لم يكشف الربيع العربي، وبخاصة في سورية والعراق، جديداً تماماً في ما يتعلق بموقف «القوميين واليساريين» العرب، لكنه فضح هذا الموقف بشكل غير مسبوق. موقف هؤلاء من إيران يقدم نموذجاً عملياً أمثلته كثيرة. دونك مثلاً موقف الرئيس السوري بشار الأسد، وهو الأمين العام لـ «حزب البعث العربي الاشتراكي» في «القطر» السوري. منذ اليوم الأول لتوليه السلطة عمل الرئيس على تقوية علاقته بإيران، وأعطى هذه العلاقة أولوية على علاقاته العربية. يقال إنه فعل ذلك لأنه لم يعد مطمئناً لدعم «إخوانه» العرب، وبخاصة بعد الغزو الأميركي للعراق.
تضاعفت حاجة الأسد إلى إيران بعد وصول موجة الربيع العربي إلى سورية. وكانت الاستعانة بإيران عسكرياً ومالياً وسياسياً لمواجهة الثورة منذ يومها الأول. لم يستعن الأمين العام لحزب «البعث العربي» بأي دولة عربية، بما في ذلك العراق وهو تحت النفوذ الإيراني (بدأت الاستعانة بالميليشيات العراقية بعد صيف 2014 عندما استولت «داعش» على مدينة الموصل). الشاهد هنا أن رئيس «القطر» السوري وهو يعمل بشعار الحزب «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، لم يكن في وارد توحيد شعبه والتواصل معه بعد الزلزال. كانت أولويته العلاقة مع إيران. وانتهى الأمر به أن أعاد سورية مسرحاً لصراعات إقليمية ودولية، تعج بمختلف الجيوش والدول والميليشيات والأحزاب، وأعاد احتمال تقسيم سورية من جديد.
يمثل الأسد نموذجاً لطبقة سياسية تمسك بالقرار داخل سورية وخارجها. هناك الطبقة السياسية التي تحكم العراق منذ سقوط النظام السابق على يد الأميركيين. إيران هي القاسم المشترك بين «القطرين» السوري والعراقي. ثم هناك موقف المثقفين الذين يحسبون أنفسهم على التيارين القومي واليساري. وأمثلة هؤلاء كثيرة ينتمي أغلبها إلى ما يعرف عربياً بفسطاط «الممانعة»، وهو فسطاط يعتمد على إيران وحساباتها، وليس على «الوطن العربي» وهمومه. سأتفادى إعطاء أسماء هنا حتى لا يأخذ الحديث طابعاً شخصياً. خذ مثلاً كاتب يعتبر نفسه قومياً حتى العظم، وينتمي بثقافته ومفرداته إلى مرحلة ستينات القرن الماضي. كان رئيس تحرير لصحيفة اضطرت إلى التوقف. منذ أن انفجر الربيع العربي كانت كل مقالات هذا الكاتب تقريباً تعبر عن خوف متمكن من أن يؤدي هذا الربيع إلى تنحية روابط الهوية العربية لمصلحة الإسلام السياسي. في الوقت ذاته، وبتأثير وهج الثورات، لم يتردد في الاعتراف بأنه ليس «في الأرض العربية من أدنى مشرقها إلى أقصى مغربها نظام يستطيع الادّعاء أن ممارساته مطابقة للشعارات التي يرفعها، لا فرق بين جمهوري وملكي وجماهيري وسلطاني، ويساري اشتراكي ثوري، ويميني رجعي إمبريالي»، وهو اعتراف «للمراوغة» فرضته ظروف الثورة، أكثر منه قناعة واعية وراسخة، لأن الكاتب نفسه يعاني من ظاهرة عدم التطابق هذه. مع الجملة السابقة يتركز هاجسه على ما يسميه بـ «الملكيات المذهبة» بالنفط. وهو تعبير هجائي بصيغة حداثية لفكرة قديمة لـ«عروبيي» الستينات عن الملكيات الرجعية. يتكامل مع ذلك أنه مع خوفه على الهوية القومية العربية، تغيب إيران ودورها التخريبي المناهض للعروبة عن كل مقالاته تقريباً. كأن هذا «العروبي المعتق» لا يرى بحدقته القومية أي وجود أو دور لإيران والميليشيات الشيعية التابعة في ما يحدث في المنطقة قبل وأثناء الربيع العربي، وبخاصة في العراق وسورية.
مثال آخر مختلف لأستاذ جامعي مصري محترم في العلوم السياسية وينتمي إلى التيار الناصري، يشترك مع بقية القوميين العرب في تغييب إيران ودورها عن كتاباته، لا يريد كما يبدو تحميلها أي مسؤولية في الحرب الأهلية في كل من العراق وسورية، ولا يريد تبرئتها تماماً، وموقفه مرتبك. يتفادى هذا الأكاديمي أيضاً التركيز على الدور السعودي، ربما من باب تحقيق التوازن في موقفه من الرياض (العاصمة العربية) وطهران (العاصمة غير العربية). كتب قبل سنوات مقالة في صحيفة «المصري اليوم» يعترض فيها على زيارة الرئيس السابق محمد مرسي للسعودية في صيف 2012، وذلك باعتبارها الزيارة الأولى له خارج مصر. قدم مبررات رفضه، وكان أغربها وأكثرها تناقضاً مع خطه السياسي قوله: «كما كنت أفضل ألا يزور الرئيس المصري السعودية قبل أن تكون مصر استعادت علاقتها الدبلوماسية الكاملة مع إيران». هكذا يرهن كاتب ناصري العلاقة بين دولتين عربيتين للعلاقة مع دولة غير عربية وتلعب دوراً مناهضاً للعروبة التي يؤمن بها.
يقال أحياناً إن تفسير مثل هذه المواقف الصارخة في تناقضاتها يكمن في أن أصحابها أسرى حال كراهية نفسية مترسبة لديهم تجاه السعودية على خلفية الصراع السعودي المصري إبان ما كان يعرف بالحرب العربية الباردة في ستينات القرن الماضي، وإذا كان هذا صحيحاً، وهو احتمال وارد جداً، فإنه يعبر في أحسن الأحوال عن سذاجة سياسية وعن هشاشة الرؤية القومية قبل أي شيء آخر. ومع أن هذا عامل مشترك، إلا أنه لا يعني أن القوميين العرب كتلة واحدة، فبعضهم حين يتفادى اتخاذ موقف نقدي من إيران، إنما يفعل ذلك تفادياً لأن يؤخذ هذا على أنه تأييد للسعودية، واعتراف بأنها الطرف العربي الذي يقود المواجهة مع إيران في المنطقة. كان بإمكان هؤلاء، بالمعيار القومي، إعلان رفضهم الدور الإيراني وتوظيفه الطائفية وتحالف الأقليات لإعادة تأسيس السلطة في سورية والعراق واليمن، بما يشكل تهديداً للدولة الوطنية العربية، ولفكرة القومية العربية. في الوقت ذاته، كان بإمكانهم عدم السماح بتجيير هذا الموقف لمصلحة السعودية إذا كانوا يرون ذلك، لكنهم لم ولن يفعلوا لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه.
البعض الآخر يجمعون الانتهازية السياسية إلى النفاق القومي. لا يمكن اتهام هؤلاء بالسذاجة، لأنهم يتخذون القومية لبوساً لشيء آخر. حزب البعث السوري بقيادة الأسد، وأغلب مثقفي «الممانعة» في الشام خير معبر عن ذلك. بالنسبة إلى هؤلاء، الانتماء إلى حزب البعث ليس تماماً انتماء إلى أيديولوجيا القومية العربية كما يقولون بها، ولا للفكر الاشتراكي، هو غطاء للبحث عن مساواة ليست طبقية، بل مذهبية تكرس المذهبية بما يسمح بتحالف الأقليات أمام الأغلبية السنية في سورية، ثم على مستوى العالم العربي. أما في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي، حيث لا أغلبية سنية، بل كما يقال أغلبية شيعية، فهناك طائفية معلنة بشكل سافر لا تأخذ بفكرة تحالف الأقليات بعد.
المدهش أن كل هذا حصل ويحصل للعالم العربي بدعم وتشجيع معلن من إيران، وبعد ضجيج قومي صم الآذان ولم يفرض نفسه على الجميع كإشكال مقلق. يا ترى كيف؟ ولماذا؟
أتوقع أن تنتهي الجولة الخامسة من مفاوضات جنيف السورية دون أن تحقق شيئاً في المضمون، وسيزداد شعور السوريين بالضيق مما قد يرونه عبثاً، وعلينا أن نعذر أولئك المنتظرين في مخيمات اللجوء في خيام تذروها الرياح والعواصف ويحرقها الهجير، لبارقة أمل لم تظهر بعد، ويبدو أنها لن تظهر من جنيف، وأن نصبر على من باتوا يكرهون رؤيتنا في قاعات المؤتمرات وأروقة الأمم المتحدة، ومن سيذكروننا بقول شاعرنا ابن حوران المبدع، أبي تمام «السيف أصدق إنباءً من الكتب»! ومن حقهم أن يفقدوا إيمانهم بجدية التطلع إلى حل سياسي وهم يرون النظام وحلفاءه يزعمون الموافقة على وقف إطلاق النار بينما طائراتهم تدمر القرى والمدن وتهجر السكان وتقتل البشر، وعلى ملأ من العالم فشلت اتفاقية وقف الأعمال العدائية التي وقعها لافروف وكيري في فبراير 2016 ولم تبد أي من الدولتين حرصاً على توقيع وزيري خارجيتهما. وكذلك لم يلتزم النظام وحلفاؤه باتفاقية وقف إطلاق النار التي أبرمت في ديسمبر في أستانة، بل إن النظام وحلفاءه صعدوا القصف في حمص والغوطة وفي عدد من المحافظات، وهجروا أهل الوعر، واليوم يتابعون تهجير أهل مضايا والزبداني ويخططون لتهجير أهل الغوطة، ويهدد «حزب الله» السوريين بالباصات الخضر التي تنقل السكان قسراً من بيوتهم إلى المخيمات لإحلال مستوطنين غرباء مكانهم.
وأما مشاركة النظام في مفاوضات جنيف فهي شكلية هدفها إبراز إشاعة كون النظام يبحث عن حل سياسي مع أنه يتابع الحسم العسكري، وقد أصر على أن يناقش مع الأمم المتحدة ملف الإرهاب وحده لأنه يتهم المعارضة السياسية كلها بالإرهاب، متجاهلاً أنه ارتكب أفظع الجرائم الإرهابية في تاريخ البشرية! فلم يسبق أن قصفت دولة شعبها بالكيماوي وبكل الأسلحة المحرمة، أو أبادت مدناً هي محافظاتها، ولم تتسبب دولة في التاريخ في هجرة أكثر من 60 في المئة من أبناء شعبها تشردوا في أنحاء الأرض، ويبدو النظام مستعداً لتمزيق سوريا وتقسيمها إلى دويلات متصارعة مقابل أن يحتفظ بكرسي رئاسة لم يعد لها أي حضور أو سيادة.
لقد فقد الداعمون للنظام احترامهم الشكلي له فقد بات «حزب الله» والإيرانيون يفاوضون على إخراج أهل الفوعة وكفريا من بيوتهم ونقلهم إلى الزبداني اللتين سيقوم «حزب الله» وإيران بتهجير سكانهما قسراً وعنوة على مرأى العالم كله، ليجعلوا من ريف دمشق الغربي مستعمرة شيعية هدفها حماية طريق لبنان والإحاطة بعاصمة الأمويين التاريخية برايات طائفية.
ويصمت النظام على فجيعة أخرى تحدث في شمال سوريا، حيث تذكرنا الأحداث المتلاحقة التي يسارع فيها حزب «البي يي دي» لاقتطاع محافظات سورية بذكرى مرور مئة عام على وعد بلفور، ولا أدري من هو بلفور القرن الحادي والعشرين الذي يمكن أن يكون قد وعد بعض الغلاة من الأكراد بإقامة دولة لهم في الشمال السوري، فهؤلاء يهددون اليوم بضم محافظة الرقة إليهم! وهم يقولون إنهم يريدون فيدرالية ضمن سوريا، ولكن هناك من يغريهم بالانفصال رويداً رويداً لإذكاء صراع عربي كردي لم يسبق أن حدث في تاريخ العلاقة المديدة بين الكرد والعرب. ولئن كنا نحرص على إنصاف الكرد وتمكينهم من حقوقهم السياسية والثقافية واللغوية والإدارية ولدينا في رؤية الهيئة العليا للمفاوضات بيان صريح بدعم ما سميناه القضية الكردية ضمن بوتقة القضية السورية عامة، لكننا أشد حرصاً على وحدة سوريا أرضاً وشعباً متعدد الأعراق والأطياف. ولا نقبل بحال أن يتقاسم السوريون بلادهم وأن يمزقوها إلى دويلات صغيرة متصارعة، والعجب أن يدعم النظام توجه هذا الحزب الكردي المتطرف في سلوكه وفي مطالبه، مما يجعلنا نشك بوجود خطة تقسيم سرية قد تظهر شيئاً فشيئاً، وتفسر حرص النظام على تهجير الآلاف من أهل السنة من حمص ومن دمشق وريفها إلى إدلب ونقل شيعة إدلب إلى مضايا والزبداني، والعالم صامت يتفرج.
ورغم ضعف تفاؤلي بمفاوضات جنيف أجدني حريصاً على استمرارها لمجرد أنها تجعل القضية السورية حارة وساخنة وعلى مسرح دولي كبير، وقد يكون التوقف عن مفاوضات سياسية مبرراً لجعل القضية منسية دولياً أو هامشية.
ولكنني أدرك أن أبواب جنيف مغلقة أمام الحل السياسي، ولن تفتح إلا حين يظهر اتفاق دولي يتخذه مجلس الأمن بقرار صارم دون ظهور لـ«الفيتو»، ولا ندري متى يحدث، ولكننا ندعو الله أن يكون قراراً لصالح شعبنا وألا يكون هناك وعد مثل وعد بلفور لأحد، فإن لم يكن فستبقى شلالات الدم تفيض ولن يوقفها غير حل عادل.
التوجه نحو تحقيق تقدم سريع باتجاه الرقة يشكل واحداً من القضايا التي تهدف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى استثمارها لكي تُسجَّل في رصيد أرباحه الإستراتيجية، وقد بات واضحاً بحث ترامب عن مكاسب في السياسة الخارجية للتغطية على إخفاقاته في تحقيق الوعود التي أطلقها في الشؤون الداخلية. وكما بدأت معركة الموصل قبل تبيّن معالم المرحلة التي تلي القضاء على داعش، كذلك تسير المعركة في الرقة من دون الاتفاق على اليوم التالي هناك، أو على الأقل ظهور ملامح العملية السياسية في سورية ومصير نظام الأسد حيث لا تزال إدارة ترامب منكفئة عن إعادة الانخراط في ترتيباتها بقوة.
يتوقف الأمر إذاً على تفعيل الجهد الذي يقوم به التحالف الدولي لمحاربة داعش على المسارين السوري والعراقي انطلاقاً من التوجهات الجديدة التي فرضها ترامب وبعد فترة من الركود أتاحت لروسيا مد نفوذها نحو الشرق والشمال السوري والدخول إلى ملف الأكراد ومناطق نفوذهم.
القضاء على داعش في الرقة قد لا يترك فراغاً هذه المرة، وذلك مع التزاحم والتسابق بين الروس وحلفائهم من جهة وقوى التحالف الدولي من جهة ثانية، لكن لا شك في أن ذلك يترك تساؤلات حول خارطة النفوذ التي تتشكل بعد ذلك ولهذا الأمر اتصاله بعدد من المعطيات. أولاً، الشروع في معركة الرقة من دون تفاهم مع تركيا وتغييب كامل لإيران يترك اثنتين من الدول الإقليمية الفاعلة خارج إطار المكاسب المُحققة ما يعني أن إطالة أمد المعركة ستكون في مصلحتهما.
ثانياً، أن عدم التوصل إلى نزع أسباب التطرف في المنطقة سيضم عملية القضاء على داعش إلى مثيلاتها التي سبق وخبرتها الإدارات الأميركية المتعاقبة بعد احتلال العراق، وأولى هذه المسببات معالجة التوازن الطائفي والإثني بين العراقيين وإزاحة بشار الأسد عن رأس الدولة في سورية وسحب الميليشيات التي تنشرها إيران والحد من تدخلاتها.
ثالثاً، أن التداخل الديمغرافي العربي- التركماني- الكردي في مناطق الموصل والرقة يفترض ترتيب مرحلة ما بعد داعش بدءاً من القوى المحلية التي تتكفل بالتحرير وصولاً إلى الذين يمسكون بالإدارة وإعادة الإعمار، بخاصة أن الإخفاقات العسكرية التي ظهرت في الموصل والكلفة الباهظة على المدنيين تفترض التعويل على الأدوات المحلية في تغيير المعادلة أكثر مما تستوجب اتباع سياسة الأرض المحروقة.
بالتوازي مع ذلك فإن مقاربة ترامب لمحاربة «التطرف الإسلامي» تقوم على المواجهة العسكرية والإيديولوجية المستدامة والحضور العسكري المباشر الذي يحوّل الوجود الأميركي في شمال سورية إلى أمر واقع طويل الأمد ويحرّره تدريجياً من الحاجة اللوجستية لتركيا في ظل التحولات التي تشهدها داخلياً وعلى صعيد علاقاتها الدولية.
وبخلاف الموقف في العراق، فالانتهاء من داعش في سورية يساوي حسابياً ضرورة التفاهم الدولي حول نموذج الكيان الكردي في الشمال وصيغة التعايش مع العرب، وهو ما لم يعد شأناً داخلياً سورياً أو يترافق مع مسارات الحل السياسي، بخاصة أن الأكراد وضعوا في جعبتهم إمكانية التعاون العسكري المزدوج وإقامة قواعد لكل من الولايات المتحدة وروسيا في الوقت ذاته.
روسيا لا تخفي نواياها الحقيقية تجاه القبول بكيان كردي في سورية، هذه فرصتها التاريخية لكي تؤسّس لحقبة تُضعِف تركيا من جهة الشرق وتُشغلها في شكل مستدام. إضافة إلى أنها المدخل لكي يجري تبرير وجودها الطويل الأمد على قسم من الأراضي السورية في إطار الحل الفيديرالي. وقد أتى كلام مساعد وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف واضحاً حين تساءل: «لماذا توافق تركيا على كردستان العراق ولا توافق على كردستان سورية؟»، أو حين عاد ليؤكد أن ذلك «ليس من شأنهم إنما هو شأن سوري»، وأن «الشعب السوري يقرر شكل الدولة والقيادة». الأطروحة الروسية لا تنتبه إلى أن المسألة السورية برمتها باتت خارج إرادة السوريين!
تأتي هذه المقاربة في وقت تبحث موسكو عن ملاقاة الإستراتيجية الأميركية في سورية لتشريع دورها في الحملة على الإرهاب. الرسالة الحاسمة من كل ذلك تكمن في أن تركيا باتت تقف أمام كيان كردي أضحى حقيقة واقعة وهو يحظى بتوافق أميركي روسي له ركائز على الأرض هذه المرة! والأكراد أجادوا تشبيك علاقاتهم ومصالحهم مع كل الأطراف المؤثرين إضافة إلى أنهم لم يتورطوا في الانزلاق إلى مسألة التطرف الإسلامي ما أهّلهم للعب أدوار مهمة في الحرب على الإرهاب.
تركيا تتخوف من تناغم مُطرد في العلاقات بين الأكراد والعلويين تبدو تباشيره واضحة في الساحة السورية وامتداداته في الداخل التركي لديها أسس موجودة. وبالتالي فإن إبقاء تركيا خارج إطار التفاهم في الرقة لن يسهل العملية حتى لو وضع التحالف الدولي كل ثقله في المعركة، بل يُعقّدها إلى حدود بعيدة ويدفع اردوغان إلى التصرف بانفعال مع هذا التحدي. بخاصة أن في عقل العدالة والتنمية التركي أن ما يجري في سورية قد يستهدف تركيا في مرحلة لاحقة، وهذا ما أدركه «مُعلّم» أردوغان ومُؤسّس الحركة الإسلامية الحديثة نجم الدين أربكان الذي كان يردد أنه «عندما يفكر الغرب في الدخول الى سورية فهدفه الأساسي إنما يكون تركيا بالدرجة الأولى». ونشوء كيان كردي تتقاطع في داخله مصالح روسيا والولايات المتحدة ونظام الأسد لن يترك خياراً أمام أردوغان إلا مواجهته.
إمكانية أن تنجح إدارة ترامب في التوفيق بين مصالح تركيا وهدف القضاء على داعش تفترض التفاهم على معالم المرحلة المقبلة وسلّة التطمينات التي تضع ضوابط لعملية تحريك الجغرافيا السورية باتجاه الفدرلة، بخاصة أن استقرار المناطق المحررة من داعش لا يمكن فصله عن مسار العملية السياسية الجارية في جنيف ومصير نظام الأسد وميليشيات إيران واتضاح الدور الذي تلعبه روسيا في شمال سورية.
حُسمت الترجيحات أو تكاد، حول القوة المخوّلة للسير نحو الرقة، وتطبيق خطة (العزل)، وخوض معاركها رسميّاً، لصالح قوات سورية الديمقراطية (قسد)، والتي يحتكم الأكراد على قيادتها وتوجيهها، حيث يشكلون عمودها الفقري وعقلها المدبّر، وذلك في سعيٍ كرديٍ متواصلٍ ومحموم لقطع أي طريق على أي تدخل تركي.
تضفي معركة عزل الرقة من ثم استعادتها كثيراً من الشرعيّة والسمعة الدولية للأطراف المحليّة والإقليميّة التي ستشارك فيها، وطبيعي أنها ستوثّق العلاقة بين القوات التي على الأرض والتحالف الدولي المناهض لـ "داعش"، لذا تصر تركيا على تقويض كل ما من شأنه تقوية خصمها الكردي اللدود (وحدات حماية الشعب). وفي الأثناء، تتحدث وسائل إعلام تركيا عن حشد أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل على أهبة الاستعداد، للمشاركة في معركة الرقة، بينما تصمّ أميركا آذانها عن سماع مثل هذه الإغراءات التركية المتكرّرة، فوق ذلك أقدمت أميركا وقوات التحالف الدولي على تزويد عملية "غضب الفرات" بالإمكانات العسكرية واللوجستيّة، وعزّزت قدرات "قسد" الناريّة إثر انتقادات خبراء عسكريين أميركيين تحدثوا عن كثافة نارية محدودة، كأحد المشكلات التي ستعترض تقدم "قسد"، وتخفف من حدّة ضرباتها وتقدّمها.
لا يهدف التحالف إلى الحؤول دون مشاركةٍ تركية فحسب، بل إنه، وعبر الإنزال الجوي الأخير غربي مدينة الرقة، وبالقرب من مدينة الطبقة، قطع الطريق على مشاركة القوات الحكومية السورية أيضاً، والتي كانت تتحيّن الفرصة، للمشاركة في هذه العملية، وبالتالي، يعزّز قطع طريق حلب – الرقة بهذا الشكل من نظرية الإبقاء على قوات سورية الديمقراطية قوّة وحيدة على الأرض.
الظاهر حتى اللحظة أن خطة العزل، ومن ثم الاستعادة الأميركية تسير بخطى ثابتة، وعلى ضوء تفاهم روسي - أميركي تُدلل عليه المعطيات على الأرض، كحال عدم إزعاج القوات الكردية شمالاً، وإشغالها في معارك مع الجانب التركي، فقد حالت روسيا وأميركا من تقدم القوات التركية صوب مدينة منبج، بُعيد معارك الباب، كما نشرت روسيا قواتها ومدرَّعاتها مشفوعتين بأعلام روسية وأعلام وحدات حماية الشعب في عفرين ذات الغالبية الكردية، رداً على القصف المدفعي التركي ريف عفرين، ففي سابقةٍ باتت القوات الكردية تردُّ على مصادر النيران التركية، وهو أمر لم يكن، لولا الوجودان، الروسي والأميركي، إلى جوار القوات الكردية، بل فاقم من غضب تركيا مقتل جنديّ تركي داخل الأراضي التركية برصاص قنّاصٍ تابع لوحدات الحماية من الجهة السورية للحدود، لتسرع الخارجية التركية، وعبّر المتحدث باسمها للقول إن صور المقاتلين الروس إلى جانب المقاتلين الأكراد "مزعجة"، وإن على روسيا "احترام حساسيتنا".
يختلف إيقاع معارك الرّقة عن التي حدثت في الموصل العراقية، حيث أن قوات سورية الديمقراطية لا تثير الحساسية التي أثارتها قوات الحشد الشعبي المصبوغة طائفياً، فـ "قسد" باتت تحوي في داخلها حضوراً عربياً وازناً، وإن كانت إدارة القوات تتبع العنصر الكردي، إلا أن الحضور العربيّ يخفف من غلواء المشاعر المتخوفة من انتهاكاتٍ قد تقع على الأرض، بعيد "تحرير" المناطق من سيطرة "داعش"، فحين تمت السيطرة على منبج، ذات الغالبية العربية، لم تشهد المدينة اضطراباً داخلياً، أو عمليات نزوح لاحقة للسيطرة الكردية، الأمر الذي يزيد من مشاعر الاطمئنان لدى الجانب العربي في المقام الأوّل، ويُريح الأميركان والحلفاء من الانتقادات التي قد تطاولهم، في حال تنامت مشاعر الكراهية للقوات البريّة المدعومة أميركياً. يزيد في الافتراق بين مشهدي الرقة – الموصل، أن القوات الحاضرة على الأرض سوريّة ، بمعنى أن الوجود الإيراني في معركة الموصل يكاد ينعدم في معركة الرقة وعملية غضب الفرات، إذ لا قوات إقليمية يمكن أن تساهم في التحرير والاستثمار في المرحلة اللاحقة، فوق ذلك قد تعمد "قسد" إلى تمكين مقاتليها العرب، وحلفائها المحليين، من الظهور في المشهد العام، ما يخفف من نذر الصدام، ومن كوابيس حرب كردية – عربية، يستبعد حدوثها حال استعادة الرقة.
لا تبدو معركة الرّقة بعيدةً من حيث توقيتها، فعلى الرغم من أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) صرحت، على لسان متحدثها أن قرار الهجوم لاستعادة الرقة "لم يتخذ بعد"، في حين تصرح قيادات من "قسد" أن المعركة ستبدأ في أوائل شهر إبريل/ نيسان المقبل. ومهما يكن من أمر، تؤكد سرعة الأحداث على الأرض أن الهجوم على الرقة ليس بعيداً، إذ تعبّر استعادة القرى والنقاط المهمة حول الرقة أكثر من كلام المتحدثين.
لم يعد من الممكن الحديث عن تعطيل معركة استعادة الرّقة، كما لم يعد من الممكن إشراك قوات محلية أو إقليمية في هذه العملية، وكل ما يمكن قوله هو انتظار "أم المعارك" التي ستشهدها الرّقة المكلومة، وما ستسفر عنه من نتائج بالغة الأهمية على المشهدين، السوري والإقليمي.
وفقاً للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، هناك اليوم خمسة ملايين لاجئ سوري خارج سورية، وأكثر منهم داخل سورية. أي أن نصف السوريين مقتلعون من بيوتهم، وقرابة ربعهم مقتلعون من بلدهم. أغلب الظن أن الأرقام مقتصدة، لكنْ لا بأس.
المدهش ليس العدد الضخم وحده، فآلة القتل الأسدية– الروسية– الإيرانية قادرة، بالطائرات والكيماوي والبراميل، وبالقصف والغزو على ذلك. المدهش أن هؤلاء الملايين لم يصنعوا في العالم «قضية سورية»، علماً بأن الاقتلاع السكاني، من أرمينيا ومن فلسطين ومن سواهما، لعب دوراً ملحوظاً، مادياً ورمزياً، في التأسيس لـ «قضايا» تلك الشعوب المنكوبة. وقد نشأ من القضايا ما كبر على حساب شعب القضية نفسه. المثال الفلسطيني ساطع في هذا المجال، حيث كثيراً ما سار قتل الفلسطينيين والتشدق بقضية فلسطين يداً بيد!
ما يرفع درجة الإدهاش أن النزوح السوري ترك تأثيرات كونية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. لقد صار أحد البنود في الحملات الانتخابية لعدد من بلدان أوروبا، كما بات يتصل بصعود اليمين الشعبوي فيها.
مع ذلك، لم تنشأ قضية سورية تحرك العالم، كي لا نقول: تهزه. أمر النزوح غلب عليه التعاطي التقني والإجرائي، وفي أحسن الأحوال: الإنساني. أما سياسياً وأيديولوجياً، فالنتيجة غير مشجعة.
سبب ذلك، على الأرجح، كامن في وقوع الثورة السورية خارج الثنائيات المألوفة التي انشطر حولها عالمنا العناصر، كما استقطبت كماً ضخماً من الأفكار والعواطف. فهي ما يصعب ربطه بمألوف الثنائية اليمينية– اليسارية، الأمر الذي يفسر توافق التيارات الأعرض في اليمين واليسار على موقف يتراوح بين تجاهلها السينيكي ومناهضتها اللئيمة. لقد استحالت السيطرة التأويلية على «غموض» الثورة قياساً بتلك الثنائية.
كذلك، وعلى عكس المسائل الأرمنية والفلسطينية والكردية، ليست الثورة السورية ثورة قومية، ولا الموضوع القومي مطروحاً فيها أصلاً. إنها بين سوريين عرب وسوريين عرب، على رغم التقاطع مع المشكلة الكردية في سورية التي، على أهميتها، لا تموه محط التركيز الأصلي.
فوق هذا، فالقرابة التقليدية بين الثورة الديموقراطية وحقوق الأقليات لا تصح في الثورة السورية. هنا تتبدى المشكلة من طبيعة مختلفة تماماً: الأكثرية هي نفسها الأقلية السياسية التي يقع عليها معظم القمع والاضطهاد.
والراهن أن الدور الذي لعبته الحركات الإسلامية المتطرفة في السنوات الثلاث الماضية زاد الصعوبات جميعاً. لقد صارت الثورة السورية أقل قابلية للاندراج في أي من التأويلات والثنائيات المألوفة.
صحيح أن عدداً من المثقفين السوريين بذلوا جهوداً جدية ووجيهة لربط ما يجري في بلادهم بانقسامات ومعانٍ أعرض. لكن تلك الجهود لم تجذب الاهتمام الذي تجذبه صورة لمسلحات كرديات يقاتلن «داعش»: هنا، يسهل إدراج الموضوع، وغالباً بخفة دعائية، في النضال لتحرر المرأة، وفي المعركة ضد الظلامية، وفي حق تقرير المصير. إنه قابل للإدراج في ما هو معروف ومألوف.
السبب الأهم الذي جعل الثورة السورية «غير مفهومة»، وحال دون ولادة «قضية سورية»، هو أنها تشبه الماضي الأوروبي السحيق. تشبه ثورة سبارتاكوس في روما. تشبه مطالبة العبيد بالكرامة والإنسانية. وهذا ما بات ماضياً أركيولوجياً في الغرب الذي يصنع القضايا كما يصنع الصور. والمسألة لم تصبح هكذا إلا لأن نظام الأسد بات، في العالم، ماضياً أركيولوجياً.
تتضاعف صعوبة التعرف إلى ثورة السوريين بصفتها هذه لسبب آخر: أن الغرب اليوم ليس مطمئناً تماماً إلى مستقبله. صحيح أنه غير مهدد بالرجوع إلى ما يشبه العبودية الأسدية، لكنه أيضاً غير واثق من أنه يمتلك حاضره. شعور كهذا يُضعف القدرة على التفكير والفهم، لكنه أيضاً يجفف القدرة على التعاطف.
تقوم في الوقت الحالي قوات جيش سوريا ، الذي يضم قرابة سبعين فصيل سابق من فصائل الثورة ، بعمليات التمشيط الأخيرة في العاصمة دمشق ، بعد أن انتهت من السيطرة عليها فجر اليوم نتيجة الإنهيار التام لنظام الأسد.
و أعلنت مجموعة مختارة من تسلم دفة إدارة البلاد ، بشكل مؤقت ريثما يستتب الأمن و يتم إلقاء القبض على جميع من تورط في قتل الشعب السوري طوال السنوات الست الماضية ، و إيداعهم في مركز مخصص و بإشراف لجنة قضائية مختصة بهذا الشأن.
فيما بدأ الشعب السوري ، الذي عانى من يوم قاسٍ و ضبابي ، غابت به الأخبار تماماً ، و كان الحاضر الأبرز هو صوت الرصاص الكثيف الذي عمّ غالبية المناطق التي كان يحتلها الأسد ، في حين نَعِم الشعب السوري في المناطق المحررة لأول يوم بهدوء تام و غياب شامل للموت.
قد لا يقنع كلامي من ينامون في العراء أو على وقع أصوات الرصاص والقصف و أزيز الطائرات, لكن لابد منه في مثل هذا اليوم ، الذي يُمارس فيه الكذب ، و الكذب المهول ، فهو نيسان الكاذب بالعادة و بالأوضاع الجوية ، و لم لا يكون كاذباً بالواقع.
و في إطار متابعة الكذب ، حتى لا نستيقظ من هذه الكذبة الجميلة ، نمضي لنقول أن الشعب السوري بكل مكان بدأ عملية السير في جنازة الكائن الذي تم زرعه في داخلنا طوال عقود كثيرة و سبب لنا ألما و رعبا ، و ذلك حتى نصّدق أن الشرطي الداخلي قد رحل إلى غير رجعه وترك مكانا واسعا بجوفنا و عقلنا لتتنفس بحرية و نتكلم بأريحيه, و نقرأ ما نشاء و نحكي ما نريد و ننتقد الخطأ ونفتح حوارات و نقاشات لا يحدها خط أحمر أو هامش قاتل.
ولم لا نشكل في أذهاننا حكومة تضم وزراءً في خدمة الدولة وليس العكس و أنهم تحت الرقابة و المحاسبة و تحت سلطه القانون و أن كل واحد منهم مستعد للاستقالة عند حدوث أي خلل في مسؤولياته.
ولم لا نوسع الكذبة أكثر ، نعم بأن يكون هناك عشرة أشخاص يدخلون معترك انتخابات الرئاسة و لك الحق وانت وحدك (دون توجيه أو بصمه بالدم) أن تختار من تريد تبعا لنظرتك الشخصية ورؤيتك لبرنامجه.
ولم لا نكذب أيضاً ، بأن نتابع محاكمة السفاح و أعوانه و مساعديه وكل من قصف و قتل و دمر و شرد بمحاكمة علنية و ترى من ادعى الجبروت بالأمس يبحث عن شيئ يخبئ فيه وجهه.
ولم لا نواصل الكذب ، بأن يكون لديك شقه مفروشة وبقسط مريح و براتب عالي و أن تحظى باحترام رئيسك بالعمل تبعا لجهودك و ليس لمن يدعمك .
ولم لا ؟ و لم لا ؟
مساحه مفتوحة لك مطلق الحرية والحق في أن تستعملها كيفما شئت فأنت الهدف و الغاية و السبب بل والوسيلة في هذه الثورة .
عفوا ..... كلامي كان مجرد فاصل أو استراحة بينما تم تبديل عناصر المدفعية و الطيارين والرماة فقد حان موعد الجولة الثانية, ألقاكم في كذبة جديدة أو في السماء.
أعادني تعليق قصير قرأته في تغريدة في "تويتر"، مرفقاً بصورة الطفلة العراقية التي انتشرت، أخيراً، باسم موناليزا الموصل، إلى حكاية المصوّر الذي التقط إحدى أشهر صور التاريخ الفوتوغرافي.. وانتحر بعدها.
بدت الطفلة العراقية التي بالكاد نجت من مذبحة الموصل الجديدة، وهي تبتسم لعدسة المصور ابتسامة غريبة، بعيون دامعة وملامح غارقة في الأسى، في ما دلّ مظهرها الأشعث على ما كانت تعانيه في اللحظة التي استوقفت فيها المصور الفوتوغرافي، ليلتقط لها الصورة الشهيرة.
أما التعليق الذي استوقفني من بين مئات التعليقات التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، تعاطفاً مع الطفلة، ودهشة من اللحظة المفارقة التي جمدتها الفوتوغرافيا، فهو لسيدة تقول إن الطفلة كانت، في تلك اللحظة، بحاجة لمن يحتضنها، لا لمن يصوّرها.
وهذا، بالمناسبة، رأي قديم يتجدّد مع كل صورة فوتوغرافية صحافية مشابهة، وبالتحديد منذ حادثة انتحار المصور العالمي، كيفن كارتر، في يوليو/تموز 1994، تحت وطأة الشعور المتعاظم بالذنب، بسبب انحيازه لفكرة السبق الصحافي، على حساب نداء الضمير الإنساني.
كان كارتر قد صادف طفلة سودانية في أثناء تغطيته الصحافية أحوال المجاعة التي ألمّت بالسودان وأهوالها، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وهي تزحف منهكة القوى، بسبب الجوع الشديد من الكوخ الذي يسكنه ذووها إلى مقر توزيع المساعدات الغذائية، بعد أن مات كل من في الكوخ جوعاً، ولم يبق سواها، لتحاول النجاة قدر استطاعتها. وعلى الرغم من أن المسافة بين الكوخ ومقر المساعدات لا يزيد عن كيلو متر واحد، إلا أن الطفلة المسكينة لم تستطع بلوغ هدفها في النهاية، فقد كانت تزحف ببطء شديد، بعد أن وصلت إلى مرحلة الاحتضار، وكان في المشهد نسر لا يقل عنها حاجة إلى الطعام، فبقي متحيّناً فرصة الانقضاض على الطفلة، بعد أن يبتعد المصور كما يبدو، لكن المصور الذي وجد المشهد مغرياً جدا لالتقاطه صوّب عدسته ليفوز بصورةٍ، سرعان ما انتشرت في العالم، ثم فاز بجائزة بولتيزر لأفضل صورة فوتوغرافية إنسانية في ذلك العام.
لم تكن تلك الجائزة لتحمي كارتر من النقد الذي وجهه إليه كثيرون، بسبب اهتمامه بتصوير الطفلة المحتضرة، بدلا من المسارعة إلى إنقاذها من مصيرها المحتوم، على الرغم من دفاعه عن نفسه بأنه مصور، كان يمارس مهنته التي جاءت به إلى فضاء المجاعة بإخلاص شديد، وإن إنقاذ ضحايا تلك المجاعة، وهم كثيرون، لم تكن من مهامه. وقد ضاعف حدة الهجوم عليه، من كثيرين من النقاد والقراء على حد سواء، ما قيل من أنه انتظر، بعد التقاطه الصورة، ما يقرب من عشرين دقيقة، راقب فيها النسر وهو ينقضّ على الطفلة، قبل أن يغادر المكان تاركا وراءه أشلاء الجسد الصغير، وقد اختلطت بأشلاء الضمير الصحافي الميت، في صورةٍ واقعيةٍ، لم يلتقطها أحد.
لم يحتمل المصوّر الذي راجع موقفه مما حدث تحت وطأة الشعور بالندم، بعد أن ساهم الآخرون في تذكيره بإنسانيته المهدرة البقاء طويلا على قيد الحياة، فقرّر أن ينتحر، بعد أشهر قليلة من نيله الجائزة التي وضعته على محك اختيار الضمير الإنساني. على الرغم من أن هناك من دافع عنه، في المقابل، على اعتبار أن ما قام به نوع من الإنقاذ غير المباشر لأطفال آخرين، كان من المفترض أن يواجهوا مصير الطفلة، لولا أن الضوء الإعلامي الذي سلّطه كارتر وزملاؤه على المأساة ساهم في تخفيف حدّتها في النهاية.
قال، في رسالته التي تركها وراءه؛ "أنا مكتئب، أنا مُطَارَد بالذكريات الواضحة لحالات القتل والجثث والغضب والألم وأطفال جائعين أَو مجروحين، مطارد مِنْ المجانين التوّاقين لإطلاق النارِ، مِنْ الجلادين القتلة".
وواضح أن الجلادين والقتلة والمجانين التوّاقين لإطلاق النار على الضحايا الأبرياء ما زالوا يمارسون أعمالهم، على مرأى من عدسات الصحافيين والمصوّرين الفوتوغرافيين، في اختبارات مستمرة للضمير الإنساني، وهو يواجه الضمير المهني.. حيث لا ضرورة لإعلان الفائز أخيراً.
كثيرة هي المسائل المسكوت عنها في الواقع السوري، ليس من باب أنها لا تقع ضمن أولويات البحث، ولكن لأن البعض يحاول التجاهل أو التأجيل، إما لإنكار هذه المسألة أو تلك، أو للحؤول دون كشف التناقضات في رؤية مختلف الأطراف إلى القضية المعنية، في حين أن الأوضاع تتطلب فتح النقاش حول مختلف المسائل، لتوضيح الاختلافات وتعميق المشتركات.
ولعل المسألة الكردية من أهم هذه القضايا المسكوت عنها أو المختلف عليها بين القوى السياسية السورية، خصوصا أنها تخضع لتجاذبات أو توظيفات متضاربة، لا تفيد الكرد، إن كجماعة قومية أو كأفراد، وتضر المسألة المحورية المتعلقة اليوم بإسقاط النظام وإرساء التحول نحو الحرية والمواطنة والديموقراطية. أي أن المسألة الكردية هي من وجهين: أولهما يتعلق بقضية المواطنة، أو غياب مكانة المواطنة في الدولة والمجتمع السوريين، بحكم طبيعة السلطة. وثانيهما يتعلق باعتبارها قضية قومية، أو قضية شعب جرى حرمانه من هويته وحقوقه، الفردية والجمعية.
يأتي هذا الكلام ونحن نشهد التجاذب الدولي والإقليمي (وحتى من طرف النظام) لتوظيف «قوات سورية الديموقراطية»، والتي عمادها «قوات حماية الشعب» الكردية (التابعة لــ «حزب الاتحاد الديموقراطي»)، في الصراع السوري، سواء ضد «داعش»، أو في إطار محاولة فرض تسوية معينة في سورية، مع النظام أو من دونه، تأخذ في عين الاعتبار إقامة منطقة حكم ذاتي للأكراد (من دون تحديد جغرافي معين)، كما يأتي هذا الكلام في ظل سعي تركيا للحؤول دون ذلك، أو لتحجيمه ما أمكن.
هذا الواقع المعقد، الذي تتضارب توظيفاته وأهدافه، يفرض على المعنيين، ومن ضمنهم الكرد، طرح أسئلة عديدة. مثلاً كيف ينظر السوريون الكرد إلى المشهد العام للحل في سورية؟ هل يعتبرون قضيتهم جزءاً من هذا المشهد؟ أم يرون أن لهم مشهداً مستقلاً تماماً؟ هل يرون أنفسهم كسوريين معنيين بالتغيير نحو المواطنة والديموقراطية في البلد؟ أم يرون أنفسهم كرداً فقط؟ أو يرون أنفسهم في تقاطع بين هاتين العمليتين، وفق صيغة دولة فدرالية أو لامركزية؟ هذه أسئلة يجب أن يجيب عليها الأكراد أنفسهم، وأن يتوافقوا عليها، وأن يقدموا رؤيتهم الخاصة إلى شركائهم السوريين، وأيضا إلى المحيط الإقليمي.
في المقابل، وبعيداً من نفي بعضهم أن للأكراد في سورية والعراق وإيران وتركيا، قضية قومية، وهي قضية محقة ومشروعة، على رغم اختلاف وجهات نظر الأنظمة الحاكمة في مقاربة عدالتها، وضرورة السعي لإيجاد حلول مناسبة لها، فإنه لا يمكن حل هذه القضية أو اختزالها بإيراد نص دستوري يتحدث عن وعد بإقامة دولة مواطنين أحرار، ودولة مؤسسات وقانون، ودولة ديموقراطية، لأن هذه الدولة ستقوم في أحد جوانبها على الأكثرية والأغلبية. لذا من حق الكرد كشعب، أو كجماعة قومية، كما من حق غيرهم، أن يحتاطوا من هذا الوضع، وأن يتحسّبوا، ومن حقهم علينا تعزيز ثقتهم بِنَا، وبالمستقبل المشترك. كما من حقنا عليهم تأكيد وحدة الأرض واعتبار التعددية القومية والدينية مصدر ثراء للدولة المدنية الديموقراطية، التي هي ليست دولة دينية ولا عسكرية ولا طائفية وإثنية.
لا أقصد التقليل من شأن المواطنة والديموقراطية وإنما اقصد أنه يجب تطعيم الديموقراطية بمبادئ دستورية عليا لا تخضع لثنائية أقلية وأكثرية، وهذا يمكن حله في ما يسمى أنظمة الديموقراطية الليبرالية، أي الأنظمة التي تقوم على أساس المواطنة الفردية، أو المواطنين الأحرار المتساوين والمستقلين. لكن هذا التحديد أيضاً لا يفي بالغرض بالنسبة إلى الأكراد، فهم شعب تعرض للاضطهاد والتجزئة عبر التاريخ، وحرم من هويته وحقه في تقرير مصيره في دولة وحتى من تنمية ثقافته. لذا يفترض بالثورة السورية، ثورة الحرية والكرامة والديموقراطية كما هو مفترض، أن تقف بجرأة لحل هذه الإشكالية التي باتت تثقل عليها، وتثير الشبهات بخصوص صدقيتها، وانسجامها مع مبادئها. وهذا يعني أن قضية الكرد، كشعب، لا يمكن اختصارها بمجرد الاعتراف بمواطنيتهم، وبمساواتهم مع المواطنين الآخرين، إذ إن ذلك يفترض أيضا الاعتراف بخصوصيتهم القومية كشعب، بلغتهم وثقافتهم، وبكل الحقوق التي تتعلق بالحق في التنظيم والتعبير، لأن ذلك يأتي من الاعتراف في الدستور بالمواطَنة الحرة والمتساوية، للجميع رجالاً ونساء، وهذا ينطبق على الأكراد، كأفراد وكجماعة قومية.
الإشكالية هنا إذن لا تتعلق بنا كسوريين، أو كمعارضة سورية، أو بأحد كياناتها، أو بالرؤيا القاصرة للمشروع الوطني الذي غاب عن معظم خطاباتنا، أو بتبعيات معارضاتنا للدول التي تدعمها، أو حتى بالمفاهيم الخاطئة التي أسسها النظام في عقول السوريين لعقود من الزمن لتغييب حقوق الكرد كمواطنين سوريين، وإنما هي تتعلق، كذلك، بالكرد أنفسهم، إذ إنهم منقسمون بخصوص ما يريدونه لمستقبلهم، بين من يرى أن الأولوية هي للمشروع القومي الكردي، العابر للبلدان، وبين من يرى أن القضية الكردية لا يمكن حلها إلا في الدول الوطنية القائمة، فضلا عن آخرين يرون أن القضية الكردية لم تعد ذات أهمية.
ما ذكرته عن اختلافات الكرد ليس للتقليل من مشروعية وعدالة قضيتهم بل للتنبيه إلى أن المسألة الكردية هي كردية أولاً. وثانياً، أن المسألة الكردية لا تتعلق بسورية وحدها، على رغم أن ما يعنيني هو الجزء المتعلق بكرد سورية، لكن في الحقيقة لا يمكن عند الحديث عن القضية الكردية تناولها ضمن حدود سورية فقط، إذ إنها تتعلق بالجماعة القومية الكردية في كل من العراق وتركيا وإيران أيضاً. وثالثاً أن قضية الكرد ذات أبعاد دولية وإقليمية وتخضع لحسابات معقدة. وعليه فهل الوضع مناسب للكرد للحديث عن دولة كردية تشمل أراض من إيران وتركيا والعراق وسورية؟ ثم كيف نحصن حلم الأكراد بدولة قومية وحق تقرير المصير من دون أن نجعل من ذلك وسيلة لهذه الدولة أو تلك لتوظيف القضية الكردية واستخدام الكرد كأداة في مشاريعها الضيقة التي لا تخدم الكرد ولا السوريين ولا العراقيين ولا الأتراك مثلاً؟
أي أن على الكرد أن يسألوا أنفسهم ماذا يريدون، وتقدير ظروفهم الذاتية ومناسبتها لذلك، وأن يتأكدوا أن العمل من أجل هذا الحلم لا يجعلهم ينفذون أو يشتغلون في خدمة أجندة إقليمية أخرى، تتلاعب بهم وتوظف قضيتهم، كما أن يتأكدوا أن ذلك لن يكون على حساب شعب سورية وثورته.
بالمقابل، إذا اختار الكرد أن الأولوية هي لانتماءاتهم في الدول الوطنية فإن من حقهم أن يطالبوا المعارضة السورية مثلا، أن تعترف بخصوصيتهم كشعب، وحقهم في التعبير عن أنفسهم، على هذا الأساس، مع تأكيد المواطنة الحرة والمتساوية، في دولة ديموقراطية. وطبعا لا أحد يمنع أحداً، وفق هذا الخيار، أن يحلم أو أن يطمح لإقامة دولة قومية مستقبلاً، لكننا نتحدث اليوم وعن الظروف الراهنة، مع تأكيد أن صيغة الدولة القومية (عربية أو كردية) باتت متقادمة وتجاوزها الزمن في عصر التكتلات الكبرى وفي عصر الدولة الأمة، أي دولة المواطنين الأحرار والمتساوين في ظل نظام ديموقراطي حيث لا توجد أقليات وأكثريات على حوامل طائفية أو دينية أو قومية.
من المشاهد التي لفتت النظر في القمة العربية الأخيرة بالأردن، بجوار الأرض المقدسة، في فلسطين، حيث كان الاجتماع في قاعة عند البحر الميت، كلمة الأمين العام للأمم المتحدة، السياسي البرتغالي أنطونيو غوتيريس، أمام قادة العرب.
غوتيريس تحدث بما هو متوقع منه، عن قبح الحرب وحسن السلام، وعن مأساة اللاجئين جراء الحروب في ديارنا، ثم فاجأ الحضور باستشهاده بالآية السادسة من سورة (التوبة) ونطق اسم السورة بالعربية، ثم ساق معنى الآية، أو «تفسيرها» أو تأويلها، حسب قاموس علماء التفسير القدامى، وشيخهم ابن جرير الطبري.
نص الآية: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ استجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَى يَسْمَعَ كَلَام اللَهِ ثُمَ أَبلغهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ».
ساقها الأمين العام الجديد للأمم المتحدة، وهو يعلم أنه في عمق المنطقة العربية المسلمة، في لحظات توتر ديني طائفي واجتماعي هائل، حتى يقول بما معناه، ها قد احتججنا عليكم بالكتاب المقدس يا من تدعون التأسي بالقرآن. طبعاً هو هنا يخاطب الجماعات والعصابات الإرهابية، ومعهم ربما، بالحديث عن اللاجئين، من يتخاذل في إيواء اللاجئين السوريين والعراقيين.
البرتغالي غوتيريس يبدو أنه سعيد بهذا الاكتشاف، فقد سبق له الاستشهاد بهذه الآية، في فبراير (شباط) الماضي بجامعة القاهرة، مقدماً الشكر لمصر على جهودها في أزمة اللاجئين التي تعصف بالمنطقة، قائلاً إن «أبلغ ما قيل في حماية اللاجئين، ما قرأناه في سورة التوبة، حينما يقول الله في القرآن الكريم (مفسّراً بالإنجليزية) إن حماية اللاجئين ينبغي أن تقدم للمؤمنين وغير المؤمنين أيضاً، وهذا أبلغ ما قرأته بالنسبة لحماية اللاجئين».
بادرة حسنة من هذا المسؤول الدولي «المسيحي» أن يقدر الدين الإسلامي، غير أن مهمة الأمم المتحدة ليست في مثل هذه اللفتات، بل في العمل الجدّي على تكريس السلم، والعدل و«القسطاس المستقيم»، فحيث وجد العدل والرحمة، فثمة دين الله، دون الحاجة للغوص في بحار التفسير، فتلك بحار متلاطمة الأمواج، لها ربابنتها الحذقة.
هذه اللفتة من الدولي البرتغالي، ومثله الإيطالية مسؤولة الأمن والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي (فيديريكا موغيريني) التي بدأت كلمتها في قمة الأردن، بلغة عربية لا بأس بها، على مستوى المجاملات، تشير للمدى الذي وصلته مسألة الانغماس العالمي، الغربي منه خاصة، في المسألة الثقافية الفكرية الإسلامية. وكما قيل، قضية المقاومة الثقافية لخطاب التطرف والإرهاب، من داخل البيت المسلم، هي مسألة عالمية، لا تخص المسلمين فقط، مثل مسألة الاحتباس الحراري، التي تخص كل البشر.
نحن نقاتل الإرهابيين كل يوم على «تأويل» القرآن، مثلما فعل سلفنا مع الخوارج.
أشاد كثيرون بالسياسة الروسية تجاه النظام السوري، حتى إنهم أشاروا إلى أن روسيا تعيد تأسيس مكانتها قوةً عظمى على أكتاف بشار الأسد. من المؤكد أن الرئيس فلاديمير بوتين يشعر بالحنين إلى ذلك الماضي القريب، ويسعى لاستعادة وضع روسيا السابق، لكن يجدر التفكير في العبء المالي الذي ستتكبده روسيا بدعم نظام قد يبقى وقد يطاح به، في مستنقع جيوسياسي اسمه الحرب الأهلية السورية؛ إذ لن يكون أمام روسيا من بديل سوى زيادة إنفاقها العسكري في المنطقة، إذا ما كانت تعتزم إعادة تأهيل نظام بشار الأسد، واستعادة وضعها السابق بين القوى العظمى.
ووفقاً لما أعلنه بوتين شخصياً، فإن روسيا أنفقت في ما بين سبتمبر (أيلول) 2015 ومارس (آذار) 2016؛ أي منذ بداية تدخلها في سوريا، ما يبلغ 484 مليون دولار. بالطبع هذا المبلغ لا يمثل حفنة مقابل ما أنفقته الولايات المتحدة في السنة الأولى من حربها في أفغانستان (33 مليار دولار)، والسنة الأولى من حربها في العراق (51 مليار دولار). لكن وضع البلدين الاقتصادي مختلف جداً. والسؤال الممكن طرحه هو: هل ستواصل روسيا لعب دورها بوصفها الحليف القوي القادر على تمكين الأسد من حكم كل سوريا، أم أن الأعباء المالية في محاربة مجموعات المعارضة السورية ومن ثم إعادة تثبيت الأسد ولاحقاً إعادة بناء المؤسسات السورية، سيكون أمراً كبيراً بالنسبة إلى موسكو؟
عندما خاضت الولايات المتحدة حربها في أفغانستان بعد الهجمات الإرهابية في سبتمبر 2001، وقف الحلف الأطلسي إلى جانبها، كما تلقت دعم الحلفاء في المنطقة. أما في الحالة الروسية والتدخل في سوريا، فالحلفاء قلة، لا بل إن العداء لعودة حكم الأسد وحّد أكثرية دول الشرق الأوسط، وكانت إيران ووكلاؤها، حليف روسيا الوحيد لهدف الإبقاء على نظام الأسد، وهذا بالتالي يثقل الالتزام الروسي ويجعل من تكلفة إعادة تشكيل حكومة للأسد، مرتفعة جداً، ثم إنه من المتوقع أن تواجه تلك الحكومة السورية وغطاؤها الروسي صعوبات متزايدة من أجل الحفاظ عليها لاحقاً.
فالحرب ما زالت مستعرة في سوريا، ثم إن الحصار الاقتصادي على إيران و«حزب الله» سيتضاعف؛ إذ لن يتكرر الخطأ الذي ارتكبته واشنطن بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في العراق، حيث أوجدت فراغاً ملأته إيران. الآن مع تصاعد الهجمات على تنظيم داعش، لن يُسمح لإيران أو لـ«حزب الله» بملء ذلك الفراغ، وهذا ما توافق عليه موسكو.
أشارت رئاسة الأركان الروسية وجهاز الأمن الفيدرالي (الاستخبارات) الروسي إلى وجود نحو 4 آلاف جندي روسي نظامي ونحو 5 آلاف مسلح من الجمهوريات السوفياتية السابقة، في سوريا. لكن، إذا راجعنا التجربة الأميركية، فإن روسيا سوف تحتاج إلى زيادة قواتها في المستقبل لمساعدة سوريا على الانتقال من الحرب إلى حكومة مستقرة محتملة. وإذا كان هدف روسيا إعادة إنشاء حكومة مستدامة تحت قيادة الأسد، فإنها لا تزال في المراحل الأولى من تحقيق هذا الهدف؛ إذ تساعد روسيا الحكومة السورية في استعادة كثير من المدن الرئيسية من أيدي من يعدّهم النظام جماعات متمردة ومنظمات إرهابية. ويوم الاثنين من الأسبوع الماضي كان الجنود الروس يشرفون على إجلاء أهالي ومقاتلي حي الوعر في حمص للذهاب إلى منطقة الباب شرق سوريا.
مما لا شك فيه أن التكاليف المالية سترتفع مع محاولة بوتين إعادة إحياء سلطة الأسد، وإذا اكتفت روسيا فقط بدعم نظام الأسد غير المستقر، عسكرياً، فإن التكاليف المالية والجيوسياسية ستظل هائلة، وستظل الحرب الأهلية السورية تكلف روسيا مليارات من الدولارات على مدى عقد من الزمان. ثم إنها للإبقاء على الأسد ستحتاج روسيا إلى قمع الأقليات والمنظمات الإرهابية والمجموعات المتمردة، كما سيتعين عليها أن تتعامل مع عمليات الدعم الهائلة التي تنصب داخل سوريا من عدة دول خليجية ومن تركيا ومن الولايات المتحدة، ومن غارات إسرائيلية، والكل يرون في الأسد تهديداً للمصالح الجيوسياسية في المنطقة (استسلامه لإيران ولروسيا).
قال لي أحد المراقبين السياسيين: إذا راجعنا جدول الإنفاق الأميركي في كل من أفغانستان والعراق، فيجب ألا نستبعد أن تنفق موسكو ما يزيد على الخمسين مليار دولار في العقد المقبل دفاعاً عن الأسد. ويضيف: هذا لا يقارن بالطبع بمبلغ 744 مليار دولار الذي أنفقته أميركا في أفغانستان، و821 مليار دولار الذي أنفقته في العراق خلال فترة 15 سنة. يقول إن أكبر عاملين محتملين لإعاقة الدعم الروسي للأسد ونظامه سيكونان خطط الإنفاق العسكري المستقبلية، والاقتصاد المحلي.
عام 2010 أعلن الرئيس بوتين عن مشروع تطوير عسكري بقيمة 343 مليار دولار لتحسين المعدات العسكرية الروسية وتحديثها بحلول عام 2020، ولتحقيق هذا الطموح، ستحتاج ميزانية الدفاع الروسية إلى زيادة بنسبة 10 في المائة بدءًا من عام 2016. لكن بسبب انخفاض أسعار النفط، والعقوبات المفروضة على الاقتصاد الروسي، وبسبب انخفاض قيمة الروبل، فإن البلاد تعاني الكثير من أجل الحفاظ على ميزانيتها الدفاعية الحالية.
أما العقبة الرئيسية الأخرى في وجه خطة النمو ورفع مستوى المؤسسة العسكرية، فسببها اعتماد الدولة على الموارد الطبيعية، وتحديداً على النفط ومنتجاته. عام 2013 كانت نسبة 54 في المائة من قيمة إجمالي مبيعات التصدير من روسيا، من النفط ومشتقاته.
مع اقتصاد يعتمد على تصدير النفط، هناك خطر استخدام المصدّرين الرئيسيين الآخرين في المنطقة للنفط على نحو استراتيجي، واستخدامه سلاحاً جيوسياسياً ضد النفوذ الروسي السلبي في سوريا. يقول محدثي: إن المملكة العربية السعودية هي أكبر مصدر للنفط في العالم، ثم إنها ودول الخليج غير مقتنعين بأنه بعد 7 سنوات من حمامات الدم وتهجير نصف الشعب السوري، يمكن أن يبقى الأسد في الحكم. يضيف محدثي: إنتاج النفط السعودي هو الأقل تكلفة، وهذا قد يجعل السعودية الأكثر قدرة على الحفاظ على أسعار النفط الحالية. ويرى أن السعودية قد لا تعمد إلى زيادة الإنتاج بشكل ملحوظ لتخفيض أسعار النفط، لكنها ستحافظ على الإنتاج الكافي للإبقاء على أسعار النفط بحدود 50 دولاراً للبرميل، ومن شأن ذلك أن يحول دون طموحات التوسع العسكري الروسي ويمنع الزيادات في ميزانية الدفاع الروسية، مما يجعل من الصعب جداً على روسيا توسيع نفوذها في سوريا لدعم نظام الأسد.
في خضم هذه الأزمة، كان لافتاً يوم الأحد الماضي حجم المظاهرات التي انطلقت في كثير من المدن الروسية ضد الفساد، والمطالبة باستقالة رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف ومحاكمته وسجنه. منذ عامين ونصف والمستوى المعيشي يتهاوى في روسيا، لكنه لم يمنع البعض من الاستمرار في الاستفادة من ثروة البلاد لمصالحهم الخاصة، ومن الصعب رؤية هؤلاء يتوقفون عن استغلال مناصبهم.
لقد تزامنت هذه المظاهرات مع وصول الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى موسكو، الذي يريد التوصل إلى اتفاقية تجارية بين إيران ودول اليورآسيا، لكن ما يهم إيران هو القطاع العسكري الروسي والخبرة والمواد النووية، كما تريد إغراء روسيا بالاستثمار في قطاع النفط في إيران.
المعروف أن لروسيا تاريخاً طويلاً في بيع الأسلحة إلى إيران، لكن عندما فرضت العقوبات على طهران امتنعت موسكو، ولو بتردد، عن بيع منظومة صواريخ «إس 300» لطهران بطلب من واشنطن. مع التهديد الأميركي بمراجعة العقوبات على إيران والاستعداد الأوروبي لتثبيت العقوبات على روسيا، يبدو أن الدولتين تريدان إثارة قلق الغرب بالرغبة في بناء علاقات عسكرية بينهما، لكن روسيا في حاجة إلى صفقات مدفوعة سلفاً، وإيران بحاجة إلى صفقات مؤجلة الدفع.
وبالنسبة لكثير من موازين القوى، من المثير رؤية روسيا تعيد الانخراط في الشرق الأوسط وفي قضاياه الجيوسياسية. ومع ذلك، فحتى الآن لم تعد روسيا قوة عظمى، فهي في عام 1990 كانت الاقتصاد الثالث في العالم، لكنها عام 2015 صارت في المرتبة السادسة على أساس الناتج المحلي الإجمالي. ولا يبدو أن وضعها يسير نحو الأفضل.
كانت «عاصفة الحزم» خياراً اضطرارياً داهماً ولا مفرّ منه، وكان بينها وبين السيطرة الإيرانية الكاملة على اليمن بضع ساعات، أو بضعة أيام كحدٍّ أقصى. هذه حقيقة ينبغي ألّا تُنسى، ولو تأخّرت «العاصفة» لكانت تأكّدت نتيجتان: الأولى إقصاء الحكومة الشرعية وتكريس انقلاب أتباع إيران من حوثيين و «صالحيين» كأمر واقع وتمكينهم من بسط هيمنتهم وسلطتهم على كامل الأراضي اليمنية، والثانية تهديد مباشر للسعودية عبر منظومة إيرانية عدوانية يتموضع فيها «الحرس الثوري» والميليشيات المتعددة الجنسية لإقامة جبهة مفتوحة على حدود المملكة أكثر خطراً مما هو حاصل الآن... ولأن هذا المشروع أجهض في اللحظة الحاسمة فقد تراجعت إيران سريعاً عن الادّعاء بأن صنعاء هي العاصمة الرابعة لـ «إمبراطوريتها» وراحت تحاجج بأن الحديث عن دورها وتدخّلها «مبالغ فيه»، متذرّعة بأن لا وجود لها على الأرض، كما هو الأمر في العراق وسورية، وبأن الأزمة داخلية في أساسها ولا مجال لمعالجتها إلا بوقف الحرب على اليمن.
ثمة تحليلات وسيناريوات كثيرة، داخلية وخارجية، دفعت ولا تزال بأنه كان من الأفضل ترك المسألة لليمنيين كي يعالجوها بوسائلهم وخصوصياتهم، وأن البيئة السياسية - القبلية كانت كفيلة مع الوقت بوضع حدّ لجموح الحوثيين وإنهاء استحواذ علي عبدالله صالح وأبنائه وأنسبائه على وحدات النخبة في القوات المسلّحة. وينطلق هذا التحليل من موقفَين مبدئيَين ومشروعَين: أن الأزمة داخلية بحتة، وأن التدخّل الخارجي مرفوض. لكن أزمة 2011 لم تنتهِ إلا بتدخّل خارجي تمثّل بالمبادرة الخليجية التي كانت أيضاً دولية وما لبث مجلس الأمن أن تبنّاها. وقد عيّنت الأمم المتحدة مبعوثاً خاصاً باليمن للإشراف على الحوار الوطني، وعلى تنفيذ نتائجه وتوصياته لاحقاً للخروج من المرحلة الانتقالية. لم يكن المتدخّلون هنا يخططون للسيطرة على السلة أو على البلد، وكان يمكن هذا النوع من التدخّل أن يضع اليمن على طريق إصلاح سياسي للدولة متوافقٍ عليه، وأن يبقيه في حال تصالح مع محيطه العربي وفي منأى من الصراعات الإقليمية. وبما أن الحوار شكّل فرصة وطنية نادرة أكّد اليمنيون فيها انضباطهم والتزامهم البحث عن توافقات تسري على الجميع، فإن الانقلاب الحوثي - «الصالحي» (الطرفان شاركا في الحوار) جاء بمثابة طعنة في ظهر اليمنيين كافة، وضربة لشرعية الحكم مفهوماً وممارسة، وخذلاناً للدول التي رعت الانتقال السلس للسلطة.
الأهم أنه لم يكن في انقلابهم أي منحى تصالحي داخلي، بل كان واضحاً أنه «مباعٌ» سلفاً إلى إيران بغية اللعب على الصراعات الإقليمية، أي أنه يريد تأسيس نظام جديد بتركيبة انتهازية يعتقد كل طرف فيها أنه يوظّف الآخر ويستخدمه، بالتالي فهي تنطوي على تناقضات عضوية لا بدّ أن تتفجّر في أي وقت، عدا أنها طرحت للمرّة الأولى البعد المذهبي للحكم، فضلاً عن أنها لم تتأخّر في إظهار إقصائيتها مكوّنات أخرى مهمة. وأيّاً تكن المواقف من الأشخاص الذين يمثّلون الشرعية، رئاسةً وحكومة وجيشاً ومؤسسات، فإن العمل على إسقاطها، وهي التي لم تعتدِ على الناس ولم تبادر إلى إهانتهم والتنكيل بهم والاستخفاف بعقولهم، يبقى خطراً تاريخياً فادحاً في حق اليمن واليمنيين. فالنموذج الذي سعى إليه الحوار الوطني هو الذي يمكّن المواطنين من منح مَن يحترم الشعب والدولة الشرعية. أما النموذج الحوثي - «الصالحي» فيقترح مزيجاً من نهج التسلّط كما اتّبعه الرئيس المخلوع والنهج الميليشيوي الذي دأب فيه الحوثيون حتى قبل الانقلاب ولا يستطيعون إدامته إلا بتهميش الدولة والجيش، إضافة إلى تسليم البلد إلى إيران لتتخذه ورقة في مساوماتها الإقليمية والدولية.
بطبيعة الحال لم تكن الحرب خياراً محبّذاً لدى السعودية أو أيٍّ من دول التحالف التي شاركت في «عاصفة الحزم»، لكن المبرّرات فرضت نفسها بقوّة على رغم الإدراك المسبق للصعوبات والتعقيدات والأكلاف، ثم إن هذا الدور كان يجب أن يكون للمجتمع الدولي تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة. لكن المجتمع الدولي تخاذل بداعي الانقسامات في مجلس الأمن. صحيح أن إدارة باراك أوباما سجّلت موقفاً علنياً داعماً للسعودية في مواجهتها التهديدات، إلا أنها واصلت نهجها المجامل للحوثيين قبل الانقلاب وبعده والمبالغ في تغاضيه عن التدخّلات الإيرانية في اليمن وغيره. ولم تكن الحرب حققت شيئاً على الأرض عندما بدأت إيران تضغط على الموقف الأميركي كي يتبنّى مبدأ «وقف الحرب»، الذي كان يوازي في ذلك الوقت القبول الفعلي بالسيطرة الحوثية ونتائج الانقلاب. وبعدما بدأت المعادلة الميدانية تتغيّر باتجاه التكافؤ مطلع 2016، وأمكن ترتيب وقف النار وظروف صالحة ولو جزئياً للشروع بمفاوضات جدّية، جاء الحوثيون و «الصالحيون» إلى الكويت بأجندة ترمي إلى تجاوز المرجعيات (المبادرة الخليجية والقرارات الدولية وتوافقات الحوار الوطني) فضلاً عن رفض الشرعية لأن الاعتراف بها ينسف أي «شرعية» يدّعونها لانقلابهم ولحال السيطرة الاحتلالية التي اعتقدوا أن تفرض أمراً واقعاً لا يمكن أي تسوية سياسية أن تغيّره.
واقعياً، كانت هذه الأجندة إيرانية تدعو إلى وقف الحرب أولاً وترك الحل السياسي لليمنيين كي يتفاهموا عليه «من دون تدخّلات»، وترمي إلى قلب الأولويات والتعجيز في حال عدم التوافق على وقف الحرب. لكن الحرب لم تبدأ بـ «عاصفة الحزم»، بل بالانقلاب ذاته تحت غطاء «اتفاقي السلم والشراكة»، الذي لم يكد يوقّع - تحت الضغط والتهديد - حتى كان الحوثيون أنهوا السيطرة على صنعاء وبدأوا الزحف إلى بقية المناطق، وكان بين أوائل إنجازاتهم إطلاق الإيرانيين المعتقلين بعد ضبط سفينة تهريب أسلحة (آذار - مارس 2013). أمّا أولويات التسوية فوضعها القرار 2216 على أساس إلغاء نتائج الانقلاب في إطار احترام الشرعية والدولة والجيش. كانت مفاوضات الكويت الفرصة الأخيرة للانقلابيين كي يُظهروا استعداداً لهذا التنازل الحتمي وليؤهّلوا أنفسهم كجزء من الحكم. لكنهم أرادوا حصة في الحكومة تفوق ما يستحقّونه، من دون أن يتعهّدوا تسليم العاصمة، أما تسليم الأسلحة فلم يكن ولن يكون وارداً لديهم، كونه يعادل الاستسلام في نظرهم.
غير أن مفاوضات الكويت لم تقتصر على مناورات إيرانية لم تمرّ، بل اتسمت خصوصاً بإبداء الأطراف الدولية مزيداً من الاستعداد للخداع والتخاذل حتى لو تطلّب الأمر مكافأة الانقلابيين سعياً إلى صفقات مع إيران الخارجة لتوّها من العقوبات الدولية. فعلى هامش المفاوضات، أو «المشاورات» وفق ما أصر الحوثيون على تسميتها، دفع الجانب الأميركي باتجاه الضغط على الحكومة الشرعية، واستمرّ في ذلك من خلال اللقاءات الرباعية (الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات) ثم في المسعى الأخير للوزير جون كيري قبيل مغادرته منصبه، بغية تجريد الرئيس الشرعي من صلاحياته بعد إقالة نائبه. ولم يكن هذا العبث بتركيبة الحكومة الشرعية سوى استجابة لرغبة الانقلابيين من دون الحصول على تنازل جوهري من جانبهم لمصلحة الحل السياسي.
بعد عامين على «عاصفة الحزم»، وعلى رغم الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يتحمّل مسؤوليتها الانقلابيون في شكل رئيسي، ثمة متغيّرات أساسية. أولها أن المعادلة الميدانية لم تعد لمصلحة الحوثيين وحلفائهم، وأن جيش الحكومة الشرعية الذي بدأ من الصفر استطاع أن يقلّص سيطرة الانقلابيين إلى 15 - 20 في المئة من الأراضي كما قلّص إمكان استعادتهم زمام المبادرة. وثانيها أن في البيت الأبيض إدارة غير مهتمّة باسترضاء طهران، وحتى لو لم يتضح الموقف الأميركي الجديد بعد، إلا أنه لن يكون معنياً بتمكين إيران من باب المندب أو من الهيمنة على اليمن. وفي مختلف سيناريوات المساومة، أصبح اليمن ورقة محترقة في يد طهران، ومهما حاولت دفع الحوثيين، خصوصاً قوات صالح (وهي بالمناسبة القوات التي أشرف الأميركيون على تدريبها) لتكثّف اعتداءاتها على الأراضي السعودية، فإن مشروعها اليمني فشل وإن صوّرته على أنه لا يزال قائماً وقادراً على تحقيق انتصارات.
يشتد مع اقتراب موعد الهجوم المفترض على الرقة، الارتباك الحاصل في تحالفات الولايات المتحدة في سوريـة والمنطقة، وتخبـطها في كيفيـة مراعـاة تـداخـل مـصالح حلفائها وتناقضاتهم، وكيف تحافظ على قيادتها المعركة كي يستطيع ترامب قطف ثمار حربه على «داعش» في الداخل الأميركي وفي العالم، من دون تقديم تضحيات كبيرة على الأرض.
وليس أدلّ على هذا التخبط من الغموض المحيط بمرحلة ما بعد استعادة المدينة من أيدي التنظيم المتطرف، ومن يملأ الفراغ ويمسك الأمن فيها، وما سيكون عليه وضع الرقة وجوارها في الإطار السوري الأوسع: هل تصبح جزءاً من «الكانتون» الكردي، أم تُسلّم إلى قوات المعارضة الموالية لتركيا، أم إلى القوات العربية التي تعتزم واشنطن دعوتها؟
واشنطن لا تقدم أجوبة عن هذه التساؤلات، وهي قد لا تملكها. حتى إن وسائل إعلام أميركية توقعت أن تعم «الفوضى» هذه المنطقة بعد استعادتها من «الدولة».
لكن الأميركيين واضحون على الأقل في شأن المرحلة الأولى من المعركة، فهم اختاروا القوات الكردية رأس حربة لهم، وزودوها أسلحة متطورة مع توفير الدعم الجوي الكامل، ودفعوا بالمزيد من القوات الخاصة والخبراء والمستشارين، وقد يضطرون إلى إرسال وحدات إضافية. ويعني ذلك تلقائياً تحجيم الدور التركي ومنع أي تدخل لأنقرة في المعركة ما لم تقبل بمشاركة الأكراد.
وهذا الاعتماد على «قوات سورية الديموقراطية» التي تغلب عليها «وحدات حماية الشعب»، عدوة الأتراك الذين يعتبرونها امتداداً لـ «حزب العمال الكردستاني»، دفع واشنطن إلى إرسال وزير خارجيتها إلى أنقرة اليوم لمحاولة التقليل من مخاوفها، ولجم أي محاولات للعرقلة من جانبها، والتنسيق للمرحلة التالية.
غير أن الأتراك شعروا بعد حادث عفرين، على رغم محدوديته، بأنهم قد يعلقون بين فكي كماشة: الأميركيون من جهة والروس من جهة ثانية. وهذا يعني أنهم في حاجة إلى ضمانات من واشنطن بأنها لن تدعم أو تغض الطرف عن أي محاولات لضم الجيبين الكرديين، في شرق الفرات وغربه، خصوصاً أن جهات كردية لم تتوان عن استفزاز الأتراك بالحديث عن استعداد القوات الكردية لـ «تحرير إدلب» بعد معركة الرقة، إذا ما طلب منها ذلك، في تلميح إلى أن حاجة الأميركيين إليها ستمتد إلى ما بعد تحرير الرقة، إذا كانت الولايات المتحدة ستلتزم تأكيداتها بتوسيع الحرب لتطاول «جبهة النصرة»، أي «القاعدة».
ويرجح أن يطالب الأتراك أيضاً باعتراف أميركي واضح بضرورة انتشار جيشهم في الجيب الذي يحتله حالياً في شمال سورية، لمنع التمدد الكردي، وربما بمؤازرة أميركية رمزية. وستحرص أنقرة أيضاً على ضمان دور لشركاتها في أي خطة، ولو جزئية، لإعادة الإعمار.
وإلى جانب الهمّ التركي، يواجه الأميركيون معضلة أخرى تتعلق بدور روسيا التي جلّ ما يهمها من معركة الرقة منع مئات المقاتلين المتطرفين من القوقاز الموجودين في المدينة من التسلل عائدين إلى مناطقهم، مع ما يعنيه ذلك من أخطار على أمنها القومي. وعلى رغم أن موسكو تشجع الأميركيين والأكراد على خوض المعركة، إلا أنها تفضل البقاء متفرجة بانتظار اتضاح مسارها، تماماً مثلما يفعل الإيرانيون.
وتضاف إلى ذلك كله، تهويلات «داعش» ونظام دمشق عن قرب انهيار سد الفرات والتسبب بكارثة إنسانية تفوق التصور، والأنباء المؤكدة عن خسائر بشرية ضخمة نتيجة حملة القصف الأميركية غير المنضبطة في العراق وسورية.