لنفترض أن هناك ضغوطاً سياسية أو عسكرية نجحت في إخراج روسيا وأتباعها من سورية، ولنفترض أن الدول التي مارست الضغوط السياسية أو دعمت الضغوط العسكرية هي من تولت رعاية المكوّنات السورية (السياسية والمسلحة) بعد خروج الروس! ما هو السيناريو المتوقع للمستقبل السوري؟
هل ستتحول سورية إلى واحة سلام؟ هل سيرمي الجميع السلاح ومخازن السلاح ويذهب مباشرة إلى قوائم الانتخابات وصناديق الاقتراع؟ هل ستنعم البلاد بحكم ديموقراطي يُنسي أهلها عذابات السنوات الست الأخيرة، وإحباطات العقود الخمسة الماضية؟
التاريخ لا يتكرر، لكنه ينعطف المنعطفات نفسها بين وقت وآخر، فما هو يا ترى «المنعطف المكرر» الذي قد يمر به تاريخ سورية مستقبلاً؟
أفغانستان، الدولة الآسيوية المقفلة فقيرة الموارد، دخلها السوفيات عام 1979 داعمين للنظام الموالي لهم في كابول، وخرجوا منها عام 1989 بضغوط سياسية دولية وضغوط جماعات مسلحة محلية بدعم من أميركا ودول أخرى. دخلوها بحجة حماية نظام وطني في نظرهم، عميل في نظر الأفغان، وخرجوا منها لحماية نظامهم في موسكو، الذي بدأت تظهر عليه التصدعات. عقد كامل وهم على التراب الأفغاني، فماذا كانت النتيجة؟
خلال عشر سنوات 1979-1989 تغيّرت طبيعة الشخصية الأفغانية. وتخلى المجتمع المحلي عن ازدهاره وتنوعه وفنونه وثقافاته المتعددة و (تشككه الإبداعي). تخلى عن ألوانه وراح يسير بخطى (الجاهل الذي يؤكد) إلى اللونين الأبيض والأسود. انقلبت الحال الأفغانية رأساً على عقب، وذهبت الأرض المقفلة قبل 1979 إلى سجلات التاريخ، وخُلقت أرض جديدة بمزايا وصفات جديدة!
قد يسأل قارئ: هل هذا التغيير ضد مسار الزمن؟ هل هو حال معزولة عن «علم اجتماع الحروب» و «ثقافة الاضطرابات المزمنة»؟ الجواب بالطبع لا، فما حدث في أفغانستان أمر متوقع، لكن السؤال المقابل لهذا الجواب هو هل نجحت أميركا في إعادة الشعب الأفغاني إلى طبيعته الأولى وساعدت في نمائه وازدهاره من جديد وحوت حيرته وضياعه بعد حروب السنوات الـ10؟ هل ساهم المنتصر على الأرض في ترميم ما خلفه انتصاره؟ هل مارست دورها الأخلاقي الذي جاءت من أجله كما أدعت؟
صحيح أن أميركا ومن خلفها العديد من دول العالم سهامت في إخراج السوفيات من أفغانستان لكنها إثر ذلك تركته وحيداً في مواجهة مصيره الأسود! سحبت كبريائها وغرورها من المنطقة وذهبت إلى مناطق أخرى في العالم! كان همها الرئيس تفويت الفرصة على السوفيات في الاستفادة من موقع قدم في آسيا الوسطى، وتحقق لها ما أرادت ثم أدارت ظهرها للمحرومين والفقراء والبائسين على الأرض، ما أنتج حرباً أهلية ما زالت تشتعل حتى اليوم!
خرج السوفيات مهزومين على وقع طبول انتصار أميركي، ودخلت أفغانستان من ذلك الحين في دوامة لا تنتهي.
على طرف الصدفة التاريخية المقابلة، تعيش سورية اليوم تحت رعاية القيصر الروسي غير المباشرة منذ الـ15 من آذار (مارس) 2011، وتحت احتلاله المباشر منذ الـ30 من أيلول (سبتمبر) 2015. جاءت القوات الروسية لدعم النظام الموالي لها في دمشق، متحدية الشعب السوري أولاً، ومنظمات العالم الأممية وغير الأممية ثانياً، وعدداً كبيراً من دول العالم على رأسها أميركا ثالثاً. وبقيت منذ ذلك الحين متحكمة وحدها على الأرض السورية، فهل من الحكمة في هذا الوقت أو المستقبل القريب أن يتم الضغط على روسيا عبر قنوات عدة للانسحاب من سورية في وجود هذه القوى العبثية والمتضادة على الأرض أم أن الواقع السياسي يفرض على المحبين لسورية والداعمين وحدتها وصمودها أن يعيدوا استذكار التاريخ الأفغاني القريب؟
روسيا ستخرج عاجلاً أم آجلاً. هذه مسألة منتهية، ويبقى على القوى الإقليمية في المنطقة المعنية بعذابات الشعب السوري والصديقة للكرملين أن تضغط من أجل تأمين خروج ناجح للروس يختلف تماماً عن طريقة خروج السوفيات من أفغانستان. لا بد من أن يخرجوا بطريقة تُبعد أميركا تماماً من المشهد أولاً، وُتحصّن الشعب السوري ضد الانزلاق في فوضى الفراغ الأمني المفاجئ ثانياً!
في الحال السورية لا تُمكن القوتين العظميين أن توجدا حلاً مشتركاً واحداً. فعلى رغم أن الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب يقول في كل سانحة إن علاقته جيدة بقيصر روسيا فلاديمير بوتين، وعلى رغم الإشارات الديبلوماسية التي ترشح بين حين وآخر بين البلدين بإمكان الاتفاق حول الملف السوري، إلا أنه لا أحد على هذه الأرض يؤمن بإمكان حدوث واستمرار الشراكة الروسية الأميركية للأبد. هذا أمر يخالف السنن الكونية ويتعارض مع نظريات توازن القوى عبر التاريخ.
إما أن تخضع روسيا لأميركا أو أميركا لروسيا ويعيش العالم في قطبية واحدة، وإما أن تتضاد القوتان العظميان لتوازنا روح العالم، وإما أن تميل روسيا باتجاه أميركا لتوازن الدولتان وجود الوحش الصيني في الطرف المقابل، وهذا أمر مستبعد في الوقت الحالي. أما أن تتفق الدولتان العظميان في مثل هذه الظروف التي نعيشها كما يقول ترامب فهذا أمر مستحيل، وسيخضع للاختبار قريباً... ويفشل!
ستعود أميركا بعد أشهر قليلة وربما أسابيع لمناكفة روسيا في المنطقة والالتفاف من جديد حول القوى الإقليمية لتأمين خروج روسي ذي طابع سوفياتي، ثم ستدير ظهرها من جديد للمنطقة وتبحث عن صراعات أخرى جديدة في العالم من أجل إدارتها وصرف أرباحها في العمق الأميركي.
اجتماع آستانة كان فاتحة الحلول، وبقي أن يصنع محبو سورية وأصدقاؤها أدوات ضغط فاعلة تجبر الروس على فرض حكومة سورية جديدة مقبولة شعبياً، وتولّي رعايتها وتأمين حضورها محلياً وأممياً ومحاربة أعدائها في الداخل حتى القضاء عليهم وإعادة السلم من جديد بغطاء رعوي دولي.
ليذهب بشار الأسد أولاً (هذه مسألة غير قابلة للمزايدة) ولتبقى روسيا في «حال انتداب» لأجل مسمى ثانياً، ثم ليخرج بعد ذلك القيصر بعد أن يحقق مطلبين مهمين: إبعاد الأميركي وتأمين الحكومة الجديدة ضد منزلقات الحرب الأهلية!
هل هذا هو الحل الأكثر صحة والأكرم أخلاقاً؟ لا... لكنه الحل الأمثل.
لم تكن للنظام السوري شرعية من أيّ نوع في أيّ يوم من الأيّام. هذا ما يفسّر وصول سوريا إلى ما وصلت إليه، وتحولها إلى منطقة نفوذ يتقاسمها الروسي والإيراني والتركي والإسرائيلي في ظلّ لامبالاة أميركية وأوروبية. استمرّ النظام الذي يُعتبر تتمة لانقلاب عسكري قضى في الثامن من آذار – مارس 1963 على التجربة الديمقراطية الناشئة والمحاولة الخجولة للعودة إلى الحياة المدنية جاثما على صدور السوريين منذ العام 1970.
استطاع النظام السوري في كلّ مرحلة من المراحل البناء على حدث ما أو مجزرة معيّنة أو علاقة مع هذه القوة الأجنبية أو تلك، كي يبقى في السلطة معتمدا قبل أي شيء آخر على العصب الطائفي. هذا العصب يبقى العمود الفقري للنظام الذي تأسس فعليا في شباط – فبراير 1966، تاريخ انتقال الحكم الذي في أساسه انقلاب عسكري إلى الضباط العلويين. قام النظام في نهاية المطاف على سلسلة من الشرعيات المزّيفة ترافقت مع إحكام الطائفة، ثمّ العائلة، سيطرتها على البلد وعلى مواطنيه استنادا إلى ثقافة قائمة على إلغاء الآخر ولا شيء آخر غير ذلك.
تمر هذه الأيّام الذكرى الخامسة والثلاثين لمجزرة حماة التي ارتكبها النظام السوري في شباط – فبراير من العام 1982. لا أرقام نهائية حتى اليوم لحجم المأساة التي بنى عليها حافظ الأسد جزءا من “شرعيته”. المتداول في أوساط المطلعين أن عدد الضحايا بلغ نحو أربعين ألفا، وأن عائلات بكاملها أُبيدت عن بكرة أبيها، كما أنّ قسما كبيرا من المدينة دمّر.
ما زالت حماة تقاوم حتّى اليوم على الرغم من كلّ المحاولات التي بذلها النظام وما زال يبذلها للتخلّص من المدن السورية الكبرى أو تدجينها وتغيير طبيعة تركيبتها السكّانية كما يحصل حاليا مع دمشق.
كانت مجزرة حماة من بين المحطات التي لا بدّ من التوقف عندها لفهم كيف وصلت سوريا إلى ما وصلت إليه. عندما فقد حافظ الأسد السيطرة على المدينة مطلع شباط – فبراير 1982، أيقن أن نظامه صار في خطر. لم تكن حماة وحدها التي تحرّكت في تلك الفترة. كانت هناك تحركات شعبية في مدن ومناطق مختلفة، بينها دمشق وحلب وحمص واللاذقية، على الرغم من أن العلويين باتوا يعتبرون المدينة الساحلية تحت السيطرة الكاملة إثر الإتيان بسكان من الريف إليها. لم يتردد الأسد الأب لحظة في تطويق حماة وقصفها ومحو أحياء فيها من الوجود. لا تزال آثار نحو عشرين ألفا من أهل المدينة مختفية إلى اليوم…
منذ وصوله إلى السلطة في السادس عشر من تشرين الثاني ـ نوفمبر 1970، حاول حافظ الأسد دائما الاستحصال على شرعية. كان ملفتا أنّه لم ينتخب رئيسا للجمهورية مباشرة بعد الانقلاب الذي قام به. وجد أستاذ مدرسة سنّيا من منطقة حوران يدعى أحمد الخطيب ليشغل هذا الموقع لأقلّ من ثلاثة أشهر. بعد ذلك أصبح الأسد الأب رئيسا في شباط – فبراير 1971. بين الانقلاب الذي قام به على رفاقه، وكان أبرزهم صلاح جديد، ووصوله إلى الرئاسة، راح حافظ الأسد يصلي في المساجد السنّية. لم يوجد بين السوريين من سكان المدن الكبيرة ومن التجار والمهندسين والأطباء والمحامين من يقبل شرعيته المزيّفة التي قامت على الصلاة في مساجد السنّة وعلى قمع أهل المدن والعمل على إيجاد تحالف مع سنّة الأرياف.
كانت الدفعة القويّة التي تلقاها نظام الأسد الأب في العام 1973. أشركه أنور السادات في حرب لم تكن تستهدف تحرير الجولان، بمقدار ما كانت تستهدف إيجاد شرعية لوزير الدفاع السوري، المسؤول الأول عن سقوط الهضبة الإستراتيجية في أثناء حرب العام 1967. لم يكن هذا الوزير أحدا سوى حافظ الأسد الذي خسر الجولان وظلّ يتاجر به إلى يوم وفاته.
من الدخول إلى لبنان والبقاء فيه، عسكريا وأمنيا، طوال ثلاثة عقود، مرورا بالمتاجرة بالنظام البعثي الآخر في العراق وإقناع العرب والعالم ثمّ إيران بأن لا بدّ من إيجاد توازن معه، تدبّر حافظ الأسد أموره إلى حد كبير. قبض ثمنا كبيرا لوقوفه في وجه البعث الآخر المقيم في بغداد. قبض الثمن من العرب ومن إيران خصوصا. وجد حافظ الأسد لنفسه مكانا في المنطقة العربية، خصوصا بعد إغلاق جبهة الجولان إثر اتفاق فصل القوات مع إسرائيل في 1974 وبعد المشاركة إلى جانب القوات الأميركية في حرب تحرير الكويت في مطلع 1991. كان في كلّ وقت على تناغم مع إسرائيل التي لم تكن يوما ضد بقاء جبهة جنوب لبنان مفتوحة واستمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة، وهي الحال التي اعتبرتها دائما الأنسب من أجل تحقيق أهدافها المتمثلة في خلق وقائع على الأرض.
بقيت مجزرة حماة في كلّ وقت تلاحق حافظ الأسد. لم يستطع في أيّ وقت محو ما فعله بالمدينة وأهلها من ذاكرة السوريين. بقيت حماة في الذاكرة بعد رحيل الأسد الأب وحلول ابنه مكانه. بقيت رمزا لرفض الشعب السوري الرضوخ لمشيئة النظام ووحشيته. رفضت حماة الأب وترفض الابن. أكدت في كلّ وقت أن النظام لا يمتلك أيّ شرعية، مهما قتل ودمّر وهجّر.
أن يتذكّر السوريون المدينة هذه الأيّام يعني قبل كلّ شيء أن الاستثمار في القتل لا يمكن أن يأتي بشرعية لأيّ نظام. أراد حافظ الأسد، وكان إلى جانبه وقتذاك شقيقه رفعت، تأديب السوريين مرّة أخيرة. خدمته مجزرة حماة من 1982 إلى ما بعد مماته. أبقت البركان السوري خامدا نحو ثلاثين سنة. كان على النظام أن يبحث مجددا عن شرعية ما في عهد بشّار الأسد.
كان اندلاع الثورة السورية قبل أقل بقليل من ست سنوات دليلا على أن لا جدوى من هذا البحث. هذا يفسّر إلى حدّ كبير هذا الانقلاب في الأدوار بين النظام وداعميه. في الماضي، كان النظام يبتز روسيا وقبل ذلك الاتحاد السوفياتي. كان يبتز إيران وإيران تبتزه. كان يبتز العـرب، خصوصا أهل الخليج في كلّ وقت. ما نجده الآن أن روسيا، التي تعرف قبل غيرها، أن النظام لم يعد يصلح سوى ورقة في لعبة كبيرة لم يعد له من مبرر وجود باستثناء أنّه يمكن أن يستخدم في صفقة مع الإدارة الأميركية الجديدة.
لاحقت لعنة حماة النظام طويلا. لم يستطع التخلّص منها يوما. لن يستطيع في 2017 التخلص من لعنة سوريا، بعدما صارت سوريا كلّها حماة. أراد حافظ الأسد ما حلّ بحماة أن يكون درسا للسوريين. تبيّن أن السوريين ليسوا على استعداد للتعلّم من هذا الدرس وأن 35 سنة لم تكن كافية كي يمحوا المدينة من ذاكرتهم الفردية والجماعية… لم يعطوا ولن يعطوا يوما شرعية للنظام، لا في عهد الأب ولا في عهد الابن.
تأتي نهاية حقبة أوباما بعد 8 سنوات من الحكم ومجيء الرئيس دونالد ترمب واليمين الأميركي، في ظل ازدياد موجة الاحتجاجات الشعبية في داخل إيران، وتركيز الأنظار على المعارضة الإيرانية في الداخل والخارج وأوضاعها ومشروعاتها للتغيير.
وهناك من يرى أن السبب الرئيسي في بقاء النظام ليس قوته، وإنما يكمن في ضعف المعارضة، وأنه لا يمكن تغيير النظام والحصول على الدعم الإقليمي أو الدولي للمعارضة دون تأسيس بديل حقيقي من شأنه أن يقنع المجتمع الدولي بعدم تكرار التجربة السورية.
في هذا السياق، بدأت تيارات المعارضة في الخارج، خلال الأشهر الأخيرة بنشاطات واسعة لوضع خطة شاملة ترنو إلى إيجاد ائتلاف واسع وجاد يسعى لتغير النظام.
من بين هذه التيارات هناك السار الإيراني، وبشكل خاص حزب «تودة» الشوعي الذي يحظى بأهمية كبيرة بين المعارضة، رغم أنه خسر ثقله السياسي بعد الضربة الكبيرة التي تلقاها بعد الثورة في بداية الثمانينات وانهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن هذا الحزب كما التنظيمات اليسارية الأخرى يعاني من التشتت وفقدان التنسيق، رغم المرحلة التاريخية المهمة التي تمر بها المنطقة.
وضع حزب «تودة» جميع إمكاناته لصالح تقوية النظام الجديد بعد انتصار الثورة عام 1979. وساهم هذا الحزب في مساعدة بقايا جهاز السافاك ومخابرات الجمهورية الجديدة في إنشاء ما يسمى «ساواما» وهو جهاز المخابرات والأمن الإيراني. وتتهمه بعض أطياف المعارضة بالوقوف ضد جميع القوى المناهضة للنظام، حيث أوشى بآلاف الأشخاص وأرسلهم إلى الموت، كما دعم النظام الإيراني في الحرب مع العراق إبان الثمانينات.
ولكن رغم هذا فقد قام نظام الخميني الجديد وبعد استقراره النسبي بقمع «مجاهدين خلق» والأكراد والعرب الأهوازيين والأذريين والترکمان والآخرين، وأعقب ذلك بشن حملة شاملة ضد حزب «تودة» فنفذ إعدامات جماعية لقادته واعتقل الآلاف من عناصره ومناصريه. على سبيل المثال في 27 أبريل (نيسان) 1983، تم اعتقال نحو 670 من کوادر وقادات حزب «تودة» وأعدم ما يزيد عن 30 منهم في نفس الوم، منهم ضباط وعسكريون كانوا منظمين في الخلايا العسكرية لحزب «تودة»؛ وأنا شخصيا سبق وأن التقيت ببعض منهم في سجن «إيفن» في السبعينات إبان حكم الشاه، كالسادة ذو القدر وباقر زادة وشلتوكي وغيرهم.
بعد هروب فلاديمير كوزيتشكين رئيس مكتب الاستخبارات الروسية «كي جي بي» في طهران وطلبه اللجوء من بريطانيا عام 1982، كان قد سرب قائمة بقيادات وأعضاء حزب «تودة» مما أدى إلى تفكك الحزب وإعدام قادته. كما أعدم النظام وزر الخارجية صادق قطب زادة و121 من ضباط القوة الجوية، بتهمة المشاركة في محاولة انقلاب عسكري ضد النظام، من ضمنهم صديق الطفولة في عبادان الضابط سلطاني.
رغم ذلك، فإن اليسار الإيراني لا يزال يشكل من الناحية الفكرية قوة كبرى تمتلك برنامجا سياسيا للعدالة والمساواة، وله نشاط إعلامي مؤثر. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يستطيع اليسار الإيراني (الفارسي) أن يلعب دوره ويؤدي رسالته الثورية، ويرفض الهمنة الفارسية ويعمل مع سائر قوى المعارضة، وخاصة قوى الشعوب غير الفارسية المضطهدة، لإيجاد ائتلاف واسع من أجل تغيير النظام؟
أرى أن الرؤية التي دفعت بحزب «تودة» للوقوف إلى جانب الخميني ما زالت تتحكم فيه، حيث إن هذا الحزب واليسار الإيراني عموما يدافع عن نظام بشار الأسد الدموي في سوريا، كما يفعل معظم اليسار العربي التقليدي، ويدعم التدخل الروسي في سوريا، زاعما أن النظام الديكتاتوري في دمشق هو علماني، وأنه السد المنيع في وجه «داعش» والقوى التكفيرية الأخرى. وبالنسبة لموقف التيار اليساري من إسقاط النظام الإيراني، فإن القسم الأكبر منه قد تخلى عن خطاب إسقاط النظام، وفي أحسن الأحوال انضم للتيارات المطالبة بالإصلاح، لا بل سقط قسم منه في أحضان النظام، وهذا القسم لا يدافع عن نظام بشار الأسد فحسب، وإنما أيد حتى عمليات القتل والتهجير التي نفذها الحرس الثوري الإيراني وجيش الأسد والقوات الروسية في مدينة حلب مؤخرا، بقيادة الجنرال قاسم سليماني.
ولعل أبرز الشخصيات اليسارية الإيرانية التي تحدثت عن هذه الكارثة الإنسانية وأيدت التدخل الروسي - الإيراني في سوريا، البروفسور عباس ميلاني، أستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة ستانفورد الأميركية، والذي قضيت معه شخصيا فترة السجن في طهران. والطريف أنه كان مستشارا لأوباما في الشؤون الإيرانية، وبمعية زملاء له من نفس المنهج، لعب دورا ملموسا في إقناع إدارة أوباما بالتوصل إلى اتفاق مع طهران حول أنشطتها النووية. وهؤلاء جميعا لا يزالون يعارضون إسقاط النظام الإيراني.
إن الوضع المأساوي لليسار الإيراني لا ينتهي عند هذا الحد، حيث يقف بعضهم وليس جميعهم، إلى جانب نظام الملال فيما يتعلق بمناقشة مطالب الشعوب غير الفارسية، ولا سيما حقها في تقرير مصيرها، ويتذرعون بأن تحقيق هذا الهدف سيؤدي في نهاية المطاف إلى تفكك الدولة الإيرانية ونشوب حرب عرقية داخلية.
وهذا الموقف اليساري لطالما ساعد النظام الإيراني على البقاء؛ لأن تاريخ الحركات في إيران خلال أربعة عقود مضت، أثبت أن أي قوة لا تستطيع وحدها إسقاط النظام، فلا القوى الفارسية وحدها ولا قوى الشعوب غير الفارسية بمفردها يمكنها تحقيق هذه الغاية، لذا لا بد من توحيد صفوف أطياف المعارضة كافة في جبهة واسعة، تشمل جميع الأقاليم في إيران، لتضم جميع المكونات العرقية والمذهبية، بغية تأسيس ائتلاف واسع وقوي لكي يتمكن من تغيير موازين القوى لصالح المعارضة. إن تنظيمات وأحزاب الشعوب غير الفارسية لديها تحرك جدي وفاعل، وفقا لمشروع حقيقي قابل للتنفيذ، يهدف القضاء على نظام شديد المركزية، وإيجاد نظام ديمقراطي علماني فيدرالي غير مركزي على أنقاضه، تساهم جميع الشعوب في تأسيسه وتتعايش في ظله بشكل طوعي، بعيدا عن الصراعات. وعلى قوى المعارضة الإيرانية بجميع أطيافها، بدءًا من أحزاب اليسار إلى الديمقراطيين و«مجاهدين خلق» وغيرهم، استغلال هذه الفرصة وطرح بديل حقيقي لتخلص جميع الشعوب في إيران من هذا النظام القمعي الذي يمارس الإرهاب الداخلي، ويصدر نماذج مدمرة منه إلى المنطقة والعالم بأسره. ولكن لا يمكن تحقيق هذه الغاية دون تلقي المعارضة الشاملة مساعدات إقليمية ودولية.
يواصل الرئيس دونالد ترامب فتح جبهات جديدة. في كل تغريدة مفاجأة. يلوح ويحذر وينذر. إنها طريقة تعامل غير معهودة، لا مع الحلفاء ولا مع الخصوم. لم ينتظر اكتمال أعضاء إدارته. يعول على مجموعة صغيرة محيطة به. لكن المؤشرات الواضحة حتى الآن أن ثمة تغييراً جذرياً في قواعد السياسة الأميركية. هناك قطيعة كاملة مع سياسة الإدارة السابقة. شيء وحيد يريد ترسيخه في أيامه الأولى: سيكون أميناً لكل الشعارات التي رفعها وللوعود التي قطعها في حملته الانتخابية. أسقط مقولة كثيرين اعتقدوا بأن الوصول إلى البيت الأبيض سيدفعه إلى التعقل والنظر طويلاً في أي قرارات ستصدر عن أقوى دولة في العالم. لكن الرجل تجاوز التوقعات والقواعد وهزّ الداخل والخارج. وما اتخذه حتى الآن انقلاب واضح على سياسة سلفه باراك أوباما. يبدو مستعداً لخوض أي حرب، بل فتح جبهات عدة في وقت واحد! حتى أن أحد أبرز مستشاريه بشّر العالم بحربين، في غضون خمس إلى عشر سنوات. قال إن الولايات المتحدة ستخوض حرباً مع «صين توسعية» وأخرى في الشرق الأوسط مع «إسلام توسعي» أيضاً. المستشار ستيف بانون لم يحدد المعني بالإسلام التوسعي. لكنه لم يتردد في التأكيد «أننا نتوجه بوضوح إلى حرب كبرى في الشرق الأوسط مجدداً». بانتظار هاتين المواجهتين البعيدتين نسبياً الآن، استعجل البيت الأبيض فتح باب الصراع مع إيران. حذّرها رسمياً من أن «اختبار صاروخ باليستي وتصرفاتها ضد سفن البحرية الأميركية ومحاولات زعزعة الاستقرار لن تمضي من دون رد». هذا الموقف يأتي في سياق باقي المواقف أو القرارات التنفيذية التي اتخذها الرئيس الأميركي الجديد.
دانت إدارة ترامب «عدوانية روسيا» وأكدت أن لا رفع للعقوبات ما لم تعد القرم إلى أوكرانيا. وحذر الرئيس نفسه إيران من «اللعب بالنار». وتوعدها بأنه لن يكون متساهلاً معها كما كان سلفه. ومثله فعل وزير دفاعه الجنرال جيمس ماتيس الذي حذر كوريا الشمالية من «رد حاسم وساحق» إذا شنت هجوماً نووياً. هذا الخطاب العسكري يقلق كثيرين. قد لا يجر إلى حرب «طواحين الهواء»، كما عبر السيناتور جون ماكين. وقد لا يعني أن النار ستشتعل قريباً، وأن لغة الحديد والنار لا مفر منها. الرئيس الأميركي الجديد رجل أعمال يغرف من لغته وأدواته المعهودة. يرفع سقف شروطه إلى الحد الأقصى، بوجه روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية. ولا يوفر حتى الحلفاء أيضاً من أوروبا إلى الشرق الأوسط. لكنه سيجد نفسه في النهاية أمام مقايضات وصفقات. عجل في الرد على الجمهورية الإسلامية. فرض عقوبات جديدة وأرسل المدمرة «كول» إلى باب المندب. لكن إدارته عجلت أيضاً في التوضيح أن ذلك لا يمس بنود الاتفاق النووي. ومثلها فعلت طهران فقللت من أهمية التجربة الصاروخية بالقول إنه صاروخ متوسط المدى وليس معداً لحمل رأس نووي. وأكد وزير الخارجية محمد جواد ظريف أن بلاده لن تذهب إلى الحرب.
يعرف الوزير الإيراني كغيره أن الولايات المتحدة ليست ذاهبة إلى الحرب غداً. المواجهة تحتاج إلى استعدادات وخطط واتصالات وتحالفات واسعة مع أوروبا وقوى في الإقليم. وتستدعي حسابات دقيقة تتجاوز مسرح العمليات إلى التداعيات المحتملة في المنطقة كلها وخارجها. أبعد من ذلك لا تعول دوائر في واشنطن على تهديدات الرئيس ترامب وتغريداته المتناقضة أحياناً كثيرة. فهو نفسه كان صرّح في مناسبة سابقة بأن التدخل العسكري المباشر يؤثر في الاقتصاد كثيراً. وتوقع أن يؤدي تدخل روسيا العسكري في سورية إلى إفلاسها.
ورأى أن أي دولة تنغمس في الشرق الأوسط تبقى عالقة هناك! وما ينطبق على هذا الإقليم ينطبق على بحر الصين - الهاديء. يصعب تخيل وقوع مواجهة عسكرية مع الصين. فما “أنجزته” هذه في فضائها الأمني يستحيل أن تتخلى عنه. ومثلها روسيا التي تصعب رؤيتها وهي تنسحب مثلاً من شبه جزيرة القرم. هاتان دولتان نوويتان، وتضعان أولوية مصالحهما فوق أي اعتبارات أخرى، مثلما يرفع نرامب شعار “أميرك أولاً”. وستجد إدارته نفسها أمام واقع لا يمكن تجاوزه إذ يستحيل الرهان على حروب مدمرة. لن يبقى أمامها سوى التفاوض مع بكين وموسكو على سلة من القضايا والملفات، من الانتشار العسكري إلى اتفاقات المناخ والتجارة الحرة وسياسة الأبواب المفتوحة أمام تدفق البضائع وانتقال الشركات والمصانع وغيرها من الملفات الشائكة.
الهدف الكبير للرئيس ترامب أن يسعى إلى استعادة دور ريادي لأميركا. لكن الفرصة لن تكون متاحة كما كانت إثر انهيار الكتلة الاشتراكية وجدار برلين. لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء. ما تأخذه الدول الكبرى بالقوة العسكرية لا يستعاد لا بالقوة العسكرية. يمكن تحسين الشروط وتعديل خرائط النفوذ، وتقاسم المصالح. فالقيادتان الصينية والروسية تحتاجان أيضاً إلى حوار ومشاركة في حل معضلات تثقل عليهما. لا يمكن الأولى مواصلة بناء اقتصادها وتعميم منتجاتها في العالم والمحافظة على موقعها ثاني أكبر كتلة اقتصادية في العالم من دون تخفيف اندفاعها في محيطها بلا حساب لجيرانها الأقوياء أيضاً بالشريك الأميركي. ومثلها موسكو التي تحتاج أيضاً إلى إنهاء تدخلها العسكري في سورية وتسوية مرضية في أوكرانيا ووقف تقدم “الناتو” وتحديه لها في فضائها الأمني. المشكلات الدولية الأمنية والاقتصادية وقضايا المناخ والتجارة الحرة وغيرها لا تحل بضرب القواعد التي يقوم عليها النظام الدولي. تستدعي هذه تفاهمات بين الكبار دوليين وإقليميين.
على رغم نذر المواجهة بين الثلاثة الكبار، أميركا وروسيا والصين، إلا أن الأمر لم يتعد حتى الآن التصريحات والمواقف. فضلاً عن تعدد الآراء في دوائر السياسة الأميركية حيال القوتين الأخريين. لكن الوضع يختلف بالنسبة إلى إيران. كان واضحاً منذ فوز الرئيس ترامب أنه ليس وحده في الصراع معها. هناك شبه إجماع في أوساط الحزب الجمهوري على وجوب وضع حد لتمددها وانفلاشها. فضلاً عن قوى أوروبية وإقليمية تجهد لتقليم أصابعها في المنطقة والحد من نفوذها. فهي حظيت بتغاض متعمد من إدارة أوباما من أجل تمرير الاتفاق النووي. كان رهان تلك الإدارة على أن الاتفاق سيفتح باب التغيير داخل إيران، وفي سياستها الخارجية لتعود لاعباً إقليمياً مسؤولاً عبر الأطر والمؤسسات الدولية. وهو ما لم يحصل. الرئيس ترامب يدرك استحالة إلغاء الاتفاق. لكنه يدفع العلاقة معها إلى حافة الهاوية. يريد تطويقها بشتى السبل، خصوصاً العقوبات، لمنع إفادتها من مفاعيل الاتفاق. وبدأ الحديث عن تبدل في سياسة واشنطن حيال ما يجري في اليمن. أي أن الإدارة الجديدة يمكنها عبر التفاهم السياسي والعسكري مع أركان “عاصفة الحزم” ممارسة مزيد من الضغوط الميدانية على الحوثيين وشركائهم، وتضييق الحصار لمنع تهريب السلاح إليهم وفرض تسوية قد لا تروق لراعيهم الإقليمي. هذا الرهان وحده قد لا يكفي فالتقارير بدأت تحذر من تنامي قدرات “تنظيم القاعدة” في هذا البلد. ولم تكن طهران بعيدة يوماً عن استغلال هذا التنظيم سلاحاً بمواجهة خصومها، من أفغانستان إلى العراق غداة الغزو الأميركي لهذا البلد.
والسبيل نفسه يمكن اعتماده في سورية، إذا بدا أن الوضع في العراق أكثر تعقيداً. فالتمسك بالعقوبات على روسيا مثلاً قد يسمح لواشنطن بأن تقايضها في سورية وملفات أخرى، خصوصاً أن الكرملين يرغب في الخروج سريعاً من المستنقع السوري. ومثله أنقرة التي يطمئنها تعزيز البنتاغون دور قوى عربية في المعركة لتحرير الرقة. وهي تستعجل تسوية تريحها من طموحات الكرد. وكلا الأطراف الثلاثة معنية برفع اليد الإيرانية عن هذا البلد. لذلك قد يكون أسهل الطرق انضمام واشنطن إلى تفاهمات الرئيسين بوتين ورجب طيب أردوغان للحد من تدخلات طهران في بلاد الشام. ولكن يجب عدم التقليل من أوراق إيران وأسلحتها في هذا الصراع. فهي تملك جيشاً كبيراً من الميليشيات المحلية، من العراق إلى سورية ولبنان وحتى قطاع غزة. ولن تتساهل حيال تقليم أظافرها، أو السماح بزعزعة البناء الذي أنفقت سنوات في إقامته. علماً أن تأجيج الصراع معها سيهدد مصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائها في الإقليم. ويفاقم حدة معركة الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية الربيع المقبل. وهي معركة بكر المتشددون في فتحها على مصراعيها لضرب المعتدلين الذين خسروا أحد أركانهم أخيراً، علي أكبر هاشمي رفسنجاني. ويساهم في زرع مزيد من العقبات لمنع الرئيس حسن روحاني من التجديد لولاية ثانية. دفع إيران إلى الخروج وميليشياتها من سورية قد يقودها إلى فتح جبهات للتعويض في أماكن أخرى، في العراق ولبنان وغيرهما. تحذير الرئيس ترامب إيران من اللعب بالنار وباستقرار الإقليم شيء واللعب بالنار الإيرانية شيء آخر! وتطويق الانتشار العسكري الإيراني يستلزم بناء تحالف إقليمي واسع من مصر إلى تركيا مروراً بدول الخليج، فضلاً عن القوى الكبرى وعلى رأسها روسيا. فمن يقدم على اللعب بالنار أولاً؟
من الجامع العمري إلى مجازر حلب ، ينتقل القاتل بكل عنفوان وثقة ، و قناعة تامة أن لا رادع له ، ولامانع على هذه الأرض ، فالأعداء المتصارعين اتفقوا على منحه الاذن المضرج بدمائنا ، والسلطة اللازمة لمواصلة عقابنا ، و بالنهاية سنصفى خلف أبواب المعتقلات ، لتنهي قصة حماه الكبرى من جديد.
تختلط الأوراق بشكل كبير ، و تتغير المسميات و يتنوع المجرمون لدرجة تخطئ البوصلة الاتجاه ، و تتحول لعقارب مجنونة تشير إلى كل الاتجاهات ، و تعمل الجواذب المختلفة لتحويلها لجميع القتلة ، إلا القاتل الأصلي و المحرك الرئيسي للجميع .
في خضم البحث عن حل في ركام الجثامين ، تتجه الأنظار نحو ترسيخ وجود القاتل و رعايته للخلاص ، بإنه أفضل الأشرار ،و أكثرهم حنكة ، و أقلهم خطراً على الكرة الأرضية ، و لو غيّب بلد بأكمله عن الخارطة .
اليوم تختلط الأصوات الداعية للهدوء ، و الراسمة لخطوط العبور نحو النهاية المعتادة لجميع الحروب ، و لكن هذا الاختلاط في الأصوات لا يمكن سماعه تحت أزيز المجازر و نداءات المستغيثين ، من جامع درعا إلى القبير بحماه و الحولة بحمص و داريا و جديدة الفضل و الغوطة الشرقية و كيماويها ، و نهر قويق و البيضا ، كرم الزيتون و التريمسة و … و …. ، و المئات من المجازر التي تضيق المساحات في الذاكرة و الفضاء على إحصائها و إيرادها .
جميع المسميات من حزب الله وصولاً إلى أصغر مليشيا ارهابية بنكهة طائفية ، من أشد المتشدين وحتى أكثرهم خفاء و رحمة ، ومن أعتى و أقذر دولة في العالم إلى أكثرهم سلماً ، لن يكون لهم جميعاً أي فعالية أو وجود أو سبب للايجاد ، اذا رحل الأسد ، و إذا عوقب الأسد ، و لامكان لأي هدوء أو برود طالما بقي تحت أي مسمى أو وصف أو شكل .
الأسد مصنع الارهاب و سببه و داعمه ، وعنصره الأب الصانع و المولد ، مالم ينتهي لن ينتهي شيء ، وطالما هو موجود فإننا سنشهد أمور سيكون الواقع عبارة عن جنة أمام سعير جهنم القادم.
رحلت إدارة باراك أوباما ومعها العشق من جانب واحد الذي بقي ممنوعاً، وكذلك الرهان على التغيير في طهران أو إبرام شراكة معها، وتمركز دونالد ترامب الذي بدأ يهز العالم بقراراته التنفيذية المترجمة لوعوده الانتخابية، لكن صانع القرار الإيراني بدا غير منتبه أو غير مكترث بهذا التحول في البيت الأبيض، وإذ به يوجه رسائل استفزاز وتحد بعد أيام على تنصيب دونالد ترامب. من خلال تجربة الصاروخ الباليستي المتوسط المدى، والهجوم الحوثي ضد الفرقاطة السعودية، أرادت طهران جس نبض فريق ترامب. لم يتأخر الرد الأميركي بالتحذير الشديد والعقوبات مما يؤشر على اختبار للقوة بين الجانبين لن يخرج في البداية عن السيطرة، لكنه سيمهد على الأرجح لرسم معادلة جديدة في الإقليم قد لا تكون لصالح اللاعب الإيراني.
يبدو ترامب وكأنه يسابق الزمن كي يثبت بدء عهد جديد في واشنطن والعالم، وأنه كان يعني ما يقول خلال حملته الانتخابية أو في المرحلة الانتقالية قبل تسلمه الحكم. وهكذا عند أول احتكاك مع إيران سرعان ما وصف الاتفاق النووي مع إيران بالكارثي أو الفظيع، لكنه لم يطالب بإلغائه لاستحالة الأمر عملياً أو لخطورته. وحسب مصادر مطلعة في واشنطن، يمكن تلخيص خطة ترامب حول إيران على الشكل الآتي:
◄ نووي عسكري أو ممهد للعسكري صفر، وذلك عبر التنفيذ الصارم للاتفاق النووي، وليس تمزيقه. تريد الإدارة متابعة تكثيف المراقبة الدقيقة لكل شاردة وواردة، فإذا قامت إيران بانتهاك الاتفاق، سيسقط الاتفاق ويتم القفز إلى المحاسبة.
◄ رفض تطوير برنامج الصواريخ الباليستية. ولذا سيكون الرد على تجربة أواخر يناير 2017 عبر حزمة عقوبات كانت قيد الإعداد.
◄ مراقبة نشاطات إيران المزعزعة للاستقرار الإقليمي، ورفض التدخل السافر في شؤون الدول الأخرى (ضمن الأفكار المطروحة، فرض عقوبات على شركات طيران إيرانية تنقل السلاح إلى العراق أو سوريا).
◄ التنبه لنشاطات دعم الإرهاب.
عند أول تطبيق عملي، يتضح أن لهجة الإدارة الجديدة تعكس تحولاً بنسبة 180 درجة عن إدارة باراك أوباما؛ حيث أن تضمين اعتداءات الحوثيين ضد المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في بيان التحذير الذي صدر عن البيت الأبيض أو في المؤتمر الصحافي لمستشار الأمن القومي مايكل فلين يعكس تركيز الإدارة الأميركية على تصرفات إيران وسلوكها الإقليمي، وهو ما كان يتجاهله فريق أوباما.
حسب مصادر في المنامة، تزامنت تجربة إطلاق الصاروخ الباليستي الإيراني مع مناورات بحرية بين 31 يناير و2 فبراير تجرى للمرة الأولى في المياه الإقليمية الواقعة بين البحرين وإيران، وهذه المناورات المسماة “ترايدنت يونايتد” والتي شاركت فيها قوات بحرية أميركية وبريطانية وفرنسية وأسترالية، شملت جميع أنواع العمليات البحرية بهدف تعزيز الشراكة بين القوات المشاركة، ودعم الأمن البحري وتعزيز التعاون الدولي لضمان حرية انسياب حركة التجارة في منطقة الخليج، كما كانت تهدف إلى تحسين الكفاءة التكتيكية للقوات وتقوية علاقات الشراكة لضمان حرية الملاحة.
وغالباً ما كان الحرس الثوري الإيراني يرسل زوارقه لاستفزاز السفن المشاركة والتحرش بها، لكن هذه المرة لم يحصل ذلك، لأن هذه السفن كانت متطورة ومحصنة، وحسب مصدر في دبي كان “قائد الأسطول الأميركي الخامس قد وجه تهديداً بإطلاق النار الفوري على أي تحرك مشبوه”. وتبعاً لهذه المجريات لا يستبعد أن يكون الاعتداء على الفرقاطة السعودية رسالة للقول بأن إيران قادرة على إثبات الوجود في هذه الممرات الإستراتيجية التي تعتبر من أبرز شرايين التجارة العالمية ونقل الطاقة. طبقاً لقانون البحار لعام 1982، لا يحق لأي قوة عرقلة الملاحة الدولية. وللتذكير حاولت إيران عند نهايات الحرب العراقية – الإيرانية (تحديدا في الفترة بين 1987 و1988) تعطيل حرية الحركة وكان الثمن ردوداً غربية أسفرت عن توقيف الحرب وتراجع إيران.في مواجهة الوقائع الجديدة، بدا رد الفعل الإيراني متشددا في الظاهر مع كلام علي ولايتي مستشار المرشد الأعلى عن “تمريغ أميركا سابقا بالوحل في العراق” لكن يبدو أنه إزاء التحذير الأميركي الشديد اللهجة غابت عن ردود الأفعال الإيرانية عبارة “الشيطان الأكبر” وغيرها من المفردات المعتادة. على المدى القصير، يعتقد أن العقوبات الأميركية الجديدة قد تكون مقدمة لسياسة أشد صرامة، لكن ستفرضها الولايات المتحدة بطريقة لا تتعارض مع الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 والذي بمقتضاه وافقت طهران على تقييد برنامجها النووي مقابل إعفائها من عقوبات اقتصادية.
هكذا تبدأ صفحة جديدة في المسلسل الطويل بين واشنطن وطهران والمستمر فصولاً منذ عام 1979، والأرجح بدء المعارضة الأميركية للتوغل الإيراني في سوريا والعراق والتدخل الإيراني في اليمن، وسيكون ذلك وفق معادلة تفترض مساعدة واشنطن للحلفاء المحليين مقابل مشاركتهم الفعالة في هذا المجهود وتبني الخطط الأميركية في محاربة الإرهاب. وفي نفس السياق، سيكون لمسارات الحوار أو التنسيق بين واشنطن وكلّ من روسيا وإسرائيل أثر مباشر في بلورة المقاربة الأميركية الشاملة إزاء إيران.
يحمل السجال العلني، وغير المألوف دولياً، بين روسيا وإيران حول من يمكن وصفه بـ «صاحب الفضل» في إنقاذ دمشق، وتالياً النظام السوري، من السقوط خلال الفترة الماضية، أحد معنيين أو المعنيين: إما أنهما بدأتا التنافس حول وراثة النظام بعد أن فقد من وجهة نظرهما مبرر وجوده، أو أنهما تشيران الى تباين جدي بينهما حول أولويات المرحلة المقبلة... تسوية سياسية للحرب السورية، أو استمرار هذه الحرب لسنوات أخرى.
فليس مألوفاً بين الدول في العالم، بخاصة إذا كانت كبرى كما هي حال روسيا، أو ساعية لدور اقليمي ودولي كما هي ايران، أن تدخل في سجال حول من ساهم أكثر من غيره، أو ربما حتى من دون غيره، في الحرب الإبادية الناشبة منذ ستة أعوام في دولة ثالثة. وسواء حملت هذه الحرب اسم الدفاع عن النظام في سورية، أو محاربة الإرهاب، أو غيرهما، فلا يغير ذلك في الأمر شيئا: تدمير سورية وتشريد شعبها في أصقاع الأرض في نهاية المطاف. كذلك فإنه بغض النظر عن غياب النظام عن هذا السجال، فضلاً عن الاتفاقات المسبقة في شأن المفاوضات في آستانة، فلا يقلل هذا الأمر من شأن «الاشتباك» بين موسكو وطهران حول ما تم حتى الآن، ولا حول ما سيجري مستقبلاً.
بدأ السجال عندما تبرع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في تصريح صحافي من دون مناسبة مبررة وعلى هامش اجتماع وزاري ضمه ووزيري الخارجية الإيراني والتركي تحضيراً لاجتماع آستانة بين وفدين من النظام والمعارضة المسلحة، بإعلان أنه لولا التدخل العسكري الروسي في أيلول (سبتمبر) عام 2015 لكانت دمشق قد سقطت في أقل من أسبوعين. بعده بأيام، جاء الرد على لسان المستشار العسكري للمرشد الإيراني على خامنئي الذي قال انه لولا التدخل الإيراني لكانت كل من دمشق وبغداد قد سقطتا معاً خلال أيام وليس خلال أسابيع. ليأتي بعده دور قاعدة حميميم الروسية (باتت، كما يبدو، مركزاً اعلامياً ناشطاً)، لتعلن في بيان رسمي ان التدخل الروسي في سورية بدأ بعد أكثر من ثلاثة أعوام من تواجد ايران، بقواتها المسلحة وحرسها الثوري وميليشياتها، من دون نتيجة في ما يتعلق بإنقاذ دمشق التي كانت توشك على السقوط. أكثر من ذلك، فليس سراً أن التدخل الروسي جرى بالتنسيق المباشر بين موسكو ودمشق وطهران، وأن الأخيرة تحدثت عن زيارتين قام بهما الى موسكو مسؤولها العسكري في سورية، قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني، عشية الإعلان عن هذا التدخل... بما يفيد بأن هدفه لم يكن فقط إنقاذ نظام الحكم في دمشق، انما أيضاً انقاذ ايران نفسها من ورطتها في سورية.
لكن، ماذا وراء هذا السجال غير المألوف دولياً بين روسيا وإيران حول دور كل منهما في سورية؟.
غني عن القول ان ما يريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من قاعدتيه العسكريتين الكبيرتين في حميميم وطرطوس النظر منهما الى العالم الواسع، أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وجوارهما التركي بحراً وبراً وصولاً الى أوروبا والغرب عموماً من ناحية، وإلى الشرق الأوسط العربي من ناحية ثانية، أكثر من التطلع الى الداخل السوري على أهميته القصوى بالنسبة لما سيكون عليه مستقبل قاعدتيه هاتين في سورية. ولعل انفتاح بوتين على الوضع الفلسطيني من ناحية، بإعلانه الاستعداد للعب دور في تسويتها، وقوله قبل أيام فقط أن دعوته لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لا تزال مفتوحة، وعلى الوضع الليبي من خلال استقباله مرتين على الأقل في خلال شهرين قائد الجيش فيها (عملياً، أحد الجيوش الليبية) الجنرال خليفة حفتر ووعده بتسليح قواته، يكفيان للتدليل على نظرة زعيم الكرملين الإستراتيجية والبعيدة المدى للمنطقة ان لم يكن الآن، ففي الفترة المقبلة من تواجد قاعدتيه، وبالتالي تزايد دوره ونفوذه، في سورية.
قد لا يكون بوتين بصدد البحث عن بديل للأسد في هذه المرحلة، أقله لارتباط وجوده بوجود القاعدتين وجملة الامتيازات التي وفرها لها وللسياسات الروسية فيها وفي المنطقة، الا أنه كما يبدو يريد تسوية سياسية يضمن من خلالها ليس بقاء القاعدتين لمدة طويلة فقط، انما تحولهما رأس جسر سياسياً يلاقي طموحاته باستعادة دور الاتحاد السوفياتي السابق، وحتى القيصر الروسي القديم، في سياسات المنطقة والعالم.
وليست هذه، ولا شيء منها على الإطلاق، في خطة إيران لسورية أو بخاصة لمستقبل الحرب فيها. فهذه لا ترى في سورية سوى «سورية الأسد» من دون غيرها، وتحديداً منها الجزء الذي لا يتجزأ من محور امبراطوري يقوده «الولي الفقيه» في ايران ويمتد من طهران الى دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء، والذي لا بد أن تتواصل الحرب فيه الى أن يتم «تحرير» كامل الأراضي السورية وتجري استعادتها الى كنف النظام (عملياً، كنف ايران وقواتها وميليشياتها وحرسها الثوري) كما كانت قبل بدء الثورة ضده في آذار (مارس) 2011.
والخطاب السياسي والإعلامي الإيراني، كما ممارسات ميليشياتها على الأرض في منطقة وادي بردى وغيرها وصولاً في الفترة الأخيرة الى مدينة الباب في الشمال السوري، لا يقول غير ذلك.
ولعل هذه هي معضلة سورية الآن، ومعها الى حد كبير معضلة روسيا وتركيا اللتين تبحثان عن تسوية تنهي الحرب المديدة في هذا البلد المعذب.
لا جدوى من تجديد الحديث عن انعدام الشعور بالمسؤولية لدى أهل النظام الأسدي في كل ما يتصل بمكونات المجتمع السوري، وخصوصاً منها المكوّن العلوي الذي ألقوا به إلى محرقة دمرته، لن يبقى بعدها ما كان عليه قبلها، عدديا ومجتمعيا، سياسيا واجتماعيا. لو كان عند أهل النظام أدنى شعور بالمسؤولية عن شعب"هم"، لما عاملوه بعنف خمسين عاما، ولأحجموا عن إطلاق النار على متظاهرين شبّان، غالبا طالبوا سلميا بحريتهم، ولتذكّروا أن الحرية أحد وعود حزبهم للعرب، وليست مؤامرة إمبريالية/ صهيونية، ولبادروا إلى إجراء إصلاح طالما تحدث الأسد الأب عن ضرورته في سنواته الأخيرة، ولما حالوا، بجميع الوسائل، دون حل توافقي لأزماتٍ افتعلوها، للسيطرة على الشعب، وصرفه عن الاهتمام بقضاياه العامة ومشكلاته المستعصية، التي أنتجتها سياساتهم في جميع المجالات والأصعدة، ولسارعوا إلى تلبية مطالب مواطنيهم، ولتجنبوا شن حرب إبادة وتدمير شاملة عليهم، أجبرتهم على الدفاع عن وجودهم بقوة السلاح. بدل أن يرفض أهل النظام الحل العسكري/ الأمني، ويروا فيه ضربا من الاستحالة، جعلوا الحل الإصلاحي/ السلمي، الكفيل وحده بإنقاذ دولة سورية ومجتمعها، مستحيلا، والمطالبة به خيانة وطنية عقوبتها الموت قتلا. لذلك، شرعوا يطلقون النار على مواطني"هم"، إناثا وذكورا، ويستهدفون بالقتل الشبان منهم بصورة خاصة، حتى صار مجرد أن المرء شاب سببا كافيا لقتله، فلا عجب أن غطت دماء الشباب أرض سورية من أقصاها إلى أدناها.
لم تكن هذه السياسة الإجرامية وقتية، بل خيارا تبناه النظام ورعاه، منذ استولى الأسد الأب على السلطة عام 1970، وتصرّف وكأن سورية لا تتسع للنظام والشعب، وأن حضور أحدهما لا بد أن يغيب حضور الآخر، فلا مكان لأي توافق أو تعايش عادي أو طبيعي بينهما، ولا علاج لأي خلاف بينهما غير العنف الأقصى (الرادع) الذي لا بأس إن بلغ حال حربٍ يخوضها جيشه المستعد لها أولوية أمنية عليا، بالنظر إلى أن عدو الداخل أشد خطرا من أي عدو خارجي، وخصوصاً إسرائيل.
واليوم، وبعد قرابة ستة أعوام من حربٍ مجنونةٍ شنها الأسد على السوريات والسوريين، تعترف دول العالم جميعها باستحالة الحل العسكري، وبالنتيجة باستحالة عودة سورية إلى وضعها الأسدي الذي عاشته قبل ثورتها، نرى الأسدية تصر على حلها المستحيل، وتضع السوريين والعالم أمام خيارٍ لا مهرب منه، هو إرغامها على قبول حل سياسي يجبرها على دفع الأثمان المناسبة لما ارتكبته من جرائم ضد شعب"ها"، وشعوب الدنيا التي عرضتها بوحشيتها المنقطعة النظير لمخاطر وتحديات كارثية، فرضت على عديد من بلدانها أعباءً ومراجعاتٍ استراتيجية ثقيلة الوطأة وغير مسبوقة، علها تحول دون انتقال الإرهاب، وخصوصاً منه الأسدي، إليها، ومن دون توريطها في حروبٍ سرية وعلنية في بلدانها، وعلى أرض سورية، يحتّمها الارتباط الجدلي بين سياسات الأسد السورية وما يعيشه المجتمع الدولي من انعكاساتٍ ناجمةٍ عنها، ويصيب علاقات وأوزان قواه من تبدلاتٍ تقوّض توازناته، وتنتهك قيمه وتشل مؤسساته، ويرجّح كثيرون أن تنتج نظاما دوليا أشد سوءا من نظامه الحالي الذي تخلق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتلاشي نظام القطبية الثنائية.
على الرغم من أستانه، وما بذله الروس والأتراك من جهد لإحداث انعطافةٍ سورية يمهد الالتزام بها لحل سياسي، أعلن بشار الجعفري، ممثل الأسدية فيها، رفض نظامه التخلي عن الحل العسكري، المستحيل سورياً وإقليميا ودوليا، كما رفض التقيد بوقف إطلاق النار، بذريعة محاربة الإرهاب، ضاربا عرض الحائط رغبة السوريين، وغيرهم من المطالبين بالسلام في وقف إراقة دماء الأبرياء، والتعاون ضد الإرهاب المزدوج، الآتي من الدولة الاستبدادية التي لا تعتمد سبيلا آخر للتعامل مع شعبها غير العنف، وذاك الذي تمارسه تنظيماتٌ مذهبيةٌ لعب الاستبداد الأسدي دورا كبيرا في تأسيسها، وكذلك التعاون لوضع حد للحل الأسدي المستحيل: منتج الفوضى والموت قرابة ستة أعوام، والمتسم بعبثيةٍ مطلقة على الصعيدين، السياسي والعسكري، وسفك بحارا من الدماء، من دون أن يكون لها إلى اليوم أي عائد سياسي.
إلى متى يبقى العالم صامتا حيال نظامٍ يرفض أي حل سياسي لمعضلةٍ تسبب بها، ويصر على حله العسكري المستحيل من جهة، والعاجز، من جهة أخرى، عن مواجهة أزمات سياسية/ اجتماعية لم يسبق لحلٍ عنيف أن نجح في التخلص منها، على الرغم من أن ناتجها الأوحد كان دوما أنهارا من دماء الأبرياء، وأزمات غطت أربع أقطار الأرض، وقوّضت عيش مواطنيها الآمنين؟
تضع الأحداث الدولية المتسارعة الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية التي يترأسها رياض حجاب، والتي تضم ممثلين من معظم كيانات المعارضة، السياسية والعسكرية، في الداخل والخارج، أمام منعطفٍ كبير، وتحدياتٍ كثيرة، إذ من شأن ذلك أن يعيد هيكلة تمثيل الكيانات السياسية المعارضة، بل وحتى إنتاج مرجعية تفاوضية جديدة، لا تأخذ في الحسبان شكل (ونسب) التمثيل التي جرى اعتمادها في أثناء تشكيل تلك الهيئة في الرياض (ديسمبر/ كانون الأول 2015).
على ذلك، أضحت هذه الهيئة التي كانت تشكلت في الرياض، قبل أكثر من عام، في مواجهة أوضاع أو تحديات جديدة، لا بد من التعامل أو التكيّف معها، أو مقاومتها، لعل أهمها يتمثل في الآتي:
أولاً، الإبقاء على الروابط القوية التي تجمعها مع فصائل المعارضة المسلحة، والتي تعتبر موسكو أنها حقّقت خرقاً كبيراً في مواقفها، من خلال العلاقة الوطيدة التي أضحت تربطها مع تركيا من جهة، ومن خلال التزام هذه الفصائل ببيان أستانة، الموقع من الحليفة والضامنة لهم تركيا من جهة أخرى.
ثانياً، التساؤل بخصوص موقع المعارضة المسلحة في إطار تحوّلها إلى قوة للمعارضة السياسية لتحقيق الانتقال السياسي، وليس الانقلاب العسكري، أو الاندماج العسكري، الذي تطمح له روسيا، بالطريقة التي تضمن لها بقاء سيطرتها على سورية، بوصفها دولة تحت الوصاية.
ثالثا، تحقيق ما صرح به المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، في 31 يناير/ كانون الثاني الماضي، حول تشكيل وفد واحد للمعارضة، والمقصود وفد يضم ممثلي المنصات التي اجتمعت في موسكو، مع وفد "الهيئة العليا"، وهو الأمر المتطابق مع بيان اجتماع موسكو (27 يناير). وهنا، يبرز التحدّي في آلية العمل التي ستتبعها للوصول إلى تفاهماتٍ لتشكيل الوفد المطلوب دولياً.
رابعاً، وقبل الوصول إلى تشكيل الوفد، لا بد من الوصول إلى ما هو أهم من الوفد الواحد، وهو الرؤية للعملية التفاوضية بكاملها، وما هو الهدف المبتغى منها؟ أي بصراحةٍ مطلقة: على ماذا سيتم التفاوض، وما هو السقف الأعلى، قبل الوصول إلى أخفض درجات السقف الأدنى الجامع الذي يتوافق عليه المتفاوضون على تباين مواقفهم، ومواقعهم؟
خامساً، كيف وما نسبة التمثيل المفترضة وآليات تنفيذها لكل التكوينات السياسية؟ وهل ستستطيع الهيئة العليا للمفاوضات أن ترمم خلافاتها مع مكوّناتها التي صارت أطرافاً في هذه المنصّات، بعد أن كانت جزءاً من الهيئة نفسها، كتيار بناء الدولة ورئيس تيار الغد ورئيس مجموعة سورية الوطن؟ وماذا عن كيانات سياسية كحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ومنصة حميميم وغيرهما؟
كل هذه التساؤلات، أو المعطيات، تضع الهيئة العليا للمفاوضات أمام مسؤولياتٍ كبيرة وكثيرة لكي ترتب صفوفها، وتوضح مواقفها، ولكي تعزّز من دور السوريين ككل في تقرير مستقبلهم، بدل أن تقرّره عنهم الدول الكبرى، أو الدول الفاعلة في الصراع السوري، بحسب أجندتها وأولوياتها.
ولعل هذه الهيئة مطالبة بإدراك الوضع الحرج الذي باتت فيه، لا سيما على ضوء متغيرات عديدة، أهمها: أولاً، تحوّل الموقف التركي نحو التنسيق مع روسيا في الملف السوري، وهو موقفٌ نجمت عنه مضاعفاتٌ أو تداعيات عديدة سياسية وميدانية، خفضت سقف المعارضة. ثانياً، انحسار مكانة فصائل المعارضة العسكرية، بعد خسارة مواقع نفوذها في مناطق عديدة، ولا سيما في حلب، وهو ما اضطرها إلى المشاركة في مؤتمر أستانة. ثالثاً، دخول فصائل المعارضة العسكرية على خط المفاوضات، بعد أن كان الأمر في يد الهيئة وحدها، من جهة المعارضة. رابعاً، افتقاد الهيئة العليا للمفاوضات، والمعارضة السورية إجمالا، أية أوراق ضغط لفرض نفسها ممثلاً وحيداً، أو ممثلاً أساسياً في المفاوضات.
على ضوء هذا الوضع، يفترض بالهيئة أن تشتغل بعقلية وطنية، مسؤولة ومرنة، بحيث تستطيع لملمة كل الكيانات والإرادات المبعثرة للمعارضة السورية، بشقيها العسكري والسياسي، الداخلي والخارجي، للمضي إلى المفاوضات نواة صلبة لمواجهة استحقاقات جنيف التفاوضية، وتحصيل ما يمكن لتجاوز أزمة المعارضة والثورة. كما مطلوب منها العمل بعقليةٍ منفتحة، تتمكّن بها من العمل مع أطراف المعارضة الأخرى التي تتفق معها بالهدف الأساسي، وهو الانتهاء من نظام الاستبداد، وإقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة مدنية وديمقراطية، بحيث تتجاوز، في ذلك، الخلافات الحالية والمصالح الحزبية أو الكيانية، من أجل المستقبل المشترك، ومن أجل مصلحة شعبنا السوري كله.
نجح النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون بتفتيت الحزام الناري الذي فرضته المعارضة حول دمشق، فاستطاع تجزئة غوطتيها الشرقية والغربية، وتحييد البلدات الجنوبية بشكل كامل، ما سهل عليه فرض “هدن” بالقوة، ثم تسويات تضمن ترحيل مناهضيه إلى الشمال.
النفوذ الأكبر وبداية الانتكاسة
شكلت الفترة الممتدة من أيلول 2012 وحتى شباط 2013 مرحلة ذهبية لفصائل ريف دمشق، فنجحت بتكوين هلال يلفّ العاصمة من ثلاث جهات (الغربية، والجنوبية، والشرقية)، وأصبحت المنطقة الممتدة من معضمية الشام في الغوطة الغربية، وحتى عدرا البلد في الغوطة الشرقية تحت سيطرة المعارضة، والتي لم تكتفِ بالمناطق الريفية فحسب، بل تمددت في أحياء العاصمة، مثل برزة والقابون وجوبر شمال المدينة، والقدم والحجر الأسود ومخيم اليرموك جنوبها.
ونجحت المعارضة بوضع يدها على أجزاء واسعة من طريق مطار دمشق الدولي، بسيطرتها على بلدتي شبعا وحتيتة التركمان المطلتين على الطريق الحيوي، وضيقت خناقها على المطار بتعزيز نفوذها في بلدتي حران العواميد والغزلانية المحاذيتين له، وباشرت فعليًا بالتمهيد لاقتحامه عبر استهدافه بالمدفعية والصواريخ، دون أن تتمكن من ذلك.
في الفترة ذاتها، حققت المعارضة انتصارات في منطقة القلمون شمال دمشق، كان أهمها السيطرة على مدينة يبرود في أيلول 2013، وما تبعها من عمليات ضد النظام في معلولا وديرعطية والنبك وجيرود والناصرية والتل ورنكوس وغيرها، وإحكام السيطرة على مدينة الزبداني وبلدتي مضايا وبقين، وتأمين طريق إمداد بينها وبين منطقة وادي بردى وبلدتي قدسيا والهامة المجاورتين، وجميعها تحت سيطرة “الجيش الحر” آنذاك، إلى جانب نجاح الفصائل في تأمين طريق إمداد من القلمون إلى الغوطة الشرقية، بهيمنتها على طريق الضمير- عدرا، إذ خضعت عدرا البلد ومدينتها الصناعية لسيطرة المعارضة أيضًا.
وخلال عام، شهدت المحافظة مرحلة انحسار وضعف للمعارضة، وشكلت استعادة قوات الأسد منطقة السبينة جنوب دمشق في تشرين الثاني 2013، نقطة تحول مفصلية في دمشق وريفها، وسقطت مدن وبلدات الغوطة كأحجار الدومينو خلال أشهر، كان أبرزها: البويضة، والحجيرة، وشبعا، وحتيتة التركمان، والغزلانية، وحران العواميد، والعتيبة، والعبادة، وقيسا، ودير سلمان.
وخسرت الفصائل أيضًا مدينة المليحة في عمق الغوطة، ومدينة عدرا ومساكنها ومنطقتها الصناعية شمالها، في آب وأيلول من عام 2014.
وحقق النظام السوري من خلال هذه العملية هدفين سعى إليهما: الأول هو تأمين الطريق الواصل بين مدينة دمشق والمطار الدولي في الجهة الشرقية، والثاني هو فصل كامل للغوطة الشرقية عن الغربية، وعزل منطقة جنوب دمشق، ثم إطباق حصار على المناطق الثلاث في مرحلة لاحقة، تمهيدًا لاستهداف كل منطقة على حدة، وإرغام الفصائل على القبول بهدن ومصالحات.
أيضًا أخذت المعارضة بالانحسار في القلمون الغربي في الفترة الممتدة من أيلول 2013 وحتى آذار 2014، فاستعادت قوات الأسد مدعومة بميليشيات “حزب الله” اللبناني مدنًا وبلدات رئيسية في المنطقة، نذكر منها بحسب الترتيب الزمني: بلدة معلولا (أيلول 2013)، بلدة قارة (تشرين الثاني 2013)، مدينة ديرعطية (تشرين الثاني 2013)، مدينة النبك (كانون الأول 2013)، مدينة يبرود (آذار 2014).
منذ مطلع عام 2014، تحولت المعارضة من الهجوم إلى الدفاع، عدا محاولات فك حصار شهدتها الغوطة الشرقية في مناسبات عدة، كما تشظّت الفصائل في قتالها لتقف أمام خصم ظهر جديدًا على الساحة، وهو تنظيم “الدولة الإسلامية”، بالتزامن مع بدء النظام السوري مرحلة جديدة غير مسبوقة في دمشق وريفها، وهي فرض تسويات وهدن محلية جنوب وغرب وشمال العاصمة.
خسائر 2016 أشد وطأة على فصائل دمشق
خسرت فصائل المعارضة خلال العام الماضي، عشرات المناطق لصالح قوات الأسد والميليشيات الرديفة في محيط الغوطة الشرقية، خلال معارك واسعة شنها النظام هناك، بينما عقد تسويات تحت عنوان “مصالحات” في مناطق أخرى من ريف دمشق، آخرها منطقة وادي بردى.
قضم الغوطة الشرقية
وبدأت الحكاية بعد أن أحكمت قبضتها على بلدة مرج السلطان ومطارها الاحتياطي، في 13 كانون الأول من عام 2015، في تقدم وصف بأنه “الأكبر من نوعه” في الغوطة الشرقية.
وتابع النظام عقب مرج السلطان، محاولات تقدمه إلى المطار الرئيسي في المرج، لعزل المحور الشرقي للغوطة، بعد أن أنهى ملف بلدة المليحة (القريبة من المطار وتبعد خمسة كيلومترات عن العاصمة) في آب 2014، وعقد مصالحات في بلدات عقربا وشبعا وحتيتة التركمان والحسينية، وكل ذلك بعد ضمه عدرا في وقت سابق من 2015.
بعد خسارة مرج السلطان، شكّلت فصائل المعارضة “غرفة عمليات المرج” والتي استطاعت استعادة بعض المناطق، إلا أنها خسرتها مجددًا واعترف قادتها، في حديثٍ حينها لعنب بلدي، أن المعارك “هي الأشرس على الإطلاق”، مع استمرار زحف قوات الأسد، رغم هدوء الجبهات واقتصارها على معارك كر وفر في القطاع الجنوبي للغوطة على مدار أربعة أشهر، اشتدت في أيار من عام 2016.
اشتداد المعارك تكلل في منتصف أيار بالسيطرة على قريتي نولة وبزينة في محيط دير العصافير، بعد أيام من بدء اقتتال فصائل الغوطة في 28 نيسان من العام نفسه، إلى أن وسّعت قوات الأسد سيطرتها في المنطقة، وضمّت دير العصافير، وزبدين، حوش الدوير، والبياض، وحرستا القنطرة، وبالا، إضافة إلى الركابية، وحوش الحمصي، في 19 أيار، واستطاعت فصل القطاع الجنوبي، الذي يعتبره الأهالي، خزانًا زراعيًا للمنطقة.
توغل النظام في المنطقة استمر ولكن من شمال شرق الغوطة، إلى حين سيطرت قوات الأسد على حوشي الفارة ونصري وميدعا في آب وتموز من عام 2016، بينما واصلت التقدم إلى أن أحكمت قبضتها على الميدعاني والبحارية، وعدد من التلال والمزارع المجاورة، وعزا أهالي الغوطة سبب تراجع المعارضة إلى اقتتال الفصائل الذي انتهى مطلع تشرين الثاني 2016.
وتزامنًا مع تلك المعارك سيطرت القوات في 30 تشرين الأول 2016، على مزارع الريحان ومنطقتي تل كردي وتل صوان، كما تواصلت المواجهات في تلك المنطقة حتى السيطرة على بلدة القاسمية، لتصبح على مشارف بلدة النشابية المجاورة، في 26 كانون الثاني 2017.
تسوياتٌ في محيط العاصمة
تزامنًا مع استمرار المعارك في الغوطة الشرقية، سعى النظام جاهدًا إلى عقد تسويات بمناطق مختلفة في محيط دمشق، ما جعل أغلب المدن العائدة إلى “حضن الوطن” خالية من السلاح و”المسلحين”، كما يسميهم النظام ومؤيدوه، بعد خروج الفصائل منها، عقب تخييرهم بين “الحرب الشاملة” أو تسليم سلاحهم وتسوية أوضاعهم، أو الخروج إلى إدلب شمال سوريا.
ابتدأ النظام بالغوطة الغربية، وتحديدًا من مدينة داريا، التي استطاع إفراغها من أهلها في 26 آب 2016، فخرج أكثر من خمسة آلاف شخص من المدينة، قرابة 1200 منهم إلى إدلب، بينما توجهت الأغلبية نحو بلدة حرجلة في ريف دمشق، والتي تخضع لسيطرة النظام.
وخرج مقاتلو بلدتي قدسيا والهامة، في 13 تشرين الأول من العام نفسه، باتجاه محافظة إدلب، رغم أن عملية الخروج تعرضت لمعوقات هددت بتأجيل العملية، لكن ما لبثت أن استؤنفت في موعدها، إلى أن خرج 525 شخصًا مع عائلاتهم من قدسيا، و114 آخرين مع عائلاتهم من الهامة، ليكون العدد الكلي بشكل تقريبي حوالي 2500 شخص.
في مدينة معضمية الشام التي ضمّت بعضًا من أهالي داريا، خرج من لم يسوِّ أوضاعه فيها مع النظام إلى إدلب، وقُدّر عدد المغادرين من المعضمية في 19 تشرين الأول، بقرابة ألف شخص، جميعهم انتقل إلى إدلب.
تهجير أهالي المنطقة الغربية من ريف دمشق، استمر ضمن نطاق التسويات، التي جاءت جميعها بعد معارك مكثفة شنتها قوات الأسد، للضغط على الأهالي والرضوخ لشروطها، وخرج من خان الشيح وزاكية قرابة 4500 شخص في 29 تشرين الثاني 2016، واستمر على مدار ثلاثة أيام، ثم تبعهم 250 مقاتلًا من زاكية في كانون الثاني 2017.
كما خرجت أعداد قليلة من أهالي بلدة كناكر في تشرين الثاني 2016، إلا أن معظمهم سوّى أوضاعه لدى النظام، في حين خرج قرابة 1300 شخص من المقاتلين وعائلاتهم في مدينة التل، في 2 كانون الأول 2016، بعد أن تحوّلت إلى مقصد لنازحي المناطق المشتعلة في غوطتي دمشق، وضمت أكثر من 700 ألف مدني، وفق تقديرات ناشطين.
موجة التهجير وصلت إلى بلدة سعسع، جنوب غرب دمشق، التي تبعد عن العاصمة نحو 40 كيلومترًا، والمعروفة بفرعها الأمني الشهير، إذ خرجت قرابة 30 عائلة معظمها من بلدتي كفرحور وبيت سابر، إضافة إلى 13 عائلة من بلدة بيت تيما، وفق مصادر عنب بلدي.
أهالي وادي بردى آخر المُهَجّرين
عقب معارك استمرت أكثر من 36 يومًا في المنطقة، استطاعت قوات الأسد التقدم إلى عمق وادي بردى، وسيطرت على بسّيمة أولًا ثم وصلت إلى عين الفيجة، المنطقة الأكثر استراتيجية في المنطقة، والتي تحتوي على النبع.
وخرج من وادي بردى قرابة 1500 شخص بينهم حوالي 500 مقاتل، نهاية كانون الثاني 2017، عبر حاجز دير قانون المتاخم لقرى المنطقة، وذلك بعد انسحاب فصائل المعارضة من نبع عين الفيجة، بينما بقي بعض المقاتلين والأهالي في بلدة دير مقرن في الوادي، على أن يخرجوا في وقت لاحق، لتعود المنطقة إلى حضن النظام.
ماذا بقي للمعارضة في دمشق وريفها؟
بعد أربعة أعوام على خسارة السبينة في جنوب دمشق، وما تبعها من هزائم معنوية وعسكرية للمعارضة في المحافظة، تقتصر سيطرة الفصائل اليوم على أجزاء من الغوطة الشرقية، وثلاث بلدات في جنوب دمشق، وجيوب متناثرة في القلمون، إلى جانب أحياء دمشقية تنتظر مصيرًا مشابهًا لعشرات المناطق التي استعادها النظام إما قتالًا أو تهجيرًا بعد حصار.
الغوطة الشرقية
تقتصر سيطرة المعارضة فيها على القطاع الأوسط والشمالي منها، وتضم مدن وبلدات: دوما، وحرستا، وزملكا، وعربين، وسقبا، وعين ترما، وجسرين، وعين سوا، وأوتايا، والنشابية، وغيرها، وجميعها تخضع لحصار من قبل النظام السوري، ومعارك مستمرة على الجبهات الشمالية والشرقية والغربية.
الأحياء الدمشقية
تحتفظ المعارضة بثلاثة أحياء رئيسية في ضواحي دمشق الشمالية، فحي جوبر الدمشقي يعتبر بوابة الغوطة الشرقية من المحور الغربي، ويشهد معارك ومواجهات مفتوحة لا تهدأ بين النظام وميليشياته من جهة وقوات المعارضة من جهة أخرى، في حين يعيش أهالي حيي القابون وبرزة بهدوء وأمان نسبي، إثر دخولهما في اتفاقيات تهدئة سابقة، يتخللها خروقات من طرف النظام، كما حدث في القابون مؤخرًا.
جنوب دمشق
تقتصر سيطرة المعارضة فيه على بلدات: ببيلا، ويلدا، وبيت سحم، وعقربا، بينما تخضع منطقتا مخيم “اليرموك” للاجئين الفلسطينيين والحجر الأسود لسيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتشهد هذه المناطق هدوءًا ملحوظًا منذ اتفاق التهدئة مطلع عام 2014، عدا عن اشتباكات بين تنظيم “الدولة” وفصائل أخرى في مخيم “اليرموك”.
منطقة القلمون
في الجزء الجنوبي الغربي من القلمون، تخضع مدينة الزبداني وبلدتا بقين ومضايا لحصار من قوات “حزب الله” اللبناني، منذ نحو عام، إثر دخولها في اتفاق يحيدها مع مناطق في إدلب عن القصف والعمليات العسكرية، وهو الأمر الذي ينطبق على بلدات الضمير، وجيرود، والرحيبة، والناصرية، في القلمون، إذ تدخل هذه البلدات في اتفاق “هدنة” مع النظام السوري أيضًا.
القلمون الشرقي ومناطق البادية في الريف الشرقي للمحافظة، تشهد “هدنة” غير معلنة بين “الجيش الحر” وقوات الأسد، لكنها تشهد اشتباكات للطرفين في مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” ذي النشاط الكبير في هذه المنطقة.
دمشق وريفها ملاذ آمن للأسد
تسعى قوات الأسد باستمرار لتفريغ محيط العاصمة دمشق، من أي وجود للمعارضة، وبرزت تلك المساعي مؤخرًا في محاولة القوات اقتحام الغوطة من جهة حرستا، 25 كانون الثاني 2017، بعد هدوء استمر فيها لأكثر من عام ونصف.
بدوره شكّل قصف حي القابون في دمشق، في 2 شباط 2017، منعطفًا واضحًا في الأحداث، فبعد أن خضع الحي لسيطرة فصائل في المعارضة السورية، وتوصلت فصائله والنظام إلى هدنة فيه، مطلع عام 2014، استهدفه الطيران الحربي بالصواريخ، ما خلف ضحايا وجرحى فيه.
الزبداني ومضايا
لا تُشكّل بلدات مضايا وبقين والزبداني، حجر عثرة في وجه مساعي النظام لضمها إلى مناطق سيطرته في المنطقة، فقواته وعناصر “حزب الله” اللبناني تحاصرها منذ فترة طويلة، بينما يرعى “حزب الله” حملات تهجير وتدمير في المنطقة.
وهجّر الحزب منتصف شباط 2017، قرابة 50 عائلة من المنطقة الواقعة بين حاجزي جوليا والشبك، في مضايا، وانقسموا إلى قسمين، الأول توجه إلى داخل بلدة بقين، والآخر باتجاه منطقة المعمورة، إلا أن مصادر عنب بلدي أكدت أن النظام نقلهم إلى بلدة بلودان القريبة، والتي يسيطر عليها النظام، وسط غموض حول مصيرهم.
ورغم أن فصائل المعارضة مازالت تسيطر على كل من الضمير والناصرية والرحيبة وجيرود شمال شرق العاصمة، إلا أنها ليست بأهمية منطقتي جنوب دمشق، والغوطة الشرقية، التي تنتشر مدنها وبلداتها الخاضعة لسيطرة المعارضة على تخوم دمشق.
جنوب دمشق
ملف جنوب العاصمة ما يزال مجمدًا منذ 8 كانون الثاني 2017، وحينها أصرّ النظام السوري على تنفيذ بنود مبادرةٍ طرحها حول التسوية في المنطقة، خلال اجتماعٍ مع اللجنة السياسية، مطلع الشهر ذاته، ضمن محاولات يخوضها منذ أشهر، لإضافة المدن والبلدات التي تسيطر عليها المعارضة هناك، إلى مناطق تسوياته.
رغم صغر مساحة المنطقة متمثلة ببلات يلدا وبيت سحم وببيلا وعقربا، إلا أن جبهاتها لا تشهد أي تحرك ضد النظام منذ فترة طويلة، حين وقعت فصائل “الجيش الحر” على هدنة مفتوحة مع قوات الأسد في شباط 2014.
ولم تشهد المنطقة أي اشتباكات ضد قوات الأسد، إذ تجلّت المعارك بين “الجيش الحر” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي يسيطر على منطقة الحجر الأسود، وجزء واسع من مخيم اليرموك.
يرفض أهالي جنوب دمشق الخروج من المنطقة، حاملين شعار “سوف نبقى هنا”، ورغم ذلك يتخوف ناشطو المنطقة من تهجيرهم بالقوة من قبل النظام، الذي اقترح تشكيل ميليشيا “المغاوير”، من الضباط والعسكريين المنشقين، ليزجّ بها في مواجهة “جبهة فتح الشام”، وتنظيم “الدولة”، تحت إشراف ميليشيا “الدفاع الوطني” جنوب دمشق.
كما يشترط النظام رفع علمه دون غيره في تلك المنطقة، على أن يُعاد العمل في المؤسسات الرسمية، وتشكّل لجان (إغاثية- طبية- خدمية) من البلدات المشمولة ضمن الاتفاق، تحت إشراف المخابرات العسكرية والحرس الجمهوري، ويقام لقاء بينها وبين فعاليات بلدة السيدة زينب المجاورة.
ترويج لإجلاء أهالي الغوطة
عقب اجتماعات على مدار الأشهر الماضية، في مدينة دوما، بين وفد من النظام السوري، والذي دخل من حاجز مخيم الوافدين والتقى بعض فعاليات المدينة، طارحًا اتفاقًا للخروج من الغوطة، ترفض فصائل المنطقة والفعاليات المدنية تهجير الأهالي وخروجهم.
ويُصعّد النظام قصفه على الغوطة، في محاولة لكسر شوكة الأهالي، محاولًا إرضاخهم لقبول فكرة مغادرة المنطقة، إلا أن محللين يرونها مختلفة عن باقي مناطق ريف دمشق، إذ تملك “قوة عسكرية”، متمثلة بفصائل المعارضة التي تخوض معارك شبه يومية ضد قوات الأسد، كما أن محيط الجبهات المشتعلة حولها يتعدى 40 كيلومترًا.
وتمتد المنطقة المحاصرة في الغوطة على مساحة أكثر من 105 كيلومترٍ مربع.
ويتوقع مراقبون أن يُكثّف النظام مساعيه لإفراغ المنطقة، وهذا ما بدا من إعلانه عن فتح معبر مخيم الوافدين من جهة حرستا ودوما، كمعبر لإجلاء الأهالي برعاية روسية.
فكرة فتح المعابر طرحها وسام الطير، الصحفي المقرب من النظام، ومدير شبكة “دمشق الآن”، وقال عبر صفحته في “فيس بوك” إن المعبر فتح لمدة عشرة أيام، ابتداءً من 4 شباط 2017 لخروج أهالي الغوطة إلى دمشق، مشيرًا إلى أنه “أول المعابر الآمنة”.
وروّج الطّير إلى إمكانية فتح معابر أخرى، بعد تقسيم الغوطة الشرقية مستقبلًا إلى أربعة قطاعات، “يحدد معبران اثنان في كل قطاع، وأحد هذه المعابر سيخصص للمسلحين الراغبين بالتسوية”، وفق تعبيره.
آخر التصريحات لقياديي فصائل الغوطة، جاءت رافضة للهدن والتسويات فيها، إذ اعتبر عضو المكتب السياسي في “جيش الإسلام”، محمد علوش، في حديثٍ سابق إلى عنب بلدي أن “الحصار والتجويع والتغيير الديموغرافي كلها جرائم حرب، وسوف يحاسب النظام ومن سانده عليها”.
في حين وصفت الفصائل الأخرى، الأحاديث عن التسويات في الغوطة، بأنها “حرب نفسية”، إلا أن أنظار النظام تتركز عليها، باعتبارها المساحة الأكبر التي تخضع لسيطرة المعارضة قرب العاصمة.
المقومات الحيوية للعاصمة بيد الأسد
يتجه النظام السوري بعد تحييد خصومه في معظم المناطق المحيطة بالعاصمة، لإعلان دمشق مدينة آمنة له بشكل شبه كامل، ولا سيما أنه بات يحكم سيطرته على المقومات الحيوية الثلاثة لها، وهي الطرق الرئيسية المؤدية منها وإليها، وكبرى محطات توليد الطاقة الكهربائية، والمصدر الرئيسي للمياه.
شرايين دمشق ومطاراتها
يحكم النظام السوري سيطرته على عقدة طرق رئيسية من دمشق وإليها، وأبرزها: طريق الديماس الواصل بين العاصمة ولبنان من الغرب، وطريق دمشق- درعا من الجنوب، وطريق دمشق- حمص من الشمال، وطريق مطار دمشق الدولي من الشرق.
كذلك فإن مطار دمشق الدولي بات آمنًا بشكل كامل، وهو المعبر الجوي الرئيسي للنظام في سوريا، عدا عن مطارات وقواعد جوية عسكرية تعزز من سيطرته، أبرزها: مطار المزة العسكري، مطار السين، مطار الضمير.
محطة “تشرين” الحرارية
حاولت المعارضة مطلع عام 2013 فرض سيطرتها على محطة “تشرين” الحرارية الواقعة على بعد 50 كيلومترًا جنوب شرق دمشق، كذلك تعرضت لهجمات تنظيم “الدولة” مؤخرًا، لكن النظام حافظ على وجوده فيها خلال السنوات الماضية رغم كل ذلك، وبالتالي تأمين المورد الرئيسي للطاقة الكهربائية للعاصمة وريفها.
نبع “عين الفيجة“
استعادت قوات الأسد سيطرتها على نبع “عين الفيجة” في كانون الثاني من العام الجاري بعد مواجهات وقصف استمر نحو شهرين، وخضع منذ عام 2012 لإدارة فصائل المعارضة في منطقة وادي بردى شمال غرب دمشق، ونجح النظام من خلال هذه العملية العسكرية بوضع يده على مصدر مياه الشرب الرئيسي في المحافظة.
بعد سقوط “السبينة” ليس كما قبلها، إذ حصدت فصائل دمشق وريفها نتائج ما أغفلته سابقًا، من افتقارها للتخطيط العسكري ورسم الاستراتيجيات المستقبلية، وحالة التشظي في ظل غياب الجسم والقرار الواحد، وعدم الاستفادة من مقومات حيوية تضمن من خلالها الاستمرارية وتزيد من خنق النظام، فتحول “الحزام الثائر” عام 2013 إلى مناطق آمنة للميليشيات الأجنبية بعد أربعة أعوام، لتغرّد الغوطة الشرقية منفردة بانتظار ما هو آتٍ، فهل تكسر موجة التهجير إلى الشمال؟
يبدو التوجه نحو إقامة مناطق آمنة في سورية متأخراً. ومن مظاهر تأخره تدفق ملايين النازحين السوريين إلى الخارج، وأعداد كبيرة إلى الداخل ممن فقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم. والأسوأ من ذلك أن غياب وجود مناطق آمنة للسوريين في وطنهم قد أدى إلى إزهاق أرواح نصف مليون ضحية، مع أعداد هائلة من المصابين والجرحى، ومئات الآلاف من المعتقلين، وقد قضى الآلاف منهم تحت التعذيب، في ما بات يُعرف بأكبر كارثة إنسانية في عالمنا منذ الحرب العالمية الثانية، هذا من دون إغفال نكبة فلسطين في العام 1948 وتشريد شعبها.
التوجه الذي أعلن عنه الرئيس دونالد ترامب، في الأيام الأولى لحلوله في البيت الأبيض، سبق أن تعرّض للرفض من الرئيس السابق، باراك أوباما، بحجة أن إقامة تلك المناطق تستلزم تهيئة تجهيزاتٍ عسكرية وإقامة حظر جوي، وكان أوباما يعتبر أن أية خطوةٍ لتقييد حركة النظام ضد شعبه، وضمان حدٍّ أدنى من الأمن للمدنيين على أنها سوف تزيد الوضع سوءاً (!)، وهو ما تذاكى فيه مسؤولون روس، عقّبوا على هذا التوجه، بالقول إن أيّة مناطق آمنة سوف تشكل خطراً على النازحين (!). علماً أن الطائرات الروسية، بالمشاركة مع طائرات النظام، سبق أن قصفت مراراً وتكراراً مخيمات وأماكن إيواء للنازحين، في ريف حلب، وفي إدلب، خلال العام 2016، وبسلوك وحشي لا مثيل له في تاريخ الحروب. بعد أن أعيتهم الحجة، لرفض هذا التوجه، طلب الروس موافقة النظام على إقامة تلك المناطق، علماً أن الهدف الأساسي منه هو حماية المدنيين من بطش النظام، لكن الأخير، على لسان وزير الخارجية وليد المعلم، سارع إلى رفض هذا التوجه (لانتهاكه السيادة .. المصونة)، من دون أن يثير هذا الرفض أصداءً تُذكر. ومن المثير للانتباه أن قوى المعارضة السورية تريثت في إبداء موقفٍ حيال هذا التوجه، علماً أن إقامة مناطق آمنة شكّل، على الدوام، مطلباً لهذه القوى، مقترناً بمطلب فرض حظر جوي.
والآن، بات هذا التوجه بين أيدي مؤسسات أمنية أميركية، إلى أن يُصار إلى تشريعه. وفي هذه الأثناء، سرّبت مصادر إعلامية أن اتصالاتٍ تجريها واشنطن مع أطراف تركية وأردنية وسعودية لهذا الغرض، علاوة على الطرف الروسي الذي يتمتع بوجود قوي على الأرض، والذي تراجع عن رفض الفكرة التي من شأن تنفيذها إحداث تغييراتٍ هي الأولى من نوعها، لجهة تقييد حركة النظام، والحؤول بينه وبين مواصلة هوايته اليومية المفضلة، وهي الفتك بشعبه، كما من شأن تنفيذ الخطوة كبح حركة "داعش" في التنكيل بالمدنيين، وصولاً إلى المنظمات الطائفية اللبنانية والعراقية، ذات الولاء الإيراني التي استمرأت التطهير العرقي والطائفي على مدى سنواتٍ، من دون أن تتعرّض هذه المليشيات للإدانة والمساءلة. ومعلوم أن الهدف الأميركي من إعلان هذا التوجه هو الحدّ من نزوح اللاجئين إلى الخارج. وفي ذلك، فإن هذا التوجه يحقق غايته، وذلك بـ "حرمان" النظام وحلفائه من قذف ملايين المدنيين إلى الخارج، من أجل تحقيق "الصفاء الطائفي" الذي سبق لرأس النظام أن تحدث عنه مُعرباً عن ارتياحه لهذه التغييرات.
على أن الخطوة، بقدر ما تثير ارتياحاً، وتفتح أفقاً لوقف معاناة السوريين، فإنها تنطوي على محاذير، يتمثل الأول منها في عدم وضوح الأهداف حتى الآن، فهل المقصود مثلاً مجرد تثبيت المقيمين على أرضهم، أم إن الهدف يشمل ضمان عودة اللاجئين إلى وطنهم في ظروف آمنة؟ بالعودة إلى مجريات الوضع قبل أربع سنوات على الأقل، استقبلت كل من تركيا والأردن ما لا يقل عن ثلاثة ملايين لاجئ سوري. وكان واضحاً، منذ البداية، أن النظام يريد التخلص من هؤلاء، وإلقاء العبء على دول الجوار. وفي ضوء ذلك، كان منطق الأمور يقضي بأن توفّر كل من تركيا والأردن بالتعاون مع الأمم المتحدة ملاذات آمنة لهؤلاء داخل وطنهم. وهو ما استنكفت عنه هاتان الدولتان، احتراماً لأحكام القانون الدولي، وبأمل أن يُصار إلى وضع حلول لمحنة اللجوء. استقبلت دول أخرى، مثل لبنان، ما لا يقل عن مليون لاجىء، وقد تعرّض هؤلاء، وما زالوا، إلى عسف شديد على الأراضي اللبنانية من أجهزة رسمية، ومن حزب الله، ووُجّهوا بتعامل طائفي وعنصري، لا نظير له في تاريخ صراعات المنطقة. ولن تكون خطوة المناطق الآمنة ذات معنى، إذا لم تضمن عودة نازحي تركيا والأردن ولبنان ومصر والعراق، بضماناتٍ أميركيةٍ وروسيةٍ وتركيةٍ وأردنيةٍ، على الأرض وفي الأجواء.
يتمثل محذور ثانٍ، كما يقول الناشط السوري فوزي غزلان، في الخشية من أن يتم تجميع نازحين عائدين أو نازحين قادمين من مناطق أخرى، في ما يشبه كانتونات بعيداً عن مناطق إقامتهم الأصلية. وبذلك، يتحوّل النازحون لاجئين بصفة دائمة في وطنهم، والفرق أن الأمم المتحدة وبعض الدول سوف ترعى وضعية لجوء هؤلاء، فيما الحل الموضوعي والحق الثابت هو في عودة الجميع إلى ديارهم. وهو أمرٌ يقف دونه حال الدمار لمساكن هؤلاء في مناطق، مثل حماة وحمص ودرعا وريف دمشق وحلب وريفها. ومغزى ذلك أنه لا يمكن للمناطق الآمنة أن تحقق الغاية المنشودة منها، بمعزلٍ عن حل سياسي شامل، وفق المرجعيات الدولية، يكون مقدمة لإعادة الإعمار، وعودة النازحين وإخلاء سبيل عشرات آلاف المعتقلين. ومن شأن حل شامل كهذا ليس فقط وقف المحنة المتطاولة، بل كذلك رفع الأعباء عن دول الجوار والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة.
كان الواجب يقضي، منذ خمس سنوات، بالضغط على النظام، لوقف حربه الدموية، والتوقف عن قذف ملايين السوريين إلى خارج الحدود، وتحميل المسؤولية عنهم لدول العالم والمنظمات الدولية. وكان الواجب يقضي بتقييد حركة النظام ومنعه من قذف البراميل المتفجرة واستخدام الأسلحة الثقيلة والأسلحة المحرّمة ضد شعبه، لكن السيد أوباما آثر الوقوف موقف المتفرّج، فيما كانت روسيا وإيران تعدّان العدة لخوض الحرب بصورة مباشرة إلى جانب النظام، لضمان أن يحقق انتصاره على شعبه بمجازر بلا عدد، وبدمار يعزّ على الحصر.
بوضع خيار المناطق الآمنة موضع التنفيذ، وبضمانات إقليمية ودولية على الأرض، لحماية هذه المناطق وقاطنيها وجعلها آمنة بالفعل، والتقدّم، بموازاة ذلك، نحو حل سياسي جدي، وفقاً لمرجعية جنيف1 وقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة، فإنه يمكن اعتبار أن الأسرة الدولية بدأت تتحمل مسؤوليتها في تقييد حركتي النظام وإيران، وفي إعادة البناء الشامل، وفي جعل سورية وطناً آمناً ومزدهراً لشعبها، لا مجرد مناطق آمنة.
هناك ثلاث ملاحظات على الدستور الذي قالت روسيا إنها قدمته للوفد السوري في مؤتمر أستانة، ونفى أعضاء وفد المعارضة تلقيه أو أنهم رفضوه.
الأولى أن الدستور حجر الزاوية في حياة الدول، وسيلعب دوراً حاسماً في إعادة تأسيس حياة سورية العامة. لذلك، لا يجوز تحويله موضوعاً للتلاعب، أو أداة بيد أي طرف غير سوري، فكيف إذا كان، كالدستور الروسي، معادياً للديمقراطية، أعز مطالب الشعب السوري، وكان يبني نظامه البديل، وبالتالي الدولة السورية الجديدة، على مبدأ الهويات الإتنية والطائفية والمذهبية والفئوية، بحمولته الفاشية والتفكيكية، ولا يبنيه على المواطنة، المبدأ الذي لا تقوم ديمقراطيةٌ بغيره. باعتماده مبدأ الهويات أساساً لإعادة تنظيم سورية، راح الدستور الروسي في اتجاه يقوّض فرص قيام الدولة التي اختارها الشعب، والتي تعترف، من موقعها المرجعي، بحقوق مكوّناتها وتكرّسها دستورياً وفي قوانينها وممارساتها، من المرجح، إنْ لم يكن من المحتم، أن يفضي تطبيقه إلى كياناتٍ هوياتيةٍ نابذة الميول وطنياً، تتبع دولة المركز لها أو تخضع لإرادتها، لتكون، دستورياً، دولةً عاجزة عن حماية نظامها العام، ضعيفةً في علاقاتها مع مكوّناتها المناطقية التي ستمتلك صلاحيات تعطيل بواسطتها قراراتٍ وطنيةٍ لمركز ليس مستقلاً عنها، على الرغم من أنها لا تتبع له إلا في مجالاتٍ محدودة وجزئية.
بدل أن يحمي الدستور المركز، نجده يعطيه ما يفيض عن صلاحيات المكونات، وبدل أن يعزّز دوره دولةً لجميع مواطنيها، ويجعل منها مرجعيةً في كل شأن وطني أو عام، وإن نسّقت مع مكوناتها في المسائل التي تتقاطع عندها المسؤوليات وتتكامل الصلاحيات. لكن الدستور الروسي يفعل العكس، من ذلك أنه يفرض على دولةٍ تريد أن تكون ديمقراطيةً نسباً، طائفية وقومية عند توزيع المناصب الوزارية، في استبدالٍ واضحٍ لنظام طائفي قائم بنظام طائفي قادم.
لو أخذ الدستور بالمواطنة مبدأً للنظام، لكانت المساوة بين المواطنين ترجمته العملية، ولما جرى تحديده بمبدأ الهويات الذي ينكرها، بينما يعترف النظام الديمقراطي بها، وبما يترتّب عليها من حقوق، ويجعل منها فضاءاتٍ وطنيةً لأتباعها ضمانات دستورية وقانونية، مساوية لما يتمتع به غيرهم. لذلك، لا تنتج التفاوت بين المواطنين عامة، ولا تغدو حواجز تقطع الشعب إلى عوالم متجاورة، لكنها لا تنتمي إلى جسدية دولوية/ وطنية واحدة، إن أعطيت حصصاً انتفى المجتمع، وعجزت السياسة عن ردم الهوّة بين مكوّناته وتداعى ما هو عام وجامع في علاقاتها التي لن ترتكز عندئذ على عقد اجتماعي/ سياسي بين الشعب والدولة، وسيستبدل بعقودٍ جزئيةٍ، يمليها كل مكوّن، تنمي خصوصياته خارج الإطار الوطني المشترك. قلت إن الدستور الروسي لا يقيم دولة ديمقراطية في سورية، وأقول الآن: إنه لن يقيم دولة.
ثانياً، يتعارض الدستور الروسي مع وثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن التي وافقت روسيا عليها، وجعلت الانتقال الديمقراطي هدفاً ملزماً للعملية السياسية، عليها أن تنتهي إليه. لا يذكر الدستور هذا الانتقال في أيٍّ من بنوده. ويقرّر، نيابةً عن الشعب السوري الذي لم يفوّض واضعيه بذلك، أن نظام دولته القادم سيكون رئاسياً في كل ما يتعلق بالدولة القمعية وأجهزتها السلطوية شبه برلماني في مؤسسات الدولة الأخرى التي ستخضع لمحاصصاتٍ طائفيةٍ وقومية. لتمرير هذه الهجانة المدمرة لفرص قيام الدولة الديمقراطية، يفبرك الروس سلطاتٍ رئاسيةً، لا يحق لأحدٍ التدخل فيها، بينما تتدخل هي، في المقابل، في تعيين صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، ووظائف جمعية الشعب وجمعيات المناطق، وتمتلك هي، وكل واحدةٍ من هذه المؤسسات الرسمية، حق إلغاء السلطة التشريعية عبر الحق في قيامها بـ "مبادرات تشريعية". هذا دستورٌ يكرّس فوضى الصلاحيات وتداخلها الذي لن ينتج غير فوضى قانونية ضارية.
ثالثاً، بتجاهله الانتقال السياسي ووثائقه وقراراته الدولية، وفبركته نظاماً، رئيسه قوي ودولته ضعيفة، أطرافه جبارة ومركزه متهالك، يبعث الروس رسالتين إلى السوريين، تقول أولاهما لأهل النظام: انسوا نظامكم الحالي. وثانيتهما لأهل المعارضة: انسوا النظام الديمقراطي.
إذا كان دستور الروس لا يفي بالحد الأدنى من مطالب شعبنا، ويضعه في مواجهة نظام انتقالي معقد ومشحون بعوامل تضعف الدولة، وتشتت المجتمع، وتؤسّس فوضى صلاحياتٍ لن يستقيم في ظلها الأمر لأيٍّ من مكوناتها، أو مؤسسةٍ من مؤسساتها، ولن نتخلص من الاستبداد أو ننال حريتنا، لماذا ننصاع لبنوده التي أملتها على واضعيه سيطرتهم علينا؟