مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٩ فبراير ٢٠١٧
سورية والعراق... الحلول تتطلّب تحجيم دور إيران

قبل أن يبدأ التصعيد الأميركي ضد إيران، كانت عوامل التباعد بين روسيا وإيران تعدّدت وتعمّقت. لم يكن قد مضى اسبوعان من عمر الادارة الأميركية الجديدة حتى دقّت طهران الباب فسمعت الجواب: تحذير رسمي، ليس فقط بالرّد على التجربة الصاروخية الإيرانية، بل بفتح ملفات العراق وتهديد الملاحة الدولية بعد الهجوم الحوثي على الفرقاطة السعودية، وكذلك رعاية الإرهاب. في المقابل يتواصل الصراع الصامت بين الروس والإيرانيين داخل سورية، بين تنازع النفوذ على المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية وعلى تثبيت وقف اطلاق النار، وبالأخص مَن له الكلمة العليا والأخيرة على نظام بشار الأسد. بديهي أن النفوذ الروسي يتقدّم بخطى ثابتة، فيما لا يزال النفوذ الإيراني قادراً على تعطيل الهدنات وتخريبها، إلا أن يقينه في شأن مستقبله السوري بات مشوباً بالشكوك والتساؤلات.

القاسم المشترك بين روسيا وأميركا، ولو شكلياً، اسمه: الحرب على الإرهاب، أو ضرب «داعش». كانت طهران سبقت موسكو وواشنطن في إعلان حربها على هذا العدو، حين وضعت «هزيمة التكفيريين» هدفاً لتدخّلها في سورية. وبعدما انتشر «داعش» بين العراق وسورية أوعزت إيران لبغداد نوري المالكي بطلب المساعدة الأميركية لصدّ المدّ الإرهابي، وما لبثت هذه العودة الأميركية أن استحثّت تدخّل روسيا «لإنقاذ» حليفها نظام الأسد سواء من الإرهابيين أو أيضاً - كما روّج الإيرانيون - من ضربة أميركية محتملة. وبين الدورَين الأميركي والروسي حاولت إيران طرح نفسها شريكة في محاربة الإرهاب، بغية إضفاء مشروعية على سياستها التدخّلية وأنشطة ميليشياتها، وحققت نجاحاً كليّاً هنا وجزئيّاً هناك، إمّا لحاجة الروس اليها في سورية أو لرغبة ادارة باراك اوباما في مجاملتها في العراق. غير أن ترتيبات «ما بعد حلب» في سورية و «ما بعد داعش» في العراق كشفت للروس والأميركيين بالتزامن أن لديهم مشكلة تقتضي تحديد دور إيران (وميليشياتها) أو الحدّ منه.

انتهت اذاً مرحلة صعود الخط البياني بالنسبة الى إيران لتبدأ مرحلة الهبوط، أما وقف الهبوط للشروع بمرحلة ثبات فيرتبط أولاً بجعل طموحاتها واقعية وثانياً بحسن سلوكها، فقد لا ينفع دهاؤها أو دفع أتباعها الى مزيد من التطرّف. إذ إن تهديدات «الحرس الثوري» بالصواريخ وغيرها، مهما كانت جدّية، تبقى محدودة باستراتيجية دفاعية تتجنّب فيها إيران تعريض أراضيها ومنشآتها وبالأخص نظامها لأي أخطار مباشرة. أصبح عليها من الآن فصاعداً أن تغيّر كل حساباتها لردود الأفعال الأميركية عمّا كانت عليه في عهد باراك أوباما. ولا بدّ لها من مراجعة تكتيك التحرّش بالقطعات البحرية الأميركية، ومن نسيان حادث احتجاز الزورقين الأميركيين (كانون الثاني/ يناير 2016) وسكوت واشنطن على إذلال بحارتهما.

ومع أن ادارة دونالد ترامب استخدمت لهجة مرتفعة في مخاطبة طهران، إلا أنها ليست متعجّلة لمواجهة حربية معها، بل مصممة على كبح الجموح الإيراني أينما استطاعت ذلك، لأن إيران تصعّد خارج أرضها وبواسطة أتباعها، وبالتالي فإن المواجهة المحتملة مرشّحة لأن تحصل حيث هناك تماس بين الطرفَين، أي في العراق، وكان في الإمكان تصوّرها في اليمن إلّا أن السيطرة على باب المندب حُسمت، لكن الإيرانيين قد يدفعون الحوثيين الى تصعيد «انتحاري» أوسع ضد السعودية للتغطية على تراجعهم في ميدي والمخا. ويجب عدم استبعاد احتمال أن يعاود الإيرانيون إشعال جبهة الجنوب اللبناني سعياً الى اجتذاب الرأي العام العربي والاستفادة معنوياً بتأكيد أن ما تتعرّض له إيران، وكل الأدوار التي قامت بها على مرّ الأعوام السابقة، انما كانت بسبب تحدّيها ومواجهتها لإسرائيل.

كلٌّ من هذه السيناريوات لا يفترض أن إيران نفسها ستتعرّض لضربة مباشرة من شأنها أن تشدّ العصب الوطني، بل يعني أنها لن تتمكّن من الحفاظ على منطقة النفوذ، أو «العواصم الأربع» التي تدّعي السيطرة عليها. ذاك أن لعبها بورقة الإرهاب قد يكون جلب لها مكاسب لكنه صار مكشوفاً، بل يقترب من الارتداد عليها. فحتى لو كانت روسيا وأميركا شاركتاها العبث بتلك الورقة ومكاسبها إلا أنهما تتطلّعان الآن الى تعاون عنوانه الرئيسي إنهاء مرحلة «داعش»، وتجدان أن إيران (وميليشياتها) عقبة يجب كسرها للانتقال الى المرحلة التالية. باتت الدولتان الكُبريان، حتى قبل بلورة أي تفاهمٍ أو تنسيقٍ جديدَين بينهما، مقتنعتَين بأن ثمة ترتيبات سياسية يجب أن تسبق أو تواكب القضاء على «داعش» وإلّا فإنه سينهض سريعاً بصيغة وشعارٍ جديدَين. وقد تأكدت روسيا بأن مشاريعها لإنهاء الصراع المسلّح أو تجميده في سورية تصطدم بالأجندة الإيرانية، فيما تيقّنت أميركا أن الحسم النهائي في الموصل لا يشكّل نهايةً للإرهاب في العراق طالما أن إيران تُجهض، عبر ميليشيات «الحشد الشعبي»، أي سعي الى اتفاق أو مصالحة سياسيَين.

في كل التقديرات، ومهما بلغت قوة الأمر الواقع واعتباراته، لا يمكن أن تستقيم حلول سياسية وفقاً للصيغ والمعادلات التي بنتها إيران، سواء باستراتيجية «تصدير الثورة» أو بأساليب الشحن والعسكرة المذهبيَين. ففي حال سورية، مثلاً، ومع افتراض أن أميركا والدول العربية والغربية المعنية قبلت ضمناً ببقاء الأسد في منصبه تسهيلاً لانطلاق مرحلة انتقالية، فإن هذه الأطراف لا يمكن أن تقبل معادلة «الأسد + إيران (وميليشياتها)»، والأكيد أن موسكو لن تتبرّع بأي ضمان لمثل هذه المعادلة. أما في العراق فإن مجرّد الاعتقاد بأن الدور الإيراني دعامة للاستقرار والسلم الأهلي خطأٌ وخطيئةٌ فادحان، فلا ميليشيات قاسم سليماني تشكّل صمّام أمان ضد عودة «داعش»، ولا تهميش إيران للجيش الوطني وهيمنتها على الأحزاب الشيعية الحاكمة يوفّران ضماناً للمصالحة والوئام ومشاركة الجميع في إعادة بناء الدولة. أبعد من ذلك، ومع افتراض أن روسيا وأميركا تبحثان عن توافق بينهما لتقسيم سورية والعراق، أو لفدرلتهما وتقاسم النفوذ بينهما ونقل بعضٍ منه الى قوى إقليمية متحفّزة (أسرائيل وإيران وتركيا)، فإن تقاسم النفوذ وتوزيعه لا يمكن أن يتمّا وفقاً للمعادلات أو للمساومات التي تخيّلتها طهران.

يبقى العراق بالنسبة الى إيران الركيزة الأساسية لأي نفوذ خارجي لها، أما سورية فيتيح موقعها اللعب بأوراق إقليمية شتى. لكن طموحات إيران، شاءت أم أبت، صارت في مواجهة مصالح الدولتين الكُبريَين. وقد ذكّرها ترامب بأن أميركا تريد حصة متناسبة مع التريليونات الثلاثة التي أنفقتها أميركا في العراق، أما فلاديمير بوتين فألزم حكومة الأسد بتعاقدات من شأنها أن تمنح روسيا تحكّماً بكل مشاريع إعادة الإعمار في سورية، ما أثار طهران، فمارست أشدّ الضغوط على الأسد للإسراع بإرسال وفد حكومي لتوقيع الاتفاقات التي منحت إيران إمكان إنشاء ميناء نفطي ومناجم فوسفات وترخيصاً لشركة هاتف نقّال. وفي الوقت نفسه، ما أن طرح مشروع الوقف الشامل لإطلاق النار حتى صار مصير الميليشيات الموالية لإيران في سورية قيد التداول، ومع الدفع الإيراني باتجاه خرق وقف النار شعرت موسكو بأن سلطتها في سورية تتعرّض لتحدٍّ غير مسبوق، وإذا كانت تسعى فعلاً الى حل سياسي جدّي مع إصرارها على وجود الأسد فإنها تواجه ضرورة الاختيار بين سورية مع الأسد من دون إيران وبين سورية من دون الأسد وإيران.

الأكيد أن إيران لن تسلّم بسهولة بأنها في صدد خسائر متوقّعة في مجمل مشروعها، ولديها أوراق لا تزال قادرة على تحريكها. فالولايات المتحدة لم تتخلَّ عن حاجتها الاستراتيجية اليها كعامل توازن اقليمي، لكن الهوس الإيراني بالهيمنة «الامبراطورية» أخلّ بكل التوازنات والمقاييس وبات يتطلّب منها أن تعيد تعريف مفهومها للنفوذ وأهداف وجودها في الدول التي شاركت في تدمير مدنها وخرّبت نسيجها الاجتماعي، فضلاً عن أهداف تدخلاتها في دول الجوار الخليجي. فالميليشيات التي زرعتها لا يُنظر اليها كعناصر مرجّحة للاستقرار بل كألغام داخلية، كما أن التداخل الذي نسجته بين ظواهر الإرهاب والأزمات الداخلية أصبح لعبة مكشوفة. لكن الأسوأ أن إيران أفسدت الطائفة التي تعوّل عليها حتى غدا شيعتها رمزاً للتغوّل والترهيب.

اقرأ المزيد
٩ فبراير ٢٠١٧
إنهاء «داعش» يمرّ بقصر المهاجرين

التقرير الذي نشرته «منظمة العفو الدولية» عن «المسلخ» الذي تحولت إليه سورية في عهد بشار الأسد، لا يشكل مفاجأة أو كشفاً بالنسبة إلى السوريين، ولا الفلسطينيين أو اللبنانيين، فهم يعرفون أكثر بكثير مما ورد فيه، وخبروا ذلك بأنفسهم، ليس فقط خلال السنوات الست للثورة، بل منذ بداية عهد الأسد الأب الذي يذكره أهل حماة وبيروت خصوصا.

إنه موجه أساساً إلى أولئك الغربيين وبعض العرب الذين يديرون رؤوسهم عن جرائم النظام السوري بذريعة أولوية قتال «داعش» ومنع تمدده إليهم، وخصوصاً دونالد ترامب، فيما تقارير استخباراتهم تؤكد أن معظم إرهابيي البغدادي تخرجوا من سجون وأجهزة النظام السوري الذي يفوقهم دموية، لكنه «يعمل» بصمت ومن دون أشرطة مصورة.

الفارق الرئيس مع «داعش» أن نظام الأسد لا يوجه تهديدات مباشرة إلى الغرب، ولا يعلن مسؤوليته عن إرسال الإرهابيين إلى دوله. إنه يبعث بهم سراً، مثلما تظهر التحقيقات في باريس وبرلين واسطنبول، ثم يفاوض على دور له في «وقف» تسربهم. فنظامه ينتمي إلى مدرسة أشد خطورةً ودهاءً من «مروجي الخلافة»، إذ يمتهن القتل والتنكيل والتهجير تحت غطاء شعارات السياسة ومبرراتها، حتى أنه يدعي قتال الإرهابيين، ويطرح نفسه شريكاً في المعركة ضدهم، فيما يوجه معاركهم ويحدد أهدافهم.

ومثلما ابتلع الغرب الطعم طوعاً في السابق، عندما نكّل نظام الأسد بجيرانه، من دون أن يقرب إسرائيل، ها هو ترامب يعض الصنارة نفسها. فمحاسبة الأسد ليست بين أولوياته، لأن المعركة ضد «داعش» مستعجلة جداً، وقد أمهل مستشاريه شهراً لوضع خطة القضاء عليه، ولا وقت لديه للنظر في أمر مئات آلاف القتلى السوريين وملايين المهجرين، ولا في أمر البراميل المتفجرة أو القنابل الكيماوية، فهذه ليست من اختصاص إدارة المقاولات في البيت الأبيض.

وإذا كان لا أمل يرجى من إيران المتورطة حتى النخاع في مقتلة السوريين بدوافع مذهبية وقومية، لا يُحسن مسؤولوها إخفاءها، ولا من روسيا التي تشارك نظام الأسد معارك الإبادة الجماعية منقادة لمصالحها وتوقها إلى استعادة «المجد» السوفياتي، فلماذا تتورط دول تتغنى بالدفاع عن حقوق الإنسان وتمثيل «العالم الحر» في إخفاء معالم المذبحة الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية؟

ألا تذكر فكرة التحالف مع الأسد ضد «داعش» بالنظرية الحمقاء التي تبناها بعض الأوروبيين لدى بروز النازية في المانيا في مطالع ثلاثينات القرن الماضي، واعتبارهم أن باستطاعتهم استخدام هتلر في إقصاء منافسهيم، قبل أن يتحول صاحب شعار الصليب المعقوف إلى كابوس للعالم كله؟

التجاهل الذي يواجه به ترامب المعارضة السورية، وتهديده بقطع المساعدات الأميركية عنها، واعتباره أن البحث في إخراج الأسد من السلطة يقارب حد «الجنون أو الحماقة»، يعني أن لا أمل في حسم المعركة ضد «داعش» مهما حشد لها الأميركيون، لأن في جعبة نظام دمشق الكثير من المجموعات الإرهابية، الجاهزة للخروج إلى العلن، كلما اقتضى الأمر.

وما لم تسعَ الولايات المتحدة وأوروبا والعالم بأسره إلى وقف مسارات القتل المستفحلة بحق السوريين، وتقديم بشار الأسد وعصابته إلى محاكمة دولية، سيظل قصر المهاجرين بؤرة لنشر الإرهاب الفعلي «الهادئ»، بل ويمنح بين الحين والآخر «شهادات حسن سلوك» أهدى آخرها إلى ترامب «الواعد»، وسيظل السوريون ضحية إرهابين متلازمين يمارسهما النظام و«داعش».

اقرأ المزيد
٩ فبراير ٢٠١٧
ترامب وخامنئي ... مَنْ يستدرج الآخر؟

«هذا الرجل» الجالس في البيت الأبيض، كما يتحدث عنه المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، لا يحب أن يُستفزّ... استفزّ كثيرين من السياسيين والقضاة والإعلاميين في الولايات المتحدة، وقادة دول تململوا سريعاً من «نهج» الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب الذي يدير شؤون السياسة كما أدار شركاته.

ذاك الرجل الجالس في طهران، الممتن لترامب لأنه «كشف الوجه الحقيقي» لأميركا، لا يحتمِل لغة الإنذارات والوعيد مع إيران «القوة الإقليمية العالمية». يمكن الرئيس حسن روحاني أن يجرّب التلويح بجزرة مفاوضات و «شراكة» في المنطقة مع سيد البيت الأبيض، لكن الكلمة الأخيرة للمرشد الذي يرد على «الإنذارات» بحشد الشارع ضد «الشيطان الأكبر»، وتعبئة «الحرس الثوري» من مضيق هرمز إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط.

ولكن، مَنْ يستدرج الآخر إلى مواجهة؟ المرشد أم «الإمبراطور»؟ ترامب لن يكون «طيباً مثل باراك أوباما»، قال الرئيس الأميركي معلناً عملياً طي مرحلة «القوة الناعمة» لأن إدارته تعتبر إيران «أكبر داعمٍ للإرهاب». ولماذا تستعجل واشنطن مواجهة معها، قبل بدء الحوار الأميركي- الروسي لتبريد الصراعات والحروب في المنطقة؟

ذاك القيصر الجالس في الكرملين، ممسكاً بدفة الصراع في سورية، يدرك أن الحليف الإيراني «مشاغب»، يتطلع حتماً إلى حوار مع ترامب، يجنّبه انتظار ما ستنتهي إليه سيناريوات الصفقات الكبرى بين موسكو وواشنطن. لكن الارتياب المرجّح سبباً لتصعيد طهران لهجتها مع الإدارة الأميركية الجديدة التي سارعت إلى فرض عقوبات عليها، ليس ارتياباً من «العدو» وحده بل كذلك من الحليف الروسي الذي يسرّب منذ فترة «رسائل» عن استيائه من الإيرانيين وما يرتكبونه في سورية من «تطهير طائفي».

أكثر ما يخشاه الإيرانيون في عهد ترامب، منذ ذكّرهم بفضل إدارة أوباما التي حالت دون انهيار اقتصادهم (بعد رفع العقوبات)، أن تعود طهران إلى جدران العزلة، إذا اتفق «الإمبراطور» و «القيصر» على تطبيع شامل، كبداية لتفكيك قنابل النزاعات الإقليمية، وألغام التصعيد، من أوكرانيا إلى سورية إلى مصير الاتحاد الأوروبي وتجديد الحلف الأطلسي وأذرعه.

الأكيد أن ورقة الدعم التي قدّمها ترامب إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، نبأ سيئ لطهران التي بالكاد قَبِلتْ بامتعاض دوراً لتركيا في المفاوضات السورية، ولن تحتمل بقاء موطئ قدم لها في شمال العراق. والأكيد أيضاً أن الشراكة الصعبة بين الروس والإيرانيين دخلت مرحلة اهتزاز الثقة، منذ «طردت» طهران طائرات حربية روسية من قاعدة همدان في شكل «مهين»، وفق صحف في موسكو باتت تحذّر من «انتهازية» الحليف. وبعضها لاحظ أن إيران جدّدت عرضها استضافة مقاتلات القيصر في همدان، بعدما تجمّعت سحب مواجهة بين خامنئي وترامب.

ولن يكون مفاجئاً أن يلجأ المرشد مجدداً إلى سياسة حافة الهاوية مع الأميركيين، لاستدراج «صفقة» مع سيد البيت الأبيض، تعدّل الاتفاق النووي الذي تجرّع خامنئي كأسه لإنقاذ الاقتصاد الإيراني. وهذه صيغة قد تكون المخرج المتاح لحفظ ماء الوجه للرجلين. ولكن، مَنْ يضْمَنْ سقف مفاجآت ترامب؟ وماذا لو صنّفت إدارته «الحرس الثوري» منظمة «إرهابية»؟

التصنيف الذي يزداد التأييد له لدى صقور الإدارة الأميركية، يدفع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى توقُّع أيام «صعبة» لبلاده. فـ «الحرس الثوري» لدى المرشد هو «قلعة» النظام الإيراني، إذا اهتزّت بات مهدداً، وتضييق الخناق عليها بالعقوبات سيحول بين «الحرس» وبلايين الدولارات المتوقعة استثمارات في مشاريع يديرها.

ولّى زمن القوة الناعمة، قال ترامب فيما يدرك أن حلفاء إيران الروس لن يضيرهم تحجيم النفوذ الإقليمي لطهران، خطوة خطوة، بدءاً من ساحة الصراع في سورية مروراً باليمن والعراق. لن نشهد غداً قمة أميركية - روسية، ولا انسحاباً إيرانياً من سورية، ولا رفع طهران الغطاء عن الحوثيين في اليمن، ولا إحالة قاسم سليماني على التقاعد.

تحجيم أجنحة «الحلفاء» وأدوات الصراع بالوكالة، ما زال في بداية الطريق، ولإيران الحصة الكبرى.

اقرأ المزيد
٩ فبراير ٢٠١٧
توزيع «الغنائم» في سوريا

كثيرة هي توقعات الخبراء والمراقبين بشأن التطورات المحتملة في دور كل من روسيا وإيران في سوريا، بعد أن بدأت الخلافات بينهما في الظهور. ليست جديدة هذه الخلافات التي تناول كاتب السطور جانباً منها في المقال المنشور هنا في 4 يناير الماضي تحت عنوان «روسيا وإيران في سوريا». لكنها أصبحت أكثر وضوحاً منذ أن اتجهت روسيا إلى إعادة رسم ملامح سياستها عقب الحسم العسكري في شرق حلب، وقطع خطوات أسرع باتجاه التقارب مع تركيا. وكان مؤتمر الأستانا في 23 و24 يناير الماضي المسرح الذي ظهرت عليه الخلافات بين روسيا وإيران في أوضح صورها حتى الآن.

وربما يكون توقع كل من الدولتين تنامي الخلافات بينهما في الفترة المقبلة وراء سعيهما للبدء في حجز حصص في «سوريا الجديدة» مبكراً، وكأنهما تستبقان تسوية قد تؤدي إلى تغيير في تركيب نظام الأسد حتى إذا بقي رأسه، الأمر الذي يجعل الحصول على ما تطمحان إليه صعباً أو أقل سهولة.

ولعل هذا يفسر تحرك الدولتين في اتجاهين متوازيين خلال النصف الثاني من الشهر الماضي، لتوقيع اتفاقات اقتصادية وعسكرية مع نظام الأسد. وربما تكون هذه الاتفاقات دفعة أولى في استحقاقات يتعين على النظام تأديتها مقابل وقوف روسيا وإيران معه حين كان على وشك السقوط، وخوض معارك ضارية لتعويمه واستعادة سيطرته على مساحة لم يكن متصوراً قبل عامين أنه يستطيع استرجاعها، ثم إعادة تأهيله دولياً بعد تثبيته داخلياً.

ويوحي سلوك روسيا وإيران الآن بأنهما تتعاملان مع الوضع في سوريا على أساس أنهما انتصرتا في حرب تحالفتا فيها، وجاء وقت التنافس على «غنائمها». ولأن هذه الحرب ليست تقليدية، يختلف مفهوم «الغنائم» فيها إذ تحصل كل من الدولتين عليها من حليفهما وليس من الأعداء الذين قاتلتا ضدهم، فضلاً عن أن هذه الغنائم توجد أساساً في المناطق الخاضعة لسيطرته.

ويدل محتوى الاتفاقات المبرمة حتى الآن على أولويات كل من روسيا وإيران في هذا المجال. فقد وقَّع رئيس الوزراء السوري عماد خميس، خلال زيارته لطهران في 17 يناير الماضي، عدة اتفاقات اقتصادية. لكن إيران تستطيع الاستفادة منها لأغراض أبعد من الاستغلال الاقتصادي.

فالاتفاق الذي حصلت بموجبه على امتياز إنشاء شبكة هاتف جوَّال يتيح لها عائدات مالية كبيرة ومضمونة، لكنه يمكّنها في الوقت نفسه من الحصول على معلومات تريدها عبر مراقبة اتصالات محلية ودولية. أما الاتفاق على منحها 5 آلاف هكتار لزراعتها، فيتيح فرصة لتوطين مقاتلين في الميليشيات التابعة لها وعائلاتهم عند التوصل إلى تسوية قد تتضمن إخراج هذه الميليشيات. وقل مثل ذلك عن اتفاق تشغيل مناجم الفوسفات في منطقة قريبة من مدينة تدمر، حيث سيكون بإمكانها توطين أعداد أخرى من المقاتلين التابعين لها بدعوى أنهم عمال في هذه المناجم.

كما يسهل استخدام الميناء الذي حصلت على امتياز إنشائه لتصدير النفط بموجب اتفاق رابع، لأغراض أخرى مثل إدخال أسلحة أو مقاتلين.

أما الاتفاق الذي وقعته روسيا مع نظام الأسد، ونشره موقع الوثائق الإلكترونية التابع للكرملين في 27 يناير الماضي، فيعبر عن المصلحة التي تحظى بأولوية قصوى لديها، وهي ضمان وجود قوي ومؤثر على ساحل البحر المتوسط. فقد ظل الوصول إلى «المياه الدافئة» هدفاً استراتيجياً للروس على مدى أكثر من ثلاثة قرون.

ويمنح هذا الاتفاق موسكو حق الاستخدام المجاني لقاعدة طرطوس البحرية لمدة 49 سنة قابلة للتمديد تلقائياً، ويوَّفر حصانة كاملة لقواتها ومعداتها، ويُمكنها من نشر سفن حربية، بما في ذلك النووية منها.

ويُعد هذا الاتفاق الثاني من نوعه، إذ سبقه في سبتمبر 2015 اتفاق أتاح لموسكو استخدام قاعدة حميميم الجوية التي صارت أهم مراكز الوجود العسكري والسياسي الروسي في سوريا الآن.

وليست هذه إلا بداية توزيع «غنائم» الحرب بين الدولتين اللتين تتطلعان إلى أن يكون انخراطهما فيها نقطة تحول في دور كل منهما في منطقة الشرق الأوسط بوجه عام.

اقرأ المزيد
٨ فبراير ٢٠١٧
سوريا: نهاية الإنسانية؟

تحت عنوان «سوريا: المسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسوريا» نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً طويلاً كأنه فيلم رعب لا ينتهي عن سجن صيدنايا العسكري والممارسات التي يرتكبها نظام بشار الأسد فيه.
وسائل الإعلام العالمية تناقلت الرقم المخيف الذي نتج عن عمليات الشنق الجماعي السرية التي تجري خارج أنظمة القضاء للمعتقلين المدنيين والذي قدّرته المنظمة الحقوقية بثلاثة عشر ألف شخص خلال الفترة بين أيلول/سبتمبر 2011 (عام اندلاع الثورة السورية) وكانون الأول/ديسمبر عام 2015، وتجري عمليات الإعدام مرة أو مرتين كل أسبوع حيث يشنق ما بين 20 و50 شخصاً في كل مرة ثم يجري نقل الجثث بشاحنات لتدفن في قبور جماعية.

يؤكد التقرير أن أوامر الإعدام توقع من قبل أعلى المسؤولين في الحكومة ويوافق عليها مفتي سوريا وكذلك موافقة وزير الدفاع أو رئيس هيئة الأركان كمفوضين عن الرئيس السوري، وبأن الانتهاكات داخل السجن صمّمت لإيقاع أقصى درجات المعاناة البدنية والنفسية وإهانة المعتقلين ونزع الصفة البشرية عنهم وتدمير أي شكل من أشكال الكرامة أو الأمل لديهم.

أول ما يتبادر للذهن عند قراءة التقرير هو فساد الرأي الذي أصبح، للأسف، سائداً عن وجود «حرب أهلية في سوريا» بين طرفين بحيث تتم مساواة آلة قتل طاحنة تحكم البلاد بالنار والحديد منذ خمسة عقود وتتصرف كجيش احتلال همجيّ مع الذين ثاروا عليها سلميّاً (والأغلبية الساحقة من السجناء والمشنوقين حسب التقرير هم كذلك)، أو الذين امتشقوا السلاح دفاعا عن أعراضهم وأرضهم وكرامتهم.

في الوقت الذي نُشر فيه هذا التقرير كان وفد جديد آخر من صحافيي العالم، هذه المرّة من بلجيكا، يلتقون الرئيس السوري بشار الأسد، المسؤول الأول عن هذا النموذج المصغر عن الفظاعات المهولة العامّة، ليقدّموا، بشكل أو آخر، تسويقاً جديداً له ضمن حملة علاقات عامّة كما لو كان هذا التسويق إسهاما من صحافيي وحكومات العالم في المقتلة السورية.

هذه المفارقة لا تني تتكشّف كلّ مرّة تتماهى فيها صورة الأسد مع صور المعذّبين والمهانين والمذلولين وشاحنات الجثث والعظام النافرة للقتلى والمساجين، وتنفضح واقعة أن سجون سوريا هي الوجه الحقيقي لرئيسها «الدكتور»، وأن بلاغات دبلوماسييه الأشاوس كوليد المعلم وبشار الجعفري هي نفسها كلاليب تعليق السجناء لتعذيبهم وشاحنات الموت وقذائف الغازات السامة والبراميل المتفجرة… وفي كل مرّة تهبط طائرات الصحافيين المدعوّين للمشاركة في تنظيف وتعطير المسالخ البشرية وتقديم المنبر للرئيس الطاغية ليُدلي بآرائه العجيبة، ومنها، حسب مقابلته الأخيرة إن انتخابه رئيساً لا علاقة له بأن أباه كان رئيساً. المسألة تتعلّق بمحبّة ودعم الشعب له.

لقد أصبح الأسد رئيسا إذن بدعم الشعب نفسه الذي أعدم منه في سجن واحد ثلاثة عشر ألف شخص.

حسب أحد الحراس السابقين للسجن الذين استنطقهم التقرير فإن سجن صيدنايا هو «نهاية الحياة ونهاية الإنسانية».

لكن الحقيقة أن نهاية الإنسانية هي في الممارسة المستمرة لتزيين المسلخ الذي آلت إليه سوريا تحت حكم الأسد وفي هذا يتساوى المفتي والوزير والدبلوماسي السوري مع صحافيين وسياسيين غربيين.

اقرأ المزيد
٨ فبراير ٢٠١٧
لماذا اقترح الروس دستوراً لسورية؟

فيما انشغل السوريون بشرح ثغرات الدستور الذي اقترحته روسيا على وفد الفصائل العسكرية الثورية في أستانة الشهر الفائت، ومدى التعدّي الروسي في هذا المقترح على السيادة الوطنية السورية، وبالسؤال عمن هم الذين كتبوا الدستور، وهل هم "منصة حميميم"، أم شاركهم آخرون؟ وبقي السؤال الأهم: لماذا اقترح الروس هذا الدستور الآن، من دون اهتمام يذكر، فقد أخذ على أنه مجرد دفع روسي للوصول إلى حل سياسي.

يعارض الروس، منذ بدء المفاوضات في جنيف 2 فكرة الإعلان الدستوي لتأسيس المرحلة الانتقالية، تجنباً للوقوع في فراغ قانوني (يصر الروس على تسميته فراغاً دستورياً)، ويصرّون على الانتقال من خلال الدستور القائم (دستور 2012) الذي فرض في ظروف معروفة تفقده أية شرعية، بحيث يتنازل الرئيس وفق المادة 114 منه عن جزء من صلاحياته لهيئة الحكم الانتقالي التي يسعى الروس لتغييرها أيضاً إلى "حكومة مشتركة"، انطلاقا من مفهوم "حكم ذي مصداقية" المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن 2254، لكن هدف التمسك بهذا الدستور أساساً للانتقال السياسي إعادة الشرعية إلى نظام الأسد، وإبقاء الأسد رئيساً، ولو بصلاحيات محدودة، والانطلاق من هذا الدستور نحو آخر جديد يكرّس النظام.

العقبة الرئيسية أمام هذا التصور الروسي هي المعارضة السورية السياسية، ممثلةً، بشكل رئيس، في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة كما اتضح في "جنيف 2" في العام 2014، والذي أدى تمسكه بصيغة جذرية للانتقال السياسي إلى تجاوزه بمساع روسية لتشتيت المعارضة وتمزيقها، بإيجاد معارضات متعددة قريبة منها، حتى ولو لم تكن تتمتع بالمصداقية التي يتمتع بها "الائتلاف"، ولكن كثرتها ستجعل من الصعب تجاوزها. وأدت المساعي الروسية إلى تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات، انطلاقاً من بيان المجموعة الدولية لدعم سورية (ISSG) في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، إلا أن الهيئة، والتي نص بيانها التأسيسي على أن "هدف التسوية السياسية هو تأسيس نظام سياسي جديد من دون أن يكون لبشار الأسد وزمرته مكان فيه"، تمسكت، هي الأخرى، ببيان جنيف الذي يتمتع بمرجعيةٍ دوليةٍ، أساسها قرار مجلس الأمن 2118، وبتشكيل "هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات"، و"عملية سياسية لا جود لبشار الأسد فيها"، كما اتضح أيضاً في "جنيف 3" في 2016، في وثيقة الهيئة للإطار التنفيذي لبيان جنيف (22-4-2016). وحاول الروس عبر المبعوث الأممي، ستيفان ديمستورا، وعبر فريقه الاستشاري ومساعديه، إقناع المعارضة بأن الرجوع إلى دستور 2012 أفضل خطوة، وقدّم لهذا الهدف مسشاروه القانونيون للمعارضة مقترحاً تفصيلياً (على شكل دراسة) حول كيفية "تشكيل هيئة حكم انتقالي في ظل دستور 2012"، اعتماداً على المادة 114، على الرغم من أن المعارضة لم تطلبه من الأساس.

ما يريده الروس فعلياً هو إعادة الشرعية لنظام الأسد ومؤسساته، وإبقاء الأسد رئيساً أطول فترة ممكنة، ولا سبيل للوصول إلى هذه الشرعية المسترجعة إلا عبر ثلاث خطوات:
الأولى، إبقاء بشار الأسد رئيساً شرعياً في الفترة الانتقالية أطول مدة ممكنة، ما يضفي شرعية كاملة على جميع تصرفاته رئيساً في الفترة السابقة، ويسقط مفهوم الثورة من الأساس، باعتبار الثورة رفضاً جذرياً لشرعية النظام، وسعياً إلى تغييره كلياً سلميا أو بالقوة. الثانية، الحفاظ على النظام باسم الحفاظ على الدولة، وهو يتطلب احتفاظ الأسد بالسيطرة على مؤسستي الجيش والأمن، وهما فعليا ما يتجسد بهما النظام، والاكتفاء ببعض التغييرات الإصلاحية فيهما. الثالثة، عودة الأسد رئيساً منتخباً لسورية بعد المرحلة الانتقالية.

يتطلب هذا أن يضمن الروس عدم وجود عقبة لبقاء الأسد بعد المرحلة التحضيرية الانتقالية (6 شهور)، أي أن يبقى طوال الفترة الانتقالية، مهما كانت مدتها، والسماح لبشار الأسد بدخول الانتخابات الرئاسية، وهو أمر يتطلب اختصار المرحلة الانتقالية أو دمج المرحلتين بمرحلة واحدة طويلة، وهو الأفضل بالنسبة للروس الذين وجدوا فرصتهم في تغير موازين القوى على الأرض، وانشغال الأميركيين بالانتقال إلى إدارة جديدة، وحاجة الأتراك لهم لإفشال مشروع الإقليم الكردي على الشريط الحدودي الجنوبي، باعتباره خطراً يهدد الأمن القومي، وتقليص النفوذ الإيراني في سورية لإيجاد مسار تفاوضي جديد، يتجاوز المعارضة السياسية عبر الفصائل العسكرية الثورية (المعارضة المسلحة)، إذ تملك تركيا القدرة على التأثير على كثير من هذه الفصائل، وهو أمر قد يسمح بإيجاد كتلة حرجة، يمكن أن تجر معها الفصائل الأخرى، بالاستفادة من العلاقة السيئة بين العسكر والسياسيين السوريين في المعارضة، وستؤدي، بالضرورة، إلى إطاحة الهيئة العليا للمفاوضات والأجسام السياسية للثورة، وتجاوزها عقبة أمام حل سياسي يناسب روسيا في ظل انتقال الإدارة في الولايات المتحدة أولاً، ثم عدم اتضاح سياسة إدارة ترامب تجاه سورية ثانياً.

يستعجل الروس تحويل "أستانة" إلى منصة للفصائل العسكرية، وإحداث مسار جديد للتفاوض، أطلق عليه وزير الخارجية سيرغي لافروف "مسار أستانة"، وهو أمر يتيح للروس إقامة قواعد جديدة، وهي التفاوض في ظل التهديد بالقوة على الأرض، كما أنه، في أسوأ الأحوال، إن لم يصبح مساراً جديداً يكفي أنه أوجد منصة للعسكر، موازية، من حيث القوة، للهيئة العليا للمفاوضات. وبالتالي، يمكن أن تضعف مصداقيتها، وتغير في قواعد التمثيل للمعارضة، وهو أمر يساعد على تحقيق استراتيجية روسيا في إيجاد معارضات تشتّت المعارضة الأساسية، وتشوش عليها، وتسمح بإيجاد وضع قانوني لها، من خلال اعتبارها في القرارات الدولية، كما هو الحال في قرار مجلس الأمن 2254 الذي أشار إلى مجموع المنصّات التي شكلتها موسكو (القاهرة، أستانة، منتدى موسكو) باستنثاء منصة حميميم التي تمثل أكثر النسخ فجاجةً في تمثيل النظام باسم المعارضة!

الحاجة إلى هذه المنصات المتعدّدة هي حاجة روسيا إلى إضعاف صوت المعارضة الرئيسي، وتحويلها إلى طرف من أطراف متعدّدة. حاولت روسيا الإسراع بإنشاء هذا الخلط في موسكو (29 يناير/ كانون الثاني 2017) بما سمته "الوفد الموحد للمعارضة السورية"، لكن عدم ذهاب الائتلاف الهيئة العليا للمفاوضات أفشل ذلك، ومن الواضح من تركيبة المقترح الروسي للوفد الموحد أن الهدف أن يكون صوت الهيئة العليا والائتلاف منخفضاً للغاية، 2 من أصل 10، والغرض واضح، تمرير الخطة الروسية في مجلس الأمن عبر اتفاق يوقعه الطرفان، النظام و"المعارضات"، تتم المصادقة عليه في مجلس الأمن بسهولة.

واستعجل الروس طرح الدستور المقترح على وفد الفصائل العسكرية الثورية في أستانة قبل اجتماع موسكو، ووزعوا الدستور على "الوفد الموحد" في موسكو، بغرض تحويله إلى مادة للنقاش مع أو ضد، المهم أن يكون محور نقاش، وإذا ما أجريت عليه بعض التعديلات، فإن في الوسع الحفاظ على بنيته الأساسية. ويطمح الروس أن تتبنى معارضتها التي شكلتها خلال السنوات الماضية مشروع الدستور، وتمرير الدستور عبر موافقة أغلبية المعارضة من خلال قرار لمجلس الأمن، إذ يبدو أن الروس اعتقدوا بإمكانية دفع المفاوضات في مجلس الأمن عبر مسار أستانة، لكنهم وجدو ذلك شبه مستحيل، فليسوا هم اللاعب الوحيد المؤثر في سورية. هكذا اضطر الروس للتعويل على جنيف مرة أخرى، مع الإصرار على الاستفادة من المنصات التي أوجدتها، لتمرير اتفاق سياسي يتضمن الدستور. ومن المعلوم أن مسودة الدستور تمنح فرصة للأسد للبقاء في السلطة إلى 16 عاماً، المهم في الدستور نقطتان: الأولى بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية كاملة، والثانية حقه في الترشح للانتخابات بعد المرحلة الانتقالية، وهو ما يتيح له البقاء إلى "الأبد" فعليا.

لكن تمرير الدستور في اتفاق في مجلس الأمن يتطلب تجاوز عقبة نص عليها القرار 2254، وهي أن الدستور يُصاغ خلال المرحلة الانتقالية، أي بعد الاتفاق وليس قبله، فمسؤولية "الحكم ذي المصداقية" الانتقالي هي "تحديد جدول زمني" ونظام "عملية لصياغة دستور جديد"، وتجاوز العقبة هذه ممكن من خلال موافقة المعارضة على نقاش الدستور، قبل التوقيع على الاتفاق السياسي، وإمكانية أن يكون جزءا من الاتفاق، مجرّد موافقة المعارضة على ذلك يكفي، هذا هو الحد الأدني الذي يمكن أن يمثل وحده مكسباً في طرح مقترحهم للدستور.

ما يمكن أن يفشل المساعي الروسية وشركائها هو رفض الفصائل والهيئة العليا للمفاوضات والائتلاف الوطني أي مناقشة للدستور من أي نوعٍ كانت، والاستقواء بالهيئة العليا للمفاوضات والانطواء تحتها في أي مفاوضات في جنيف، باعتبارها المظلة الوحيدة للمعارضة، وعدم الحضور في جنيف إلا إذا كانت الهيئة العليا للمفاوضات هي الجهة الوحيدة مقابل النظام، إعادة بناء الوفد المفاوض بتمثيل أكبر، والإصرار على الإعلان الدستوري، وعدم قبول الانتقال السياسي اعتمادا على دستور النظام، والتمسّك بعدم قبول بقاء بشار الأسد لأي مدة في الفترة الانتقالية.

اقرأ المزيد
٨ فبراير ٢٠١٧
روسيا تصوغ دستوراً للسوريين!

وزعت روسيا على أعضاء المعارضة السورية المسلحة الذين شاركوا في محادثات آستانة مسودة دستور جديد لسورية وضعته موسكو «لتسريع المفاوضات السياسية لإنهاء الصراع» وفقاً لمبعوث الكرملين.

والسؤال هنا: لماذا قررت روسيا أن تبدأ من نقطة بالغة الحساسية بالنسبة الى أية أمة، فأي دستور لأية دولة إنما يعكس قيمها الأساسية، وخصوصاً أن روسيا تكرر في كل مرة منذ بدء الانتفاضة السورية في عام 2011 أن الأمر متروك للشعب السوري وتصرّ في كل فرصة على أن الحل يجب أن يكون سورياً من خلال تسوية سياسية وحصرية من جانب السوريين.

ثم كيف تأتي روسيا وتقدم على صياغة «دستور سوري» وتسأل السوريين مناقشته والموافقة عليه؟

أعتقد أن كل السوريين الذين سمعوا بهذا الخبر شعروا بالإهانة، فروسيا اليوم لا تتدخل لحساب نظام الأسد وإنما تتصرف بوصفها قوة احتلال، وتستخدم القوة لفرض رغبتها العسكرية والقوة ذاتها لرغبات أحلامها السياسية.

لقد أعد هذا الدستور من جانب «خبراء روس» بعد يومين من المحادثات غير المباشرة بين المعارضة المسلحة السورية وممثلي النظام، من دون إشارة لوجود اختراق للتوصل إلى تسوية سياسية أوسع لإنهاء الحرب، ومن كان يتوقع غير ذلك؟

ثم فجأة قررت روسيا عدم التركيز على تنفيذ وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سورية حيث انتهكته حكومة الأسد كل يوم تقريباً بخاصة في منطقة وادي بردى وضواحي دمشق، ولم تعد تركز على بنود الاتفاق بين روسيا وتركيا الذي قبلته المعارضة على أمل بأن يحدث فرقاً على الأرض من خلال التطبيق الكامل لوقف إطلاق النار. بدل التركيز على ذلك فضلاً عن قضايا أخرى تشكل أولوية للسوريين اليوم مثل اللجوء والوضع الإنساني، فإن روسيا قفزت وعملت على صياغة دستور ووضعته تحت تصرف الشعب السوري.

أقرت سورية ما لا يقل عن 12 دستوراً منذ الاستقلال عام 1946، عندما انسحب آخر جندي فرنسي من الأراضي السورية، وكان الرئيس شكري القوتلي، أول رئيس لسورية بعد الاستقلال عمل على تعديل الدستور وتغيير النظام الانتخابي في عام 1949 للسماح بانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب بعد انتهاء فترة ولايته الأولى. ثم أتى حسني الزعيم بأول انقلاب عسكري يوم 30 آذار (مارس) 1949، وعلق الدستور.

في آب (أغسطس) 1949، قاد سامي الحناوي انقلاباً عسكرياً آخر، ثم دعا إلى انتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد. وصدر قانون جديد لانتخاب هذه الجمعية، وشاركت المرأة السورية في التصويت للمرة الأولى. دستور عام 1950، المعروف أيضاً باسم دستور الاستقلال، يمثل تطوراً ديموقراطياً حقيقياً في تاريخ الحياة السياسية السورية. فقد منح هذا الدستور صلاحيات واسعة لرئيس الوزراء، وفي الوقت نفسه حدّ من صلاحيات رئيس الجمهورية. وعزز الدستور أيضاً سلطة القضاة. وكذلك ديموقراطية الدولة والمؤسسات، من خلال إنشاء المحكمة الدستورية العليا. كان دستور 1950 متقدماً جداً في ما يتعلق بالحقوق والحريات العامة المبنية على أساس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948 وهو بذلك يعد أول دستور ديموقراطي في المنطقة العربية في تلك الفترة.

لذلك وحتى اليوم، فإن سوريين كثيرين - وخصوصاً المعارضة السورية- لا يزالون يعتقدون بأن دستور 1950 سيكون أفضل نموذج اليوم لعودة سورية إلى الجمهورية والديموقراطية. وهذا ما حدث في الحقيقة مرتين. بعد الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء الشيشكلي في عام 1949 علق الشيشكلي ذلك الدستور حتى صدر دستور جديد في عام 1953. واتسم هذا الدستور بوصفه الدستور الرئاسي الأول. حيث قيد صلاحيات رئيس الوزراء في الحكومة وأعطى صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس الجمهورية مبنية على أساس نظام رئاسي يشبه نظيره في الولايات المتحدة الأميركية. ومع إطاحة الانقلاب عام 1954 أعيد العمل بدستور 1950.

ومرة أخرى في عام 1958، تم تعليق الدستور عندما صوت السوريون بالغالبية للوحدة مع جمهورية مصر تحت رئاسة جمال عبد الناصر لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة. تم استبدال دستور 1950 بدستور موقت صاغه عبد الناصر في تلك الفترة. ولكن تم إلغاء هذا الدستور بعد الانفصال في عام 1961. وقررت الحكومة الجديدة عام 1962 العودة إلى دستور عام 1950 حتى تتم صياغة دستور جديد.

وبطبيعة الحال، عندما وصل حزب البعث إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري في آذار 1963 تم وقف العمل بالدستور على الفور، وفرضت حالة الطوارئ (التي لم ترفع حتى بعد اندلاع الثورة السورية في آذار 2011). وأصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة دستوراً موقتاً للبلاد عام 1964، ثم دستوراً آخر عام 1969 ودستوراً جديداً بعد أن تولى حافظ الأسد السلطة عام 1971.

وفي عام 1973، شكل حافظ الأسد لجنة لصياغة دستور دائم للبلاد. هذا الدستور الذي اعتمد عبر استفتاء شعبي، فرض أفكار ومبادئ حزب البعث على المجتمع السوري، حيث أعلن أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، وأعلن أنه الحزب الوحيد الذي يحق له ترشيح الرئيس من خلال القيادة القطرية وكان هذا بداية نظام استبدادي طويل يديره حزب البعث كغطاء لسلالة الأسد.

يتعين على روسيا أن تعرف أن لسورية تاريخاً طويلاً من المبادئ والقيم الديموقراطية وأن دستور 1950 أعطى المرأة السورية حق التصويت قبل سويسرا بعشرين عاماً، حينها كانت روسيا تحت سيطرة ستالين الذي جعل «روسيا عظيمة» والروس صغاراً جداً.

اقرأ المزيد
٨ فبراير ٢٠١٧
ماذا بقي من الربيع العربي؟

مرت ست سنوات على الانتفاضات التي اجتاحت خمس دول عربية، وفشلت كلها – بدرجات مختلفة – في تحقيق الشعارات والأهداف التي رفعتها الجماهير، وبدلاً من السعي الى تحقيق العدالة الاجتماعية والديموقراطية ودولة المواطنة انتهى ما اشتهر إعلامياً بالربيع العربي إلى العمل من أجل إنقاذ كيان الدولة ومحاربة الإرهاب وإنقاذ الاقتصاد. وكشفت كل انتفاضة عن مسارات متناقضة جاءت نتيجة طبيعية لتفاعلات معقدة داخل كل بلد عربي، وتدخلات إقليمية ودولية وضعت ما يشبه النهاية للنظام الإقليمي العربي بصورته المعروفة منذ ستينات القرن الماضي. وأكدت مسارات الربيع العربي المتعثرة أن لكل بلد طبعته الخاصة من الانتفاضة على الأنظمة القديمة، وأن من الصعب بحث ودراسة ما جرى كظاهرة واحدة، كذلك لا بد من الانتظار سنوات عدة حتى تتكشف النتائج النهائية لما جرى وأطاح الاستقرار السكوني الزائف الذي ميَّز النظام الإقليمي العربي لسنوات طويلة. لكن يظل للسؤال عن ماذا بقي من الربيع العربي أهميته ودلالاته، لا سيما أن هناك من يرى أن تلك الانتفاضات أو الهبات الشعبية لم تحقق أشياء ملموسة على أرض الواقع، فقد كانت حركات مطلبية نجحت في إطاحة بعض روؤس الأنظمة القديمة لكنها لم تؤسس نظاماً سياسياً جديداً أو تحقق العدالة الاجتماعية، كما أن نتائج الانتفاضات في ليبيا وسورية واليمن جاءت كارثية ولا تزال، وتهدد باستمرار الحروب الأهلية في البلاد الثلاثة، أو تقسيم كل دولة على أسس طائفية أو جهوية أو قبلية وفق واقع كل دولة ومعطياتها السياسية والاجتماعية.

سردية الفشل الكامل لانتفاضات العرب، تعني أن الربيع العربي وصل إلى محطته الأخيرة ولا مجال لاستكمال الحراك الثوري، وهي بذلك تتصارع مع سرديتين، الأولى: المؤامرة الخارجية في تفسير الربيع العربي ونتائجه الفوضوية، والثانية: الثورة المستمرة المطلوبة لتصحيح المسار المتعثر لانتفاضات العرب. وأعتقد أن سردية الفشل الكامل لا تتطابق مع سردية المؤامرة أو الفوضى وإن كانت الأخيرة تقول بها، كما أن سردية استكمال مسار ثورات العرب المتعثر لا تتفق وسردية الفشل النهائي لانتفاضات العرب، حيث يؤمن أصحاب المسار الثوري أن هناك موجات ثورية قادمة في دول الربيع العربي الخمس أو في غيرها من الدول العربية. وقناعتي أن كلاً من السرديات الثلاث تخفي مصالح وتحيزات خاصة، لذلك أتصور أننا في حاجة الى صياغة رؤية أكثر عقلانية وتوازن في الإجابة عن سؤال: ماذا تبقى من الربيع العربي؟ ولعل المدخل المناسب هو التمييز بين مسارات ونتائج انتفاضات كل من تونس ومصر، وما جرى في ليبيا واليمن وسورية، حيث دخلت الدول الثلاث في حروب أهلية مدمرة وانقسامات دموية وطائفية وقبلية، نجت منها مصر وتونس رغم المسار الخاص لكل منهما. لذلك من الأفضل أن تقتصر الإجابة عن كل من مصر وتونس، والانتظار حتى تستقر الأمور في سورية وليبيا واليمن، وتتبلور ملامح النظام السياسي في كل منها بعد أن تسكت البنادق والمدافع وتهدأ التدخلات الخارجية. وفي الإجابة لا يمكن التسليم بسردية الفشل الكامل لانتفاضات العرب أو موت الربيع العربي لأنها تتجاهل دروس التاريخ في شأن تراكم وانتقال الخبرات عبر الأجيال، والنتائج غير المنظورة للهبات والانتفاضات الجماهيرية، ولعل أهم ما تبقى يتمثل في أربع ظواهر:

الأولى، تأكيد قدرة الشعوب على إسقاط النظم الاستبدادية الفاسدة التي تعتمد على نخب أو قاعدة اجتماعية ضيقة من المستفيدين، وقد تبدو فكرة الخروج على السلطة وإسقاطها من قبيل البديهيات في العالم المعاصر، إلا أنها كانت في تاريخ العرب الحديث بمثابة فرضية غير قابلة للتحقق، لأنه باستثناء الثورة الشعبية في السودان عام 1964 لم تنجح الشعوب العربية في تغيير حكامها، وكان التغيير يتم من خلال موت الحاكم أو بانقلاب عسكري يأتي بنخب جديدة ربما كانت أسوأ من النخب القديمة التي أطيح بها. ولا شك في أن ربيع العرب أكد إمكانية تحرك الشعوب ضد النظم الاستبدادية وقدرتها على التحرر من الهيمنة الناعمة والخشنة لهذه الأنظمة وفرض إرادتها في التغيير حتى وإن لم يكن تغييراً شاملاً، وأظن أن الربيع العربي أرسى أفكاراً وقيماً وممارسات عملية لقدرة الشعوب على الخروج على السلطة أصبحت في ذاكرة ووعي الشعوب والنخب الحاكمة علامة فارقة ودرساً على كل الأطراف أخذه في الحسبان، بخاصة النخب العربية التي كانت تستبعد تماماً ثورة الشعوب من حساباتها.

ثانياً: بقاء عديد من المكاسب الخاصة بالحريات بخاصة حرية الصحافة والإعلام واحترام حقوق الإنسان ونزاهة الانتخابات، فقد انطلقت انتفاضات العرب الثورية داعية لإسقاط النظم «الشعب يريد إسقاط النظام». إلا أن مطلب الحريات لم يكن غائباً فقد رفع المتظاهرون شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» وهو ارتباط مهم بين الحريات والعدالة الاجتماعية أظن أنه لن يمّحي من الذاكرة الجماعية لملايين المتظاهرين في الميادين والشوارع، وأظن أنه حفر قي الثقافة السياسية العربية، كما أنه لم يكن وليد اللحظة الثورية، وإنما كان حاضراً في الخطاب السياسي العربي منذ الثمانينات بعد فشل التجارب السياسية العربية التي ادعت تحقيق العدالة الاجتماعية كشرط للحريات وحقوق الإنسان (تجارب عبدالناصر وبومدين وصدام حسين). هكذا أكدت الانتفاضات العربية الارتباط بين الحريات والعدالة الاجتماعية وحولته إلى ممارسة اجتماعية بعد أن كان مجرد خطاب نخبوي، وأعتقد أن هذا الارتهان والمطالبة الجماهيرية بتحقيقه لا يزال حاضراً في تونس ومصر، رغم الصعوبات الاقتصادية وتحديات الإرهاب، وعلى رغم أن المجال العام أكثر رحابةً وتنوعاً في تونس مقارنة بمصر. القصد أن هناك مكاسب تحققت ولا تزال حاضرة ومؤثرة تتعلق بالحريات والوعي العام والحفاظ على نزاهة الانتخابات وحرية الرأي والتعبير من خلال وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، وقد أثبتت وسائل التواصل الاجتماعي في مصر وتونس خلال الأعوام الأخيرة قدرتها على الحفاظ على فضاء عام حر ومن ثم التأثير في الأحداث وفضح بعض عمليات التضليل الإعلامي والتلاعب بالرأي العام.

ثالثاً: جسَّدت مواد الدستور في تونس ومصر وبعض التشريعات والقوانين قيم وروح الربيع العربي، ووفق تقرير مهم للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا) فقد كانت عملية صياغة الدستور في البلدين – إضافة إلى المغرب - أكثر تشاركية من التجارب السابقة، لكنها لم تخل من الشوائب، كما اختلفت مستويات التشاركية من بلد إلى آخر. والثابت أن هناك مكاسب وحقوقاً مهمة (اجتماعية وسياسية واقتصادية وتنموية) وغير مسبوقة وردت في الدستورين التونسي والمصري الصادرين عام 2014، واللذين اقترحا آليات وضمانات جيدة للحفاظ على الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية، بل وتطبيق الدستور ذاته، ما يعني أن كثيراً من أهداف وشعارات وربما أحلام ثورات العرب قد كتبت في الدستورين خصوصاً شكل نظام الحكم وسلطات الرئيس والتوزان بين السلطات، لكن يظل السؤال عن مدى الالتزام بتطبيق هذه النصوص، وهل ستظل حبراً على ورق؟ وهنا قد يقال إن بعض مواد الدستور في البلدين لا تطبق ويجري تجاهلها، لكن على أي حال، ستظل لدى الشعوب نصوص دستورية ملزمة للحكومات وعلى الأحزاب والمجتمع المدني المطالبة بتطبيق وتفعيل مواد الدستور التي يفترض أنها كتبت العقد الاجتماعي الجديد بعد انتفاضات الشعوب العربية.

رابعاً: يبقى أخيراً كسر كثير من المحرمات المسكوت عنها في الفكر العربي المعاصر، فللمرة الأولى تطرح على نطاق جماهيري واسع إشكاليات العلاقة بين الدين والسياسة، وحقوق الأقليات في الدولة الوطنية، وحقوق المرأة والشباب والمعوقين وغيرها من القضايا التي لم يكن مسموحاً بها، وأتصور أن طرح هذه الإشكاليات دفعة واحدة وفي مناخ من الاستقطاب السياسي شكل حالة من الارتباك وعدم اليقين لدى قطاعات واسعة، ربما لأنها تعرفت وللمرة الأولى الى الليبرالية والجماعات السلفية، والجهادية، كما أعيد تعريف الإرهاب والجهاد. ومهما كانت نتائج النقاش العام حول هذه الإشكاليات إلا أن المحصلة جاءت إيجابية، وبخاصة أنها حسمت تقريباً في مصر، وبالتجربة العملية، حقيقة السلوك الانتهازي لجماعة «الإخوان المسلمين» وبعض الجماعات الإسلاموية التي تتعمد الخلط بين الديني المقدس، والسياسي الدنيوي، لخداع الناخبين والوصول إلى السلطة لتحقيق مكاسب ضيقة لأعضاء الجماعة.

اقرأ المزيد
٧ فبراير ٢٠١٧
المناطق الآمنة... طبخة كونفدراليات إقليمية مثلاً؟

هدف خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المعلن، باتجاه إقامة مناطق آمنة في بلدان الحروب و"بؤر التوتر" في المنطقة هو إبقاء السكان المدنيين داخل أراضيهم أو في المناطق الحدودية مع دول الجوار، وقطع الطريق على عمليات اللجوء والهجرة غير الشرعية نحو الغرب. هو يقول إنه يريد حماية مصالح الطرفين على طريقة "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم"، بمنطق تاجر الجملة الجالس فوق بضاعته ويساوم عليها.

وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد طرح هذه المسألة، قبل ثلاث سنوات، على الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، والمجتمع الدولي، بالأهداف نفسها التي ذكرها ترامب، لكنها لم تلق آذانا صاغية. وكان أردوغان، ومن خلال مشروع كهذا، يتطلع أيضا إلى تعطيل خطط أكراد سورية في الانفصال أولا، وتشجيع أبناء عمومتهم في جنوب شرق تركيا على إعلان كيانهم المستقل ثانيا.

ما رفضه السلف يقترحه الخلف في أقل من أسبوعين على تسلمه مهام الإدارة في البيت الأبيض. ويريد الرئيس الأميركي الجديد ربما توفير الحماية لهذه المنطقة الكردية، عبر حمايتها من خطر النظام السوري الذي لم نره كثيرا يشكل خطرا عليها، لكنه، في الحقيقة، يريد حمايتها من الأتراك والعرب، لتكون نواة التمدد والانتشار الكردي الجديد، وريثما يتم العثور على العاصمة التي تليق بهذه الدويلة، الرّقة بدل القامشلي مثلا، الحلم يستحق المغامرة.

عارض الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، دائما الاقتراح التركي في سورية، وهذه المرة هو متخوف من حصول تفاهم أميركي – تركي في هذا الخصوص، لكنه قد يبدل رأيه هو الآخر، لأنه يعرف تماما أن هناك فرصه كبيرة في أن تكون هذه المناطق مركز الدفع في مشروع خططه الإقليمية ودستوره السوري: سورية بلا هوية قومية وعرقية ودينية، تجمعات سكانية في دوائر جغرافية تصغر وتكبر حسب المصالح والنفوذ، ريثما تجهز الدولة الكردية الكبرى في شقيها، التركي والإيراني.

أكراد العراق وسورية وتركيا في حالة غليان دائم. المشكلة هي على الجبهة الإيرانية. المواجهة العسكرية الأميركية الإيرانية ضرورية وحتمية إذا لإكمال مخططٍ من هذا النوع. روسيا لن تدافع عن إيران إذا ما تأكدت من نوايا ترامب حيالها، ودول كثيرة في المنطقة سترحب للتخلص من النفوذ والتمدّد والخطر الإيراني، إذا ما كان الرئيس الأميركي جادا في تهديداته. تفتيت إيران يحقق أكثر من هدفٍ لأكثر من دولة، حتى ولو كان الثمن فتح الطريق هناك أيضا أمام كيان كردي يظهر سريعا إلى العلن، ويكمل حلقة ناقصة في المشروع.

قد يعجب المخطط إسرائيل لأكثر من سبب، بشقه المتعلق في الجانب التركي من الحدود التركية السورية مثلا، حيث مثلث جزيرة ابن عمر الغني بمياه نهري دجلة والفرات (لماذا تذكّرنا فجاة مشروع أمن إسرائيل المائي، وشعارها الديني التاريخي بين الفرات والنيل؟)، على الرغم من إعلان أنقرة تمسّكها بإنجاز مهمة المضي، حتى النهاية، في عملية درع الفرات، وتطهير منطقة غرب النهر من التنظيمات الإرهابية، بعرض 95 كلم، تمتد من جرابلس شرقاً وحتى إعزاز غربًا، وبعمق يصل إلى 40 كلم، باتجاه الباب، وهي البقعة الجغرافية التي تطمح أنقرة إلى تحويلها منطقة آمنة في شمال سورية، لكن متابعين كثيرين يرون أن على حكومة حزب العدالة والتنمية أن تراجع خططها وأهدافها هناك.

وكانت أنقرة، وما زالت تقول، إن "المنطقة الآمنة" قد تكون خطوة مهمة على طريق الحل في سورية، لكن التصور الأميركي الذي يروجه ترامب في موضوع المناطق الآمنة قد يدفعها إلى مراجعة مواقفها، وربما هذا ما دفع الرئيس أردوغان إلى تبديل رأيه، والتخلي عن المشاركة في معركة الرّقة. وقد يكون إعلانه، قبل أيام، أن بلاده لن تتقدم في العمق السوري أكثر من ذلك بعد إنهاء معركة الباب قد تكون رسالةً تركية إلى موسكو وواشنطن أيضا. الخطر على تركيا بعد الآن هو أن تتحوّل المنطقة السورية الآمنة التي تريدها، وتدافع عنها، إلى مصيدةٍ تسقط هي فيها عندما تتحول إلى مستنقعات عرقية ومذهبية، تحتاج إلى الحماية الدولية.

ما أعلنه المتحدث باسم قوات سورية الديمقراطية، مثلا، إن قوات التحالف، بقيادة الولايات المتحدة التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية، زوّدت حلفاءها السوريين بمركبات مدرّعة لأول مرة، ما يوسّع الدعم منذ تنصيب دونالد ترامب. .. هل يندرج هذا السلاح الثقيل الذي اعترضت عليه تركيا دائما، ويقدمه ترامب لصالح مسلم، في إطار خطط الحرب على "داعش"، أم سيفتح الطريق أمام الكيان الكردي في سورية؟ من الذي سيوقف واشنطن وموسكو، إذا ما قرّرتا فجأة أن جنوب شرق تركيا تحول إلى بقعةٍ تهدد أمن الإقليم بأكمله، وأن أنقرة، مثل غيرها من الدول المجاورة، حان أن تدفع الثمن، هي الأخرى، جغرافيا وعرقيا، وأن تتنازل عن خيار تقديم القليل، حتى لا تدفع الكثير اذا ما قرّرت التصلب والتشدد وتعطيل أي تفاهم من هذا النوع؟

سترصد أنظمة دول المنطقة وقياداتها التحركات الأميركية الجديدة التي تضع مسألتين أساسيتين فوق كل اعتبار، إسرائيل ومصالحها الإقليمية وورقة تبحث عنها، وتستخدمها لتحقيق هذا الهدف.

تحريك ملف الدولة الكردية الكبرى بات يقترب أكثر فأكثر، وقد قال رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، دائما إن الحلم موجود، لكن الظروف الراهنة لا تساعد على ذلك. فهل اقترب موعد الفرصة التي لن تعوّض لإعادة خلط الأوراق الإقليمية، بعد قرن على تفاهمات سايكس بيكو.

التاجر الأميركي ترامب في جانب، وهو يبحث عن شريك أو شركاء له في الجانب الآخر. والمساومة، في النهاية، قد تكون أميركية – روسية، إذا ما نجحت موسكو في التمسك بمشروع دستورها السوري الذي ستقبل به دول وقوى عديدة، لأنه الخيار الأقرب اليوم لفدرلة سورية، والانسب غدا لإعلان الكونفدراليات الإقليمية، وهو مشروع إقليمي قديم جديد. ترامب في السلطة لحقبتين، مثلا، وعقد واحد يكفي لإنجاز المشروع الإسرائيلي الذي رفضه أوباما وإدارته.

يقول وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن موسكو مستعدة لدراسة تطبيق الفكرة "مع الشريك الأميركي. والإدارة الأميركية الجديدة تطرح هذه الفكرة بصيغة تختلف عن "الأفكار التي سبق أن طُرحت، في المراحل الماضية الخاصة بإنشاء منصّة معينة في الأراضي السورية لإنشاء حكومة بديلة واستخدامها منصّة انطلاق لإسقاط الحكومة".

إذا لم تتوضح سريعا فكرة ترامب، وما تهدف إليه في موضوع المناطق الآمنة، فالسيناريوهات السوداوية هي التي ستتقدم إقليميا، أين وكيف وعلى من ستطبق الخطة؟ أجواء التفاؤل التي حملها لنا ترامب في مسألة المناطق الآمنة تبدّدها مواقفه ورسائله التي يطلقها باتجاه عنصري عرقي تحريضي، فلماذا نثق بما يقول؟ قبول تركيا بالخطة الأميركية من دون حدوث التفاهم الأميركي الروسي سيطيح حتما ما بنته في الأشهر القليلة الماضية، من منظومة علاقات استراتيجية جديدة مع موسكو. لكنها لا تريد أن يكون التفاهم الأميركي الروسي على حسابها. أنقرة في وضعٍ لا تحسد عليه، إما أن تنجح في التقريب بين وجهتي النظر الأميركية والروسية في موضوع المناطق الآمنة، وتحمي مصالحها الإقليمية وعلاقتها بالدولتين، أو تختار بين أحد الشريكين، الروسي والأميركي، وهي ستكون، في أحسن الأحوال، خاسرةً، حتى لو ربحت الكثير.
تركيا أمام حقيقة إعادة ترتيب أولوياتهاuf

اقرأ المزيد
٧ فبراير ٢٠١٧
"الفوضى"... نظام عالمي جديد يقوده ترامب

يتجاوز وصول شخص موتور، مثل دونالد ترامب، إلى أهم منصب سياسي في العالم، مجرد تغيير في هرم السلطة في الولايات المتحدة. وإنما بالأحرى تغيير في كثير من ثوابت اللعبة السياسية وقواعدها على المستويين المحلي والدولي. وهو إن استمر سلوكه على هذا النحو طوال السنوات الأربع المقبلة، فسوف نشهد قطيعة كاملة مع إرث النظام الدولي الذي ظل سائداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سواء في طبيعته الليبرالية التعدّدية، قيماً ومؤسسات وثقافة، أو في طبعته الأحادية التي سادت طوال العقود الثلاثة الماضية.

وبينما كان بعضهم يرى في ترامب مجرّد شخص أرعن (وربما أحمق) يمتلك المال، والآن السلطة، إلا أن سلوكه وقراراته، منذ تنصيبه في الحادي والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، يكشف أننا إزاء رجل يعرف جيداً ما يقوم به، ولديه رؤية وأجندة سياسية وإيديولوجية واضحة، يريد إنفاذها وتطبيقها على الأرض بأي ثمن. وإذا كانت هذه الرؤية قد تبدو خروجاً عن النسق الأميركي المألوف، فإن الرجل لا يُخفي سراً بأن هذا "الخروج" هو أحد أهدافه الرئيسية. ولعل منبع المعارضة القوية لترامب، خصوصاً في الأوساط الليبرالية واليسارية، ومنصاتها الإعلامية مثل CNN وMSNBC، هي سعيه إلى جعل "غير المألوف" أمراً معتاداً، ونقل "اليمين" إلى "الوسط"، وتثبيته كي يصبح لاحقاً التيار الرئيسي أو الـ mainstream الذي يجب أن تسير عليه أميركا والعالم.

بكلمات أخرى، المعركة الرئيسية التي يخوضها ترامب، هي جعل ما يراه بعضهم "حالة استثناء" في السياسة واللغة والإيديولوجيا، أمراً معتاداً ومألوفا يجب قبوله من دون مساءلة أو مقاومة. ينطبق ذلك على مسائل داخلية وأخرى خارجية، حوّلها ترامب إلى مادة للتجاذب والاستقطاب والانقسام غير المسبوق محلياً ودولياً. لذا، يخطئ من يظن أن ترامب يتصرف بحماقة أو بعفوية غير محسوبة. على العكس، هو يحسب خطواته جيداً، ويعرف عواقب قراراته. وهو يتبع سياسة "الإدارة بالصدمة"، ويتبنى سياسة مهاجمة (وإرباك) الخصوم التي لا تدع لهم فرصةً لالتقاط أنفاسهم، ويمتلك القدرة على تشتيت جهودهم، من خلال نقل المعركة من المتن إلى الهامش، ثم العودة إلى تحويل هذا الهامش إلى متنٍ وأصل للصراع، فينشغل الجميع بالهامش، وبالتالي يحقق هدفه من المناورة.

خذ، على سبيل المثال، قراره بحظر دخول اللاجئين السوريين ومواطني سبع دول عربية وإسلامية الولايات المتحدة، في سابقة لم تحدث طيلة تاريخ أميركا أو أية دولة غربية. ليس القرار محاربة "الإرهاب الإسلامي" كما يصفه ترامب، وإنما بالأساس وقف مسألة الهجرة، باعتبارها تمثل تهديداً وجودياً للجماعة البيضاء في أميركا، وحماية "العِرق الأبيض" باعتباره الأسمى بين غيره من الأعراق التي تشكل الأمة الأميركية. وقد اختار الرجل بذكاء أحد أكثر الحلقات ضعفاً لتحقيق هدفه، وهي المسلمون سواء داخل أميركا أو خارجها. وهو يحاول، مثل أي زعيم سلطوي، تبرير قراره بـ"الحفاظ على الأمن القومي للبلاد"، وهي العبارة نفسها التي يكرّرها الحكام الديكتاتوريون والسلطويون، بدءاً من كيم يونغ أون ديكتاتور كوريا الشمالية، مروراً ببشار الأسد، وانتهاء بالجنرال عبد الفتاح السيسي.

خذ أيضا تصريحه الذي تعهد فيه بتحطيم القانون الذي يمنع الكنائس الأميركية من دعم السياسيين، خصوصاً في الحملات الانتخابية، والمعروف "بتعديل جونسون" الذي تقدّم به السيناتور والرئيس الأميركي الأسبق، ليندون جونسون عام 1954. وقد حاول ترامب تغليف تصريحه هذا بحماية الحريات الدينية وإعطاء الحق للمؤسسات الدينية، للتعبير عن تفضيلاتها السياسية، علما أن القانون لا يمنع رجال الدين من ذلك. ولكن ترامب كان يغازل اليمين الديني، بشقيه المحافظ والمتطرّف، خلال حفل الصلاة الوطني الذي يقام كل عام. وإذا حدث، فسوف يمثل ذلك ضرباً لمبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة في السياق الأميركي، ما قد يفتح الباب أمام صراع ديني وطائفي غير مسبوق في الولايات المتحدة. خذ أيضا تصريحاته أخيراً ضد إيران التي وضعها "تحت المراقبة"، في استحضار لأجواء الاستقطاب والتوتر الذي ساد إبان فترة الرئيس جورج دبليو بوش. وهو هنا يريد توجيه رسالة قوية لطهران بضرورة الحذر ولجم سلوكها، وإلا فإن العقاب سيكون شديداً وفورياً. كذلك خذ مكالمته الهاتفية مع رئيس الوزراء الأسترالي، مالكوم تيرنبول، والتي انتهت بشجار وإغلاق للهاتف بشكل فجائي بعد أقل من نصف ساعة من المكالمة التي كان من المفترض أن تستمر حوالي ساعة. وقد ثار ترامب بسبب رفضه الالتزام باتفاقٍ كانت إدارة أوباما قد وقّعته مع أستراليا، بنقل مهاجرين آسيويين إلى أراضيها.

يعكس سلوك ترامب داخلياً وخارجياً محاولة واعية لإعادة تعريف السياسة، وتحويل كل ما هو ثابت ويقيني إلى فوضى، تمهيداً لتثبيت رؤية محدّدة للعالم، ولدور أميركا فيه. وهو هنا يريد إعادة تعريف أسس العلاقات الدولية، ويسعى، بكل قوة، إلى اقتلاع ثوابتها من جذورها، لكي تحل محلها ثوابت أخرى، نابعة من رؤية راديكالية لعالم فوضوي، لا مكان فيه إلا للقوة العارية بكل معانيها وأشكالها. وهو يفعل ذلك ليس اعتباطاً، وإنما بدوافع يراها مشروعة، بل وضرورية لجعل أميركا "عظيمة مرة أخرى"، بحسب شعاره الذي لا يتوقف عن ترديده.

اقرأ المزيد
٧ فبراير ٢٠١٧
ماذا تبقّى من الثورة السورية؟

ما وصلت إليه الأوضاع الراهنة في سورية يثير معضلة الجوهرية، ليس فقط بالنسبة للمعارضة السورية أو حتى السوريين، بل ربما لكثير منّا ممن تعاطفوا مع الثورة السورية في البداية، ووقف مع حق الشعب السوري الأصيل في الحرية والديمقراطية، بل وقبل ذلك الإنسانية.

تضعنا المعضلة المطروحة اليوم بين خيارين رئيسين؛ الأول هو الخيار الواقعي المدعّم بمؤشرات موازين القوى العسكرية على الأرض من جهة، وبالمعادلات السياسية الدولية والإقليمية من جهةٍ ثانية. أمّا الخيار الثاني فهو الأخلاقي- الإنساني المرتبط بالمبادئ والقيم وثيمة العدالة وبالمنطق الثوري المثالي، أي الإصرار على خيارات الحرية ومعاقبة النظام السلطوي الاستبدادي على الجرائم التي اقترفتها يداه أولاً، وبوصفه المسؤول الحقيقي عمّا آلت إليه سورية من دمار وكوارث ألمّت بأغلبية الشعب، بين القتل والتعذيب والأسر، والذبح، والهجرة القسرية والنزوح الداخلي.

ينبثق عن ذلك سؤال كبير؛ هل على المعارضة السورية القبول بالمنطق الواقعي، والتسليم بأنّ هنالك تحولات جوهرية في المرحلة الراهنة، عسكرياً وسياسياً، تجعل من الإصرار على إسقاط النظام أمراً غير ممكن، وكلفته ستستمر طويلاً، أم أنّ عليها الإبقاء على الحلم المشروع بالحرية والتحرر والتخلص من النظام الدكتاتوري؟

صحيحٌ أنّ المعارضة السياسية السورية قبلت، منذ البداية، بمنطق الحل السلمي، وذلك كان مشروطاً بانتهاء الصيغة الراهنة من النظام، وبإسقاط الأسد، وهي شروط عادلة محقّة، تمثّل الحدّ الأدنى لو كانت هنالك عدالة دولية حقيقية؛ لكن ما هو مطروح اليوم دولياً وإقليمياً لا ينسجم مع هذه الشروط والمطالب، بل هنالك تحول كبير تجاه القبول بالنظام السوري، حتى من الحليف الأكبر للمعارضة السورية، الأتراك (وقد ألقى ذلك بالون اختبار نائب رئيس الوزراء التركي في منتدى دافوس أخيراً)، وخروج شبه كامل للنظام الرسمي العربي من المعادلة السورية، وتحوّل في مواقف الإدارة الأميركية بالكلية، من ادعاء الدعوة إلى إسقاط النظام، إلى التخلي عن ذلك والتركيز على "داعش"، ونمو الدور الروسي، والتفاهمات الروسية- التركية..إلخ.

قلبت هذه المتغيرات موازين القوى العسكرية بالكلية في المشهد السوري، فبعدما كاد النظام أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في أكثر من مرّة، في بداية الـ2012، ثم في منتصف العام 2015، جاء التدخل الخارجي لينتشله تماماً، بداية بدور حزب الله وإيران والحرس الثوري، وتالياً بالدور الروسي المؤثّر.

مع ذلك، لم يكن التحالف الروسي- الإيراني ليقلب نتائج المعركة، لولا الانقلاب التركي، فهو قاصمة الظهر الحقيقية للمعارضة السورية، وكانت معركة حلب "نقطة التحول" الكبيرة. ولا ينفصل ما يجري اليوم في محافظة إدلب عن التحولات التركية، وعملية الفرز والاستقطاب في أوساط المعارضة السورية المسلحة هناك، إذ انقسم جيش الفتح على نفسه، وبدأ الصراع بين الفصيلين الرئيسين، جبهة فتح الشام وحركة أحرار الشام، وهو التحالف الذي رعاه ودعمه الأتراك سابقاً، لكنّهم يفككونه اليوم، بعد أن تغيرت "المعادلة" والحسابات!

على الطرف الآخر؛ توقفت غرفة "الموك العسكرية" (العمليات المشتركة بين الأردن وأميركا وفرنسا والسعودية والإمارات) عن الدعم العسكري للمعارضة المسلحة، وعمل الأردن على التوصل إلى تفاهمات "جنتلمان" مع الروس، فحيّد المناطق الجنوبية في سورية (درعا) عن كل الصراعات المسلحة، منذ عام تقريباً، وأعاد تصميم (وترسيم) الدور العربي والدولي في دعم المعارضة المسلّحة لمواجهة "داعش" حصرياً، مع عدم السماح بأي صدام مسلّح مع النظام السوري، فانتهت، عملياً، فعالية الجبهة الجنوبية القريبة من دمشق التي كانت أحد أهم روافد الثورة العسكرية الضاربة!

هذه العوامل جميعاً، بالضرورة، شبه حاسمة، ومؤثّرة جداً على "المسرح السوري"، فالمعارضة المسلّحة لا تعيش في فراغ، ولا تمتلك، في النهاية، قدرات خارقة، إذ اشتغلت البيئتان الدولية والإقليمية ضدها، فهنالك شروط رئيسة، مثل التسليح والتمويل والدعم والإسناد العسكري والفني والسياسي، ولا نتصوّر وجود مقاومةٍ مسلحةٍ نجحت سابقاً في تحقيق أهدافها السياسية في ظل ظروف دولية وإقليمية متواطئة، مثلما يحدث اليوم "ضد الثورة السورية".

مع ذلك، لم يكن العامل الأكثر حسماً، ومقتل المعارضة السورية كل ما سبق، بل هو الحالة الداخلية لها، ولا أتحدث هنا عن الفجوة الكبيرة بين السياسيين والعسكريين، ولا عن ارتهان السياسيين لأجندات إقليمية ودولية متضاربة، بل عن الداخل نفسه، أي واقع الفصائل المسلحة وعلاقتها بالحاضنة الاجتماعية الشعبية السورية.

يكفي أن ننظر في "ساحات القتال"، ونعيد تعريف الواقع وتقييمه بصورة موضوعية وأمينة، بعيداً عن الأوهام، ونتساءل: ماذا تبقى من المعارضة السورية، ومن قيم الثورة السورية، على الأرض؟! في الرقة ودير الزور وبادية الشام تنظيم داعش، في إدلب وريفها جبهة فتح الشام (هيئة تحرير الشام لاحقاً) و"أحرار الشام"، وهم لا يؤمنون (في أغلبيتهم) بالديمقراطية وبالدولة المدنية، والفصائل الإسلامية الأخرى (الجبهة الشامية سابقاً) اضطرّت إلى الانضواء تحت عباءة "أحرار الشام" خشية من "فتح الشام"، بينما انضمت أجزاء من أحرار الشام- الجناح الأيديولوجي، سابقاً، إلى جبهة الفتح.

سلّمت المعارضة أغلب ريف دمشق، وما تزال التوترات والصراعات الداخلية بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن وجيش الفسطاط قائمة، وسينتهي الأمر إلى خروجهما معاً، واستلام جيش الأسد هذه المنطقة، بعدما صمدت ببطولة خلال الأعوام الماضية.

وفي الجبهة الجنوبية، كما ذكرت السطور السابقة، انتهت المعارضة المسلحة عملياً، وآلت إما إلى جيش خالد بن الوليد (جزء من "داعش") أو إلى فصائل موالية للأردن، تنتظر تقرير مصيرها على طاولة التفاهمات الإقليمية والدولية.

أمّا باقي الفصائل فتحولت إلى أدوات في خدمة الأجندات الإقليمية والدولية، تارة تحت شعار "محاربة الإرهاب" وتارةً أخرى "تحت شعار: هذا أفضل من ذلك، كما هي الحال في معركة الباب حالياً"، لكن العامل الأكثر تأثيراً على هذه الفصائل هو المال، وبروز ظاهرة "أمراء الحروب" وبزنس الصراعات الداخلية.

بالنتيجة؛ دفع الشعب السوري ثمناً باهظاً غير مسبوق، وتعسكر عشرات الآلاف من أبنائه، وقتل مئات الآلاف، واعتقل مثلهم، وهجّر الملايين، ليس ليجدوا أنفسهم أمام خيارين؛ إما النظام أو القاعدة أو داعش أو المرتزقة؟!

أعتذر عن الصرامة والوضوح في التعابير. لكن أظن أن المطلوب اليوم هذا المنطق الواضح في قراءة الحالة الراهنة وتعريفها للانطلاق من ذلك إلى إعادة تقييم المقاربات التقليدية والخطابات التي تقدمها المعارضة، وإعادة تدوير الاستراتيجيات والأفكار في التعامل مع النظام، وترسيم أهداف جديدة، مثل إعادة التفكير في الجانب الإنساني، وإعطائه أولوية وأهمية، المطالبة بعودة المهجّرين وبتصفية حساب مع المرحلة السابقة، وبمحاولة بناء تفكير جديد ضد النفوذ الإيراني المتنامي، إعادة تدشين الحوار مع الأتراك على قواعد جديدة،.. إلخ.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان