بين الانتقادات التي يوجهها من يراجعون مسار الثورة السورية وأدوار الفاعلين فيها انتقاد يقول بضرورة رفض "الوصاية السياسية والفكرية" التي يمارسها بعض رموز المعارضة على الأجيال الشابة. وينطلق أصحاب هذا الرأي من واقعةٍ يعتقدون أن صحتها ليست بحاجة إلى دليل، هي أن أصحاب الرأي وصنّاعه في المعارضة السورية قد فشلوا، إلا في أمر وحيد، هو ممارسة قدر من الوصاية على أجيالها الشابة منعها من إظهار ما هي مؤهلة له من إبداع وقدرات، لو تحرّر من الوصاية لغيّر مسار الثورة، أو حال دون ارتهانها لما ظهر فيها من أخطاء وعيوب، انتجتها بالضبط وصاية هؤلاء عليها.
هل هذا ما حدث بالفعل، وأصاب الثورة بالكوارث التي حلت بها؟ هل "الكبار" هم من لاحقوا الأجيال الشابة التي أطلقت الثورة، واعتقلوها وقتلوا وسجنوا كتلتها الرئيسة ورموزها، وفصلوها عن حاملها الأهلي الذي استمروا في سحقه إلى أن تسلح وتطيّف وتمذهب، وابتعد عن قيادة حراك الحرية السلمية الشابة، ومشى وراء قيادةٍ معاديةٍ له ولمطالبه، وأسهم بتمذهبه وتعسكره في تهميشه وملاحقة (وتصفية) رموزه وممثليه الذين نجوا من قمع النظام الأسدي وتصفياته، علما أن موتهم حدث، هذه المرة، بأيدي إرهابيي "داعش" وجبهة النصرة؟ ثم، هل كانت الأجيال الشابة مؤهلةً حقا لقيادة الثورة التي سرعان ما فقد السوريون سيطرتهم عليها، بعد أشهر من انطلاقتها، وتحولوا بقوة صراعات وتناقضات دولية إلى أداة لتصفية حسابات بين قوى خارجية إقليمية ودولية متنوعة، تلاشت أهدافها تدريجياً أمام أهدافهم، حتى صار من الواقعي القول إن الخارجي غلب الداخلي السوري، والأجنبي الوطني، والدولي المحلي، والإقليمي العربي ... إلخ. لذلك اتضح بصورةٍ متزايدة أن مجرياتها لم تعد رهن إرادتهم التي غدت رهينة خياراتٍ وقراراتٍ أملاها غيرهم عليهم، من دون أن تكون في مصلحتهم، وأن يستطيعوا الحد من تبعيتهم لها. بعد عام من الثورة، ذهب قطاع كبير من شباب المجتمع الأهلي إلى سلاح تمذهب وتعسكر، وغاب قطاع آخر ربما من شباب المجتمع المدني في السجون أو قتل أو رحل عن الوطن، وفقد تماسّه المباشر مع مواطنيه. في هذا الفراغ، وما لازمه من تمزيق للهيئة المجتمعية، بمختلف فئاتها وطبقاتها وأماكن انتشارها، أصاب الجميع عجز لم يعرفوا كيف يتجاوزونه، حال بينهم وبين تحويل تمرّدهم أو انتفاضتهم إلى ثورة، وأفشل شيئا فشيئا جهودهم لمواصلة حراكهم بوصفه تمرّدا سلمياً، مدني الهوية ديمقراطي المآل، هدفه الحرية لشعب سوري موحد.
بفقدان التمرّد هويته واستقلاليته وارتباطه مع معظم فئات الشعب، بدأ ينحدر، وبان عجزه عن التحوّل إلى ثورة. عندئذ، ظهر ما اتسمت به الأجيال الجديدة أولا، والأحزاب التقليدية ثانيا، وأخيرا النخب المثقفة المستقلة عن الأحزاب، من افتقار إلى ما كان مطلوبا وضروريا من فكر ثوري منهجي وخططي، ومن قدرة على بلورة برامج سياسية مترابطة وامتلاكها، موضوعها مجتمعنا بخصوصياته التاريخية والدينية والحضارية، وفقره الديمقراطي والمدني المديد، تستند إلى ثقافة عصرية مستقلة نسبيا، وقابلة للانغراس في المجتمع، حيث تتنامى وتنتشر في أجواء آمنة نسبيا، وتخترق قطاعات واسعة من النخب الثورية والشرائح الاجتماعية المتوسطة والعليا، ويمنحها تفعيلها القدرة على بلورة حلول ناجعة لما يواجه التمرّد من مصاعب وتحديات يعني تجاوزها والتغلب عليها تحوله إلى ثورة. صنع الشباب التمرد، وحين تطلب استمراره فترة أطول مما اعتقد الجميع، تبين أن التدخل الخارجي والانحراف المذهبي المتعسكر والعجز الذاتي عوامل ستكبح تطور حراك السوريات والسوريين إلى ثورة، وأن الانحراف الخطير الذي أصاب القطاع الأهلي أفقد التمرد جماهيره الواسعة وقوّض الحرية التي كانت حلما فغدت تحولاتها الكابوسية واقعا، لا يمكن الخروج منه، في ظل تدخلات الخارج التي أسهمت بدورها في دفع الحراك بعيدا عن الحرية والديمقراطية، بوصفهما مطلبين وإمكانيتين صارتا شيئا فشيئا افتراضيتين، ازدادتا بعدا عن مطالب الحراك، بقدر ما طال، وجافت مجرياته أحلام السوريات والسوريين.
لم تكن هناك وصاية، لأنه لم يكن هناك أوصياء من جهة، ومن يمكن فرض الوصاية عليهم من جهة أخرى. ولو كان هناك وصاية لأمكن تفادي أخطاء سياسية كثيرة حذّر "الأوصياء المزعومون" منها، لكن أحدا لم يستمع إليهم، بسبب سيطرة الشعبوية على الحراك في مرحلة مبكّرة، ولأن معظم الأوصياء كانوا من أنصار الحرية الذين رفض التمذهب والتعسكر دورهم بشدة، لأنه كان ضدهما. لقد عانى "الأوصياء" حال نبذ وعزلة، كالتي عانى منها شباب الحراك المدني، على الرغم من صلاتهما الواهية قبل الثورة، علما أن قوة الحراك وحجمه قطع صلاتهم القائمة، الضعيفة أصلا، وأخذ الشباب إلى مواقع جعلت من الصعب عليه تطوير علاقاته معهم، بينما كانوا يتعرّضون هم أنفسهم لحملات متعاقبة من العزل والتخوين: كعلمانيين يعادون ثورة أهل السنة والجماعة وعملاء للغرب الكافر والنظام الأسدي، الذي صار علمانيا مثلهم بدوره، بعد أن كان طوال عقود طائفيا/ نصيريا. في هذا الاحتجاز المزدوج الذي طاول الشباب والأوصياء على يد قوتين متكاملتين هما: النظام من جانب والتنظيمات المذهبية التي لا تقبل حلا غير عسكري، ونظاما غير مذهبي من جانب آخر، وترفض مشاركة أي خارج عنها في انتصارها الموهوم، كان من المحتم أن تتلاشى علاقة المثقفين بالحراك الذي كان يتلاشى بدوره، وأن يفشل التمرد في الحفاظ على مدنيّته وحيويته ووجوده، والمثقفون في استعادة موقعهم قبل التمرّد، وفاعليتهم باعتبارهم ممثلاً ضميرياً لمجتمعٍ فقد جميع أدوات الدفاع عن نفسه، ينكّل به نظام أكملت فظائعه ضدهم تنظيمات أخذت تمارس حيالهم سياساتٍ مطابقةً لسياساته التي لم تبزّها في القسوة والعنف والتعطش إلى القتل.
لا تكمن مأساة الثورة في وصاية ما فرضت على الأجيال الشابة، بل في ما تعرّض له هؤلاء من سحق وتشتيت وتمزيق، وواجهوه من تمذهبٍ وتعسكر، أخرجهم مبكراً من صراعٍ كان يبدو أنهم طرفه الثاني، وأن ما ينشدونه سيكون بديله المؤكد، بيد أن تقويض حراكه بدّل هذه المعادلة وحساباتها من أساسها، واستبدلها بمعادلةٍ لم يعودوا هم حدّها الثاني، بل التنظيمات المعادية للحرية ولوحدة الشعب، والتي حولت الصراع ضد الاستبداد إلى صراع سني/ علوي. لا تكمن المأساة أيضا في وجود مثقفين أوصياء على غيرهم، بل في عدم وجود مثقفين كهؤلاء، لو وجدوا لما افتقر التمرّد إلى برامج وخطط واستراتيجية ثورية، ولامتلك القدرة على حماية نفسه وتطوير وتائره وطاقاته، ولما تحول، بسهولةٍ مفاجئة، إلى تمذهب وتعسكر، ولصمد في وجه الدفق الإرهابي الذي أطلقه الأسد من سجن صيدنايا قرب دمشق، ونوري المالكي من سجن أبو غريب قرب بغداد، وسرعان ما تحول إلى سيل جارف غطت تنظيماته المناطق التي أخرج النظام منها، وغيرت أسس الصراع ضد الأسدية، ودمرت علاقات الثورة الدولية وحسّنت مواقع الأسد، إلى أن عاش الشعب تحت قصف النظام من الجو، وإجرام التنظيمات على الأرض، وكفر مواطنو البلدات التي ابتليت بجماعاتها المسلحة بكل شيء، وعادوا تدريجيا إلى النظام.
واليوم، ونحن نشهد إفلاس التعسكر والتمذهب، خصوصا بعد كارثة حلب التي تسبب بها، تصبح الحاجة ملحة إلى وضع خبرات المثقفين المنتمين إلى الشعب ومعارفهم تحت تصرف الحراك المجتمعي والشبابي الذي بدأت علامات تجدّده تلوح في الأفق، وأخذ يستعيد هويته حراكاً من أجل الحرية للشعب السوري الموحد، لكي لا يتخبط في الارتجال والشعبوية، ويغيب مجتمع الحرية عن الحاضر والمستقبل، بعد كل ما قدمه من تضحياتٍ وعاناه من عذابات. في هذه اللحظة المفصلية، من غير الجائز وطنيا انفصال المثقفين عن الحراك، ومن الضروري أن يستعيدوا دورهم، وما يمليه عليهم ولاؤهم للشعب من أنشطةٍ يضعونها في خدمته، وأن لا يسمحوا لغربتهم عنه أن تحرفه عن مقاصده النبيلة، وتضعهم في موقع التقصير والتقاعس عن أداء الواجب.
لم تبد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أي استجابات أو ردود فعل واضحة على إجراءات روسيا في سورية، والتي تصل احياناً إلى حد الطعن في الخاصرة، وذلك في ما يبدو انه رغبة من روسيا في اختبار سياسات إدارة ترامب ومعرفة ماهيتها وحدودها.
منذ سنة 2008، تاريخ غزوه جورجيا، يختبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سياسة الإدارات الأميركية تجاه روسيا عبر مواقفها الصادرة حيال تحركاته التي تنطوي غالباً إما على رفض وإدانة تلك السياسات، كما حصل في أوكرانيا، أو القبول بها كما حصل في سورية، وكان على مقتضى هذه المواقف يرسم حدود تحركاته ويكيفها، تضييقاً كي لا تلامس الخطوط الحمر الموضوعة ضمناً في حالة الرفض، وتوسيعاً للاستفادة إلى أعلى درجة من الهامش المسموح.
غير انه مع إدارة ترامب يواجه نمطاً مختلفاً من التعاطي، فعلى رغم الحماسة والاندفاع اللذين يسمان شخصية ترامب إلا أنه في الموضوع السوري لم يكشف عن طبيعة السياسات التي سيتجه إلى إقرارها وإنفاذها في ملف يكاد يستهلك الجزء الأكبر من فعاليات السياسات الدولية في العقد الأخير.
صحيح أن ترامب أكد في عدد من المرات أنه يرغب في التعاون مع روسيا في محاربة الإرهاب، لكنه لم يوضح الكيفية ولا الآليات التي يراها بهذا الخصوص، وبالعكس من ذلك اتخذ قرارات صادمة للروس، مثل إعلانه الرغبة في إقامة مناطق آمنة، ولعل الأخطر من ذلك إعلانه الصريح نيته تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة، وكل ما سبق مؤشرات ونذر سوء يفهمها الروس جيداً اكثر من سواهم.
في موضوع المناطق الأمنة يقلص ترامب النفوذ الروسي في سورية على مناطق صغيرة، ربما على طول الشريط المسمى «سورية المفيدة» ويلغي تالياً المظلة التي حاولت روسيا موضعتها على جزء من الشرق الأوسط، بما فيه أجزاء واسعة من تركيا، الجناح الجنوبي من حلف الناتو.
ويستكمل ترامب إجراءات تقليص النفوذ الروسي في مشروع محاربته للتمدّد الإيراني، ذلك ان إيران وأذرعها تشكل الأداة العسكرية لروسيا في سورية والتي من دونها لم يكن ممكناً تحقيق ما حققته، ومن دونها أيضاً ستكون روسيا امام خيارات قاسية، أسهلها العودة إلى الاحتماء وراء جدران حميميم وطرطوس.
حتى في موضوع بشار الأسد، لم يقل ترامب سوى انه لا مشكلة في بقائه، وهذه أيضاً يفهمها الروس جيداً، ذلك أن بقاء الأسد ولكن معزولاً يعني أن أميركا تطلب من روسيا تدبير شؤون الجزء الذي يسيطر عليه الأسد من سورية، بما فيه من إعادة الإعمار التي تتكلّف بحدود ترليون دولار، عدا عن تدبير شؤون الحياة المعيشية والإدارية في منطقة لا موارد فيها، لا قمح ولا نفظ وغاز، ولا يمكن الترويج فيها حتى للسياحة في بلاد صارت الخرائب تشكل معظم المشهد فيها.
وعلى عكس ما اشتهى وتمنى بوتين من أن إدارة ترامب ستتعامل معه بوصفه قوة ندية وذات مكانة دولية، لا يبدو أن سياسات ترامب تسير إلى هذا الأفق، وإلا لكانت احترمت إجراءات روسيا وترتيباتها وقامت بشرعنتها، في حين أن الحاصل هو أن إدارة ترامب تصنع خريطة تحركاتها وكأن روسيا لم تصنع شيئا منذ أيلول (سبتمبر) 2015، بل وكأن كل الجهد الذي قامت به في حلب من أجل تغيير موازين القوى وفرض سياسات أمر واقع على اميركا لم تكن سوى عملية لصوصية قامت بها موسكو وفي ظنها أنها تحصّلت على ما تريد، في حين أن إدارة ترامب تبلغها اليوم، وإن بطريقة غير مباشرة أن ذلك لم يكن سوى مباراة ودّية بهدف التسلية ولا تحمل أي طابع إستراتيجي كما أن نتائجها لا تؤخذ في الاعتبار ولا تؤثر في تراتبية اللاعبين.
هل يعني ذلك أن ترامب لا يعترف بأي إنجاز روسي في سورية ولا بأي مصالح لها في هذا البلد؟، بالطبع ليس هذا ما يريده ترامب تماماً، بقدر ما يريد القول ان سورية ليست حكراً على روسيا، فهناك أجزاء منها تشكل تماساً مباشراً مع مناطق للنفوذ الأميركي، في العراق والأردن وتركيا وإسرائيل، وهذه المناطق ليست مجرد شرائط حدودية بل لها عمق جغرافي يمتد داخل سورية، وبذلك، فإن ترامب يعترف لبوتين بحدوده الغربية في سورية، لكنه في الوقت ذاته يضع نفسه في موقع المقرّر في بقية الحدود.
ولا شك في ان هذا الأمر ينطوي على رسالة مهمة من ترامب لبوتين مفادها، أننا راقبنا استعراض قوتكم وتفحصنا أدواته ومكوناته، هو جيد إلى حد ما، لكنه لم يتجاوز مقدرات قوة إقليمية يمكن التعاون معها شريطة أن يصب ذلك التعاون في مصلحة إستراتيجيتنا الكبرى.
دخلت القضية السورية حالة من القلق والاضطراب إلى درجة بات معها السؤال المطروح: إلى أين يسير الأمر، هل يشير الوضع الراهن إلى مرحلة من «اقتسام النفوذ في سوريا» أم «إلى تقسيم لها»؟ والحق أن رباطاً يجمع بين السؤالين المذكورين، إضافة إلى أسئلة أخرى قد تكون دخلت في نطاق المرحلة السورية الراهنة، وأخذت تنثر الأسئلة حول المصير السوري، أي الذي يتصل بالمسألة الوطنية ديموغرافياً، وبالأحرى المرتبطة بالمسألة القومية. وبضبط أكثر اقتراباً، يبدو الأمر متصلاً بالسؤال حول ما إذا كانت مسألتا الوطنية والقومية، وذلك عبر المساءلة فيما إذا ظل تعريف سوريا بكونها الكيان الذي يضم السوريين أرضاً وشعباً أولاً، وعبر المساءلة الأخرى عما إذا كان تحديد القومية العربية بمثابتها الانتماء القومي التاريخي لسوريا.. أما السؤال الآخر فعما إن كانت الطائفية الدينية تعبيراً وجودياً عن كلتا البنيتين الوطنية والقومية.
إن تعاظم الخطاب الطائفي في هذه الأثناء لدى أوساط ثقافية وسياسية متعددة، تعبيراً عن كون الأمر لم يعد متصلاً بالأصلين الوطني والقومي اللذين برزا في الفكر العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإلى مرحلتنا هذه المعيشة، بل يمكن ملاحظة أن أحد أوجه ذلك الخطاب كان موجوداً قبل نشأة الهويتين الوطنية والقومية على مستوى التنظير المعرفي والأيديولوجي.
في مواجهة ذلك كله سيكون من الخطأ اللجوء إلى السلوك العشوائي اللاتاريخي، الذي يلجأ إليه دعاة الطائفية، من موقع أن الطائفية مقترنة بما يعتبرونه أساس الحركة التاريخية أي «الطائفة العرقية» و«العقيدة الدينية». وبالمقارنة التاريخية يمكن أن يتضح أن «العرق» لا يوجد وحيداً دون إطار اجتماعي تاريخي، وأن الدين لا يلخص الوجود الإنساني المركب والمعقد بما يختزنه من عناصر وعوامل تتحدر من المجتمع البشري فقط، وإنما يدخل في صلب ذلك «المجتمع المدني».
هكذا نتمكن من تفكيك الطائفيين الدينيين بمثابتهم دعاة طائفة دينية متحجرة ضمن رؤية لاتاريخية.
والحال أن الهوية الوطنية والانتماء التاريخي القومي لا يمكن أن يُطاح بهما عبر تفسير مضطرب لمفهومي الطائفة الدينية والانتماء القومي، فإذا مشينا على هذه الطريق الوعرة وغير المؤصلة بتدقيق، واجهنا أمامنا معطيات أخرى تقود إلى ما هو مغاير للانتماء القومي وللهوية السورية. وحيثما نلجأ إلى هذا الأسلوب الملفق نجد أنفسنا أمام ما قد يرغب في الوصول إليه المتحدثون عن «اقتسام النفوذ في سوريا» و«تقسيم سوريا»، فبغض النظر عن كون القولين المذكورين إن هما إلا صيغة ملتسبة، فإن حداً من التحليل اللغوي يظهر أن اقتسام النفوذ في سوريا إن هو إلا اقتسام لسوريا على نحو يضمن النفوذ العسكري والسياسي.. إلخ، للقوى التي مشت حتى الآن على هذا الطريق، على الرغم من خلافات تظهر هنا أو هناك لتظهر أن استراتيجيات متعددة تعمل على امتلاك سوريا أرضاً وشعباً، وإن بطرق أخرى ملتوية تقتضيها السياسات الملتوية.
حقاً، إنه مفترق معقد يعيشه السوريون أمام عملية ابتلاع أيقونة الكون، سوريا، أي التي قدمت للبشرية ما تفخر به من إنجازات وحضارات! والمفارقة الخطيرة أن الوطن العربي برمته يعيش ما يكفيه من أنواع الصراعات والاضطرابات والمشكلات العصية، ويجد نفسه وجهاً لوجه أمام مصائب كبرى مغرقة في التشاؤم، على المحورين المحلي القُطري والقومي. ويحدث ذلك دون اهتمام كافٍ من إخوة منتمين لهذا الوطن بالمصائر التي قد يجد نفسه أمامها خالي الوفاض من طاقات الدفاع والبناء! هذا ناهيك عن السعي لتفكيك العالم العربي من أي جهة أتيته.
إن مفترق الطرق الحاسم الذي يقف السوريون أمامه مرشح لمزيد من الاضطراب والبؤس، عدا القتل والتدمير والتفكيك في أقطار عربية أخرى أو مناطق مهمة أخرى. ومن ثم فإن ما يواجه الأحداث السورية يمثل مشروعاً للتفكيك المفتوح والمستمر، ولذا فإن التنبه إلى سوريا الجريحة هو أحد المداخل الحاسمة إلى حماية الوطن العربي كله.
أكملتْ قوات درع الفرات، المسنودة، بشكل مباشر وفعلي، بعناصر الجيش التركي وآلياته، مهمتها التي بدأتها انطلاقاً من رأس جسر جرابلس غرباً نحو أعزاز، ووضعت تحرير مدينة الباب استراتيجيا قصيرة المدى، باعتبار الباب تطل على مدينة حلب، وتحتفظ بأواصر جغرافية قوية مع كل من جرابلس وأعزاز.
تقدّمت قوات درع الفرات ببطء، وعينها على قوات سورية الديمقراطية، وراقبتها وهي تقتحم مدينة منبج، وتقدّم مادة إعلامية لافتة، بإعلانها الحملة على الرقة. حافظت قوات الدرع على تقدمها البطيء نحو مدينة الباب، حتى أحكمت الحصار عليها. وخلال ذلك، تلقت هجومين، أحدهما من قوات النظام، والآخر كان ضربة جوية "غير مقصودة" من الطيران الروسي، فقدت خلالهما بعض العناصر العسكرية، وتم تجاوز الحادثتين بفضل التعاون الروسي التركي الكبير، والمنسَّق على مستوى الرؤساء، والذي رعى كل التحرّكات منذ بداية الدخول التركي إلى جرابلس.
يبدو التحالف التركي الروسي قوياً حتى الآن، وقد مرّ مقتل الجنود الأتراك الثلاثة وجرح زملائهم بقذيفة روسية، مرور الكرام، بعد أن سارع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للاعتذار، وتحجج بقلة التنسيق الذي يحتاج إلى تفعيل أكبر ليمنع الاحتكاكات المميتة التي يمكن أن تحصل بين جيش النظام ومليشياته وبين الجيش المنضوي تحت راية "درع الفرات". وسيشكل، بحسب ما أعلن الجانب الروسي، أوتوستراد تادف حداً فاصلاً بين الجيشين، وهو أقصى خط يمكن أن تصل إليه مليشيات النظام، وقد وصلت بالفعل، فيما يبدو الجهد العسكري والدبلوماسي نشطاً للحفاظ على الهدوء في محيط الباب، على الرغم من أنها تعج بخليط مختلف من الأعداء الذين يتربص كل منهم بالآخر.
تعرف قوات النظام أنها ممنوعة من تجاوز تادف، وتعرف قوات سوريا الديمقراطية أنها غير قادرة على الاقتراب من الباب، وقد ردت على انتصارات قوات "درع الفرات" بمزيد من النشاط في محيط الرقة، والرقة معركة الجائزة الكبرى. وكان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد هاتف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي قال إن الحديث الهاتفي دار حول مكافحة الإرهاب في الباب والرقة. عند هذه النقطة، على الجانب الروسي أن يتوقف قليلاً، ليراجع حساباته التي بدأت بالتعقد، فهو مطالَبٌ بكبح جماح جيش النظام، ومن خلفه إيران التي ترغب بمزيد من التقدّم، ولا مانع لديها من الاحتكاك العسكري مع "درع الفرات"، وهو الأمر الذي حصل بالفعل، وجرى احتواؤه. وكان أردوغان قد التقى أيضاً رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، وبرئيس المخابرات الأميركية (سي آي إيه) الذي جاء بشكل خاص إلى أنقرة. وقد تنفخ هذه المتغيرات المتلاحقة الروح في التعاون الغربي التركي في سورية، ووجود الأعداء وجهاً لوجه وبشكل مباشر داخل مدينة الباب، وعلى تخومها قد يجعل تركيا تختار المواجهة، بعد أن حصلت عملياً على الخمسة آلاف كيلو متر المنشودة، وهي مثلث جرابلس أعزاز الباب، وحمايتها من الجو قد يتيحها الوجود الأميركي، وعندها قد تصبح روسيا بمأزق عليها الخروج منه، ولن تجد إلا مزيداً من التورّط العسكري سبيلاً لمعالجة الأمر.
نشأ الحلف الروسي التركي في غياب شبه كامل للعامل الأميركي، وحضور أوروبي في الشق الإنساني فقط، وبعد أزمة دبلوماسية حادة، وجد الطرفان نفسيهما في خندق واحد. الآن وقد حصلت تركيا على معظم ما ترغب به، ولم يبقَ إلا المعركة الكبرى في الرّقة، والتي ستصر على المشاركة فيها وبقوة، وهي معركة لن تغيب عنها أميركا بأي حال، يبقى العامل الروسي موضع شك، ونحن نشاهد اهتماماً روسياً لافتاً بالمناطق الساحلية، وإصراراً مغالياً في الجهود السلمية لتقريب المعارضة والنظام.. وسيتطلب الأمر جردة حساب دبلوماسية وعسكرية قبل الانتقال إلى معركة الرقة، فمن غير المعقول أن يبقى الجيش الحر وجيش النظام، ومن خلفه مليشات إيران وقوات سورية الديمقراطية في مكان واحد، وعلى جبهة واحدة بدون أن تُجبر روسيا وتركيا على إعادة النظر بالحلف الذي تأسّس في غفلةٍ من اللاعبين الكبار.
فجأة، ودون توقّع مسبق، بدأ الضجيج الإعلامي حول مبادرة يقدمها حزب الله بخصوص جرود القلمون، وتختلف المبادرة كثيراً، بحسب بنودها، عن بقية المبادرات والمصالحات التي انتهت كلها بالتطهير العرقي، كما هو الحال في داريا ووادي بردى وحمص القديمة وغيرها.
تتلخص المبادرة بخروج ميليشيا حزب الله من اثنتي عشرة بلدة وقرية واقعة في تلك الجرود، وعلى رأسها بلدة يبرود ورنكوس وعسال الورد، على أن يتم تسليم إدارة المنطقة كلها إلى فصيل يُطلق عليه "سرايا أهل الشام"، وهو فصيل نشأ من توحيد عدة فصائل. كما تنص على إصدار عفو عام عن المطلوبين، وعودة لاجئي المنطقة في لبنان إلى قراهم وبلداتهم المذكورة.
ومع أن المبادرة لا تتحدث عن منطقة القصير المجاورة لمنطقة القلمون، ولا عن سكانها اللاجئين، وهم بأعداد أكبر بكثير من لاجئي القلمون، فقد تم تهجير سكانها في عام 2013 بشكل كامل أو شبه كامل. ومع أن المبادرة، لو تم تطبيقها، ستحصر المنطقة بين نارين؛ ميليشيا حزب الله من الغرب، وسلطة الأسد من الشرق، حيث تبقى، بحسب المبادرة، مسيطرةً على البلدات الواقعة على الطريق العام، كقارة ودير عطية والنبك والقسطل ومعلولا، ومع ذلك، بحسب الكرم الحاتمي، فأهل القلمون "المستقل" سيديرون شؤونهم بأنفسهم، دون تدخل من سلطة الأسد أو حزب الله، بحيث تصبح تلك المنطقة، وكأنها دولة ذات سيادة.!!. هكذا تشير بنود المبادر.
والسؤال؛ من أين جاء هذا الكرم، وفي هذا الوقت المشحون بالاحتمالات المتشابكة والغموض المبهم، والثرثرة الانتخابية اللبنانية.!؟.
هل لأن حزب الله واقع في زنقة لا يحسد عليها، حتى اضطر أن يذبح فرس حاتم الطائي إكراماً لضيوفه من أهل القلمون .
أم أن المسألة هي مجرد مسرحية لا تختلف عن آلاف المسرحيات المحلية والعالمية التي تم هندستها وإخراجها وتمثيلها بقذارة على الأرض السورية منذ ست سنوات وحتى الآن، والتي أدت إلى تدمير البلد وإبادة شعبه قتلاً وتهجيراً.!؟.
لو تجاوزنا المسرحية وتركناها لوقتها، فإنني أرى كما يرى غيري أن حزب الله يعيش" زنقة" لم يكن يتوقعها. فقد دخل إلى سورية لمساندة سلطة الأسد، والقضاء على"الإرهابيين التكفيرين"، وكان يعتقد أنه بعد شهر أو شهرين، وجولة أو جولتين، سيأتي الانتصار الأعظم" وتعود ميليشيا الحزب إلى لبنان، وراية المقاومة والممانعة ترفرف فوق هاماتها الشامخة.
كما سيعود الأسد أسداً ليزأر على شعبه من جنوب سورية وحتى شمالها، ويُدخِله إلى بيت الطاعة والخنوع، بعد أن تجرأ وأهان إرثه العائلي، ودعا إلى إسقاطه. لكن محفل العائلة المرتبط بالمحافل العالمية قررت عدم السماح بسقوط العائلة، حتى ولو تحول البلد إلى كومة من ركام، وحتى لو أدى الأمر لتسليم مفاتيح البلد إلى أكثر من طامح وطامع خارجي.
لكن الزمن طال كثيراً، ورجال الحزب الأشاوس يدخلون إلى سورية منتفخي الأوداج، ثم يعودون محملين في التوابيت إلى أزقة الضاحية.!!. ومنها تنتشر مآسيهم في روابي لبنان، وتنوح حاضنة الحزب الشيعية على أولادها، وتتبرم من تلك المهمات الجهادية.!!. ومن الدعوة المستهلكة للدفاع عن المقامات الموجودة والمختلقة.
وتبعه الشعب الإيراني بالتبرّم والتذمر بعد أن رأى أيضاً التوابيت تتوارد يوماً بعد يوم من سورية إلى قم، حيث يُصلَّى على الجثامين النافقة عند قبر الشهيد أبي لؤلؤة.!!.
وإذا تجاوزنا إحراج الحزب أمام طائفته الشيعية، والتفتنا إلى الفئات اللبنانية عموماً، لوجدنا مواقفها تتقارب من حيث المعارضة الواضحة لتدخل حزب الله في سورية، نظراً لأن الدولة اللبنانية اتبعت سياسة النأي بالنفس، وقناعتها التامة بأن حزب الله ساهم في تدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان، وهذا التدفق شكل إرباكاً إدارياً واجتماعياً. وانطلقت المطالبات بعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم. من هنا ظن الحزب أن مبادرته ستمتص جزءاً من الغضب العام، وأضاف إليها دعوته الملحاحة بضرورة التواصل بين حكومة لبنان وسلطة الأسد، وقد نالت هذه الدعوة رضى "قصر بعبدا"، حين أشار إلى أن سلاح المقاومة مكملاً لسلاح الجيش اللبناني. غير أن هذا التناغم أثار غضب الشارع السياسي والشعبي، وقد جاء أقوى رد من سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية، حين تساءل بأسلوب استنكاري: وهل يوجد حكومة في سورية حتى يتم التواصل معها، وهل يُعقل أن يقوم لبنان بإرسال الللاجئين إلى مصيرهم المجهول.!؟.
كما أن الحزب أدرك أنه في زنقة مادية، لاسيما أن ميزانيته تأتي كلها من إيران، وهذا ما يقر به السيد حسن نصر الله بـ "عضمة لسانه، حين قال في أحد خطاباته المتلاحقة: نحن وعلى المكشوف وعلى رأس السطح نقول موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران. وهذا ما أثار حفيظة الشعب الإيراني، ونفر الكثيرون واشمأزوا من الطريقة التي تتبعثر فيها أموال الشعب، لاسيما الفقراء منهم. وترجمةً لهذا النفور، بدأت إيران بقطع المساعدات عن حزب الله، حسبما ذكرت بعض الجهات الإعلامية مؤخراً.
هذه واحدة، أما الثانية، فقد انتهت مرحلة الغزل بين أميركا وإيران بانتهاء بياخة باراك أوباما وميوعته في البيت الأبيض، ومجيء دونالد ترامب الذي يذكرنا بالكاوبوي الأميركي. فهو قبل أن يجلس على كرسي الرئاسة، توجه شرقاً ليهدد إيران ويوعز من طرف خفي بالعمل على إخراجها من سوريا، هي وحاشيتها من ميليشيات مذهبية قادمة من أفغانستان والعراق واليمن، وعلى رأسها حزب الله.
ولكي تجسّ إيران نبضَ ترامب، قامت بتجربة صاروخية بعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة. ومباشرة انتفض نبض ترامب وعلت نبرته، ورد عليها بإطلاق أول رصاصة كلامية من العيار النووي الثقيل، حين وصفها بالدولة الإرهابية الأولى في العالم، وهي"تلعب بالنار"، وإنه "لن يكون طيباً معها كما كان سلفه أوباما"، وكان قبلها قد أصدر ما يشبه الفرمان السلطاني بضرورة قيام مناطق آمنة في سورية.
وبما أن إيران حكومة وشعباً ما هي إلا ظاهرة صوتية أكثر من كونها قوة فاعلة، فقد راحت تهدد أميركا وتتوعدها بالموت القادم على صهوة الصاروخ الفارسي. وفي الوقت ذاته أوعزت لحزب الله، ذراعها في المنطقة، أن يقدم هذه المبادرة الاستباقية لإنشاء منطقة تصالحية آمنة في جرود القلمون. وكأنها تقول لترامب: انظر يا ترامب، نحن أسرع منك في تنفيذ المنطقة الآمنة في جوار منطقة نفوذ وليدنا حزب الله.
وإيران تهدف في الوقت نفسه إلى طمس معالم الخناجر المطلية بدماء السوريين، وإلى تلميع صورتها ما أمكن أمام أعين ترامب الحمراء، لاسيما أن مياه العلاقة بينها وبين روسيا في الساحة السورية لا تجري في سهل منبسط.
إلا أن كل تلك الاحتمالات التي أوردناها عن أسباب كرم حزب الله الحاتمي في القلمون، يمكن أن يقابلها نوايا باطنية هدفها المماطلة والتمويه ريثما تنجلي المواقف على الساحة السورية، فإيران ومعها حزب الله لا تريد أن تخرج من سورية بصورة انهزامية واضحة المعالم، ولذلك فهي تلعب على الحبلين، فمن جهة أوعزت لحزب الله بتقديم مبادرته "الحاتمية"، ومن جهة ثانية أوعزت إلى سلطة الأسد برفض المبادرة بحجة أن منطقة القلمون ستكون وكراً للإرهابيين، بحسب ما ذكرته بعض الجهات الإعلامية.
وبين هذا وذاك، يبقى انتظار ما سيحدث في المستقبل، سيدَ الموقف، ولاسيما ونحن على أبواب مؤتمر جنيف الرابع. ولا أظنه سيكون أفضل حالاً من أشقائه الذين داست عليهم بساطير اللعبة الأممية، حتى أدت إلى تدمير وطن اسمه سورية، وإبادة شعب اسمه الشعب السوري.
عندما اقتربت عقارب الساعة من التاسعة إلا ربعاً صباح التاسع من فبراير/ شباط الحالي كانت مقاتلة روسية تقلع من قاعدة حميميم السورية، لتنفذ أوامر صادرة لها بمهاجمة مجموعةٍ يفترض أنها عناصر لتنظيم داعش في قلب مدينة الباب التي تعمل القوات التركية بالتنسيق مع الجيش السوري الحر على استردادها من التنظيم منذ أشهر.
أنجز الطيار مهمته، لكنّ المستهدفَ، كما أعلن مساء اليوم نفسه، وبعد ساعات من التعتيم على العملية، كان الجنودَ الأتراكَ الموجودين في المبنى، حيث سقط منهم ثلاثة قتلى و11 جريحاً. هي العملية الثانية التي يتم فيها استهداف الجنود الأتراك هناك. الأولى في 6 ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، وسجلت ضد مجهول. وهذه هي الثانية في المكان نفسه، لكن الروس هم من نفذوها هذه المرة.
اتصال هاتفي مطول بين الرئيسين الروسي والتركي يكاد ينهي المسألة حبّياً على أنها هجوم خاطئ غير متعمد، لكن تصريحات روسية تظهر، في صباح اليوم التالي، باتجاه تصعيدي تحمّل القيادة العسكرية التركية المسؤولية بإرسال الجنود الأتراك إلى مكان من المفترض ألا يكونوا فيه.
لو كان توصيف استهداف الجنود الأتراك في مدينة الباب السورية، حقا، "نيراناً صديقة" لما كانت موسكو فجّرت نقاشا سياسيا مع أنقرة حول المسؤول عن الحادثة وأسبابها محاولة رمي الكرة على هذا النحو في ملعب الأتراك. هي ليست مسألة عابرة وخطأ فنياً، حسب الروس والأتراك، على الرغم من أن الطرفين يعملان على قطع الطريق على مزيد من التصعيد والتوتر. كيف تغامر القيادة الجوية الروسية بإعطاء أوامر لطياريها بذريعة مهاجمة مواقع لـ "داعش" في عملية من هذا النوع، وهي تعرف أن القوات التركية تخوض حرب شوارع ضد مجموعات التنظيم، وأن التنسيق العسكري مسألة محسومة في ظروفٍ من هذا النوع؟
القراءة الأولى في أسباب "الاعتداء الروسي" على الجنود الأتراك من دون التعرّض لأي موقع توجد فيه قوات الجيش السوري الحر قد تقود إلى نتيجة فورية، تتلخص بأنها عملية مقصودة مدبرة ومعدّة جيداً، سببها الانزعاج والقلق الروسي الإيراني من التحرّكات التركية الإقليمية والدولية أخيراً. وأن قرارا روسيا إيرانيا هو الذي أدى إلى توجيه هذه الرسالة المشتركة، بعد جملة من التحرّكات الإقليمية، كان مركزها أنقرة، في الأسبوعين الأخيرين، بينها الاتصال الهاتفي المطوّل بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والأميركي دونالد ترامب، ووصول رئيس جهاز الاستخبارات الأميركي الجديد، مايك بومبيو، إلى تركيا، لمناقشة ملفات ثنائية وإقليمية كثيرة، تفتح الطريق أمام عودة العلاقات التركية الأميركية إلى سابق عهدها، وهو تحرّك أميركي تزامن مع وصول وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، إلى أنقرة، وسبقه تحرّك ألماني بريطاني إماراتي رفيع، ثم توج بجولة خليجية لأردوغان تشمل البحرين والسعودية وقطر.
موسكو وطهران ستغضبان حتما عندما يسمعان المتحدّث باسم رئاسة الجمهورية التركية، إبراهيم كالين، يعلن أن بلاده قدمت خطة إلى الولايات المتحدة بخصوص كيفية طرد عناصر تنظيم داعش الإرهابي من محافظة الرقة، خصوصا إذا ما جاء ذلك من دون علم روسيا أو بالتنسيق معها. فلم لا تكون عملية مهاجمة الجنود الأتراك في الباب رسالة روسية مختصرة إلى أنقرة؟
حقيقة أخرى، في الاتجاه المعاكس هذه المرة، وهي أن يكون الدرس الأول الذي تعلمناه من عملية مهاجمة الجنود الأتراك في الباب هو أن ما يريده، ويحاول أن يفعله الرئيسان التركي والروسي، في رسم مسار العلاقات بين بلديهما، يتعارض مع رغبة قوى وأجهزة عميقة داخلية، تختلف حساباتها وقراراتها عما يقوله أردوغان وبوتين.
حمّلت أنقرة مسؤولية إسقاط المقاتلة الروسية في المتوسط في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 لجماعة الكيان الموازي، المحسوبة على فتح الله غولن التي كانت تخطط لضرب العلاقات التركية الروسية باسمها، ونيابة عن بعضهم، وهي كرّرت فعلتها هذه مع عملية اغتيال السفير الروسي، أندريه كارلوف، في أنقرة في 19 ديسمبر/ كانون الأول المنصرم. ويرى بعضهم في موسكو أنه لا بد من الرد على الأتراك الذين يتلاعبون بكرامة الروس وحضورهم الإقليمي، وأن الرد ضرورة هنا، لأن الاعتذار والأسف غير كافيين لإقناع القوميين والمتشدّدين الروس الذين أغضبهم استهداف الأتراك رموزهم العسكرية والدبلوماسية مرتين خلال أقل من عام. وها هم يستغلون الفرصة المناسبة للتحرّك، خصوصا وأن المعطيات كلها تقول إن تبرير الهجوم الجوي الروسي على هذا النحو لن يقنع أحداً.
عندما يحمّل ديمتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الكرملين، أنقرة المسؤولية المباشرة عن الحادثة، ويعلن أن موسكو نسّقت مع تركيا، ونفذت الغارة، بعد أن أخذت إحداثيات الأماكن التي يوجد فيها الجنود الأتراك منها مباشرة. وعندما يأتي كلامه هذا، بعد اتصال مطول بين بوتين وأردوغان، ناقش ما جرى باتجاه تضييق الخناق على المسألة، وقطع الطريق على تضخيمها وتحميلها سيناريوهات سوداوية مبالغ فيها، وعندما يردّ عليه رئيس الأركان التركي، خلوصي آكار، في اليوم التالي، بشكل مفصل، يفنّد المزاعم الروسية، ويقول إن الجنود الأتراك الذين تعرّضوا للقصف الروسي في مدينة الباب السورية كانوا متحصّنين في المبنى منذ أكثر من عشرة أيام، وأنّه تمّ تزويد الروس بإحداثيات الأماكن التي توجد فيها القوات التركية بشكل منتظم منذ أكثر من شهر، استناداً إلى الاتفاقية التي أبرمت بين الطرفين في 12 يناير/ كانون الثاني الماضي، فإن الموقف الروسي والرد التركي يحمل معه أكثر من تساؤل: ألم يكن الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق مشتركة تعمل أسابيع مثلا، ثم تخرج علينا بتقرير يقول إن الاعتذار الروسي الرسمي كافٍ لإغلاق الملف، وتقديم ما جرى خطأ غير متعمد، حلا مرضيا للجانبين؟ لماذا رجّح بعضهم في روسيا تحميل الأتراك المسؤولية بهذا الشكل الرسمي والعلني، من دون التريث حتى لإنجاز التحقيقات الأولية في البلدين؟ هل هي مصادفة فقط أن نرى قوات النظام السوري، بالتنسيق مع مجموعات حزب الله اللبناني، تتقدم إلى الباب، في محاولة للسيطرة عليها، وهي تعرف أن القوات التركية تريدها أن تكون جزءا من مشروع المنطقة الآمنة، وعملية درع الفرات؟ هل هناك من يخطط، مثلا، لمواجهةٍ بين القوات التركية والقوات المتقدّمة من الجنوب، غير عابئ أن تتحوّل المواجهة إلى صدام عسكري تركي إيراني، تمهد له "غارات خاطئة" من هذا النوع؟
تبني الكرملين ما قامت به المقاتلة الروسية قبل أيام، والرد التركي عبر الرئيس أردوغان الذي كرّر ما قاله رئيس الأركان في تحميل المسؤولية للروس مباشرة، يذكّرنا بما فعله رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، الذي قال دفاعا عن الضابط الذي أسقط المقاتلة الروسية إنه هو الذي أعطى الأوامر، بدلا من التريّث والتهدئة. الجناح القومي المتشدّد في البلدين أو لعب ورقة الجلوس في هذه المدرجات قد يكون هو الغالب أحيانا، والذي يترك القيادات السياسية في الجانبين أمام خيار المضي حتى النهاية وراء ما يُقال. لم يحصل الجناح القومي الروسي على الأجوبة التي يريدها حول قتل السفير كارلوف، وهي ضربة أخرى بعد إسقاط الطائرة، وكان لا بد من ارتكاب "هذا الخطأ" المقصود، والدفاع عنه بشكل علني رسمي، ربما لتتساوى الأمور، وتكتمل عملية تبادل الرسائل بين أنقرة وموسكو؟ -
طالت مأساة سورية حتى أضحت مجرياتها ذكريات حية وجروحاً لا تندمل. كلما بهتت صور بعض سيرتها الأولى ومعاناتها الملحمية وآمالها وأخطائها وتراجعت عن الانشغال الحالي، جاءت مآسٍ جديدة تبقي الصور نابضة في البال وتصل الحاضر بالماضي القريب بخيوط من نار ودم وخراب وخيبات أمل وتعطش إلى العدالة.
تقرير جديد لمنظمة العفو الدولية ذات عنوان مرعب «المسلخ البشري» عن إجرام ممنهج في سجون النظام السوري، وبشكل خاص سجن صيدنايا الرهيب، ما زال يلغ في دماء المعتقلين المخفيين تحت رادار الرقابة القانونية والدولية لسنين ولم تكشفه أي جهة من قبل. ثم أتت المنظمة وكشفت بعد سبر وتدقيق مطولين أن ما بين ٢٠ و٥٠ معتقلاً كانوا يعدمون اسبوعياً بعد محاكمات صورية، وتدفن جثثهم في مقابر جماعية منذ بداية الثورة عام ٢٠١١. قدر تقرير منظمة العفو عدد من قضوا بهذه الطريقة الرهيبة بما بين خمسة وثلاثة عشر ألفاً من المواطنين المعتقلين تعسفياً حتى نهاية ٢٠١٥، حيث يبدو أن معظم مصادر التقرير الأساسي (أربعة حراس وقاضٍ) غادروا مواقعهم ولم يعد ممكناً لهم الشهادة على هذه الممارسات.
لكن المنظمة ترجح أن الإعدامات لم تتوقف حتى اليوم، إذ لم يتغير من شروط ارتكابها شيء. أي أن أولئك الذين قضوا في السنوات الأربع الأولى من الثورة لم يتحولوا إلى فاجعة ماضية، ربما كان بالإمكان توجيهها نحو فعاليات نضالية أو ملاحقات قانونية أو بدايات لتسكين آلام من فقدوا حبيباً أو قريباً. بل يبدو أن الفاجعة مستمرة بلا توقف في أقبية السجون المظلمة، حيث لا رقيب ولا صدى للعذابات. وتبقى أعداد الضحايا تتراكم بعد أن توقفت كل المنظمات الدولية عن تسجيلها وتمحيصها ماعدا المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي وثق ما لا يقل عن ستين ألف ضحية للتعذيب، بمن فيهم أولئك الضحايا المشوهون بطرق مرعبة الذين سجلتهم عدسة المدعو «سيزار»، والذين تراوحت تقديرات أعدادهم بين الخمسة والستة آلاف ضحية.
كذلك الحال بالنسبة للتدمير الهائل الذي أصاب مختلف أنحاء البلاد (ما عدا الساحل ووسط دمشق لأسباب واضحة). تراجعت أسماء أماكن وأحياء مثل باب عمرو ودرعا البلد وجوبر وحتى داريا، التي نكأ التدمير الشديد الذي أصابها في بدايات الثورة الشاشات والقلوب، وحلت محلها حلب القديمة ومدن صغيرة في أدلب دمرها سلاحا الجو السوري والروسي وتكالب من كانوا أخوة وأصبحوا أعداءً عليها قصفاً وتفجيراً. وغداً ربما ستزيح خرابات غيرها من الأماكن صورها السائدة اليوم لتأخذ مكانها على شاشات التلفزيون وتقارير المنظمات الدولية، وفي خطابات المشيعين والشامتين في آن. ويبقى البلد ككل وكأنه على فوهة مفرمة لا تتوقف، تقضمها قطعة قطعة وتلفظها أطلالاً وحطاماً وتجبر أهلها على النزوح والتشتت والهجرة. وعلى رغم أن بعض شركات إعادة البناء من دول مولت القتال في سورية بل شاركت فيه مباشرة، مثل إيران، قدمت مخططات لإعادة البناء في مناطق مختارة من سورية، إلا أن المهزلة لا تغيب عن أحد. فالهدم بيد وادعاء إعادة البناء باليد الأخرى ليس فقط رياء ولكنه استثمار مضاعف تجنى منه الأرباح المادية على الطالع والنازل، وتتغير نتيجته خريطة البلد الديموغرافية والأيديولوجية.
أما مأساة اللاجئين فما زالت تتفاقم باستمرار تدفقهم من مناطق مختلفة إلى ملاجئ الداخل والخارج على السواء، وإن تراجعت قدرة ورغبة دول الجوار والشتات البعيد على الاستيعاب والترحيب. بعض المناطق التي هجرت حديثاً لم تعان هذه المشكلة في السنوات السابقة، ولكنها انضمت اليوم إلى المناطق المنكوبة ولحقتها في استفراغ معظم سكانها ودمار غالبية منشآتها، بخاصة مع احتدام الكر والفر في شمال البلاد وشمالها الشرقي بين داعش والنظام وحلفائه والجهاديين المختلفين والقوات الكردية والكردية-العربية وتلك المدعومة من تركيا. يختفي خلفهم كلهم ويغذيهم مالاً وحقداً وانتقاماً وقصر نظر ممولون متباينون من أعظم الدول إلى أقربها انتماءً ممن استمرأوا اتخاذ سورية مسرحاً لتجريب سياساتهم وإستراتيجياتهم ومبتكراتهم القاتلة.
معاناة لاجئي سورية تزداد لأن ضغط الهجرة خلفهم وإغلاق أبوابها أمامهم، بخاصة بعد قرار ترامب المتعنت والمتعجرف بإيقاف برامج الهجرة السورية إلى أجل غير مسمى، وضعهم في خانة حرجة وضيقة لا يبدو أن لها مخرجاً قريباً. ولكن هذه المأساة تحولت من مشكلة سورية إلى أخرى عالمية، ولا يبدو أن مضاعفاتها الممكنة ترشد صانعي قرارات التضييق على اللاجئين الذين يتعامون عنها ويفضلون الشعبوية والعنصرية على الإنسانية والقوانين الدولية. وتكبر أجيال من الأطفال السوريين في المخيمات بلا تعليم مناسب لكي تتخرج لاحقاً إلى مدارس البؤس واليأس والضياع وربما الإرهاب.
اليوم، ونحن على أعتاب عيد الحب الذي ابتدأ غربياً وأضحى عالمياً، أود لنا أن نتذكر، ونحن نغص بذكريات الثورة السورية الحية الآلام، ذلك الرجل الحلبي المجهول الاسم الذي سحله زبانية النظام في الشوارع قبل قتله في مثل هذه الأيام من ٢٠١٣، ثم صوروا جريمتهم ونشروها على اليوتيوب. حسام عيتاني كتب في «الحياة» يومها مقالاً بعنوان «فالنتين السوري» يهصر القلب (الحياة، الجمعة ١٥/2/٢٠١٣). فهذا الرجل المدمى والمعذب وشبه العاري والمربوط من ساعديه بحبل تجره سيارة عسكرية، يرفض أن يدل القتلة على عنوانه لكي يغتصبوا زوجته مقابل السماح له بتوديعها وأطفاله قبل قتله. وهو يجيب عن طلبهم الوقح وقهقهاتهم القميئة بوصف زوجته بعبارة رائعة في شغفها وإنسانيتها العميقة ذات النكهة المحلية: «بنت عمي وتاج راسي». ويتحول هذا البطل المجهول، على رغم ميتته المذلة والشديدة الإيلام، إلى شهيد الحب الأول بلا منازع وقديسه على غرار القديس فالنتين نفسه. ويضرب بشهادته مثلاً على النبل العادي والشعبي الذي لم تتمكن سنوات القهر الأسدي الطويلة من نزعها من وجدان الإنسان السوري البسيط، الذي سيبقى نبراساً على درب جلجلة سورية الطويل في استعادتها لأمان أبنائها وكرامتهم، وحريتهم في نهاية الأمر، على رغم أنف الحاضر المزري.
كانت المفاوضات السورية، بين النظام والمعارضة، في مسار «جنيف» (1 و2 و3) اشتغلت على أساس بيان دولي، تم التوافق عليه في العام 2012، وقد استندت إليه مجمل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، بخصوص سورية، فإذا بها، منذ بداية هذا العام، تدخل في مسار «آستانة»، أي في مسار جديد ومغاير، يختلف في أطرافه وموضوعاته ومرجعياته عن المسار السابق؛ حتى ولو جرى اعتبار الاجتماعات التفاوضية القادمة في جنيف (أواخر هذا الشهر) باعتبارها الجولة الرابعة.
فوق ذلك فقد أضحى مشهد المفاوضات السورية بالغ التشويش والتعقيد، أكثر من قبل، إذ كان سابقاً ثمة الائتلاف الوطني، ثم «الهيئة العليا للمفاوضات» (مع أطراف أو منصّات أخرى)، فإذا بنا اليوم نرى المعارضة الرئيسية، والتي كانت سابقاً ترفض أي تشكيك بوحدانية تمثيلها للمعارضة في المفاوضات، تنقسم على نفسها، إذ بات لدينا «الائتلاف» و «الهيئة» والفصائل العسكرية، من دون أن نغفل المنافسات أو المنازعات في كل طرف منها.
هكذا، وفي خضم النقاش الحاصل في شأن هذا التحوّل، وبعيداً عن الرغبات أو التقييمات الذاتية، يفترض هنا ملاحظة المسائل الأساسية الآتية:
أولاً، إن السوريين، وهذا يشمل الطرفين المتصارعين والمعنيين مباشرة (أي النظام والمعارضة)، ليسا هما من يحدّد طبيعة المفاوضات، إذ بيّنت مفاوضات «جنيف»، في جولاتها الثلاث السابقة، التي أجريت خلال السنوات الأربع الماضية، ومفاوضات «آستانة»، التي أجريت مطلع هذا العام، أن الأطراف الخارجية، أي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، هي التي تحدد مسار المفاوضات وموضوعاتها وأولوياتها، وحتى أطرافها، مع غياب ملحوظ للدور العربي، على رغم تبايناته (لا أعتقد أن دخول الأردن على خط مفاوضات آستانة يغطي على غياب دور عربي بمعنى الكلمة).
ثانياً، هذه المفاوضات استمرت وفقاً لقاعدة دولية وإقليمية مفادها عدم تمكين أي من الطرفين التغلّب على الآخر، لا بالوسائل السياسية ولا بالعسكرية، لا النظام ولا المعارضة. ويستنتج من ذلك أن الأطراف الخارجية، سواء اعتبرت مساندة للنظام أو مساندة للمعارضة، ظلت تشتغل على أساس المحافظة على ديمومة الصراع الدامي والمدمر في سورية، الذي استنزفها، وهجّر شعبها، وقوّض إجماعاتها الداخلية، وأطاح بسيادتها، وأضعف البني الدولتية فيها، بدل الاشتغال على إنهائه. وطبعاً هذا يستثني إيران التي عملت وفقاً لأجندتها الرامية إلى تعزيز نفوذها وهيمنتها في المشرق العربي، من العراق إلى لبنان مروراً بسورية، وعلى قاعدة: «إيران أو فلتخرب البلد»، الذي يتماهي مع شعار «الأسد أو تخرب البلد». هذا يفيد، أيضاً، أن التدخل الروسي، على وحشيته وبشاعته، جرى في إطار التفاهم الدولي والإقليمي، لا سيما بعد انكشاف التباعد في الأجندة بين إيران من جهة وروسيا من جهة أخرى.
ثالثاً، لم تجر العملية التفاوضية، ولا في أي وقت، وفقاً لمعطيات الثورة، بمعانيها واستهدافاتها، المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، وإنما هي جرت وتجري وفقاً لسياسة الأمر الواقع، أي موازين القوى، والمعطيات الدولية والإقليمية المتعلقة بالصراع على سورية (وليس الصراع في سورية). وقد شهدنا أن مشروع «الهيئة العليا للمفاوضات»، الذي قدم للأطراف الدولية قبل أشهر، رضخ لهذه المسألة في نصه على الشراكة في الحكم، بين النظام والمعارضة، مع تفهم أن هذا الأمر يعني حصر الصراع بتغيير رأس السلطة، والانتهاء من نظام الأسد؛ وبالطبع فهذا أمر كبير الأهمية، وضروري، لكنه لا يلبي الحد الأدنى للأهداف التي توخاها الشعب السوري من ثورته، لا سيما بعد كل الأثمان الباهظة التي تم دفعها.
رابعاً، في حين يبدو النظام موحّداً، في خطاباته وأجندته وحتى في تشكيلته التفاوضية، كما لاحظنا، فإن المعارضة، في المقابل، تبدو غير ثابتة، وغير موحدة، لا في خطاباتها، ولا في أجندتها، وبالطبع ولا في تشكيلتها التفاوضية، كما ظهر مؤخّراً، ما يضعف صدقيتها، وفاعليتها، وهذا لا ينبثق من وجود منصّات مختلفة للمعارضة، فقط، وإنما هو ينطبق على وفد المعارضة الأساسي الذي يفترض أن «الهيئة العليا للمفاوضات» تمثله، أو تعبر عنه، إذ أن هذا التمثيل جرى كسره في مؤتمر الآستانة (الشهر الماضي) بإيلاء بعض ممثلي الفصائل العسكرية مهمة المفاوضات، ولا يهم إن جرى ذلك بالتنسيق مع الائتلاف، أو الهيئة المذكورة، إذ إننا نعرف أن هذا التنسيق هو بكل صراحة مجرد تغطية لحالة إملاء أو ارتهان خارجية.
بالمحصلة فإن المعارضة الأساسية باتت لها «منصّات» عدة، تتمثل بالهيئة العليا، والائتلاف، والفصائل العسكرية، تتنافس في ما بينها على حصة التمثيل، وحيّز المكانة، وليس على الموضوعات والقضايا.
هذا كله يكشف عن حقيقة العملية التفاوضية الجارية، بأبعادها وآفاقها، ما يطرح السؤال في شأن الانخراط في هذه العملية أو مقاطعتها، وهو سؤال مشروع ومطلوب لكن الإجابة عليه معقّدة ومشوبة بالالتباسات أيضاً.
المعضلة الأساسية في الإجابة المفترضة تنبثق من غياب البدائل، أو الخيارات، أمام المعارضة السورية، بما لها وما عليها، بخاصة في ظروف انسداد أفق الخيار العسكري، وضعف فاعلية الدول المفترض أنها مساندة للثورة السورية، وخروج الشعب السوري من معادلات الصراع، بعد التهجير والحصار، ودخول روسيا على خط الدعم العسكري المباشر للنظام.
يستنتج من ذلك أن معطيات تفاوضية هي على هذا النحو لا تضع المعارضة السورية، على ضعف بناها السياسية والعسكرية والمدنية، سوى أمام خيار واحد ينبغي أن ينبني على أساس تحجيم الخسائر والأخطار، إلى أقصى حد، بإنهاء حال التقتيل والتدمير والتهجير في البلد؛ أولاً. وثانياً، السعي للبناء على الوضع الدولي، والمتغيرات الحاصلة في الصراع على سورية، لإيجاد التقاطعات المناسبة التي تمكّن المعارضة من التعويض عن الخلل في موازين القوى، وتالياً إيجاد حل للمسألة السورية، يتأسس على رحيل نظام الأسد، كمرحلة لا بد منها لإنهاء الاستعصاء الحاصل، في الصراع الدامي الدائر منذ ستة أعوام.
بديهي أن كل ذلك يعني أن المسألة خرجت من أيدي السوريين، نظاماً ومعارضة، وأن النظام الدولي هو الذي بات يتحكّم، بصورة أكبر، ليس فقط بمسألة إنهاء القتال بين مختلف الأطراف، وإنما حتى بتشكيل سورية المستقبل. وتالياً، فإن ذلك يعني أن الموازنة هنا بين الواقع والأخلاق تحيلنا، أيضاً، على سؤال أخلاقي آخر يتعلق بجدوى استمرار المعطيات التي تسمح بالتشجيع على استمرار القتل والتدمير والتهجير في سورية، الذي أودى بشعب سورية وبثورته، في آن معاً، في حال تم تقويض العملية التفاوضية الجارية، على علاتها، أو على رغم كل التحفظات عليها.
والمشكلة هنا أن المعارضة في كل مرة تجد نفسها، في الظروف التي تحدثنا عنها، ووفق المحددات التي تحكمها، في حال ضعف وارتهان أكثر من قبل، وأنها في كل مرة ترفض ما كانت رفضته سابقاً. وللتذكير فإن هذا ما حصل سابقاً، مثلاً، في رفضها بيان جنيف، ثم في اتكائها عليه، وهو ما حصل، أيضاً، في رفضها أي مفاوضة مع الطرف الروسي، ثم في قبولها ذلك بأي ثمن، ولو كان ذلك على حساب مكانتها التمثيلية، كما حصل مثل هذا الأمر في موافقتها على تقاسم التمثيل مع المنصّات الأخرى بعد أن كانت ترفض ذلك جملة وتفصيلاً، إلا إذا كان تحت سقفها ووفقاً لمعاييرها. ومن ناحية سياسية، أيضاً، لا ننسى أن المعارضة خفضت سقفها التفاوضي التفاوضي من إصرارها على طلب «هيئة حكم انتقالية، وفقاً لبيان جنيف (2012)، إلى القبول بمجرد حكومة شراكة، ومن إسقاط النظام إلى إنهاء حكم الأسد، بعد المرحلة الانتقالية أو أثناءها.
القصد أن الصراعات السياسة لا تخاض بالشعارات والرغبات وإنما تخاض بعوامل القوة، والمكانة، والمعطيات المناسبة والمواتية، فكيف إذا كان الشعب السوري يفتقد كل ذلك، وإذا كانت معارضتهم هي على هذه الحال من التشرذم وضعف الفاعلية؟ ثم ما الذي يتبقى للسوريين، في أوضاعهم الصعبة، إذا كان الصراع الدولي والإقليمي على بلدهم هو العامل المتحكّم أو الأكثر فعالية؟
تختلف السياسة الأميركية عن سابقتها في الموقف من إيران بالتحديد، ولكنها تُكمّل السابقة في اجتثاث "داعش" ومحاصرة النظام السوري من دون إسقاطه. وتشكل هذه النقطة عنصر توافقٍ كبيرٍ بين الروس والأميركان. يضاف إليها التنسيق الروسي مع إسرائيل، بما يخص مصالحها في سورية، وكذلك المكانة الرفيعة لإسرائيل في السياسة الأميركية، واحتمال نقل سفارتها إلى القدس. تدفع التوافقات الجديدة هذه نحو تحجيم إيران في سورية، وفي كل المنطقة العربية، ويُلحظ في ذلك أن إيران نفسها بدأت تبحث عن حلول بخصوص اليمن والبحرين، وأيضاً لتساوم على مصالحها الكبرى في سورية والعراق ولبنان، حالما تُجبر على الخروج منها.
أصبحت الساحة السورية متاحةً لكل أشكال التدخل، وتُصاغ وفقاً للصراعات الإقليمية والدولية. وهنا يصبح الكلام عن مناطق آمنة في سورية، كما قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، محط صراعٍ جديدٍ قد يُوقف التطورات التي حدثت على الساحة السورية، ابتداءً منذ اجتماعات أنقرة وسيطرة النظام على مدينة حلب، ولاحقاً انعقاد لقاء أستانة واحتمال عقد مفاوضات جنيف قريبا، وقد أعطى الروس للفصائل العسكرية دوراً سياسياً بدعوتها إلى أستانة، ووجود أفكار متداولة عن مجلسٍ عسكريٍّ تقوده روسيا، في إطار الانتقال السياسي، وهذا عكس الاتهامات التي كان يُكيلها الروس للفصائل، ومحاولتهم وضعها في إطار الفصائل الإرهابية.
كان الخلاف بين روسيا وأميركا لمسائلٍ عالميّة كثيرة، ولا يمكن اختزاله الآن في سورية أيضاً، ولهذا تُطرح قضيتا أوكرانيا وسورية معاً من جديد، وهناك مسائل أخرى بالتأكيد. وهذه يترتب عليها تغيّرات كبرى بخصوص التعارض بين سياسة ترامب والسياسة الأوروبية، وبالتالي هناك تغييرات كبيرة تطاول السياسة الأميركية عالمياً. ولا يتوقف الرئيس الأميركي الطموح عن اتخاذ قرارات جديدة، على الرغم من أنها تُواجَه برفضٍ أميركيٍّ وعالميٍّ. تعطيل بعض تلك القرارات بفعل القضاء الأميركي، كما القرار الخاص بمنع سكان سبع دول إسلامية من دخول أميركا لا يعني إيقافها بأي حالٍ.
التقليل من التغيرات الأميركية في منطقتنا أمرٌ خاطئ، فالسياسة الأميركية ترفض التمدّد الإيراني، وتعلن بوضوح شديد أن نفط العراق لأميركا، وأن التدخل الإيراني هناك يجب أن يتوقف، وهذا سيستدعي بالضرورة إمكانية شن عدة حروب في الشرق الأوسط. يُفضل هنا رؤية صمت ترامب إزاء دول الخليج، الدول التي عانت تهميشاً أميركيا في زمن الرئيس السابق، باراك أوباما، وإعطاء الأخير إيران دورا أكبر على الساحة الإقليمية.
الآن، وبخصوص مواقف أميركا في سورية، فهناك دعم كبير لقوات صالح مسلم، واحتمال التقدم ضد "داعش" بدعم أميركي بالتحديد، وهذا سيقوي الأكراد ضد تركيا في سورية، وقد يدفع كرد تركيا للثورة مجدداً، وهو ما يعني عدم أخذ أميركا الاعتراضات التركية بالاعتبار. وسيكون لتعزيز القوات الكردية في سورية تأثير كبير على الوضع الكردي في تركيا، وبالتالي، ما زالت السياسة الأميركية إزاء تركيا غير واضحة، بينما هناك تقدم كبير في العلاقات التركية الروسية، وهذا لن يكون لصالح السيطرة الأميركية على المنطقة. وبالتالي، تشكل مسألة المناطق الآمنة والدعم الأميركي للأكراد مسائل جديدة، قد تزعزع ما ذكرناه من توافقات روسية تركية؛ والقصد هنا أنه لا معنى للكلام عن مناطق آمنة، وهناك حديث يخص الحل السياسي في سورية، وكذلك هناك منطقة أصبحت تحت السيطرة التركية، وستكون نتيجتها محاصرة "داعش" أكثر فأكثر، ومنع تشكيل أي إقليم كردي متواصل.
يتخوف محللون كثيرون من مسألة المناطق الآمنة، فهي ستتيح للدول المتدخلة أن تتحكّم بمناطق ومدن سورية معينة، وستخلق دويلات متعددة متقاتلة أو محتجزة ضد الأخرى، بفضل الدول المتدخلة، لكن السؤال هل يمكن لروسيا وأميركا وتركيا أن تغامر بقواتٍ من دولها لحماية تلك الدويلات، وهل يمكن أصلاً لدولٍ كهذه أن تعيش وتستمر. طبعاً تشكيل دويلة تحت السيطرة التركية، أو في الجنوب أو الشمال، مسائل شبه مستحيلة، نظراً للكلف الكبيرة التي تترتب عليها، ولضعف المردودية منها والفائدة كذلك؛ وعكس ذلك هناك عوامل تقارب بين روسيا وأميركا وإسرائيل، وربما دول الخليج ومصر لاحقاً، وهي ستكون الأساس في صياغة شكل الحكم على سورية، وفي المنطقة بأكملها.
تساير البراغماتية الأميركية القوات الكردية للعودة مُجدّداً إلى سورية والعراق، ولتكون لاعباً أساسياً، ولتحقيق مصالحها في دول المنطقة، ولا سيما في العراق، وبالتالي، وبعد أن استخدمت إيران حجة محاربة "داعش" في العراق وسورية، فها هي تواجهه فيها. حجة محاربة "داعش" وفق السياسة الأميركية حالياً يُراد منها تحجيم إيران وإعادة الدور الأميركي للمنطقة، وإيقاف التقدم الكبير في التنسيق التركي الروسي الإسرائيلي، من دون فوائد تذكر لصالح أميركا. طبعاً هذا لا يتناقض مع الإستراتيجية الأميركية الأساسية المحدّدة بمواجهة الصين، وبالتالي، لخدمة هذه القضية تتغيّر السياسات الأميركية في منطقتنا والعالم.
خلطت التغييرات الأميركية الأوراق إزاء إيران والمناطق الآمنة؛ وهذا ما أصاب الروس والأتراك والإيرانيين بارتباكٍ شديدٍ. لم تعد المواقف الأميركية تحذيرات فقط، فهناك قرارات ضد كيانات وشخصيات تم إقرارها. إبعاد النظام السوري عن إيران هو السياسة التي تَعمل أميركا عليها، وهو ما تفعله روسيا بالتدريج. ويشعر النظام بدوره بالخطر الكبير من جرّاء تحوله إلى لعبةٍ كاملة بيد الدول العظمى، ومعرفته أن إيران مُجبرة على المساومة عليه، للحفاظ على بعض أذرعها الإقليمية، كحزب الله مثلاً.
ستسهم سياسات أميركية المتصاعدة إزاء منطقتنا بالتأكيد في تشكيل حلف جديد، كما ذكرنا، وستكون إيران أكبر الخاسرين بسببه، لكن تركيا وسورية قد تكونان أمام دويلات كردية، ستؤجج الحروب الداخلية فيهما. ولهذا، لن تنتهي الحروب بسهولة، وقد تعاني تركيا من الحرب القومية مجدّداً.
تداعيات زلزال حلب لم تتوقف. سقوط المدينة استتبع سقوط مرحلة كاملة من عمر الأزمة السورية. ولم يكن لقاء آستانة عابراً وإن اقتصر على تثبيت وقف النار. ساهم في بلورة المشهد المستجد الذي سيستكمل في الجولة المقبلة من المفاوضات في جنيف. كانت الفصائل العسكرية التي شاركت في لقاء العاصمة الكازاخية بعد التزامها وقف النار تنادي بتحرير سورية من الاحتلال الروسي والاحتلال الإيراني فإذا هي في أحسن تنسيق مع موسكو. واعترفت هذه بهم قوى معتدلة بعدما كالت لهم التهم بالارهاب. وكان قادة «الائتلاف الوطني» يبدون أقسى التشدد ويرفضون لقاء الروس. وبحثوا قبل يومين مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في تشكيل وفد المعارضة إلى الجولة المقبلة من المفاوضات. وارتضت «الهيئة العليا للمفاوضات» أخيراً أن تقتسم التمثيل مع «منصتي» موسكو والقاهرة وإن بشروط! وكانت تركيا تعلي الصوت من خارج الحدود. تتوعد وتهدد وتلوح بدعم فصائل معتدلة وغير معتدلة... فإذا هي اليوم على سكة واحدة مع روسيا. حاضرة في الميدان وتمارس ضغوطاً على الفصائل للانضباط والاصطفاف في خط التسوية الموضوعة على النار. وتستعد لتوسيع تدخلها والانخراط في معركة تحرير الرقة.
إعادة التموضع التي فرضها زلزال حلب لم تقتصر على هؤلاء الأطراف وحدهم. جميع المتصارعين في سورية وعليها يبحثون عن مواقع جديدة. لقد دخلت الأزمة مرحلة البحث عن تسوية. إيران التي كانت ولا تزال تصر على يدها العليا في بلاد الشام وتتباهى بأنها حالت دون سقوط النظام، تتوجس الآن من الصفقة الكبرى المحتملة بين الكرملين والبيت الأبيض. وأقصى ما يمكن أن تراهن عليه هو الحفاظ على ما جنت من مكاسب اقتصادية ثمناً لما قدمت، وبعض الضمانات السياسية والأمنية. قد يصبح جل طموحها وطموح ميليشياتها، إذا رأت الصفقة النور، ضمان أمن طريق دمشق - بيروت لتظل جسر تواصل، وقواعد سيطرة لـ «حزب الله» في مناطق غرب سورية محاذية للحدود مع لبنان، خصوصاً القلمون. وكذلك توفير حضور أو تمثيل في صيغة النظام المقبل خصوصاً في الدائرة المعنية بالعلاقات بين دمشق وبيروت. وهي تدرك أن أمامها فترة سماح قد لا تتجاوز شهرين أو ثلاثة، إلى حين تتضح خطة واشنطن للتعامل معها في كل مناطق انتشارها. وتخشى حتماً أن تتولى تركيا تحجيم دورها في سورية بتفاهم أميركي - روسي، على غرار ما يفعل أهل «عاصفة الحزم» في اليمن بدعم واضح من إدارة ترامب.
الأردن بدوره تحرك سريعاً للتنسيق مع القوات الروسية. وشن طيرانه غارات على مواقع لـ «تنظيم الدولة» في الجبهة الجنوبية. وكانت قيادته أبدت من زمن استعدادها للممساهمة الفاعلة في قتال «داعش»، وحتى تحرير تدمر بعد سقوطها للمرة الأولى بيد التنظيم. وألحت بلا جدوى على الإدارة الأميركية السابقة لمد سلاحها الجوي ببعض التقنيات اللازمة للغارات الليلية. وتبدي اليوم جاهزيتها لتحريك قوات «الجبهة الجنوبية» في «الجيش الحر» (تعدادها يقرب من أربعين ألف عنصر)، للمساهمة في تحرير الرقة، إلى جانب قوات تركية وخليجية عربية ومقاتلين محليين. ذلك أن «تيار الغد» الذي يرأسه أحمد الجربا جهز بالتفاهم مع الأميركيين نحو ثلاثة آلف عنصر. ويمكن مضاعفة هذا العدد من أبناء العشائر العربية في الجزيرة لتشكيل قوات كافية قادرة على الإمساك بالأرض في المدينة ومحيطها بعد هزيمة «داعش». فضلاً عن فصائل مقاتلة رعتها دول أوروبية. فلا الروس راغبون في رؤية تمدد الميليشيات المحيلة التي ترعاها إيران والنظام إلى هذه المدينة. ولا الأميركيون يقبلون بتوسع قوات دمشق إليها. ويؤشر هذا التوجه إلى بداية مشروع تركي - عربي لتطويق التمدد الإيراني، ولقطع الطريق على تهديدات «الحشد الشعبي» العراقي بعبور الحدود للمساهة في قتال «تنظيم الدولة». وقد أوفدت حكومة بن علي يلدريم وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو إلى المملكة العربية السعودية للتنسيق مع الرياض التي كانت مراراً عبرت عن رغبتها في المساهمة في تحرير الرقة. وعرضت هذه الحكومة لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مايك بومبيو خطة لتحرير المدينة من دون الاستعانة بالقوة الكردية التي تعاونت معها إدارة اوباما ومدتها بالمساعدات اللازمة، منذ معركة عين العرب (كوباني) وحتى منبج. هذه التحولات فاقمت إرباك النظام في دمشق وإثارة غضبه وغضب حلفائه، خصوصاً حيال صمت روسيا، قبلة معظم هذه التطورات.
ليس سراً أن موسكو تستعجل طي الصفحة الماضية نهائياً. وتحرص على إدارة المرحلة الجديدة وعنوانها إرساء تسوية بأي ثمن. لا يمكنها بالطبع الاستئثار وحيدة برسم الحل السياسي. هناك لاعبون آخرون، لكنها لا ترغب في شركاء منافسين. وهذا هو لب المشكلة بينها وبين طهران. ولم يعد خافياً أن استعادة «داعش» سيطرته على تدمر بقيت إلى الآن بلا رد. كان يمكن القوات الروسية أن تعتمد، كما حصل في المرة الأولى، على قوات النظام والميليشيات التي ترعاها إيران. لكنها لم تفعل إلى الآن. وكانت رفضت بقاءهم في تدمر يوم حررتها العام الماضي. ينتظر الكرملين تبلور الصورة في واشنطن. ولا يعول كثيراً على نتائج الجولة المقبلة من المفاوضات في جنيف. يعرف سلفاً أن إدارة الرئيس ترامب لا تعول كثيراً على هذه الجولة. بل لا ترغب في انعقادها ما دامت في طور درس سياستها حيال الأزمة السورية. أي أن لا توافق حتى الآن بينها وبين موسكو فلماذا إضاعة الوقت؟ أبعد من ذلك تؤشر مواقف روسيا إلى رغبة في إنهاء هذا المسار التفاوضي ولسان حالها أن تنتهي الجولة الموعودة بإعلان طي صفحة جنيف نهائياً، وكذلك إعلان فشل القوى السياسية المتناحرة في التوافق على حل سياسي. هكذا يتعزز سعيها إلى مشروع بديل طالما سعت إليه. يقوم هذا على إجراء مصالحة بين قيادة القوات النظامية وقادة الفصائل المسلحة التي التزمت وقف النار وحضرت لقاء آستانة. وهي على تواصل مع الأردن وتركيا الممسكين بجيشين كبيرين جنوباً وشاملاً. ولن يكون بمقدور فصائل أخرى الاعتراض، خصوصاً أن الإدارة الأميركية الجديدة عبرت عن عدم ثقتها بأي فصيل سياسي أو عسكري. وقررت وقف تسليحها أو مدها بالمساعدات المادية وغيرها. علماً أن الإدارة السابقة مدّت هذه الفصائل بالكثير من السلاح في الأشهر الأخيرة.
تسترشد موسكو بنموذج مصر حيث تولى العسكر إعادة تصويب الأوضاع. وتدفع باتجاه مماثل في ليبيا حيث بدأ المعنيون في الخارج يميلون إلى سيناريو مشابه، مع فتح أبواب كانت مغلقة أمام الجيش الذي يقوده المشير خليفة حفتر. ويعول الكرملين على التسوية بين المعسكرين، الجيش النظامي والفصائل المسلحة، وعلى قدرة هاتين القوتين على تشكيل جيش جديد يتولى إدارة مرحلة انتقالية تمهد لقيام نظام يرضي جميع المتصارعين المحليين والخارجيين. ويقوم على صيغة تقاسم السلطة بين الرئاسة والبرلمان. ولا يخفى أن مشروع الدستور الذي اقترحته القيادة الروسية، أياً كانت مواقف السوريين منه، طوى عملياً صفحة نظام الرئيس بشار الأسد. لكنه لم يعط في المقابل المعارضة كل ما تريد. إنها وثيقة حاولت أن تأخذ من النظام السابق نصف ما كان له لتمنحه للمعارضة. لن يرسي الكرملين نظاماً ديموقراطياً كاملاً كما تطالب الفصائل وقوى المعارضة. لن يكون «كريماً» مع هذه القوى، هو الذي لا يأبه بالمعارضين في بلاده. ولا شك في أن طي صفحة النظام السابق ورئيسه، وإن استمر بقاء الرئيس إلى حين، يسهل على ترامب خيار التفاهم مع نظيره الروسي بوتين والتنسيق معه في محاربة «داعش» وإجراء التغييرات المطلوبة في سورية. ويحل عقدة التناقض الذي يشوب موقفه. فكيف يمكن الرئيس الأميركي الجديد التوفيق بين تهديده إيران بتقليم نفوذها في المنطقة وتفضيله بقاء أو إعادة تأهيل الأسد، أكبر حلفائها، على وصول الفصائل التي تقاتله!
أما أنقرة التي تبدو هذه الأيام أكثر اندفاعاً، فهي تعول على علاقاتها الممتازة مع موسكو من جهة وعلى إعادة فتح الأبواب بينها وبين واشنطن من جهة ثانية. وستعوض الكثير مما فاتها، إذا سارت الأمور وأثمرت ديبلوماسيتها النشطة هذه الأيام. ستساهم في تقليص نفوذ إيران من جهة، وتحد من طموحات الكرد. وتمكن المعارضة السياسية أو النظام المقبل من التفاوض معهم على آلية علاقتهم بالعاصمة وحدود استقلال إدارة شؤونهم بأنفسهم. كما أن تركيا بمثل هذا الانتشار شمالاً من الباب إلى منبج والرقة لاحقاً ستعزز موقعها في العلاقة أو التفاهم مع روسيا التي لا ترغب في نشر قوات على الأرض بقدر ما تستعجل سحب وحداتها الحالية لتكتفي بالقواعد التي أقامتها وعززتها «قانونياً» منذ تدخلها في ايلول (سبتمبر) 2015. لكن هذا السيناريو الوردي الذي يسعى إليه الرئيسان فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان قد يصاب بانتكاسة. لن ينطلق قطار التسوية إذا أصرت واشنطن بالتفاهم مع أنقرةعلى إقامة مناطق آمنة. مثل هذا التطور سيفرض قيوداً على حركة قوات روسيا ويقلص من نفوذها. فهي تعول على المنصة السورية من دون منازع أو تشويش وتهديد لتوكيد عودتها قطباً دولياً، ولحجز دورها في بناء نظام إقليمي يحفظ لها إنجازاتها ومصالحها في الشرق الأوسط الكبير. فهل ينجح ترامب وأردوغان في تقديم صيغة لمنطقة آمنة لا تثير حفيظة بوتين وتهدد طوحاته ولا تدفعه إلى قلب الطاولة والعودة إلى الخيار الإيراني؟
على الرغم من أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يكاد يوزع اتهاماته وتهديداته على العالم كله، بما فيه الدول الحليفة لواشنطن، إلا أنه يمنح إيران حصة كبيرة من انتقاداته، ويتمحور هجومه عليها فيما يعتبره دعماً إيرانياً "للإرهاب"، وأنها دولة تنشر الدمار والفوضى في الشرق الأوسط. وتبدو هذه الحملة الترامبية مقدمة لمزيد من إجراءاتٍ عقابية ضد إيران، بعد أن جدّد بالفعل عقوبات سابقة كان يفترض أن يتم رفعها بعد الاتفاق النووي.
والتقطت بعض وسائل إعلام غربية الخيط، وراحت تناقش احتمالات وقوع مواجهة مسلحة، وهو ما تجاوب معه سريعاً المسؤولون الإيرانيون، بلهجة تصعيدية مضادّة، لتهيمن لغة التهديد والوعيد على مشهد التفاعلات بين البلدين.
السؤال، هل ترامب جاد فعلاً في ذلك التوجه لمعاقبة إيران، وتكبيدها كلفة سياساتها وتطلعاتها؟ هناك إجابتان: الأولى أخلاقية، تتعلق بمدى استحقاق إيران هذا. والثانية واقعية، تتعلق بقدرة ترامب على تحويل تهديده إلى إجراءات عملية.
من منظور الأخلاقية والجدارة، إذا كانت طهران جديرة بالمواجهة والحصار والعقاب، لأنها ترعى الإرهاب وتثير الفوضى والاضطراب الإقليمي، فهناك دول أخرى في المنطقة وخارجها، لا تقل عنها جدارةً في ذلك، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية نفسها. لذا، ليس شعار ترامب الذي يرفعه مسوّغاً للهجوم على إيران مقنعاً حتى لحلفاء واشنطن الغربيين أنفسهم. ليس معنى ذلك أن إيران دولة مثالية، أو تلتزم دائماً القيم والمبادئ الأخلاقية في سياساتها، لكنه يعني أن هذا البعد القيمي والأخلاقي لم يكن يوماً معيار توجيه بوصلة العلاقات بين الدول.
من ثم، ترتبط جدية ترامب في استهداف إيران مباشرة بقدرته، وليس برغبته في حشد قوة لمواجهتها. والمعروف للكافة، أن واشنطن في حالة انحدار منذ عدة سنوات، والاقتصاد الأميركي يعاني اختلالات هيكلية، كادت تعصف في عام 2008 ، ولا يزال يعاني من تبعاتها. كما أن الجيش الأميركي ليس في أحسن حالاته، نتيجة الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا والأسلحة ذات التقنيات الحديثة، على حساب العنصر البشري والكفاءة القتالية للفرد، فضلاً عن النواقص الأخلاقية والمشكلات النفسية والسلوكية التي تضرب المجتمع الأميركي، ووصلت تداعياتها إلى صفوف الجيش هناك.
وأخيراً، أعلنت واشنطن، قبل سنوات قليلة، أن مكامن التهديد الاستراتيجي لها تقبع هناك في أقصى الشرق الآسيوي، أي الصين بقدراتها وسياساتها. وبالفعل، رفعت واشنطن أيديها عن الشرق الأوسط، واكتفت بالتنسيق مع موسكو لتأمين إسرائيل. فيما هي غير معنية جدياً بالصراع العربي الإيراني الذي يمتد من سورية شمالاً إلى اليمن جنوباً. ولما كان ترامب قد أعلن، غير مرة، رغبته في تخفيف المسؤوليات العسكرية والمالية تجاه حلفاء واشنطن، بما في ذلك حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإنه عندما يفكر في التعامل مع إيران بالقوة، سواء الاقتصادية أو العسكرية، لن يسهم في تلك المواجهة، لا بالأموال ولا بالجنود.
ولمّا كانت معظم الدول العربية هي المتضرّرة فعلياً من السياسات الإيرانية، وليست واشنطن، أو حتى إسرائيل، فمن الطبيعي أن ترامب سيتجه إلى تلك الدول لتضطلع بمهمة التعامل مع طهران، كل حسب قدرتها وإمكاناتها. تقدّم دول الخليج التمويل والغطاء الاقتصادي المباشر نقدا، وغير المباشر بسياسات تسعير النفط، ودول أخرى تقدم جيوشها لتحارب، أو إعلامها ليسوّق، أو قوّتها الناعمة لتبرّر المواجهة المطلوبة أمام شعوب المنطقة.
فليذهب ترامب إلى الحرب، إن كان صادقاً، أما الدول العربية، فحاجتها ماسّة بالفعل، لكن ليس لمزيدٍ من المواجهات والحروب، وإنما إلى استراتيجية شاملة وفعالة لموازنة طموح إيران وتطويق نفوذها الذي تحقق تحت سمع واشنطن وبصرها ورضاها، من دون الوقوع مجدّداً في شرك الخداع الأميركي والتورّط في حربٍ لا تتحملها المنطقة. لن يستفيد منها سوى واشنطن وتل أبيب.
واضح أن التصعيد هو اللغة السائدة على لسان الرئيس الأميركي في وجه طهران. لكن هذه اللغة هي حتى الآن مجرد كلام وليست قرارات صالحة للتنفيذ بهدف وضع حد للتوغل الإيراني في شؤون دول المنطقة العربية. وإذا كان من حق العرب أن يطربوا لتذكير ترامب الإيرانيين بأنه لن يكون «طيباً» معهم مثلما كان باراك أوباما، في إيحاء إلى أنه سيكون أكثر شطارة وحذقاً، فإن العبرة تبقى في ما سيفعل ترامب بـ «شطارته» هذه مع إيران، وكيف السبيل لإيقافها عند حدّها ولمواجهة دورها الإقليمي.
ذلك أن ترامب سيكتشف، كما اكتشف أوباما من قبله، أن ايران طرف مباشر على الساحة في المواقع التي يعتبر الرئيس الأميركي، كما توحي تصريحاته، أنها تمثل أولوية في سياسته، وهي التي تتصل بالمواجهة مع تنظيم «داعش» للقضاء عليه. ففي الحرب على هذا التنظيم في كل من العراق أو سورية، فرضت الميليشيات والقوى الحليفة لطهران نفسها على الأرض وكأنها «حليفة» تحارب في الخندق نفسه إلى جانب القوات الأميركية أو تلك التي تحميها الولايات المتحدة، بعد أن شكلت الممارسات الطائفية لميليشيات إيران وقوداً ساهم في الأساس في إنتاج «داعش».
فوق ذلك فإن إدارة ترامب الساعية إلى التقارب مع موسكو سوف تجد العاصمة الروسية في ظل فلاديمير بوتين متقاربة مع طهران في فهم مشترك لمواجهة الإرهاب، الذي يراه بوتين مقبلاً من تنظيمات متطرفة سنّية، ويستثني من ذلك الميليشيات التي تديرها إيران، كما يستثني ارتكابات قوات نظام بشار الأسد (مع طبيعتها المذهبية الفاقعة) بحق الشعب السوري، حتى أن وزارة الخارجية الروسية وصفت التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية عن الإعدامات في سجن صيدنايا بأنه «استفزاز مقصود» يهدف إلى صب الزيت على النار في سورية. والتنسيق في العمليات العسكرية بين إيران وروسيا واضح من خلال استخدام الطائرات الروسية المجال الجوي الإيراني في طلعاتها ضد مواقع «داعش».
يضاف إلى ذلك أن لغة التصعيد «الترامبية» ضد طهران لها مردود عكسي في الداخل الإيراني، إذ إن من شأنها أن تدعم صفوف المتشددين داخل هذا النظام وتمنحهم الذريعة لقطع كل فرص الحوار مع خصوم الداخل أو أعداء الخارج. إنها تمنح الداعين إلى الانفتاح على الغرب حجة للقول إن ترامب هو «الوجه الحقيقي» لأميركا، وهو بالضبط ما أشار إليه المرشد علي خامنئي، الذي شكر ترامب على كشف هذا الوجه.
صحيح أن ما يسمى «الاعتدال» الإيراني لم ينجب شيئاً على صعيد تخفيف حدة انزلاق طهران إلى المغامرات الإقليمية، لكنه بقي ورقة صالحة للرهان عليها، طالما أن المواجهة المباشرة على ضفتي مياه الخليج هي مغامرة ذات عواقب خطيرة ومدمرة بالنسبة إلى كل الأطراف. هكذا وجدنا بعد التصعيد الأخير وجوهاً بارزة «معارضة» في إيران، احتشدت في الذكرى الثامنة والثلاثين للثورة الخمينية للتنديد بمواقف واشنطن، ومن هؤلاء مثلاً الرئيس الأسبق محمد خاتمي، الذي دعا إلى مواجهة أي تهديد يستهدف النظام أو المصالح الوطنية الإيرانية. أما الرئيس الحالي حسن روحاني فقد رد مباشرة على ترامب بالقول إن من يستخدم لغة التهديد مع إيران «سيندم على ذلك».
لن يكون سهلاً على ترامب إعادة ترتيب العلاقة الأميركية مع طهران على أسس المواجهة كما يهدد. الاتفاق النووي لا يسمح بذلك طالما أن ايران تجد من مصلحتها الالتزام بحدوده الدنيا، كما انه اتفاق يحظى بغطاء واسع، دولي على مستوى مجلس الأمن، وأوروبي من خلال الحرص الفرنسي والألماني وحتى البريطاني على الحفاظ عليه. حتى إدارة ترامب نفسها ملتزمة التنفيذ الكامل لهذا الاتفاق، كما نقلت عنها فيديريكا موغيريني، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي.
ما يمكن أن تفعل إدارة ترامب في الملف الإيراني هو تصحيح الخطأ الذي ارتكبته إدارة باراك أوباما حين لم تعمل على توظيف الاتفاق النووي لمصلحة الإقليم، بحيث تجري مقايضة استمرار الالتزام بهذا الاتفاق بوقف المغامرات الإيرانية والتدخُّلات في شؤون دول المنطقة، من سورية إلى العراق إلى لبنان، وصولاً إلى البحرين ودول الخليج.