رحلت إدارة باراك أوباما ومعها العشق من جانب واحد الذي بقي ممنوعاً، وكذلك الرهان على التغيير في طهران أو إبرام شراكة معها، وتمركز دونالد ترامب الذي بدأ يهز العالم بقراراته التنفيذية المترجمة لوعوده الانتخابية، لكن صانع القرار الإيراني بدا غير منتبه أو غير مكترث بهذا التحول في البيت الأبيض، وإذ به يوجه رسائل استفزاز وتحد بعد أيام على تنصيب دونالد ترامب. من خلال تجربة الصاروخ الباليستي المتوسط المدى، والهجوم الحوثي ضد الفرقاطة السعودية، أرادت طهران جس نبض فريق ترامب. لم يتأخر الرد الأميركي بالتحذير الشديد والعقوبات مما يؤشر على اختبار للقوة بين الجانبين لن يخرج في البداية عن السيطرة، لكنه سيمهد على الأرجح لرسم معادلة جديدة في الإقليم قد لا تكون لصالح اللاعب الإيراني.
يبدو ترامب وكأنه يسابق الزمن كي يثبت بدء عهد جديد في واشنطن والعالم، وأنه كان يعني ما يقول خلال حملته الانتخابية أو في المرحلة الانتقالية قبل تسلمه الحكم. وهكذا عند أول احتكاك مع إيران سرعان ما وصف الاتفاق النووي مع إيران بالكارثي أو الفظيع، لكنه لم يطالب بإلغائه لاستحالة الأمر عملياً أو لخطورته. وحسب مصادر مطلعة في واشنطن، يمكن تلخيص خطة ترامب حول إيران على الشكل الآتي:
◄ نووي عسكري أو ممهد للعسكري صفر، وذلك عبر التنفيذ الصارم للاتفاق النووي، وليس تمزيقه. تريد الإدارة متابعة تكثيف المراقبة الدقيقة لكل شاردة وواردة، فإذا قامت إيران بانتهاك الاتفاق، سيسقط الاتفاق ويتم القفز إلى المحاسبة.
◄ رفض تطوير برنامج الصواريخ الباليستية. ولذا سيكون الرد على تجربة أواخر يناير 2017 عبر حزمة عقوبات كانت قيد الإعداد.
◄ مراقبة نشاطات إيران المزعزعة للاستقرار الإقليمي، ورفض التدخل السافر في شؤون الدول الأخرى (ضمن الأفكار المطروحة، فرض عقوبات على شركات طيران إيرانية تنقل السلاح إلى العراق أو سوريا).
◄ التنبه لنشاطات دعم الإرهاب.
عند أول تطبيق عملي، يتضح أن لهجة الإدارة الجديدة تعكس تحولاً بنسبة 180 درجة عن إدارة باراك أوباما؛ حيث أن تضمين اعتداءات الحوثيين ضد المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في بيان التحذير الذي صدر عن البيت الأبيض أو في المؤتمر الصحافي لمستشار الأمن القومي مايكل فلين يعكس تركيز الإدارة الأميركية على تصرفات إيران وسلوكها الإقليمي، وهو ما كان يتجاهله فريق أوباما.
حسب مصادر في المنامة، تزامنت تجربة إطلاق الصاروخ الباليستي الإيراني مع مناورات بحرية بين 31 يناير و2 فبراير تجرى للمرة الأولى في المياه الإقليمية الواقعة بين البحرين وإيران، وهذه المناورات المسماة “ترايدنت يونايتد” والتي شاركت فيها قوات بحرية أميركية وبريطانية وفرنسية وأسترالية، شملت جميع أنواع العمليات البحرية بهدف تعزيز الشراكة بين القوات المشاركة، ودعم الأمن البحري وتعزيز التعاون الدولي لضمان حرية انسياب حركة التجارة في منطقة الخليج، كما كانت تهدف إلى تحسين الكفاءة التكتيكية للقوات وتقوية علاقات الشراكة لضمان حرية الملاحة.
وغالباً ما كان الحرس الثوري الإيراني يرسل زوارقه لاستفزاز السفن المشاركة والتحرش بها، لكن هذه المرة لم يحصل ذلك، لأن هذه السفن كانت متطورة ومحصنة، وحسب مصدر في دبي كان “قائد الأسطول الأميركي الخامس قد وجه تهديداً بإطلاق النار الفوري على أي تحرك مشبوه”. وتبعاً لهذه المجريات لا يستبعد أن يكون الاعتداء على الفرقاطة السعودية رسالة للقول بأن إيران قادرة على إثبات الوجود في هذه الممرات الإستراتيجية التي تعتبر من أبرز شرايين التجارة العالمية ونقل الطاقة. طبقاً لقانون البحار لعام 1982، لا يحق لأي قوة عرقلة الملاحة الدولية. وللتذكير حاولت إيران عند نهايات الحرب العراقية – الإيرانية (تحديدا في الفترة بين 1987 و1988) تعطيل حرية الحركة وكان الثمن ردوداً غربية أسفرت عن توقيف الحرب وتراجع إيران.في مواجهة الوقائع الجديدة، بدا رد الفعل الإيراني متشددا في الظاهر مع كلام علي ولايتي مستشار المرشد الأعلى عن “تمريغ أميركا سابقا بالوحل في العراق” لكن يبدو أنه إزاء التحذير الأميركي الشديد اللهجة غابت عن ردود الأفعال الإيرانية عبارة “الشيطان الأكبر” وغيرها من المفردات المعتادة. على المدى القصير، يعتقد أن العقوبات الأميركية الجديدة قد تكون مقدمة لسياسة أشد صرامة، لكن ستفرضها الولايات المتحدة بطريقة لا تتعارض مع الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 والذي بمقتضاه وافقت طهران على تقييد برنامجها النووي مقابل إعفائها من عقوبات اقتصادية.
هكذا تبدأ صفحة جديدة في المسلسل الطويل بين واشنطن وطهران والمستمر فصولاً منذ عام 1979، والأرجح بدء المعارضة الأميركية للتوغل الإيراني في سوريا والعراق والتدخل الإيراني في اليمن، وسيكون ذلك وفق معادلة تفترض مساعدة واشنطن للحلفاء المحليين مقابل مشاركتهم الفعالة في هذا المجهود وتبني الخطط الأميركية في محاربة الإرهاب. وفي نفس السياق، سيكون لمسارات الحوار أو التنسيق بين واشنطن وكلّ من روسيا وإسرائيل أثر مباشر في بلورة المقاربة الأميركية الشاملة إزاء إيران.
يحمل السجال العلني، وغير المألوف دولياً، بين روسيا وإيران حول من يمكن وصفه بـ «صاحب الفضل» في إنقاذ دمشق، وتالياً النظام السوري، من السقوط خلال الفترة الماضية، أحد معنيين أو المعنيين: إما أنهما بدأتا التنافس حول وراثة النظام بعد أن فقد من وجهة نظرهما مبرر وجوده، أو أنهما تشيران الى تباين جدي بينهما حول أولويات المرحلة المقبلة... تسوية سياسية للحرب السورية، أو استمرار هذه الحرب لسنوات أخرى.
فليس مألوفاً بين الدول في العالم، بخاصة إذا كانت كبرى كما هي حال روسيا، أو ساعية لدور اقليمي ودولي كما هي ايران، أن تدخل في سجال حول من ساهم أكثر من غيره، أو ربما حتى من دون غيره، في الحرب الإبادية الناشبة منذ ستة أعوام في دولة ثالثة. وسواء حملت هذه الحرب اسم الدفاع عن النظام في سورية، أو محاربة الإرهاب، أو غيرهما، فلا يغير ذلك في الأمر شيئا: تدمير سورية وتشريد شعبها في أصقاع الأرض في نهاية المطاف. كذلك فإنه بغض النظر عن غياب النظام عن هذا السجال، فضلاً عن الاتفاقات المسبقة في شأن المفاوضات في آستانة، فلا يقلل هذا الأمر من شأن «الاشتباك» بين موسكو وطهران حول ما تم حتى الآن، ولا حول ما سيجري مستقبلاً.
بدأ السجال عندما تبرع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في تصريح صحافي من دون مناسبة مبررة وعلى هامش اجتماع وزاري ضمه ووزيري الخارجية الإيراني والتركي تحضيراً لاجتماع آستانة بين وفدين من النظام والمعارضة المسلحة، بإعلان أنه لولا التدخل العسكري الروسي في أيلول (سبتمبر) عام 2015 لكانت دمشق قد سقطت في أقل من أسبوعين. بعده بأيام، جاء الرد على لسان المستشار العسكري للمرشد الإيراني على خامنئي الذي قال انه لولا التدخل الإيراني لكانت كل من دمشق وبغداد قد سقطتا معاً خلال أيام وليس خلال أسابيع. ليأتي بعده دور قاعدة حميميم الروسية (باتت، كما يبدو، مركزاً اعلامياً ناشطاً)، لتعلن في بيان رسمي ان التدخل الروسي في سورية بدأ بعد أكثر من ثلاثة أعوام من تواجد ايران، بقواتها المسلحة وحرسها الثوري وميليشياتها، من دون نتيجة في ما يتعلق بإنقاذ دمشق التي كانت توشك على السقوط. أكثر من ذلك، فليس سراً أن التدخل الروسي جرى بالتنسيق المباشر بين موسكو ودمشق وطهران، وأن الأخيرة تحدثت عن زيارتين قام بهما الى موسكو مسؤولها العسكري في سورية، قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني، عشية الإعلان عن هذا التدخل... بما يفيد بأن هدفه لم يكن فقط إنقاذ نظام الحكم في دمشق، انما أيضاً انقاذ ايران نفسها من ورطتها في سورية.
لكن، ماذا وراء هذا السجال غير المألوف دولياً بين روسيا وإيران حول دور كل منهما في سورية؟.
غني عن القول ان ما يريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من قاعدتيه العسكريتين الكبيرتين في حميميم وطرطوس النظر منهما الى العالم الواسع، أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وجوارهما التركي بحراً وبراً وصولاً الى أوروبا والغرب عموماً من ناحية، وإلى الشرق الأوسط العربي من ناحية ثانية، أكثر من التطلع الى الداخل السوري على أهميته القصوى بالنسبة لما سيكون عليه مستقبل قاعدتيه هاتين في سورية. ولعل انفتاح بوتين على الوضع الفلسطيني من ناحية، بإعلانه الاستعداد للعب دور في تسويتها، وقوله قبل أيام فقط أن دعوته لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لا تزال مفتوحة، وعلى الوضع الليبي من خلال استقباله مرتين على الأقل في خلال شهرين قائد الجيش فيها (عملياً، أحد الجيوش الليبية) الجنرال خليفة حفتر ووعده بتسليح قواته، يكفيان للتدليل على نظرة زعيم الكرملين الإستراتيجية والبعيدة المدى للمنطقة ان لم يكن الآن، ففي الفترة المقبلة من تواجد قاعدتيه، وبالتالي تزايد دوره ونفوذه، في سورية.
قد لا يكون بوتين بصدد البحث عن بديل للأسد في هذه المرحلة، أقله لارتباط وجوده بوجود القاعدتين وجملة الامتيازات التي وفرها لها وللسياسات الروسية فيها وفي المنطقة، الا أنه كما يبدو يريد تسوية سياسية يضمن من خلالها ليس بقاء القاعدتين لمدة طويلة فقط، انما تحولهما رأس جسر سياسياً يلاقي طموحاته باستعادة دور الاتحاد السوفياتي السابق، وحتى القيصر الروسي القديم، في سياسات المنطقة والعالم.
وليست هذه، ولا شيء منها على الإطلاق، في خطة إيران لسورية أو بخاصة لمستقبل الحرب فيها. فهذه لا ترى في سورية سوى «سورية الأسد» من دون غيرها، وتحديداً منها الجزء الذي لا يتجزأ من محور امبراطوري يقوده «الولي الفقيه» في ايران ويمتد من طهران الى دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء، والذي لا بد أن تتواصل الحرب فيه الى أن يتم «تحرير» كامل الأراضي السورية وتجري استعادتها الى كنف النظام (عملياً، كنف ايران وقواتها وميليشياتها وحرسها الثوري) كما كانت قبل بدء الثورة ضده في آذار (مارس) 2011.
والخطاب السياسي والإعلامي الإيراني، كما ممارسات ميليشياتها على الأرض في منطقة وادي بردى وغيرها وصولاً في الفترة الأخيرة الى مدينة الباب في الشمال السوري، لا يقول غير ذلك.
ولعل هذه هي معضلة سورية الآن، ومعها الى حد كبير معضلة روسيا وتركيا اللتين تبحثان عن تسوية تنهي الحرب المديدة في هذا البلد المعذب.
لا جدوى من تجديد الحديث عن انعدام الشعور بالمسؤولية لدى أهل النظام الأسدي في كل ما يتصل بمكونات المجتمع السوري، وخصوصاً منها المكوّن العلوي الذي ألقوا به إلى محرقة دمرته، لن يبقى بعدها ما كان عليه قبلها، عدديا ومجتمعيا، سياسيا واجتماعيا. لو كان عند أهل النظام أدنى شعور بالمسؤولية عن شعب"هم"، لما عاملوه بعنف خمسين عاما، ولأحجموا عن إطلاق النار على متظاهرين شبّان، غالبا طالبوا سلميا بحريتهم، ولتذكّروا أن الحرية أحد وعود حزبهم للعرب، وليست مؤامرة إمبريالية/ صهيونية، ولبادروا إلى إجراء إصلاح طالما تحدث الأسد الأب عن ضرورته في سنواته الأخيرة، ولما حالوا، بجميع الوسائل، دون حل توافقي لأزماتٍ افتعلوها، للسيطرة على الشعب، وصرفه عن الاهتمام بقضاياه العامة ومشكلاته المستعصية، التي أنتجتها سياساتهم في جميع المجالات والأصعدة، ولسارعوا إلى تلبية مطالب مواطنيهم، ولتجنبوا شن حرب إبادة وتدمير شاملة عليهم، أجبرتهم على الدفاع عن وجودهم بقوة السلاح. بدل أن يرفض أهل النظام الحل العسكري/ الأمني، ويروا فيه ضربا من الاستحالة، جعلوا الحل الإصلاحي/ السلمي، الكفيل وحده بإنقاذ دولة سورية ومجتمعها، مستحيلا، والمطالبة به خيانة وطنية عقوبتها الموت قتلا. لذلك، شرعوا يطلقون النار على مواطني"هم"، إناثا وذكورا، ويستهدفون بالقتل الشبان منهم بصورة خاصة، حتى صار مجرد أن المرء شاب سببا كافيا لقتله، فلا عجب أن غطت دماء الشباب أرض سورية من أقصاها إلى أدناها.
لم تكن هذه السياسة الإجرامية وقتية، بل خيارا تبناه النظام ورعاه، منذ استولى الأسد الأب على السلطة عام 1970، وتصرّف وكأن سورية لا تتسع للنظام والشعب، وأن حضور أحدهما لا بد أن يغيب حضور الآخر، فلا مكان لأي توافق أو تعايش عادي أو طبيعي بينهما، ولا علاج لأي خلاف بينهما غير العنف الأقصى (الرادع) الذي لا بأس إن بلغ حال حربٍ يخوضها جيشه المستعد لها أولوية أمنية عليا، بالنظر إلى أن عدو الداخل أشد خطرا من أي عدو خارجي، وخصوصاً إسرائيل.
واليوم، وبعد قرابة ستة أعوام من حربٍ مجنونةٍ شنها الأسد على السوريات والسوريين، تعترف دول العالم جميعها باستحالة الحل العسكري، وبالنتيجة باستحالة عودة سورية إلى وضعها الأسدي الذي عاشته قبل ثورتها، نرى الأسدية تصر على حلها المستحيل، وتضع السوريين والعالم أمام خيارٍ لا مهرب منه، هو إرغامها على قبول حل سياسي يجبرها على دفع الأثمان المناسبة لما ارتكبته من جرائم ضد شعب"ها"، وشعوب الدنيا التي عرضتها بوحشيتها المنقطعة النظير لمخاطر وتحديات كارثية، فرضت على عديد من بلدانها أعباءً ومراجعاتٍ استراتيجية ثقيلة الوطأة وغير مسبوقة، علها تحول دون انتقال الإرهاب، وخصوصاً منه الأسدي، إليها، ومن دون توريطها في حروبٍ سرية وعلنية في بلدانها، وعلى أرض سورية، يحتّمها الارتباط الجدلي بين سياسات الأسد السورية وما يعيشه المجتمع الدولي من انعكاساتٍ ناجمةٍ عنها، ويصيب علاقات وأوزان قواه من تبدلاتٍ تقوّض توازناته، وتنتهك قيمه وتشل مؤسساته، ويرجّح كثيرون أن تنتج نظاما دوليا أشد سوءا من نظامه الحالي الذي تخلق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتلاشي نظام القطبية الثنائية.
على الرغم من أستانه، وما بذله الروس والأتراك من جهد لإحداث انعطافةٍ سورية يمهد الالتزام بها لحل سياسي، أعلن بشار الجعفري، ممثل الأسدية فيها، رفض نظامه التخلي عن الحل العسكري، المستحيل سورياً وإقليميا ودوليا، كما رفض التقيد بوقف إطلاق النار، بذريعة محاربة الإرهاب، ضاربا عرض الحائط رغبة السوريين، وغيرهم من المطالبين بالسلام في وقف إراقة دماء الأبرياء، والتعاون ضد الإرهاب المزدوج، الآتي من الدولة الاستبدادية التي لا تعتمد سبيلا آخر للتعامل مع شعبها غير العنف، وذاك الذي تمارسه تنظيماتٌ مذهبيةٌ لعب الاستبداد الأسدي دورا كبيرا في تأسيسها، وكذلك التعاون لوضع حد للحل الأسدي المستحيل: منتج الفوضى والموت قرابة ستة أعوام، والمتسم بعبثيةٍ مطلقة على الصعيدين، السياسي والعسكري، وسفك بحارا من الدماء، من دون أن يكون لها إلى اليوم أي عائد سياسي.
إلى متى يبقى العالم صامتا حيال نظامٍ يرفض أي حل سياسي لمعضلةٍ تسبب بها، ويصر على حله العسكري المستحيل من جهة، والعاجز، من جهة أخرى، عن مواجهة أزمات سياسية/ اجتماعية لم يسبق لحلٍ عنيف أن نجح في التخلص منها، على الرغم من أن ناتجها الأوحد كان دوما أنهارا من دماء الأبرياء، وأزمات غطت أربع أقطار الأرض، وقوّضت عيش مواطنيها الآمنين؟
تضع الأحداث الدولية المتسارعة الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية التي يترأسها رياض حجاب، والتي تضم ممثلين من معظم كيانات المعارضة، السياسية والعسكرية، في الداخل والخارج، أمام منعطفٍ كبير، وتحدياتٍ كثيرة، إذ من شأن ذلك أن يعيد هيكلة تمثيل الكيانات السياسية المعارضة، بل وحتى إنتاج مرجعية تفاوضية جديدة، لا تأخذ في الحسبان شكل (ونسب) التمثيل التي جرى اعتمادها في أثناء تشكيل تلك الهيئة في الرياض (ديسمبر/ كانون الأول 2015).
على ذلك، أضحت هذه الهيئة التي كانت تشكلت في الرياض، قبل أكثر من عام، في مواجهة أوضاع أو تحديات جديدة، لا بد من التعامل أو التكيّف معها، أو مقاومتها، لعل أهمها يتمثل في الآتي:
أولاً، الإبقاء على الروابط القوية التي تجمعها مع فصائل المعارضة المسلحة، والتي تعتبر موسكو أنها حقّقت خرقاً كبيراً في مواقفها، من خلال العلاقة الوطيدة التي أضحت تربطها مع تركيا من جهة، ومن خلال التزام هذه الفصائل ببيان أستانة، الموقع من الحليفة والضامنة لهم تركيا من جهة أخرى.
ثانياً، التساؤل بخصوص موقع المعارضة المسلحة في إطار تحوّلها إلى قوة للمعارضة السياسية لتحقيق الانتقال السياسي، وليس الانقلاب العسكري، أو الاندماج العسكري، الذي تطمح له روسيا، بالطريقة التي تضمن لها بقاء سيطرتها على سورية، بوصفها دولة تحت الوصاية.
ثالثا، تحقيق ما صرح به المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، في 31 يناير/ كانون الثاني الماضي، حول تشكيل وفد واحد للمعارضة، والمقصود وفد يضم ممثلي المنصات التي اجتمعت في موسكو، مع وفد "الهيئة العليا"، وهو الأمر المتطابق مع بيان اجتماع موسكو (27 يناير). وهنا، يبرز التحدّي في آلية العمل التي ستتبعها للوصول إلى تفاهماتٍ لتشكيل الوفد المطلوب دولياً.
رابعاً، وقبل الوصول إلى تشكيل الوفد، لا بد من الوصول إلى ما هو أهم من الوفد الواحد، وهو الرؤية للعملية التفاوضية بكاملها، وما هو الهدف المبتغى منها؟ أي بصراحةٍ مطلقة: على ماذا سيتم التفاوض، وما هو السقف الأعلى، قبل الوصول إلى أخفض درجات السقف الأدنى الجامع الذي يتوافق عليه المتفاوضون على تباين مواقفهم، ومواقعهم؟
خامساً، كيف وما نسبة التمثيل المفترضة وآليات تنفيذها لكل التكوينات السياسية؟ وهل ستستطيع الهيئة العليا للمفاوضات أن ترمم خلافاتها مع مكوّناتها التي صارت أطرافاً في هذه المنصّات، بعد أن كانت جزءاً من الهيئة نفسها، كتيار بناء الدولة ورئيس تيار الغد ورئيس مجموعة سورية الوطن؟ وماذا عن كيانات سياسية كحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ومنصة حميميم وغيرهما؟
كل هذه التساؤلات، أو المعطيات، تضع الهيئة العليا للمفاوضات أمام مسؤولياتٍ كبيرة وكثيرة لكي ترتب صفوفها، وتوضح مواقفها، ولكي تعزّز من دور السوريين ككل في تقرير مستقبلهم، بدل أن تقرّره عنهم الدول الكبرى، أو الدول الفاعلة في الصراع السوري، بحسب أجندتها وأولوياتها.
ولعل هذه الهيئة مطالبة بإدراك الوضع الحرج الذي باتت فيه، لا سيما على ضوء متغيرات عديدة، أهمها: أولاً، تحوّل الموقف التركي نحو التنسيق مع روسيا في الملف السوري، وهو موقفٌ نجمت عنه مضاعفاتٌ أو تداعيات عديدة سياسية وميدانية، خفضت سقف المعارضة. ثانياً، انحسار مكانة فصائل المعارضة العسكرية، بعد خسارة مواقع نفوذها في مناطق عديدة، ولا سيما في حلب، وهو ما اضطرها إلى المشاركة في مؤتمر أستانة. ثالثاً، دخول فصائل المعارضة العسكرية على خط المفاوضات، بعد أن كان الأمر في يد الهيئة وحدها، من جهة المعارضة. رابعاً، افتقاد الهيئة العليا للمفاوضات، والمعارضة السورية إجمالا، أية أوراق ضغط لفرض نفسها ممثلاً وحيداً، أو ممثلاً أساسياً في المفاوضات.
على ضوء هذا الوضع، يفترض بالهيئة أن تشتغل بعقلية وطنية، مسؤولة ومرنة، بحيث تستطيع لملمة كل الكيانات والإرادات المبعثرة للمعارضة السورية، بشقيها العسكري والسياسي، الداخلي والخارجي، للمضي إلى المفاوضات نواة صلبة لمواجهة استحقاقات جنيف التفاوضية، وتحصيل ما يمكن لتجاوز أزمة المعارضة والثورة. كما مطلوب منها العمل بعقليةٍ منفتحة، تتمكّن بها من العمل مع أطراف المعارضة الأخرى التي تتفق معها بالهدف الأساسي، وهو الانتهاء من نظام الاستبداد، وإقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة مدنية وديمقراطية، بحيث تتجاوز، في ذلك، الخلافات الحالية والمصالح الحزبية أو الكيانية، من أجل المستقبل المشترك، ومن أجل مصلحة شعبنا السوري كله.
نجح النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون بتفتيت الحزام الناري الذي فرضته المعارضة حول دمشق، فاستطاع تجزئة غوطتيها الشرقية والغربية، وتحييد البلدات الجنوبية بشكل كامل، ما سهل عليه فرض “هدن” بالقوة، ثم تسويات تضمن ترحيل مناهضيه إلى الشمال.
النفوذ الأكبر وبداية الانتكاسة
شكلت الفترة الممتدة من أيلول 2012 وحتى شباط 2013 مرحلة ذهبية لفصائل ريف دمشق، فنجحت بتكوين هلال يلفّ العاصمة من ثلاث جهات (الغربية، والجنوبية، والشرقية)، وأصبحت المنطقة الممتدة من معضمية الشام في الغوطة الغربية، وحتى عدرا البلد في الغوطة الشرقية تحت سيطرة المعارضة، والتي لم تكتفِ بالمناطق الريفية فحسب، بل تمددت في أحياء العاصمة، مثل برزة والقابون وجوبر شمال المدينة، والقدم والحجر الأسود ومخيم اليرموك جنوبها.
ونجحت المعارضة بوضع يدها على أجزاء واسعة من طريق مطار دمشق الدولي، بسيطرتها على بلدتي شبعا وحتيتة التركمان المطلتين على الطريق الحيوي، وضيقت خناقها على المطار بتعزيز نفوذها في بلدتي حران العواميد والغزلانية المحاذيتين له، وباشرت فعليًا بالتمهيد لاقتحامه عبر استهدافه بالمدفعية والصواريخ، دون أن تتمكن من ذلك.
في الفترة ذاتها، حققت المعارضة انتصارات في منطقة القلمون شمال دمشق، كان أهمها السيطرة على مدينة يبرود في أيلول 2013، وما تبعها من عمليات ضد النظام في معلولا وديرعطية والنبك وجيرود والناصرية والتل ورنكوس وغيرها، وإحكام السيطرة على مدينة الزبداني وبلدتي مضايا وبقين، وتأمين طريق إمداد بينها وبين منطقة وادي بردى وبلدتي قدسيا والهامة المجاورتين، وجميعها تحت سيطرة “الجيش الحر” آنذاك، إلى جانب نجاح الفصائل في تأمين طريق إمداد من القلمون إلى الغوطة الشرقية، بهيمنتها على طريق الضمير- عدرا، إذ خضعت عدرا البلد ومدينتها الصناعية لسيطرة المعارضة أيضًا.
وخلال عام، شهدت المحافظة مرحلة انحسار وضعف للمعارضة، وشكلت استعادة قوات الأسد منطقة السبينة جنوب دمشق في تشرين الثاني 2013، نقطة تحول مفصلية في دمشق وريفها، وسقطت مدن وبلدات الغوطة كأحجار الدومينو خلال أشهر، كان أبرزها: البويضة، والحجيرة، وشبعا، وحتيتة التركمان، والغزلانية، وحران العواميد، والعتيبة، والعبادة، وقيسا، ودير سلمان.
وخسرت الفصائل أيضًا مدينة المليحة في عمق الغوطة، ومدينة عدرا ومساكنها ومنطقتها الصناعية شمالها، في آب وأيلول من عام 2014.
وحقق النظام السوري من خلال هذه العملية هدفين سعى إليهما: الأول هو تأمين الطريق الواصل بين مدينة دمشق والمطار الدولي في الجهة الشرقية، والثاني هو فصل كامل للغوطة الشرقية عن الغربية، وعزل منطقة جنوب دمشق، ثم إطباق حصار على المناطق الثلاث في مرحلة لاحقة، تمهيدًا لاستهداف كل منطقة على حدة، وإرغام الفصائل على القبول بهدن ومصالحات.
أيضًا أخذت المعارضة بالانحسار في القلمون الغربي في الفترة الممتدة من أيلول 2013 وحتى آذار 2014، فاستعادت قوات الأسد مدعومة بميليشيات “حزب الله” اللبناني مدنًا وبلدات رئيسية في المنطقة، نذكر منها بحسب الترتيب الزمني: بلدة معلولا (أيلول 2013)، بلدة قارة (تشرين الثاني 2013)، مدينة ديرعطية (تشرين الثاني 2013)، مدينة النبك (كانون الأول 2013)، مدينة يبرود (آذار 2014).
منذ مطلع عام 2014، تحولت المعارضة من الهجوم إلى الدفاع، عدا محاولات فك حصار شهدتها الغوطة الشرقية في مناسبات عدة، كما تشظّت الفصائل في قتالها لتقف أمام خصم ظهر جديدًا على الساحة، وهو تنظيم “الدولة الإسلامية”، بالتزامن مع بدء النظام السوري مرحلة جديدة غير مسبوقة في دمشق وريفها، وهي فرض تسويات وهدن محلية جنوب وغرب وشمال العاصمة.
خسائر 2016 أشد وطأة على فصائل دمشق
خسرت فصائل المعارضة خلال العام الماضي، عشرات المناطق لصالح قوات الأسد والميليشيات الرديفة في محيط الغوطة الشرقية، خلال معارك واسعة شنها النظام هناك، بينما عقد تسويات تحت عنوان “مصالحات” في مناطق أخرى من ريف دمشق، آخرها منطقة وادي بردى.
قضم الغوطة الشرقية
وبدأت الحكاية بعد أن أحكمت قبضتها على بلدة مرج السلطان ومطارها الاحتياطي، في 13 كانون الأول من عام 2015، في تقدم وصف بأنه “الأكبر من نوعه” في الغوطة الشرقية.
وتابع النظام عقب مرج السلطان، محاولات تقدمه إلى المطار الرئيسي في المرج، لعزل المحور الشرقي للغوطة، بعد أن أنهى ملف بلدة المليحة (القريبة من المطار وتبعد خمسة كيلومترات عن العاصمة) في آب 2014، وعقد مصالحات في بلدات عقربا وشبعا وحتيتة التركمان والحسينية، وكل ذلك بعد ضمه عدرا في وقت سابق من 2015.
بعد خسارة مرج السلطان، شكّلت فصائل المعارضة “غرفة عمليات المرج” والتي استطاعت استعادة بعض المناطق، إلا أنها خسرتها مجددًا واعترف قادتها، في حديثٍ حينها لعنب بلدي، أن المعارك “هي الأشرس على الإطلاق”، مع استمرار زحف قوات الأسد، رغم هدوء الجبهات واقتصارها على معارك كر وفر في القطاع الجنوبي للغوطة على مدار أربعة أشهر، اشتدت في أيار من عام 2016.
اشتداد المعارك تكلل في منتصف أيار بالسيطرة على قريتي نولة وبزينة في محيط دير العصافير، بعد أيام من بدء اقتتال فصائل الغوطة في 28 نيسان من العام نفسه، إلى أن وسّعت قوات الأسد سيطرتها في المنطقة، وضمّت دير العصافير، وزبدين، حوش الدوير، والبياض، وحرستا القنطرة، وبالا، إضافة إلى الركابية، وحوش الحمصي، في 19 أيار، واستطاعت فصل القطاع الجنوبي، الذي يعتبره الأهالي، خزانًا زراعيًا للمنطقة.
توغل النظام في المنطقة استمر ولكن من شمال شرق الغوطة، إلى حين سيطرت قوات الأسد على حوشي الفارة ونصري وميدعا في آب وتموز من عام 2016، بينما واصلت التقدم إلى أن أحكمت قبضتها على الميدعاني والبحارية، وعدد من التلال والمزارع المجاورة، وعزا أهالي الغوطة سبب تراجع المعارضة إلى اقتتال الفصائل الذي انتهى مطلع تشرين الثاني 2016.
وتزامنًا مع تلك المعارك سيطرت القوات في 30 تشرين الأول 2016، على مزارع الريحان ومنطقتي تل كردي وتل صوان، كما تواصلت المواجهات في تلك المنطقة حتى السيطرة على بلدة القاسمية، لتصبح على مشارف بلدة النشابية المجاورة، في 26 كانون الثاني 2017.
تسوياتٌ في محيط العاصمة
تزامنًا مع استمرار المعارك في الغوطة الشرقية، سعى النظام جاهدًا إلى عقد تسويات بمناطق مختلفة في محيط دمشق، ما جعل أغلب المدن العائدة إلى “حضن الوطن” خالية من السلاح و”المسلحين”، كما يسميهم النظام ومؤيدوه، بعد خروج الفصائل منها، عقب تخييرهم بين “الحرب الشاملة” أو تسليم سلاحهم وتسوية أوضاعهم، أو الخروج إلى إدلب شمال سوريا.
ابتدأ النظام بالغوطة الغربية، وتحديدًا من مدينة داريا، التي استطاع إفراغها من أهلها في 26 آب 2016، فخرج أكثر من خمسة آلاف شخص من المدينة، قرابة 1200 منهم إلى إدلب، بينما توجهت الأغلبية نحو بلدة حرجلة في ريف دمشق، والتي تخضع لسيطرة النظام.
وخرج مقاتلو بلدتي قدسيا والهامة، في 13 تشرين الأول من العام نفسه، باتجاه محافظة إدلب، رغم أن عملية الخروج تعرضت لمعوقات هددت بتأجيل العملية، لكن ما لبثت أن استؤنفت في موعدها، إلى أن خرج 525 شخصًا مع عائلاتهم من قدسيا، و114 آخرين مع عائلاتهم من الهامة، ليكون العدد الكلي بشكل تقريبي حوالي 2500 شخص.
في مدينة معضمية الشام التي ضمّت بعضًا من أهالي داريا، خرج من لم يسوِّ أوضاعه فيها مع النظام إلى إدلب، وقُدّر عدد المغادرين من المعضمية في 19 تشرين الأول، بقرابة ألف شخص، جميعهم انتقل إلى إدلب.
تهجير أهالي المنطقة الغربية من ريف دمشق، استمر ضمن نطاق التسويات، التي جاءت جميعها بعد معارك مكثفة شنتها قوات الأسد، للضغط على الأهالي والرضوخ لشروطها، وخرج من خان الشيح وزاكية قرابة 4500 شخص في 29 تشرين الثاني 2016، واستمر على مدار ثلاثة أيام، ثم تبعهم 250 مقاتلًا من زاكية في كانون الثاني 2017.
كما خرجت أعداد قليلة من أهالي بلدة كناكر في تشرين الثاني 2016، إلا أن معظمهم سوّى أوضاعه لدى النظام، في حين خرج قرابة 1300 شخص من المقاتلين وعائلاتهم في مدينة التل، في 2 كانون الأول 2016، بعد أن تحوّلت إلى مقصد لنازحي المناطق المشتعلة في غوطتي دمشق، وضمت أكثر من 700 ألف مدني، وفق تقديرات ناشطين.
موجة التهجير وصلت إلى بلدة سعسع، جنوب غرب دمشق، التي تبعد عن العاصمة نحو 40 كيلومترًا، والمعروفة بفرعها الأمني الشهير، إذ خرجت قرابة 30 عائلة معظمها من بلدتي كفرحور وبيت سابر، إضافة إلى 13 عائلة من بلدة بيت تيما، وفق مصادر عنب بلدي.
أهالي وادي بردى آخر المُهَجّرين
عقب معارك استمرت أكثر من 36 يومًا في المنطقة، استطاعت قوات الأسد التقدم إلى عمق وادي بردى، وسيطرت على بسّيمة أولًا ثم وصلت إلى عين الفيجة، المنطقة الأكثر استراتيجية في المنطقة، والتي تحتوي على النبع.
وخرج من وادي بردى قرابة 1500 شخص بينهم حوالي 500 مقاتل، نهاية كانون الثاني 2017، عبر حاجز دير قانون المتاخم لقرى المنطقة، وذلك بعد انسحاب فصائل المعارضة من نبع عين الفيجة، بينما بقي بعض المقاتلين والأهالي في بلدة دير مقرن في الوادي، على أن يخرجوا في وقت لاحق، لتعود المنطقة إلى حضن النظام.
ماذا بقي للمعارضة في دمشق وريفها؟
بعد أربعة أعوام على خسارة السبينة في جنوب دمشق، وما تبعها من هزائم معنوية وعسكرية للمعارضة في المحافظة، تقتصر سيطرة الفصائل اليوم على أجزاء من الغوطة الشرقية، وثلاث بلدات في جنوب دمشق، وجيوب متناثرة في القلمون، إلى جانب أحياء دمشقية تنتظر مصيرًا مشابهًا لعشرات المناطق التي استعادها النظام إما قتالًا أو تهجيرًا بعد حصار.
الغوطة الشرقية
تقتصر سيطرة المعارضة فيها على القطاع الأوسط والشمالي منها، وتضم مدن وبلدات: دوما، وحرستا، وزملكا، وعربين، وسقبا، وعين ترما، وجسرين، وعين سوا، وأوتايا، والنشابية، وغيرها، وجميعها تخضع لحصار من قبل النظام السوري، ومعارك مستمرة على الجبهات الشمالية والشرقية والغربية.
الأحياء الدمشقية
تحتفظ المعارضة بثلاثة أحياء رئيسية في ضواحي دمشق الشمالية، فحي جوبر الدمشقي يعتبر بوابة الغوطة الشرقية من المحور الغربي، ويشهد معارك ومواجهات مفتوحة لا تهدأ بين النظام وميليشياته من جهة وقوات المعارضة من جهة أخرى، في حين يعيش أهالي حيي القابون وبرزة بهدوء وأمان نسبي، إثر دخولهما في اتفاقيات تهدئة سابقة، يتخللها خروقات من طرف النظام، كما حدث في القابون مؤخرًا.
جنوب دمشق
تقتصر سيطرة المعارضة فيه على بلدات: ببيلا، ويلدا، وبيت سحم، وعقربا، بينما تخضع منطقتا مخيم “اليرموك” للاجئين الفلسطينيين والحجر الأسود لسيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتشهد هذه المناطق هدوءًا ملحوظًا منذ اتفاق التهدئة مطلع عام 2014، عدا عن اشتباكات بين تنظيم “الدولة” وفصائل أخرى في مخيم “اليرموك”.
منطقة القلمون
في الجزء الجنوبي الغربي من القلمون، تخضع مدينة الزبداني وبلدتا بقين ومضايا لحصار من قوات “حزب الله” اللبناني، منذ نحو عام، إثر دخولها في اتفاق يحيدها مع مناطق في إدلب عن القصف والعمليات العسكرية، وهو الأمر الذي ينطبق على بلدات الضمير، وجيرود، والرحيبة، والناصرية، في القلمون، إذ تدخل هذه البلدات في اتفاق “هدنة” مع النظام السوري أيضًا.
القلمون الشرقي ومناطق البادية في الريف الشرقي للمحافظة، تشهد “هدنة” غير معلنة بين “الجيش الحر” وقوات الأسد، لكنها تشهد اشتباكات للطرفين في مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” ذي النشاط الكبير في هذه المنطقة.
دمشق وريفها ملاذ آمن للأسد
تسعى قوات الأسد باستمرار لتفريغ محيط العاصمة دمشق، من أي وجود للمعارضة، وبرزت تلك المساعي مؤخرًا في محاولة القوات اقتحام الغوطة من جهة حرستا، 25 كانون الثاني 2017، بعد هدوء استمر فيها لأكثر من عام ونصف.
بدوره شكّل قصف حي القابون في دمشق، في 2 شباط 2017، منعطفًا واضحًا في الأحداث، فبعد أن خضع الحي لسيطرة فصائل في المعارضة السورية، وتوصلت فصائله والنظام إلى هدنة فيه، مطلع عام 2014، استهدفه الطيران الحربي بالصواريخ، ما خلف ضحايا وجرحى فيه.
الزبداني ومضايا
لا تُشكّل بلدات مضايا وبقين والزبداني، حجر عثرة في وجه مساعي النظام لضمها إلى مناطق سيطرته في المنطقة، فقواته وعناصر “حزب الله” اللبناني تحاصرها منذ فترة طويلة، بينما يرعى “حزب الله” حملات تهجير وتدمير في المنطقة.
وهجّر الحزب منتصف شباط 2017، قرابة 50 عائلة من المنطقة الواقعة بين حاجزي جوليا والشبك، في مضايا، وانقسموا إلى قسمين، الأول توجه إلى داخل بلدة بقين، والآخر باتجاه منطقة المعمورة، إلا أن مصادر عنب بلدي أكدت أن النظام نقلهم إلى بلدة بلودان القريبة، والتي يسيطر عليها النظام، وسط غموض حول مصيرهم.
ورغم أن فصائل المعارضة مازالت تسيطر على كل من الضمير والناصرية والرحيبة وجيرود شمال شرق العاصمة، إلا أنها ليست بأهمية منطقتي جنوب دمشق، والغوطة الشرقية، التي تنتشر مدنها وبلداتها الخاضعة لسيطرة المعارضة على تخوم دمشق.
جنوب دمشق
ملف جنوب العاصمة ما يزال مجمدًا منذ 8 كانون الثاني 2017، وحينها أصرّ النظام السوري على تنفيذ بنود مبادرةٍ طرحها حول التسوية في المنطقة، خلال اجتماعٍ مع اللجنة السياسية، مطلع الشهر ذاته، ضمن محاولات يخوضها منذ أشهر، لإضافة المدن والبلدات التي تسيطر عليها المعارضة هناك، إلى مناطق تسوياته.
رغم صغر مساحة المنطقة متمثلة ببلات يلدا وبيت سحم وببيلا وعقربا، إلا أن جبهاتها لا تشهد أي تحرك ضد النظام منذ فترة طويلة، حين وقعت فصائل “الجيش الحر” على هدنة مفتوحة مع قوات الأسد في شباط 2014.
ولم تشهد المنطقة أي اشتباكات ضد قوات الأسد، إذ تجلّت المعارك بين “الجيش الحر” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي يسيطر على منطقة الحجر الأسود، وجزء واسع من مخيم اليرموك.
يرفض أهالي جنوب دمشق الخروج من المنطقة، حاملين شعار “سوف نبقى هنا”، ورغم ذلك يتخوف ناشطو المنطقة من تهجيرهم بالقوة من قبل النظام، الذي اقترح تشكيل ميليشيا “المغاوير”، من الضباط والعسكريين المنشقين، ليزجّ بها في مواجهة “جبهة فتح الشام”، وتنظيم “الدولة”، تحت إشراف ميليشيا “الدفاع الوطني” جنوب دمشق.
كما يشترط النظام رفع علمه دون غيره في تلك المنطقة، على أن يُعاد العمل في المؤسسات الرسمية، وتشكّل لجان (إغاثية- طبية- خدمية) من البلدات المشمولة ضمن الاتفاق، تحت إشراف المخابرات العسكرية والحرس الجمهوري، ويقام لقاء بينها وبين فعاليات بلدة السيدة زينب المجاورة.
ترويج لإجلاء أهالي الغوطة
عقب اجتماعات على مدار الأشهر الماضية، في مدينة دوما، بين وفد من النظام السوري، والذي دخل من حاجز مخيم الوافدين والتقى بعض فعاليات المدينة، طارحًا اتفاقًا للخروج من الغوطة، ترفض فصائل المنطقة والفعاليات المدنية تهجير الأهالي وخروجهم.
ويُصعّد النظام قصفه على الغوطة، في محاولة لكسر شوكة الأهالي، محاولًا إرضاخهم لقبول فكرة مغادرة المنطقة، إلا أن محللين يرونها مختلفة عن باقي مناطق ريف دمشق، إذ تملك “قوة عسكرية”، متمثلة بفصائل المعارضة التي تخوض معارك شبه يومية ضد قوات الأسد، كما أن محيط الجبهات المشتعلة حولها يتعدى 40 كيلومترًا.
وتمتد المنطقة المحاصرة في الغوطة على مساحة أكثر من 105 كيلومترٍ مربع.
ويتوقع مراقبون أن يُكثّف النظام مساعيه لإفراغ المنطقة، وهذا ما بدا من إعلانه عن فتح معبر مخيم الوافدين من جهة حرستا ودوما، كمعبر لإجلاء الأهالي برعاية روسية.
فكرة فتح المعابر طرحها وسام الطير، الصحفي المقرب من النظام، ومدير شبكة “دمشق الآن”، وقال عبر صفحته في “فيس بوك” إن المعبر فتح لمدة عشرة أيام، ابتداءً من 4 شباط 2017 لخروج أهالي الغوطة إلى دمشق، مشيرًا إلى أنه “أول المعابر الآمنة”.
وروّج الطّير إلى إمكانية فتح معابر أخرى، بعد تقسيم الغوطة الشرقية مستقبلًا إلى أربعة قطاعات، “يحدد معبران اثنان في كل قطاع، وأحد هذه المعابر سيخصص للمسلحين الراغبين بالتسوية”، وفق تعبيره.
آخر التصريحات لقياديي فصائل الغوطة، جاءت رافضة للهدن والتسويات فيها، إذ اعتبر عضو المكتب السياسي في “جيش الإسلام”، محمد علوش، في حديثٍ سابق إلى عنب بلدي أن “الحصار والتجويع والتغيير الديموغرافي كلها جرائم حرب، وسوف يحاسب النظام ومن سانده عليها”.
في حين وصفت الفصائل الأخرى، الأحاديث عن التسويات في الغوطة، بأنها “حرب نفسية”، إلا أن أنظار النظام تتركز عليها، باعتبارها المساحة الأكبر التي تخضع لسيطرة المعارضة قرب العاصمة.
المقومات الحيوية للعاصمة بيد الأسد
يتجه النظام السوري بعد تحييد خصومه في معظم المناطق المحيطة بالعاصمة، لإعلان دمشق مدينة آمنة له بشكل شبه كامل، ولا سيما أنه بات يحكم سيطرته على المقومات الحيوية الثلاثة لها، وهي الطرق الرئيسية المؤدية منها وإليها، وكبرى محطات توليد الطاقة الكهربائية، والمصدر الرئيسي للمياه.
شرايين دمشق ومطاراتها
يحكم النظام السوري سيطرته على عقدة طرق رئيسية من دمشق وإليها، وأبرزها: طريق الديماس الواصل بين العاصمة ولبنان من الغرب، وطريق دمشق- درعا من الجنوب، وطريق دمشق- حمص من الشمال، وطريق مطار دمشق الدولي من الشرق.
كذلك فإن مطار دمشق الدولي بات آمنًا بشكل كامل، وهو المعبر الجوي الرئيسي للنظام في سوريا، عدا عن مطارات وقواعد جوية عسكرية تعزز من سيطرته، أبرزها: مطار المزة العسكري، مطار السين، مطار الضمير.
محطة “تشرين” الحرارية
حاولت المعارضة مطلع عام 2013 فرض سيطرتها على محطة “تشرين” الحرارية الواقعة على بعد 50 كيلومترًا جنوب شرق دمشق، كذلك تعرضت لهجمات تنظيم “الدولة” مؤخرًا، لكن النظام حافظ على وجوده فيها خلال السنوات الماضية رغم كل ذلك، وبالتالي تأمين المورد الرئيسي للطاقة الكهربائية للعاصمة وريفها.
نبع “عين الفيجة“
استعادت قوات الأسد سيطرتها على نبع “عين الفيجة” في كانون الثاني من العام الجاري بعد مواجهات وقصف استمر نحو شهرين، وخضع منذ عام 2012 لإدارة فصائل المعارضة في منطقة وادي بردى شمال غرب دمشق، ونجح النظام من خلال هذه العملية العسكرية بوضع يده على مصدر مياه الشرب الرئيسي في المحافظة.
بعد سقوط “السبينة” ليس كما قبلها، إذ حصدت فصائل دمشق وريفها نتائج ما أغفلته سابقًا، من افتقارها للتخطيط العسكري ورسم الاستراتيجيات المستقبلية، وحالة التشظي في ظل غياب الجسم والقرار الواحد، وعدم الاستفادة من مقومات حيوية تضمن من خلالها الاستمرارية وتزيد من خنق النظام، فتحول “الحزام الثائر” عام 2013 إلى مناطق آمنة للميليشيات الأجنبية بعد أربعة أعوام، لتغرّد الغوطة الشرقية منفردة بانتظار ما هو آتٍ، فهل تكسر موجة التهجير إلى الشمال؟
يبدو التوجه نحو إقامة مناطق آمنة في سورية متأخراً. ومن مظاهر تأخره تدفق ملايين النازحين السوريين إلى الخارج، وأعداد كبيرة إلى الداخل ممن فقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم. والأسوأ من ذلك أن غياب وجود مناطق آمنة للسوريين في وطنهم قد أدى إلى إزهاق أرواح نصف مليون ضحية، مع أعداد هائلة من المصابين والجرحى، ومئات الآلاف من المعتقلين، وقد قضى الآلاف منهم تحت التعذيب، في ما بات يُعرف بأكبر كارثة إنسانية في عالمنا منذ الحرب العالمية الثانية، هذا من دون إغفال نكبة فلسطين في العام 1948 وتشريد شعبها.
التوجه الذي أعلن عنه الرئيس دونالد ترامب، في الأيام الأولى لحلوله في البيت الأبيض، سبق أن تعرّض للرفض من الرئيس السابق، باراك أوباما، بحجة أن إقامة تلك المناطق تستلزم تهيئة تجهيزاتٍ عسكرية وإقامة حظر جوي، وكان أوباما يعتبر أن أية خطوةٍ لتقييد حركة النظام ضد شعبه، وضمان حدٍّ أدنى من الأمن للمدنيين على أنها سوف تزيد الوضع سوءاً (!)، وهو ما تذاكى فيه مسؤولون روس، عقّبوا على هذا التوجه، بالقول إن أيّة مناطق آمنة سوف تشكل خطراً على النازحين (!). علماً أن الطائرات الروسية، بالمشاركة مع طائرات النظام، سبق أن قصفت مراراً وتكراراً مخيمات وأماكن إيواء للنازحين، في ريف حلب، وفي إدلب، خلال العام 2016، وبسلوك وحشي لا مثيل له في تاريخ الحروب. بعد أن أعيتهم الحجة، لرفض هذا التوجه، طلب الروس موافقة النظام على إقامة تلك المناطق، علماً أن الهدف الأساسي منه هو حماية المدنيين من بطش النظام، لكن الأخير، على لسان وزير الخارجية وليد المعلم، سارع إلى رفض هذا التوجه (لانتهاكه السيادة .. المصونة)، من دون أن يثير هذا الرفض أصداءً تُذكر. ومن المثير للانتباه أن قوى المعارضة السورية تريثت في إبداء موقفٍ حيال هذا التوجه، علماً أن إقامة مناطق آمنة شكّل، على الدوام، مطلباً لهذه القوى، مقترناً بمطلب فرض حظر جوي.
والآن، بات هذا التوجه بين أيدي مؤسسات أمنية أميركية، إلى أن يُصار إلى تشريعه. وفي هذه الأثناء، سرّبت مصادر إعلامية أن اتصالاتٍ تجريها واشنطن مع أطراف تركية وأردنية وسعودية لهذا الغرض، علاوة على الطرف الروسي الذي يتمتع بوجود قوي على الأرض، والذي تراجع عن رفض الفكرة التي من شأن تنفيذها إحداث تغييراتٍ هي الأولى من نوعها، لجهة تقييد حركة النظام، والحؤول بينه وبين مواصلة هوايته اليومية المفضلة، وهي الفتك بشعبه، كما من شأن تنفيذ الخطوة كبح حركة "داعش" في التنكيل بالمدنيين، وصولاً إلى المنظمات الطائفية اللبنانية والعراقية، ذات الولاء الإيراني التي استمرأت التطهير العرقي والطائفي على مدى سنواتٍ، من دون أن تتعرّض هذه المليشيات للإدانة والمساءلة. ومعلوم أن الهدف الأميركي من إعلان هذا التوجه هو الحدّ من نزوح اللاجئين إلى الخارج. وفي ذلك، فإن هذا التوجه يحقق غايته، وذلك بـ "حرمان" النظام وحلفائه من قذف ملايين المدنيين إلى الخارج، من أجل تحقيق "الصفاء الطائفي" الذي سبق لرأس النظام أن تحدث عنه مُعرباً عن ارتياحه لهذه التغييرات.
على أن الخطوة، بقدر ما تثير ارتياحاً، وتفتح أفقاً لوقف معاناة السوريين، فإنها تنطوي على محاذير، يتمثل الأول منها في عدم وضوح الأهداف حتى الآن، فهل المقصود مثلاً مجرد تثبيت المقيمين على أرضهم، أم إن الهدف يشمل ضمان عودة اللاجئين إلى وطنهم في ظروف آمنة؟ بالعودة إلى مجريات الوضع قبل أربع سنوات على الأقل، استقبلت كل من تركيا والأردن ما لا يقل عن ثلاثة ملايين لاجئ سوري. وكان واضحاً، منذ البداية، أن النظام يريد التخلص من هؤلاء، وإلقاء العبء على دول الجوار. وفي ضوء ذلك، كان منطق الأمور يقضي بأن توفّر كل من تركيا والأردن بالتعاون مع الأمم المتحدة ملاذات آمنة لهؤلاء داخل وطنهم. وهو ما استنكفت عنه هاتان الدولتان، احتراماً لأحكام القانون الدولي، وبأمل أن يُصار إلى وضع حلول لمحنة اللجوء. استقبلت دول أخرى، مثل لبنان، ما لا يقل عن مليون لاجىء، وقد تعرّض هؤلاء، وما زالوا، إلى عسف شديد على الأراضي اللبنانية من أجهزة رسمية، ومن حزب الله، ووُجّهوا بتعامل طائفي وعنصري، لا نظير له في تاريخ صراعات المنطقة. ولن تكون خطوة المناطق الآمنة ذات معنى، إذا لم تضمن عودة نازحي تركيا والأردن ولبنان ومصر والعراق، بضماناتٍ أميركيةٍ وروسيةٍ وتركيةٍ وأردنيةٍ، على الأرض وفي الأجواء.
يتمثل محذور ثانٍ، كما يقول الناشط السوري فوزي غزلان، في الخشية من أن يتم تجميع نازحين عائدين أو نازحين قادمين من مناطق أخرى، في ما يشبه كانتونات بعيداً عن مناطق إقامتهم الأصلية. وبذلك، يتحوّل النازحون لاجئين بصفة دائمة في وطنهم، والفرق أن الأمم المتحدة وبعض الدول سوف ترعى وضعية لجوء هؤلاء، فيما الحل الموضوعي والحق الثابت هو في عودة الجميع إلى ديارهم. وهو أمرٌ يقف دونه حال الدمار لمساكن هؤلاء في مناطق، مثل حماة وحمص ودرعا وريف دمشق وحلب وريفها. ومغزى ذلك أنه لا يمكن للمناطق الآمنة أن تحقق الغاية المنشودة منها، بمعزلٍ عن حل سياسي شامل، وفق المرجعيات الدولية، يكون مقدمة لإعادة الإعمار، وعودة النازحين وإخلاء سبيل عشرات آلاف المعتقلين. ومن شأن حل شامل كهذا ليس فقط وقف المحنة المتطاولة، بل كذلك رفع الأعباء عن دول الجوار والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة.
كان الواجب يقضي، منذ خمس سنوات، بالضغط على النظام، لوقف حربه الدموية، والتوقف عن قذف ملايين السوريين إلى خارج الحدود، وتحميل المسؤولية عنهم لدول العالم والمنظمات الدولية. وكان الواجب يقضي بتقييد حركة النظام ومنعه من قذف البراميل المتفجرة واستخدام الأسلحة الثقيلة والأسلحة المحرّمة ضد شعبه، لكن السيد أوباما آثر الوقوف موقف المتفرّج، فيما كانت روسيا وإيران تعدّان العدة لخوض الحرب بصورة مباشرة إلى جانب النظام، لضمان أن يحقق انتصاره على شعبه بمجازر بلا عدد، وبدمار يعزّ على الحصر.
بوضع خيار المناطق الآمنة موضع التنفيذ، وبضمانات إقليمية ودولية على الأرض، لحماية هذه المناطق وقاطنيها وجعلها آمنة بالفعل، والتقدّم، بموازاة ذلك، نحو حل سياسي جدي، وفقاً لمرجعية جنيف1 وقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة، فإنه يمكن اعتبار أن الأسرة الدولية بدأت تتحمل مسؤوليتها في تقييد حركتي النظام وإيران، وفي إعادة البناء الشامل، وفي جعل سورية وطناً آمناً ومزدهراً لشعبها، لا مجرد مناطق آمنة.
هناك ثلاث ملاحظات على الدستور الذي قالت روسيا إنها قدمته للوفد السوري في مؤتمر أستانة، ونفى أعضاء وفد المعارضة تلقيه أو أنهم رفضوه.
الأولى أن الدستور حجر الزاوية في حياة الدول، وسيلعب دوراً حاسماً في إعادة تأسيس حياة سورية العامة. لذلك، لا يجوز تحويله موضوعاً للتلاعب، أو أداة بيد أي طرف غير سوري، فكيف إذا كان، كالدستور الروسي، معادياً للديمقراطية، أعز مطالب الشعب السوري، وكان يبني نظامه البديل، وبالتالي الدولة السورية الجديدة، على مبدأ الهويات الإتنية والطائفية والمذهبية والفئوية، بحمولته الفاشية والتفكيكية، ولا يبنيه على المواطنة، المبدأ الذي لا تقوم ديمقراطيةٌ بغيره. باعتماده مبدأ الهويات أساساً لإعادة تنظيم سورية، راح الدستور الروسي في اتجاه يقوّض فرص قيام الدولة التي اختارها الشعب، والتي تعترف، من موقعها المرجعي، بحقوق مكوّناتها وتكرّسها دستورياً وفي قوانينها وممارساتها، من المرجح، إنْ لم يكن من المحتم، أن يفضي تطبيقه إلى كياناتٍ هوياتيةٍ نابذة الميول وطنياً، تتبع دولة المركز لها أو تخضع لإرادتها، لتكون، دستورياً، دولةً عاجزة عن حماية نظامها العام، ضعيفةً في علاقاتها مع مكوّناتها المناطقية التي ستمتلك صلاحيات تعطيل بواسطتها قراراتٍ وطنيةٍ لمركز ليس مستقلاً عنها، على الرغم من أنها لا تتبع له إلا في مجالاتٍ محدودة وجزئية.
بدل أن يحمي الدستور المركز، نجده يعطيه ما يفيض عن صلاحيات المكونات، وبدل أن يعزّز دوره دولةً لجميع مواطنيها، ويجعل منها مرجعيةً في كل شأن وطني أو عام، وإن نسّقت مع مكوناتها في المسائل التي تتقاطع عندها المسؤوليات وتتكامل الصلاحيات. لكن الدستور الروسي يفعل العكس، من ذلك أنه يفرض على دولةٍ تريد أن تكون ديمقراطيةً نسباً، طائفية وقومية عند توزيع المناصب الوزارية، في استبدالٍ واضحٍ لنظام طائفي قائم بنظام طائفي قادم.
لو أخذ الدستور بالمواطنة مبدأً للنظام، لكانت المساوة بين المواطنين ترجمته العملية، ولما جرى تحديده بمبدأ الهويات الذي ينكرها، بينما يعترف النظام الديمقراطي بها، وبما يترتّب عليها من حقوق، ويجعل منها فضاءاتٍ وطنيةً لأتباعها ضمانات دستورية وقانونية، مساوية لما يتمتع به غيرهم. لذلك، لا تنتج التفاوت بين المواطنين عامة، ولا تغدو حواجز تقطع الشعب إلى عوالم متجاورة، لكنها لا تنتمي إلى جسدية دولوية/ وطنية واحدة، إن أعطيت حصصاً انتفى المجتمع، وعجزت السياسة عن ردم الهوّة بين مكوّناته وتداعى ما هو عام وجامع في علاقاتها التي لن ترتكز عندئذ على عقد اجتماعي/ سياسي بين الشعب والدولة، وسيستبدل بعقودٍ جزئيةٍ، يمليها كل مكوّن، تنمي خصوصياته خارج الإطار الوطني المشترك. قلت إن الدستور الروسي لا يقيم دولة ديمقراطية في سورية، وأقول الآن: إنه لن يقيم دولة.
ثانياً، يتعارض الدستور الروسي مع وثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن التي وافقت روسيا عليها، وجعلت الانتقال الديمقراطي هدفاً ملزماً للعملية السياسية، عليها أن تنتهي إليه. لا يذكر الدستور هذا الانتقال في أيٍّ من بنوده. ويقرّر، نيابةً عن الشعب السوري الذي لم يفوّض واضعيه بذلك، أن نظام دولته القادم سيكون رئاسياً في كل ما يتعلق بالدولة القمعية وأجهزتها السلطوية شبه برلماني في مؤسسات الدولة الأخرى التي ستخضع لمحاصصاتٍ طائفيةٍ وقومية. لتمرير هذه الهجانة المدمرة لفرص قيام الدولة الديمقراطية، يفبرك الروس سلطاتٍ رئاسيةً، لا يحق لأحدٍ التدخل فيها، بينما تتدخل هي، في المقابل، في تعيين صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، ووظائف جمعية الشعب وجمعيات المناطق، وتمتلك هي، وكل واحدةٍ من هذه المؤسسات الرسمية، حق إلغاء السلطة التشريعية عبر الحق في قيامها بـ "مبادرات تشريعية". هذا دستورٌ يكرّس فوضى الصلاحيات وتداخلها الذي لن ينتج غير فوضى قانونية ضارية.
ثالثاً، بتجاهله الانتقال السياسي ووثائقه وقراراته الدولية، وفبركته نظاماً، رئيسه قوي ودولته ضعيفة، أطرافه جبارة ومركزه متهالك، يبعث الروس رسالتين إلى السوريين، تقول أولاهما لأهل النظام: انسوا نظامكم الحالي. وثانيتهما لأهل المعارضة: انسوا النظام الديمقراطي.
إذا كان دستور الروس لا يفي بالحد الأدنى من مطالب شعبنا، ويضعه في مواجهة نظام انتقالي معقد ومشحون بعوامل تضعف الدولة، وتشتت المجتمع، وتؤسّس فوضى صلاحياتٍ لن يستقيم في ظلها الأمر لأيٍّ من مكوناتها، أو مؤسسةٍ من مؤسساتها، ولن نتخلص من الاستبداد أو ننال حريتنا، لماذا ننصاع لبنوده التي أملتها على واضعيه سيطرتهم علينا؟
فاجأنا ديمستورا بتصريح يطالب فيه المعارضة بتشكيل وفد موحد إلى الجولة الرابعة من المفاوضات في جنيف، وقد حدد موعدها الجديد في 20 فبراير الحالي، وحمل تصريحه وعيداً بأن يقوم هو بتشكيل وفد التفاوض إن لم تقم المعارضة بذلك.
ولا نعرف ما الذي دعا ديمستورا إلى هذا التصريح الجاف، ولكننا سمعنا رغبة لافروف قبله بتشكيل وفد موحد، يضم كل أطياف المعارضة بما فيها تلك المنصات التي تطلق على نفسها لقب معارضة مع أنها تعلن أن هدفها الإبقاء على النظام، وعلى بشار الأسد رئيساً للأبد. ولا يعرف أحد ما الفارق بين مطالب هؤلاء وبين مطالب من يسمون الموالاة، وهؤلاء صنعهم النظام وبعضهم سمتهم روسيا، ومثلهم آخرون من حلفاء النظام وممن حاربوا معه، ولديهم مطالب عرقية وإثنية وبعضها انفصالية، ومع ذلك يرون أنفسهم معارضة وطنية! وهدف ذلك التناقض هو التشويش على مطالب المعارضة الجادة، وإبراز صفة التشتت على المعارضين على رغم أنهم أعلنوا وحدة أهدافهم في مؤتمر الرياض الذي جمع قوى المعارضة الكبرى (الائتلاف، وهيئة التنسيق، والفصائل الثورية، والمستقلين) ووقعوا جميعاً على بيان الرياض الذي تمسك ببيان جنيف لعام 2012 ومتنت مطالبه قرارات الأمم المتحدة وأهمها القرار 2254. ولم يخرج أحد من أعضاء مؤتمر الرياض أو هيئته العليا عن ثوابت بيانه، وتبدو منصة القاهرة أقرب تشكيلات المعارضة إليه، لأن غالبية مؤتمر القاهرة باتوا أعضاء في مؤتمر الرياض، ومن أبرزهم أعضاء الائتلاف وهيئة التنسيق والمستقلون.
وقد حرصت الهيئة العليا على التنسيق والتفاهم مع كل أطياف المعارضة عبر حوارات متصلة، وأصر بعض المعارضين في المنصات الأخرى على رؤيتهم بضرورة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية وترشحه للانتخابات وهؤلاء لا يمانعون بالطبع في بقائه رئيساً إلى الأبد، وذروة الحل السياسي عند بعضهم هي المشاركة في حكومة وحدة وطنية بقيادة الأسد نفسه.
واعتبر الروس الحديث عن مستقبل الأسد شرطاً مسبقاً لا يقبلون الخوض فيه، متجاهلين أن الثورة قامت ضد الديكتاتورية المطلقة، وسيكون من العبث المراهنة على تغيير سلوك النظام، ولا سيما أنه سيحتفظ بسلطته على الجيش وقوى الأمن، وسيكون بوسعه الانتقام البطيء أو السريع من كل من تمردوا على سلطته. ولن تنفع السوريين أوراق الدستور أو القوانين، ولن يطمئن المهجرون ولن يعود أحد من النازحين وستبقى القضية السورية مفتوحة الجراح، لأن بقاء النظام واستسلام المعارضة على الطريقة التي تريدها موسكو ستجعل سوريا القادمة مسرحاً لاستبداد من نوع أخطر، وسيمارس المنتصرون أبشع أنواع الانتقام وستغرق سوريا في مستنقع دم جديد.
ويبدو واضحاً أن روسيا أرادت أن تجعل منصة الآستانة بديلاً عن مرجعية جنيف 1، وكان لافتاً أن يتجاهل ديمستورا الإشارة إلى هذه المرجعية في تصريحه الأخير، وهو لم يشر إلى مضمون المفاوضات القادمة وإلى جدول عملها، وهل سيعود المتفاوضون إلى مناقشة وقف إطلاق النار، وإلى الحديث عن فك الحصار وإدخال المساعدات، وعن إطلاق سراح المعتقلين، ودون جدوى؟
أما كان حريّاً أن يناقش مؤتمر آستانة هذه القضايا التي اعتبرها القرار 2254 مرحلة بناء ثقة هي فوق التفاوض وقبله؟ ومؤتمر آستانة الذي جعل عنوانه تثبيت وقف إطلاق النار فاجأنا في بيانه بالحديث عن تخفيف العنف، ولكن العنف اشتد بعده حتى تمكن النظام من إجلاء المقاتلين من وادي بردى، ومن تهجير المئات إلى إدلب.
وليس مستبعداً أن يبدأ الهولوكست السوري الذي يتوقع المراقبون حدوثه في إدلب مع بدء الجولة القادمة، كما كان يحدث في حلب مع بدء كل جولة من جولات التفاوض في جنيف، مما يجبر وفد المعارضة على التوقف وربما الانسحاب أمام سيل الدماء، على رغم أن القرار الدولي ينص على وقف إطلاق النار وبناء مرحلة ثقة قبل التفاوض.
ولا يخفى على ديمستورا أن أي حديث في جنيف لا يباشر قضية الانتقال السياسي هو مزيد من إضاعة الفرص للوصول إلى نهاية، ولا يخفى على أعضاء مجلس الأمن أن المراوغات التي يقوم بها النظام للتهرب من مواجهة مضمون قرار مجلس الأمن تهدف إلى فرض الأمر الواقع وإجراء تغيرات ميدانية لصالحه، ولكنها ستجعل القضية السورية جمراً يتقد، وسيبقى العالم في حالة ترقب واضطراب مهدداً بغياب الاستقرار عن المنطقة كلها، لأن إيران وميليشياتها الإرهابية ستكون إذَّاك سيدة الشرق الأوسط كله.
لقد مدت المعارضة المسلحة يداً لروسيا، وقبلت دعوتها لمؤتمر آستانة، وبقي أن يكون الروس جادين في إيجاد حل يقبله الشعب السوري دون أن يفرض عليه بالقوة والعنف، فقد تمرس هذا الشعب على استقبال القوة والعنف بالصبر والإصرار على مطالبه المشروعة.
يغوص المشهد الحالي الذي يجمع الادارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب و النظام الايراني ، بكثير من الضبابية و نوع من الدراما المكررة منذ سنوات ، بدأت من عام ١٩٧٩ ، بين البلدين مع وصل الملالي إلى حكم أحد أكثر بلاد المنطقة اتساعاً و امتلاكاً للقدرات القدرات البشرية و الثروات الباطنية .
يكرر دونالد ترامب ما قاله سلفه باراك أوباما والذي سبقهما جورج بوش و كذلك بيل كلينتون وصولاً إلى جورج بوش الأب ، بأن الرد العسكري على التمرد الايراني ضمن الأجندة ، شعارات بقيت حبيسة حدود الفضاء الحبري ، دون أن تنتقل إلى أرض الواقع ، اللهم إلا ببعض العقوبات ذات الطابع الاقتصادي ، التي استطاع نظام الملالي تجاوزها من خلال ما يعرف بالشركات العابرة للقارات يقودها “الحرس الثوري الايراني” صاحب السطوة الأكبر في بلد يغرق بالفقر و الفساد و الانحلال الأخلاقي.
من الخطأ اعتبار تهديدات ادارة ترامب المتصاعدة لايران ، أنها جدية و حاسمة ، و لكن في الوقت ذاته لايمكن إهمالها سيما مع المتغيرات التي طرأت على خارطة الشرق الأوسط عموماً مع انهيار العراق و تحوله إلى محافظة ايرانية بشكل تام ، وقرب تحقق ذات السيناريو (و إن كان بسوية أقل) في سوريا ، الأمر الذي يحول إيران الدولة الحاكمة المطلقة في المنطقة ، التي هي “مركز الأرض” و نقطة الوصل التي لايمكن ابعادها من الطموحات الدولية.
ويشكل الاتفاق النووي (الغامض) ، الذي توعد ترامب مراراً و تكراراً بالغاءه ، محور تصاعد لهجة التهديد و التوعد بين الطرفين ، و يبدو أن ايران تحاول اختبار آخر ما يمكن أن يفعله ترامب من خلال التجربة الصاروخية الأولى بعد الاتفاق (الذي تم في عام 2015 ضمن ما يعرف دول 5+1) ، واليوم تعلن عن مناورات جديدة مفاجئة تتضمن تجارب مماثلة ، والغاية منها التصعيد أكثر بغية استهلاك “الفورة” التي تحملها الادارة الأمريكية الجديد ، التي يغلب عليها فريق كامل من معارضي ايران حتى النخاع .
وقد يُقرأ التهديد الايراني كما ذكرت آنفاً ، لكن هناك من يقرؤه على أنه مشهد مكرر لماحدث مع الرئيس العراقي الأسبق “صدام حسين” ، الذي أُوهِم أن قوته العسكرية لاتقهر ، في حين أنها كانت على شفا الانهيار نتيجة سنوات الحصار و التضييق و العقوبات . الذي حاول قبل احتلال بلاده رفع نزعة التحدي إلى أقسى الدرجات ، الأمر الذي كان بمثابة بطاقة العبور نحو القضاء عليه .
ايران الخاوية من الداخل و المهلهلة لدرجات لايكشفها الاعلام ، و يمنع عليه كشفها بالأصل ، نتيجة انتهاء أجيال متعاقبة عاصرت ما قبل الثورة الشيعية و الثورة وصولاً إلى التحكم بالبلاد و العباد ، و اليوم تقف ايران أمام أجيال جديدة ، تبحث عن وجودها بعيداً عن “عمائم” لاتفهم أمر على هذه الأرض سوى الخضوع و الخنوع لافكارهم و عقائدهم ، التي يمكن تغييرها وتحوريها وفق ما يشتهي “المارد الفارسي” الذي تخفيه.
انتهت الولاية الثانية والأخيرة للرئيس الأميركي باراك أوباما، بينما زعماء الجمهورية الإسلامية في إيران تتآكلهم مشاعر الحسرة على رحيله؛ لقد فشلوا في قطف الثمرة الحقيقية لاستراتيجية هذا الرئيس.
أينما وجّه المرشد الأعلى للجمهورية، علي خامنئي، بصره على خريطة الهلال الخصيب والجزيرة العربية، سيجد عناصر الحرس الثوري يقاتلون بموافقة الأميركيين (سورية - اليمن)، وفي بعض الأماكن تحت إمرتهم مثل (العراق). ليس هذا الأمر جديداً بالنسبة للعلاقة الأميركية الإيرانية المعقدة والبراغماتية، إذ سبق لرئيسٍ من طينة جورج دبليو بوش أن استعان بالإيرانيين لضرب أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003. وبالطبع، لم تمانع النخبة الإيرانية التحالف مع المحافظين الجدد للخلاص من ألد أعدائها. لكن ما عقده بوش الابن بداعي الواقعية، وبهدف نهائي يتمثل في "الوصول إلى طهران"، جاء أوباما ليفعله من باب "الوصل لإيران"، القناعة، الهوى السياسي والإعجاب غير المحدود بالثقافة الإيرانية.
حتى لو افترض المرء أن محادثات الملف النووي والمفاوضات الإيرانية الأميركية السرية في مسقط لم تتطرّق إلى القضايا الإقليمية، فمجرد تأكيد أوباما على ضرورة قبول دول الخليج العربي اقتسام المنطقة مع طهران هو إظهار لجوهر استراتيجية هذا الرئيس للمنطقة... تحويل "إيران الإسلامية" إلى حالةٍ طبيعيةٍ في المنطقة، ورأسمال سياساتها التعديلية في المنطقة إلى مكاسب ونفوذ سياسي واسع، يستند إلى مليشيات طائفية، وعلاقات غير شرعية مع مكونات اجتماعية في الدول العربية داخل الهلال الخصيب، بمعنى آخر "اصطناع" توازن قوى بين العرب والإيرانيين، بين الشيعة والسنة.
والآن، جاء دونالد ترامب لنسف هذه الاستراتيجية. بمجرد أن ارتقى هذا الرئيس سدة الحكم، تآكلت جاذبية طهران بين القوى التي تريد التعاون، أو التواصل مع الإيرانيين. انعكس ذلك سلباً على الدور العُماني، وأيضاً على التحالف الهش بين الحوثيين والرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح.
حرّر وجود ترامب في البيت الأبيض قوىً كثيرة من السيف المسلط على رقبتها: كابوس اتفاق أميركي إيراني. أكثر القوى التي استفادت هي روسيا والسعودية وتركيا ومصر وإسرائيل.
بات في وسع روسيا أن تستجر مزيداً من التنازلات من الإيرانيين في سورية ولبنان. أصبحت السعودية أكثر ارتياحاً في حربها لضمان عودة استعادة الشرعية إلى صنعاء. أما تركيا فلم تعد قلقةً على مصير الموصل. الآن، يبني الجميع سياساتهم، ليس على أساس الخشية من تعاون أميركي إيراني من تحت الطاولة، بل بناء على عداء إيراني أميركي مستحكم.
فقد الإيرانيون الورقة الأكبر التي كانوا يلوّحون بها للدول الكبرى والإقليمية: أوباما. عادوا ليقاتلوا وحيدين في طول المنطقة وعرضها، وسط بيئة عدائية إلى أقصى حد.
مع أوباما، وصل النفوذ الإيراني في المنطقة إلى أوسع مدى له. مع ذلك، عانت إيران خلال الأعوام الثلاثة الماضية من تقهقر حلفائها وحرسها الثوري في جميع المسارح الإقليمية الاستراتيجية. أنقذ أوباما حلفاء الإيرانيين في بغداد. استنجد قاسم سليماني وبشار الأسد بفلاديمير بوتين لوقف تدهور قواتهما في سورية بعد ضربة إدلب، وصد تقدّم المعارضة نحو معاقل النظام في حماة وحمص واللاذقية ودمشق. لبت موسكو النداء.
أظهرت الهزيمة في سورية والعراق حدود القوة الإيرانية الإقليمية. مثلت بداية العودتين، الأميركية والروسية العسكرية، إلى الشرق الأوسط. على الرغم من ذلك، صبّ رفض أوباما المقايضة مع الروس بين سورية وأوكرانيا في صالح الإيرانيين. استغلت طهران هذا الرفض، كي تدفع الروس للذهاب إلى حلب، من أجل تأمين موقع أفضل لموسكو في الصراع مع واشنطن على كييف، ومستقبل أوكرانيا!
ساهمت في تعزيز التحالف بين طهران وموسكو في سورية مخاوف العاصمتين من فوز هيلاري كلينتون بانتخابات الرئاسة الأميركية، ما بدا أنه أكثر احتمالاً في أواسط العام الماضي. بنى الإيرانيون حساباتهم على أن فوز هيلاري كلينتون سيعني استمراراً، بشكل أو بآخر، لسياسات أوباما تجاه الشرق الأوسط، لكن فوز ترامب قلب المقاييس.
تحت وطأة التصريحات المعادية لترامب، ولكبار المسؤولين في إدارته، لم يعد أمام إيران سوى إعادة ضبط استراتيجيتها الإقليمية. قرّرت استباق المواجهة مع الرئيس الجديد. عيّنت سفيراً من الحرس الثوري في بغداد، ولوّحت بإعادة نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء، دافعةً وراء تعيين بهاء العرجي (المنتمي لمنظمة بدر المقرّبة من إيران) وزيراً للداخلية العراقي.
ولأن المواجهة مع ترامب في العراق لا بد أن تتمدّد إلى لبنان، مضت إيران في عملية أستانة. أرادت إيران من مشاركتها في مفاوضات العاصمة الكازاخية تنفيذ خطةٍ من شعبتين. تتمثل الأولى في تقليص وجود عناصر المليشيات العراقية في سورية، وسحب قطاعات منها إلى العراق بهدف إحباط السياسة الأميركية المعادية لها هناك. تتمثل الشعبة الثانية في إعادة توزيع مقاتلي حزب الله بين سورية ولبنان، من أجل التحوط لأي مغامرة إسرائيلية في جنوب لبنان. ولعودة مسلحي حزب الله إلى الجنوب فائدة إضافية، تتمثل في إبقاء ورقة تهديد جدية ضد الإسرائيليين. تتكامل هذه الخطة مع ضغط إيراني على النظام السوري، من أجل إشعال الجبهة الجنوبية بهدف إيصال قوات إيرانية، ومن حزب الله، إلى القنيطرة، بما يزيد أوراق الضغط الإيرانية على الإسرائيليين وحلفائهم الأميركيين.
على أية حال، تبقى الاستراتيجية الإيرانية الجديدة محفوفةً بالمخاطر، نتيجة خطوة أقدم عليها الإيرانيون أنفسهم قبل حوالي العام ونصف العام، عندما طلبوا النجدة الروسية للنظام وقواتهم في سورية. ستترك هذه الخطوة، في الماضي القريب، مناورات طهران الإقليمية تحت رحمة بوتين. بطبيعة الحال، لا ينسى الإيرانيون الصفقات الكثيرة التي عقدتها موسكو على حسابهم. وهم بلا شك قلقون مما يحضّره لهم سيدا البيت الأبيض والكرملين.
شكّل إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عزمه إقامة مناطق آمنة في سورية والجوار الجغرافي قنبلة سياسية، دفع كثيرين إلى طرح سؤال أساسي، هو هل جاء الإعلان تعبيراً عن سياسةٍ داخلية لترامب، للحد من قضايا اللجوء والهجرة، خصوصاً في ظل إجراءاته المثيرة بهذا الخصوص، أم أنها سياسة أميركية جديدة تجاه الأزمة السورية؟ قوبل الإعلان بحذر روسي وترحيب سعودي وقطري وتركي، لطالما أن تركيا كانت أول دولة دعت إلى إقامة مثل هذه المناطق، ما دعا بعضهم إلى السؤال عما إذا كان إعلان ترامب سيشكل نقطة تقارب بين أنقرة والإدارة الأميركية الجديدة، بعد أن رفضت إدارة باراك أوباما إقامة مثل هذه المناطق طويلا بحجج مختلفة؟
مع الغموض الذي يحيط بمشروع ترامب لإقامة مناطق آمنة، ثمّة أسئلة كثيرة بشأن كيفية إقامة هذه المناطق؟ وأين ستقام؟ وهل سيلجأ ترامب إلى مجلس الأمن الدولي لإصدار قرار بهذا الخصوص، أم سينفذها من خارج المجلس؟ وماذا عن آليات التعاون مع تركيا ودول الخليج العربي بهذا الخصوص؟ وكيف سيواجه ترامب الاعتراض الروسي على إقامة مثل هذه المناطق؟ وهل سيتم تأمين التغطية العسكرية لحماية هذه المناطق من أي هجوم محتمل للنظام السوري وحلفائه؟
بانتظار اتضاح الأمور والخطط والتفاصيل، والتي ستشكل إجاباتٍ عن الأسئلة السابقة، فإن إعلان ترامب يشكل تحولاً كبيراً في السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية، واشتباكا مسبقا مع التدخل العسكري الروسي في سورية إن كانت تعبر عن سياسة حقيقية، وليست مناورة سياسية رفيعة المستوى. إذ إن إقامة مثل هذه المناطق، وإن كانت بهدف وقف تدفق اللاجئين الذين يعتبرهم ترامب تهديدا لأمن الولايات المتحدة، إلا أنها تعني أن الإدارة الأميركية تستعد لسياسة مغايرة لسياسة الانكفاء التي اتبعها أوباما تجاه الأزمة السورية، وهي سياسة استغلها الروس في فرض واقع ميداني يُبقي النظام. وعليه، فإن إقامة مناطق آمنة، لأسباب تتعلق بوقف الهجرة أو خطوة ضد النظام، ستؤدي إلى تصعيد عسكري مع الروس، وهو ما كان يتجنبه أوباما. مع أن المفارقة، هنا، أن علاقات أوباما الذي ابتعد عن التصعيد مع الروس، وترك لهم حرية التدخل العسكري في سورية، مع موسكو كانت متوترة، ولاسيما في الفترة الأخيرة من حكمه، فيما ترامب الذي يتحدث عن إقامة مناطق آمنة لا يتوقف عن إعلان رغبته في سياسة جديدة تجاه روسيا تقوم على التعاون، بل ثمّة من في أميركا يقول إن وصول ترامب إلى البيت الأبيض كان بفضل التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولعل هذا ما يخفّف من الاعتقاد بأن ترامب سيذهب إلى الصدام مع الروس، وأنه أقرب إلى ممارسة مناورة سياسية. إذ إن منطق ترامب هو منطق المال والأعمال والحسابات والفوائد، وهذا ما يحيلنا إلى قضية تمويل هذه المناطق، وتكلفة حمايتها أمنيا وعسكريا، فضلا عن الحاجات الإنسانية والخدمية للسكان المفترضين من أهالي ونازحين.
ثمّة من يرى أن ترامب قد يجد مشكلةً لقضية تمويل المناطق الآمنة، من خلال دول الخليج العربي التي أبدت استعدادها لدعم إقامة مثل هذه المناطق، وقد سبق أن أشار ترامب إلى دور التمويل الخليجي في هذا الخصوص، إلا أن الإشكالية التي لا تقل أهمية هنا تتعلق بكيفية توفيق ترامب في العلاقة الأميركية بين تركيا ودعم أكراد سورية، إذ ترفض أنقرة هذا الدعم وتنظر إليه بعين الريبة والقلق، كونه يؤسس للمشروع الكردي في المنطقة.
وفي الحديث عن التحديات والإشكاليات والتعقيدات التي تعترض إقامة مناطق آمنة، لا بد من نظرة واقعية إلى حال الانقسام الحاصل في الخريطة السورية جغرافياً، إذ تبدو سورية وكأنها ثلاث مناطق أساسية، تدار كل منها بقوى محلية ودولية، فقسم كبير من الشمال والشرق واقع تحت سيطرة الكرد وحليفهم الأميركي، وقسم آخر من الشمال والشمال الغربي تحت سيطرة الفصائل المسلحة وتركيا، والقسم الثالث الذي يتألف من الساحل والوسط والعاصمة تحت سيطرة النظام وحلفائه. ولعل اللافت هنا أن هذه الانقسامات المناطقية توحي بأن ثمّة تقاطعاً كبيراً بين فكرة إقامة مناطق آمنة وإقامة إدارات حكم محلية، كما أوحت مسودة الدستور التي طرحها الروس أخيراً. وبغض النظر عن هذا التقاطع، فإن ما يجري يوحي بالتأسيس لحكم لا مركزي في سورية أكثر من استراتيجية لإقامة مناطق آمنة.
تتزايد حاجة المعارضة السورية للإسراع في عقد اجتماع عاجل في مدينة ما، يضم من لم تستطع موسكو جمعهم على طاولة واحدة، من منصّات المعارضة المختلفة، في الداخل والخارج، للوصول إلى تفاهمات بينهم، قبل الوصول إلى طاولة التفاوض في جنيف مع النظام.
والسؤال الملح المطروح اليوم على «الهيئة العليا للمفاوضات»، التي تضم أوسع أطياف المعارضة، هو: هل تملك هذه الهيئة رؤى مرنة للتعامل مع ما هو مطلوب منها، وفق تصريحات المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في 31 الشهر الماضي، حيث طلب تشكيل وفد واحد للمعارضة، مهدداً باستخدام صلاحياته في تشكيل الوفد بعد نفاد المدة التي حددها، وهي الثامن من هذا الشهر؟
ولعل ما جاء في خطاب دي ميستورا يتطابق مع البيان الذي صدر من موسكو موقعاً من المشاركين الثمانية الذين لبوا الدعوة الروسية، ومنهم من يعتبر أحد مكوناتها، أي «هيئة التنسيق»، في حين رفض كل من المنسق العام لـ «الهيئة العليا للمفاوضات» رياض حجاب، ومن دعي من «الائتلاف» المعارض، الدعوة الشفهية التي وجهت لهم. حيث يقر الموقعون على بيان موسكو، الذي صدر في 27 الشهر الماضي، بأن اجتماعات آستانة التي ثبّتت اتفاق وقف إطلاق النار، ستنعكس إيجاباً على المسار السياسي المأمول وتنفيذ القرار 2254. ولعل المتفحّص جيداً لمواد هذا القرار يعرف أن المجتمع الدولي مهّد به لتمثيل منصّات عديدة إلى جانب «الهيئة العليا للمفاوضات»، وبناء على ذلك « توافق المجتمعون على توجيه نداء إلى تشكيل وفد واحد عادل التمثيل ووازن ومقبول، ومن دون إقصاء أحد أو هيمنة أحد»، للتفاوض مع وفد النظام في اجتماع جنيف المقترح هذا الشهر.
وفي عودة لمخرجات اجتماع آستانة، الذي جمع «القوى المسلحة»، يمكننا ملاحظة أن كل طرف (أي النظام والمعارضة) يعتبر أنها جاءت متوافقة مع ما يعزّز موقعه في معركة التفاوض، ويضعه أمام جمهوره منتصراً. إلا أن الحقيقة تفيد أيضاً بأن النظام السوري مني بهزيمة موجعة في المؤتمر، تمثلت بانهيار خطابه الإعلامي، المرتكز على أنه خلال السنوات الست الماضية كان يواجه فصائل وجماعات إرهابية ثابر ليضعها على قائمة الإرهاب الدولية، فإذا به يجلس معها في قاعة واحدة، ويبدو في ذلك كمن هو مضطر للموافقة على البيان الصادر، أو السكوت عنه، على رغم أنه يقضي على كل ما تبقى من سيادته على جيشه، حيث روسيا وإيران معاً هما الضامنتان لتنفيذ بنود الاتفاق، تبدوان كدولتين تتحكمان بمصير سورية ونظامها.
على الجهة المقابلة، تضمنت وثيقة آستانة خسائر بالجملة للمعارضة السورية أيضاً، بشقيها السياسي والمسلح، حيث اضطرت الفصائل للقبول في شكل أو آخر بتحديد طبيعة الدولة السورية، «دولة ديموقراطية، متعددة الإثنيات، متعددة الأديان، غير طائفية» وهو الأمر الذي كان يجب تركه لمحادثات جنيف، وليس التعامل معه بشكلياته من دون إسقاطاته السياسية، التي يجب أن تكون مبنية على التوافقات السياسية بين المكونات السورية جميعها، وليس بين المتصارعين عسكرياً.
واضح أن روسيا على ما يبدو في البيان - حاولت التشويش على المرجعيات الدولية للقضية السورية مختصرة النضالات الديبلوماسية للمعارضة السياسية بالقرار 2254 فقط، وهو الأمر الذي استدركته في بيان موسكو الأخير في محاولة لاسترضاء المجتمع الدولي من جهة، والتقرب من «الهيئة العليا» من جهة ثانية. وربما بالموافقة على الحضور بداية، والتوقيع ختاماً، فقد وضعت الفصائل العسكرية المعارضة كلا من روسيا وإيران في موضع متساو مع تركيا، الدولة الصديقة للمعارضة، مسقطة بذلك الدور القتالي والتدميري للدولتين المذكورتين في سورية، وقابلة بوجودهما من خلال عملهما كضامنتين ومراقبتين على تنفيذ الاتفاق.
ما تريده موسكو والنظام وإيران فعلياً من الفصائل هو انضمامها للحرب على الإرهاب، وقد تحقق لها ذلك، بل بدأت علاماته في الميدان بالشروع بمحاولة تصفية مباشرة لجبهة «فتح الشام» (النصرة سابقاً)، وفي حال تحقق ما يتم الحديث عنه، بخصوص انعقاد مؤتمر جديد في مدينة يمكنها أن تجمع كل أطياف المعارضة من دون تحفظ، قبل اجتماع جنيف المقترح في 20 هذا الشهر، والذي تم تأجيله بناء على توافقات أميركية روسية أممية، والذي كان قد أعلن عن تأجيل موعده المقترح في 8 الشهر، من جانب وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي لا ينطق عن هوى، ما يضعنا أمام انقلاب على مستويين:
- عسكري، حيث تتجمع الفصائل كنواة صلبة مع بعضها بعضاً، لاغتنام فرصة انزياح الحل حسب رغباتها وبشروطها، التي تفرضها على الطرف الذي تجلس إلى جانبه (أي المعارضة) وليس فقط على الطرف المقابل لها (أي النظام). مما يجعلنا نتوقع مجلساً عسكرياً مشتركاً قريباً.
- سياسي، توحي به عبارة مررت عن قصد في بيان آستانة تقول: «أن الصراع يمكن حله فقط من خلال عملية سياسية»، بمعنى أنه ليست هناك عملية انتقال سياسي تستند إلى بنود إعلان جنيف1 و2، وهنا أمام المعارضة السياسية خياران أحلاهما مر، ليس لأنها ستقبل بتوسيع وفدها ليضم ممثلين عن الإدارة الذاتية (الكردية)، أو معارضة موسكو ورندة قسيس، إضافة الى منصة القاهرة وتيار «بناء الدولة»، اللذين كانا موجودين على قائمة اجتماع الرياض الذي أنتج «الهيئة العليا للمفاوضات»، بل لأن على المعارضة السياسية متابعة ما بدأه العسكر، بدل أن يكون العكس هو ما يتم تنفيذه الآن، وفق خطة الانتقال السياسي التي عملت عليها خلال سنوات، وحققت لها مرجعيات دولية، تعتبر موسكو أنها أسقطتها عنوة، ولكن بديبلوماسيتها الناعمة في مؤتمر آستانة في 23 كانون الثاني (يناير) الماضي.
وإذا كان المطلوب من «الهيئة العليا» المرونة في أقسى حالاتها، فعلى هذه المنصات أيضاً أن تعلن مبادرتها للانطلاق نحو تفاهمات مشتركة ليس فقط على أسماء من سيفاوض النظام، (وفد المعارضة الواحد)، بل على ماذا سيكون التفاوض مع النظام، ولعل هذا هو البند الأهم الذي يوجب الاجتماع المشترك، والذي لن تفصلنا عنه سوى أيام إن لم تكن ساعات.
بين مؤتمر آستانة ومن ثم موسكو وقد مضيا، وعاصمة جديدة تطرحها عناوين الأخبار، ثمة صمت في العواصم العربية طال فهل ينتهي، لتكون إحداها مكاناً يمكن من خلاله الحديث بلغة أقرب إلى واقعنا، وأكثر تفهماً لآلام شعب تشرد نصفه، ومنع من دخول بلاد الله الواسعة، وقتل منه نحو نصف مليون، وعدد معتقليه يناهز مئات الآلاف، و85 في المئة منه ضمن خط الفقر، وخمسة ملايين بحاجة للإيواء؟