تدخل الثورة السورية عامها الخامس، وما زال النظام مصراً كما كان منذ اليوم الأول للثورة، على اتباع سياسة الأرض المحروقة، التي جسدها شعار أنصاره وشبيحته: «الأسد أو نحرق البلد». ولقد أحرق نظام أسد سورية فعلاً، ربع مليون سوري، وملايين المهجرين والنازحين، وسبب دمارا لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية، وانهيارا اقتصاديا، وجوعا وتعذيبا حتى الموت، واستخداما لأسلحة الإبادة من براميل المتفجرات العمياء والسلاح الكيماوي والكلور القاتل. وإننا على يقين من أن هذا النظام كان ولا زال مستعداً لاستخدام أخطر أسلحة الدمار الشامل، بما فيها السلاح النووي، حال حصوله عليها.
ورفض النظام ولا زال يرفض جميع الفرص والمبادرات الساعية لوقف نزيف الدم في سورية، حتى المبادرات محدودة الأهداف التي تأمل بإدخال المساعدات الإنسانية للمدنيين المحاصرين. وهكذا رفض النظام جميع المبادرات التي تسعى إلى وقف القتل بدءاً بمبادرة د. أحمد داوود أوغلو، إلى مبادرة الجامعة العربية، وخطة كوفي عنان، وجهود الأخضر الإبراهيمي وحتى مبادرة ستيفان ديمستورا المحدودة للغاية.
ورغم استمراره في اتباع سياسة الأرض المحروقة ورفضه كل المبادرات الدولية، فإن النظام أفلت من العقاب، ولم يدفع ثمن جرائمه الخطيرة، وهو ما فهمه على أنه ضوء أخضر دولي لمواصلة القتل والالتفاف على قرارات مجلس الأمن الدولي، التي أصبحت كلها حروفاً ميتة وبلا معنى. رغم ذلك هناك من يقول إن هذا النظام هو أهون الشرين، مقارنة بتنظيم «داعش» الإرهابي، والحقيقة أن هذا القول يشبه تفضيل الأفعى على أحد أبنائها. «داعش» هو أحد منتجات النظام السوري وراعيه الإيراني، مجرد منتج واحد يمكن تفريخ غيره في أي وقت، فنظام دمشق أوجد منذ 40 سنة عشرات التنظيمات الإرهابية بشتى الألوان الحمراء والخضراء والسوداء… وهو قادر على تفريخ المزيد بعد القضاء على «داعش»، إن ترك في مكانه. إن القضاء على تنظيم «داعش» مع ترك النظام السوري يعني عدم حل أي مشكلة في سورية والمنطقة، إذ أن حال البلاد عام 2013 قبل بروز «داعش» لم يكن يختلف عما هو عليه الآن، ولنتذكر أن أول من هدد الغرب بإرسال الانتحاريين هو مفتي النظام الحالي نفسه قبل أن يوجد «داعش».
بغض النظر عن مواقف الآخرين، لن يتراجع الشعب السوري عن مطلب الحرية، وهو يسعى لتحقيق هدفه بكل السبل، حتى لو كان مطلوباً منه دفع ثمن غال لهذه الحرية، أغلى مما دفعه أي شعب آخر تمتع بالحرية في قارات العالم الست. لقد بدأ السوريون ثورتهم سلمياً ثم اضطروا لحمل السلاح للدفاع عن أرواحهم وأعراضهم، وهم الآن يخوضون حرب تحرير ضد غزو أجنبي هو الغزو الإيراني، وهم يبلون بلاء حسنا، بدون أدنى شك في محاربة إرهاب «داعش» والنظام والاحتلال الإيراني على ثلاث جبهات. فبخلاف ما يدعيه بشار الأسد، الذي أكد كل من قابله بأنه منفصل عن الواقع، خسر النظام السيطرة على 72٪ من الأراضي السورية، وتراجع عدد أفراد جيشه من 300 ألف جندي إلى أقل من 100 ألف، وذلك بسبب ظاهرتي الانشقاق للالتحاق بالجيش السوري الحر (التي شملت 3000 ضابط و 20 ألف رجل أمن)، والفرار من الجيش ورفض الالتحاق به، إضافة إلى مقتل عشرات الألوف ممن قرروا الدفاع عن طاغية أحمق حتى الموت. وبات مألوفاً في البيئة المؤيدة للنظام إطلاق انتقادات حادة وشتائم بحق رأس النظام الذي ينظر إليه على أنه شؤم لا يقدم لأنصاره إلا الجنازات والأكفان لخيرة شبابهم. ولم يعد النظام يسيطر إلا على 28٪ من الأراضي السورية، سيطرة عسكرية لا تعني بأي شكل الولاء له أو الموافقة على بقائه، فمن ضمن هذه النسبة التي تصغر كل يوم، تقع، على سبيل المثال لا الحصر، محافظتا حمص وحماة أهم قلاع الثورة في سورية، وتقدر مصادر محايدة حجم تأييد النظام بين أبناء الشعب السوري ب 10٪ فقط. وهذه السيطرة المحدودة في المساحة، الخالية من أي معنى من معاني الحكم والشرعية، إنما تتم بمساعدة لا يمكن الاستغناء عنها من كتائب أصولية طائفية دموية متطرفة قادمة من لبنان والعراق وأفغانستان، تقودها وتقود النظام قيادات إيرانية تصدر الأوامر، وتصول وتجول من حلب إلى درعا. بعد أن فقد الأرض والانسان بات رأس النظام السوري مجرد زعيم ميليشيا تعيش على القتل والسلب والنهب، ميليشيا دمرت مؤسسات الدولة، ثم بدأت تأكل أبناءها وتتخلى عنهم لصالح هيمنة السيد الإيراني الجديد. لقد شهدت سورية في الأسابيع الماضية مؤشرات خطيرة على هذا التحول الكبير، فقد تم إعدام ضباط موالين للنظام لأنهم رفضوا تنفيذ أوامر قادة القوات الإيرانية المنتشرة جنوب سورية، وتمت إهانة وإيذاء ضابط أمن سوري كبير (المسؤول الأمني السابق عن القوات السورية في لبنان رستم غزالة) لسبب مشابه.
لقد فقد النظام الأسدي أي شكل من أشكال الشرعية منذ عام الثورة الأول، حيث قطع علاقته بالشعب واعتبره مصدر تهديد، ورغم أن خسائر وانسحابات النظام لا تتحول دائماً إلى مكاسب وانتصارات للشعب السوري ومشروعه التحرري، بسبب وجود تنظيم «داعش» الإرهابي، صنيعة النظام الأسدي وحلفائه، فإن التنظيم أثبت هشاشة وعجزاً عن التمتع بأي قاعدة شعبية صلبة، وهكذا فإن التنظيم يسيطر على مناطق في سورية بصورة متقلبة وزئبقية، ولا يحكم أياً منها حكماً مستقراً ذا أسس ثابتة.
يواجه الشعب السوري نظاماً مجرماً استخدم ولا زال يستخدم أسلحة الدمار الشامل المحرمة دولياً، ويقف خلف هذا النظام وتقوده قوة اقليمية تسعى لبناء امبراطورية تهيمن على المنطقة. كما يواجه شعبنا تنظيماً إرهابياً تمتد نشاطاته ومخاطره إلى شتى دول العالم، وهذه أسباب ثلاثة لتحويل سورية إلى بؤرة عدم استقرار إقليمي ودولي، الأمر الذي يستدعي قيام دول المنطقة والأمم المتحدة والدول الكبرى بواجبها لمحاصرة هذه البؤرة، وهذا لا يكون إلا بدعم الشعب السوري، القادر وحده على هزيمة مشروع «داعش»، والمشروع الإيراني التوسعي. إن التعامل مع الوضع الخطير في سورية يحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من مجرد القصف الجوي لمواقع «داعش»، وعقد مؤتمرات الأصدقاء التي لا تسفر عن نتائج عملية. وبدون التعامل المسؤول والجدي تتحول سورية إلى قاعدة صلبة ومتقدمة لأخطر أنواع الإرهاب وبؤرة عدم استقرار تهدد المنطقة والعالم.
وإذا كانت تقع على عاتق الأشقاء والأصدقاء والمجتمع الدولي واجبات يجب عليهم القيام بها، فإنه تقع على عاتق الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وباقي أطياف المعارضة واجبات أكبر. إننا نعمل مع قوى الثورة والمعارضة بكل ألوانها، على أن نوحد موقفنا تجاه سيناريوهات التغيير التي نعمل عليها، ونساعد في دعم الجيش السوري الحر ومأسسة عمله وتسليحه في ظل هيئة أركان تمثل مظلة مشتركة، وتحويله إلى جيش وطني يستطيع ضمان الأمن والاستقرار في المناطق الشاسعة التي خرجت من سلطة النظام، وقادر على أن يسد أي فراغ أمني يتركه سقوط النظام الأسدي المتهالك، جيش يضم كل أبناء سوريا بكل مكوناتها. ومن دواعي الأمل أن فصائل مهمة نحت سابقاً نحو التأدلج، لظروف شتى، تبدي استعدادها للانضواء في الخط الوطني، والعمل تحت مظلة الأركان. وتزداد القناعة لدى قوى الثورة والمعارضة، بالحاجة إلى ترك سياسات الإصطفاف، لصالح التوافق والتكامل. وتزداد القناعة بقدرة الثورة على الانتصار لأنها أبدت قدرة هائلة على التأقلم مع التحديات المتغيرة، والقدرة على مزاوجة العمل السياسي مع الثوري والعسكري. إننا ونحن نقاتل النظام المجرم، وندفع ثمن ذلك باهظاً، نمتلك القدرة والشجاعة للدخول في أي عملية سياسية تحقق لشعبنا هدفه في الحرية والكرامة، ونعمل على جمع جميع مكونات مجتمعنا تحت مظلة وطنية جامعة، الآن، وفي سورية المستقبل، سورية ما بعد النظام الاستبدادي. وسيشارك جميع السوريين في المرحلة الانتقالية التي ستعمل على الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية وفي مقدمتها الجيش والأمن، وتجسد مشروع السلم الأهلي، وتنفذ مشروع العدالة الانتقالية، وتبدأ إعادة إعمار سورية.
لا يشك عاقل بأن الإرهاب في سورية، سببه ومصدره نظام بشار الأسد، وأن القتل على نطاق واسع، والتهجير الجماعي، ودمار مؤسسات الدولة، والتفريط بالسيادة الوطنية، سببه ومصدره أيضاً نظام بشار الأسد، ولن تعرف سورية الأمن والاستقرار والحرية والسيادة… إلا برحيل بشار وعصابة التسلط والقتل المحيطة به.
هكذا تحاول إيران أن تسوق قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، الذي ما انفك يتنقل بين سوح القتال، في العراق وسورية، فهي اليوم، ومن خلال سليماني، تريد أن تكسب مزيداً من الشيعة العرب إلى صفها، وإلى جانب مشروعها الإمبراطوري، الذي ما انفكت تروجه.
طبيعة العلاقة المعقدة بين العرب والفرس، وليس إيران، لها ما لها، فهي لم تستقر على حال، منذ انكسرت إمبراطورية فارس على يد العرب المسلمين، قبل أكثر من 1400 عام، وبقيت هذه العلاقة الإشكالية تحدد طبيعة مصير المنطقة، فهي تارة في انصهار ووحدة إسلامية، انعكست، إيجاباً، على مجمل الحضارة العربية والإسلامية، وتارة أخرى في صراع، يخفي وراءه ما يخفي، ولعل الصراع القديم على المنطقة والنفوذ، هو من يتحكم في طبيعة مخرجات كثيرة لتلك العلاقة في حال توترها.
تدرك إيران، جيداً، أن الصراع في المنطقة لا يمكن أن يكون صراعاً طائفيا، بين سنة وشيعة بحكم القومية التي تربط أبناء المذهبين، لكنها تدرك أيضا، أن إمبراطوريتها الموعودة، وكما كانت على مر التاريخ، لا يمكن لها أن تقوم إلا عبر الطائفية السياسية. ومن هنا، كانت التغذية الصادرة من طهران، حيثما وجد الشيعة، بأنها راعية للمذهب وحامية حمى الطائفة، ولن تدخر جهداً لحماية شيعي واحد في أقصى مجاهل إفريقيا.
كانت الحرب العراقية الإيرانية، إبان ثمانينيات القرن الماضي، التي سعت فيها طهران إلى تصدير ثورتها، قد فشلت، على الرغم من أنها اعتمدت وقامت على مجموعة دعايات، في مقدمتها دعاية تصدير الثورة، وتحرير فلسطين، وفقدت إيران في تلك الحرب الكثير، ومن يومها أدركت طهران أن أفضل طريق للوصول إلى أهدافها، بتصدير الثورة وتحقيق حلم الإمبراطورية، أن تقاتل بجنود الآخرين، فكان الشيعة العرب، وقود إيران لتلك الأحلام، وإنها ستبقى تحارب تحقيقا لمشروعها، حتى آخر جندي عربي شيعي.
الانتصار الإيراني الذي باتت ملامحه تتشكل عبر السيطرة على أربع عواصم عربية، باعتراف ساستهم، ما كان ليتم إلا بتسخير المذهب، خدمة لحلم الإمبراطورية، واليوم، تسعى إيران من خلال نموذج سليماني، لتصويره بأنه حامي حمى الشيعة العرب.
قائد مثل سليماني، وبهذه الأهمية، محاط بدرجة عالية من السرية في تنقلاته وتحركاته، فهو، وفق معلومات أمنية عراقية، محاط بخطين دفاعيين، من الإيرانيين التابعين للحرس الثوري، ويحيط نفسه وتحركاته بسرية تامة جداً، فحتى حلفاؤه من العراقيين لا يعلمون به، وبالتالي، لم تأت عملية تصويره بهذا الشكل من فراغ، أو عفو الخاطر وابنة اللحظة ، كما قد يعتقد بعضهم، وإنما هي عملية مبرمجة، يراد منها صناعة النموذج، المخلٌص للشيعة العراقيين من خطر تنظيم الدولة الإسلامية ، داعش، التي تريد ذبح الرافضة، كما تشير إلى ذلك أدبياتهم.
مشاهدة بعض القنوات العراقية، الشيعية الممولة من إيران، وبعض صفحات "فيسبوك" العراقية، تجعلك تدرك حجم التجهيل الذي يمارس بحق الشيعة والسنة على السواء، فهذه القنوات لا تنفك وهي تصور بطولات ما يسمى الحشد الشعبي، غالبيته من الشيعة، كما أنها لا تنفك تتحدث عن بطولات قاسم سليماني، ودوره في تحقيق النصر، مع العلم أننا لم نشهد أية معركة شارك بها سليماني وانتصر، فمشاركته في حوران السورية، أدت إلى تكبد قوات النظام والمليشيات الإيرانية خسائر كبيرة جداً وقاسية، ومشاركته في العراق، سواء في إمرلي شمال العراق، أو في جرف الصخر في جنوب بغداد، أدت إلى محرقة بحق المدنيين، حتى تمكنت تلك القوات من دخول تلك المناطق، علماً أن إمرلي شهدت انسحابا مبكراً لداعش، حتى قبل أي اشتباك، أما معركة تكريت التي يخوض رحاها سليماني، فإنها، وبعد مرور أسبوعين، لم تحسم بعد.
"لن يكون غريباً ترشح سليماني لرئاسة إيران في الدورة الانتخابية المقبلة"
ضخمت إيران، ومعها وسائل إعلامها، وأيضا، وسائل إعلام غربية، خطر داعش، حتى صورتهم بأنهم سيدخلون وبغداد ومدن الجنوب، وربما يصلون إلى إيران، ومنها جاء دور سليماني الذي يظهر بصورة المنقذ.
يريدون أن يقولوا لعرب العراق الشيعة إنه ليس لكم من ملاذ أو مخلص، سوى إيران وأبطالها، وفي مقدمتهم سليماني، وهنا، أشير إلى ما كتبه حسن هاني زاده، رئيس تحرير وكالة مهر الإيرانية للأنباء، ونشره يوم الاحد الماضي، حينما دعا العراقيين إلى الاتحاد مع إيران، وأن يتركوا "العروبة المزيفة الجاهلية"، بتعبيره.
ليس غريباً أن نجد سليماني، بطل إيران القومي، في صنعاء بضيافة الحوثيين، فهو، اليوم، يسعى إلى أن يكون حاضراً في قلب كل حدث، ليس كصانع لهذا الحدث وحسب، وإنما أيضا كصورة تسعى إيران لتكريسها، عن بطلها الذي يراد له أن يكون بطلاً، كما أنه لن يكون غريباً ترشح سليماني لرئاسة إيران في الدورة الانتخابية المقبلة، فالأغاني التي بدأت ترددها قنوات تابعة لإيران، وصفحات التواصل الاجتماعي، تفيد بأن الدور المقبل لسليماني سيكون كبيرا، هذا إذا تركته أرض المعركة التي يخوضها، ليمارس دوره المرسوم له مستقبلا.
مع بداية السنة الخامسة للمذبحة السورية لا يجد المرء سوى الازدراء، في مواجهة الموقف المستهجن والرخيص الذي أعلنه جون كيري من ان اميركا لم تعد تشترط تنحي بشار الأسد، بل إنها تسعى لممارسة الضغوط عليه ليقبل بالحوار، وقد جاء رده سريعاً ومهيناً ضمناً عندما قال إنه ينتظر الأفعال لا الاقوال !
ها هم جميعاً تقريباً يضعون السوريين أمام الخيار المرّ: إما بشار الاسد وإما أبو بكر البغدادي، من دون التوقف لحظة للتذكّر من أين جاء البغدادي، وكم قتل تنظيم "داعش" من السوريين قياساً بما فعلته البراميل وقبلها الكيماوي!
ها هو جون كيري يدفعنا الى التقيؤ: "على الولايات المتحدة ان تتحدث مع بشار الاسد لإنهاء الحرب في سوريا" لكأنها لم تفاوضه مرتين في جنيف دون جدوى... في أي حال عندما يصل كيري مجدداً الى دمشق سيجد أنهم فرشوا له السجاد الاحمر ولكن فوق أرض مشبعة بالماء!
لم يكن ستيفان دو ميستورا ليعلن ان الأسد جزء من الحل لو لم يحصل على موافقة دول غربية، أما روسيا وايران فرأيهما معروف منذ البداية: "الأسد هو الحل"، وقد دخلتا القتال الى جانبه منذ البداية اما بالتسليح والحماية السياسية عبر الفيتو كما فعل الروس، وإما بالوقوف الى جانبه في جبهات القتال كما فعل الإيرانيون وأذرعهم العراقية ثم "حزب الله".
لم يكن في وسع التظاهرات السورية الصارخة "سلمية ... سلمية" سوى تقديم الضحايا، ولم يكن من المستغرب ان يستولد تضافر المذابح في سوريا وسقوط مئات آلاف القتلى وملايين اللاجئين، مع الاضطهاد والتنكيل اللذين مارسهما نوري المالكي في العراق، ظهور الارهابيين في الساحة ثم تسارع هذا التدفق الخارجي من القتلة والسفاحين الى الساحة، ولكن من الذي ينظر الى الوراء لكي يستخلص الدروس؟
لا أحد، فهم انهم لا يريدون حلاً بل يستجيرون بالرمضاء من النار، يفضّلون كُحل الأسد على عَمى البغدادي، أين ذهبت التصريحات اليومية التافهة التي اطلقها باراك اوباما والتهديدات السخيفة التي لوّح بها بعد مذبحة الكيماوي في الغوطتين؟
واذا كانت المعركة ضد الارهابيين في العراق مسألة سنوات كما يقول الأميركيون، فما معنى دعوة كيري الى التفاوض مع الأسد وسوريا باتت صومال كبرى مع بداية السنة الخامسة للمذبحة المفتوحة، في حين تتحدث المراصد عن سقوط ٢١٥ الف قتيل وأكثر من عشرة ملايين لاجىء وعن جيل كامل مدمّر وبلد بكامله سُوّي بالأرض؟
كيري قال "إنها أسوأ المآسي التي يشهدها أي منا على وجه الأرض"، لكن الأسوأ هو سياسات أوباما التي لم يشهد تاريخ الغباوة مثيلاً لها، كما يقول وليد جنبلاط.
ترمَّلت الثقافة على يد الدراما التلفزيونية السورية، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، قتلت الثرثرات الدرامية صورة الكاتب المثقف السوري، وهبطت رمزيته من أعين المجتمع، وتداعت قدرته على التأثير في المنتديات الفكرية الاجتماعية، وتحديداً الشبابية منها التي صارت تلتهم كل التفاهة من كثرة الفقر الفكري والثقافي الإبداعي، فخانت أغلب النصوص والسيناريوهات الدرامية الثقافة بمفهومها الشمولي، حين أعطت للكاتب، في عدة أعمال كارثية، شخصية المهزوز والسخيف والعاجز عن إدراك الواقع المحيط به. لم تنجح الدراما في رفع مستوى الثقافة في زواريبها الفنية، إلا عندما انتفضت مثل نيوتن، وكأن سحارة تفاح سقطت على رأسها، لتستعيد، بعد حين، في بعض أعمالها، شيئاً من التطور والرقي الثقافي الفني. والبخل الإبداعي ضاع عنها، حين قدمت لنا قيمة درامية من قلب المعاناة، وإيجاد فن يجسد ويحترم الثقافة من العدم، وراحت تفتح الأبواب الموصدة، لتدخل عليها نصوص معاصرة عميقة ودقيقة، في وصف الثقافة وصورها المتباينة.
في هدأةِ الليل، تُنظّم معظم النصوص الدرامية التلفزيونية في "مونديال رمضان الدرامي"، طبقاً لخلفيات سياسية، اقتصادية و اجتماعية كثيرة ومتعددة، فصار هناك شبه انعدام للثقافة في الدراما، ولتلك الظاهرة أسبابها السورية، وأهمها أن صناعة السيناريوهات الدرامية في سورية ظلت أسيرة رؤية أمنية واستخباراتية تابعة للدولة و الحكومة، ووفقاً لسياسات البعث الحزب الحاكم الأوحد في سورية، أصبح القلم الذي تُكتب به النصوص والحوارات الدرامية، مقيداً بضوابط و قوانين ضيقة جداً، و محدودة الآفاق، حتى جفّت كل الأفكار الجديدة والغنية التي من حقها أن تقوم بإسقاطات حقيقية على أرض الواقع، ولم يبق إلا القليل من قوالب الطوب الديمقراطي، لكي نبني قواعد و أسساً متينة و قوية للدراما السورية، فتغيرت البنية الدرامية السورية إلى بنية هشة، يغزوها صدأ الاستعراضات وبلادة الإبداع و جمود الأفكار التي تساعد على بناء الوجدان الثقافي في المجتمع السوري.
وبالحديث عن الدراما و حرية التعبير بشكلٍ عام، نذكر ما كتبه باتريك سيل عن دولة البعث: "في دولة الأسد، لم تعط فكرة حرية الفرد أي محتوى مادي، برغم الأجهزة و المؤسسات، فليس هناك قضاء مستقل استقلالاً حقيقياً، ولا حرية اتصال و تعبير"، ففي ظل الحكم المطلق، تموت كل الحريات و التطور في كل مجالات الحياة، ومنها الثقافة، كما كتب ياسر مرزوق، في مقال نشر في 13 يوليو/تموز 2014 "الدراما التلفزيونية السورية شكلت في السنوات السابقة المنبع المعرفي الأول و الموجه الأهم للرأي في المجتمع الذي تتراجع فيه منابع الثقافة الحقيقية". في المنظور العام، كانت الرقابة التي تتمحور حول الثالوث المحرم (الجنس، الدين، السياسة) طوال عهد الأسد الأب والابن، كانت كالأفعى السامة التي تقتل الإبداع في نفوس المبدعين في سورية، ولم يكن لسم الرقابة ترياق.
وعكة فنية تسمّى "دراما الخناجر والسكاكين" احتلت جسد الفن التلفزيوني، فصارت الدراما التلفزيونية السورية تخدم جمهوراً استهلاكياً، يبحث عن التسلية، أما التغيرات المتسارعة في المجتمع السوري فتنتظر من يلتفت إليها، ليطرح ما يستحق المعالجة.
كل هذه الأمور و المحاور الأساسية كانت كفيلة بقتل صور الثقافة لدى شريحة كبيرة من المجتمع السوري. لكن، في نهاية الأمر، يبقى التلفزيون وسيلة للترفيه عن الروح، و إن كنا نصدق قول بول فاليري "ليس الذئب سوى مجموعةٍ من الخراف المهضومة"، فإننا يجب أن ندرك أن الفن التلفزيوني لا يستحق كل هذه المكانة التي أخذها من يومياتنا، لكي نسمع حوارات مهترئة ومقيتة، لا تنفع و لا تغني. لكن، علينا أن نعلم أن هناك إبداعاً خُلِقَ من الألم والمعاناة، من الواجب احترامه وتقديره، أما الهراء الدرامي الذي نسمعه والكذب التلفزيوني الذي نشاهده سوف يذوب بذوبان الداعم الأساسي له.
لا أفهم كيف يقول مسؤول في مكانة وزير الخارجية الأميركي إنه يمكن القبول بالأسد لأنه يحتاج إليه في محاربة تنظيم داعش!
تصريح جون كيري، هذا وحده يكفي لدفع ملايين الناس هنا إلى تأييد «داعش»، ولنفس السبب. فإن كانت حجة كيري أنه سيتعاون مع الأسد كرها في «داعش»، فإن ملايين السوريين بدورهم سيتعاونون مع «داعش» كرها في الأسد. ومبرراتهم أعظم من حجته. ربع مليون إنسان قتلهم نظام الأسد، بعون حلفائه من إيرانيين وحزب الله، ويستحيل أن يتصالحوا معه مهما كانت مبررات الأميركيين. فهل يظن وزير الخارجية الأميركي أن ملايين السوريين سيسكتون وينسون المذابح والتشريد الذي حل بهم، فقط لأن كيري قرر أن يتحالف مع شيطان ليقاتل شيطانا آخر؟
وسواء كان ما صدر عن كيري، وأثار غضب ملايين الناس، هو جزءا من محاولة «مساج» الإيرانيين، لإقناعهم بالقبول باتفاق نووي، أو أنها نصيحة مستشاريه الذين لا يعيرون اهتماما كبيرا لمأساة السوريين ومحنتهم، فإن ما قيل من أسوأ ما صدر عن كيري، على الرغم من كثرة زلاته الكلامية!
إحدى أهم ركائز مواجهة تنظيم داعش الإرهابي هو بنبذه محليا، بإقناع شعوب المنطقة بالعمل سوية لمحاربته، لأنه يمثل خطرا مشتركا على المسلمين وغيرهم. ومن دون تعاون دول المنطقة فلا أحد يستطيع الانتصار على الجماعات الإرهابية التي تجتذب المتطوعين، والمتبرعين، من رجال وأموال، مدعية أنها من تقف معهم ضد البغاة والطغاة! فكيف يمكن لحكومات المنطقة إقناع مواطنيها عندما يخرج وزير خارجية الولايات المتحدة نفسه معلنا عن تفاوضه وقبوله بأسوأ نظام عرفته المنطقة، ارتكب أعظم مما فعله نظاما صدام العراقي والقذافي الليبي؟
وإن كان هدف تصريحه أرضاء الإيرانيين، فإن على الحكومة الأميركية أن تفكر مرتين، لأن ذلك سيضر بكل ما بنته على مدى عقود طويلة، ويعرض مصالحها لخطر أكبر، ويهدد المنطقة، وهي في النهاية لن تحصل من الإيرانيين ونظام سوريا وحزب الله إلا على مزيد من المشكلات الإقليمية.
لقد فتح كيري أبواب جهنم على نفسه وبلده، في منطقة غاضبة، تشعر غالبية أهلها بأن حكومة أوباما سكتت عن جرائم إبادة يومية، استخدمت فيها أسلحة غاز وكيماوية محرمة، وفي نفس الوقت منعت تسليح المعارضة بأسلحة نوعية، والآن تريد مصالحة القتلة في وضح النهار!
قيل مرّة: «لكلّ زمان دولة ورجال»، كما قيل: «لكلّ مقام مقال»، وفي سورة آل عمران «وتلك الأيّام نداولها بين الناس». وبمعنى مشابه اشتُهر بيت أبي البقاء الرنديّ في مرثيّته الأندلسيّة:
«هي الأمور كما شاهدتها دولٌ
من سرّه زمن ساءته أزمان»
وهناك، من غير شكّ، «حِكم» كثيرة، ربّما احتوتها اللغات جميعاً، عن تقلّب العهود والأزمنة، وعن أنّ ما كان صالحاً في ظرفٍ معيّن كفّ عن الصلاح في ظرف آخر.
وقد لمس بعض أهل المشرق العربيّ هذا التقلّب من خلال وجوه اضطلعت، في الماضي القريب، بأدوار كبرى. فالجنرال رستم غزالي مثلاً ظلّ رجل لبنان الفعليّ الأوّل حتّى رحيله في 2005، وارثاً المجد الذي خلّفه غازي كنعان، ثمّ مُحمَّلاً، لدى مغادرته، بتكريم مزدوج، ماديّ ومعنويّ: ثروة طائلة وبندقيّة المقاومة.
حينذاك، مع انسحاب غزالي وقوّاته من لبنان، بات السيّد حسن نصرالله مدعوّاً لملء الفراغ الذي أحدثه الانسحاب. ثمّ جاءت حرب 2006 مع إسرائيل وبعدها غزوة 2008 لبيروت لتجعلا نصرالله أكثر لبنانيّ محبوب وأكثر لبنانيّ مكروه في آن. ولئن انسحب السنّة تباعاً من دائرة الترويج لكاريزما نصرالله، فقد مضى المركز الشيعيّ وأطرافه «الممانعة»، في تكريس كاريزماه المزدوجة المصدر: فهو رجل دين تقليديّ من جهة، وهو رجل ثوريّ من جهة أخرى.
لكنّ غزالي لم يغب طويلاً عن الأنظار حتّى أعادته الثورة السوريّة إلى قلب المشهد. ذاك أنّ المذكور صار واحداً من جزّاري الشعب السوريّ، وبسبب انتمائه إلى الطائفة السنّيّة، مثله مثل قلّة من القادة الأمنيّين يتصدّرهم علي المملوك، بات مطلوباً تظهير دوره الذي يموّه اللون الطائفيّ لنظام الأسد.
بيد أنّ غزالي ومن يشبهونه، علويّين كانوا أم سنّة، افتقروا إلى القوّة المطلوبة لإنجاز المهمّة، وإن لم يفتقروا إلى القسوة في محاولتهم إنجازها. هكذا كان لا بدّ من تصدير نصرالله إلى سوريّة عبر مقاتلي «حزب الله»، في حركة معاكسة، إنّما مكمّلة، لتصدير غزالي وقوّاته إلى لبنان.
لكنْ بينما ألمّ بغزالي حادث غامض يُرجّح أنّه أنزله المستشفى، صعد نجم جنرال آخر يخطّط ويبادر ويقود، في سوريّة كما في العراق. إنّه ضابط «الحرس الثوريّ» الإيرانيّ قاسم سليماني. والانتقال من نجوميّة غزالي الصغرى إلى نجوميّة سليماني الكبرى يحظى بدلالات لا تخطئها العين: فقد حلّ الجنرال الإيرانيّ حلولاً كاملاً محلّ جنرالات سوريّة والعراق كلّهم، لا محلّ هذا الجنرال وحده، فيما صارت ضرورات الحسم العسكريّ في البلدين أكبر كثيراً من كماليّات التمويه بغزالي وأمثاله أو بعشائر سنّيّة في بلاد الرافدين.
على أنّ غزالي وزملاءه لم يكونوا الوحيدين الذين تجاوزهم سليماني. فالأخير، في لعبة النجوميّة الشيعيّة، بزّ نصرالله نفسه. ذاك أنّ فداحة المرحلة باتت تتطلّب الجيوش، لا المقاتلين، والغزو، لا المقاومة، فيما أهل الإمبراطوريّة هم الذين يرفعون أعلامها على التلال بدل موظّفيهم العاملين في الأطراف. وأخيراً، لم يعد، وقد جدّ الجدّ، ما يستدعي إخفاء الوجه الإيرانيّ بأصابع عربية. وإذ يتبختر سليماني اليوم في صور تتناقلها الصحف، وتتعدّد فيها ضحكاته ولُغاته الجسمانيّة، على ما هي عادة النجوم، فإنّ نصرالله يَضمر و»يحاور» «تيّار المستقبل» اللبنانيّ.
لكنّ سليماني، الجنرال، إنّما ينفّذ تكتيكاً حربيّاً شهيراً، هو نسف الجسر مباشرةً بعد عبوره. وأمّا ما ينسفه فكلّ ما يعبره جيشه في منطقة المشرق. إلاّ أنّ الجسر جيئةٌ آمنة ورجوعٌ ينبغي أن يكون آمناً أيضاً. وهذا مشكوك فيه!
ليست تصريحات وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بضرورة التفاوض مع بشار الأسد مفاجئة، فقد اختارت واشنطن، من حيث المبدأ، "الاستقرار"، خصوصاً بعد فشل فصائل المعارضة السورية التي عرضت نفسها بديلاً، يحافظ على استقرار المصالح الأميركية، فشلاً سياسياً وعسكرياً.
منذ بدأت الثورة، كانت هناك أسس للسياسة الأميركية، أولها أن واشنطن لم تكن لتسمح بقيام نظام تحرري حقيقي، ودولة مدنية تعددية، تؤسس ولو الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية في سورية. وثانيها أن واشنطن سعت إلى أن تكون الطرف الأهم في تقرير شكل التغيير في سورية، بحيث لا يؤثر على مصلحتها أو مصلحة إسرائيل.
صحيح أن واشنطن رأت في الثورة فرصة لإعادة تشكيل سورية، ليس استجابة لمطالب الشعب السوري، بل لإقامة نظام بعيد عن شعارات المقاومة، بغية فك ارتباط الدولة السورية بكل من إيران وحركات المقاومة من حماس والجهاد الإسلامي إلى حزب الله، لكنها فشلت في تشكيل بديل "معتدل"، يضمن عدم تحويل سورية إلى معبر للهجمات المسلحة مستقبلاً على إسرائيل.
أميركا وكما دائماً، قامت بلعبتها المزدوجة، بتسهيل دخول تنظيمات "إسلامية"، ودعم لها غير مباشر من خلال حلفائها، بغية إحداث واقع يجعل من الثورة حالة إرهابية، تبرر التدخل الأميركي، وبغية إيجاد فصائل تسميها معتدلة، تحت شعار مكافحة "الإرهاب".
أصبحت السياسة الأميركية تجاه سورية أكثر وضوحاً في محادثات جنيف 1 عام 2012، حيث تطالب بتنحية الأسد، لكنها رفعت شعار مكافحة الإرهاب في سورية، بالتفاهم الضمني مع سورية، إيذانا ببدء تشكيل البديل "المعتدل" سياسيا وعسكريا، في خطوة أقرب إلى نظام الصحوات في العراق، وإن كانت تهيئة البدائل، وليست فقط لضرب المقاومة، كما في بلاد ما بين النهرين.
بالنسبة لروسيا والنظام السوري، فإن مكافحة الإرهاب كانت تجريما للثورة نفسها، وتدعيما لشرعية لنظام الأسد، خصوصاً عربيا، مستغلة تخوف الشعوب والأنظمة معا من التنظيمات المتطرفة. وبالنسبة لواشنطن، كان ذلك يعني بديلاً لا استقلالية له، يؤيد سياسات واشنطن في المنطقة وينفذها.
هنا، يجب التذكير بأن النظام السوري لم يكن يوماً بعيداً عن سياسات واشنطن في مفاصل عدة، خصوصاً وليس حصريا في سنوات ما قبل الثورة، فالنظام تواطأ في ما يسمى الحرب على الإرهاب، بما في ذلك تعذيب "مشبوهين"، أشهرهم خالد عرار الذي نقلته كندا سراً إلى دمشق، حتى يخضع "للتحقيق" في أقبية الزنازين السورية.
وكان النظام قد بدأ تنفيذ سياسة اللبرلة الاقتصادية منذ عام 2005، وهو مطلب أساسي لواشنطن، وتبع ذلك رفع للأسعار وتدهور وضع المزارعين، ما كان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى الانتفاضة في الأطراف وفي ريف دمشق، ومؤشراً على محاولة النظام التفاهم مع أميركا.
ولعب جون كيري الذي كان في تلك السنوات عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي الدور الرئيسي في الوصول إلى تفاهمات مع بشار الأسد، إلى أن بدأت الثورة السورية، ورأت فيها واشنطن فرصة بديلة، لإيجاد قيادة تفك الارتباط مع إيران. وها هو كيري يعود إلى دوره القديم، ويوجه صفعة إلى أطراف المعارضة التي تخلت عن دورها التمثيلي لطموحات الشعب السوري، طمعاً بالنفوذ الشخصي أو السلطة، متجاهلة أن واشنطن تنشد أدوات ومصالح وليس حلفاء، خصوصاً بعد هزيمة حركة "حزم" أمام جبهة النصرة وقرب وصول تفاهم مع إيران.
ويعتمد التغير في السياسة الأميركية على نجاح التفاهم مع إيران، فلا سياسة ثابتة، وهو درس يجب أن تتعلمه المعارضات والأنظمة التي تنسى الشعوب وتتذلل لواشنطن.
سأسلم جدلاً بأن إيجاد تنظيم الدولة "داعش" هو لوضع الشعب و العالم أجمع أمام خيارين لا ثالث لهما ، (إما داعش أو الأسد ) و إما ( الإرهاب السني المشتت أو الإرهاب الشيعي المنضبط) و أما ( وأد الجميع أو مجرد القضاء على السنّة) و إما .. و إما .. و إما ...
و مع هذا التسليم الحالي بدأت الأمور تتجه و تأخذ منحى كما أريد له ، فتحولنا بسرعة رهيبة للتدقيق في أصغر التفاصيل ( رجم هنا ، و ذبحٌ هناك ، حرقٌ و رميٌ و جلدٌ و ... و ...) و لم يُعد لأي شيء غير هذا موجود على الأرض اللهم إن ظهرت هنا أو هناك استخدام زائد للقوة بصواريخ غريبة أو مجرد وجود الكلور داخل قنابل ، تقض المضجع قليلاً و سرعان ما تعود الأنظار بسرعة البرق إلى "داعش" فهي الإرهاب بعينه .
نعم هذا الإرهاب الذي يبدو أنه يأتي باُكله مع الحملة الإعلامية المنتظمة و التصرفات الغريبة و الغير مدروسة و الالتفات إلى جوانب لا تتفق أبداً مع أي سياسة بشرية فكيف بسياسية شرعية لدين أراد الله منه أن يكون رحمة للعالمين على مر الزمان و العصور و تبدل الأشخاص و الأماكن.
داعش لديها 20 ألف مقاتل من مختلف أصقاع الأرض ، أرقام دقيقة و محددة و أسماء و تحليلات و تفاصيل تتضمن ما ممكن أن يفكر به الانسان خلال العشر سنوات القادمة .. وهل سيكون متطرفاً أم سيبقى وديعاً.
في المقابل يستخدم الأسد و إن صح التعبير يتم استخدام الأسد و نظامه كمطية لتوافد عشرات الآلاف من المقاتلين من كل أصقاع الأرض بشكل منظم و دراماتيكي و يحظى بمظلة متينة تبع أي ولوج لشعاع نور قد يزعجه أو يربك استجمامه في القتل .
و بالعودة إلى التسليم الجدلي في البداية "داعش أو الأسد" .. فإن كان هو المطلوب و الخيار قد تم حسمه و قد تم توجيه و ترجيح كفة الثاني "الأسد" .. لم لا نقول أن اخترنا الأول "داعش" لا الدولة الإسلامية .. و نقوم بمبايعة الخليفة البغدادي كـ ولي أمر المسلمين و ولي أمرنا ضمن القائمة .. و لم لا نصدح بذلك .. فهل سيتم مناصرتنا أو كف يد نظام الأسد و إنهائه بنفس الوسيلة التي يتم التعامل فيها مع داعش ...
و لو اخترنا لأسد "كفرض طبعاً" هل سنتقي شره و تنتهي القصة .. أم سنكون قد وقعنا على صك موتنا و نحن بكامل قوانا العقلية..
لا شك أن الهلوسات التي تم اقتيادنا إليها هي وقتة أو لحظية تمر لنعود لرشدنا و نقول لا لهذا او لذلك .. ففي كل الأحوال الموت متوافرو بكثرة و كثافة .. و لكن هناك فرق بين الموت بعزة و كرامة .. و الموت لأجل لا شيء سوى الراحة الوقتية ..
و أذكر حديث سمعته قبل أيام .. مفاده:
هل أعجبكم ما فعلتموه في سوريا و أين نتائجكم ..!؟ "تباً لكم " ..
فكان الرد :
"أتقبل (تباً لنا) منك الآن و لكن لن أقبلها من أولادي و أحفادي في المستقبل بأن تباً لكم لماذا سكتم ".
الأمر لا يحتاج إلى رد سياسي أو كلام تنديد من هنا و هناك، بأن الأسد لم و لن يكون طرفاً في أي حل للأوضاع في سوريا ، فإجرامه المتتالي يكفي كرد فعل على ، قذارة السياسية الأمريكية التي تتحمل كامل المسؤولية عن ما جرى و يجري في سوريا.
48 ساعة فقط تفصل بين تصريح كيري حول ضرورة التفاوض مع الأسد و استخدام غاز الكلور على أهلنا في سرمين ، عشرة أيام تفصل بين قرار مجلس الأمن حول منع استخدام غاز الكلور و الضرب بقوة البند السابع ، و بين خنق سرمين بغاز الكلور.
الأسد بات يمتحن و يتحدى العالم بأسره و يضعه أمام خيار إمام أنا أو أحرقكم جميعاً .. أحرق إنسانيتكم .. أخنق البشرية ، مردداً " أنا القاتل المتفلت من أي عقاب مهما حدث" .
من السذاجة أن نطالب برد فعل دولي ، و لكن من وقاحة العالم أجمع أن يطالب أو يصمت أو يكتفي بمجرد الكلام عن قتلتنا بكل الوسائل ، و الخنق ليس الوسيلة الوحيدة ولا الأخيرة.
من الوقاحة أن نكون سلعة سياسية بأيدي سياسة المصالح و قذارة المفاوضات ، ورجس المبادلات الدنيئة .
مشهد سرمين ، سيمر كما مر مشهد الغوطة قبل عام و نيف ، كما تمر المشاهد اليومية من القتل ببرميل أو بقذائف أو بصواريخ لا إحصاء لأنواعها.
و على ما أظن أن الثوار سيكونون في قفص الاتهام هذه المرة ، و الدليل حاضر ، استخدموا الكلور مرة ثانية ، كوسيلة ضغط على النظام الوديع ..!؟
نعم فالثوار يملكون ما هب و دب من الأسلحة و أهمها الجوية ، و لديهم سوابق في تصنيع وسائل القتل و براء اختراع في انتاج الأعنف و الأكثر قتلاً.
نعم إنهم الثوار و البند السابع سيضربهم بشدة غير متناهية ، فالأسد لا يعاقب فهو " ضروري للتفاوض" وهو ضروري " لمكافحة الإرهاب " و هو ضروري " لمباحثات النووي الإيراني" و هو ضروري "لتدمير ما تبقى من سوريا" و هو ضروري " لأمن إسرائيل " و هو ضروري للحفاظ على " كراسي الحكام العرب" ، فهو ضروري " لحماية الأقليات و إبادة الأكثرية" و هو ضروري "لإستمرار داعش" و ركن أساسي في تأمين الساحة لصراع المصالح العالمية.
و يبقى في عالم المصالح الذي يحكم السياسة الإنسان آخر الأولويات .. و سيما إن كان من أكثرية عددية لا فاعلية لها إلا بنباح هنا أو هناك ، و قد يمتد الأمر لبعض اللف و الدوران كتكتيك بحسب ما يُأتمرون به.
يدخل النزاع السوري عامه الخامس، فيما تستمر أعمال العنف الوحشية التي لا تميز بين مدنيين ومقاتلين وتعرض آلاف الأطباء والممرضين والصيادلة والمسعفين إلى أعمال قتل وخطف وتهجير قسريّ، تاركين خلفهم فجوةً كبيرةً، إذ لم يبق مثلاً سوى أقل من مئة طبيب في حلب (شمال) بعدما كان عددهم ٢٥٠٠ عند بدء النزاع.
تملأ صرخات الشعب السوري صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها على ما يبدو أضحت دمدمةً لا تُسمع خلف أصوات الحرب. ونظراً لحاجة الملايين من السوريين إلى المساعدات، كان ينبغي على منظمتنا إدارة أحد أكبر البرامج الطبية في تاريخها الذي يمتد 44 عاماً. لماذا لم تقم بذلك؟
حين بدأ النزاع، شرعت المنظمة بتوفير الإمدادات الطبية للشبكات الطبية السورية التي تعنى بعلاج الجرحى. لم نستطع الحصول على موافقة الحكومة، لكننا تمكنا بفضل المفاوضات المباشرة مع الجماعات المعارضة من الاتفاق معها وبدأنا بتوفير المساعدات المباشرة عبر الحدود للســكان القاطنين في المناطق الخاضعة لسيطرتها في الشمال.
وبحلول 2013، كنا ندير ستة مستشفيات تخدم سكان مناطق سيطرة المعارضة وقدمنا آلاف الاستشارات والولادات والعمليات الجراحية. وسمحت لنا مفاوضاتنا مع الجماعات المعارضة على رغم مصاعبها بإرسال فرق طبية دولية للعمل إلى جانب زملائهم السوريين. وكان علينا أن نعيد التفاوض مع القيادات المحلية المختلفة لنضمن احترام وجودنا وسلامة فرقنا وعدم التدخل في أنشطتنا الطبية. فكانت الجماعات تتغير مراراً وكنا نتفاوض مع قيادات من «جيش المجاهدين» و «الجبهة الإسلامية» و «جبهة النصرة» والعديد من فصائل «الجيش الحر»، إضافةً إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) وغيرها.
لكننا لم نتمكن أبداً من توفير المساعدات المباشرة إلى معظم السكان العالقين في قلب النزاع. وشكل العنف وغياب الأمن والهجمات التي طاولت المرافق الصحية والعاملين الطبيين وعدم الحصول على موافقات حكومية، بعضاً من العوائق الرئيسية أمامنا، لكن على رغم القيود المفروضة، قمنا بعمل أكبر بكثير مما يمكننا القيام به اليوم.
في منتصف 2013 عندما وصل مقاتلو «الدولة الإسلامية» إلى المنطقة التي كانت تدير فيها منظمتنا معظم المستشفيات، تم التوصل إلى اتفاقيات مع قياداتها تنص على عدم التدخل في الإدارة الطبية واحترام مرافق وأطقم المنظمة. لكن في 2 كانون الثاني (يناير) 2014، قام تنظيم «الدولة» باختطاف 13 من أفراد طاقمنا. أُطلق سراح الزملاء السوريين الثمانية بعد بضع ساعات، وبقي أفراد الطاقم الدولي الخمسة في الأسر قرابة خمسة أشهر. أدى هذا الاختطاف إلى سحب فرقنا الدولية وإغلاق مرافقنا الصحية في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم.
طلب القادة المحليون في تنظيم «الدولة» مراراً استئناف المساعدات الطبية في مناطقهم. لكن لا يسعنا التفكير في ذلك بعد أن استهدفوا فرقنا ونكثوا بالاتفاقية. لم نحصل بعد على الضمانات المطلوبة من القيادة بعدم خطف وإيذاء مرضى المنظمة والعاملين معها. ولا تزال منظمة «أطباء بلا حدود» تدير ثلاثة مستشفيات عبر طاقم سوريّ يعمل مع المنظمة، أحدها في أطمة (شمال سورية وقرب حدود تركيا) واثنان في حلب، إضافةً إلى ثلاثة مرافق صحية أخرى في الشمال السوري، إلا أن المساعدات محدودة. وقتلت الغارات الجوية في حلب وأصابت الآلاف كما دمرت المنازل والبنى التحتية. وفي غرب حلب، أضحى الوصول إلى الرعاية الصحية شبه مستحيل نظراً إلى شح الإمدادات وغياب الطاقم الطبي المؤهل. وشهدت فرق المنظمة تزايد المضاعفات الطبية، كالإجهاض والولادات المبكرة. وتؤدي صعوبة توفير رعاية ما بعد الجراحة ونقص المضادات الحيوية إلى الالتهابات وزيادة معدل الوفيات.
أُجبرنا على تقليص أنشطتنا لكننا تابعنا دعم الشبكات الطبية السورية في سعيها الحثيث لعلاج المرضى. ويعد التبرع بالأدوية والمواد الطبية أساسياً بالنسبة إلى الطواقم العاملة في المناطق المحاصرة. يجري إيصال الإمدادات الطبية عبر طرقات خطرة تمرّ على العديد من نقاط التفتيش وترتفع فيها مخاطر تعرض المواد للمصادرة والأشخاص للاعتقال والموت. ولا يلبي الدعم بشكله هذا الحاجات، فالعديد من المنشآت لا تزال تفتقر إلى المعدات والعاملين، ولا يسعنا توفير المساعدات المباشرة لسدّ هذه الاحتياجات.
ثمة حاجة ماسة في سورية إلى بذل جهود إنسانية دولية على مستوى واسع، إلا أن ذلك لن ينجح إلا إن دخلت أطراف النزاع كافة في حوار مع المنظمات الإنسانية لتحديد خطوات عملية للسماح لها بالعمل بصورة فاعلة وآمنة. ويتوجب على أطراف النزاع المسلحة كافة السماح بوصول المساعدات الإنسانية للمدنيين وذلك في إطار التزاماتهم تجاه القانون الدولي.
يعيش الشعب السوري معاناة لا يمكن تصورها منذ أربعة أعوام، ولن يؤدي استمرار إعاقة المساعدات الطبية إلا إلى مفاقمة هذه المأساة وحرمان المدنيين من أبسط المساعدات، ولا يمكن العالم الاستمرار في غضّ الطرف عما يجري. يمكننا بل ويجب علينا أن نفعل المزيد من أجلهم.
منذ البداية تم توصيف الثورة السورية بالثورة المستحيلة واليتيمة والمدهشة، وأنها الأكثر تعقيدا وكلفة، بين مجمل ثورات “الربيع العربي”، فوق ذلك عرفت بأنها بمثابة ثورة مفتاحية، أي أنها وحدها يمكن أن تفتح مسار التغيير السياسي والديمقراطي في المشرق العربي، ما يفسّر، تالياً، حجم التدخلات الخارجية المتباينة فيها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
أربعة أعوام مرت عانى فيها السوريون عذابات لم تكن تخطر على بال، وشهدوا فيها الأهوال، مع مئات ألوف الضحايا من الشهداء والجرحى والمعاقين والمعتقلين، وفوق ذلك ملايين المشردين والنازحين.
المعنى من ذلك أن كل ما جرى في سوريا يؤكد أن ثورة السوريين، فوق كل ما تقدم، هي الأكثر استحقاقاً وشرعية بين مختلف الثورات العربية، فنحن لسنا إزاء نظام تأسس على الاستبداد والفساد، وتحويل البلد إلى مزرعة خاصة، وإنما نحن إزاء نظام أثبت أنه لا يمت بصلة لشعبه، وكأنه بمثابة أكثر من سلطة احتلال، وإزاء نظام فتح البلد على مصراعيه أمام النفوذ الإيراني، والميليشيات المسلحة المحسوبة عليه.
واضح أن هذه الثورة لم تنجح، وأنها بعد أربعة أعوام من التضحيات والبطولات لم تستطع أن تفرض سيطرتها أو وجودها، حتى في المناطق التي باتت خارجة عن سيطرة النظام، وأن قوى الثورة والمعارضة، سواء السياسية أو العسكرية أو المدنية، لم تستطع أن تؤكد ذاتها، إزاء السوريين وإزاء العالم، بسبب الصعوبات والتعقيدات والتدخلات الخارجية، وأيضا بسبب قصور تكوينها من الناحية التاريخية والتأسيسية. بيْدَ أن النظام، في المقابل، لم يعد كما هو عليه، أيضا، إذ انكشف أمام السوريين، وعلى الصعيدين العربي والدولي، وبات يعيش في عزلة، لا تخفف منها سوى علاقته الوظيفية بكل من إيران وروسيا، والأهم أنه لم يعد يسيطر على مجريات الأمور في سوريا، ليس بسبب خروج مناطق واسعة من سيطرته، وانكشافه أمام شعبه، وإنما أيضا، بسبب تحول سوريا إلى ساحة لتجاذبات القوى الإقليمية والدولية الخارجية، وبسبب ارتهانه لمصالح السياسة الإيرانية.
في المشهد السوري، بعد أربعة أعوام من الصراع، بتنا إزاء واقع مختلف من أهم سماته، أولا خروج السوريين من معادلة الصراع الجاري، بتشريدهم وتحولهم إلى كتل من اللاجئين، نتيجة لانتهاج النظام سياسة الأرض المحروقة، وتعمده تدمير البيئات التي يعتبرها حاضنة شعبية للثورة، بالقصف المدفعي والجوي وبالبراميل، مع قيامه بمحاصرة هذه المناطق وحرمانها من المواد الأساسية.
ثانيا، انتشار الجماعات المسلحة غير المرتبطة بالأجندة الوطنية للسوريين، ونقصد الجماعات الميليشياوية الطائفية، كحزب الله اللبناني وعصائب أهل الحق وكتائب أبو الفضل العباس، كما ثمة حديث عن مثيلاتها من اليمن وأفغانستان، إلى جانب الجماعات المسلحة المحسوبة على القاعدة، كجبهة النصرة، أو التي تشتغل لحسابها كـ”داعش”.
ثالثا، بعد أربعة أعوام لا يبدو في الأفق ما يؤشر إلى إمكانية حسم أي من الطرفين المتصارعين الصراع لصالحه، لا النظام ولا الثورة السورية، بل ثمة في الأوضاع العربية والإقليمية والدولية ما يؤشر إلى عدم السماح بذلك.
هذا يعني شيئين متفارقين، أولهما أن الصراع في سوريا وعليها يمكن أن يمتد لسنوات قادمة طالما لم يتم التوافق الدولي والإقليمي على الخارطة السياسية لسوريا القادمة. وثانيهما أن تقرير الأوضاع في سوريا لم يعد بيد النظام ولا بيد المعارضة، وإنما بيد القوى الدولية والإقليمية.
ثمة أمر واحد يمكن أن يكسر هذه المعادلة، وهو فتح مسار يمكّن السوريين من امتلاك زمام قضيتهم، وهذا لن يحصل إلا بتوفر طبقة سياسية سورية واعية وقادرة على أخذ قضيتها نحو توافقات وطنية، تفتح المجال أمام التغيير السياسي في سوريا، التي تتأسس على الديمقراطية، وعلى قاعدة دولة مواطنين متساويين وأحرار.
بعد مرور أربع سنوات على انطلاقها، تحوّلت الثورة السورية على نطاق واسع إلى حرب أهلية وإلى نزاع اقليمي بالوكالة، كما تدهورت حال الاقتصاد والمجتمع السوري بصورة مريعة. وفي هذا الصدد، صدر تقرير حديث عن "المركز السوري لأبحاث السياسات" (مقره دمشق)، بدعم من "برنامج الأمم المتحدة للتنمية- UNDP"، حول الوضع الاقتصادي في سوريا.
وأشار التقرير إلى خسارة الاقتصاد السوري أكثر من 200 مليار دولار خلال السنوات الأربع الأخيرة، أي ما يعادل أربعة أضعاف الناتج المحلي الاجمالي لعام 2010، أي العام الذي سبق اندلاع الثورة السورية. حيث تقدر نسبة البطالة في سوريا اليوم بأكثر من 57%، مقارنة بنسبة 11% العام 2010، كما يعيش الآن أربعة من بين كل خمسة سورييين تحت خط الفقر، في حين انخفض متوسط العمر المتوقع للفرد من 75 الى 55 عاما!
وتعرضت بعض القطاعات كالسياحة والنفط إلى دمار شبه كامل. بينما لحق بقطاع الصناعات التحويلية خراب هائل، وقد تعرض لأعمال سرقة ونهب واسعة بحيث لم يعد يشكل سوى خمس قيمته قبل الثورة. ومن بين القطاعات الأخرى التي تعرضت لمعاناة هائلة نذكر قطاعي النقل والتجارة الداخلية. ومن الجدير بالذكر أن الدمار الذي تعرض له اقتصاد البلاد قد ترافق مع تغيرات عميقة ضربت المجتمع السوري، بما في ذلك الهجرة الجماعية لرؤوس الاموال والموارد البشرية الى خارج البلاد، وكذلك التحولات الديموغرافية وتفتت المجتمعات والروابط الاجتماعية، بالاضافة الى ارتفاع معدلات الجريمة والشعور العميق بفقدان الكرامة.
وفي الإمكان مشاهدة الآثار البعيدة المدى لدمار الاقتصاد والمجتمع السوري في كل مكان. إذ تبدو الحكومة السورية، وبدرجة كبيرة، غير قادرة لتمويل نفسها. فهي تراكم، بشكل متزايد، ديوناً كبيرة على كاهلها بهدف تمويل مستوردات النفط والمواد الغذائية ولدفع رواتب موظفيها المدنيين، ولكن بشكل رئيسي لتمويل مجهودها الحربي، ومن سيتحمل عبء تسديد هذه الديون هو الشعب السوري بالطبع.
واذا أخذنا في الاعتبار النقص في التمويل وهروب رؤوس الاموال، فإنه سيكون بمقدورنا القول إن إعادة بناء الأصول المادية المدمرة، بما فيها المعامل والمعدات والآلات والأبنية السكنية، سيتطلب وقتاً طويلاً. فقد غادر كثير من رجال الاعمال البارزين البلاد، وسيكون من الصعب عليهم العودة إليها بعد انتهاء الحرب. كما ان اختفاء الطبقة الوسطى سيحرم البلاد من خبرة المدراء، الاكاديميين، الاطباء، المهندسين والمهنيين من سائر الاختصاصات.
وهناك ايضا عبء مستقبلي بانتظار المجتمع السوري يتمثل في صعوبة التخلي عن الكثير من الأنشطة والشبكات التي افرزتها الحرب والتي تلعب دورا متزايدا في الدورة الاقتصادية، إذ أن مصالح كبرى قد نشأت قي ظل اقتصاد الحرب وسيكون من الصعب السيطرة عليها.
وأخيراً، يتجذر التفتت الجغرافي والسياسي بشكل متصاعد. وقد تحوّل الكثير مما كان يعتبر مؤقتاً، مثل الخطوط الأمامية للجبهات، إلى شبه حدود بين مناطق مختلفة في البلاد، ما حطّم الشبكات الاقتصادية والتجارية التقليدية. وتقسيم مدينة حلب منذ صيف عام 2012 بين جزء غربي يخضع لسيطرة النظام وآخر شرقي تسيطر عليه المعارضة يمثل أحد أبرز الأمثلة على ذلك.
ونظرا لحجم الكارثة السورية، يبدو أنه من الصعب رؤية ضوء في نهاية النفق السوري الطويل، وكذلك من الصعب تقديم أي نصيحة تتعلق بالسياسات تتجاوز المطالبة بوقف فوري للقتال، وهو ما يبدو غير ممكن في المستقبل القريب.
كانت الثورة السورية الى درجة كبيرة تمرداً قامت به أكثر فئات الشعب هشاشة، حرماناً وفقراً، وبعد أربع سنوات من انطلاق الصرخات المطالبة بالتغيير كانت هذه الفئات بالذات هي التي دفعت أبهظ الأثمان في هذه الحرب، وأصبحت أكثر فقراً وهشاشة وأسى. وبالتأكيد لن يكون في 15 آذار 2015 سوى القليل مما يستحق الاحتفال به، ولسوء الحظ القليل أيضاً مما يمكن عقد الآمال عليه.