤولين، ومن يلوذ بهم"
خلال كامل الفترة السابقة، شكلت سلطة الدولة الرافعة التي كونت من خلالها الطبقة العسكرية السياسية الحاكمة ثرواتها الخاصة، ومكنت قبضتها الاقتصادية، إضافة إلى قبضتها السياسية والأمنية. فبعد إجراءات الستينات، أصبح الاقتصاد مسوراً بإجراءات ومؤسسات حكومية، يقف على بوابات أسوار اقتصادها مسؤولون حكوميون، تتحكم قراراتهم بالنشاط الاقتصادي، ما فتح الباب لهؤلاء "البوابين"، في إساءة استغلال سلطتهم، لتحقيق مكاسب مادية شخصية.
حرصت سلطة الأسد، ومنذ 1970، على أن تبقي قطاع الأعمال الخاص تحت قبضتها القوية، فأبقت البيروقراطية الشديدة أداة للتحكم به. كما أحدثت محاكم الأمن الاقتصادي، لتكون سيفاً مسلطاً على رقاب رجال الأعمال الذين لا يخضعون لإرادتها، أو مَن يسعى إلى تعظيم دور هذه الطبقة، على نحو مستقل عن سياستها، وقد تعسفت هذه المحاكم ضد رجال أعمالٍ، لم يفعلوا شيئاً يُذكر، بينما صمتت عن ارتكابات كبرى، كانت تقوم بها "رأسمالية المحاسيب".
من جهة أخرى، عملت السلطة على تشكيل قطاع أعمال خاص قوي من أبناء المسؤولين، ومن يلوذ بهم، وأن يكون هو القطاع الخاص الأكبر والمسيطر، فقد كبر أبناؤهم، ولم يعودوا بحاجة للتستر خلف رجال أعمال آخرين. هنا، أصبحت الأسماء الأكثر تداولاً في قطاع الأعمال هي رامي مخلوف وإخوته والأخوان رياض وذو الهمة شاليش وكمال الأسد وثلة من بيت الأسد وغسان مهنا ونزار الأسعد ومجموعة الخولي، ونبيل طعمة وسيلمان معروف، وخالد قدور وعائلة الشهابي وسمير الحسن ومهران خوندة ووهيب مرعي وعائلة طلاس وعائلة خدام ومجد سليمان ومحمد حمشو وطريف الأخرس وعائلة الخياط، وسليم دعبول وغيرهم.
ولكن، هذه المجموعة الريعية التي نمت على طبق الدولة، مباشرة أو برعايتها، لا تستطيع في معظمها أن تعيش بدون دعم الدولة ورعايتها، عكس الطبقات الرأسمالية المنتجة التي كانت سائدة في سورية قبل آذار/مارس 1963، والتي اتسمت بسمة إنتاجية، وحققت مكانتها وثرواتها عبر المنافسة، وتميزت بالحرص والاقتصاد في الإنفاق الشخصي الباذخ.
"أصبحت الأسماء الأكثر تداولاً في قطاع الأعمال هي رامي مخلوف وإخوته والأخوان رياض وذو الهمة شاليش وكمال الأسد"
إلى جانب تلك المجموعة، نما قطاع أعمال قريب من رجال الحكم، ويعتمد على علاقاته بهم لتوسيع نشاطه، لكنه أصبح، الآن، أقل التصاقاً بهم عما كان من قبل، مثل النحاس والشلاح والعطار والعائدي وهدايا وألتون وغريواتي وغراوي ودعبول-الميدان وطيارة وصبرا والشاعر وعزوز وسنقر والرهونجي ووتار والعقاد والحافظ وكركور وزيدو والصباغ والبزرة وأنبوبا وألتون وفرزات والأوبري والبيلاني وعساف وغيرهم. غير أن هذه المجموعة أصبحت تشكو من منافسة غير منصفة مع المجموعة الأولى التي تنحاز الدولة إلى جانبها.
وإلى جانب هاتين المجموعتين، نما عدد من رجال الأعمال، وخصوصاً في الصناعة، من الذين اعتمدوا على مهاراتهم وصبرهم لتحقيق نجاح ملحوظ، وأعادوا بذلك إحياء روح رجل الأعمال السوري، المعروف بمهارته، والتي هدرها نظام البعث خمسة عقود.
أخيراً
دارت الدورة، وعادت الرأسمالية إلى الديار السورية، الرأسمالية التي جاء انقلاب البعث إلى الحكم تحت شعار القضاء عليها، عادت كطبقة جديدة، تعكس تحالفاً جديداً بين السلطة السياسية الشمولية المعتمدة على العسكر، وطبقة رأسمالية، تعود في جزء كبير منها، إلى الطبقة السياسية الحاكمة، مكونة بذلك طغمة مالية سياسية عسكرية حاكمة، وأصبح التحالف السابق الذي أشرنا إليه أعلاه في خبر كان.
دأبت رنا على الاتصال بالشبكة السورية لحقوق الإنسان، وتكرار السؤال عن أي معلومة جديدة عن أخيها، وفي كل مرة يخفق قلبها في انتظار الإجابة التي لا تأتي بجديد، بالأمس انعكست الحكاية، رنا أرسلت المعلومات، رسالة قصيرة مختصرة مع صورة لبقايا إنسان... «هذا أخي».
من جديد يخرج ملف «سيزر أو قيصر» للإعلام، صاحب الـ55 ألف صورة لشهداء تحت التعذيب في أقبية النظام ومخابراته، وصور «سيزر» كما يسميها الإعلام العالمي ليست لأشخاص جدد، هي للشهداء أنفسهم. صور لا يمكن أن يحيط برعبها نظر إنسان عادي، 11 ألف إنسان تم تعذيبهم والتفنن بقتلهم، واقتلاع أعضائهم، وفقط من لا يوجد لها ابن في المعتقل هي من تستطيع مقاومة التفتيش بين الصور.
أرسل لي أخي «الذي لم أره منذ 3 سنوات إلا عبر شاشة الكومبيوتر»، صورتين «أرجوك ساعديني... هل ترين أنه الشخص نفسه... لا يمكن أن يكون نفسه». دموعه وحرقة قلبه وصلتني في الرسالة الإلكترونية، كدت أن أصرخ «لماذا اخترتني أنا لأساعدك؟... يا حسرتي يا حبيبي!... إنه هو... هو صديقك»، أما أم الشهيد صديق أخي، فإن الله اختار لها أن ترتاح وأن يقف قلبها فور مشاهدة الصورة والتعرف إلى ابنها.
اليوم ماتت خالتي، قلت لأمي «ادفنوها على عجل فقد ماتت في فراشها»، ولم أهتم للاستغراب والانزعاج في عين أمي، حتى أنني لم أفكر في أن أعزيها، ماذا سأقول «العمر إلك»، ولكنني انفجرت باكية دافنة رأسي في حضن أخت المتوفاة، «إنهن يتعرفن إلى بقايا أولادهن يا أمي... خالتي ماتت وانتهى... ابكي معي».
أنا المواطنة السورية المتهمة بأنني «داعشية» لأنني أحمل جواز سفر أزرق، ينسون أنني تعرفت إلى أخي من صورة على الإنترنت، ويتجاهلون عينيّ الزجاجيتين من كثرة البكاء على أمي، أدخل إلى المطارات فتستقبلني نظرات شك، ترسل إلي إشارات غير ودودة، غالباً سيتم الطلب مني الوقوف جانباً وانتظار تسهيل أمور باقي المسافرين «غير الداعشيين وغير الباكين، والذين تخلو أسرتهم من شهيد تحت التعذيب».
أنا المواطنة السورية، أكره الابتسامة، وأنتظر رغيف الخبز، أتمنى أن تموت أمي قبل أن ترى ما رأيت، ولا أمل من تكرار «ليس ابنك، ليس ابنك»، هل من قوة توقف جماح أم؟
أنا المواطنة السورية اليوم، يلقي علي التحية زميلي في العمل، فأستغرب الود الذي نسيته لكثرة أحزاني، ترمي صديقتي اللبنانية بنكتة في محاولة يائسة لسحب ابتسامة مني، فأهرب منها ومن العالم، أين سأهرب من شهداء سيزر؟
أنا المواطنة السورية التي تعيش الإحساس بالذنب في كل لحظة لأنها لا تزال على قيد الحياة، وتعيش الإحساس بالخوف كلما نشروا صورة جديدة تحمل على الجبين رقماً لعيناً لا أفهمه.
أنا المواطنة السورية التي يوقظها قلبها، تهرول إلى الأخبار، تنتظر من أختها أن ترد على الهاتف من دمشق، تغمرها السعادة أن أختها لا تزال على قيد الحياة، وتكره سعادتها لأن ثمة أختاً أخرى لسورية أخرى ماتت اليوم.
أنا المواطنة السورية التي جاء العالم بأسره ليحارب «داعش» على أرضها، وبقي الأسد على عرشه وعلى رقاب أهلها، أستمع إلى تصريحات أميركا وأوروبا والعالم بأسره، فيتملكني الغضب «إنهم لا يعترفون بالأسد، ولكنهم لا يحاربونه»، وبدل أن يحتضنني ذلك العالم «المتعاطف معي إعلامياً» لأنني الضحية الأولى للنظام والضحية الأولى لـ «داعش»، قرر أن ينبذني ويعاقبني على موتي مرة أخرى.
أنا المواطنة السورية، لست «داعشية»، ولست أسدية، قتلني النظام وشردني، وذبحني «داعش» ويتّمني، وهربت من الاثنين، فابتلعني البحر مرة وخنقتني الخيمة، تعرفت إلى أخي وابني وزوجي وأبي في صور لبقايا إنسان، ورفضني الناس مرات ومرات.
بعد مرور أربع سنوات من عمر الثورة الأيام تثبت انها لم تكن رمية من غير رام ولم تأت من فراغ ..
كيف تمكنت حوران من كسر القاعدة الذهبية لنظام آل الأسد ؟
خلال مرحلة حكم آل الأسد كان هناك قاعدة ذهبية تعتمد على تجويع الشعب ولكن دون الوصول الى مرحلة المجاعة جعل رغيف الخبز هو الشغل الشاغل للمواطن كي لايفكر باي شيء آخر ....
بالإضافة لإثارة النعرات القومية والطائفية والمناطقية
لم يكن يتوقع نظام الأسد أي حراك ينطلق من حوران
حوران كانت الخزان البشري السني الموالي لنظام الأسد ....
ما ميز حوران عن غيرها في الفترة الأخيرة ما قبل انطلاق الثورة
العامل المادي لم تعد حوران تعتمد على النظام من الناحية المادية بسبب زيادة نسبة الهجرة الى الخارج
هذا ما سهل كسر قاعدة التجويع
بل على العكس النظام هو من كان يعتمد على حوران من ناحية المادية ... القطع الأجنبي والاستثمارات
بالإضافة الى عدم الاعتماد على القطاع العام بتوظيف حوران من أقل المدن السورية بعدد الموظفين في القطاع العام
العامل الاجتماعي
في الفترة الأخيرة لم يعد هناك فرق ما بين مركز المدينة او أبعد قرية عن المركز من الناحية العمرانية والخدمية و التعليمية .... بالإضافة الى ان حوران ذات لون طائفي وأحد الى حد ما وتمسك بالعشائرية الايجابية
وأهم العوامل العامل التعليمي والثقافي في الفترة الأخيرة كانت حوران من أعلى المحافظات بنسبة التعليم
عندما تتوفر كل هذه العوامل باي مجتمع لابد ان يفكر بممارسة حقة السياسي والتفكير في السياسة....
هذا العوامل مكنت حوران من تصدر المشهد السوري منذ اليوم الأول لانطلاق الثورة والى اليوم ....
حوران وبعد أربع سنوات امثولة الثورة ليس لأنها اطلقت شرارة الثورة ولكن لأنها حافظت على روح الثورة
خلال أربع سنوات كانت جميع الرايات تحت راية الثورة وجميع الأفكار تحت فكر الثورة وجميع الاسماء تحت اسم الثورة ....
حوران ظاهرة ثورية تستحق الدراسة
لسان حال أهل حوران اليوم: قد يتمكن النظام من تعفيش المنازل لكنه لن يتمكن من تعفيش الحلم