بانصياع نظام الأسد للاتفاق الأميركي الروسي حول تسليم أسلحته الكيميائية للأمم المتحدة، يكون الشق الأمني من سياسات إسرائيل السورية قد نجح في نزع قوة "نظام الممانعة" المزعوم الافتراضية، وانتقل إلى الصراع على مستقبل سورية السياسي، بالدرجة الأولى مع إيران ومرتزقتها الذين يحتلون أجزاء كبيرة منها، ويريدون تحويلها إلى ساحة مواجهة تشكل مع جنوب لبنان جبهة واحدة ضد إسرائيل التي احتلت الجولان السوري عام 1967، وضمه برلمانها إليها رسميا عام 1981، بسبب مكانته الاستراتيجية الخاصة التي تمكّنها من تعزيز قدرتها على ردع أي تحد يكون مصدره المشرق العربي وجواره. يقول الإسرائيليون إنهم لن يقبلوا وجود إيران العسكري في المناطق المجاورة للجولان، وإن انتشار جيش ملالي طهران ومرتزقتهم في الجولان سيقضي تماما على تعايش نظام الأسد بسلام معها منذ حرب 1973، القائم على قبوله نتائج هزيمة حزيران، وتحاشيه أي صدام عسكري معها، خوفا على نظامه. رضي الأسد بهيمنة إسرائيل على سورية أمراً واقعاً، ومارس دوره الداخلي والعربي تحت رعايتها، المباشرة في لبنان وفلسطين وغير المباشرة في سورية والبلدان العربية الأخرى، على الرغم من طوفان الكلام الثورجي اليومي عن تحرير الجولان وفلسطين. ومع أن الأسد الأب وابنه استقويا بإيران، إلا أنهما حرصا دوما على إبعاد سورية عن ما تريده طهران، تحويله إلى قاعدة متقدمة لصراع ضد تل أبيب، تعود مغانمه العربية والإسلامية الاستراتيجية وغير المحدودة على ملاليها، بهيمنةٍ مضمونةٍ على مناطق واسعة من الوطن العربي، من دون توريطهم في حربٍ لا قبل لهم بها، يعلمون أن طرفها الآخر لن يقتصر على الإسرائيليين، الذين لن يقبلوا وجودا عسكريا إيرانيا في الجولان، بعد أن تم تدجين حزب الله في جنوب لبنان، وأدخله الردع الإسرائيلي إلى حقبة كلامولوجية، تشبه الزمن الجولاني الذي لا يفعل شيئا لتحريره غير إطلاق حملات رغاء كلامي عن تحريره، من دون أن يفعل شيئا لاستعادته إلى وطنه.
لا شك في أن إيران فهمت معنى غارات إسرائيل على جنرالاتها في الأرض السورية، خصوصا منها المحاذية للجولان، ولا شك في أن إسرائيل تشجعت بعدم رد الملالي عليها، وكثفت غاراتها على سلاح حزب الله، في كل مكان من سورية، تطبيقا لنهج في الردع الاستباقي القابل للتصعيد بلا حدود، وموضوعه هل تبقى هيمنة إسرائيل أم تزول أمام هيمنة إيران التي يريد الملالي تحويلها إلى سيطرةٍ على سورية لا منافس لها. هذه هي الرسالة الأولى التي لا بد أن تكون قد وصلت.
أما الرسالة الثانية، فهي تتعلق بخيارات العمل الإسرائيلي وممكناته في سورية، وهي موجهة إلى موسكو، الراغبة في تقليص حضور (ونفوذ) إيران ومرتزقتها في سورية، لكنها لن تتمكّن من فعل شيء جدي ضدها، خشية أن تختلف مع واشنطن حول المسألة السورية، وتكون بحاجة إلى عسكر إيران في صراع محتمل مع عسكر البيت الأبيض. في هذه اللحظة الحسّاسة جدا، تتقدم إسرائيل إلى واجهة المسرح، لتخبر الروس باستعدادها لزيادة حصتها من النفوذ والدور في سورية، ودعمهم في مسائل تتصل بعلاقاتهم مع واشنطن، مقابل تقليص حضور ايران ونفوذها في سورية، والتعامل معها باعتبارها جهةً ينبذها الطرفان، تنافس موسكو على سورية، وتخطط لإقامة جبهة عسكرية في الجولان، إن أبقت قواتها في سورية، فوتت على الروس فرص تموضعهم فيها وانتشارهم في جوارها.
هذا العرض الإسرائيلي بواسطة القوة المفرطة يتضمن أيضا ضدها شقا أميركيا يقول: تخضع علاقات التعاون بيننا وبين موسكو لظرفية الأحداث وتقلباتها، ولتوافق المصالح أو تضاربها. ومع أننا نريد دورا روسيا في إخراج إيران من سورية، فإننا لن نحجم عن انتهاج سياسات مستقلة عن الروس، وقد لا تعجبهم. لذلك، أبلغنا الكرملين رفضنا الالتزام بغير ما تمليه علينا مصالحنا، وأفهمناهم، وإن بطريقة غير مباشرة، أننا لا نخشى صواريخهم، عندما هدّدنا الأسد بتدمير قواعده الصاروخيه، فلا يعتقدن أحد من الآن فصاعدا أن إسرائيل تقبل أن تتقيد بما تتوهم موسكو أنها ترسمه لها من هوامش، يمنع عليها التحرك خارجها. هذا ليس صحيحا، فإسرائيل تلتزم بالتعاون إن خدمها، وترفضه إن قيد حركتها وتضارب مع مصالحها. ومثلما تعتبر سورية ساحة صراع روسي/ إيراني مضمر، فإنها أيضا ساحة صراع إسرائيلي/ روسي، أعلن عن نفسه خيرا بصور شتى، عبر التصريحات والغارات الجوية المفعمة بالتحدّي.
هناك، أخيرا رسالة ثالثة موجهة إلى أميركا، تقول إسرائيل فيها: أنتم ترابطون اليوم في الشمال السوري بقوة عسكرية كبيرة، تتكامل مع قواتكم التي ترابط شمال العراق، وتشكل معها قوة أكبر من تجمع الروس العسكري في سورية. تود غاراتنا لفت أنظاركم إلى أن موقعنا في جنوب سورية، المطل على الأردن وشبه الجزيرة العربية ومصر وشرق المتوسط، يجب أن يؤخذ في حساباتكم الكبيرة، إذا أردتم الانخراط في لعب دور جدّي ضد الكرملين وملالي طهران. اعلموا أن إسرائيل جاهزة، ولا تنسوا أن لديها جيشا بريا هو الأقوى والأكبر عدديا في المنطقة، وأنها ترى في التنسيق الاستراتيجي معكم بوابةً يمكن أن تلج عبرها، أخيرا، إلى العالم العربي، وتغدو إحدى القوى المقرّرة لراهنه ومستقبله، بفضل دورها المساند لكم ضد طهران، فاقدموا ولا تحجموا، وبادروا ولا تترددوا.
بالغارات الأخيرة، دخلت إسرائيل على خط صراعٍ يتسع بدل أن يتراجع، ويتحول إلى صراع بين الجبارين، يرجح أن تخوضه قواهما المباشرة التي تحتسب إسرائيل نفسها على إحداهما: أميركا.
إحصائياً، يعد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أكثر رئيس دولة أجنبي التقاه الرئيس الإيراني، حسن روحاني، منذ استلامه السلطة في أغسطس/ آب 2013، فالقمة التي جمعتهما، أمس الثلاثاء في موسكو، هي التاسعة بينهما في أقل من أربع سنوات. في الدليل الدبلوماسي، يشير هذا إلى مدى التطور الذي طرأ على علاقة البلدين في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد تحالفهما في سورية، لمنع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد. ويعد تسليم موسكو منظومة صواريخ إس 300 إلى إيران، العام الماضي، دليلاً آخر على استعداد روسيا الذهاب بعيداً في علاقتها بإيران، بعد أن ظلت تراوغ في تسليم المنظومة، منذ التوقيع على عقد بيعها وتسديد إيران كامل ثمنها عام 2007. ولكن، إذا نظرنا إلى أبعد من دلالات الرقم 9 الدبلوماسية، نجد أن هناك شيئاً خاصاً جداً يميز العلاقة الإيرانية الروسية عن أي علاقة بين دولتين، حيث يسعى كل طرف إلى توظيف مختلف جوانب هذه العلاقة، بما فيها الصورة الإعلامية، لخدمة مروحة واسعة من المصالح الأخرى، في إطار براغماتي، لا يخجل الطرفان من الجهر به.
هناك من دون شك مصالح جيوسياسية واقتصادية كبرى بين إيران وروسيا، تؤكدها صفقات تسلح مليارية، وعقود بناء مفاعلات نووية، ومصلحة مشتركة في منع تركيا ودول الخليج العربية من تحقيق انتصار في سورية، وغير ذلك. لكن العلاقة مع أميركا تبقى العامل الأكثر أهميةً في تقارب البلدين، أو تباعدهما.
فبعد تاريخ طويل من الشك وانعدام الثقة، يشهد عليه تأييد موسكو جميع القرارات الأممية بحق إيران بسبب برنامجها النووي، بما فيها قرار مجلس الأمن 1929 لعام 2010، والذي فرض عقوبات قاسية على إيران، قرّر الرئيس بوتين التخلي عن كل تحفظاته، والاندفاع إلى تقارب مع طهران، بعدما فقد الأمل بوعود الرئيس أوباما فتح صفحةٍ جديدة، يتم التعامل فيها مع روسيا بنديّة واحترام. وقد زاد موقف واشنطن من الأزمة الأوكرانية، وفرضها عقوبات اقتصادية على موسكو الروس اقتراباً من طهران، كما ساهم في ذلك تحول موقف الأخيرة من الربيع العربي من مرحبٍّ في البحرين، وتونس، ومصر، وإلى حد ما في ليبيا، على الرغم من تحفظها على التدخل الأطلسي، إلى موقفٍ متحفظٍ ثم عدائي تجاهه عندما وصل إلى سورية. هنا بلغ التقارب بين البلدين ذروته، خصوصاً بعد أن لبت روسيا الدعوة الإيرانية، للتدخل عسكرياً في سورية، لإنقاذها من هزيمة محقّقة خريف العام 2015.
لكن، حتى خلال هذه المرحلة التي لعبت فيها روسيا دوراً رئيساً في إنقاذ الاستثمار الإيراني في سورية، وذلك عندما مدّت يدها لإنقاذ نظام الأسد بعد استخدامه الكيماوي صيف العام 2013، صُدمت روسيا بالكشف عن الاتصالات السرية الأميركية - الإيرانية في سلطنة عُمان، والتي أسفرت عن التوصل إلى الاتفاق النووي المؤقت في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، أي بعد أقل من أربعة أشهر على استلام روحاني السلطة. كانت موسكو تخشى من نشوء اتصالات مباشرة بين طهران وواشنطن، تحرمها من الاستمرار في توظيف العلاقة مع إيران ورقة تفاوض (Wild Card) مع الغرب، تماماً كما تفعل الصين مع كوريا الشمالية، وهو ما جرى عملياً مع تطور العلاقة الشخصية بين وزيري الخارجية في حينه، جواد ظريف وجون كيري.
مع نهاية عهد أوباما، غدا الإيرانيون في موقع يستطيعون فيه المفاضلة بين القوتين العظميين، حيث أخذت كل منهما بدورها تحاول جذب إيران إلى ناحيتها. تغير هذا الوضع كلياً في عهد ترامب الذي رحبت روسيا، وربما ساهمت، بوصوله إلى السلطة، في حين توجست إيران منه شراً. لكن ترامب الذي كاد يشرخ العلاقة الروسية-الإيرانية بطريقةٍ عكسيةٍ لما حاولت فعله إدارة أوباما – أي التقارب مع روسيا وإقصاء إيران، قد ينتهي بتعزيز هذه العلاقة، إذا فشل في التغلب على ممانعة المؤسسة الحاكمة في واشنطن للتقارب مع موسكو. هذا يفسر ابتسامة روحاني العريضة في موسكو، وهو يقرأ الخيبة في وجه بوتين من فشل رهانه على ترامب في تحقيق تقارب روسي-أميركي. لهذا، من المهم دائماً النظر إلى علاقة الحب الروسية – الإيرانية، باعتبارها علاقة ثلاثية، لا ثنائية.
ليس خفياً على أحد أن النظام الإيراني يتبنى استراتجية واضحة المعالم في المنطقة ويسعى من خلالها للتوسع وتعزيز نفوذه ونشر آيديولوجيته خارج حدوده الجغرافية، وأن الدول العربية هي المستهدف الأول لهذه الاستراتيجية. وبغية تحقيق هذه الغاية يعمد النظام إلى استخدام وسائل عملية مختلفة عسكرية وطائفية وسياسية. ولكن يرى النظام الإيراني في الإعلام أداة فعالة تمهد الطريق لتحقيق طموحاته عبر السعي لكسب قلوب وعقول أبناء الشعوب في الشرق الأوسط وما هو أبعد من ذلك. لهذا فإنه يستثمر جهوداً وأموالاً كبيرة في مجال الإعلام. ومن أجل تحقيق ما يرنو إليه، يبذل النظام الإيراني مبالغ طائلة لتشغيل ماكينته الإعلامية في الداخل والخارج، حيث اضطر النظام مؤخرا إلى الكشف عن ميزانيته، بعد انتشار تقارير تحدثت عن مبالغ كبيرة خصصها للإذاعة والتلفزيون. هنا نشر إلى مؤسسة إعلامية إيرانية أخذت حصتها من الميزانية الإيرانية تزداد في الآونة الأخيرة، وهي هيئة الإذاعة والتلفزيون، أي المؤسسة الرئيسية التي تدر الإعلام الإيراني بمجمله. بهذه المؤسسة 46.000 موظّف بدوام كامل، وهناك عشرات آخرون بدوام جزئي، وتبلغ مزانتها 7.1 مليار دولار أميركي، وتمتلك الهيئة جامعة تضم مختلف الكليات وعدّة مدارس مهنيّة تدرب الكوادر وتؤهلهم قبل دخولهم العمل. وفي عام 2015 أنتجت هذه المؤسسة نحو 60.763 ساعة من العمل الإعلامي الموجه إلى داخل إيران وإلى الخارج.
ولهيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية 21 مكتبا في مختلف عواصم العالم، من ضمنها القاهرة وبيروت ودمشق، بالإضافة إلى بلاد عربيّة وإسلاميّة أخرى. كما لديها 30 قناة فضائيّة تبث برامجها على مدار الساعة وبشكل يومي من خلال 12 قمرا صناعيا أجنبيا، بالإضافة إلى 13 محطّة إذاعية تبث برامجها يوميا دون انقطاع لكافة أنحاء العالم بمختلف اللغات، وأهمها الإنجليزيّة والفرنسيّة والعربيّة والرّوسيّة والإسبانيّة والتركيّة والكردية والأوردو، ناهيك عن برامج بلغات أفريقية من قبيل الهوسا والسواحيلي.
كما لدى الماكينة الإعلامية الإيرانية عدّة قنوات تلفزيونية ناطقة بالعربية والإنجليزية تدرها جماعات تابعة لها، من قبيل تلفزيون «العالم» الناطق بالعربية، و«برس تي في» الناطق بالإنجليزية، في المقابل لا توجد قناة تابعة لدولة عربية ناطقة بالفارسية تقوم بالتصدي للدعاية الإيرانية عبر نقل الصورة الحقيقية إلى 75 مليون مشاهد إيراني، وكذلك إلى باقي الشعوب الناطقة بالفارسية في أفغانستان وطاجيكستان وجنوبي أوزبكستان.
تضم شبكة المحطات التلفزيونية قنوات العالم، برس تي في (الناطقة بالإنجليزية)، سحر 1 و2 و3. وجام جم 1 و2 و3 (المختصة بمخاطبة الإيرانيين في أوروبا وأميركا)، والكوثر (الناطقة بالعربية) والأفلام (تبث أفلاما مترجمة للفارسية والعربية والإنجليزية) وسبان تي في (باللغة الإسبانية)، وسحر (تبث برامجها باللغات العربية والفارسية والإنجليزية والإسبانية والبوسنية والتركية والآذرية والفرنسية).
أما فيما يتعلق بالمحطات الإذاعية، فتمتلك إيران في هذا القطاع نحو 30 محطة إذاعية تبث بثلاثين لغة مختلفة، هي الإنجليزية والبوسنية والألبانية والإيطالية والعربية والألمانية والتركية والروسية والطاليشية (قومية في شمال إيران وجمهورية أذربيجان) والأوزبكية والدارية (الفارسية الأفغانية) والتركية الآذرية والعربية والألمانية والفرنسية والسواحيلية والبشتو والإيرانية والفارسية الطاجيكية والصينية والآرامية واليابانية والهندية والبنغالية والأردية والإسبانية والكردية والجورجية والتركمانية. وكل واحدة من هذه المحطات تمتلك موقعا إلكترونيا للأخبار باللغة الخاصة بها. وهناك محطات إذاعية وتلفزيونية لا يكشف عن أسمائها، وتكون مرحلية وخاصة، تخضع مباشرة لإدارة وإشراف وحدات العمل الخارجي في حرس الثورة الإيراني، وتحديدا فيلق القدس، وتكون مهمتها أمنية، ولا يحق للموظفين الذين يتم اختيارهم للعمل فيها الحديث أو الكشف عن طبيعة عملهم أو عمل وهدف المحطة التي يعملون فيها. وقد تم تخصيص منطقة معزولة داخل الحرم الأمني لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون تضم مباني لهذه المحطات، بحيث لا يحق لأي موظف في المؤسسة الدخول إليها ما لم يكن من العاملين فيها.
وفي هذا الخضم من الواضح أن دول مجلس التعاون الخليجي وبالتحديد المملكة العربية السعودية هي الأكثر عرضة للحملة الإعلامية الإيرانية وحربها الدعائية الموجهة، الأمر الذي يشكل تهديداً خطيراً على الاستقرار والتنمية الاقتصادية والسلامة المجتمعية فيها. وتستهدف الماكينة الإعلامية الوحدة الشعبية وسلامة أراضي الكثير من البلدان العربية، بما في ذلك مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية وسوريا واليمن ولبنان والعراق وغيرها، وتحاول زعزعة أمنها واستقرارها وبث الطائفية فيها والدعاية لصالح الميليشيات التابعة لها. مع هذا، فقد أطلق انشغال الدول العربية بشؤونها الداخلية العنان لإيران أن تشغل ماكينتها الإعلامية للتأثير على الشعوب العربية، ومن جهة أخرى تواصل عمل الحكومات الإيرانية المتعاقبة لغرس الأفكار والرؤى الشوفينية المعادية للعرب في أذهان المواطنين الإيرانيين.
إيران التي تسخر ماكينتها الإعلامية لإثارة النعرات الطائفية والقومية في دول الجوار هي في واقع الأمر دولة متعدّدة اللّغات والثّقافات والمذاهب، ولكن تتخذ من المذهب الشيعي والقومية الفارسية أساسا للحكم وتقمع أبناء سائر المذاهب والقوميات، لذا فأي حملة إعلامية مضادة موجهة للداخل الإيراني ينبغي أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، لأن هذا التنوع بات نتيجة للقمع يشكل نقطة ضعف النظام الإيراني بدلا من أن يكون نقطة قوة، عليه لو تم استغلال أي جهة معادية لنظام الحكم في طهران هذه النقطة بإمكانه أن يردع النظام الإيراني، ولكن أكرر لا توجد أي مؤسسة إعلامية عربية كانت أم أجنبية موجهة للشعوب والثقافات المتعدّدة في إيران، على أقل تقدير في مجال الدفاع عن الدّيمقراطيّة والعدالة. وحقوق الإنسان.
تغطيات إعلامية واسعة للذكرى الثانية لحرب اليمن في معظم الصحف العربية والعالمية، تحكي قصة مسوغات إنشاء «التحالف» لدعم عودة الشرعية بقيادة المملكة العربية السعودية، وما آلت إليه الأمور حتى اليوم، والمكتسبات والخسائر، والموقف الدولي وقرار الأمم المتحدة 2216 الذي يعترف بشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي رئيساً لليمن ويطالب الانقلابيين بوضع السلاح.
لكن لم تذكر كل هذه القطع التحليلية سؤالاً افتراضياً مهماً عن ماذا لو ظلت الأمور كما هي، حينما تحالفت الأقلية الحوثية المدعومة من إيران مع فريق المعزول علي عبد الله صالح وبعض الفصائل الجنوبية وحاصروا القصر الرئاسي في صنعاء أثناء وجود الرئيس هادي، الذي نجح في الهروب إلى عدن ثم لحقوا به لاغتياله، فاستنجد بالسعودية للتدخل وحماية الشرعية، ثم غادر إلى الرياض حتى تتم مراجعة الأمور وتسويتها؟
رغم الجهود الخليجية الحثيثة في 2012 لحل الأزمة وتوزيع كعكة النفوذ بين الأطراف المتنازعة، لم ترضَ الأقلية الحوثية بعد أن أصبحت قوة عسكرية بانضمام الحرس الرئاسي لصالح، وتلقي دعم مباشر من إيران، حتى إن الرحلات الجوية بين طهران وصنعاء كانت تنقل أفراداً من الحرس الثوري الإيراني إلى اليمن تمهيداً لحشد عسكري قادم وتثبيتاً لوجود إيراني دائم في اليمن.
قبل ستة أشهر من بدء إنشاء «التحالف» الذي سمي «عاصفة الحزم»، كان الحوثيون يمارسون سلوك قطّاع الطرق؛ استولوا على مؤسسات ووزارات حكومية، واقتحموا البيوت ونهبوها في صنعاء، وحتى بعد توقيع اتفاقية السلم والشراكة، لم يتغير الأمر كثيراً، كان الحوثيون وصالح قد عزموا أمرهم على السيطرة وتهميش بقية الشركاء، ومع الاستعداد اللوجيستي الهائل الذي يمتلكه صالح من خلال سنوات طويلة من الدعاية بأنه يحارب «القاعدة» وإمداده من السعودية والولايات المتحدة بالعتاد العسكري، ومع وجود إيراني داعم للحوثي كانت المعركة بالنسبة إليهم محسومة، ولا سبب يدعوهم للتراجع.
حملت السعودية القضية اليمنية عبئاً على كتفها بعد أن سقطت صنعاء بيد المتمردين الانقلابيين، وانهارت الشرعية، وتجرأ الانقلابيون على تهديد الحدود السعودية بعد أن أخذتهم غطرسة التمكين وغرور القوة.
ببساطة يمكن تخيل الوضع في اليمن لو لم يتشكل تحالف عودة الشرعية. الهدف لن يتوقف عند الاستيلاء على اليمن، كانت هذه مقدمة لأمر جلل، يتجاوز الدولة المريضة بالفقر والغنية بالوفرة السكانية. أخطر ما يمكن أن يحصل هو التعاون مع تنظيم القاعدة، وهذا أمر وإن بدا بعيداً، لكن تثبته سوابق في عهد علي عبد الله صالح الذي مكّن قيادات «القاعدة» من الفرار من السجون ليضغط على السعودية والغرب لمزيد من الدعم، وعلينا أن لا ننسى أن صالح الذي شن حروباً ستة على الحوثيين انتهى به المطاف للتحالف معهم. وإيران التي رأت في اليمن لبنان آخر، لن تمانع في التعاون مع التنظيم الإرهابي الذي تؤوي بعض قياداته في طهران، وتعاونت معه في استهداف السعودية كما حصل في تفجير مجمع سكني للقوات الأميركية في مدينة الخبر السعودية. اليمن كان مرشحاً ليكون بؤرة لتصدير الإرهاب ليس فقط للسعودية بل لكل العالم، وأمثولة لسهولة إسقاط شرعية الدول وشرعنة الفوضى.
حينما قررت المملكة التدخل في اليمن أنشأت تحالفاً عربياً من عشر دول آمنت بهذا الخطر الذي سيعم أرجاء المنطقة، وتشكل «التحالف العسكري» من دولة الإمارات العربية المتحدة التي كانت مشاركتها حجر أساس، إضافة إلى البحرين والكويت وقطر والسودان والمغرب ومصر والأردن والصومال، كما قدمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا دعماً استخباراتياً.
عامان لم يمرا بسهولة على كل الأطراف، وقعت خسائر بشرية وبنيوية، ومع التغير الذي كان يحصل على أرض الواقع لصالح «التحالف»، تراجعت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في صيف 2016 عن التعاون الاستخباراتي. وبدا أن أوباما، الذي كان ميالاً لإيران، مقتنع بأن خسائر الحرب البشرية سببٌ كافٍ لأن يرفع يده عن الموضوع اليمني، في الوقت الذي كانت طائرات الدرون الأميركية تلاحق عناصر تنظيم القاعدة وتصفيهم رغم وقوع ضحايا مدنيين.
الحقيقة أن مدة الحرب طالت، بالنظر إلى إمكانيات «التحالف» الهائلة، وكان السبب الوحيد الذي أدى إلى إطالة أمد الحرب هو محاولة «التحالف» تجنب وقوع ضحايا مدنيين، ولكن كعادة الاستراتيجية الإيرانية التي نعرفها في لبنان وسوريا، كان الانقلابيون يتمركزون داخل المدن الآهلة بالسكان، مما صعّب على «التحالف» حسم معارك مهمة أولها تحرير العاصمة وميناء الحديدة.
ومع أن الإدارة الأميركية الجديدة متحمسة لحسم معركة اليمن لصالح الشرعية فإن «التحالف» اليوم بالنظر إلى خريطة اليمن استطاع تحرير 85 في المائة من الأراضي اليمنية، وانحسر وجود تنظيم القاعدة في مدينة المكلا. عودة الأميركيين للمشهد اليمني سيسرع من وتيرة الحسم، وهذا ما بدأ فعلياً قبل يومين حينما ضربت مدفعية الجيش الوطني ولأول مرة دار الرئاسة في صنعاء ومحيطها العسكري وميدان السبعين.
إدارة ترمب قررت مواجهة إيران في كل مناطقها، وعلى رأسها اليمن، أمّنت الحدود البحرية لمنع تهريب التمويل العسكري الإيراني للانقلابيين، وأعادت الدعم الاستخباراتي والعسكري. يرى فريق ترمب أن هزيمة الحوثيين هي ضربة موجعة للإيرانيين وحلمهم بالتوسع في المنطقة، كما أنه يعطيها الفرصة للتفرغ للقضاء على تنظيم القاعدة الذي تقلصت مناطق نفوذه.
«عاصفة الحزم» ليست معركة لعودة الشرعية فحسب، بل حماية للمنطقة من تنامي مفهوم الميليشيا العسكرية على حساب الدولة.
ما بين العراق وسورية ظهرت “داعش”، وكأنها وحش خرافي نزل من السماء، فادعى كل ساسات العالم النخوة، وهبّوا يُعلنون الجهاد المقدس ضد “داعش”، في سورية والعراق. وقُتِل مئات الأبرياء العراقيين في يوم واحد نتيجة غارات التحالف، وآلاف مؤلفة خلال سنين طويلة بعد غزوة بوش للعراق، وآلاف في سورية، والشعار نفسه “نحارب ‘داعش’ لننقذ الإنسانية من الإرهاب”.
يكاد المتابع لزوبعة التصريحات حول المجزرة التي ارتكبها التحالف الدولي في الموصل في 17 آذار/ مارس أن يُصدّق أن ثمة حقوق للإنسان يجري التحقيق بشأنها، أو محاولة إيجاد الحقيقة التي دفنت تحت ركام المنازل، تلك المنازل التي سقطت على رؤوس ساكنيها والمختبئين فيها، فحولتهم إلى أثر بعد عين، وإلى أرقام لجثث فحسب، ومقابر جماعية لمّت الأشلاء، وربما ذهبت يد شخص مع قدم آخر تحت التراب.
غارة للتحالف الدولي في الجانب الغربي من الموصل، بناء على إحداثيات من الحكومة العراقية، والضحية 500 مدني، ولكن سرعان ما تضاربت التصريحات، فذكرت منظمة العفو الدولية أن مئات من المدنيين العراقيين قتلوا في الموصل، وقالت إن الغارات الجوية التي شنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على مواقع تنظيم “داعش” بالمدينة العراقية، ربما تشكل انتهاكا للقانون الدولي.
أما البنتاغون، فأعلن عدم تخفيف قواعد الاشتباك في القتال ضد “داعش”، وسط رفض للإقرار بأن تكون الطائرات الأميركية قد تسببت في مقتل عشرات المدنيين غربي الموصل.، وقبل ذلك كانت الإدارة الأميركية وضعت احتمال أن تكون غاراتها هي المتسبب بتلك المجزرة، وأنها وضعت الأمر قيد التحقيق.
أما التصريحات الصادمة للعراقيين، ولكل من تابع تلك الصور والحزن الخارج من الموصل، فكانت تصريحات رئيس وزراء العراق حين قال: إن “مجزرة الموصل ادعاءات لإنقاذ داعش”، وقبل تلك التصريحات كانت منظمة العفو الدولية نشرت شهادات من بعض الناجين من تلك المجزرة الرهيبة، ولعل أبرز هذه الشهادت شهادة “وعد أحمد”، وهو أحد سكان حي الزهراء شرقي الموصل، واحد من كثير من المدنيين الذين اتبعوا نصيحة الحكومة بالبقاء في منازلهم، بحسب المنظمة. وقال وعد “اتبعنا توجيهات الحكومة التي أبلغتنا بالبقاء في منازلنا وعدم النزوح”، وأضاف “سمعنا في الإذاعة التوجيه الآتي: (على السكان الذين ليس بوسعهم فعل شيء مع داعش البقاء في منازلهم) … وكذلك أُلقيت منشورات عبر الطائرات. وكان ذلك هو سبب بقائنا في منازلنا”.
الواقع يقول اليوم، ثمة مجزرة حدثت هناك، وثمة 500 مدني قتلوا ظلمًا و”خطأ”، و”استخدام “داعش” لللمدنيين دروعًا بشرية بات أمرًا واقعًا، ولا يحتاج لإثباتات”، ومن ثم؛ الذريعة التي تستخدمها الحكومة “العراقية أو الأميركية”، بأن “داعش” هي من أجبرت السكان على المكوث في منازل انتشر عناصر التنظيم على أسطحها ليتم استهدافها، هي ذرائع واهية وضعيفة ولا تعني شيئًا، خصوصًا وأن كلتا الدولتين المسؤولتين عن ارتكاب المجزرة تراجعت عن قرار إيقاف القتال في الموصل.
وفي كلا البلدين التوأمين، سورية والعراق، يظهر سؤال جليّ بسيط: هل هبطت “داعش” من السماء فجأة؟ فبعد ثلاث سنوات في العراق و300 ألف جندي، وأكبر حملة عسكرية في العالم منذ السبعينيات، أشعرنا جورج بوش في 2007 أنه فجأة اكتشف ما كان يسمى “الدولة الإسلامية في العراق”، وأعلن حربه الضروس عليها؛ وفي سورية، وأيضًا بعد ثلاث سنوات، بدأ صراخ القادة السياسيين من أوباما في مكتبه البيضاوي وصولًا إلى بوتين في مكاتب ستالين، وما بين الامبراطورين من زعماء: “نريد محاربة داعش”. المتابع البسيط يشعر نفسه أنه أمام صف من البسطاء الطيبين السذج، ممن لم يروا خطر الإرهاب القاعدي، وتنامي دعوات وتقاطر الجهادية “الإسلاموية”. هل فعلًا يحكمنا السذج في كل العالم، أم أن البشر في القرن الواحد والعشرين باتوا أكثر سذاجة؟
لنحاول أن نخرج من أنانيتنا ولنضع نفسنا مكان الآخر، المسكين دونالد ترامب، وبعد انتصاره الإلهي في الانتخابات الأميركية، يكاد ينهي الـ 100 يوم الأولى دون إنجازات ضخمة يحتفل بها الإعلام، إنه بحاجة لإنجاز ما، وضرب الإرهاب الإسلامي كان من أهم شعاراته، أفلا يحق له بعض الانتصارات؟ في سورية لا يستطيع لوحده قطف هالات النصر على “داعش”، فصديقه الشخصي بوتين أيضًا يشاركه، وأيضا بوتين بحاجة لانتصار واضح على “داعش”، فمظاهرات الروس ضد فساد نظامه تقلقه، وليس أدرى منا -السوريين- بما يعنيه أن يقلق أحدهم.
إضافة إلى أن للأميركيين وحلفائهم في الناتو تاريخ من “العدل كبير” عند قياسه بتاريخ روسيا، فهم كانوا يدفعون للضحايا المدنيين الأفغان؛ نتيجة أخطاء نيران التحالف 2500 دولار لكل ضحية، وألف دولار لكل جريح، طبعًا هذا إن أقرت لجانهم العسكرية والقضائية بذلك. هم لم يدفعوا بعد في العراق، ولن يفعلوا في سورية، فلماذا هم ملزمون بالتعويض، بينما بوتين يُصرّ أن لا ضحايا مدنيين. ولا يخطرنّ ببالكم أن تقارنوا هذه المبالغ بنحو 8 ملايين دولار لكل ضحية من ضحايا الطائرة لوكربي، القذافي كان كريمًا، فما ذنب الأميركيين؟ ألم يصمتوا مع الأوروبيين صمتًا مطبقًا يوم أسقط بوتين طائرة الخطوط الماليزية فوق أوكرانيا في 2014، وعلى متنها 180 مسافرًا غربيًا؟
لنكن صادقين مع أنفسنا أكثر، فهم، أي: الآخرون الذين يتقاتلون فوق أرضنا ودمائنا، لن يروننا سوى أرقامًا، لكن كيف نرى أنفسنا أناسًا نعيش على هذه الأرض؟ ألن نجد بين ظهرانينا الآن من يسوّغ قتل أبرياء الموصل؟ ألم نسمع من كان يسوغ لصدام مجازر الأكراد؟ ألا زلنا نسمع من يسوغ لـ “داعش” ومن شابهها على أكبر فضائياتنا؟ ألا يوجد من يسوّغ لبشار قتل نصف مليون، وسيسوغ له مليونًا آخر؟ ألا يوجد من يسوغ قتل سوريين وعراقيين بين واقعات الحرب بين أمراء الفصائل؟
إن كنا لا نريد أن نبقى ضحايا جانبية لمعارك الآخرين ومعاركنا، يجب علينا نحن أولًا ألا نرى أي ضحية هي ضحية الضرورة، أميركا قتلت في ساعة واحدة 300 ألف ياباني، وللآن لم تعتذر رسميًا، وروسيا قتلت مئات الآلاف في حروب قيصريتها السوفياتية والبوتينية، ولم يرف لقاداتها جفن، لن نتوقف عن لوم ومحاكمة السياسة الأميركية والروسية، وكل ساسات العالم الذين يقتلون، لكن لنبدأ من بين قلوبنا ودمائنا، فلا نقبل ضحايا الضرورة والمعركة المقدسة.
ستيفان دي ميستورا رجل محظوظ، فهو موظف يستطيع أن يقدم استقالته في أي لحظة يرغب بها، مع احتفاظه بحق الحصول على مستحقاته كاملةً، باعتبار المشكلة ليست مشكلته، وهو مكلف بالوساطة فقط. ويبدو أخيراً أنه قد ملّ هذه المهنة، ويتطلع إلى إجازة سعيدة بعد سلسلة مضنية من الاجتماعات ورحلات الطائرات البعيدة.
في المقابل، لا يستطيع أي سوري أن يقدم استقالته من المشكلة، سواء كان عضواً في الوفود، أو مجرد شخص عادي، يتلظى تحت وطأة انقطاع الكهرباء والماء والوقود، أو يتلوى غريباً في المنافي الكريمة أو البخيلة على حد سواء، وقد وضع، بعد الفصل الخامس من مسلسل جنيف، تحت تهديد مغادرة دي ميستورا الذي كان يقوم بدور "المكوك" بين غرف المفاوضات المنفصلة التي تجلس فيها الوفود، منتظرة ردود الأطراف الأخرى.
لم يصل النضوج التفاوضي بعد إلى مرحلة المواجهة والحوار عن قرب، بدون متاريس حماية، وكل الاقتراحات التي تبادلتها الأطراف لم تكن مجديةً بمقدار كافٍ لتتقارب الطاولات مسافةَ المدى المجدي للكلمة. لذلك، ما زلنا بحاجة إلى شخصية دي ميستورا، ليشغل وضعية "كتاف المغربل".
فَشِلَ مؤتمر أستانة الذي سبق جنيف، وعلى الرغم من أن روسيا تقول إن أستانة ليست بديلاً عن جنيف، ولكنها تصر بشكل كبير على الوجود في أستانة، قبل عقد جنيف، وفشل أستانة أدى إلى فشل جنيف الحالي، فصارت نتائجه تحصيل حاصل. اشتعلت الجهات فجأة، على الرغم من إعلان وقف النار الذي لم يجرؤ أحد حتى اللحظة على القول إنه لم يعد سارياً، وأصبحت المعارضة المسلحة على أبواب دمشق، وعلى مرمى حجر من شارع فارس الخوري في قلب العاصمة، وهي تتحرّك في حماة، بنشاط عداء المائة متر، وتوشك أن تنصب مرابضها في ساحة العاصي. ولهذا الاقتراب ثمن يمكن قطافه في جنيف، لكنّ السوريين يرغبون في حل واحد ومعروف، سواء دخلت المعارضة دمشق، أو بقيت محاصرةً، وتحت تهديد الباصات الخضراء التي يطلقها مريدو النظام وإعلامه الموجه، وفشل المفاوضات هو تفصيلٌ آخر، يجب أن نجد له مفاوضات أخرى، لنتجنبه ونقنع الجميع بالجلوس والحديث مجدّداً.
الضياع في زحمة السلال والمنصات، والتعويل على هجوم أو تراجع أو تصريح ذي سقف مرتفع لكسب سنتيمترات حوارية، وانتظار نتيجة معركة، أو اثنتين، لإزاحة المفاوضات باتجاه طرفٍ ما، وجعل نصيبه أكبر، يعني أن لا حل متوفراً لدى الجهات "الداعمة للحل"، والتي تحاول اجترار العلقم نفسه الذي نتجرّعه منذ ست سنوات.
ليست المفاوضات فض اشتباك أو اتفاقيات هدنة بين أطراف دولية، تريد أن ترسم خطوطاً فاصلة، ولا يفترض في الحوار أن يكون رهينةً لمزاج دولي، أو سياسة موجة ترغب بتوجيه الدفة في مسار محدّد، والاحتكام إلى رغبةٍ دولية، غائبة، تفرض على كل الأطراف شكل الدولة التي فقدت نفسها ومقوماتها، وكل مكوّن فيها خلال الخمسين سنة الماضية، وأضحت بحاجة لحوار منعش ومنتج، وهي أمورٌ لا يبدو توفرها قريباً لا في جنيف، ولا أستانة، ولا في أي عاصمة أخرى.
قد لا يتفوه الإعلام بعبارة "فشل جنيف"، لكنه سارع إلى إعلان استقالة دي ميستورا، وما زال ينقل سير المعارك في مختلف المدن، ويركز على تباين السلال المطروحة: الإرهاب أو رحيل النظام، أو استبداله، أم سلة تعديل الدستور أو ابتكار واحد جديد، واختلال العلاقة بين روسيا وتركيا، والتقارب الأميركي الروسي المحتمل، وصعود تيارات اليمين المتطرّف على وقع العمليات الإرهابية التي تطاول الشوارع الأوروبية. كل تلك العوامل متغيرات حوارية، تنفخ في مؤتمر جنيف للسلام السوري أو تفرغه، ويضاف إليها الكثير من التجاذب الجانبي بين الأطراف الواحدة، حتى تكاد المنخفضات الجوية والعواصف الرملية تحل متغيراً جديداً.
بهذه المتغيرات، يمكن أن نحصل على مسلسلٍ لا نهائي لجنيف، يتبدل فيه كل الممثلين، ويتعاقب عليه المخرجون على المسرح نفسه، وبالمتفرجين أنفسهم.
صدر المؤشر العربي الذي ينجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات للعام الخامس، وهو استطلاع سنوي يروم رصد اتجاهات الرأي العام العربي، نحو مجموعة من القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وشمل استطلاع سنة 2016 من 12 بلدا عربيا 18310 مستجوبين، أُجريت معهم مقابلات شخصية وجاهية، شارك في تأمينها 840 باحثا. وهو ما يجعل منه أضخم مشروع مسحي في العالم العربي. وكانت الثورة من بين أهمّ الموضوعات التي استجلى المؤشر مواقف العرب منها، ورصد تقويمهم لها على مستويين: الأوّل متّصل بتبيّن رأيهم في حدث الربيع العربي، والثاني متعلّق بالوعي بوجهات نظرهم تجاه مآلات الثورات العربية. ففي المستوى الأوّل، أخبر معظم المواطنين العرب المستطلعة آراؤهم أنّ حركات الاحتجاج الشعبي التي شهدتها المنطقة سنة 2011 إيجابية (51 %) فيما عدّها (41 %) سلبية. وذهب مؤيّدو اندلاع حدث الثورة إلى أنها لم تكن ظاهرة اعتباطية، أو فعلا عفويا عابرا، بل كانت عملا تغييريا وسلوكا احتجاجيّا واعيا ومعبّرا، دالاّ على ضيق الناس بواقعهم وتطلّعهم إلى غد أفضل، فقد أفاد 42% بأنّهم ثاروا سنة2011 ضدّ الاستبداد والظلم، ومن أجل الديمقراطية والمساواة، وقال 25% إنّهم ثاروا ضدّ الفساد، ما يعني أنّ الثورة لم تكن مجرّد هوجة عابرة، أو مجرّد انفجار فوضوي محدود، بل كانت تحوّلا إدراكيا نوعيّا في فهم الجموع العربية الواقع المحيط بها، ووعيها بخطورة القمع وفداحة الدكتاتورية ومساوئ استشراء الفساد والمحاباة والمحسوبية، ما دفعها إلى الاحتجاج على الأنظمة القائمة والمطالبة بتغييرها. وبذلك، كانت الثورة نتيجة حراك داخلي، ووليدة تراكم أخطاء الدولة الشمولية تجاه مواطنيها، ولم تكن مؤامرة أو خيارا مسقطا من الخارج، كما تدعيه بعض وسائل الإعلام والأقلام الميّالة إلى القدح في الثورة، والتشكيك في التأييد الشعبي العارم الذي واكب اندلاعها.
أمّا المستوى الثاني من استحضار الثورة في المؤشر العربي فتعلّق باستجلاء مواقف المستجيبين من واقع الثورات العربية ومآلاتها، إذ انقسم الرأي العامّ في هذا الشأن ما بين متفائل ومتشائم؛ فأفاد ما نسبته 45% بأنّها تمرّ بمرحلة تعثّر، إلّا أنّها ستحقق أهدافها في نهاية المطاف، في مقابل 39% اعتبروا الربيع العربي قد انتهى، والأنظمة القديمة عادت إلى الحكم. ويُعدّ هذا تحوّلا لافتا للنظر، مقارنة باستطلاع 2014؛ إذ كان نحو ثلثَي الرأي العامّ العربي متفائلا بتحقيق الربيع العربي أهدافه. والواقع أنّ هذا التراجع في درجة التفاؤل مقابل ارتفاع منسوب الإحباط يفهم من منظور أنثروبولوجي بانعكاس صيرورة الثورات على مواقف المواطنين منها، فالثابت أنّ العرب كانوا يظنّون أنّ الربيع سيمتدّ في الزمان والمكان، وسيحدث نقلة جديدة في حياتهم نحو الحرّية والعدالة والكرامة والنزاهة والأمان والرفاه، لكنّ ما حصل عمليا لم يكن مستجيبا لأفق انتظارهم، بل جاء مخيّبا آمالهم ، فعلى الصعيد المعيشي ارتفعت الأسعار، وانحدر مستوى العملة المحلّية، وانتشرت البطالة، وتدهورت المقدرة الشرائية للمواطن، واستفحل الفساد بدل أن يتراجع، وتعثّر مسار العدالة الانتقالية، فساء حال المظلومين، وأفلت معظم الظالمين من العقاب، أو تمّت تبرئتهم لاحقا. وزاد الأمر قتامةً الانقلاب على الثورة في مصر بقوّة العسكر، وتحويلها إلى صراع دموي على السلطة في اليمن وليبيا، والعمل على تصفيتها في سورية عبر الاحتكام إلى البنادق والاستقواء بالأجنبي. فيما مازالت الثورة التونسية، على الرغم مما حققته من منجزات حقوقية/ سياسية مهمّة تكابد من أجل الخروج من الضائقة الاقتصادية. ومن ثمّة، بعثت هذه السيرورة المرتبكة للربيع العربي في النفوس إحساسا بشيء من الإحباط لا محالة . لكنّ ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنّ الحراك الاحتجاجي قد حقّق مكاسب، أهمّها سقوط جدار الخوف، ونهاية أسطورة الحاكم الأبدي المعصوم، واتساع مجال الحرّيات، وعودة المواطن إلى الفعل في الشأن العامّ. وفي ظلّ عدم تقديم الدولة القامعة التي استولت على الثورة بدائل ناجعة تحسّن معاش الناس وأمنهم وتضمن حقوقهم، يبقى من غير المستبعد أن تستعيد الثورة عنفوانها، وتستفيد من عثراتها السابقة. ومن المهمّ، هنا، أن تمارس القوى الثورية الحيّة تجربة النقد الذاتي الموضوعي، وتنتقل من الارتجال والانفعالية إلى توخي الواقعية والعقلانية في فهم الراهن واستشراف المستقبل.
المؤشر العربي استطلاع راهني، متجدّد، دقيق، يواكب حركة الاجتماع العربي باستجلاء آراء عيّنة واسعة من المستجيبين، ما يجعله يقدّم رؤية كاشفة للرأي الجمعي العربي، مفيدة للباحثين والثائرين وأصحاب القرار على السواء.
في وقت سابق هددتْ أنقرة بأنها ستدخل مدينة سنجار هذا الربيع إذا لم تتمكن القوات الكردية الصديقة لها من إخراج «حزب العمال الكردستاني» من المدينة، التي تمدد فيها منذ أنْ ساعد الأقلية الإيزيدية في العراق حين اجتاح «داعش» المنطقة في 2014، ليساعد بعد ذلك الحزبُ في تشكيل «وحدات حماية سنجار» العراقية. ولا تبدو مريحةً لأنقرة نتيجةُ المواجهات التي دارت بداية هذا الشهر بين قوات «وحدات حماية سنجار» وقوات البيشمركة السورية «روج آفا» (المقربة من الديموقراطي الكردستاني برئاسة مسعود برزاني). وعدم ارتياح أنقرة ربما ينمّ عن إدراكٍ متأخرٍ لتراجعِ مكانة برزاني وتراجع قدرته على ضبط كثير من خيوط اللعبة الكردية المتشابكة. هذا يحسم من أوراق حليفته أنقرة، وهي ترى «العمال الكردستاني» يتجاوز منذ زمن عزلته في جبال قنديل، ويوسّع حضوره في إقليم كردستان، ويركّز نفوذه في نقاط استراتيجية تربط سورية بالعراق، حيث ستكون خسارة حلفاء أنقرة لسنجار فشلاً لمساعي الربط بين «روج آفا» وكردستان العراق.
وتعاظم أدوار «العمال الكردستاني» يكمن في أنّ تحالفه مع «الحشد الشعبي»، ومن ورائه طهران، مفيد للأخيرة الطامحة في معبرٍ استراتيجي بين العراق وسورية يُمكّنها من تأمين الإمدادات لحلفائها وجنودها من دون المرور بأربيل، التي أبدت الرفض مراراً في أن تكون ممراً لطهران نحو سورية. لذا، قد تكون تلعفر ساحة يؤدي فيها «العمال الكردستاني» دوراً طموحاً في الصراع على الجغرافيا بين أنقرة وطهران. فالأولى، لم تُسقط هدفها الكبير من تعزيز تحالفها مع إقليم كردستان ومن «درع الفرات» ومن الصراع على الانخراط في معركة الرقة، والموصل سابقاً، والمتمثل في تفتيت «الجغرافيا الكردية المعادية» وتقطيعها ومنع تواصلها. وستكون خسارة أنقرة مضاعفة، كما قلنا، إن لم تنجح في تأمين «تواصل الجغرافيا الكردية الصديقة» التي تصل «روج آفا» بكردستان العراق.
أما طهران فعينها على «الجغرافيا الضامنة وصولَ الدعم والإمدادات» للشركاء والوكلاء، ولن تُوقف ترغيبها للسليمانية بإنهاء اعتماد الأخيرة على الأنبوب النفطي التركي، عبر التوجّه لمشروع إيراني يستهدف نقل نفط كركوك من خلال الأراضي الإيرانية. يكرهُ الأكرادُ، وهذا حقهم، أنْ يُوصفوا بـ «بيادق» في إطار اللعبة الإقليمية والدولية، لكنّ ثمة مسؤولية قوية على القيادات والنخب الكردية، للحيلولة دون ضياع تضحياتهم ونضالهم لنيل حقوقهم، ولعل في صُلب مسؤوليتهم منعَ أنْ تُعيد المعطيات المذكورة آنفاً، إن صحّتْ ووقعتْ، «حرب الإخوة الأعداء» الأكراد، التي نشبت في سياق الصراع على رسوم النفط وعائداته في التسعينات، وهي قد تنشب اليوم لما هو أكبر من ذلك، في ظل سيولة الخرائط... وعبور الصراع الكردي - الكردي أكثر من بلد واحد.
كان شعار «قوة لبنان في ضعفه»، الذي طرحه وردده استقلاليون لبنانيون، يهدف إلى تحييد لبنان عن المحاور والصراعات الإقليمية، وتراكبها مع الانقسامات العمودية اللبنانية الداخلية. لكن معاندة التاريخ تحقيقَ هذا الشعار الاستقلالي اللبناني واقعياً، أفضت إلى خسارة اللبنانيين والعرب دور لبنان التنويري المفترض، في إقامة نموذج علماني ديموقراطي، يكون مُلهماً لمحيط عربي استبدادي متأخر وثيوقراطي، وبالتالي زُج لبنان في محرقة تلك الصراعات العبثية، التي دمّرت اقتصاده واجتماعه وثقافته، وأطاحت بفكرة الدور – النموذج لمصلحة الدور – المحور. يحتاج السوريون اليوم إلى تمثل مضامين شعار كهذا: «قوة سورية في ضعفها»، بوصفه شعاراً استقلالياً، يعني في أحد معانيه: تغليب فكرة سورية أولاً على فكرة سورية – المحور، بصرف النظر عن هويّة المحور المذكور، لأن الانضمام إلى محورٍ ما في «بلد – ساحة» ومنقسم عمودياً كسورية، يزيد الانقسام عمقاً واتساعاً، ويمنع تحولها إلى وطن وإلى مجتمع وإلى دولة، ويبقيها في حالتَي استنزاف وتعفّن دائمين.
ولطالما ولّدت سياسات «الدور الإقليمي» لسورية، المحمولة على ظهر المؤسستين العسكرية والأمنية، أوهام القوة في واقع كان في حاجة إلى أوهام دائمة، وغذّت وعياً جمعياً زائفاً عند «المجتمع الجماهيري»، الذي أنتجته «الدولة التسلطية» وفقاً لحاجاتها الأمنية الخالصة، وكذلك حجبت أوهام القوة تلك إمكانات تشكل وعي مناسب لدى السوريين بحاجاتهم الفعلية، المتمثلة في التنمية الاقتصادية والتعليم والصحة والاندماج الوطني والعدالة والديموقراطية وبناء الدولة الوطنية. وصار واضحاً عدم قدرة السوريين بعد هذا الدمار الرهيب، الذي أصاب عمرانهم واقتصادهم واجتماعهم وثقافتهم الوطنية، تحمّل فكرة أدوار إقليمية مرة أخرى، في مستقبلهم القريب أو البعيد. يجب أن يقتنع السوريون بأن الوطنية السورية أبقى لهم وأجدى من المشاريع ما فوق الوطنية، التي لم تجلب لهم سوى الأوهام والحروب الأهلية وتبديد الموارد والموت الرخيص على مذابح أوثان الاستبداد وأوثان العقائد والأيديولوجيات المختلفة.
ومن مضامين شعار «قوة سورية في ضعفها» تأسيس مفهومي الإنسان والمواطن في ثقافة السوريين وعلاقاتهم الاجتماعية المستقبلية، بالتعارض مع مفهومي الكائنين الأيديولوجي والميليشيوي، اللذين ينتجهما المحور الديني أو القومي أو المذهبي - المقاوم، تلك الكائنات المخرّبة الحياة والاجتماع البشري، كونها كائنات انحلّت في هويّة نسلية أو معتقدية.
ومن مضامين ذاك الشعار أيضاً نبذ العوامل التي أفضت إلى عسكرة الحياة السياسية وغير السياسية، السورية، ونجمت عن تضخيم دور الجيش وتحوله إلى مؤسسة استلاب وقهر وذبح للسوريين. إن تغليب سورية أولاً على سورية المنضوية في محور مذهبي أو أيديولوجي، يعني بناء جيش وطني غير عقائدي محترف قليل العدد، مهمته حماية الحدود الخارجية فقط، بحيث يتم وضع ضوابط وطنية صارمة، تمنع تدخله في السياسة وحياة السوريين العامة، وهذا كله يقتضي إعادة بناء رؤية سورية خالصة للصراع والتسوية مع إسرائيل، تتسق مع مهام الخروج من حالة المأزق التاريخي الراهن. ومن معاني شعار «قوة سورية في ضعفها» إقامة الحد على ثنائية «البطل – الشهيد». فلكي تنهض سورية المدمرة، لم تعد في حاجة إلى أبطال «تاريخيين» وغير تاريخيين، وإلى شهداء في سبيل قضايا معتقدية كبرى أو صغرى، ولا تحتاج إلى «مجاهدين» أو «مناضلين». فالجهاد الحقيقي في سورية النازفة هو جهاد إحلال قوى المعرفة والتنمية والسلم المجتمعي، وهو جهاد طرد عناصر الحرب الثاوية في بنى المجتمع وثقافته الاستبدادية التسلطية.
ومن معانيه أيضاً إعادة تشكيل مفهوم القوة بدلاً من أوهامها، فقوة السلطة والتسلط هي إضعاف لقوة الدولة، وقوة الدولة لا تتأتى من تضخم الجيش والأمن وهمجيتهما، بل من قوة القانون العام وشموله وسموّه واحترام الحاكم والمحكوم له، وذاك ما كان غائباً في سورية البعثية. وقوة الإيمان لا تتأتى من كثرة ميليشيات «الله» وأحزابه وكثرة الناطقين باسمه، بل من نمو ضمائر البشر الفردية ونمو أخلاقهم العامة وروحهم الإنسانية على حساب انتماءاتهم الهويّاتية، ونمو الدين كجوهر روحي وتراجعه كوثنيات وعصبيات.
وكذلك الحد من قوة الجماعات ما قبل الوطنية: الطائفية والمذهبية والإثنية وسلطة الرأي العام، لمصلحة بناء قوى المجتمع والشعب والدولة والفرد المتحرر من الجمهور-الكتلة، وأيضاً الحد من قوة الإرادات الفئوية والأوليغارشية الخاصة، لمصلحة تشكيل حوامل الفكرة العمومية التي يعبر عنها العقد الاجتماعي بوصفه إرادة عمومية فعلية.
بكلام مختصر: شعار «قوة سورية في ضعفها»، يعني الانتقال من مسار الصراع و «التكاون» والتفاني الحالي في سورية، الذي ينشر أوهام القوة الإقصائية المتمحورة على الخارج، إلى مسار التكوّن والتشكّل في أطر إنسانية ووطنية عامة هي مصدر قوة السوريين الحقيقية غير الزائفة.
رغم ما يبدو من حضور روسي قوي في القضية السورية، يتجلى بظهور روسيا، باعتبارها المتصرف الرئيسي بواقع سوريا ومستقبلها، وتأثيرها متعدد الأبعاد في المستوى المحلي على نظام الأسد والمعارضة السياسية والعسكرية، وتزعمها للحلف الذي يجمعها مع إيران ونظام الأسد وأدواتهما وبروزها قوة رئيسية في عداد الدول المؤثرة والفاعلة في القضية السورية، فإن روسيا اليوم في حيرة، قد لا توازيها حيرة منذ اختارت الوقوف إلى جانب نظام الأسد في عام 2011، مروراً بتدخلها العسكري الواسع في سوريا أواخر عام 2015 منعاً لسقوط نظام الأسد أمام معارضيه.
الحيرة، ليست ناتج ضعف فقط، بل قد تكون نتيجة قوة. وبالأساس تعود الحيرة إلى تعدد الخيارات والتباساتها، وهذا ما يجعل روسيا في حيرة، لا تبدو موسكو قادرة على تجاوزها في الوقت الحالي، وقد يمتد زمن الحيرة الروسية لوقت أطول، طالما أن موسكو، لم تحسم أمورها، وتذهب إلى قرارات واضحة، توظف في خدمتها المعطيات السياسية والعسكرية المتاحة لها حالياً.
وقبل الذهاب إلى خيارات موسكو، التي يمكن أن تحسم حيرتها، لا بد من رؤية حجم الحضور الروسي في سوريا وحولها، حيث تتجمع مجموعة من المعطيات، لعل الأبرز فيها، أن موسكو هي الأكثر حضوراً من الناحيتين السياسية والعسكرية في سوريا، إذن هي من الناحية الأولى حليف لنظام الأسد وإيران، وما يتبع الاثنين من أدوات، وخصوصاً الميليشيات الشيعية وبينها حزب الله اللبناني، وقد بنت روسيا من خلال ضباطها المتخذين من قاعدة حميميم مركزاً لهم في سوريا، علاقات مع بنى وشخصيات محلية مؤثرة في العامين الماضيين، ثم أقامت وصلات مع قوى معارضة للنظام أو محسوبة في هذا الإطار منها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، قبل أن تمد أيديها بمشاركة تركيا لإقامة وصلات مع قوى أساسية في المعارضة المسلحة والسياسية، وبهذا أصبحت أكبر صاحب علاقات مع المتصارعين في سوريا.
وفي المستوى العسكري، تبدو موسكو بمكانتها وقوتها صاحبة أكبر تأثير في الواقع السوري، وبصورة مباشرة، فإن لموسكو قاعدة جوية في حميميم، وحضوراً في كل القواعد الجوية التابعة لنظام الأسد، ولها قاعدة بحرية في طرطوس، تدعمها قطع من الأسطول الروسي، تتوزع قبالة الساحل السوري، ويضاف إلى ذلك كله مجموعة قواعد عسكرية روسية صغيرة، تتوزع من شمال إلى جنوب المنطقة الساحلية، فيها خبراء وجنود من النخبة الروسية، وقد أثبت الوجود العسكري الروسي قوة تدمير هائلة في حربه الأخيرة للاستيلاء على حلب وإعادتها إلى سيطرة نظام الأسد أواخر العام الماضي.
وبموازاة الحضور الروسي في الوضع السوري، فإن لموسكو تأثيراً كبيراً في المحيط الإقليمي. وعدا عن العلاقات الوثيقة التي تربطها بإسرائيل، التي تجعل منهما حليفين ينسقان بصورة مباشرة ويومية مواقفهما في سوريا وحولها، فإن لموسكو روابط قوية مع الأردن في الجنوب، والعراق في الشرق، ولبنان في الغرب، تكفل في كل الأحوال، أخذ الموقف الروسي بعين الاعتبار، بل وضعه في حسابات السياسة والأمن لهذه الدول، والإبقاء على بوابات فاعلة وعاجلة لتشاور عواصم تلك البلدان مع موسكو بصدد ما يجري في سوريا وحولها، وقد طورت موسكو علاقاتها مع تركيا في الأشهر الأخيرة بعد فترة شد عنيف في علاقات الطرفين بسبب إسقاط الأتراك قاذفة روسية بعيد التدخل الروسي في سوريا عام 2015، وطور الطرفان تعاونهما في الموضوع السوري رغم اختلاف مواقفهما، الأمر الذي يعد في النهاية دعماً لموسكو المصرة على البقاء طرفاً داخلياً في الصراع السوري، وبالإجمال فإن الروس أغلقوا الدائرة المحيطة بسوريا لصالحهم، وإن كان في الإغلاق بعض الثغرات في مكان أو أكثر.
النقطة الثالثة والأخيرة بموقع موسكو في سوريا وحولها، يتصل بعلاقاتها الدولية ولا سيما مع الدول الكبرى والمؤثرة بالسياسة الدولية. فموسكو على تقارب مؤكد مع الصين في الموضوع السوري، وعبّر التقارب عن نفسه في عمليات الـ«فيتو» المزدوجة في مجلس الأمن الدولي، وآخرها كان قبل أسابيع. والآن بدا الموقف الأميركي في الموضوع السوري مختلفاً عن موقف موسكو، فإن واشنطن سكتت عن التدخل العسكري في سوريا، وما أدى إليه من نتائج سياسية وميدانية، وأعطت تفويضاً للروس في سوريا، استتبع صمتاً أوروبياً، طبقاً لنمط التبعية الأوروبية، التي لا تفعل شيئاً دون إشارات أو تصريحات أميركية بصدد ما ينبغي القيام به، أو اتخاذ قرار بصدده، ولا شك أن الصمت الأوروبي الراهن في سوريا وحولها مرده، أن إدارة الرئيس ترمب لم تعلن موقفها الواضح في سوريا، رغم بعض مؤشرات توحي باحتمالات تغيير كبير في الموقف، كما رسمته سياسات عهد أوباما الطويل.
موسكو حققت الأهم في أهدافها السورية/ الإقليمية من حضورها في سوريا، وبينها تثبيت نظام الأسد (بدرجة ما) واتفاقات تضمن نفوذها، وقواعد عسكرية، وتغلغل في بنية الداخل السوري، ولا سيما على الصعيدين السياسي والأمني، لكنها في الوقت ذاته متخوفة من وضع حلفائها سواء في منافستهم، كما يبدو عليه حال حليفها الإيراني الراغب في هيمنة مطلقة على سوريا، أو في الخوف من المستقبل، كما هو حال نظام الأسد إذا غير الروس سياساتهم الداعمة بكل قوة لوجوده.
روسيا في مرتبة الحيرة بين البقاء، حيث هي طرف إلى جانب إيران ونظام الأسد في أتون الصراع السوري، أو الذهاب إلى خط جديد ينتج تسوية تحفظ مصالحها، التي تحققت مع مراعاة تلك المصالح من أطراف خارج حلفها، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق دون أخذ مصالح الآخرين بعين الاعتبار، ولأن الأمر على هذا النحو، فإن الحيرة الروسية لا يمكن أن تستمر، خصوصاً إذا استكملت واشنطن موقفاً جديداً وجدياً في الموضوع السوري.
حدث في الأسابيع القليلة الماضية تطوران خطيران، لا بد من التوقف عندهما، وقع أحدهما شمال سورية والآخر جنوبها.
سلمت "قوات سوريا الديمقراطية"، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي .. الكردي (البايادا) قرىً حول منبج إلى الجيش الأسدي، الديمقراطي جدا مثلها، بغرض منع سقوطها في يد قوات "درع الفرات" التركية/ السورية، وتوريط أنقرة في مواجهة مع واشنطن وموسكو، عبر جعل مشروع "البايادا" شأنا دوليا منفصلا عن موقف تركيا من حزب العمال الكردستاني (البيكاكا) الذي يحتاج إلى قوة دفع دولية تعمل لإنجاحه، بوصل كانتونات غرب الفرات بشرقه جغرافيا وبشريا، واحتواء الكثافة السكانية العربية فيها، بقوة آليات تمثيل برانية، وتمثل دمجية وفاعلة.
يعتبر هذا التطور في علاقة "البايادا" مع النظام، الذي يبدو وكأنه تم بتفاهم أميركي/ روسي، تحديا لأنقرة يحتمل كثيرا أن يعرقل سعيها إلى تقرير أوضاع الكرد قرب حدودها الجنوبية، ويرغمها على مراجعة، وربما تعديل، حساباتها، مع ما سيفضي موقفها الجديد إليه من تغليب العمل السياسي طويل الأجل على العمل العسكري المباشر والحاسم، وهذا ما سيضعف، في الحالتين، دورها في مواجهة حل دي ميستورا السوري، الذي يقرّ، في أحد بنوده الاثني عشر، بضرورة إقامة مناطق "حكم ذاتي" كردي، ويرى في التوافق عليها جزءا من حل المعضلة السورية. لذلك، يضع المعارضة أمام أحد خيارين: تبني السياسات التركية حيال المسألة الكردية، أو فتح حوار مع الكرد السوريين، هدفه التوافق على ترتيب مستقبلي لعلاقاتهم مع الدولة الديمقراطية بمكوناتها المختلفة، والمحافطة على وحدة الدولة السورية أرضا وشعبا، ومنح مكوّناتها حقوقها القومية في إطار منفتح على خيارات اتحادية، أو تأخذ صورة حكم ذاتي أو لامركزي موسع. وستعني هذه الخطوة أن سياسات المعارضة تجاه المسألة الكردية لن تلتزم بالموقف التركي، وفي هذا ما فيه من إشكالات وتعقيدات، تتطلب حلولا واضحة، تبقي على علاقات استراتيجية مع الدولة الشقيقة، خصوصا أن موافقة أميركا وروسيا على تسليم مناطق حول مدينة منبج إلى الجيش الأسدي تعني أن القضية الكردية لن تترك بعد الآن للحل الذي تريده تركيا، فهل نتغاضى، نحن السوريون، عن طابعها الوطني السوري، ونحجم عن معالجتها وعزلها عن الصراعات الدولية التي تجنح نحو التلاعب بها، أم نبادر إلى التواصل مع مختلف الأطراف الكردية، مع أفضلية خاصة لتلك التي تلتزم منها بالمحافظة على وحدة الدولة والمجتمع السوريين، من دون استبعاد عرب الجزيرة السورية والمناطق الأخرى، على أن يسهم بدوره في تحديد طابع الدولة السورية.
ثمّة ظاهرة أخرى في الجنوب السوري، أنتجتها هدن النظام خلال الأشهر الماضية، هي انخراط مقاتلين سابقين ضد النظام في تنظيماتٍ تقاتل مع الروس والإيرانيين ومرتزقتهم، منها "درع القلمون" الذي أسهم في إسقاط وادي بردى، ويحارب اليوم ضد القابون وبرزه وجوبر وعربين وحرستا والغوطة الشرقية، وسيقاتل غدا ضد القلمون، لإخراج الجيش الحر من جبال المنطقة، بعد رفضه عقد هدنة مع حزب الله، وتبنيه سياسة تفاوضية ترفض اختراق النظام المنطقة.
يضم "درع القلمون" عائدين إلى "حضن الوطن"، أو منضمين سابقين إلى الثورة ومتخلفين عن الالتحاق بالجيش الأسدي، أو شبيحة منخرطين في "اللجان الشعبية"، بحجة حماية مناطقهم وسكانها من "الشبيحة". واليوم، ينتمي هؤلاء إلى العصابات الأسدية، ويحاربون الثوار بوصفهم شبيحة، يخدمون من قتل أهليهم وحصارهم وجوعهم وقصفهم بكل أنواع الأسلحة وهجرهم، من روس وأسديين وإيرانيين.
بدأت في الشمال مرحلة الخيارات شديدة القسوة التي يعني تجاهلها تهديد وحدة دولة ومجتمع بلادنا واستقلال وسيادة وطننا، وانضواءنا في علاقاتٍ وصراعاتٍ، لا تلبي مصالحنا أو تتفق معها. أما في الجنوب، فيتحول مقاتلون سابقون في سبيل الحرية إلى مرتزقة، ينصرون أعداءها ويقتلون شعبهم المطالب بها.
هل سيقف الوطنيون السوريون، من عرب وكرد وأقوام أخرى، مكتوفي الأيدي حيال ما يجري في شمال وطنهم، الذي يتحول إلى بؤرة صراع جديدة، يتكثف فيها الحضور العسكري الروسي/ الأميركي المباشر، بمخاطره وتحدياته التي لا بد من مواجهتها، وإلى متى يظل "الائتلاف" منتشيا بغيابه عن أي شأن وطني سوري، في الشمال كما في الجنوب أيضا؟
خمسة قتلى، وأكثر من عشرين جريحاً في هجمات متزامنة تقريبا، في لندن، وصفها رئيس وحدة مكافحة الإرهاب في شرطة لندن بأنها إرهابية، مضيفا أنها تتبع لما سماه "الإرهاب المتعلق بالإسلاميين". بدأت معها كل وسائل الإعلام في العالم المسموعة والمرئية والمقروءة، ومنها وسائل إعلام عربية، بنشر الخبر كالنار في الهشيم، ومتابعة تفاصيل الأحداث، أولاً بأول، وتغطيتها "مباشر" مدة تجاوزت الاثنتي عشرة ساعة في عدة قنوات تلفزيونية.
حدث كبير يستحق الاهتمام. فالمكان هو لندن، إحدى أهم العواصم الأوروبية، والقتلى بريطانيون وفرنسيون، والقاتل أو المهاجم، حسب التصريحات الفورية قبيل أي نوع من التحقيق، "إرهابي" مسلم.
أما ما حدث في الجهة الأخرى من العالم، في بلدة المنصورة في ريف الرقة، في اليوم نفسه، فهو حدث هامشي، يصنّف تحت بند "النيران الصديقة" أو "الخطأ غير المقصود". فالمكان هنا مجرد بلدة سورية مهملة، لا قيمة لها، والقتلى مجرد سوريين مدنيين نازحين، لا أهمية لحياتهم أو موتهم، مجرد أرقام جديدة تضاف إلى تقارير العالم ومنظمات حقوق الإنسان، ولم يتجاوز عددهم أكثر من ثلاثمائة شخص، قضوا خلال 24 ساعة. والأهم أن القاتل هو قوات التحالف الدولية الصديقة للشعب السوري، والحامية له من إرهاب "داعش"، والتي تعمل لأهداف إنسانية سامية، تتمثل في مكافحة الإرهاب الخطير الذي قد يقتل في أية لحظة خمسة أوروبيين في لندن، أو غيرها من مدن العالم الآمنة.
حتما، في عالم قذر يتشدّق بالإنسانية، لا مجال للمقارنة بين الحدثين، فالأول قادر على اجتذاب الأضواء واستدرار التعاطف من كل حكومات العالم العربية والأجنبية، أما الثاني فلا صوت له، ولا أهمية لضحاياه، ولا يستحق حتى أن يُذكر خبرا عاجلا على المحطات الفضائية، أو وسائل الإعلام عالية المهنية.
هو العالم نفسه والوسائل الإعلامية نفسها التي لم تعتبر وثيقة مهمة، كتقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) الشهر الماضي عن عمليات شنق جماعية لأكثر من 13 ألف معتقل في سجن صيدنايا السوري، حدثا يستحق النشر، أو حتى الذكر، في تغطياتها انتهاكات حقوق الإنسان، فضحاياه أيضاً لم يكونوا أكثر من "سوريين".
تتواصل الأحداث وتبعاتها حول العالم، لتكشف يوماً بعد يوم، ازدواجيةً مرعبة في تعاطي الحكومات والمنظمات الإنسانية معها، فضلاً عن ازدواجية أبشع وأقسى، تغلف تعاطي الإعلام العالمي والعربي مع تلك الأحداث. فربما يتجرأ بعضهم على التبرير للحكومات، (وهو تبرير غير صحيح بالمطلق) بأنها تعمل لمصالح شعوبها، لكن التصرّف المزدوج لوكالات الإعلام والوسائل الإعلامية المختلفة، في السنوات الماضية، يُسقط تماما أي ادعاء كاذب بامتلاك أي نوعٍ من الحيادية والشفافية والمهنية، وهو ما لا تمتلكه، ولم تمتلكه أصلاً، منابر إعلامية عربية عديدة، لكن الغربية منها كانت تتشدّق به طول الوقت، وها هي اليوم تساهم مع حكوماتها بصناعة الفزّاعة الأكبر، وإلباسها ثوب "التطرّف الإسلامي"، كما وتلعب الدور الأهم في صناعة "الإسلاموفوبيا" ونشرها، وتسويق فكرة ضرورة محاربة "الإرهاب" الذي لم يعد العالم يعرف شكلاً آخر له غير "الإسلامي"، وكأن ما يحدث في سورية اليوم، أو في مناطق كثيرة أخرى، مجرد قتل رحيم لكائنات لا حاجة له بها.
أي زيف عرّته المقتلة السورية ومآلاتها. وأي وجهٍ كشفته تلك المجزرة العلنية المستمرة منذ ست سنوات، تحت أقنعة العالم البرّاقة. وأي عدلٍ ما نزال متمسّكين بأمل إرسائه.
هذا العالم أعور، ولا أمل بشفائه، لكن هذه الشعوب المقهورة اليوم ستقف يوماً أمامه، ستقف بمواجهه تماماً، تعلن عن وجودها وتجبره على رؤيتها والاعتذار.