دخلت المنطقة الجنوبية في مرحلة متقدمة جداً من اطلاق تحالف جديد و هو الأكبر ، في خطوة يمكن وصفها بأنه اعادة لتجربة الشمال السوري ، و لكن بمسمى جديد يحمل في طياته هدفاً أساسياً و هو القضاء على تنظيم الدولة ، وفق ما يشي به الاسم الذي يحمله التحالف ألا وهو “درع اليرموك”.
وتشير معلومات متقاطعة إلى قرب الإعلان عن اطلاق أكبر تجمع في المنطقة الجنوبية ، و الذي سيضم الغالبية العظمى من المكونات الثورية في المنطقة ، ضمن قالب “درع اليرموك” ، الذي يضع تنظيم الدولة هدفاً أولياً و رئيسياً له ، ضمن خطة شاملة و عامة تصل إلى حدود منطقة آمنة تبدأ بالمناطق الحدودية مع الأردن و الاحتلال الإسرائيلي، في حين تبقى المساحات المتعلقة بالعمق و المناطق التي من الممكن أن تشملها غير محددة.
وعجّل هجوم تنظيم الدولة الأخير ، قبل ثلاثة أيام ، على مناطق الجيش الحر انطلاقاً من حوض اليرموك ، من تسريع عمليات اطلاق “درع اليرموك” ، الهجوم الذي كان بمثابة ضربة قوية جداً ، سواء من حيث حجم الخسائر الجغرافية أم البشرية أو من جهة ما خلفه من فظائع يرفض الجميع ذكرها على الإعلام، في حين لازالت فرق الإحصاء تعمل على كشف فداحة ما حدث ، وصحيح أنها أصدرت تقريراً أولياً يشير إلى أكثر من ١١٠ شهيد غالبيتهم من عناصر الجيش الحر ، لكن بيانها تضمن تحذيراً أن الأمر سيكون كارثياً بالفعل ، نتيجة الهجوم الذي كان مباغتاً و فجاً و في توقيت قاسي ، بالتزامن مع معركة “الموت ولا المذلة” التي أعادة الروح لدرعا بعد خبوها لأكثر من عام ونيف.
لاشك أن الأحاديث التي دارت قبل فترة من الزمن عن وجود منطقة آمنة بالجنوب ، برغبة إقليمية و دعم أمريكي من قبل الإدارة الجديدة ، لكن بقي توقيتها ضبابياً ، وما حدث قبل ثلاثة أيام جعل الأمر أكثر وضوحاً ، سيما أن التحضيرات اللوجستية و الإدارية و الفنية لمنطقة آمنة في الجنوب السوري ، قد قطعت أشواطاً طويلة ، حيث تتمتع درعا بتكتلات كبيرة على رأسها الجبهة الجنوبية و جيش الثورة و إضافة إلى الأعداد لما يشبه دستور لادارة المنطقة بشكل كامل (من الألف إلى الياء ) ، كما يقال ، وهي بانتظار وضعها موضع التنفيذ ، وفق ما كشفت وسائل إعلام مؤخراً.
و بالعودة إلى “درع اليرموك” ، فإن التوقيت المبدئي لإطلاقه سيكون مع بداية شهر آذار القادم أي بعد قرابة أسبوع، و لكن تبقى الكثير من التفاصيل تحمل في طياتها نوع من الأخبار غير المؤكدة ، اذ تشير المصادر إلى أن “درع اليرموك” سيضم إلى جانبه قوات من الأردن و قطر و السعودية ، في اطار التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
في العموم لا يمكن الحديث عن مراحل تالية لـ”درع اليرموك” ، إلا بعد الانتهاء من تنظيم الدولة الهدف الأول و الأكبر للتحالف ، و لكن لابد من الإشارة إلى وجود خطة قد تكون غير واقعية بالوقت الراهن ، إذ تشير بعض المصادر أن التحالف لن يختص بمناطق تنظيم الدولة فحسب ، بل سينتقل بعدها إلى مناطق يسيطر عليها الأسد و حلفاؤه ، إذ أكدت المصادر أن المنطقة ستشمل مدينة درعا و خربة غزالة وصولاً إلى حدود ازرع ، في حين ستمتد بالجزء الصحراوي وصولاً إلى ريف حمص الجنوبي و الشرقي.
لطالما جرى وصف حياة السوريين في ظل نظام الأسد، بأنها حياة داخل سجن كبير، والأمر في هذا الوصف، لم يقتصر على العدد الهائل الذي أقامه نظام الأسد من سجون ومعتقلات منذ أن استولى الأسد الأب على السلطة في سوريا عام 1970، فأسس مزيدًا من السجون التابعة لوزارة الداخلية في مختلف المحافظات والمدن والمناطق، بل أضاف إليها فروعًا ومفارز أمنية فيها مراكز اعتقال وتوقيف، تتبع إدارات أمنية، تبدأ من إدارة أمن الدولة، وتمتد إلى المخابرات العسكرية وشقيقتها المخابرات الجوية، وصولاً إلى إدارتي الأمن السياسي والأمن الجنائي، إضافة إلى سجون الوحدات العسكرية المنتشرة في كل المناطق والوحدات العسكرية.
لم تكن تلك السجون تعبيرًا عن تحول سوريا إلى سجن كبير؛ بل كانت جزءًا من ذلك ليس إلا، أما الأساس في ذلك التحول، فإنه كامن في صعوبات الحياة السورية وفي أنماطها الصعبة؛ فقمع الحريات الفردية والجماعية، ومنع الناس من حقوقها الفردية والاجتماعية، وانتهاك خصوصيات الفرد والمجتمع، وتقييد الحقوق في العمل والتعليم والصحة والسفر والاختيارات، وتغييب القانون، كانت أيضًا من تعبيرات تحول سوريا إلى سجن كبير.
وبخلاف ما كانت الوعود من انفتاح في السجن الكبير، في عهد الأسد الابن مع عام 2000، وإعادة تطبيع حياة السوريين؛ فقد حول نظام الأسد سوريا إلى معتقل عام ومسلخ بشري ثابت في بعض أماكنه، ومتنقل في أغلب الأماكن في السنوات الست الماضية، موزعًا القتل في كل الأنحاء السورية، بعد أن خرج السوريون محتجين على سوء أحوالهم ومعاملتهم في مارس (آذار) عام 2011، ثم استدعى لتعميم الاعتقال والقتل ميليشيات طائفية متشددة من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان، وقوات وخبراء من إيران وروسيا، إضافة إلى خطوته في إطلاق قادة متطرفين وإرهابيين من سجونه، وفتح مداخل سوريا أمام المتطرفين الإرهابيين من «القاعدة» و«داعش» وأخواتهما، ليصيروا أدوات في المقتلة السورية، التي تشير التقديرات إلى وصول ضحاياها إلى قرابة مليون شخص من القتلى، ونحو نصف مليون شخص من المعتقلين والمختفين قسرًا، والتي أشارت إليها وقائع؛ من بينها «فضيحة سيزار» المتضمنة عشرات آلاف الصور للسوريين الذين ماتوا تحت التعذيب في سجون الأسد، وتقرير منظمة العفو الدولية «أمنستي» الصادر مؤخرًا الذي قال: «50 معتقلاً يساقون إلى المشانق كل أسبوع في سجن صيدنايا بعد أن يعذبوا في طريقهم إلى الإعدام».
لقد بدا من الطبيعي في ضوء تحولات السجن السوري الكبير إلى معتقل ومسلخ، أن يلجأ السوريون إلى الهرب نحو جوارهم في حركة لجوء واسعة، سجلت في السنوات الست الماضية، أكثر من خمسة ملايين سوري، أكثر من نصفهم في تركيا وحدها، فيما تتوزع البقية على التوالي بين لبنان والأردن وأقلهم في العراق. ولئن وجد الأولون منهم ظروفًا أفضل للجوئهم، فإن التالين منهم صاروا إلى مخيمات هي أقرب إلى المعتقلات، وعشوائيات لا تقل سوءًا في أوضاعها الإنسانية والمعيشية عن الأخيرة.
ولئن استطاع بعض لاجئي دول الجوار السوري اللجوء والهجرة نحو بلدان الغرب الأوروبي، عبر انتقال أكثرهم في قوارب الموت وبواسطة مافيات الاتجار بالبشر في طرق العبور البرية، فإن كثيرين منهم صاروا إلى مخيمات أشبه بمعسكرات اعتقال ومراكز إقامة مؤقتة، تؤكد الوقائع ظروفها الصعبة وغير الإنسانية.
السوريون اليوم في أماكن اللجوء والهجرة، بل والإقامة، في أوضاع صعبة.
لقد هرب السوريون من حياتهم في السجن الكبير بعد أن تحول إلى معتقل ومسلخ، وأصبح أغلب بلدان لجوئهم وهجرتهم وإقاماتهم، سجونًا جديدة، كل واحد منها بمواصفات وشروط، لكنها تمنعهم من الحياة بصورة طبيعية، وبدل أن يعالج العالم قضيتهم، ويساعدهم في العودة إلى بلدهم، ليعيشوا حياة إنسانية وكريمة فيه، سكت عن سياسات الأسد الدموية وحلفائه في اعتقال وقتل وتشريد السوريين، وفتح سجون جديدة، تضم السوريين أينما حلوا في معظم أنحاء العالم في بلدان جديدة، وكانت تلك محصلة النظرة العوراء للمجتمع الدولي، ونتيجة عجزه، وتهافت سياساته إزاء السوريين وقضيتهم ومطالبهم بالحرية والكرامة.
تتجه أنظار السوريين مرة أخرى نحو جنيف حيث يفترض أن تعقد الجولة الثالثة من المفاوضات بين وفد النظام، ووفد، إن لم نقل وفود، المعارضة، وتحت إشراف أممي وبرعاية دولية - روسية النكهة في المقام الأول. أما جنيف 1 فغاب عنه السوريون، وكانت المباحثات بين الأطراف الدولية، بخاصة الجانبين الأميركي والروسي. وتم التوافق حينئذٍ على بيان جنيف 1 في حزيران (يونيو) 2012 المستند إلى خطة كوفي أنان ذات النقاط الست المعروفة. وهو البيان الذي تحفظنا عليه في حينه، لتضمنه نقاطاً عدة غامضة، وأخرى لا تمتلك أية قابلية للتحقق في ظل غياب إرادة أميركية فاعلة للتعامل مع الموضوع بحزم وفاعلية، وعدم وجود أية رغبة روسية في التخلي عن التحالف مع نظام بشار، طالما أنه يمنحها ورقة قوية في المعادلات الإقليمية والدولية.
فدور الأسد في مستقبل سورية كان العقدة الأساسية، وما زال. وقد تعامل معه بيان جنيف 1 بموجب عقيدة الغموض «الخلّاق» الذي يبيح لكل طرف تفسير الموضوع وفق حساباته الخاصة. كما أن تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بكامل الصلاحيات وبموافقة الطرفين كان، وما زال، عصياً على أي تطبيق واقعي، لا سيما في ظل انعدام إرادة دولية ملزمة، ومن الجانب الأميركي تحديداً. ومع تيقّن الروس من هشاشة الموقف الأميركي على صعيد دعم المعارضة، بخاصة بعدما قفز أوباما من فوق الخط الأحمر الذي كان قد أعلن عنه وحدّده بنفسه، بدأوا بالترويج لفكرة تمحورت حولها استراتيجيتهم منذ البداية، وهي أن ما يهدد السوريين جميعاً، معارضة وموالاة، هو الإرهاب، ولمواجهته لا بد أن تتضافر جهود الجميع. هذا ما حاول الروس تمريره في جنيف 2 وجنيف 3. ولمّا أخفقوا في تسويق الموضوع عبر جنيف، لاذوا بأسلوب صناعة المعارضات في حميميم وآستانة وغيرهما لإجهاض مخرجات مؤتمر الرياض للمعارضة أواخر 2015 الذي عُقد بناء على توافق دولي في اجتماع فيينا.
عمل الروس بالتوازي مع تدخلهم العسكري إلى جانب النظام، على استغلال الانهيارات والخلافات والصراعات بين الفصائل المسلحة الميدانية المعارضة، كما استثمروا في متغيرات أولويات السياسة التركية، بخاصة بعد الانقلاب الفاشل. وبدأوا بنسج العلاقات مع العديد من تلك الفصائل. ثم كانت اللقاءات المعلنة بين الفصائل المعنية والجانب الروسي في أنقرة. كل ذلك مهّد الطريق لاجتماع آستانة الذي جمع ممثلي بعض الفصائل المسلحة ووفد النظام. وكان واضحاً أن الأخير شارك في الاجتماع مرغماً بضغط روسي للاستفادة من نتائج السيطرة على حلب. ومع إدراك الجانب الروسي استحالة ترتيب الأوضاع في سورية لمصلحته من دون دور فاعل أميركي، ومشاركة عربية مؤثرة، وذراً للرماد في الأعين، كان التأكيد بأن آستانة مجرد محطة تمهيدية، تركز على وقف إطلاق النار، واعتماد آلية بين الدول الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، للتحقق من التزام مختلف الأطراف بوقف إطلاق النار. أما الهدف الأبعد روسياً من آستانة فإحداث الشرخ بين الفصائل العسكرية والهيئة العليا للمفاوضات من ناحية، وبين الفصائل أنفسها من ناحية ثانية، وذلك في إطار الاستراتيجية الروسية لتفتيت المعارضة وتطويعها، تمهيداً لإعادة تشكيلها، أقله إبان استفرادها بالملف السوري.
وفي المقابل، يبدو أن الأمور على الضفة الأميركية بدأت تتبلور ملامحها بعض الشيء، ما يُستشفّ من حوادث وتحركات وتصريحات عدة لعل أبرزها استقالة مستشار الأمن القومي مايكل فلين على خلفية اتصاله بالروس، ويبدو أن الأمور لن تقف عنده بل ستشمل آخرين بهذه الصورة أو تلك. إلا أن الجوهري أننا سنشهد تشدداً أميركياً في التعامل مع روسيا، وبالتالي لن تترك المفاتيح كلها للكرملين، ليتحكّم بقواعد اللعبة وفق حساباته ومصالحه.
في هذه الأجواء، تجرى الاستعدادات للجولة الجديدة من مفاوضات جنيف التي لن تتميز عن الجولتين السابقتين، بل لن تخرج عن كونها مجرد حركة للإيحاء بوجود رغبة دولية في دفع الأطراف السورية للتوصل إلى حلٍ توافقي ينهي الصراع، ويمهد الطريق لانتقال سياسي غير واضح المعالم، قابل للتأويل بألف صيغة. وهذا ما يستنتج منه أن الأمور لم تصل بعد بين الأطراف الدولية والإقليمية المعنية إلى تفاهمات نهائية، أو أن الأمور ما زالت قيد المشاورات والأخذ والردّ. ويُشار ضمن هذا السياق إلى جولة مدير السي. آي. أي. مايك مومبيو ورئيس الأركان الأميركي جوزيف دانفورد إلى المنطقة، ما يشير إلى أن القضايا المتصلة بالجانب الأمني والعسكري في الملف السوري هي التي تُبحث راهناً، تمهيداً لقرار سياسي يضع النقاط على الحروف. وما يُستدل من المعطيات المتوافرة أن الجولة القادمة من جنيف لن تكون مؤهلة لإحداث خرق في هذا الاتجاه أو ذاك، بل سيستمر الطرفان في موقفيهما، مع إدراكهما أن الأمور الأساسية تُبحث في مكان آخر.
الاتصالات والتحركات والوقائع تعطي انطباعاً مفاده بأن المرحلة القادمة ستشهد تثبيتاً لمناطق النفوذ بين مختلف الأطراف المتصارعة، انتظاراً لما سيسفر عنه المستقبل. روسيا في عجلة من أمرها. تريد تأمين حصتها من «المولد» السوري، لكنها تدرك أنها لا تستطيع بلوغ ذلك من دون تنسيق مع الجانب الأميركي، وتفاهم مع الجانب الإسرائيلي بطبيعة الحال. كما أن تحالفها مع إيران يسجل لها وعليها. فهي في حاجة إليها تحسباً لأية مفاجآت مع الجانب الأميركي، وتدرك في الوقت عينه أن العلاقة المتميزة مع طهران لن تفيدها كثيرا، بخاصة في رفع العقبات أمام علاقات متميزة تريدها مع تركيا ومع السعودية ودول الخليج.
أما تركيا، فتريد إفهام الحليف التقليدي، الولايات المتحدة، ومعها دول الناتو بأنها ليست ضعيفة، بل تمتلك البدائل، لكنها لا تستطيع المغامرة أو المقامرة بعقود من العلاقات الاستراتيجية مع الغرب، ومن التواصل النفسي معه، إلى جانب الحجم الكبير للمصالح الاقتصادية وتداخلها. هكذا، فجنيف هذه المرة لن تكون استثناء، ولا محطة جديدة في الملف السوري، بل مجدداً فرصة للاستكشاف وكسب الوقت.
يتداول بعض السوريين قصة تعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، مفادها أن الرئيس السوري شكري القوتلي لم يتمكن من تجديد سيارته القديمة، لأن البرلمان السوري رفض ذلك لأن المواطن السوري أحق بثمنها، فيما تقول روايات أخرى إن القوتلي لم يرغب بتجديد سيارته، وقرر الإبقاء على سيارته القديمة منعا لهدر أموال الدولة. أتذكّر هذه الحكاية لأقول إن السوريين عرفوا التجربة البرلمانية وخاضوا الانتخابات، وأصدروا الكثير من الصحف وعرفوا بناء الدولة منذ وقت طويل، لذلك هم وحدهم من يمكنهم بناء مستقبلهم وحياتهم السياسية والديمقراطية، وأنا واثق أن لديهم قدرات هائلة للقيام بذلك.
كما أستذكر هذه القصة ونحن على أبواب إتمام الأزمة السورية عامها السادس والدخول في مفاوضات جنيف 4، فيما يتطلع السوريون إلى النظام والمعارضة والمجتمع الدولي بنظرة مؤلمة تحمل سؤالاً كبيراً: ماذا أنتم فاعلون لإنهاء كارثتنا؟
بالتأكيد هذه مفاوضات سورية-سورية وللسوريين أن يقرروا فيها. موقف بريطانيا يتلخص بدعم هذه المفاوضات برعاية الأمم المتحدة وعلى أساس بيان جنيف الذي يدعو إلى هيئة انتقالية تقود حوارا وطنيا جامعا وشاملا لكل أبناء البلد. نعم إن سوريا بحاجة إلى انتقال سياسي. بعد سنوات طويلة من انتهاكات النظام لحقوق الإنسان ورفض الحوار الجدي مع أطياف البلد، ودخول تنظيمات إرهابية وأخرى طائفية إلى الأراضي السورية، وتشرد الملايين من الشعب السوري في مخيّمات اللجوء والنزوح، وبعد الكوارث التي أحلت باقتصاد البلاد، وموت وفقدان واعتقال واختطاف مئات الآلاف من الشعب السوري، هل يحتاج "الانتقال السياسي" بقيادة كل السوريين إلى جدل ونقاش؟ إنه حاجة ماسة لإعادة الحياة والاستقرار إلى سوريا.
هناك ملفات إنسانية كبيرة عالقة تحتاج إلى حل عاجل. اليوم أتساءل ما هو مصير شخصيات معارضة سلمية كان سلاحها الرأي والقلم فقط مثل المحامي المدافع عن حقوق الإنسان خليل معتوق والدكتور عبد العزيز الخيّر، ومن المناسب التذكير أن النظام دأب على إطلاق سراح متطرفين في وقت أبقى فيه على شخصيات سورية لامعة وراء القضبان. المشكلة السورية سببها رفض النظام الانفتاح الجدي نحو تغيير يلبي تطلعات الناس. كما أني عندما أتحدث عن شخصيات إنسانية وسياسية وحقوقية وإعلامية وراء قضبان النظام السوري أود أن أشير إلى أن هؤلاء هم الذين يمثلون المجتمع السوري المتنوع والغني وليس أولئك الذي يقطعون الرؤوس أو يقتلون لأسباب طائفية أو عرقية.
المواطن السوري سواء كان بائعا متجولا في الشارع، سائقا، ممرضا، مزارعا، مثقفا، أو في أي عمل ومهنة كانت، كان تاريخيا يتسم بالاعتدال والعيش مع الآخر فيما التنظيمات المتطرفة والإرهابية تمثل نفسها وفكرها الأسود المريض ولا تمثل شارعا أو مجتمعا. هذا الإنسان السوري يتطلع لعودة الاستقرار والحياة الكريمة؛ واحترام حقوقه وحرياته، وفق قانون يحميه لا يأسره، ودستور هو يقرره وليس مقررا له، وحكم هو يحاسبه وليس بالعكس. هذا الإنسان السوري يأتي من كل الجغرافيا السورية وينتمي إلى أطياف وأعراق عديدة تريد العيش بسلام.
دعونا نتفاءل ونأمل نجاح السوريين في جنيف 4، وعلى جميع المفاوضين المشاركين في هذا المؤتمر التفكير جيدا وجديا بأن هناك الملايين الذين ينتظرون حلا سوريا-سوريا ينقلهم من عصر القمع والخوف والاستبداد إلى عصر جديد هم يقررون سماته ومواصفاته بما يلبي حقهم في العيش الكريم والاستقرار والحرية.
1
تكمن أولى الملاحظات في أن قرار مجلس الأمن الدولي 2254 يعتمد آلية للحل السياسي السوري معاكسة تماماً لآلية وثيقة جنيف 1، الصادرة يوم 30 يونيو/ حزيران من عام 2012، عن توافق الخمسة الكبار أعضاء مجلس الأمن، والتي تقول بتشكيل "هيئة حاكمة انتقالية" كاملة الصلاحيات التنفيذية بتراضي الطرفين المتصارعين، لتحقق الانتقال السياسي إلى النظام الديمقراطي. بدل الهيئة التي مرجعيتها القرار الدولي وثيقة جنيف 1 والقرار 2118، يتحدّث القرار 2254 عن حكومة موسعة وغير طائفية يشكلها بشار الأسد الذي يزيحه عن منصبه قرار دولي، يفسر معنى جملة "صلاحيات الهيئة التنفيذية الكاملة" بقوله، إن بشار الأسد يجب أن يغادر منصبه، لأن صلاحياته ستذهب إلى الهيئة، بمجرد أن تشكل من أجل أن تتولى مهامه. لذلك لن يكون مرجعيتها، بل ضحيتها. لا تبقي وثيقة جنيف بشار الأسد في موقعه، خلال المرحلة الانتقالية، بينما يجعله القرار 2254 رئيساً لها، ومشرفاً على حكومة موسعة وغير طائفية، سيتولى هو تشكيلها، لن تكون بأي حال مساوية في هويتها ووظائفها للهيئة الحاكمة أداة للتحول الديمقراطي، في حين ستكون الحكومة أداة بيده، باعتباره رئيساً معادياً للديمقراطية، ولأية وظيفة تشبه ما هو مطلوب من الهيئة. هذا الافتراق بين مهام هيئةٍ مرجعيّتُها وثيقة جنيف والقرار الدولي رقم 2118، مهمتها نقل سورية سياسياً إلى الديمقراطية بضمانات دولية، والقرار 2254 الذي يشكل حكومة لا تقوم بتراضي الطرفين، بل بقرارٍ يصدر عمّن عليه مغادرة السلطة (بشار الأسد) وليس من مهامها إنجاز انتقال سياسي إلى الديمقراطية، بل قطع الطريق عليه، ومنع تحقيقه. لذلك، تتناقض النتائج التي ستترتب علي تشكيلها مائة بالمائة مع ما يجب أن تكون عليه السلطة السورية التي ستنجز الانتقال السياسي.
هذا التناقض هو العقبة التي لا بد من تجاوزها في المفاوضات، إذا كان يُراد لها أن تحقق تلك النتائج التي أريد لتطبيق وثيقة جنيف والقرار 2118 تحقيقها، ولا بد أن تعرف في ضوء تحديداتهما، وليس في ضوء إصدار دستور وإجراء انتخاباتٍ تحت إشراف دولي، كما ينص القرار 2254 الذي يحدد مهاماً يعني تطبيقها إلغاء الانتقال والتخلي عن هدفه: التحول الديمقراطي. جسر الهوة بين الوثيقة والقرار 2118 والقرار 2254، هو المهمة الرئيسة التي يجب على الوفد المفاوض التركيز عليها وإنجازها، لا سيما وأن الهيئة ستكون، بطبيعة الحال، موسعة وغير طائفية، وأنه لم يكن هناك من داع لإصدار قرارٍ يعرف صفاتها التي ليست في حاجة إلى تعريف. وبالتالي، لا مسوّغ لإصداره غير استهداف مهامها، ونقل الموضوع من هويتها إلى صفاتها، وهي حمّالة التباساتٍ لا حصر لها.
والآن، إذا ما نظرنا إلى مهام الهيئة الحاكمة، وجدنا أنها موسعة ولا طائفية، وستصدر دستوراً، وتجري انتخابات برلمانية ورئاسية. لماذا إذن صدر القرار 2254؟. إذا كان يريد التأكيد على صلاحياتها، فإن هذا لا يتطلب إصدار قرار خاص باسم مختلف، تعتمده موسكو وأتباعها من كارهي الشعب السوري وثورته، بديلاً لوثيقة جنيف والقرار 2118. أما إذا كان يريد التذكير بمهام الهيئة، لماذا غيرها وحذف الانتقال الديمقراطي باعتباره وظيفة وحيدة للانتقال السياسي الذي تقول الوثيقة والقرار إنه يجب أن ينجم نتيجة وحيدة عن التفاوض، وأن يُغطّى بضماناتٍ دولية؟. ولماذا يطرح القرار 2254 باعتباره مرجعية وحيدة أو رئيسة للتفاوض؟. ولماذا، أخيراً، تحولت مهمة الهيئة من إعداد مستلزمات الانتقال الديمقراطي، في ما يتصل بتشكيل لجانٍ تتولى حل المشكلات الخطيرة والكثيرة التي ترتبت على حرب النظام الإجرامية ضد الشعب، أو تشكيل جمعية تأسيسية، وإصدار دستور، وعقد مؤتمر وطني، وصولاً إلى إجراء انتخابات برلمانية، يتم بعدها تنظيم انتخابات رئاسية، تحل الهيئة بإنجازها؟. هل أرادت روسيا تكرار المكرّر، أم أن وراء الأكمة ما وراءها، مما شرحت بعضه في هذه العجالة، لأؤكد أن مهمة الوفد التفاوضي السوري لا يجوز أن يكون لها أي موضوع آخر غير إعادة الأمور إلى نصابها، واعتبار مهام الهيئة مادة المفاوضات الوحيدة، بحيث تغدو بنية الهيئة ومهامها هي بنية الحكومة ومهامها، مهما كانت الطرق إلى هذا الهدف التفافية أو معقدة ومتشعبة. في هذه الحال: إذا كانت الحكومة ستحقق مهام الهيئة، فإن أي تعطيل للتفاوض حولها لا بد أن يعد تعطيلاً للتفاوض، ورفضاً للحل السياسي.
2
ثاني الملاحظات تكمن في ما يطرحه بعض أعضاء المعارضة حول عدم جواز طرح شروط مسبقة للمفاوضات، وهو طرح تبناه الروس والنظام. باختصار شديد: تعطينا وثيقة جنيف 1 والقرار 2118 حقوقاً لا يجوز أن نتنازل عنها لأي كان، ولأي سبب كان، وتحت أي ظرف كان، يعترف العالم بها كحقوق هي:
أولاً، هيئة حاكمة انتقالية هي أداة انتقال تضم السوريين، ليس الأسد من أعضائها، ولا يحق له البقاء في منصبه بوجودها، فهل المطالبة بها وبرحيله شرط مسبق أم حق منحنا إياه العالم بإجماع دوله، وفي قرار مضى على إصداره ثلاثة أعوام عطّله الروس والنظام خلالها، ولا بد اليوم من تطبيقه؟.
ثانياً، انتقال سياسي هو الانتقال الديمقراطي دون سواه، فهل تمسّكنا به بشرط مسبق أم إصرار على حقٍّ لا يجوز التفريط فيه أو التنازل عنه؟.
ثالثاً، مسار حل يلزم الطرف الآخر بالانضمام إلى الهيئة، ما دام يؤكد أنه قبل الوثيقة والقرار، وكما هو معلوم، فإن قبول القرارات الدولية لا يجوز أن يكون انتقائياً أو كيفياً: تقبل ما يعجبك وترفض ما لا يعجبك، إلا إذا أبديت تحفظاً على بعض ما جاء فيها، وهو ما لم يحدث في حالتنا السورية، من كلا طرفي الصراع. ليس قبول وثيقة جنيف والقرار 2118، الذي يجب أن يكون أول موضوع يطرح للتفاوض، شرطاً مسبقاً، بل هو أساس لا يمكن التفاوض من دون تثبيته. لذلك، لا بد عند بدء التفاوض من طرح السؤال على الطرف الآخر: هل يقبلون وثيقة جنيف 1 والقرار 2118 أساساً ومرجعيةً للقرار 2254، كما يقول نص هذا القرار نفسه، وهل يقبلون تطبيقه بالتالي كاملاً، في ضوء أن الانتقال الديمقراطي اعتمده حلاً؟. لا يجوز أن تبدأ المفاوضات بغير قبول الطرفين مرجعية جنيف والقرار التي يذكرها القرار 2254 بالاسم. ومن الضروري أن يعتمدها الوفد السوري مرجعية وحيدة له، وأن يصر على تلقي إجابة إيجابية عن سؤاله، ليبدأ التفاوض، بما أنه من المحال التفاوض على مرجعيةٍ لا يقبلها الطرفان (!). ليست حقوق الشعب السوري المعترف بها دولياً من الخمسة الكبار شروطاً مسبقة، بل هي الموجه والهدف الذي يجب أن يحكم التفاوض، لكي تتوافق نتيجته مع حقوق السوريين وإرادة المجتمع الدولي ومنظماته الشرعية.
3
كان الطرف السوري قد أجاب عن أسئلة طرحها ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، عليه وعلى الطرف الأسدي الذي كان قد اقترح أيضاً موضوعاتٍ للتفاوض، تبدأ بعد تشكيل الهيئة بتأسيس جيش وطني. من الضروري توجيه مذكرة إلى ممثل الأمين العام تطلب إليه إدارة التفاوض بما يخدم تطبيق الوثيقة والقرار 2118 ، والقرار 2254 بمرجعيتهما، وليس فقط بنصه، فذلك أيضاً من حقوق الشعب السوري التي منحه إياها المجتمع الدولي. ومن الضروري الإصرار على إحراز نتائج تفاوضية، تتفق وتصريحات دي ميستورا حول الانتقال السياسي، باعتباره موضوع التفاوض الوحيد وجوهره، ومع الردود التي تلقاها من الهيئة العليا وبعض أعضاء الوفد السوري (ردود جهاد مقدسي) بشأن أسئلته.
يعتبر حجم التحديات والصعاب التي تواجه السوريين في دول اللجوء والجوار كبيرا جدا خصوصا في ظل المسؤوليات الأسرية والعمل على تكوين وإعالة أسر بأكملها، ولعل الطلّاب السوريين أيضا يواجهون صعوبات جمّة في طريق إكمال تعليمهم الجامعي أو حتى ما هو أبعد منه خصوصا مع تردي المستوى المعيشي لدى الغالبية العظمى.
تبدأ التحديات عند بعض الطلاب بصعوبة التوفيق بين الواجبات الدراسية والعمل الذي يلتزمون به لإعالة أسرهم، ولا تنتهي عند آخرين بطول فترة الانقطاع عن الدراسة والتي وصلت عند بعضهم لخمسة أعوام، ومثل ذلك الطلاب الذين فروا من سوريا خلال السنوات الماضية خوفا من الاعتقالات وخوفا من الذهاب للخدمة العسكرية الإجبارية في جيش الأسد.
كما أن الطالبات يعانين من ظروف صعبة أيضا، إذ أن العديد منهن يلتزمن بأعمال خارج البيت لإعالة أسرهن بالإضافة لأعمال منزلية يومية، فضلا عن وجود عدد لا بأس منه من الطالبات المتزوجات وحتى اللاتي أنجبن أطفالا.
كما ولا يجب إغفال الحالة النفسية السيئة لعشرات الطلاب الذين قد يسمعون في أي وقت نبأ أو خبر استشهاد أحد أقاربهم أو زملائهم القدامى في الداخل السوري، فضلا عن سوء الحالة النفسية التي تراكمت مع سنين الانقطاع والابتعاد القسري عن المقاعد الدراسية.
ولكن، سِر، امضِ، تحرّك، لا تيأس، ففي المقابل لا يمكن إنكار قدرة أي شخص على تحطيم وتذليل الصعاب مهما كَبُر حجمها، إذ أن طرق النجاح متوفرة للجميع ولكن المسير فيها بالتأكيد يحتاج لصبر ومثابرة وإرادة.
ففي كل فصل دراسي يتخرج العشرات من السوريين من جامعاتهم بمعدلات إمتيازية وجيدة، وبات التفوّق والتنافس السوري في الجامعات محط أنظار الجاليات العربية في الجامعات الأردنية مثلا، كما أن التنافس الشريف بين الطلبة السوريين أنفسهم على أشدّه.
وأبرز ما يلفت الانتباه هو التلاحم والتعاون الواضح بين غالبية الطلاب السوريين في مختلف الجامعات، وتتميز الجالية السورية بتنظيم وأداء عالي وقيام عشرات الأشخاص بأعمال تطوعية لخدمة المجتمع المحيط بهم، ويجب أن لا يتم إغفال التفاهم بين الطلاب السوريين وغيرهم من رواد الجامعات من الجنسيات الأخرى، ولا سيما الأردنية منها.
وبات حاليا أمام الطلاب اللاجئين في المملكة الأردنية فرص واسعة لمتابعة تعليمهم، حيث أطلقت جهات مختلفة منح دراسية كاملة لا يتكلّف فيها الطالب أي رسوم جامعية، حتى بل أن بعض الجهات المانحة دعمت الطلاب برواتب فصلية كافية لسد مختلف الحاجيات الدراسية تقريبا.
فجأة ومن دون سابق إنذار عادت نغمة التصعيد المتبادل على ضفتي الحدود بين لبنان وإسرائيل. التصعيد اللفظي والاستعراضي يقابله استمرار الهدوء والاستقرار في أكثر منطقتين آمنتين في الشرق الأوسط منذ نحو أحد عشر عاما، نقصد جنوب لبنان ومنطقة الجليل الإسرائيلية، فهل المنطقة أمام مشهد تفجيري جديد طرفاه إيران عبر ذراعها حزب الله من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية على الأرض اللبنانية وداخل الحدود الإسرائيلية؟
نقطة البداية في هذا المشهد التصعيدي بدأت منذ بداية الشهر الجاري، منذ أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب مواقف عدّة تجاه إيران، أوحت بوجود سياسة أميركية جديدة عنوانها الحدّ من النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، قال الرئيس الأميركي الجديد إنّه يريد الحدّ من النفوذ الإيراني في العراق، ووجّه أكثر من رسالة واضحة حيال التجارب الصاروخية الباليستية، وأعاد إيران إلى مربع العقوبات الأميركية الأول، ووجه رسالة مباشرة من على شواطئ اليمن بعد العملية الانتحارية التي استهدفت فرقاطة سعودية. كل هذه التطورات واستعراض أوراق القوة الأميركية، كان لا بد للقيادة الإيرانية أن ترد في المقابل باستعراض أوراق قوتها، وحزب الله الذي يمسك بالحدود اللبنانية مع إسرائيل، هو الأكثر قدرة على تلبية النداء الإيراني للرد على التهديدات الأميركية، ومن دون أن تتحمل إيران أيّ مسؤولية مباشرة.
على أنّ حزب الله الذي يدرك حساسية اللعبة الدولية، منذ أن غضت واشنطن النظر عن انخراطه في الحرب السورية دعما لنظام بشار الأسد، حرص على أن تكون رسائله الصوتية ضد إسرائيل ولا تقترب من أيّ موقف يمكن أن يشتم منه أيّ تهديد للمصالح الأميركية المباشرة في لبنان والمنطقة، لذا عندما نشرت وكالة رويترز الإخبارية قبل أيام نقلا عن مصدر في حزب الله أنّ الأخير يوجه تحذيرات لترامب، سارع حزب الله إلى نفي الخبر معتبرا أنّ لا أساس له من الصحة ببيان صدر عن العلاقات الإعلامية في حزب الله.
التهديدات التي أطلقها الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، كانت مدروسة أيضا تجاه إسرائيل، فهي مسبوقة دائماً بـ“إذا قامت إسرائيل بعدوان على لبنان فإنّ حزب الله سيرد”، ويكمل أنّ لدى حزب الله مفاجآت للجيش الإسرائيلي، مؤكدا أنّ معلومات إسرائيل عن إمكانيات حزب الله التسليحية والقتالية ضعيفة. لكن نصرالله وهو يستعرض في خطابه ضد إسرإئيل، كان يوجه سهامه إلى المنظومة العربية، وتحديدا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، في مواقف كشفت عن انقلاب على ما قيل عن تفاهم لبناني عبرت عنه محطة انتخاب العماد ميشال عون رئيسا ومحطة تشكيل الحكومة، وتأكيد الأطراف اللبنانية، على اختلافها، على ضرورة إعادة تنشيط العلاقة مع الدول العربية ولا سيما الدولتين المذكورتين. من هنا جاء تصعيد حزب الله ضد إسرائيل وضد الدول العربية، مع فارق استمرار الهدوء وعدم القيام بأي خطوة عسكرية ضد إسرائيل، في مقابل ضخ مستمر للمقاتلين سواء باتجاه سوريا أو غيرها من الدول العربية كما هو الحال في اليمن والعراق.
الكلفة القتالية ضد إسرائيل هي وجودية لحزب الله، فإسرائيل ردت على مفاجآت نصرالله التي لوّح بها في خطابه، بموقف من أفيجدور ليبرمان وزير الأمن الإسرائيلي قال فيه، إنّ كلّ مقومات الدولة اللبنانية ستكون هدفا لإسرائيل ولم يذكر حزب الله، وهي إشارة إلى أنّ هذه الحرب ستزيد من أعداء حزب الله أكثر ممّا ستجد تعاطفا معه. فالكل يعلم أنّ الدولة اللبنانية في أسوأ أوضاعها المالية والاقتصادية، فيما حزب الله بات يدرك أنّ التعاطف اللبناني أو العربي لن يكون متوفرا كما حصل في حرب العام 2006، لذا فإنّ بعض المراقبين يقرأون في مواقف الحزب التصعيدية الأخيرة محاولة للجم أيّ حرب إسرائيلية محتملة ضده بتشجيع من ترامب، فيما يضيف بعض المراقبين أنّ تصعيد حزب الله هو محاولة إيرانية للتذكير بأنّ لإيران دورا محوريا في حماية الاستقرار على الحدود الشمالية لإسرائيل سواء مع لبنان أو مع سوريا، وأنّ إيران تنبه إلى أنّها في حال تعرضت مصالحها ونفوذها في المنطقة العربية لأي تهديد أميركي فهي يمكن أن تذهب إلى خطوة انتحارية على الحدود الإسرائيلية.
في هذا السياق لا يمكن المرور على موقف السلطة اللبنانية من دون الإشارة إلى موقف لبنان الرسمي. حيث برز موقفان واحد عبر عنه رئيس الجمهورية المنهمك في ترتيب وضعية انتخابية برلمانية تتيح له أن يحصد حزبه التمثيل المسيحي الكاسح، وهي وضعية لا يمكن أن تتحقق له من دون رعاية حزب الله سياسيا ولوجستيا، فكان واضحا في القول إنّه إلى جانب سلاح المقاومة وضرورة بقائه في المعادلة اللبنانية لأن الجيش عاجز عن مواجهة أيّ عدوان اسرائيلي.
الموقف الآخر كان من الحكومة اللبنانية التي انتقدت مواقف نصرالله من الدول العربية واعتبرها الرئيس سعد الحريري تخريبية لمصالح لبنان وعلاقاته الأخوية مع دول الجوار، فيما جدد التأكيد سواء على طاولة الحكومة أو في خطابه من على منبر 14 فبراير، أي في ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أنّ قضية السلاح غير الشرعي لم تنته كقضية محورية يسعى إلى إنهائها في سبيل دعم خيار السلاح الشرعي من قبل مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية.
لم تذهب المواجهة الداخلية نحو مسارات الانقسام السياسي الحاد، فحزب الله اكتفى بتوجيه رسائل باتجاه الخارج، وأظهر اهتماما بعدم الانجرار إلى مواجهات داخلية، واختفى خلف موقف رئيس الجمهورية الذي بدأ بتلقي الرسائل الدولية والأميركية المعترضة على مواقفه التي تتناقض مع مقتضيات القرار الدولي رقم 1701 والتي لا تقرّ بوجود سلاح غير سلاح الشرعية اللبنانية والقوة الدولية المنتشرة منذ العام 2006 في منطقة الجنوب وإلى جانب الحدود مع إسرائيل.
يبقى أنّ المخاوف وتداعيات التصعيد الكلامي لم تكن لصالح الدولة اللبنانية، التي يفترض أنّها مع العهد الجديد، تحاول أن تستعيد بعض النشاط الاقتصادي من خلال تحفيز السياحة والاستثمار وجذب المساعدات العربية والدولية، لكن يبدو أنّ الحسابات الإيرانية تتقدم على كل الحسابات اللبنانية وعلى نظام مصالح اللبنانيين عموما، فإيران لن تقبل بأن يتم تهديد نفوذها دوليا في المنطقة العربية، وصراخ حزب الله لا يمكن إلاّ أن يكون نتيجة تحسسه لخطر تنطوي عليه مواقف الإدارة الأميركية تجاه إيران، وهو إن كان يدرك أهمية دوره اليوم كحام للحدود اللبنانية مع إسرائيل ضد أيّ محاولة مقاومة فلسطينية أو عربية أو إسلامية ضد احتلال فلسطين، فيستخدم هذه الورقة في مواجهة التطور الأميركي تجاه الحرب في اليمن، فالحياد العملي الذي اعتمدته إدارة الرئيس باراك أوباما تجاه الانقلاب الحوثي في اليمن، تبدو إدارة ترامب حاسمة أكثر من الإدارة السابقة في إنهاء الأزمة اليمنية انطلاقا من مواجهة النفوذ الإيراني في هذا البلد، ولعلّ تعزيز حضور البوارج الأميركية في مياه الخليج، هو الرسالة الأكثر وضوحا، مع ما يقابلها من تراجع استعراضات الحرس الثوري والبحرية الإيرانية التي لمست أنّ الأميركيين جادّون بتوجيه ضربة لإيران هذه المرة.
الأصوات الإيرانية المرتفعة ضد إسرائيل هذه الأيام، لم تكن هي ذاتها قبل عام، ما يؤكد أنّ التلويح بورقة حزب الله، وعقد مؤتمر دعم فلسطين هذه الأيام في طهران، والتهديد بضرب مفاعل ديمونا الإسرائيلي، ليست إلاّ محاولات خطابية مرفقة بكيل الاتهامات للنظام العربي، ولكن من دون أي استعداد لتوجيه أي رصاصة باتجاه العدو الإسرائيلي.
إيران التي غامرت بالعرب في سبيل كسب ودّ الغرب، تحاول اليوم ألا تخسر ودّ الغرب أيضا، وما أصوات نصرالله في لبنان والرئيس الإيراني حسن روحاني في الكويت وعُمان، إلاّ محاولة للحدّ من خسائرها الدولية بعدما صارت عدوا لمعظم الدول العربية، فيما الدول الكبرى غير راغبة في إعطائها المكافأة التي طمحت إليها بعد إنجازها التاريخي في المشاركة الفعالة بتدمير الدول والمجتمعات العربية فداء لغير العرب ولغير المسلمين.
خبرٌ يطرد الآخر. مصيبة تطرد الأخرى. قتلى يصرفون قتلى آخرين. مأساةٌ تحلّ مكان مصيبة. حربٌ تُنسي أخرى، وآلاف من الضحايا يمحون ذكرى ضحايا سابقين... هكذا تمرّ علينا مركباتُ قطار الأنباء بسرعة الضوء، تدوس مشاعرنا وأخلاقياتنا، وتجعلنا، لتلاحقها وتكرارها وتصاعدها، مجرّد مشاهدين نائين عمّا يجري من حولنا، ويكاد لا ينطبع على حدقات عيوننا أكثر من ثوانٍ معدودة.
وإلا فما معنى أن يمرّ تقريرُ منظمة العفو الدولية (أمنستي) أخيراً عن سجن صيدنايا، وما يجري فيه من تعذيب واغتصاب وتجويع وإعدامات، وهو ما استدعى تسميته "المسلخ البشريّ"، حيث تم القضاء على 13 ألف ضحية، كما يمرّ أيُّ خبر آخر، فلا يُشعل وسائلَ الاتصال الاجتماعية بقدر ما يشعلها مثلا نبأُ وفاة ممثل، أو نشرُ مراسلات قصة حبّ من طرف واحد بين كاتبةٍ وشاعر، أو فضيحة تتعلق بالحياة الشخصية لنجمٍ ما...؟
وسائل الإعلام نفسها، من صحف ومجلات ووكالات أنباء وإذاعات وتلفزيونات، تعاطت مع الخبر وكأنه مجرّد سبق صحفي أتى بإثباتٍ جديد لما كان يُحدس به من قبل، في حين أنه بات مؤكّدا ومعلوما من الجميع ومنذ فترة، كلُّ ما يجري هناك ويتجاوز بوحشيته الحدودَ القصوى للفظاعة والإجرام.
أما سبق أن قال لنا ذلك ملفُ "سيزار" أو "قيصر" بصوره التي هُرّبت بالآلاف (أكثر من 50 ألف صورة) وفيها تظهر بوضوح جثثُ 11 ألف سجين ممن قضوا جوعا وتعذيبا وقتلا في سجون مظلمةٍ متعفنة، ما بين 2011 و 2013؟ ألم نرهم أولئك الموتى، النساء، الشيوخ، الشبّان والصبية، الممدّدين أرضا عراة، بملامح متورّمة مشوّهة ودماء متخثرة، داخل أكفانٍ من النايلون، قبل أن يرسلوا إلى مصير آخر مجهول؟ أما كنا قد رأينا وبكينا ضحايا الكيماوي في الغوطة الشرقية، وأكثرهم من الأطفال الذين مُددوا جنبا إلى جنب، مغمضي العيون، متبسّمين كملائكة صغيرة هبطت من السماء؟ ألم تهزّنا صورة "الطفل الغريق" التي أصبحت أيقونة البؤس السوري؟
قال لنا تقريرُ منظمة العفو الدولية، بالتفصيل المملّ، ومن خلال الشهادات الحيّة لسجّانين قدماء ولمساجين نجوا وضباط أمن تفننوا بممارسة أنواع التعذيب، ما جرى ويجري في سجن صيدنايا، للمدنيين والعسكريين من معارضي النظام، أو ممن يتّهمهم النظام بمعارضته جزافا. روى كل هؤلاء كيفية تعذيبهم، إذلالهم، ضربهم، تجويعهم، اغتصابهم، تركهم يهترئون بجراحهم ودمائهم وبرازهم، في داخلٍ معتم، قذر، يتضاءل حجمُ الجحيم نفسُه أمامه. قيل كيف كانوا يساقون إلى المشانق من دون محاكماتٍ حقيقية، وكيف كانوا يتعلّقون بالصبية خفاف الوزن، كي تطقّ رقابهم لأنهم كانوا أخفّ من أن يخنقهم حبل المشنقة. حُكي الكثير. وحُكي كل شيء. ومن لم يعرف ليس له إلا أن يفتح إنترنت، وسيقع على التقرير كاملا، مترجما إلى عدة لغات.
حسنا، ثم ماذا؟ لا شيء. لا مبادرة عملية تهدف إلى محاسبة المسؤولين عن كل تلك الفظاعات المرتكبة بحق أبرياء، لا تجمعات ولا مسيرات ولا مظاهرات اعتراض، وإنما الاستمرار في سماع أخبار القصف، وإلقاء البراميل المتفجرة، والحصار والقتل والتهجير والإذلال والتجويع والتلويح ببعبع الإرهاب. وحشية ما بعدها وحشية، وقد حوّلتنا، نحن الذين في موقع الشاهِد، إلى شركاء في الجريمة. أجل، على الرغم من حزننا واستيائنا واستنكارنا ومن بلوغ بعضنا حدّ البكاء، ورؤية آخرين كوابيس متعبة أو مخيفة لأيام، نحن شهود على الجريمة، وبالتالي شركاء فيها. فنحن أولا سوف ننسى بعد قليل، ونحن ثانيا قد عوّدنا أرواحَنا، مأساة إثر مأساة، وحربًا بعد حرب، على صعود سلالم الفظاعات، بثبات وتصميم، ونحن ثالثا استبدلنا ضمائرنا بشيء من البلاستيك، بارد ويمكن تطويعه، شرط ألا يُكسر أو يعرَّض للنار. فرأفةً بضمائركم، أيها الإخوة، علّها تبقى مخدّرة، كي لا تقضي على تحالفكم مع الشيطان.
تغاضت القوى الكبرى عن استمرار الحرب في سورية طوال السنوات الست، واحتفظت، على نحوٍ صارم، بنتيجةٍ غير قابلة للاختراق، وهي منع الحسم النهائي لأي طرف، فالحل سياسي، كما جاء على ألسنة كبار قادة أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وأميركا، مع مراعاة كل العبارات البراقة والخادعة، كالدستور الجديد، والديمقراطية، والدولة المدنية، والانتقال السياسي، وهي مصطلحاتٌ عسيرة على التعريف، على الرغم من وضوحها المعجمي، في ظل غبار عسكري كثيف، وجبهات متعدّدة تكاد تغطي الجغرافيا السورية.
تحت عناوين الحل السياسي، تشكَّل وفد أستانة الثاني المعارض، مناصفة بين السياسيين والعسكريين، وأذيعت أسماء أعضائه علناً، مع ذكر ممثلي كل جهة، بينما لم يعرض الإعلام من وفد النظام إلا بشار الجعفري، باعتبار أن بنية هذا الوفد واضحة، وقد عُبِّرَ عنها قبل بدء المفاوضات بإخراج تمثال حافظ الأسد من المستودعات، ونصبه مجدّداً في إحدى ساحات حماة، الشاهدة على أكبر المظاهرات التي عرفتها سورية في تاريخها الحديث.
تكلف النظام أثماناً عسكرية باهظة في ريف حماة الشمالي، وفي داخل حماة ذاتها، منذ دخلت دباباته إليها في وقت مبكر من عام 2011، ويبدو أنه حالياً يشعر بمزيدٍ من الأمان، بسبب التفوق الجوي له، والانحسار الكبير لقوات "الدولة الإسلامية"، فلم يعر اهتماماً للمدينة التي تتضوّر حاجةً إلى مددٍ إنساني، على شكل تأمين الماء والكهرباء، وتعامى عن مشكلاتها التموينية في توفير الوقود الذي تحتاجه في موسم شديد البرودة، وهذه وظائف إدارية، يجب أن يقوم بها تلبيةً لمهامه السياسية في قيادة الدولة، لكنه عوضاً عن ذلك، مارس أسوأ ما يمكن أن تقدمه قيادةٌ لشعبها، وهو إعادة تعويم تمثال الديكتاتور الذي رفضته هذه المدينة بالذات على شكل انتفاضات شعبية عارمة منذ ثمانينيات القرن الماضي وخلال عام 2011.
كان التجاوب الدولي مع الأحداث السورية، ولا يزال، بطيئاً، وجرى ابتلاع كل المشاهد القاتمة بصمت، وكان للمؤتمرات التي عقدت تحت مسمى أصدقاء سورية صرير إعلامي أكبر بكثير من فاعليتها، فلم توازِ، في مجموعها، فيتو روسياً واحداً.
لم يبدُ على النظام أي غضب وطني، وهو يرى مناطقه ومدنه تتهاوى أمام من كان يسميهم العصابات الإرهابية المسلحة. ولم يعرض ساعتئذ أي حل، كان مصراً على معركةٍ عسكرية يحافظ بها على ما تيسر له من الأرض، مع حرصٍ خاص على العاصمة، وخطوط دفاعية مبالغ فيها حول مناطقه الساحلية، أما أداؤه السياسي فكان معاقاً ووجد في الدبلوماسية الروسية بديلاً ممتازاً، فسلمها زمام الأمور.
كان الدأب العسكري ميزة النظام طوال عهدي الأسد الأب ونجله، فقد تعاملا مع المجتمع بآلتهما العسكرية، وخطابهما الثابت المعروف، ولم يمارسا السياسة لا في الداخل ولا في الخارج، والسياسة حرفةٌ وموهبةٌ وتقاليد دولية لم يكن النظام قريباً منها يوماً، بل اعتمد في الداخل على إعلام ذي منبع وحيد، مع مصادرة الأصوات الأخرى، مهما بلغت درجة خفوتها، متكئاً على عناصره المجهزين بعناية لتجفيف أي صوتٍ معارض، ومن خلفهم سجونٌ متفاوتة الضراوة والقسوة، شكلت جزءاً من منطلقات النظام الأمنية، وأداة فاعلة في لجم المجتمع الذي قُسِّمَ إلى فئاتٍ عمرية، من الطلائع حتى الطلبة، ووضع على رأسها حزب البعث ذا الشعارات الشوفينية الجوفاء. وفي الخارج، اعتمد على المساومة ومنطق البيع والمقايضة، وتحلى بدماءٍ باردةٍ وتَرَيُّثٍ بليد إزاء أي قضية، مع خطابٍ إعلامي جاهز دوماً للشتم والتخوين وتحويل القضايا الثمينة إلى متاعٍ بخس، حين يُجْبَرُ على اتخاذ أي موقفٍ ذي جوهر سياسي.
يُستدعى النظام إلى أستانة ليمارس سياسةً لا يعرفها، فيعيد خطاباً ما زال يتردّد في الأفق، منذ تولي حافظ الأسد السلطة، فيتنكّر رجل الأمن في زي مفاوض، والضباط العسكريون في زي مستشارين، لإعادة حكايات المؤامرة الدولية، والعصابات المسلحة، وهو أسلوبٌ يحرص عليه الجعفري حرصه على هندامه الأنيق. وكل أستانة وأنتم بخير.
مائة عام من تاريخ المنطقة مكون من أقطاب ومعسكرات وأحلاف متغيرة، وما يقال عن فكرة تشكيل حلف ناتو رباعي عربي سيكون ردة فعل طبيعية أخرى ضد حلف إيران الثلاثي النشط.
وقد شبه التجمع العسكري العربي بحلف الناتو، أي منظمة حلف شمال الأطلسي، التي تشكلت في أعقاب التوسع السوفياتي، وكانت القوة العسكرية الغربية التي تقابل الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة.
كيف يمكن للسعودية والإمارات ومصر والأردن تشكيل قوة عسكرية مشتركة لمواجهة التوسع الإيراني، بعد أن مد وجوده إلى العراق وسوريا وكذلك نفوذه في لبنان واليمن؟
الدول العربية الأربع هي أساسًا متحالفة منذ فترة طويلة، وتشارك اليوم في حرب اليمن بدرجات مختلفة، بما فيها مصر. ويقاتل جيش الإمارات على الأرض هناك مع القوات السعودية منذ البداية. والأردن له ارتباط عسكري وطيد بالدول الثلاث. حتى مع هذا التعاون لا نستطيع أن نعتبر العلاقة القريبة جدًا تماثل حلف الناتو في مفهومه وطبيعة التزاماته.
وفي منطقتنا فراغ سياسي كبير واختلال في ميزان القوى العسكري الإقليمي، خاصة خلال السنوات الثماني الماضية. وقد زاده اختلالا تخفيض الولايات المتحدة التزاماتها في المنطقة، ولاحقًا توقيعها الاتفاق النووي مع إيران، الذي يمثل مصالحة ونهاية المواجهة بين البلدين. هذا الفراغ نجم عنه توسيع إيران نفوذها داخل العراق، وخوضها حربًا عسكرية كبيرة في سوريا، وتشكيلها لأول مرة جيشًا من الميليشيات جلبتهم إلى هناك. وتحاول جاهدة إبقاء الحرب مشتعلة في اليمن بدعم الانقلاب.
وما يقال عن تعاون الناتو العربي المقترح مع إسرائيل تصورات تستبق الحلف الذي لم يؤسس بعد! وحتى لو افترضنا صحة الرواية، فإن التعاون، إن بقي سريًا، يظل محدودًا ولا يعتمد عليه. وإسرائيل موجودة عادة في نزاعات المنطقة، وإن كان حضورها محدودًا وصامتًا. فهي في حرب سوريا، مرة تقصف أهدافًا لـ«حزب الله»، ومرة تهاجم جماعات لـ«داعش»، وتزود الأطراف المختلفة أحيانًا بالمعلومات التي تخدمها. وقد قال أحد الخبراء الإسرائيليين إنهم سعداء وهم يرون آلافًا من مقاتلي «حزب الله» يتورطون في الحرب في سوريا، لأنهم كانوا يختبئون تحت الأرض عندما تهاجمهم القوات الإسرائيلية في لبنان، معتمدين تكتيك حرب العصابات. اليوم هم يلعبون الدور الإسرائيلي في سوريا.
فكرة الناتو، أو التعاون العربي الرباعي، لو أصبح حقيقة سيتم الإعلان عنه ولن يكون مشروعًا سريًا كما توحي الأخبار الأخيرة. والتعاون العسكري، تحت أي مظلة، فكرة جيدة وخطوة ضرورية خاصة لو تم توسيعه إلى ما هو أكبر من ذلك. فإقامة حلف لمواجهة إيران توازن ضروري، ردًا على حلفها. فهي شكلت تجمعًا عسكريًا من ثلاث دول، العراق وسوريا إلى جانبها، إيران، وبنت تعاونًا روسيًا، يتخذ في إيران قاعدة عسكرية، ويشارك الروس بقوة مع قوات حلف الدول الثلاث في سوريا. وعززت إيران حلفها بجلب تجمع من الميليشيات المسلحة، جاءت بها من باكستان والعراق ولبنان ومن دول أخرى، وهم يقاتلون تحت رايتها في سوريا. والقوات الإيرانية، تحت اسم الخبراء، تقاتل أيضًا في العراق وتتولى إدارة المواجهات هناك.
وبالتالي فإن تأسيس حلف «ناتو» عربي، لو تحقق، يبقى ردة فعل طبيعية لحلف «وارسو» الإيراني.
قبل انطلاق الثورة السورية بوقت قصير، التقى مسؤولون أمنيون من أعلى المستويات بمعارضين معتقلين، وأخبروهم بما سيجري في سورية من فظاعات وويلات، في حال وقعت فيها ثورة، أو نزل مواطنوها إلى الشارع محتجين. قالوا ما مختصره: لن يكون ما جرى في ليبيا من دمار وقتل غير مشهد إنساني مفعم بالرّقة، بالمقارنة مع ما سنفعله بكم في سورية، بعد أن أعددنا للأمر عدته، وقرّرنا أن لا نتردّد في استعمال جميع أنواع التدابير التي تقتضيها حتمية بقاء السلطة والشعب حيث هما: الأولى في الحكم والثاني في بيت الطاعة.
قال هذا الكلام رئيس المخابرات الجوية جميل حسن الذي ذهب بعد الثورة بأيام إلى بشار الأسد طالبا إطلاق يده في الشعب، ومتعهدا أن يقتل عشرة آلاف سوري (قالت رواية أخرى إنه تعهد بقتل مليوني سوري) وأن يذهب بعد ذلك إلى محكمة الجنايات الدولية نيابة عنه وعن أرباب نظامه. وقال شيئا كهذا أو أشدّ منه بقية قادة شعب الأجهزة وأفرعها الذين تحدثوا عن خطةٍ أعدت منذ عقود لمواجهة الشغب بجميع ما في ترسانة النظام من سلاح، ولتدمير البلاد من أجل إخماد الثورة، وحجتهم أن لمن عمّرها أول مرة حق تدميرها وإعادة إعمارها من جديد، بعد إعادة الأمن والهدوء إليها، أي بعد ذبح شعبها.
ليس سرا أن قيادة النظام قرّرت مواجهة الشعب بأقصى قدر من العنف، منذ حكم الأسد الأب سورية، وأعلنت قرارها قبل الثورة بأشهر أفصحت خلالها عما ستقوم به: استخدام الجيش والمخابرات للمحافظة على السلطة بالعنف، بحجةٍ تم ترويجها خلال نصف قرن، ترى في السلطة جهةً أكثر أهمية ومحورية من الوطن، يعد إضعافها أو التخلص منها كارثةً تحل به، لأنها هي التي بنت سورية ومنحتها فرادتها الاستثنائية، ومن المحال الإتيان بسلطةٍ مماثلة، إن هي سقطت. بهذا الفهم، صارت السلطة مصلحة الوطن الأعلى، وغدا نقدها خيانة وطنية، ومثله التمرّد عليها، بل إنها تصير هي نفسها خائنةً إذا لم تردّ على المنتقدين والمتمرّدين بقدرٍ من العنف يقضي عليهم من دون هوادة. لا داعي للقول إن السيادة لا يجوز أن تكون هنا للشعب، بالنظر إلى أنها تتجسّد في صاحب السلطة، الجهة التي يتم إنتاج الشأن العام ومصالح الدولة والمجتمع العليا انطلاقا منها، وبدلالتها الشخصية. ولا بد أن تعتبر قمة السلطة وقاعدتها وحاملها في آن معا. بذلك، لا يجوز أن يبقى للمواطنين من دور غير دور قطيع يؤمر فيطيع، أليس مجرد مادة خام تشكلها يد الملهم المعصوم، القابع على رأس السلطة الذي لا يشاركه أحد في دوره وسلطاته ومكانته. ولا يحقّ لأحد من خارج دائرته حتى مخاطبته أو الوصول إليه، ولا مفرّ من أن يستطيع هو الوصول إلى أيّ كان، ما دام من مصلحة المواطن والوطن أن يكون في قبضته، هو الذي يعرفه خيرا من نفسه، ويعرف ما لا يعرفه أو يستطيع أن يعرفه سواه، ويتفوق بعصمته على أفراد شعب"ه" مجتمعين، وتصدر عنه حقيقة وطن"ه" وهوية مجتمعه، فليس في مصلحة الوطن أن يتوهم أي كان أن في وسعه التمتّع بشيء من صفاته ما فوق البشرية التي تضعه في مراتب لا يمكن أن يصل إليها غيره، فلماذا لا يُرغم من يعيشون في ظله على الخضوع من دون قيد أو شرط لإرادته، وقبول ما يصدر عنه والامتثال المطلق لأوامره؟!
في سلطةٍ هذا طابع علاقتها بشعب"ها"، لا تبقي أي هامش مهما كان طفيفا للمختلف أو المحايد، يعامل من لا يخضع لها معاملة عدو، ولا تسمح بأي قدرٍ من الحرية والتباين ـ وبالتالي التسامح، مهما كان محدودا. ويكون المبدأ الناظم لعلاقة من هم فوق مع من هم تحت، هو التالي: نحكمكم أو نقتلكم. هذا الوضع الرهيب يغرق المواطن في حال من الفصام الشامل، يصير معه مواليا في المجال العام، متمرّدا ومعاديا في مجاله الخاص، يتلهف لإخراج نفسه قبضته، ويخشى، في الوقت نفسه، التمرّد عليه، على الرغم من أنه يحلم بتقويضه بل وتدميره. من الطبيعي أن يكون هذا الوضع، المشحون بقدرٍ هائلٍ من التوتر اللاطي تحت سطح حياة يبدو راكدا ومستقرا، عرضةً للانفجار في أي وقتٍ بقوة عداء عام يسم علاقة السلطة بشعب"ها"، الذي تموت إن هو قوّض سيطرتها عليه، وتعيش من إبقائه ميتا، وترفض أي حل وسط أو تسوية معه؟ ألا يفسّر هذا نفور النظام الشديد من فكرة المصالحة الوطنية والتسوية الداخلية والوطنية للمشكلات والأزمات؟ ولماذا لاحق وطارد من قالوا بهما أو دعوا إليهما، واعتبرهم أعداءً تحمل عروضهم التصالحية بذور انهياره وموته؟
لم يتخلّ النظام يوما عن هذه الرؤية، وتصرّف دوما وكأنه يعادل الوطن أو يكون الوطن ذاته، الذي لا يبقى ويستمر، ولا يحق له أن يبقى ويستمر، إلا بقيادة مجسد النظام والوطن في شخصه "السيد الرئيس" الذي لا يحق لوطنه البقاء بعده أو بدونه، وقال أتباعه: "الأسد أو نحرق البلد"، و"الأسد أو لا أحد". في منطق السلطة: الدفاع عن شخص الرئيس هو دفاع عن الوطن والنظام في آن معا، ولا أهمية إطلاقا لما يترتّب على التمسك به وبالسلطة من نتائج على سورية وشعبها: كدمارها بيتا بيتا وشارعا شارعا، وإبادة بناتها وأبنائها شيبا وشبانا، كما يحدث فيها منذ أعوام.
في سياسةٍ هذه مفرداتها، لا يقتصر الإجرام على أفعال مادية، بل يتمثل قبل كل شيء في أفكار السلطة ونظرياتها التي تقود إلى أفعالٍ جرمية، تعتبرها مساوية للسياسة. أليس ما يجري في سورية خير دليل على أن الجريمة نمت وترعرعت في عقول حكامها، قبل أن تفتك بشعبها؟
كانت الأطماع الإيرانية، ولا تزال، تتجاوز الحد المعقول، وتهدد الأمن القومي الخليجي والعربي. غير أن رغبة إيران في إيجاد نفوذ لها في منطقة القرن الأفريقي وتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر انطلاقاً من مضيق باب المندب، كان التهديد الأبرز، مما تطلب تدخلاً مدروساً للجم مخططات إيران ووضع حد نهائي لها على المدى الطويل. لذلك تحركت دولة الإمارات في هذا الإطار، بالتوازي مع دورها الرئيس ضمن جهود قوات التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن.
لقد كانت التحديات المتصلة بإنقاذ اليمن من الانقلاب الحوثي المدعوم إيرانياً تتداخل وتتنوع، لتشمل ما يتجاوز الحدود الجغرافية للجبهات العسكرية في الداخل اليمني، وصولاً إلى أهمية قطع الطريق أمام المحاولات الإيرانية للسيطرة على الملاحة في البحر الأحمر، إلى جانب إفشال سعي إيران الدائم لدعم الحوثيين بأسلحة مهربة عبر الشريط الساحلي الغربي لليمن. ونعلم أن طهران وجدت في الجنون المذهبي لدى الحوثيين فرصة لإشاعة الفوضى في اليمن ونشر الخرافات والأوهام المرتبطة بأيديولوجيا ثورة الخميني ومن جاء بعده من الكهنة. ورأت أن تخريب أمن اليمن والجزيرة العربية لا يشفي غليلها، وطمعت في توسيع رقعة الفوضى إلى ممر باب المندب ودول القرن الأفريقي. ويبدو أن طهران لم تكن تتوقع أن دول التحالف العربي سوف تتعامل مع ما يجري في اليمن برؤية أوسع بكثير من تحرير المحافظات اليمنية من الانقلابيين الحوثيين. لأن التهديد الذي طال أمن دول الإقليم استدعى أن تكون المعركة ذات نفس أطول وذات أبعاد استراتيجية تراعي الأفق الجيوسياسي للصراع وأبعاده المحتملة.
وفي هذا الإطار اعتادت الإمارات على الإنجاز في الميدان وعدم الاهتمام بالحديث الإعلامي عن الآليات والخطوات الاستباقية ذات البعد المستقبلي، مع التركيز على إعطاء الأولوية لكل ما هو استراتيجي وجوهري في حرب استعادة اليمن إلى محيطها العربي وإنهاء التطفل الإيراني الذي أراد اختطاف جنوب الجزيرة العربية.
ومن المؤكد أن الحرب في الجبهات قادرة على حسم الصراع لمصلحة حكومة شرعية يمنية تمثل كل اليمنيين، لكن ما لم يلتفت له البعض أن الصراع مع إيران يتجاوز استخدامها للحوثيين لتخريب اليمن، إلى محاولة زعزعة الأمن الإقليمي وأمن البحر الأحمر عموماً، لذلك لاحظنا مدى انشغال الإعلام الإيراني بالدور الإماراتي في استعادة مدينة المخا الساحلية، التي يعتبر تحريرها من الانقلابيين ضمانة لتأمين مضيق باب المندب ولحرمان إيران من إمكانية تهديد الملاحة الدولية في هذا المضيق الحيوي.
وأخذت معركة «الرمح الذهبي» أبعاداً أصابت الإعلام الإيراني بالهلع، إلى درجة اعتراف طهران بالدور العسكري القوي للإمارات، لكن الصحف الإيرانية فتحت الباب للحديث حول هذا الموضوع عندما تطرقت إليه بلكنة استغراب وحسد ممزوج بالصدمة.
لم يكن دور الإمارات عبثياً في أفريقيا، وإنما تم بهدف لجم التوسع الإيراني في القرن الأفريقي، بالتوازي مع التقدم المستمر في استعادة المدن اليمنية من قبضة عملاء طهران.
كما يحسب للإمارات نجاحها في بناء علاقات مع إرتيريا والصومال قائمة على التعاون الإيجابي الذي يخدم التنمية ويسهم في إقامة مشروعات كبرى في مجال البنية التحتية، وذلك بالطبع يوفر فرص عمل مستقبلية للصوماليين والإريتريين، ويضمن تطوراً اقتصادياً مبشراً بالخير في القرن الأفريقي.