تكثر في زماننا الصراعات، وتشتد المحن، وتزداد التيارات الفكرية المختلفة تضارباً وتشعباً، في خضم المجهول بل في زمن الضياع.
علت منذ عقود أصوات الغلاة في عموم البلاد، وبخاصة تلك التي تشهد ثورات أو صراعات داخلية، والدول المحيطة بها، واشتعلت الخطب على المنابر أو في وسائل التواصل تدعو وتدرس الغلو باسم الحقيقة، والطريق الوحيد لخلاص الأمة المتعبة، وتقتص لنفسها نصوصاً من القرآن والسنة -كدليل على ما تقول وتعتقد- منهم على سبيل المثال أبو محمد المقدسي (المقيم في الأردن) وأبو قتادة الفلسطيني.
البعض الآخر ذهب لأبعد من ذلك، فشرع في التدريب وتنظيم الأتباع والمريدين مثل أبو القعقاع محمود قول أغاسي من مواليد 1973، والذي انطلق عام 2001 م، مع اشتعال الانتفاضة الفلسطينية، حيث ألهبت خطبه الحماسية نفوس رواد مسجد العلاء بحي الصاخور في حلب قبل أن يقتل بتهمة التنسيق مع المخابرات السورية.
وفي المعسكر المقابل انتبه البعض لهذا الخطر الكبير كالمسعري وحامد العلي وأبو يزن الشامي، مع جمهور علماء الشام وغيرهم، فكتبوا ووثقوا آرائهم في أحداث العراق والشام وغيرها.
لكن الكم الهائل من الإصدارات والتسجيلات والأفلام ذات الدقة العالية، والإخراج الإبداعي، التي ألقت الضوء على بطولات الشباب المنضوية في معسكر التشدد, أصمت الأسماع عن خطاب هؤلاء الكتاب، وجعلتهم في خانة الشك والعمالة, واتهموا في دينهم.
لم يستطع هؤلاء الوقوف في وجه الشارع العربي والإسلامي المتحمس، والباحث عن انتصار إسلامي في ركام الحروب الحديثة، ورغم أن الدول المسلمة تعاني من تلك الحروب وتخسر فيها مواردها وشبابها، إلا أن الإسلام يخرق كل الجدر، ويتسلل إلى قلوب الملايين في تلك الدول القوية المعادية له، في ذروة الضعف التي يعاني منها المسلمون حول العالم.
تطفو على السطح عدة دراسات غربية, وعلى رأسها دراسات رند الأمريكية التي تعود نشأتها إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا عام 1946، التي تأسست بإشراف سلاح الجو الأمريكي تحت اسم معهد راند ” RAND Institute.
وقد كتبت عن تقسيم العالم الإسلامي بداية إلى ثلاث فرق (المعتدلة والسلفية والراديكالية)، وأكدت أنه من الصعب الوقوف في وجه الإسلام والصدام معه مباشرة، فعمدت لخلق التناقض في بيته الداخلي تمهيداً للصراع.
أصدرت تلك المنظمة كتابا بعنوان “مواجهة الإرهاب الجديد” عام 1999م، وقد أعده مجموعة من الخبراء الأمريكيين،
ثم جاء تقرير راند عام 2004م بعنوان “العالم الإسلامي بعد الحـــادي عشر من سبتمبر، وقد مثل خطة محكمة لتوجيه الإدارة الأمريكية نحو التعامل مع العالم الإسلامي بذكاء وحذر.
ثم جاء تقريـــر عـــام 2005م “الإســـلام المـــدني الديمقراطي: الشركـــاء والمــــوارد والاستراتيجيات” وقد وصفت الإسلام بالحائط المنيع أمام محاولات التغيير، فقسمت فيه المسلمين إلى أربع أقسام (أصوليين وتقليديين وحداثيين وعلمانيين) ليسهل التعامل معهم فيما بعد وتوجيه الدعم وفق المعطيات والخطط المعدة لهم.
أكدت تلك الدراسات على إبادة الأصوليين عن طريق دعم معسكر التقليديين ببث التشكيك وتهم الخيانة بينهم، وعدم السماح لقيام أي تحالف بينهم، لأنهم سيشكلون معاً قوة لا تقاوم ولتدارك الأمر لابد من التحريش بينهم.
ثم ذهبت لتتكلم عن دعم الصوفية والشيعة لتشويه الإسلام، وتسلط الضوء على البدع والضلال التي يحرفون بها دينهم.
كل ذلك لإيصال رسالة للناس عامة, والمسلمين خاصة، تتحدث عن فشل الإسلاميين في حكم دولهم، وهشاشة نظرياتهم.
كما نوهت إلى دعم الصحفيين لتوثيق انتهاكاتهم وعملياتهم الإرهابية، وذلك في البحث عن جميع المعلومات بكافة الوسائل لتشويه سمعتهم، كما تسلط الضوء على نفاقهم وسوء أدبهم وقلّة إيمانهم، للتقليل من احترامهم وعدم السماح لهم بالظهور كأبطال وإنما كجبناء وقتلة ومجرمين،
فيسهل الطعن بهم ولا يسمح لأحد بالتعاطف معهم أو مساعدتهم.
وبعد هذا التقسيم تأتي مرحلة أخرى تعمل على ضرب المعسكرات ببعضها البعض، كما حدث في سوريا والعراق وليسقط الآلاف من القتلى في الحروب فيما ببينهم دون أن يخسر الغرب أي شيء.
ليس من الواضح على وجه التحديد متى، أو ما إذا كانت، سوف تنعقد الجولة المقبلة من «محادثات السلام» حول سوريا. وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك أمرًا واحدًا واضحًا بالفعل: المزيد والمزيد من الأطراف الضالعة في الصراع السوري يشير إلى إشارات الاستعداد المستمر لمعالجة الأسباب الأساسية لما بات يوصَف بأنه أكبر كارثة ومأساة إنسانية في القرن الجديد. ومن دون شك، فإن أحد تلك الأسباب هو السقوط السريع لإيمان وثقة الشعب السوري في نظام حكمهم، الذي أحكم قبضته على مقاليد البلاد منذ عام 1970. ولا يعني هذا أن الشعب السوري يحب نظام حكم آل الأسد، سواء كان في أحسن أو أسوأ أحواله عبر السنين الماضية.
بل إن ما يعنيه ذلك هو أن كثيرًا من السوريين، وربما السواد الأعظم منهم، كانوا على استعداد لتحمل النظام الحاكم بالطريقة نفسها التي يتحمل بها المرء سوء الأحوال الجوية. وأولئك الذين زاروا الأراضي السورية إبان عهد حافظ الأسد ثم نجله بشار، لاحظوا حالة من المشاعر السائدة التي يطلق عليها الفرنسيون اسم «desamour»، وهو مصطلح يعني شعور «اللامحبة»، الذي، في وقت من الأوقات، يؤدي إلى الكراهية العميقة.
وبالتالي، فإن هناك إجماعًا للآراء بات يتشكل، حتى في تلك الأماكن غير المتوقعة، مثل موسكو، وطهران، على أن مغادرة الرئيس بشار الأسد للسلطة لا بد منها، عند مرحلة ما، وأن تُعتَبَر من الأمور الحتمية التي لا محيص عنها.
قبل عام من الآن، اعتبرت كل من موسكو وطهران مغادرة الأسد للسلطة أمرًا غير قابل للنقاش والتفاوض. وفي هذا الوقت، أصرَّت الديمقراطيات الغربية، باستثناء عجيب من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما، على أنه شرط لا غنى عنه بالنسبة للوصول إلى التسوية السلمية. ومنذ ذلك الحين، عدّل كل طرف من الأطراف المعنية بالصراع السوري من مواقفه.
لم تعد موسكو وطهران ترفضان الحديث عن التقاعد النهائي لبشار الأسد. وعلى النقيض من ذلك، فإن لندن، والآن واشنطن، في عهد الإدارة الأميركية الجديدة، قد أرسلتا بإشارات تفيد بأنه لم تعد هناك مطالبة مباشرة بضرورة تنحي الأسد عن السلطة باعتباره شرطًا من الشروط المسبقة لتحقيق التسوية السلمية للصراع في سوريا.
الخروج الهادئ لبشار الأسد من معادلة الصراع السوري يلقى عددًا من الصعوبات القائمة. أولها طول الفترة الانتقالية المؤدية إلى خروجه التام من السلطة في البلاد. لرغبة الأسد في البقاء على رأس الحكم في سوريا حتى نهاية ولايته الرئاسية الحالية، مما يعني بقاءه في دمشق لخمس سنوات أخرى على أدنى تقدير.
وتصر القوى الغربية، على الرغم من ذلك، على ألا تتجاوز المرحلة الانتقالية 12 إلى 18 شهرًا على الأكثر.
ومن الأنباء اللطيفة أن وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون قد اقترح أنه، مع نهاية المرحلة الانتقالية، قد يُسمح لبشار الأسد بفرصة ترشيح نفسه لإعادة انتخابه رئيسًا للبلاد. وقد يبدو مقترح السيد جونسون من قبيل «ذهب الحمقى»، بسبب أنه من غير المرجح أن تسنح أية فرصة لبشار الأسد في أي انتخابات لا يشرف بنفسه عليها. ومع ذلك، فإن لفتة كهذه من شأنها تجسير الفجوة ما بين القوى الغربية والمعسكر الموالي لبشار الأسد بقيادة روسيا.
وطول المرحلة الانتقالية، مع ذلك، ليس المشكلة الوحيدة؛ فإن الأسد ومن يدعمونه ما زالوا في حاجة إلى تسوية تلك المشكلة الشائكة المتعلقة بأين، ولأي فترة، سوف يمضي الحاكم السوري المخلوع، وحاشيته، الفترة المتبقية من حياتهم. وإذا كانت المعلومات التي بحوزتنا صحيحة، فلم تعرب طهران أو موسكو عن رغبتهما في استضافة الحاشية التي سوف تكون محل جذب للعمليات الانتقامية الأكيدة من جانب أولئك الذين عانوا وبشكل رهيب من نظام حكم الأسد في السنوات الأخيرة. كذلك، فإن العثور على الدولة المضيفة التي لا بد أن تضمن سلامة الأسد وحاشيته ليس بالمهمة السهلة اليسيرة.
أما المسألة الأكثر تعقيدًا من ذلك، فتتعلق بضمان أن الأسد يريد الحصانة ضد الملاحقات القضائية المتعلقة بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وتكمن المشكلة في أن الطريقة التي تطور بها القانون الدولي فيما يخص جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية عبر العقود الثلاثة الماضية، تجعل من مثل هذه الاحتمالات أمرًا بعيدًا عن التصور والمنال.
لمدة قرن من الزمان تقريبًا، حمى مبدأ الحصانة السيادية كثيرًا من الحكومات والزعماء ضد الاتهامات بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وعلى الرغم من تآكل هذا المبدأ إبان محاكمات قادة الحزب النازي في نورمبرغ، لم يصمد ذلك المبدأ كثيرًا حتى حلول عقد التسعينات. وكان هناك إجماع للآراء على أن العدالة لا بد أن تُطبق، حتى في الدعاوى المدنية المتعلقة بالحصول على التعويضات المالية و/ أو إعادة الممتلكات المصادرة على نحو غير قانوني، في حين تجعل من المستحيل تقديم المسؤولين الحكوميين للمحاكمة القضائية.
وهناك تطور مهم آخر ألا وهو اختفاء «الإسقاط بالتقادم» كمبدأ من مبادئ القانون. وبالتالي، وبصرف النظر تمامًا عن طول فترة حياته، سوف يظل بشار الأسد هدفًا محتملاً طيلة معيشته لمواجهة المحاكمة على ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ولقد تأسس هذا المبدأ بصورته الأكثر دراماتيكية من خلال قضية تشارلز تايلور، رئيس ليبيريا الأسبق، الذي كان ضالعًا في ارتكاب جرائم الحرب في سيراليون، وقضايا الزعماء الصرب سلوبودان ميلوسيفيتش، ورادوفان كراديتش، وراتكو ميلاديتش.
وعلى الرغم من الضمانات غير الرسمية التي أعربت عنها فرنسا إلى جانب عدد من حلفائها الأفارقة، وعدد من الزعماء الأفارقة السابقين، ومن بينهم الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري، فإنها جميعها تصب في التصنيف نفسه.
كما أن هناك تغييرًا آخر يتعلق بتطورات مقاربة جديدة حيال قواعد الإثبات.
ففي بعض الحالات، على سبيل المثال محاكمة زعماء الخمير الحمر في كمبوديا، فإن الأدلة التي طُرِحت أمام المحكمة المتعلقة بجرائم الحرب المرتكبة كانت تتألف كلها تقريبًا من شهادات الأفراد الضحايا أو الناجين من الحرب، وكانت بالتالي عرضة للمزيد من التحقق والاستجواب.
وبين عامي 2012 و2013، كان هناك مشروع خاص عمل عليه ذلك المكتب فيما يتعلق بالصراع في سوريا، وجمع من خلاله كمًا هائلاً من الأدلة حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها بشار الأسد ونظامه. وفي إشارة على حسن النية نحو جمهورية إيران الإسلامية، أغلق الرئيس أوباما ذلك المشروع في عام 2013، ونقل ميزانيته إلى مشروع آخر. وعلى الرغم من ذلك، فإن الأدلة المتجمعة لدى المكتب سليمة تمامًا، ويُمكن استخدامها في أية قضايا محتملة ضد الأسد ونظامه وحاشيته.
وعملت دول أخرى، بما في ذلك الدنمارك وألمانيا، من ناحيتها، على جمع الأدلة المتعلقة بسوريا، وكان ذلك في بعض الأحيان يتم بالتعاون مع اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا. ووجهت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الاتهامات علنًا لقوات الأسد بارتكاب «الجرائم ضد الإنسانية»، التي لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها.
وقالت المستشارة الألمانية في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2016 في برلين: «إن استخدام البراميل المتفجرة والقنابل الحارقة، وحتى الأسلحة الكيميائية، لن يتم التغاضي عنه أو تجاهله. لقد تعرض السكان المدنيون إلى عمليات تجويع ممنهجة، وتعرضت المؤسسات الطبية للهجوم، وتعرض الأطباء للقتل، وتعرضت المستشفيات للتدمير»، حيث أضافت أنه حتى القوافل التابعة لمنظمة الأمم المتحدة لم تسلم من القصف والدمار.
من جانبها، نشرت اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا عددًا من التقارير، كان آخرها متعلقًا بالمذابح المنظمة للمعتقلين في السجون السورية التي يشرف عليها نظام بشار الأسد. وذكرت التقارير الصادرة عن اللجنة أن الآلاف من المعتقلين الذين كانوا قيد الاعتقال لدى الحكومة السورية قد تعرضوا للتعذيب الشديد أو القتل جراء التعذيب.
وصرح باولو بينيرو، رئيس اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا قائلاً: «تعرض كل معتقل تقريبًا من الباقين على قيد الحياة إلى التعذيب والانتهاكات التي لا يمكن تصورها»، مشيرًا إلى أن أولئك المعتقلين لدى الحكومة السورية يمكن وصفهم بأنهم «بعيدون عن الأنظار ولا يعلم بأمرهم أحد: الموت المحقق في الجمهورية العربية السورية».
أخيرا وليس آخرًا، هناك العشرات من المنظمات غير الحكومية والآلاف من الناشطين في مجال حقوق الإنسان، وكثير من المواطنين السوريين، كانوا يعملون على جمع الأدلة ويوثقونها عبر السنوات الماضية.
لم يواجه أي حاكم آخر عبر التاريخ هذا الكمّ الهائل من الأدلة التي تشير إلى دوره المباشر في المأساة. وليس السؤال ما إذا كانت تلك الأدلة سوف تؤيد قضيتها القائمة، وإنما السؤال هو: متى سوف يتحقق ذلك؟
حينما سلّمت واشنطن الشهر الماضي، وللمرة الأولى، عشر عربات مدرعة من نوع «إس يو في» إلى «قوات سورية الديموقراطية»، ثار جدلٌ حول الخطوة الأميركية: قيل إن هذا القرار اتُخذ في إدارة الرئيس باراك أوباما، و«ليس بناءً على إذن جديد من إدارة الرئيس دونالد ترامب»، كما قال بيان للبيت الأبيض. وقد علّقتْ القيادات الكردية على ذلك بالقول إن ترامب، الذي استعجل إلغاء «أوباما كير» منذ الساعات الأولى لحلوله في البيت الأبيض رئيساً، كان أيضاً قادراً على إلغاء قرار دعم الأكراد، لكنه لم يفعل، ما يعني دعمه الضمني للقرار. مع ذلك فالجواب الكردي لا يستطيع نفي ما حمله بيان البيت الأبيض من «تحوّط».
والسؤال اليوم: هل ستدعم إدارة ترمب الأكراد مثلما استثمرت فيهم إدارة أوباما؟ الجواب الأرجح هو نعم، حتى لو كان ذلك على غير رغبة من الأتراك. لكن هذا الدعم، ومراعاةً لهواجس أنقرة، على وجه الخصوص، لن يجعل الأكراد اللاعب الأهم الذي سيحرر الرقة، وقد كانت فكرة «قوات النخبة» العربية التي يقودها أحمد الجربا أداة عملية على الأرض لتخفيف الهواجس التركية وإدارة التوازنات المعقدة. اتفاق الجربا مع الأميركيين، والروس أيضاً، على أن تملأ الفراغ بعد طرد «داعش» من الرقة قواتٌ في غالبيتها عربية، وبدعم إقليمي ودولي لا تُستثنى منه تركيا.
المشهد اليوم يقول إنّ القضاء على عاصمة الخلافة للتنظيم الإرهابي لن يكون حدثاً عابراً، وسيرسم الأقوياءُ خطوطه وتفاصيله، ومن هنا فإن الدعم المطلوب لمعركة الرقة سيعني أنها معركة توافقات دولية وإقليمية في شأن أمرين: الأطراف التي ستخوض التحرير وإدارة توازنات ما بعد التحرير بين الفاعلين المحليين والإقليميين وحلفائهم الدوليين.
والأغلب أنّ «قوات النخبة» و «القوات الكردية» لن تتمكنا وحدهما من حسم المعركة في الرقة، التي سيكون النظام وإيران و «حزب الله» و «الحشد الشعبي» الأكثر استبعاداً من المشاركة فيها، أو الأقل مشاركة، وهو ما تعيه موسكو حيث تداركت الموقف المحتدم في منطقة الباب برسم خطوطٍ لمنع الاشتباك «غير المحسوب» بين قوات النظام و «حزب الله» من جهة و»الجيش الحر» المدعوم من أنقرة من جهة ثانية.
المسؤول اليوم عن ملفات سورية والعراق وإيران في مجلس الأمن القومي في إدارة ترامب هو العقيد المتقاعد جويل رايبرن، المعروف بمواقفه الوسطية حيال قضايا الشرق الأوسط. ورايبرن، الذي سبق أنْ خدم في العراق زمن حكومة نوري المالكي، كان من أشد الداعمين للتحالف الأميركي مع عشائر الأنبار، لتشكيل «الصحوات» للقضاء على «القاعدة» قبل نحو عشر سنوات.
ولنا أنْ نسأل ونرصد ونترقب إلى أيّ حدّ يمكن أنْ يستلهم رايبرن تلك التجربة مجدداً في سورية، ويقنع إدارته بجدوى استحضارها في الرقة تحديداً؟
حسناً فعلت “جبهة النصرة” أو“فتح الشام” أو “تحرير الشام” ، بالتوصل أخيراً إلى اتفاق يودي بـ”الغلاة” إلى أصلهم ، و تأمين العبور الآمن و السليم لهم ، بعد أن يتخلوا عن سلاحهم الثقيل من دبابات و ناقلات جند و مضادات الطيران و ما إلى ذلك ، مقابل فاتورة متوسطة القيمة لا تتجاوز الـ ٤٠٠ قتيل .
لاشك أن من مميزات اقتتال “الأسرة الواحدة” ، رغم أنه عنيف جداً و دموي ، هو وجود المُصلحين و القضاة و الشرعيين ، و عروض من المناظرات و المباهلات ، مع غياب المرجّح ، فالشرعي أو القاضي هنا ، لا يبحث في أمور جوهرية أم عقائدية ، و إنما ببعض الشكليات و الأسماء ، و أحقيتها بممارسة القتل بالعلن أو بالسر ، فلا خلاف في أصل القتل و مبرراته ، و إنما القضية ترتكز على "هل نعلن هذا و نتبنى أم نمارس دور الصامتين" .
يبرر محبو “جبهة النصرة” أو “فتح الشام” أو “تحرير الشام” ، الاتفاق التاريخي مع “لواء الأقصى” ، بأنه أنقذ الساحة “الشامية” من فتنة عظيمة ستودي بحياة الآلاف ، و قد نجحت “جبهة النصرة” أو “فتح الشام” أو “تحرير الشام” ، من جديد في إعادة الحياة لـ”الجهاد الشامي” ، وقطع دابر معطليه من المؤتمرين و المفاوضين الذي وجب اجتثاثهم ، و القتلة و المكفرين الذين وجب تحييدهم ، وإسكاتهم .
لا فرق بين الاجتثاث “الفج” و التعامي “الوقح” في حالتي لواء الأقصى و فصائل الجيش الحر الـ ١٦ الذين تم انهاؤهم ، إلا في قضية العقيدة و الأخوة ، وهذا ما يميز عناقيد القاعدة عن غيرها من الفصائل المنضوية تحت “الجيش الحر” ، ففي القاعدة يفزعون لبعضهم البعض و يطبقون منطوق الحديث الشريف “انصر أخاك ظالماً أو مظلوما” ، في حين أن فصائل الجيش الحر تبرع في “اصمت عن قتل شريك لو كنت أن التالي بعده” .
كل قرارات الأمم المتحدة حول القضية السورية أكدت أن السوريين وحدهم هم من يقررون مستقبل بلدهم ويختارون الحل الذي يريدونه لمحنتهم، ولكن مجريات ما يحدث تؤكد أن السوريين على رغم كل ما دفعوه ثمناً باهظاً للحرية، اغتصبت حريتهم في اتخاذ أي قرار حول مستقبلهم، فإسرائيل هي التي ترسم الخطة، وروسيا تتحرك في الفضاء، والولايات المتحدة في الخفاء، وإيران تعيث في الأرض فساداً، والأمة العربية المنكوبة تتفرج على الخطر القادم معصوبة العينين غارقة في مستنقعات دماء أبنائها. وأما أوروبا التي تدفق إليها المهاجرون واللاجئون فقد باتت محاصرة بين جنون العظمة والتوسع الروسي، وبين اضطراب السياسة الأميركية التي شعرت بأنها فقدت مكانها القيادي للعالم في عهد أوباما، وبين خطر انهيار الاتحاد الأوروبي كله، وكانت بريطانيا أول من غادره.
وأما النظام السوري الذي تحصن ضد ثورة شعبه كي لا يفقد كرسي الحكم، فقد فضل أن يسلم كرسي حكم سوريا لروسيا وإيران على أن يلبي مطالب الشعب في الحرية والكرامة. وأما الثوار الذين تعرضوا للمذابح والإبادة والتدمير والتهجير فقد وجدوا أنفسهم محاصرين من كل حدب وصوب، وصار همهم إنقاذ ما تبقى من سوريا وليس تحقيق الأهداف التي خرجوا من أجلها، وباتت المعارضة السياسية الوطنية تتعلق ببيان جنيف لعام 2012، وبالقرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن، فلا تلقى استجابة حتى من روسيا التي صاغت هذه القرارات التي قبلت بها الثورة حين تداعت عليها الأمم.
وقد تمكنت روسيا من أن تقبض على الملف السوري، وأن تتحكم وحدها بمصير السوريين، وهي تقول لهم «لسنا متمسكين بالأسد، ولكن لا يوجد له بديل»! وتصر أطراف على أن يكون الهدف الوحيد الذي تحققه الثورة السورية هو تجديد البيعة للأسد إلى الأبد، وتفكيك سوريا اجتماعياً وعرقياً ودينياً، وتحويلها إلى كيانات مبنية على الأحقاد التي ستتوارثها الأجيال، وهي تعلم أن بقاء الأسد حاكماً يعني بقاء السوريين المهجرين والنازحين مشردين خارج وطنهم، فلن يجرؤ أحد منهم على العودة لأنه يعلم أن المصالحات الوهمية لن توفر له أماناً.
ولقد فوجئت بتصريحات دي مستورا الأخيرة التي تحدث فيها عن خطته لبحث قضية الدستور والانتخابات في جولة المفاوضات المقبلة في جنيف، مستبعداً الحديث عن الانتقال السياسي الذي هو جوهر القضية، وهو بذلك يلبي إرادة روسيا التي فصّلت دستوراً للسوريين نيابة عنهم، وتريد أن تفرض الأسد عليهم بفخ الانتخابات وهي تعلم أن الأسد سيكون الفائز الوحيد، فلا أحد في الداخل السوري يجرؤ على منافسته وهو يملك كل القوى العسكرية والأمنية وتسنده قوى روسيا وإيران والميليشيات في الداخل! ولو اجتمعت قوى الأرض كلها لتجعل الانتخابات نزيهة وشفافة، فالسوري المحاصر في الداخل يعرف شمس بلاده، كما يقال. وأما السوريون المشردون في الخارج، وقد باتوا مبعثرين في شتات الأرض، فسيكون من الصعب ضمان مشاركتهم في الانتخابات، وأما المعارضة فلن تتمكن مهما توحدت قواها أن تجتمع على مرشح واحد منافس، ولا يستطيع أحد أن يمنع المئات من عشاق الشهرة والظهور من أن يرشحوا أنفسهم، وبهذا تضيع أصوات المعارضة، وهذا ما تراهن عليه روسيا في فخ الانتخابات.
وأما بحث موضوع الدستور قبل الوصول إلى رؤية الحل السياسي، فسيكون مثل اختلاف رجل وامرأة حول تسمية طفلهما القادم قبل أن يتفقا على الزواج.
لقد أعلنا في الرؤية التي قدمتها الهيئة العليا للمفاوضات أن هيئة الحكم بعد الانتقال السياسي تضع إعلاناً دستورياً مؤقتاً، وبعد انتخاب هيئة تأسيسية من مؤتمر وطني عام يتم وضع مسودة دستور، ولم يكن للشعب اعتراض على الدستور السوري سوى في بضع مواد كانت تضع السلطة كلها بيد (الحزب القائد) وتحصر الترشيح لرئاسة الجمهورية في قيادة الحزب، أما بقية مواد الدستور فلم يكن عليها اعتراض شعبي على الغالب.
ولكم تمنيت لو أن النظام يجعل إنقاذ سوريا أولاً، ولاسيما أن المعارضة تقبل بالتشاركية الكاملة معه في بناء مستقبل سوريا، وهي لا تختلف مع النظام (نظرياً) في ثوابت الدستور التي تحافظ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً ونسيجاً اجتماعياً يعتمد المواطنة ركيزة العقد الاجتماعي، فالثورة الشعبية السورية لم تقم لبناء دولة دينية، وهذا التكاثر في تنظيمات التطرف كان هدفه التغطية والتعمية على مطالب الشعب. ولكي نصل إلى اللحظة الراهنة التي يخير فيها الشعب السوري والعالم معه، بين الأسد والإرهاب، وقد كُلف تنظيم «داعش» وأمثاله بتصفية «الجيش الحر»، وبإرهاب الشعب وبقتل أهل السُّنة بخاصة بتهمة الردة، وتم تهجير الأكثرية السكانية، ولا يخفى على أحد أن «داعش» تنظيم مخابراتي عالمي، ومهمته ستنتهي حين يعلن النظام انتصاره النهائي على شعبه.
يعتبر «مؤتمر أمن ميونيخ» الذي يعقد غدًا (الجمعة)، ويستمر حتى يوم الأحد المقبل، منبرًا للحوار حول تحديات الأمن في العالم.
يوم الاثنين الماضي نشر المؤتمر تقريره السنوي، الذي سيناقش ملفاته كبار القادة. التقرير الذي يحمل عنوان: «ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام» يرسم صورة قاتمة عن عام 2017. في المقدمة كتب ولفغانغ إيشنجر، رئيس المؤتمر: يمكن القول إن البيئة الأمنية الدولية أكثر تقلبًا الآن من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية «وحذر من حدوث فراغ في السلطة ناجم عن انسحاب أميركي محتمل من المسرح الدولي، ومن تصعيد عسكري». ويوضح التقرير الأخطار التي يتعرض لها النظام العالمي، بـ«اللحظة غير الليبرالية».
اللافت أن إيشنجر يطرح مقارنة تاريخية جريئة. إذا عدنا إلى أواخر الأربعينات من القرن الماضي، خلال أزمة برلين، التي سبقت تشكيل منظمة الحلف الأطلسي، أي فترة تداعيات «خطة مارشال» الأميركية لإعادة الإعمار ما بعد الحرب، والمجاعات والمصاعب التي عانت منها أوروبا خلال فصل الشتاء من تلك السنوات، وفرض السيطرة السوفياتية على أوروبا الشرقية، يمكن القول إنها كانت فترة متقلبة جدًا.
ولفغانغ إيشنجر يجري مقارنة ما بين تلك الفترة والواقع اليوم؛ ما يؤدي إلى طرح علامات سؤال حول جزء من عنوان التقرير «ما بعد النظام». يتحدث كثير من المراقبين الدوليين عما إذا كان العالم الآن في فترة انتقالية إلى نظام عالمي جديد. يقول إيشنجر إنها أكثر فترة تقلبًا منذ الحرب العالمية الثانية. ويضيف: إن أهم الدعائم الأساسية للغرب وللنظام الليبرالي العالمي تضعف. وقد نكون على شفا عصر آخر للغرب، حيث إن قوة ليست غربية تعمل الآن على تأطير الشؤون الدولية، أحيانًا بالتوازي، أو حتى على حساب تلك الأطر المتعددة الأطراف التي وضعت أساس النظام الدولي الليبرالي منذ عام 1945، ثم يتساءل: هل نحن ندخل عالم «ما بعد النظام؟».
في التقرير إشارة قوية إلى هيمنة الخطاب الشعبوي الذي تسبب في تحول جذري، أو تجاوز توجه الديمقراطية الليبرالية والمبادئ التي تصاحبها. رأى التقرير أن دعم «الحلول التسلطية» في تصاعد بين الشعوب التي تعيش في مجتمعات ديمقراطية.
يشرح محدثي، الدبلوماسي الأوروبي، أنه من المهم أن ندرك أن البيئة الأمنية الدولية يمكن أن تتغير من خلال خطوات صغيرة، ليس من الضروري أن تكون دراماتيكية أو مثيرة، لكنها تتراكم على مدى سنوات فتصل إلى شيء كبير.
من الأمور التي حدثت عام 2016 كان الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي، فجاءت النتيجة حافزًا لإعادة النظر في العلاقات الدولية، ثم جاء انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب تأكيدًا على التغيرات التي تحدث الآن على الأرض.
في خطاب تنصيبه أعلن ترمب تغييرًا تاريخيًا في علاقات الولايات المتحدة مع الدول الأخرى، واعدًا بأن سياساته الداخلية والخارجية ستضع المصالح الأميركية في أولوياتها.
يقول محدثي «إن انتخاب دونالد ترمب رئيسًا للولايات المتحدة، أخرج إلى العلن تساؤلات عدة حول أهمية النظام الدولي كما اعتدنا أن نراه؛ إذ إن لديه مواقف تجاه الحلف الأطلسي، وتجاه الاتحاد الأوروبي تختلف عن نظرة أسلافه. لديه مواقف مختلفة تجاه روسيا قد تتصلب أكثر بعد استقالة مستشار الأمن القومي مايك فلين، لكنه سيفرق بين عقوبات مفروضة على روسيا بسبب أوكرانيا والحاجة إلى موسكو لمحاربة «داعش» والإرهاب، ثم موقفه الحازم تجاه الصين، واعتبارها المشكلة رقم واحد التي تواجهها الولايات المتحدة في العالم، وعلى الرغم من اعترافه بسياسة «الصين الواحدة»، فإن هذا لا يقلص من حجم المشكلة. «كل طروحات ترمب شملت الكثير من الافتراضات التي مارسنا الكتمان عليها ورميناها وراءنا في الهواء». قال ترمب في خطاب تنصيبه: من هذه اللحظة، سيكون التوجه: أميركا أولاً.
ويشير التقرير إلى أن ترمب في خطابه تجنب أن يذكر: «الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان»، مما يشكل تناقضًا مع أسلافه. وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة إلى القيم الليبرالية في جميع أنحاء العالم، يضيف التقرير.
يوضح لي الدبلوماسي الأوروبي: أن القضية الآن هي حول كيفية تساقط هذه الأوراق التي رماها ترمب في الهواء. لا نعرف النمط الذي سيتشكل عند ارتطامها بالأرض. لهذا؛ فإننا نمر بمرحلة من عدم اليقين في كل حال.
في التقرير فصل يحمل عنوان: «سوريا لا نهاية في الأفق». وما بدأ كمطالب احتجاجية تدعو الرئيس السوري بشار الأسد إلى التنحي، تحول إلى صراع طويل تورطت فيه جهات فاعلة محلية ومجموعات مسلحة ودول مجاورة وقوى عالمية، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، وإيران، ودول عربية. جاء في التقرير: «إن الكثير من الجهات تتدخل في الأزمة السورية في حين يحاول الغرب تدبير أموره بطريقة أو بأخرى». ربما يكون الشرق الأوسط دخل مرحلة «ما بعد الغرب»؛ لأنه نتيجة التدخلات الكثيرة في سوريا حصل تحول على طول الخط الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن على أي حال، صار لروسيا دور أكبر بكثير مما كان عليه في السابق، كما أن لإيران، حتى الآن، دورًا قويًا جدًا. إن لدى الولايات المتحدة بعض الخيارات حول كيفية الرد على ذلك، وينسحب هذا على الأوروبيين؛ لأن ما يجري هو في ملعبهم الخلفي.
يصل التقرير إلى فصل: ما بعد الحقيقة، وينصح من أجل منع هذا «النوع من العالم»، حيث: «إن لا شيء حقيقيًا، بل كل شيء ممكن» هي مهمة المجتمع ككل، مشيرًا إلى محاولات النواب في البرلمانات الغربية تجريم كل من ينشر ويوزع أضاليل. أما عن مستقبل الإرهاب فحسب التقرير، على الاتحاد الأوروبي التعاون ككتلة موحدة لمواجهة مجموعة من التحديات التي يشكلها التهديد من التطرف والإرهاب.
تقرير «مؤتمر أمن ميونيخ» يعطي لمحة عن التحديات التي تهدد بإطاحة النظام الدولي الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية التي خلفت عشرات الملايين من القتلى والمشردين في أنحاء العالم.
إن عملية التشكيك في فاعلية منظمة الحلف الأطلسي، في شكلها الحالي، أو احتمال التخلي عن التحالفات التقليدية من أجل أخرى جديدة، إنما هي تساؤلات تؤكد تحولاً، في العلاقات العالمية والإقليمية بين الدول. التقرير الذي نشر قبل انعقاد المؤتمر يوفر لقادة العالم منطلقًا للحوار بشأن التحديات الأمنية والدفاعية التي لا محالة يواجهها العالم. قال إيشنجر: «آمل ألا نبتلع الكلمات أو نقرضها: بل أن نتكلم صراحة عن خلافاتنا، وكذلك عن المصالح والقيم المشتركة».
يبدو أن تخاصم العالم مع نفسه يهدد بحرب. العالم يهتز، فهل من الممكن للاعبين الأساسيين الذين سيكون بعضهم مشاركًا في «مؤتمر أمن ميونيخ» العثور على بعض الأجوبة؟
يقول محدثي الدبلوماسي الأوروبي: رغم الهزات الداخلية التي تعرضت لها إدارة ترمب، فإن التوجه السياسي لم يتغير. لكنها لا تزال إدارة «شابة»، وسيستغرق بروز نظام دولي جديد، بعض الوقت، هذا إذا كنا نسير حقًا في هذا الاتجاه، الذي بدأ يتبلور نوعًا ما. فهل أن القوى الكبرى، الولايات المتحدة، وروسيا، والصين وغيرها من القوى الصاعدة، ستقف مع حكم القانون، وإلى جانب المؤسسات الدولية القوية؟ أم أن كل قوة ستعتبر مصالحها فوق الجميع وفوق أي شيء آخر. هذه مسألة مهمة جدًا لمعرفة ما سيكون عليه التوازن. يضيف محدثي: إن القوى الكبرى تفضل دائمًا نظامًا يناسبها، وتريد دائمًا الاستفادة من هذا النظام لمصالحها، هي استثمرت في السنوات الماضية في النظام العالمي حتى خلال الحرب الباردة.
هل سيكون الأمر نفسه في المرحلة المقبلة، أم أنه سيكون مختلفًا؟
ينهي حديثه: بالنسبة للكثير من المراقبين والخبراء وصناع القرار: أن العالم في حالة قصوى من عدم الأمان.
تطرح المفاوضات المقبلة في جنيف، التي تعتبر الرابعة بين الجولات التفاوضية، أسئلةً عدة، تخص الصراع السوري، مثلاً، هل وصلت الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في هذا الصراع إلى درجة من التوافق تسمح بوضع حد للقصف والقتل والتدمير والتهجير؟ أيضاً، هل هذه الجولة ستكون الأخيرة، أم ستعقبها جولات خامسة وسادسة و...؟ ثم هل التسويات أو الحلول المطروحة ستكون نهائية أم موقتة، كاملة أم جزئية؟ وأخيراً ماهي الخيارات الحقيقية أمام السوريين من دون تجميل في الألفاظ أو اختباء وراء المصطلحات، التي لم تنتج حتى اللحظة ولادة خيار سوري - سوري ينهي المأساة ويخلص السوريين من المتسببين بها؟
في هذه الحال، وبواقعية شديدة فنحن إذاً أمام خيارات عديدة ومختلفة، لكن ليس من بينها، مع الأسف، ما قامت من أجله الثورة، وإن كان بعض المكابرين ما زال يلقي بخطب عصماء يعود صداها إليه وحده. أما هذه الخيارات فلعل أهمها:
أولاً، خيار مسار جنيف، عبر التوصل إلى صفقة بين النظام والمعارضة برعاية دولية، وهو «البروفا» الرابعة بين الطرفين، والتي تحدث بعد خسارة المعارضة لمواقع كثيرة، بالقياس لما كانته في المراحل السابقة، بين جنيف 2 وجنيف 4، وضمن ذلك فقد استعاد النظام، بموجب الاجتماعات التي جرت بين الجولات أخيراً في آستانة، موقعه دولياً، مقابل اعترافه بالمعارضة بشقيها، العسكري الذي كان يصفه بالإرهابي، والسياسي الذي استطاع كل من النظام وروسيا أن يعمل على تشتيته وشرذمته، بإدخال جماعات محسوبة على النظام تارة، وبتعدد منصاته واختلاف مرجعياته تارة أخرى. أما المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، فهي تمر بوضع صعب، يتمثل بانقسامها على نفسها، وبالتحاصص بين أطرافها، بدل أن تكون متوافقة على تمثيل واحد ومشروع واحد يحدد ملامح وشكل سورية، التي تذهب للتفاوض عليها مع النظام، بل ومع المجتمع الدولي عموماً.
ثانياً، خيار استمرار الواقع الراهن، أي استمرار الصراع المسلح، والقصف والتدمير والتهجير، ومحاولات فرض الأمر الواقع، سواء من النظام أو فصائل المعارضة، وهو خيار لا يخدم أي حل، وهو مفروض على الثورة، بحكم أن عسكرتها أصلاً لم تكن خياراً لقوى الثورة عند اندلاعها، والتي كانت تفتخر وتتغنى بسلميتها «سلمية سلمية». وكلنا نذكر أن هذا هو الخطاب الذي جمع حوله المؤمنين بحق السوريين بالتخلص من نظام الاستبداد، وإقامة دولتهم المدنية الديموقراطية (اللاعسكرية واللادينية واللاطائفية)، لاستعادة حقوقهم كمواطنين أحرار متساوين، وذلك أمام تغول الأجهزة الأمنية عليهم، من دون أن يفهم من ذلك أن خيار العسكرة لم يكن بدفع من النظام، وباضطرار من بعض قوى المعارضة، التي وجدت نفسها معنية أمام همجية النظام وعدوانه على الشعب، بحمل السلاح دفاعاً عن المدنيين ومناطقهم، فهذا أمر وما حصل في مسارات العسكرة والأشكال التي تحكمت بها أمر آخر.
ثالثاً، خيار التوصل إلى حلول موقتة، أو مناطقية، على طريقة الهدن، على نحو ما حدث في أكثر من منطقة، وهو خيار يفرضه واقع مأساوي، حيث الحصار الذي فرضه النظام على المدن والأحياء في ظل التجويع والقصف المستمر، ثم لاحقاً التهجير الممنهج للسكان من مناطق تقع ضمن ما بات يعرف بـ «سورية المفيدة»، والمساحات الحدودية مع دول الجوار، وتحديداً لبنان، ليبقي على خطوط تواصل مع ذراعه المتمثلة بميليشا حزب الله.
رابعاً، خيار التوافق الإقليمي على فرض صيغة تسوية على السوريين، وهو الخيار الذي انتهجته الدول التي فرضت اجتماع آستانة، الشهر الماضي، والذي جمع بين وفدي النظام والمعارضة، بضمانة ورعاية الدول الفاعلة في الملف السوري، وهي روسيا وإيران (النظام) وتركيا (المعارضة) وبمراقبة اللاعب الرئيسي الذي اختار خلال السنوات السابقة مسك الخيوط وتحريك الأجندات عن بعد، بناءً على رغباته وتوافقاته وحدود صبره وهو الولايات المتحدة الأميركية.
مع ملاحظتنا لهذه الخيارات، أو السنياريوات، على أهميتها، ينبغي الانتباه إلى مسألتين، الأولى، إن كل هذه الخيارات المطروحة هي من صلب الواقع الذي نعيشه سورياً، والذي يؤكد أن الأطراف السورية سواء ذهبت إلى جنيف لتتفاوض أم لم تذهب، هي اليوم مجرد فاعل ضعيف أو تابع، تتحدد مهماتها وفق الإرادات الدولية والإقليمية الفاعلة ليس إلا. والثانية، أن الأمر لا يتعلق بموازين القوى بين المعارضة والنظام، فقط، اللذين باتا في غاية الإنهاك والاستنزاف والارتهان للخارج، وإنما يتعلق أكثر بالحل المنشود بمدى الاختلاف أو التوافق الدولي والإقليمي، على ديمومة الصراع، أو اتخاذ قرار حاسم بوقفه.
في الغضون، يفترض أن تدرك المعارضة أن تلك الخيارات محكومة، أيضاً، بأدوار أربعة لاعبين رئيسيين: الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، على التوالي، مع التبادل في موقع الطرفين الثالث والرابع، بين تركيا وإيران، وهذا ليس تفصيلاً عادياً، إذ إنه يؤثر في مستقبل سورية والشعب السوري. فكما شهدنا فإن ازدياد الدور التركي في معادلة الصراع السوري سيؤدي إلى تضاؤل الدور الإيراني، وتالياً زعزعة مكانة النظام في أي تسوية مهما بعدت أو اقتربت من هدف الثورة الأساسي، والعكس صحيح في المسألتين المطروحتين.
على ذلك فإن كل ما يمكن أن تتمخّض عنه مفاوضات جنيف4 إنما هو نتيجة واستمرار لحالة الاستنزاف بين الجانبين، أي النظام والمعارضة، غايتها تقديم أوراق اعتماد الأطراف الدولية للحل في سورية، بالاعتماد والتوافق، أيضاً، وربما قبلاً، على حل ملفات كثيرة خارج سورية. وربما أن ذلك يشمل ملف العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية والحظر.
الأرجح أننا لم نتعرف بعد إلى التغيير الحاصل وحجمه ومضمونه، وبالطبع لن يتّضح مؤدّاه إلا بعد ارتسام ملمح واقعي وعملي للتقارب الأميركي - الروسي بالنسبة إلى سورية، أو بعد تأكّد صرامة إدارة دونالد ترامب حيال إيران. لذلك، يؤخَذ الغموض وسيلة لتأويل بعض الأحداث، ومنها مثلاً أن روسيا لا تمارس ضغوطاً على نظام بشار الأسد ليفهم وإنما توجّه إليه، بواسطة الآخرين، إشارات أو ضربات، علّه يفهم أن مرحلة الخطة الإيرانية ولّت وأن مرحلة الخطة الروسية بدأت، وعليه أن يتكيّف معها. صحيح أن موسكو لم تغيّر توجهها الرئيسي المعتمد على حاجتها إلى «شرعية» الأسد، وبصفته «الحكومة السورية» التي تتعامل معها، لكن الأصحّ أنها أبلغت الكثير من الأطراف منذ بدايات تدخّلها أنها تريد اعادة جمع العسكريين، موالين وما أمكن من المنشقين ومن الميليشيات التي أنشأها الإيرانيون، في جسم جيش واحد. وبعد معركة حلب بات هدفها دفع حلفائها وخصومها إلى قبول أجندتها، أي أنها لم ترسل طائراتها وضباطها ولم تقِم قواعدها من أجل خدمة الأسد والإيرانيين.
حتى غداة جمع فصائل المعارضة المسلحة مع وفد النظام إلى طاولة واحدة في «آستانة 1»، لم يصدق الأسد والإيرانيون أن عليهم مراجعة خططهم السابقة، فبالنسبة إلى الروس انتهى الصراع الداخلي في حلب، وكل ما بعد ذلك سيكون حرباً على الجماعات الإرهابية، ومن هنا الاستعانة بتركيا، وكذلك بالأردن، وبوحدات «الجيش السوري الحرّ» المرتبطة بهاتين الدولتين. لم يكن مفهوماً جيداً ما هو الموقف الروسي من التصعيد الذي افتعله النظام والميليشيات الإيرانية في وادي بردى وأدى إلى هز الثقة باتفاق وقف النار، لكن التسوية النهائية وإن كانت مجحفة في حق أهل وادي بردى تمت بطريقة مقبولة لدى الروس الذين حبذوا دائماً «الهدنات» - «المصالحات» التي رتبها النظام في بعض نواحي الغوطة. وعشية «آستانة 2»، تعمّد النظام القيام بأوسع انتهاكات للهدنة «السارية» رسمياً، كما أرفقها بمناورات (الاحتكاك بقوات «درع الفرات» خلال اقتحامها دفاعات «داعش» في الباب، إرسال قوات لطرد «داعش» من تدمر، وخرق الهدنة في درعا...) آملاً بالضغط على الروس وإقناعهم بدعمه لاستعادة بعض المواقع. وما دفعه إلى ذلك أن «آستانة 2» يُفترض أن تكرّس «تثبيت» وقف النار وطرح «الآلية الثلاثية» لمراقبته، أي أن الروس يفعلون هذه المرة ما لم يفعلوه سابقاً: وقف نار شامل تمهيداً لمفاوضات جنيف.
ما تختلف عليه روسيا ونظام الأسد هو النظرة إلى وقف النار. فالنظام يرى في توقف القتال نهايته إلى حدٍّ ما، خصوصاً إذا كان إيذاناً باقتراب البحث في حل سياسي، وما يعمّق إحباطه أن القرار ليس قراره، أما الروس فيعتبرون وقف النار بداية مرحلة سعوا إليها وشاءت الظروف أن ينفردوا بتولي هندستها، في انتظار عودة «الشريك» الأميركي وما لديه من معطيات جديدة في التعاطي مع الملف السوري. بطبيعة الحال، ليس للمعارضة أن تتوقع تغييراً في المفهوم الروسي للحل السياسي، فهو لا يزال يتصوّر هذا الحل منبثقاً من النظام، تحديداً من حكومته، وباتت موسكو معتمدة على موافقات علنية أو مكتومة من أنقرة وعمّان والقاهرة وبدرجة أقل أو بعدم ممانعة من عواصم أخرى. ولا تضم هذه القائمة طهران، وإنْ كانت إحدى الدول «الضامنة» وقفَ النار، والأكيد أنها تجري مراجعة للمتغيرات إقليمياً ودولياً، فهي من جهة تواجه على الأرض السورية (وإلى حدٍّ ما في العراق) حقائق غير متوقّعة كما ترى للمرة الأولى أمراً واقعاً لم تصنعه ولا يناسبها، ومن جهة أخرى فإن معارضة روسيا العقوبات الأميركية ونفي سيرغي لافروف تورطها في دعم الإرهاب وسائلها للتعامل مع «الأيام الصعبة» التي أشار إليها محمد جواد ظريف لا تبدو كافية أو مناسبة لتحقيق «انتصارات» على أميركا دونالد ترامب.
بلغ نظام الأسد، وكذلك إيران، لحظة الحقيقة التي تهربا منها طويلاً ورواغا كثيراً لتأجيلها بل لتبديدها. فحتى الحل السياسي الذي يسعى إليه الحليف الروسي لا يناسبهما، حتى لو كان أدنى من طموحات المعارضة. ذاك أن الوضع الدائم، إذا كان له أن يستقرّ في سورية، لا يمكن أن يكون في تثبيت الوضع الشاذ الذي كان قائماً حتى عشية اندلاع الانتفاضة الشعبية. ومع أنه لن يكون «حكماً انتقالياً» خالصاً وفقاً لـ «جنيف 1»، كما تتمناه المعارضة، فإنه لن يكون استمرارية لحكم الأسد وبحكومته المعدلة، والأهم أن لا مجال لاستئنافه بالبنية العسكرية - الأمنية ذاتها ولا بأشخاصها أنفسهم. بدهي أن التغيير لن يكون فورياً وفجائياً، فالأوضاع التي انتهى إليها الصراع المسلح تعصى على الانضباط السريع، بل ينبغي إعطاء «المجلس العسكري» الفرصة الكاملة والوقت الطبيعي لإعادة هيكلة الجيش والأمن.
لا يعني ذلك أن حلاً كهذا بات جاهزاً، أو أن هذا ما سيتفق عليه في مفاوضات جنيف. ولعل التنبؤ المبكر لوزير الخارجية الفرنسي بأن «جنيف المقبلة» سيكون «محبطاً»، يعكس نظرة مختلف العواصم المعنية إلى المفاوضات المزمعة، إذ تعتبر أن شيئاً جوهرياً لم يتغيّر، حتى بعد معركة حلب، فبعد فوات الأوان لا يُعول على النظام لاستدراك ما لم يدركه في الأسابيع الأولى للأزمة، وبعد منع المعارضة من تحقيق أهدافها عسكرياً لا يمكن حرمانها من المطالبة بحقوقها البدهية. لكن التعارض العميق بين توقّعات المعارضة والنظام يمنع «صيغة جنيف» من إنتاج حلّ، لذلك يبدو أن موسكو، وواشنطن على الأرجح، باتتا تعتبران أن جولة جديدة في جنيف لن تجدي، بالتالي قد يميل الأميركيون إلى صيغة «صلح العسكريين» التي يحاول الروس بلورتها بالتركيز (مع الأتراك) على الفصائل المعارضة، لكنهم لن يفعّلوها إلا بعد أن تظهر «جنيف السياسيين» بأنها عديمة الفائدة، ومن الجانبين.
لعل مجرّد وجود الفصائل المسلحة في الصورة، وفي مختلف السيناريوات، إلى جانب الجيش الذي صار عملياً في كنف الروس، شكّل النبأ السيئ الذي حاولت طهران إبعاد شبحه على الدوام. انتهى موسم الأحلام، ولم يعد وجود الميليشيات الإيرانية سوى عنوان لمرحلة تشارف الأفول، وإذا كان رحيلها مطلباً طبيعياً للمعارضة فإن مشاعر رفضها ومقتها تتصاعد في أوساط الموالين وتنسحب على الأسد وأعوانه، ولم يعودوا يخفونها، ففي حماية الروس لا خوف على النظام ولا حاجة إلى وجود الإيرانيين. ومن دون أي عمل عدائي ضدهم بات هؤلاء مدركين أن مستقبلهم لم يعد مضموناً في سورية، بل إنهم يلحّون على الروس لنيل بعض الضمانات لـ «مصالح» يعتبرونها بالغة الحيوية، كالحفاظ على المنطقة الحدودية الوسطى مع لبنان تحت سيطرة «حزب الله» بذريعة أمنه في مواجهة إسرائيل. وهي المنطقة التي دعا «الحزب» النازحين منها إلى العودة إليها بضمانته، إلا أنهم يطالبون بضمانات روسية وأوروبية وأممية.
يبقى أن إيران ستواصل الرهان على فشل التقارب الأميركي - الروسي، باعتبار أنه سيبقي روسيا في حاجة موقتة إلى خدماتها في معالجة بعض جوانب الوضع السوري. إذ كان الطموح الإيراني أن تغدو ميليشياته شريكاً لا غنى عنه في الحرب على «داعش»، بل إنها راهنت على دور كهذا لإنجاز الربط الاستراتيجي من طهران إلى بغداد فدمشق فبيروت. لكن المجريات الراهنة لهذه الحرب تعطي تركيا دوراً أكبر، بسبب موقعها الحدودي ووجود قوات برية سورية لديها، ما لا تستطيع الدولتان الكبريان تجاهله. ثم إن أميركا ترامب لا تبدو مستعدة للاستعانة بإيران حتى في المواجهة مع «داعش» بل تعتبرها راعية للإرهاب. وفي أي حال باتت كل الأطراف المعنية بإضعاف «داعش» أو القضاء عليه تعتبر أن إيران بدت في الأعوام الأخيرة الطرف الوحيد المستفيد من ظهور هذا التنظيم وانتشاره.
دخل النزاع المسلّح في سورية مرحلته الأخيرة، بعدما بدا لأمدٍ طويل وكأنه دخل نفقاً لا نهاية له. صحيح أنه لا يزال أمامه شوط ليقطع: فالقتال سيستمر على الأرجح لعام أو عامين في أنحاء مختلفة من البلاد (وستتواصل الحرب ولا شك ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»)، وستمضي قدُماً أيضاً المناورات السياسية المعقّدة التي يصعب التنبؤ بها بين القوى الخارجية، ويبقى الحل الرسمي المتفاوض عليه بعيد المنال، لكن الصحيح أيضاً أن التحوّل في الموقف التركي منذ الصيف الفائت، وضع المعارضة السورية بثبات على مسارٍ لم يعد بالإمكان قلب وجهته، حتى ولو تغيرّت السياسة التركية مجدداً. فما يلوح في الأفق الآن أمام المعارضة السورية هو خيار صعب يتأرجح بين الدمار، أو الانخراط في هيئات الدولة المركزية التي لا يزال يرئسها بشار الأسد.
يشــي المساران الديبلوماسيان الحاليان بمسار الأحداث في الآتي من الأيام، حيث تتركّز الأنظار على المحادثات المُزمع إجراؤها في جنيف في وقت لاحق من هـــذا الشهر، لكنها في الواقع لم تكن أبداً هي التي ستُشكّل يوماً المدخل إلى الحل السياسي. وأكد وزير الخارجية الأميركي جون كيري، قبل إخلاء منصبه، أن العملية التفاوضية التي دشّنتها روسيا وتركيا في الآستانة، عاصمة كازاخستان، في 23 كانون الثاني(يناير)، يجـــب ألا تحـــل مكان جنيف، وهو الموقف نفسه الذي ردّده أيضاً المبعوث الدولي الخاص ستيفان دي ميستورا الذي أضـــاف: «إننا نحن (الأمم المتحدة) الطرف الفاعل الرئيس في ما يتعـلّق بالعمليـــة السياسية». بيد أن كل هذا لم يكن أكثر مــن مجرد تمنيـــات، إذ ليـــس فـــي مقدور أي من القوى الخارجية حمل الأسد على القبول بتقاسم حقيقي للسلطة.
علاوة على ذلك، فإن التركيز على مسألة ترسيخ وقف إطلاق النار هو ما يضفي الأهمية على مسار الآستانة. وقد حاجج الكثيرون، عن حق، أن الراعيين الروسي والتركي لم ولن يتمكّنا من تجسير الهوة بين المعارضة والحكومة السوريتين في الأمد المنظور. بيد أن هؤلاء يخطئون الهدف: فمحادثات الآستانة تدل على مسار جديد في النزاع، خلقه التحوّل المفاجئ في السياسة التركية منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز(يوليو) الماضي التي دفعت الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تنفيس الأزمات الخارجية من أجل التركيز على التحديات الداخلية. وقد عنى ذلك التخلّي عن السعي إلى الإطاحة بالأسد، على رغم مواصلة الحديث العلني عن ذلك، كما عنى تطويع المعارضة السورية إلى احتياجات السياسة الداخلية والخارجية التركية.
أما بالنسبة إلى المعارضة، فإن درب الآستانة يقـود حكـماً إلى المجابهة الشاملة في شمــال غربــي ســوريـة مع المعسـكر الجهـــادي الذي التأم شـــمله أخيراً تحت راية «هيئة تحـرير الشام»، وهــو الإطـــار الشامل الجديد الذي تُهمين عليــه «جبهة فتح الشام» المعروفة سابقاً بجبهة النصرة المـــرتبطة بتنظيم القاعدة. ويعتقد مراقبون مُطلعون أن ميـــزان القوى الميدانية قد انقلب لمصلحة هذا الطرف الأخـــير، وأن الهزيمة ستحصر المعارضة في جيب صغير نسبـــياً في محاذاة الحدود التركية والكانتون الكردي في عفــــرين. هذا إضافة إلى أن رفض الانسياق إلى مواجهة مـــع هيئة تحرير الشام، سيحرم المعارضة من الحماية والدعم من قبل تركيا والولايات المتحدة ويجعلها هدفاً سهلاً لنظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين.
على رغم قتامة هذا المنظور، فإن ما قد يتبعه لاحقاً سيكون أشد مضاضة بكثير. إذ إن مسار الآستانة يتطوّر على شكل خطوات قتالية يلتزم الأفرقاء بتنفيذ كلٍ منها، فيمضون مع كل خطوة على مسار يصعب باستمرار التراجع أو التخلّي عنه. فإذا نجحت المعارضة السورية باجتياز الامتحان الأول، أي المواجهة مع المعسكر الجهادي، ستتعرّض إلى ضغوط متصاعدة لتتخذ الخطوات التالية على المسار نفسه، ما سيؤدي بالضرورة إلى إعادة الانخراط في مؤسسات الدولة التي يرأسها الأسد. هذه هي المحصلة الحقيقية للتحوّل وإعادة الاصطفاف في السياسة التركية، سواء كان ذلك مقصوداً أم لا.
لقد باتت معالم الخطوتين التاليتين واضحة للعيان. فهناك أولاً فكرة الاعتراف بمجلس محلي تقوده المعارضة في محافظة إدلب، بدعم تركي، تقبل روسيا التعامل معه بعد أن كانت قد أبدت اهتمامها باللامركزية كأحد مفاتيح الحل السياسي، عبر إعداد مقترح بهذا الشأن في آذار(مارس) 2016. كما أعربت روسيا منذ إطلاق مسار الآستانة عن استعدادها للتعامل مع المجالس المحلية في مناطق سيطرة المعارضة، بهدف تسهيل وصول المساعدات الإنسانية وإطلاق عملية إعادة بناء الاقتصاد.
يشكّل إنشاء الآليات المشتركة عنصراً أساسياً في المقاربة الروسية التي يمكن الأسد قبولها. فهو يعارض بوضوح مبدأ المشاركة في السلطة لما في ذلك من اعتراف بالمعارضة كطرف شرعي له حق المطالبة بذلك، ومن تقويض لحجة النظام بخوض حرب ضروس لإحباط هذا المطلب. غير أن التعامل مع مجلس محافظة تقوده المعارضة أمر مختلف يمكن استيعابه، طالما انخرط في هيئات الحكم المحلي التابعة للدولة، ما يشكّل إقراراً بسيادة سلطة الأسد. وهذا، على أي حال، أساس المئات من اتفاقيات «المصالحة» التي سمح بموجبها النظام للأهالي المحليين الموالين للمعارضة بالاحتفاظ بدرجة من الاستقلالية الإدارية وبالحصول على بعض الخدمات العامة والتمويل.
أما الخطوة الثانية، فهي ما يشير إليها الحديث المتكرر في أوساط المعارضة عن تشكيل «جيش ثوري وطني» موحد، ما يعني التوجّه إلى مسارٍ موازٍ يوحي بانخراط مجموعات المعارضة المسلحة في شمال غربي سورية أيضاً في مؤسسات الدولة. لا بل يشي حضور مراقبين أردنيين في جولة محادثات الآستانة الثانية في 6 شباط (فبراير) باحتمال ضم المعارضة الجنوبية كذلك إلى هذا المسار. ووفق أحد ناشطي ومحللي المعارضة المخضرمين، فقد اقترحت تركيا خضوع المجموعات المسلحة إلى حكومة انتقالية تتشكّل بعد اتفاق السلام، غير أنه لم يعد ممكناً في سياق الظروف الحالية أن تقوم مثل هذه الحكومة سوى بإشراف الأسد.
لقد خلق النظام أطراً تتيح استيعاب «الجيش» الموحّد للمعارضة والسماح له ببعض الاستقلالية التنظيمية: الفيلقان الرابع والخامس التابعان للجيش واللذان تم إنشاؤهما منذ العام 2015 لاحتواء «قوات الدفاع الوطني» والميليشيات الأخرى المدعومة من النظام، إضافة إلى التشكيلات القتالية ذات المهام الخاصة. كما سمح النظام لمقاتلي المعارضة بالبقاء والاحتفاظ بأسلحتهم بعد «المصالحات» في مناطق عدة، فقد يقبل بتوسيع هذا النموذج لاحتواء تشكيلات المعارضة العسكرية الأكبر، في إطار نوع من الحرس المحلي على صعيد المحافظة حيث تتواجد. ثم أن تأسيس فرقة نظامية جديدة تضم قوات النظام المتفرّقة في مدينة حلب في كانون الثاني (يناير)، يدل على احتمال إضافي هو تحويل قوات المعارضة في الشمال الغربي والجنوب إلى وحدات نظامية أخرى مرتبطة بأماكن جغرافية محددة.
قد تختلف تفاصيل هذا المسار العام، وهناك عوامل كثيرة قد تعرقله. فالمعارضة المسلحة قد تخسر المواجهة مع هيئة تحرير الشام، وقد ينتهز النظام ذلك الاقتتال ليتقدم داخل محافظة إدلب. وهذا سيشكّل امتحاناً قاسياً للتفاهم بين روسيا وتركيا. لكن حتى في أحسن الأحوال، ستجد المعارضة نفسها منحصرة في فضاء سياسي وعسكري وجغرافي متضائل باستمرار، وتخسر المزيد من النفوذ والقدرة على ممارسة الضغط المضاد، من دون مكاسب أو نتائج مضمونة في المقابل.
ربما تكون المرحلة الأخيرة من النزاع السوري مديدة، لكن خيارات المعارضة تضمحل بوتائر متسارعة. وقد سعى أحد مراكز الأبحاث المؤيدة للمعارضة إلى شد العزائم عبر التأكيد على أنه «على رغم أن التغيير أصبح معطى واقعياً في السياسة التركية، لكن لا يمكن أحداً أن يفرض على المعارضة تسوية مُجحفة لا تريدها». بيد أن مركزاً آخر استنتج بواقعية أكبر أن المعارضة «باتت بالفعل مهزومة استراتيجياً».
ولعل العزاء الوحيد هو أن المعارضة السياسية العريضة، والحراك الاجتماعي القاعدي، والائتلافات العابرة للطوائف والإثنيات، ستُبث فيها الروح مجدداً فقط عند انتهاء النزاع المسلح. صحيح أنه من العسير التنبؤ حول متى قد يحدث ذلك أو حتى من الصعب ضمان حدوثه، لكنه سرعان ما يعاود الظهور بصفته الأمل الوحيد لتحقيق التغيير المستقبلي في سورية.
لم يتأخر الرئيس الأميركي دونالد ترمب في تطبيق وعوده الانتخابية، ففي أقل من شهرين على تسلمه السلطة تمكن من تحويل المسألة الإيرانية بشقيها النووي والإقليمي إلى قضية دولية، فأصبح الموقف من إيران مفتاحًا للتقارب مع واشنطن أو سببًا للتباين معها. هذه المعادلة تجعل موسكو التي راهنت على فوز ترمب في السباق الرئاسي من أجل انتزاع اعتراف أميركي بنفوذها ومصالحها في المحافل الدولية أمام معادلة صعبة لا يمكن الخروج منها من دون خسائر، حيث أصبح مستقبل التعاون الأميركي مع روسيا في القضايا الكبرى، وخصوصا الإرهاب، مرتبطا بتخلي موسكو عن تحالفها مع طهران.
ففي الوقت الذي تلمح إدارة ترمب إلى إمكانية المقايضة مع موسكو على سوريا شريطة أن تقوم موسكو بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا، يصل التعاون الروسي الإيراني في الشرق الأوسط إلى مرحلة تاريخية من التطابق في المواقف، خصوصا في الأزمة السورية، فموسكو التي أمنت طوال 6 سنوات التغطية الدولية للوجود الإيراني في سوريا، وتتعاون اليوم علنًا مع الميليشيات الطائفية الإيرانية التي تحارب إلى جانب الأسد، غير مستعدة للتخلي عن هذه المعادلة التي تؤمن لها كثيرًا من الأرباح السياسية والاستراتيجية بأقل تكلفة، وهي متمسكة بهذه المعادلة على الرغم من التباين في المواقف بين طهران وموسكو الذي ظهر قبل وبعد مؤتمر آستانة، إلا أنه لم يصل إلى مستوى التوتر أو الخلاف العلني. وقد حسم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الجدل عندما دعا الولايات المتحدة إلى الاعتراف بدور «حزب الله» «في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي»، وأضاف: «إنه إذا كانت أولوية الرئيس الأميركي دونالد ترمب هي محاربة الإرهاب، فإنه من الضروري الاعتراف بما قامت به القوات الجوية الروسية، وكذلك فصائل أخرى تدعمها إيران، بما فيها (حزب الله)، ولذلك سيكون من الضروري تحديد الأولويات».
ففي الوقت الذي تحشد فيه إدارة ترمب العالم من أجل اعتبار إيران أحد أكبر مصادر الإرهاب، تدعو موسكو إلى إعادة النظر في الشكوك حول إيران بخصوص دعمها للإرهاب، وتطالب موسكو بانضمامها إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب.
رغبة الرئيس الأميركي ترمب في إعادة تشكيل العلاقة مع موسكو تصطدم بحواجز ضخمة داخل إدارة البيت الأبيض ومراكز صناعة القرار الأميركي، فإدارة ترمب تنقسم إلى جناحين: واحد يرفض إعطاء موسكو دور الشريك، ويضم نائب الرئيس ووزير الدفاع ومدير المخابرات ومدير الأمن الوطني، يقابلهم دعاة التعاون الوثيق مع موسكو في القضايا الدولية، والذين يرون إمكانية فك ارتباطها مع طهران إذا حصلت على ضمانات حول مصالحها وأمنها القومي في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، ويمثل هذا التيار كبير مستشاري الرئيس، إضافة إلى وزير خارجيته، ومستشار الأمن القومي الذي قد يتسبب بمشكلة لترمب بعد أن نقلت صحيفتا واشنطن بوست ونيوريورك تايمز عن مسؤولين بارزين في واشنطن أن أجهزة الاستخبارات الأميركية استمعت إلى محادثات جرت بينه وبين السفير الروسي لدى واشنطن، وتبيّن أن الجنرال مايكل فلين نصح السفير الروسي بعدم إبداء ردة فعل على العقوبات التي فرضتها إدارة أوباما ووعده بأن الرئيس ترمب سيتمكن من مراجعتها، وهو أمر قد يفقده موقعه ويشكل انتكاسة مبكرة للمدافعين عن الشراكة مع موسكو على حساب مصالح واشنطن التقليدية في أوروبا والشرق الأوسط.(استقال فلين من منصبه أمس على هذه الخلفية - المحرر).
في المقابل فإن قائمة المطالب الروسية من الولايات المتحدة الأميركية مقابل تخليها عن إيران تتجاوز قدرة الإدارة الأميركية على تلبيتها، وعلى الرغم من رغبتها في إنشاء تحالف استراتيجي مع موسكو فإن نواياها ستصطدم بوقائع المصالح الدولية التي سوف تجبرها على الالتزام بالأمن الجماعي الأوروبي، الذي يرى في موسكو تهديدًا دائمًا له. كما أن الكرملين يدرك حجم الكلفة الباهظة لأي مواجهة مع إيران في سوريا، وهو يعترف بالتفوق الإيراني على الأرض الذي استطاع حماية النظام وتأمينه، لذلك تبدو فكرة تخليه عن إيران في سوريا شبه مستحيلة، وهو أميل إلى التعايش مع هذا النفوذ وتنظيمه، بما فيه مصلحة للطرفين.
باستثناء التصريحات المبهمة لترمب عن أهمية التقارب مع روسيا، لا توجد عوامل تعزز الثقة بين البيت الأبيض والكرملين، الذي لا يستبعد فكرة أن استفراد إيران مقدمة لاستفراده في المستقبل، لذلك تسع دبلوماسيته إلى القيام بمناورة سياسية وتكتيكية للدفاع المدروس والمحدود عنها، أو إقناعها لتقديم تنازلات مؤلمة في عدة ملفات من أجل سلامة نظامها، خصوصًا أن قيصر الكرملين يعلم خطورة استخدام الفيتو بوجه ترمب، خاصة أن حقل الاختبار الإيراني سيعيد تشكيل تحالفات المنطقة ويفرض وقائع جيو - سياسية جديدة على المنطقة والعالم.
لا يستطيع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قول الكلام الذي قاله عن أن سلاح “حزب اللّه” “لا يتناقض مع مشروع الدولة” مبررا وجود هذا السلاح بوجود احتلال إسرائيلي. هذا عائد أساسا إلى أن الأحداث تجاوزت سلاح “حزب الله”. لم يعد مطروحا الكلام العام عن دور هذا السلاح في التصدي لإسرائيل، اللهمّ إلا إذا كان مطلوبا افتعال حرب جديدة تعود بالويلات على لبنان كما حصل تماما صيف العام 2006.
أثار الكلام الصادر عن رئيس الجمهورية ردود فعل ذهبت إلى حد وصفه بأنّه يوفّر غطاء لسلاح غير شرعي ويشكك بقدرات الجيش اللبناني في وقت تبذل جهود لإعادة الحياة إلى الهبة السعودية للمؤسسة العسكرية اللبنانية.
يحتاج هذا التوصيف الدقيق إلى توضيح. فحوى التوضيح أن الربط بين سلاح “حزب الله” وإسرائيل هو ربط في غير محلّه. إنّه ربط لا يقدّم ولا يؤخّر إذا أخذنا في الاعتبار الوظيفة الدائمة لـ“حزب الله” بصفة كونه لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، وهي وظيفة تخدم دولة معيّنة اسمها “الجمهورية الإسلامية في إيران” تمتلك مشروعا خاصا بها قائما على الاستثمار في كلّ ما من شأنه إثارة الغرائز المذهبية.
أكثر من ذلك، إن هذا الربط يظلّ خارج الموضوع المطروح بحدّة في لبنان والمنطقة، أي موضوع الدور الإيراني وخطورته. هذا عائد إلى أسباب عدّة. في مقدّمة هذه الأسباب أن إسرائيل، من وجهة نظر الأمم المتحدة، لا تحتلّ أرضا لبنانية. كانت الأمم المتحدة حاسمة وحازمة عندما أعلنت في العام 2000، أن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان هو تنفيذ للقرار الرقم 425 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في العام 1978. أما بالنسبة إلى مزارع شبعا التي لا تزال محتلة، وهي أرض لبنانية، فينطبق عليها القرار 242 الذي ينطبق أيضا على هضبة الجولان السورية المحتلّة في العام 1967.
ليس سرّا أن سوريا احتلت مزارع شبعا في العام 1956 إبان العدوان الثلاثي على مصر، وذلك بحجة أن على الجيش السوري شغل مواقع في شبعا تساعده في المواجهة في حال حصول عدوان إسرائيلي. هذا ما تؤكّده مذكرات الرئيس سامي الصلح، الذي كان يشغل في 1956 موقع رئيس الوزراء في عهد الرئيس كميل شمعون. لم يحصل هذا العدوان الإسرائيلي، لكنّ القوات السورية بقيت في مزارع شبعا التي احتلتها إسرائيل مع الجولان في حرب الأيّام الستة، عندما كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع في “سوريا – البعث” التي صارت لاحقا، بعد العام 1970 “سوريا ـ الأسد”.
رفض النظام في سوريا إلى اليوم توجيه رسالة إلى الأمم المتحدة تؤكّد أن مزارع شبعا لبنانية. لو وُجدت هذه الرسالة لكان لبنان استعاد الحجة التي تسمح له بإجبار إسرائيل على الانسحاب من تلك المنطقة التي ضمتها سوريا إليها. ولكن ما العمل عندما يكون مطلوبا خلق أعذار، ولو واهية، لتبرير بقاء سلاح “حزب الله” ذي الطابع المذهبي موجّها إلى صدور اللبنانيين بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وتنفيذ القرار 425. في الواقع، كان مطلوبا دائما سوريا وإيرانيا الربط بين الجولان ومزارع شبعا كي تبقى التجارة بهما من النوع الرائج، حتّى لو كان ذلك على حساب اللبنانيين والسوريين.
تكمن أهميّة سلاح “حزب الله” في أنّه قادر على التماهي باستمرار مع المشروع الإيراني. لم يكن هذا السلاح في يوم من الأيّام، على الرغم من وجود وجهة نظر مخالفة لدى كثيرين، في مواجهة مع إسرائيل. استخدم هذا السلاح في القضاء على أحزاب لبنانية مرتبطة باليسار تمارس المقاومة لإسرائيل. أُسكتت هذه الأحزاب باكرا قبل أن يأتي دور حركة “أمل” التي فضلت في نهاية المطاف، بعد مواجهات عنيفة سقط فيها آلاف القتلى، إيجاد صيغة تعايش مع الحزب تحت شعار ما يسمّى “الثنائية الشيعية”.
في مرحلة معيّنة، قبل الانسحاب الإسرائيلي، كان سلاح “حزب الله” الذي ورث السلاح الفلسطيني وسيلة لتحوّل الطائفة الشيعية في لبنان رهينة لدى إيران. بعد الانسحاب، صارت هناك استخدامات أخرى للسلاح في لبنان وخارج لبنان. الهدف، بكل بساطة، تحويل لبنان مستعمرة إيرانية وقاعدة تعمل منها إيران ضد دول عربية عدة، خصوصا في الخليج.
من يعرف ولو القليل عن اليمن والتطورات فيه، يدرك إلى أيّ حد هناك تورّط لـ”حزب الله” في دعم الحوثيين (أنصار الله) منذ ما يزيد على خمس عشرة سنة. لا حاجة إلى الدخول في التفاصيل اليمنية، بما في ذلك تدريب الحوثيين على شنّ عمليات عسكرية، وهو تدريب حصل في اليمن وخارجه. ولا حاجة إلى الإشارة إلى العلاقة بين “حزب الله” وما يدور في البحرين أو السعودية، وحتّى الأردن في مرحلة ما. هذه العلاقة حالت دون حضور الملك عبدالله الثاني القمّة العربية التي انعقدت في بيروت في آذار ـ مارس من العام 2002. تجاوز دور “حزب الله” الحدود اللبنانية منذ زمن بعيد. إنّه شريك في الحرب على الشعب السوري. لعب سلاحه دورا مهمّا في تهجير سوريين من أرضهم، وذلك في وقت هناك تنسيق تام في شأن سوريا بين روسيا وإسرائيل!
في الإمكان الاسترسال في الكلام عن أدوار لـ“حزب اللّه” في غير مكان، بما في ذلك السودان، كما يمكن العودة إلى دوره في مصر في عهد الرئيس حسني مبارك وتهريب السلاح إلى غزّة ومحاولة تهريب السلاح إلى الضفّة الغربية لمصلحة “حماس” وأطراف معادية للسلطة الوطنية الفلسطينية.
على هامش ذلك كلّه، لا يمكن تجاهل دور “حزب الله” في العراق، من زاوية ميليشياوية ومذهبية، وحجم العداء لكلّ ما يربط بين العرب ولبنان، خصوصا أهل الخليج الذين قرّر الحزب جعلهم يزيلون لبنان من خارطة البلدان التي يزورونها. لكنّ ما هناك حاجة إلى التذكير به دائما هو أنّ سلاح “حزب الله” استخدم في لبنان في مناسبات عدّة، وذلك على الصعيد الداخلي. من حماية المتّهمين باغتيال رفيق الحريري ورفاقه، وصولا إلى منع مجلس النواب من انتخاب رئيس للجمهورية طوال سنتين ونصف سنة، مرورا بغزوة بيروت والجبل في أيّار ـ مايو 2008.
هناك آلاف الأمثلة على الأدوار التي لعبها سلاح “حزب الله” لمصلحة نشر ثقافة الموت في لبنان. كذلك يظل مفهوما ومفيدا التذكير بأنّ سلاح “حزب الله” خرق للقرارين 1559 و1701 الصادرين عن مجلس الأمن. وافق “حزب الله” على كلّ حرف في القرار 1701 الذي أوقف “الأعمال العدائية” في صيف العام 2006 نتيجة حرب افتعلها “حزب الله” مع إسرائيل ولم يعد قادرا على الذهاب إلى النهاية، بل حوّلها إلى انتصار على لبنان. لا يزال لبنان يدفع إلى اليوم فواتير تلك الحرب، بما في ذلك فواتير الدور الذي يلعبه السلاح غير الشرعي داخل أراضيه وخارجها، والذي يهدّد كلّ مؤسسة من مؤسساته الوطنية، بما فيها الجيش وقوى الأمن.
عاد أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، الأسبوع الجاري، إلى ممارسة هوايته المفضلة في إلقاء الخطب "الحماسية" التي يحاول من خلالها تحقيق أغراض مختلفة، مثل إيصال رسائل من "السادة" في إيران إلى العالم، أو استنفار جمهوره كلما شعر ببرود "همّته"، أو التذكير بما كادوا ينسونه، وهو أنه ما زال "سيد المقاومة"، وإن اختلفت ساحاتها. استنفد نصر الله كل هذه الأغراض تقريباً، في كلمةٍ تأبينيةٍ أخيرةٍ، استغلها لتحذير الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من المسّ "بالسادة" في طهران، والتذكير "بالانتصارات" التي تحقّقها "المقاومة" في سورية والعراق واليمن، بعد أن باتت الطريق إلى القدس، لأسباب فنية يضيق المجال لشرحها، أطول مما كانت عليه في أي وقت مضى، إلى درجة أن نصر الله غفل حتى عن ذكر إسرائيل والصراع "المقدّس" معها.
لا يمكن لأي تحليلٍ رصينٍ أن يزعم بعدم وجود علاقة عدائية بين حزب الله وإسرائيل، أو أن إسرائيل لا تتحيّن الفرص للانقضاض على الحزب، وإضعاف قدراته أنّى استطاعت ذلك، بدليل غاراتها التي باتت شبه أسبوعية على مواقع الحزب وقوافله ومخازن أسلحته في سورية. لكن أي تحليل رصين لا يمكنه، في المقابل، أن يغفل كيف أن الصراع السوري كشف بجلاء أن أولوية حزب الله لم تكن يوماً في مقارعة إسرائيل، أو دعم مقاومة فلسطين، وأن هذه لم تكن سوى أداة أو وسيلة للتعمية على الهدف الاستراتيجي الأعلى للحزب، ومن ورائه "السادة" في طهران، وهو هدف طائفي بامتياز، يمكن اختصاره بتمكين إيران، بما تمثله قوميةً ومذهباً، وإنهاء قرون من حكم العرب المنطقة، بما يمثلونه قومية ومذهباً.
استدعاء التدخل العسكري الروسي في سورية، وتحول حزب الله وغيره من مليشيات إيرانية إلى قوة برية تعمل بخدمة سلاح الجو الروسي، قد قضى عملياً ونهائياً على منطوق الصراع مع إسرائيل واستخداماته الأداتية، حيث دفعت أولويات الحزب وأجندته الطائفية إلى تجاهل طبيعة العلاقة التي تربط روسيا بإسرائيل، وجعلت منه، في واقع الأمر، حليفاً لحليف عدوه المزعوم.
لا يحتاج حزب الله إلى من يكشف له عن طبيعة العلاقة التي تربط حليفه الروسي "بعدوه" الإسرائيلي، فهي مكشوفة، وليس فيها أسرار كثيرة، فقد كانت إسرائيل الوحيدة من بين حلفاء واشنطن جميعاً التي رفضت الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا بعد ضمها القرم، لا بل توثقت العلاقات الروسية - الإسرائيلية أكثر بعد التدخل الروسي في سورية، باعتبار أن هذا التدخل الذي قام على خلفية تحالف روسي - إيراني لإنقاذ النظام السوري، يخدم مصالح إسرائيل بطريقتين: الأولى لأنه موجه ضد التنظيمات الإسلامية السنية المتشددة، والثاني لأن هذا التحالف الروسي - الإيراني يجعل لروسيا دالةً أكبر على إيران وحزب الله، وينهي أي إمكانيةٍ لأن تتحوّل سورية أو لبنان قاعدة لهجمات ضد إسرائيل. فوق ذلك، تدرس إسرائيل الآن عرضاً لإنشاء شراكةٍ مع شركة غاز بروم الروسية لاستغلال حقل ليفياثان المشترك بين دول شرق المتوسط (تركيا وسورية ولبنان وإسرائيل وقبرص)، حيث تسعى روسيا إلى استغلال علاقاتها الجيدة مع هؤلاء لإنشاء كونسورتيوم بقيادتها، خصوصاً بعد أن تحولت فاعلاً رئيساً في الشأن السوري، واللبناني أيضاً، حيث لعبت موسكو دوراً رئيسياً في إيصال حليف حزب الله الجنرال ميشال عون إلى الحكم.
في عام 1986 اهتزت إدارة الرئيس رونالد ريغان على وقع فضيحة إيران - كونترا، والتي قام بموجبها مستشار الأمن القومي في ذلك الوقت، روبرت ماكفارلن، بتدبير الالتفاف على حظر الكونغرس تقديم معونات مالية لجماعة المعارضة الرئيسة (كونترا) التي كانت تقاتل الحكومة اليسارية في نيكاراغوا من خلال الإيعاز لإسرائيل ببيع أسلحة أميركية لإيران التي كانت في حربٍ مع العراق، في مقابل تحويلها ثمن هذه الأسلحة لكونترا. لم تتعاف إدارة ريغان أبداً من هذه الفضيحة، أما في إيران فلم يظهر ما يشير إلى وجود مشكلة، طالما أن الغاية كانت تتمثل في هزيمة العراق، كما تتمثل اليوم في هزيمة الشعب السوري، بما يرمز إليه قومياً ومذهبياً. ترك العرب، بتخليهم عن القضية الفلسطينية، الباب مشرعاً أمام إيران وحلفائها، لاستخدامها أداة تحاربهم بها والتعمية على حقيقة مقاصدها الطائفية، وعليهم الآن أن يستغلوا فرصة انكشاف الأجندة الإيرانية لتخليصها من هذه الأداة، عبر العودة إلى احتضان القضية الفلسطينية، والتي هي مسؤولية عربية أولاً وأخيراً.