أثناء رحلة عمل خارجية مؤخرا سألني أحدهم لماذا ترون إيران خطرا عليكم في الخليج العربي؟ وكنت قد ذكرت له أنني كتبت، وكذلك فعل كثيرون غيري، حول مظاهر الجنون والعبثية الطائشة في ممارسات النظام الإيراني، وأن تجاهل هذا النظام للقانون الدولي والأعراف والمواثيق الدولية باتت مسألة لا خلاف عليها، ولكن يبدو أن التناول الأشمل للخطر الإيراني يحتاج إلى مزيد من التركيز، لا سيما أن فهم حدود الخطر الإيراني يتطلب فهما متكاملا لحدود هذا الخطر ومظاهره وأبعاده.
في هذا المقال أحاول تتبع هذه المظاهر وفي مقدمتها السعي الحثيث إلى فرض طوق حصار استراتيجي حول دول مجلس التعاون بشكل مباشر وغير مباشر عبر توسيع النفوذ الإيراني في دول مثل سوريا والعراق ولبنان شمالا واليمن جنوبا، وذلك من خلال وكلاء إيران الممثلين في حزب الله اللبناني والحشد الشعبي الشيعي وجماعة الحوثي، فضلا عن تمويل وتحريض جماعات مناوئة للدولة في البحرين وتأليب الشيعة في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، إضافة إلى مد النفوذ الإيراني في منطقة القرن الأفريقي بل وفي دول أخرى ذات تأثير في الأمن الوطني الخليجي مثل باكستان وأفغانستان وبعض الدول الأفريقية.
وثاني هذه المظاهر يتمثل في استخدام المردود الاقتصادي الذي ترتب على تنفيذ الاتفاق النووي الموقّع بين إيران والقوى الكبرى وتوجيه معظم الأموال والأرصدة الإيرانية المجمدة في دول العالم بعد الإفراج عن الكثير منها نحو تمويل مخططات التوسع المذهبي الإيراني.
وثالثها إطلاق يد الحرس الثوري بما يمتلكه من موروث طائفي عدائي لدول الجوار الخليجية والعربية في إدارة العلاقات الإيرانية إقليميا، حتى أن الجنرال قاسم سليماني قائد الحرس الثوري بات يعمل بصفة رسمية مستشارا عسكريا للحكومة العراقية وبات ظهوره أكثر من مرة ميدانيا في كل من العراق وسوريا مسألة مألوفة.
ورابعها تنفيذ عمليات تطهير عرقي وخطط إعادة هندسة ديموغرافية واضحة المعالم في المدن والمحافظات العراقية والسورية التي يتم تحريرها من قبضة تنظيم داعش وتسكين مهجرين شيعة من باكستان وأفغانستان وإيران ومناطق عراقية أخرى بدلا من سكانها الأصليين السنة من أجل تهيئة المجال أمام خيارات التفكيك والانفصال في كل من العراق وسوريا بهدف تغيير موازين القوى الإقليمية وتعديل هياكلها لمصلحة إيران.
وخامسها سعي إيران بشتى الطرق إلى الضغط استراتيجيا على السعودية باعتبارها ركيزة الأمن الوطني لدول مجلس التعاون، وذلك عبر مخططات ومؤامرات تتخذ أنماطا مختلفة تبدأ من التوظيف السياسي للشعائر الدينية وتنفيذ مخططات فتنة واضطراب خلال موسم الحج الذي يجمع نحو 3 ملايين مسلم في الأراضي المقدسة بمكة والمدينة من أجل إحراج السعودية والسعي بكل الطرق لإفشال جهودها في تنظيم الحج من أجل تطبيق مخطط تدويل الأماكن الإسلامية المقدسة، وتأليب الشعب السعودي ضد بعضه البعض من خلال تدبير عمليات التفجير الطائفية والحوادث التي تسببت في مقتل المئات خلال مواسم الحج الماضية بهدف إضعاف قبضة المملكة أمنيا وتنظيميا وإحراجها إقليميا ودوليا.
وسادس مظاهر الخطر الإيراني يتمثل في مواصلة احتلال الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى) والتعنت الشديد في رفض أيّ مقترحات تسوية سلمية تعرضها دولة الإمارات في مختلف المناسبات والمحافل، بما يعكس تصميم الجانب الإيراني على فرض إرادة الاحتلال على هذه الجزر التي تثبت الوثائق التاريخية كافة ملكيتها لدولة الإمارات العربية المتحدة في ما تواصل إيران ممارساتها الاحتلالية عليها، بما يتنافي مع مبادئ حسن الجوار والرغبة في التعايش السلمي بين الدول.
والأمر لم يقتصر على ذلك بل لجأ نظام طهران مؤخرا إلى الهروب من استحقاق الجزر الثلاث بترديد مزاعم لا أساس قانونيا أو تاريخيا لها، تتمثل في أحقية إيران المزعومة في جزيرتي “زاركوه”و”أريانا”في موقف يعكس تجذّر التهور والطيش في سلوكيات إيران.
سابع هذه المظاهر يكمن في امتلاك إيران آلة إعلامية جبارة مكونة من عشرات الفضائيات والصحف والمواقع والجيوش الإلكترونية التي تعمل على التحريض الطائفي وبث نار الفتنة المذهبية وإشعال الحرائق وتقويض دعائم الأمن والاستقرار في دول المنطقة.
وثامنا يأتي من حرص نظام إيران على إجراء المناورات والتدريبات واستعراض القوة العسكرية في مياه الخليج العربي بشكل دوري ينطوي على رسائل تهديد واضحة ومقصودة إلى دول الجوار بما يتنافي مع أيّ ادّعاءات حول الرغبة في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، فضلا عن الحرص على تطوير منظومات صاروخية تمثل خطرا داهما على دول مجلس التعاون كون معظم عناصر هذه المنظومات تنتمي إلى الطرازات قصيرة المدى التي تستهدف مدن دول مجلس التعاون بشكل معلن لكل متخصص أو مراقب موضوعي.
والأمر لا يقتصر على ذلك، بل هناك أيضا تهديد عقائدي طائفي يحمل شعارات تحريضية تستهدف توظيف المواطنين الشيعة في دول مجلس التعاون واستقطابهم لمصلحة الدعاية الإيرانية واستمالتهم عاطفيا لمصلحة المشروع الأيديولوجي الإيراني وتقويض ولاءات هؤلاء المواطنين لدولهم عبر آليات ومخططات مذهبية مختلفة وصولا إلى غرس بذور الفرقة والانشقاق في دول مجلس التعاون بما يسهل عملية الضغط استراتيجيا على هذه الدول.
وهناك أيضا التهديد الأمني بالاعتماد على كيانات شبه عسكرية مكونة من ميليشيات طائفية وعسكرة الشيعة في دول مثل العراق وتسليحهم وتمويل جماعات تعمل بالوكالة مثل جماعة الحوثي في اليمن وحزب الله اللبناني وغيرهما من التنظيمات التي تأتمر بأوامر المرشد الأعلى وتنفذ تعليماته التي ينقلها قادة الحرس الثوري.
وكذلك استغلال الجماعات الإرهابية السنية في تنفيذ المخطط التوسعي الإيراني عبر تمويل هذه الجماعات وتوفير المأوى لقادتها كما حدث مع تنظيم القاعدة من أجل اتخاذ هذه التنظيمات ذريعة للتدخل في دول الجوار السنية بدعوى حماية الشيعة والدفاع عنهم.
وهناك كذلك التهديد الاقتصادي الاستراتيجي فلا تكف إيران عن التهديد بإغلاق مضيق هرمز وتهديد الملاحة البحرية في هذا المضيق الحيوي الذي تمر عبره معظم صادرات النفط الخليجية إلى الخارج.
بدأت يوم الجمعة 24 مارس/ آذار 2017 أعمال مؤتمر جنيف 5 الذي "اخترع" منذ ست سنوات، للبحث عن حل سياسي للحرب السورية التي أعلنها بشار الأسد، الرئيس المفترض للدولة السورية وللسوريين، ردا على الانتفاضة الشعبية التي تحولت إلى ثورة عارمة في مواجهة ما كانت تسميه الدبلوماسية الدولية الاستخدام المفرط للقوة. ولم يكن هذا الاصطلاح يعني سوى إخفاء حقيقة ما يجري بالفعل، وهو عملية سحق كامل للثورة ونشطائها، باستخدام جميع وسائل العنف الممكنة، من الرصاص الحي لردع السوريين ومنعهم من التظاهر إلى قتل نشطاء الثورة وشبابها تحت التعذيب في أقبية الموت، مرورا باستخدام أسلحة الدمار الشامل، الكيميائية وغير الكيميائية.
وتؤكد تصريحات وفد الأسد إلى المفاوضات التي تفيد بأنه، حتى لو تم الاتفاق على جدول أعمال، وهذا لم يتحقق بالفعل، فإن التفاصيل الكثيرة التي تطرحها أي سلةٍ من سلال مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، الأربع تحتاج كل منها لجدول أعمال قائم بذاته، قبل أن تبدأ، ربما بعد سنوات المفاوضات الفعلية، حول مضمون هذه السلال العجيبة، لكن مكتوب المفاوضات يتجلى بشكل أكبر من عنوان تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي تكاد حكومته تنتزع الاعتراف الدولي برعايتها، بمعزل عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لمفاوضات الحل السياسي في سورية. وهي تصريحاتٌ تقوّض هذه الجولة من المفاوضات قبل أن تبدأ.
ينتقد لافروف المعارضة على هجماتها الأخيرة، لأنها تهدد وقف النار الهش، في وقتٍ لا تزال فيه قواته تقف وراء النظام السوري، وتدعمه بكل الوسائل العسكرية في قتاله لانتزاع ما تبقى من أراضٍ تسيطر عليها المعارضة، كما فعل في حلب ووادي بردى، والآن في الغوطة الشرقية وغيرها. وهذا ما عبر عنه أيضا قائد الوحدات العسكرية التي تمركزت بالقرب من عفرين، أندريه فولكوف الذي لم يتردّد في التأكيد على أهمية الوجود العسكري المباشر في المنطقة "كي يكون العلم الروسي مرئياً. لأن الحدود التركية قريبة، وكي يفهم الجميع أننا ندعم الحكومة السورية وقواتها المسلحة، وأن وجودنا في هذه المنطقة هو لضمان السلام والأمن في المنطقة الحدودية".
وأكثر دلالة من ذلك هو التمهيد الذي يقوم به لافروف، بقصف مكثف للمعارضة بكل الوسائل ومن كل الجهات، فهو لا يزال مصرا على رفض شرعية "الهيئة العليا للمفاوضات" التي يتهمها بـ "احتكار تمثيل المعارضة"، وقيادة المفاوضات إلى "طريق مسدود". ولا يقبل أن يقتصر الأمر على إشراك مجموعتي موسكو والقاهرة، لكنه يريد مشاركة مجموعتي أستانة وحميميم اللتين هما من اختراع موسكو المباشر، بالإضافة إلى ما أسماه إشراك الأكراد، والمقصود طبعا جماعة صالح مسلم الحليفة لإيران والنظام معا.
يتصرّف الروس كقوة انتداب شرعية أو قانونية، ويعتقدون أن من حقهم أن يعيدوا تشكيل سورية على حسب أفكارهم ومصالحهم ومصالح حلفائهم، وفي مقدمهم إسرائيل. وهم يستفيدون من غض نظر الأطراف الدولية عن سياستهم في المنطقة، بعضها لافتقارها أي رؤية أو مصلحة في إيجاد مخرج من المحرقة السورية، وبعضها الآخر اعتقادا بأن روسيا هي الوحيدة التي تستطيع التخفيف من الوجود العسكري الإيراني في سورية. وهذا هو هدف إسرائيل الرئيسي، بعد أن أنجزت طهران المهمة التي أوكلت إليها بتدمير سورية، وتفجير حرب طائفية إقليمية كفيلة باستنزاف المنطقة، سياسيا واقتصاديا ودينيا، عقوداً طويلة مقبلة، من دون تمييز بين عرب وإيرانيين وأتراك وأكراد. وهي لا تخفي أنها تمتلك مخططا لإعادة بناء سورية، حسب ما تعتقد أنه الأمثل لضمان نفوذها وسيطرتها ومصالح حلفائها الإيرانيين والإسرائيليين معا. ويكاد كل عنصر من هذا المخطط يكون جاهزا، فهي صاغت دستور البلاد سلفا، وفي طريقها إلى إنشاء الفرق العسكرية الكفيلة بتحويل مليشيات النظام إلى جيش نظامي، وتريد أن تصوغ علاقات سورية الإقليمية والدولية وسياساتها، وتتحكّم بتوزيع مناطق النفوذ على الدول الصديقة، ولا تكف عن التأكيد على تشجيعها مخطط التقسيم باسم الفيدرالية، ومناطق الحكم الذاتي التي تريد أن تقدمها هدية لما تسميها الأقليات التي لم تعلن أي منها عن رغبتها بحكومة ذاتية، بمن في ذلك الكرد السوريون الذين ليسوا بالضرورة، ولا يمكن أن يختصروا، بأتباع لحزب الاتحاد الديمقراطي، أو لقوات الحماية الشعبية.
على ضوء تصريحات روسيا، وانفرادها في التدخل بشكل علني ومكشوف لصالح النظام، لا توجد أي فرصة لتحقيق خرق، أو تقدّم، ولو طفيفا في التوصل إلى حل. لا يزال الروس مصرّين على أن الحل الصحيح هو ما يرونه هم، لا ما يريده الشعب السوري الذي قدّم نصف مليون شهيد، لنزع نير الاستبداد والفساد وتغيير نظام الحكم الذي قاد إلى الخراب. وهذا الموقف يعلن بحد ذاته عن نتائج المفاوضات. والهدف الوحيد الذي يجب تحديده من المعارضة لهذه الجنيف 5، والذي ستتبعه جنيفات لا حصر لها، هو درء الضرر، لا تحقيق مكاسب وإنجازات من أي نوع. فقد أصبح من الواضح الآن أن لدى الروس خطة لإضعاف سورية وتفكيكها، بفرض أقاليم ذاتية مرتبطة بالهويات الطائفية والإثنية، وحاملة لمشروع إعادة بناء العصبيات الأهلية، ومن ورائها تشكيل النخب الجديدة على أساس الوجاهات والانتماءات القبلية والعنصرية والمذهبية، وقطع الطريق على أي مشروع لاستعادة مسار بناء المواطنة والوطنية وبسط الأمن والسلام في البلاد. والهدف إبقاء البلاد في نزاعاتٍ دائمةٍ وحرمانها من ثقلها النوعي القومي والثقافي والاجتماعي، وتقويض أي أسس لاستعادة سورية عافيتها في المستقبل، بدل لبنان واحدة سوف يتحول المشرق إلى لبنانات كثيرة، تتنازعها التناقضات والاختلافات في داخلها وبينها، وهذا ما يطمئن إسرائيل، ويضمن الأمن والسلام المديد لها على حساب خراب محيطها ودماره واقتتاله الدائم.
وإذا كان هناك فائدة للمشاركة في مؤتمرات جنيف، فهي لن تكون لتحقيق أي تقدم محتمل في الحل، وإنما لتفكيك المؤامرة الروسية، ووضع جميع الأطراف أمام الحقائق ومواجهة مشاريعهم والوقوف بحزم ضدها.
لا تملك موسكو أي صك انتداب قانوني على سورية، ولا يحق لها أن تتصرّف باعتبارها دولة منتدبة ذات صلاحيات وواجبات موكلة لها بالقانون الدولي، ولا يحق لها أن تقترح ما يدفع إلى تغيير الوقائع الوطنية الأساسية للدولة وللمجتمع، لا في بنياته السياسية ونظام حكمه، ولا في بنياته الاجتماعية. وما تقوم به هو التلاعب بالمفاوضين والمفاوضات والوثائق المرجعية، لكي تصادر نتائج المفاوضات، وتفرض مخططاتها التي لا يمكن أن يكون لها صفة أخرى غير الاستعمارية . ومن واجب الوفد المفاوض باسم المعارضة أن يدافع عن حق السوريين في تقرير مصيرهم بحرية، ويرفض أي استغلالٍ للوضع الصعب الذي يعيشه الشعب السوري، للمساس بسيادته وحقوقه الجوهرية. وعليه أن يواجه أي محاولةٍ تهدف إلى المساس بالحقوق الأساسية الدستورية، وتغيير البنية الجيوسياسية للدولة السورية.
لا ينبغي على وفد المعارضة القبول بالتنازل عن حق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه في انتخاباتٍ عامةٍ ونزيهةٍ تحت إشراف دولي، ورفض أي محاولة لتقرير مصيره في مفاوضات ينبغي أن يكون هدفها تصفية آثار الحرب العدوانية عليه، وليس مكافأة الجناة ومجرمي الحرب وأبطال الإبادة الجماعية. مهمة المفاوضات هي التوصل إلى اتفاق يضمن إعداد شروط تقرير المصير للشعب. وهذا هو مضمون المرحلة الانتقالية بالضبط. ولذلك، لا يمكن وضع دستور في هذه المرحلة، والحلول محل الشعب، وإنما يمكن التفاهم حول وثيقة مبادئ دستورية بانتظار الانتخابات لجمعية تأسيسية. وبالمثل، الشعب السوري وحده صاحب الحق في أن يقرّر شكل الدولة القادمة، ويفاوض من يريد من المكونات على حكم ذاتي أو إدارة لامركزية. وهذا لا يمنع من تشكيل حكم انتقالي، يضم المعارضة وأطرافاً في النظام، لكن ليس كصيغة ثابتة ونهائية للحكم، أي كأساس لحكومة المحاصصة الطائفية أو الإثنية، ولكن كمدخل لإعداد الشعب ليحكم نفسه بانتخابات عامة، وبغاية الانتقال نحو منظومة حكم ديمقراطية حقيقية. لا يمكن القبول بأقل من ذلك بعد ست سنوات من التضحيات وملايين المشردين والمنكوبين.
وأي وعود تقدّم من المتفاوضين السوريين، الموالين والمعارضين معا، في جنيف، أو أي التزامات يتخذونها، مع أطراف داخلية أو خارجية، بهدف فرضها منذ الآن أمرا واقعا على الشعب هي خيانة لدورهم، واعتداء على سيادة الشعب، وحقوقه الأساسية.
سورية ليست إحدى جمهوريات الاتحاد الروسي، ولن تكون. وليس لدى الروس صك انتداب قانوني دولي على سورية، يخولها أن تتصرف بحقوق السوريين، كما تتصرف قوات الانتداب والاحتلال.
تتوارد الأخبار عن اتصالات إيرانية جديدة بالكويت في سياق إمكان تحسين العلاقات مع دول الخليج العربية. وقد عبّر عن ذلك مراراً في المدة الأخيرة وزير الخارجية الإيراني.
بيد أن هذه الإشارات الواعدة بعد طواف الوزير الإيراني ببعض دول الخليج قبل شهرين، تقلِّلُ من أهميتها الخطابات النارية المتوالية للأمين العام لـ«حزب الله» في لبنان، والحزب كما هو معروف هو الذراع العسكرية والأمنية الرئيسية لإيران في الدول العربية. فخطابات أمينه العام الأخيرة لا تشير إلى تهدئة من أي نوع تجاه الدول العربية. بل تضيف عناصر جديدة للتوتر والتوتير. فبعدما اعتبره انتصاراً في حلب وشمال سوريا، عاد نصر الله لفتح الجبهة مع إسرائيل كلامياً على الأقل. وذلك إثر تصريح رئيس الجمهورية اللبنانية لفضائية مصرية إبّان زيارته للقاهرة بأنّ لبنان لا يزال محتاجاً لسلاح الحزب في الجنوب، حيث لا يكفي الجيش اللبناني ولا القوات الدولية. وعندما قيل له: وماذا عن تدخل الحزب في سوريا؟ أجاب بأنه لا يتدخل، وإنما يكافح الإرهاب. وكان لكلام رئيس الجمهورية، وخطابات نصر الله تأثيرات مباشرة؛ إذ اتخذ الأمين العام للأُمم المتحدة موقفاً مُواجهاً متهماً لبنان بأنه لا ينفذ القرار الدولي رقم 1701، ولا القرار الدولي رقم 1559. والأول خاص بحماية جنوب لبنان، حيث تساعد القوات الدولية الجيش والمفروض أن لا توجد في منطقة جنوب الليطاني قوات لميليشيا «حزب الله». أما الثاني فهو خاص بإزالة السلاح غير الشرعي من لبنان، والذي يحمله الحزب وبعض الميليشيات الفلسطينية على الحدود مع سوريا. وإلى ذلك فقد أوصى الأمين العام غوتيريس بخفض الإنفاق على القوات الدولية بالجنوب بنسبة 20%.
أما الأثر الثاني لكلام الأمين العام للحزب في تهديد إسرائيل براً وبحراً، فيتجلّى في إقبال إسرائيل على الاستيلاء على قسم من المجال البحري للبنان، والذي يعتقد الخبراء أنه يحتوي على ثروات نفطية.
وقد قال المراقبون وقتها إنّ المقصود من كلام أمين عام الحزب صرف الأنظار عن أدوار الحزب في سوريا، وإزعاج أميركا وإسرائيل نتيجةً لتردّي العلاقات بين إيران وإدارة ترامب.
وتشير الهجمات الأخيرة للمعارضة السورية المسلَّحة إلى اتجاه للميليشيات الإيرانية من شمال سوريا نحو الأردن والجولان. فقد كانت الخطة تأمين دمشق وجوارها عن طريق الاستيلاء والتهجير، وقد أُضيف إليها اتجاه الإيرانيين وميليشياتهم نحو الجولان، ونحو الحدود الأردنية. وفي الوقت نفسِه لا يزال نصر الله يعتبر التدخل في اليمن أولوية. فقد دأب منذ عام 2013 على القول إنّ تدخل الحزب وحربه على الشعب السوري أهم من قتاله السابق ضد إسرائيل. وهو منذ أكثر من عام يقول إنّ التدخل باليمن ضد السعودية أهمّ من مقاتلة إسرائيل والقتال في سوريا. وتشير التقارير والأحداث إلى أن التدخل الإيراني بالخبراء والأسلحة الجديدة زاد باليمن في الشهور الأخيرة، كما زادت محاولات استهداف الحدود السعودية. وما يزال الإيرانيون يسعون مع ميليشيات الحوثي لاستعادة ميناء المخا واستعادة ميناء ميدي. وقد صار معروفاً اتجاههم لإزعاج الملاحة في بحر العرب وبحر عُمان وباب المندب بالهجوم على سفن إغاثية سعودية وإماراتية.
وقد عاد نصر الله أخيراً إلى الهجوم على التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والذي يقاتل «داعش» في العراق وسورية، وقال إنّ موقفه هذا مبدئي. وعندما قال وزير الخارجية اللبناني إنّ لبنان حليف للولايات المتحدة التي تدعم الجيش اللبناني، وتقاتل الإرهاب، وإنّ الجيش هو الذي منع تكون إمارة لـ«داعش» في لبنان؛ ردَّ عليه نصر الله بأنه لولا الحزب لكان لبنان قد صار ساحةً للتفجيرات والسيارات المفخخة! إن لدى إيران ميليشيات وخبراء بالعراق وسوريا ولبنان واليمن. وكلها تزداد عدداً وعُدّةً في العام 2017. وقد كان الإيرانيون يصرون على أنها جميعاً ضد الإرهاب وضد الولايات المتحدة. لكنهم ومنذ قرابة العام يصرون على لسان حسن نصر الله أنها ضد السعودية بالدرجة الأُولى!
ماذا يعني هذا كلّه؟ يعني أنّ التدخلات الإيرانية إلى ازدياد وأنّ الحزب وعلى لسان أمينه العام مكلَّفٌ بمهمات جديدة أو متجددة في عدة بلدان عربية. لذلك ليس مستغرباً أن تتوارد الأنباء والتقديرات أنّ مؤتمر القمة بعمان سيتخذ قراراً بإدانة التدخلات الإيرانية في البلدان العربية، وربّما يكون هناك إصرارٌ على إدانة «حزب الله» باعتباره تنظيماً إرهابياً.
دأب الرئيس السوري بشار الأسد على ترديد أسطوانة أنه يحارب «الإرهاب»، ومن ثم فإن أهم شرط للحل في سورية، كما يقول، هو القضاء على هذا الإرهاب. حسناً، حتى لو افترضنا صحة كلام الأسد ودقته أيضاً، يبقى سؤال: لماذا فشل على مدى ست سنوات في مواجهة «الإرهاب»، فضلاً عن هزيمته؟ سيقول إن التدخلات الأجنبية هي التي تساعد «هذا الإرهاب» وتمده بأسباب القوة، وتجعل بالتالي من هزيمته أمراً يقترب من الاستحالة.
لكن الأسد، قبل غيره، هو من ينسف رؤيته هذه، لأنه كان له «فضل» السبق في الاستعانة بالتدخلات الأجنبية لمساعدته، وحمايته. بماذا يختلف في هذه الحال؟ يقف الأسد على هرم سلطة تميزت عبر تاريخها بتوحش ودموية غير مسبوقين في التعامل مع السوريين. ثم إن ضحايا هذه الدموية وذلك التوحش بعد الثورة هم الناس والمدن والأحياء في سورية كلها، وليس «الإرهابيين». بهذا يكون الأسد ونظامه أقرب إلى إرهاب الدولة التي تفتقد شرعية قبول الشعب لها اختياراً لا قسراً. المفارقة بمسطرة كلام الأسد أن الغالبية الساحقة ممن يسميهم بالإرهابيين هي من السوريين، وليست من الأجانب. في حين أن القوات الأجنبية (مقاتلين وميليشيات وعتاداً) التي تقف معه جميعهم من غير السوريين. من الذي يدافع عن سورية، وعن شعبها في هذه الحال؟ لم تأت القوات الأجنبية لحماية الشعب، وإنما لحماية الرئيس من الشعب.
ولا يغير من الأمر شيئاً ادعاء الأسد بأنه إنما استعان بالإيرانيين وميليشياتهم، ثم بالروس باسم الشرعية التي يفترض أنه ونظامه يمثلانها في سورية. فالشرعية التي لا تستطيع حماية نفسها إلا بتدخلات أجنبية، وفي مواجهة مع شعبها، إما أنها ليست شرعية أصلاً، أو أنها فقدت هذه الشرعية بفعل ما اقترفته في حق الشعب، وقادها بالتالي إلى الصدام معه. وإذا كان النظام برئيسه وتاريخه وسلوكياته على هذا النحو، فإنه يكون المسؤول الأول عن ظهور الإرهاب في سورية كرد فعل على إرهاب الدولة فيها، واستعانتها بالأجانب على ذلك.
مأزق بشار الأسد، ومأزق سورية معه، انه انفصل عن الواقع تماماً. ورث هذا الانفصال مع وراثته للنظام. وبالتالي فهو انفصال سابق على الثورة. في الوقت نفسه هو انفصال واع، وتنكر مقصود بوهم حماية نظام سياسي لا يستطيع اكتساب قبوله من الناس، بل يفرض التعايش معه ومسايرته بأدوات الأمن والرعب والإرهاب. إلى متى تستطيع فرض معادلة أمنية مثل هذه من دون إطار سياسي لها؟ هذه معادلة لا تستقيم من دون معادلة سياسية تسندها وتتكامل معها. لكن متطلب الإسناد والتكامل هذا يفرض تمويه حقيقة النظام، وهي أنه في عمقه نظام علوي، تتمسك عائلة علوية بالهيمنة عليه، في مجتمع كبير غالبيته الساحقة سنية، مع مكونات إسلامية وغير إسلامية أخرى. المفارقة القاتلة أن قيادة النظام، خصوصاً في مرحلة الأسد الابن، لم تقدر أن المجتمع السوري لم يكن لديه في الأصل اعتراض جوهري في أن يكون رئيسه علوياً، كما كان أول رئيس حكومة له بعد الاستقلال مسيحياً بروتستانتياً، وهو فارس الخوري. ومرد عدم التقدير هذا يعود لهيمنة ذهنية الأقلوية على النظام وقيادته. وهو ما يفسر أن انفصال النظام وقيادته عن الواقع انتهى به أنه انفصل عن الشعب، وبات يعتمد في بقائه على مقاتلين أجانب.
لا يستطيع الأسد والحال كذلك الاعتراف بأنه كانت هناك ثورة، وأن دموية نظامه وتوحشه حتى قبل الثورة، وتحالفاته الأجنبية هي ما فجر هذه الثورة ابتداء. بعد سقوط معادلة التعايش والمسايرة بفعل الخوف، كان لا بد من شماعة الإرهاب. فالاعتراف بالثورة هو اعتراف بنهاية الأسد ونهاية النظام الذي ورثه عن أبيه. وعدم الاعتراف هو الذي أدخل سورية نفق الحرب الأهلية. وهو نفق لا أحد يعرف، وأولهم الأسد نفسه، متى سينتهي.
المدهش، وعلى رغم كل ما حصل ويحصل، أن الأسد يتوهم أن بقاءه هو المخرج من الأزمة، بل والمخرج الوحيد. يريد أن يبقى على جماجم الناس وآثار مدنهم وقراهم التي دمرها فوق رؤوسهم. هل هذا ممكن؟ لم يعد لمثل هذا السؤال أي معنى الآن، خصوصاً أن الأسد لا يزال مصراً على الإيغال في النهج الدموي المدمر، وتطبيق مبدأ العقاب الجماعي على السوريين الذين يريد البقاء رئيساً لهم. يتوهم إمكان إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الثورة وكأن شيئاً لم يكن. بالمنطق ذاته يتظاهر بأنه لم يفقد السيطرة على مجريات الحرب، وما ستفرضه من حلول ومخارج سياسية. والحقيقة أن جيشه الذي كان يعرف بـ «الجيش العربي السوري» فقد بفعل الانشقاقات، وبتحالفه مع المقاتلين والميليشيات الأجنبية، بنيته وعقيدته الوطنيتين. تحول إلى ميليشيا أخرى من دون عقيدة، ومن دون معنويات يحفزها هدف وطني.
وسط غابة الميليشيات والمقاتلين فقدت هذه الميليشيا حتى قدرتها وربما الحافز لحماية الأسد. هذا ما يقوله الروس علناً، ويقوله الإيرانيون خلف الكواليس. هل إنكار الأسد لكل ذلك انفصال واع، أم غير واع عن الواقع؟ الأرجح أن قسوة الحرب الأهلية ومراراتها، وانتقال السيطرة إلى الأجانب جعلت من الأمر لدى الرئيس خليطاً من هذا وذاك. الرجل يقاوم السقوط. يعرف أن المقاتلين الأجانب هم الحاجز الوحيد، وليس الشعب السوري، بينه وبين هذا المآل. يحاول الهروب من قدر أنه سيكون أول وآخر وريث لحكم أبيه. إن قدر له أن يعيش سيدرك الأسد أن توريث السلطة له بتوقيتها، وبالطريقة التي تم بها، وللهدف الذي تم على أساسه كان لعنة على شكل عملية سياسية. أضعف التوريث الدولة السورية، وأدخلها لعبة طائفية ومذهبية على مستوى المنطقة وهي لعبة خاسرة للنظام السوري تحديداً. جاءت الثورة لتكشف كل ذلك، خصوصاً لفقده حكمة التعامل معها. ولأن الوريث كان من دون تاريخ أو تجربة، تفاقمت حال الضعف. لجأ إلى إيران و "حزب الله" لتعويض ذلك، فأصبح أول رئيس سوري، بل أول رئيس عربي يرهن بقاءه لميليشيا أجنبية بعد أن كانت هذه الميليشيا تعتمد في بقائها على سورية.
لم يكن ينقص رئيس الحكومة اللبناني، سعد الحريري، إلا إدراج تعبير "خير أجناد الأرض" لوصف الجيش المصري، وتعامله مع المواطنين في أرض الكنانة. فرئيس الحكومة الزائر إلى القاهرة أغدق في المديح على الأسلوب الذي تصرف به الجيش مع الشعب المصري، في إشارة إلى ما بعد "30 يونيو"، أي ضمنياً الانقلاب العسكري ضد نتائج الانتخابات.
رأى الحريري أن مصر "قدمت النموذج الصحيح لكيفية تعامل الجيوش الوطنية مع شعوبها"، وذلك في حواره مع صحيفة الأهرام الحكومية، وهي الصحيفة التي لم تتوان عن استخدام التعبير عنواناً رئيسي للمقابلة التي تطرقت إلى أمور قد تكون أهم، ولا سيما الوساطة المصرية مع إسرائيل لوقف تهديدها لبنان. غير أن مثل هذا الأمر لا يبدو مهماً أمام شهادة البراءة التي قدمها رئيس الحكومة اللبناني للجيش المصري وقيادته من المذابح السياسية والأمنية التي ارتكبها في الانقلاب وما بعده، ولا يزال يرتكبها بأشكال مختلفة.
ألم يسبق للحريري أن سمع بمذبحة رابعة، والتي تعد الأضخم في تاريخ مصر الحديث، وربما القديم. ألم يقرأ أن عدد الضحايا لا يزال غير نهائي، ووصل، في بعض التقديرات، إلى الآلاف، وذلك نتيجة دخول الجيش على مواطنين عزل معتصمين في ساحة وسط القاهرة.
ألم يبلغه أي من مستشاريه الكثر أن لائحة المفقودين من الذين كانوا موجودين في ساحات الاعتصام لا تزال طويلة، وأن كثيرين غير معلوم إذا ما كانوا أحياء أم أمواتاً.
وبعيداً عن "رابعة" ومجزرتها الكبرى، ماذا عن الاختفاء اليومي لمواطنين مصريين واعتقالهم وزجهم في السجون، لرفضهم الحكم العسكري للبلاد. ألم يسمع الحريري عن هؤلاء الذين يُعتقلون لمجرد التعبير عن الرأي، أو الذين يوضعون على قوائم منع السفر لمجرد إبدائهم موقفاً مغايراً لما يريد السيسي ونظامه سماعه؟
وماذا عما يحصل اليوم في سيناء من تهجير للسكان على يد "خير أجناد الأرض"، كما يحلو للإعلام المصري تسمية الجيش، ألم ينقل أحد من مستشاري رئيس الحكومة اللبناني إليه صورة الوضع في شبه الجزيرة، وأخبار القتل والهدم الحادثين يومياً بذرائع أمنية، على الرغم من أن أهدافاً استراتيجية أبعد قد تكون خلف كل ما يحدث. وما رأي الحريري مثلاً في سيطرة الجيش على مفاصل الاقتصاد في البلاد، وتحكّمه بالغذاء والدواء وغيرهما من مقومات الاقتصاد على الساحة المصرية، وتقديمها للشعب على أنها "مكرمة" من الجيش المتنعم وحده بخيرات البلاد.
هل هذا هو النموذج الذي يريد الحريري تعميمه؟
لنفترض أن كل هذه الأمور لم تخطر في بال رئيس الحكومة، باعتباره كان بعيداً، طوال الفترة الماضية، عن العمل السياسي، أو معتكفاً عنه بفعل المناكفات اللبنانية الداخلية المرتبطة عضوياً بالملف السوري، والذي يوليه الحريري أهمية قصوى. غير أن المفارقة أن الملف السوري جرى التطرق إليه في الحوار مع الصحيفة المصرية، غير أن الحريري لم يرَ ضيراً في دعم نظام السيسي نظام بشار الأسد، وهو الدعم الذي لم يعد خافياً على أحد، بل وضعه في خانة أن "مصر دولة عربية كبرى لها وزنها وسياستها وموقفها مما يجري في سورية يرتكز على مصالحها وتطلعاتها".
وفق حسابات الحريري هذه، لا يمكن لوم إيران وروسيا على سبيل المثال في دعمهما وارتكابهما الجرائم في سورية، ما دامت "مصالحهما وتطلعاتهما" تحتم عليهما القيام بهذه الأمور، فما ينطبق على مصر، من وجهة النظر هذه، ينطبق على غيرها، إذ يضع هذا المنطق الديكتاتورية والإجرام في خانة "وجهة النظر".
تقلبات المعادلة التي تتحكم بمصير سورية أخذت وتيرة متسارعة هذا الأسبوع، عبر وقائع كثيرة تزاحمت في الميدان العسكري، فالحرب السورية عوّدتنا في كل مرة ترسو الأمور على معادلة معينة خلال السنوات الماضية، على المفاجآت التي تعود فتقلب ما سبقها من أحداث بدت وكأنها ثوابت... وهكذا دواليك منذ عام 2011.
لا تلبث الوقائع تنبئ بأن النظام السوري إلى سقوط حتى يحصل ما يشير إلى ثباته، ولا تلبث التطورات العسكرية ترجح الحل السياسي حتى يتعثر هذا الحل، لأنه يقوم على نظرة أحادية الجانب، فتعود إلى الاشتعال جبهات جديدة وأخرى قديمة قيل إنها أُخمدت، فيخيب ظن من سيطر عليها من فرقاء الصراع.
القاعدة الوحيدة الصالحة للحكم على هذه الحرب المدمرة هي أنها مستمرة، وأن مصير النظام السوري برئاسة بشار الأسد يبقى مطروحاً على الطاولة ولو راجت في كل مرحلة مقولة أن الأسد باقٍ وردد ذلك حتى قادة دول غربية تفضل رحيله. بقاء الأسد يعني استمرار هذه الحرب، لأنه يستحيل تصور حل سياسي باستمراره. وهو نفسه أرسى هذه المعادلة، لأنه لم يتوقف عن تكرار، في كل مرة يحقق الروس والإيرانيون انتصاراً على المعارضة (ثم ينسبونه إلى «الجيش العربي السوري»)، أنه مصمم على استعادة كل الأراضي السورية من معارضيه، الذين يصفهم -معتدلين وتكفيريين- بالإرهابيين، على رغم جلوسه معهم للتفاوض في جنيف، فهو يدرك أن الحل السياسي يعني بالتعريف رسم مسار إنهاء حكم العائلة التي دمرت سورية وقتلت مئات الآلاف وشردت الملايين... فأي معارض سيقبل أمام المأساة بقاء الأسد في إطار الحل الذي يدعو ستيفان دي ميستورا إلى التفاوض عليه؟ وأكثر ما يخشاه أن تتقدم الدول والقوى التي تحارب «داعش» والإرهاب نحو هدفها، لأن هذا يقرّب طرح رحيله، بعد أن ربط مبرر بقائه بشعار إنهاء الإرهاب الذي ساهم هو في انتشاره وإطالة بقائه في بلاد الشام لتسويغ استمراره في السلطة، حين خيّر العالم: أنا أو «داعش».
الوقائع الجديدة (المرشحة لأن تعدَّل فيها وقائع لاحقة) تبدأ بما شهدته ضواحي دمشق من تقدم للمعارضة. ومع أن تهديد دمشق من المعارضة مجدداً يحرص القائمون به على حصره بهدف فك الحصار وتخفيف الضغط العسكري المستمر (الذي تغاضت عنه روسيا راعية وقف النار) من قوات النظام و «حزب الله» والميليشيات الإيرانية عن جوبر والغوطة الشرقية، فإن تمكُّنَ الفصائل المسلحة من إحداث تقدم في ريف حماة، و «الجيش الحر» من طرد «داعش» من غرب القلمون، أعطى هذا التطور بعداً آخر كسر «الحرم الدولي» حول استهداف العاصمة. ولا تتوقف هذه الوقائع عند تزاحم الدول الكبرى على تنفيذ الإنزالات لجيوشها، في مناطق السيطرة الكردية في الشمال السوري التي باتت موزعة بين أعلام تركيا في مدينة الباب وأميركا في منبج والحسكة، وروسيا في عفرين على آليات كل منها ومدرعاتها، في سياق التنافس على تحرير الرقة من «داعش»، باعتباره الخطوة الحاسمة على طريق القضاء على التنظيم، بعد أن تنجح عملية طرده من الموصل. فالاتجاه الأميركي نحو التسليم بأرجحية نفوذ روسيا في سورية، لم يكن يعني حتى أثناء ولاية باراك أوباما، إبعاد واشنطن بالكامل أو التسليم لفلاديمير بوتين باستخدام ورقة الدور الإيراني في بلاد الشام والإقليم، في لعبة التقاسم الدولي، ولا قبولها أن يأتيها القيصر إلى التفاوض متأبطاً ذراعي رجب طيب أردوغان والسيد علي خامنئي معاً.
من الوقائع أيضاً أن التحالف الدولي للقضاء على «داعش» والإرهاب لا يضم طهران، وتقوده واشنطن، التي أكدت أول من أمس دور السعودية والإمارات ومصر في الحرب على التنظيم، ونية إقامة «المناطق المستقرة» لإعادة النازحين.
من الوقائع الجديدة أن طهران تتهيأ للدفاع ضد سعي إدارة دونالد ترامب إلى وقف تدخلاتها الإقليمية في سورية واليمن والعراق والبحرين... عبر تصعيد انخراطها في الصراع في هذه الدول، بتسخير مزيد من الإمكانات العسكرية والمالية التي تستنزف اقتصادها الذي يتهم المرشد الأعلى علي خامنئي الرئيس حسن روحاني بالتقصير في معالجته. وتدفع طهران «حزبَ الله» إلى الساحات، ولا سيما سورية، بعد استراحة لمقاتلي الحزب إثر معارك حلب وغيرها التي كبدته الكثير من الخسائر.
لكل هذا أثره على القمة العربية في البحر الميت خلال أيام، بعد سلسلة خطوات لترتيب ما يمكن ترتيبه في البيت العربي، وبعد مبادرة المملكة العربية السعودية إلى حشد التأييد الدولي لمواجهة تدخلات إيران.
الواقعة الثابتة هي أن الشعب السوري سيبقى الضحية.
يوم الثلاثاء الماضي أقفل الجيش الأردني مختلف المعابر المؤدية الى منطقة البحر الميت حيث سيعقد مؤتمر القمة العربية يوم 29 الشهر الجاري.
الحكومة الأردنية أصدرت لهذه المناسبة 1400 بطاقة دخول وزعتها على عدد من الصحافيين المحليين والمراسلين والمصورين الأجانب. وقد استقبل العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني مطلع هذا الأسبوع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط بهدف التنسيق والتشاور حول جدول أعمال القمة المقبلة. ومن أجل تسهيل عمل المشرفين على التنظيم الداخلي، قدم أبو الغيط مجموعة وثائق تضم المقررات المهمة التي صدرت عن قمم سابقة، بدءاً من قمة أنشاص في الإسكندرية (29/5/1946) حتى القمة الأخيرة في موريتانيا العام الماضي.
وواضح من طبيعة النشاط الاستثنائي الذي يقوم به المسؤولون الأردنيون إن هناك تعليمات ملكية تقضي بإنجاح هذه القمة، إن كان من حيث عدد المشاركين... أم من حيث التعامل مع الأزمات التي تعصف بالعالم العربي.
وعلى ضوء هذا التوجه، لم يكتفِ الملك عبدالله الثاني بالدعوة التي حملها مبعوثه ناصر جودة الى العاهل المغربي الملك محمد السادس، بل سافر هو شخصياً الى طنجة عندما بلغه أن ملك المغرب متردد في الحضور. علماً أن آخر قمة حضرها العاهل المغربي كانت قمة بيروت عام 2002.
في الرياض، تؤكد المصادر الرسمية أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز سيحضر على رأس وفد رفيع المستوى، خصوصاً أن المواضيع المعدّة للنقاش تحظى باهتمامه، بدءاً بموضوع فلسطين... مروراً بأزمتي اليمن وسورية... وانتهاء بمعالجة الخلاف مع إيران حول الأمن الإقليمي.
ويبدو من برنامج القمة أن الأردن سيكون عنده ما يقوله عن اتصالات سبق أن أجراها رئيس مجلس النواب عاطف الطراونة الذي التقى الرئيس حسن روحاني في طهران، وبحث معه في إمكان إعداد تقارب على مستوى القيادة. ومن المتوقع أن ينتج ذلك اللقاء مطالبة إيران بضرورة إعلان تعهد يقضي بتعديل سياستها الخارجية، خصوصاً الجانب المتعلق بموقفها من دول الخليج.
ومع أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاول للمرة الثالثة إقناع الجامعة العربية بضرورة رفع الحظر المفروض على حضور الرئيس بشار الأسد، إلا أن محاولته لم تلقَ الصدى المطلوب. لذلك قرر إرسال ميخائيل بوغدانوف، مستشاره لشؤون الشرق الأوسط، إذ يمثل دور المراقب.
وكانت الجامعة العربية علقت حضور سورية عام 2011، ثم عادت واعترفت بالمعارضة السورية «بديلاً من النظام الذي يقتل ويهجر مواطنيه». وفي مؤتمر الدوحة جلس أحمد معاذ الخطيب، رئيس «الائتلاف الوطني» السوري، في المقعد المخصص لبشار الأسد، وكان ذلك في آذار (مارس) 2013.
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس كان أكثر المسؤولين قلقاً على القضية التي حملها خلال جولتين عربية وأوروبية لم تكتملا بسبب الدعوة المفاجئة التي تلقاها من الرئيس عبدالفتاح السيسي. وكان ذلك عقب انقطاع طويل عن القاهرة برز أثناء سحب مندوب مصر مشروع إدانة الاستيطان من مجلس الأمن في آخر شهر من السنة الماضية. وتبعت ذلك سلسلة خلافات عابرة تجاوزها السيسي لأسباب تتعلق برغبته في لعب دور أساسي في حال طرحت الولايات المتحدة مشروع إحياء عملية السلام المعطلة.
ووعد الرئيس المصري ضيفه أبو مازن بأن القضية الفلسطينية ستكون الموضوع الأهم خلال زيارته المرتقبة لواشنطن، وبأنه سيبذل كل جهد مستطاع مع الرئيس دونالد ترامب، من أجل إنهاء النزاع وإقامة الدولة الفلسطينية.
وكان عباس اغتنم فرصة سفره الى الدوحة من أجل تدشين المدرسة الفلسطينية التي أمر بإنشائها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، لكي يزور أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وجرت خلال اللقاء مراجعة ملف المصالحة الوطنية الفلسطينية بين «فتح» وسائر المنظمات المعارضة مثل «حماس» و «الجهاد الإسلامي».
وذُكِر أن محمود عباس أبدى رغبة في استئناف الحوار مع المنظمات الأخرى وإنهاء حال الجفاء والمقاطعة. وعليه، ترك الأمر الى الشيخ تميم على أن يعالجه فور عودته من مؤتمر القمة في عمّان.
ولكن الدول العربية غير مطمئنة الى عدالة الحل السياسي الذي يطرحه الرئيس الاميركي دونالد ترامب أمام زواره، خصوصاً أنه يجرد الفلسطينيين من دورهم الأساسي. والحل في محصلته النهائية يتألف من خطوط عريضة هذه أهمها:
أولاً - بعد مرور أكثر من عشرين سنة، أثبتت المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية عقم المحاولات التي أجرتها الإدارات الأميركية من موقع المشرف والضامن لكل مسارات التسوية.
ثانياً - لهذه الأسباب وسواها، يفرض المنطق ضرورة تجميد نهج المفاوضات الثنائية، واستبدالها بصفقة أمنية، سياسية، اقتصادية تحفز الجهتَيْن المعنيتين بالنزاع، كما تغري الدول العربية بالاشتراك في وضع الحل والإشراف على ضمان تحقيقه.
ثالثاً - من أجل تنفيذ مشاركة فعلية، يجب رسم إطار لتسوية اقليمية تتألف من مسارات ثنائية، ومن تحالفات إقليمية تكون اسرائيل جزءاً منها.
ويشترط ترامب في صيغة الحل ألا تكون السلطة الفلسطينية الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وإنما تشارك معها مصر ودول مجلس التعاون الخليجي. وتقضي فكرة التجمع الاقليمي حصول إسرائيل على اتفاقات اقتصادية في مقابل قبولها بحل الدولتَيْن لشعبين.
وفي حال وافقت الدول العربية وإسرائيل على تبني هذه الصيغة، فإن ترامب يرشح صهره جارد كوشنير كمبعوث خاص لإنهاء نزاع الشرق الأوسط بالتعاون مع سفيره في تل أبيب ديفيد فريدمان.
ومن المؤكد أن الدول العربية لن توافق على هذه الصيغة التي تحلها محل الفلسطينيين في تدبير شؤونهم، إضافة الى مشاركتهم في طاولة المفاوضات.
ورأت «حماس» في دعوة الرئيس دونالد ترامب الى رئيس السلطة الفلسطينية فخاً لإقناعه بأهمية تجديد ثقته بالإدارة الأميركية، ومنحها فرصة جديدة لاستئناف المحادثات من دون شروط مسبقة، ولو اقتصر ذلك على شرط وقف بناء المستوطنات!
وهذا يعني بـ «القلم العريض» سلب الفلسطينيين كامل حقوقهم، وتجيير مسؤولية مستقبلهم الى دول عربية تنوء تحت أثقال الهموم والمتاعب التي حصدتها من حقول «الربيع العربي».
قبل افتتاح مؤتمر قمة عمّان، أثار الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش أزمة سياسية مع الفلسطينيين والدول العربية بسبب سحب تقرير عن إسرائيل أعدته ريما خلف، الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا). ويشير التقرير، الذي ساهم الخبير القانوني ريتشارد فولك بالتعاون مع الباحثة فيرجينيا تيلي في جمع معلوماته، الى حقيقة تحوّل إسرائيل الى دولة فصل عنصري (ابارتهايد).
ويبدو أن خوف الأمين العام من فقدان وظيفته، ومن انتقام الرئيس ترامب، الذي هدد بسحب ربع مساعدات المنظمة الدولية، دفعاه الى سحب التقرير من أرشيف المنظمة، الأمر الذي قابلته خلف بتقديم استقالتها.
وبين الأسباب التي ذكرتها في كتاب الاستقالة عبارة توضيح تقول: «أستقيل ببساطة لأنني أرى أن من واجبي تجاه الشعوب التي نعمل لها، وتجاه الأمم المتحدة، وتجاه نفسي، ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة تسبب كل هذه المعاناة لكل هذه الأعداد من البشر، وبناء عليه، أقدم استقالتي من الأمم المتحدة».
ومن غرائب الصدف أن ريما خلف أعادت الى ذاكرة الرأي العام قراراً مماثلاً صدر عن مؤتمر دربان عام 2001، وفيه يقول: «يشير المؤتمر بأسف عميق الى المأساة القاسية التي ألمت بالشعب الفلسطيني، والتي تتمثل في منعه من ممارسة حقه في تقرير المصير على تراب وطنه، وفي تشتت مئات الآلاف من الفلسطينيين، ومنع عودتهم الى ديارهم وإحلال المستوطنين الأجانب فيها، وفي ممارسة مختلف أشكال التمييز العنصري ضد الفلسطينيين مما يؤثر في جميع جوانب حياتهم اليومية بما يحول دون تمتعهم بأبسط حقوقهم الإنسانية على أساس المساواة».
ويكمل القرار فيقول: «ويعرب المؤتمر عن قلقه الشديد إزاء استمرار هذه الحالة وعن أسفه لرفض إسرائيل الانصياع لقرارات الأمم المتحدة في هذا الصدد».
وترتب عن تلك الإدانة انسحاب ممثلي الولايات المتحدة وإسرائيل من مؤتمر دربان، الأمر الذي انتهى بنقل القرار الى الجمعية العامة حيث تم التصويت عليه بغالبية الأصوات.
وبعد سنوات عدة، جندت إسرائيل كل إمكاناتها السياسية والإعلامية والمالية، لإلغاء قرار اعتبرته مهيناً ومسيئاً لسمعتها كبلد يزعم أنه ينشر الديموقراطية في الشرق الأوسط!
بقي أن ينصف مؤتمر عمّان ريما خلف لأن استقالتها تعتبر صفعة للمنظمة التي يرأسها موظف لا يختلف في طبعه عن سلفه الأول تريغفه لي!
أثارت العملية العسكرية التي شنتها فصائل معارضة ضد مواقع النظام السوري في مدخل دمشق، يوم الأحد الماضي، موجة ارتياح واسعة بين المعارضين السوريين. ومع ذلك، كان الملاحظ من ردود الفعل أنها اتسمت بالحذر الشديد، وعدم الرهان أن تؤدي العملية إلى إسقاط النظام الذي يضع كل ثقله في العاصمة، باعتبارها حصنه الأخير.
مصدر الارتياح أن العملية حملت عدة رسائل للنظام السوري، والأطراف الساهرة على الدفاع عنه، وحمايته من السقوط طوال ست سنوات. وقبل كل شيء، فإن أبرز ما كشفت عنه العملية هو هشاشة النظام الذي اهتز بفعل الصدمة، وظهر عليه الارتباك الميداني.
وعلى الرغم من أنه يحتفظ في محيط دمشق بقوات نخبةٍ من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، والمليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية، فإنه لم يتمكّن من صد هجوم مئات المقاتلين الذين استطاعوا التقدّم ميدانياً بسرعة شديدة.
ب
عد 24 ساعة من بدء العملية، تحوّلت إلى كر وفر، إذ شن النظام هجوماً مضاداً يوم الاثنين، استعاد من خلاله أهم المواقع التي خسرها، لكنه لم يتمكّن من الاحتفاظ بها سوى ساعات، ورجعت المعارضة لتستولي عليها، وتخلق حالة كبيرة من الارتباك داخل النظام ووسط البيئة الحاضنة وفي الشارع الدمشقي، بالإضافة إلى الخسائر العسكرية الملموسة في صفوف قوات النظام.
ال
درس الأكبر موجه للروس والإيرانيين، وهو أن إعلان تثبيت نظام الأسد والانتصار على الثورة السورية أمر غير وارد إطلاقاً، لأنه لم يعد لدى السوريين الذين قاموا من أجل الخلاص من آل الأسد ما يخسرونه. وبالتالي، لن يجدوا من بين الذين فقدوا ذويهم ودُمرت بيوتهم من يمكن أن يقبل بالحياة مع الأسد وأتباعه في بلد واحد، وإذا كانت المعارضة غير قادرة على إسقاط الأسد، فإن الأسد غير قادر على القضاء على المعارضة.
و
تلفت العملية نظر الروس إلى أن إجبار السوريين على توقيع صكوك استسلام أمر غير ممكن، فلا يوجد ممن قاتلوا النظام من يقبل رمي سلاحه، والتسليم بمشروع روسيا إعادة إنتاج الأسد، ومثال ذلك مواجهة مخطط التهجير الذي بدأ منذ عام 2012، حين وضعت روسيا الثوار أمام أحد خيارين: "المصالحة" مع الأسد بشروطه أو التهجير نحو إدلب. ومن هنا، بدأت مسيرة الحافلات الخضراء التي نقلت آلاف المقاتلين من ريف دمشق وحمص وحلب وريف اللاذقية من المقاتلين الذين رفضوا المعادلة الروسية.
على الروس أن يتوقفوا عن سياسة المكاييل المتعدّدة، فإذا أرادوا بناء عملية سلمية جادة، عليهم وقف سياسة قتل السوريين من أجل الضغط على الثورة لتقديم تنازلات، وعليهم إذا أرادوا المساهمة في حل دائم في سورية أن يتخلوا عن الأسد.
ويتمثل الدرس الثاني في أن العملية جاءت على أبواب انعقاد الجولة الخامسة من مفاوضات جنيف التي كان النظام يستعد كي يُفشلها، لأنها مرشحةٌ للدخول في جدول الأعمال الذي جرى الاتفاق عليه في جنيف 4، ولم يشكل مصدر ارتياح للنظام.
أما الدرس الثالث فهو يعيد وضع مسار أستانة على طاولة البحث جدياً، فالعملية التي قامت على أساس وقف إطلاق النار حرفها الروس عن هدفها الفعلي، ولم تتمكّن من تحقيق وقف النار بسبب استمرار خروق النظام، واستغلال التأييد الروسي من أجل استمرار عمليات التهجير من محيط دمشق وحمص.
وفي جميع الأحوال، توجه العمليات صفعة كبيرة للإيرانيين الذين كانوا السباقين إلى المشاركة في قتل السوريين، من أجل تحقيق أطماع استعمارية في سورية، تحت ذرائع دينية. وفي كل يوم يمر، يزداد إصرار الشعب السوري على محاربة إيران، بوصفها قوة احتلال، ومهما كسبت على الأرض، فإن السوريين لن يتعاطوا مها إلا كاحتلال أجنبي.
على مدار السنوات الطويلة، شنت إسرائيل عشرات الغارات في سورية، سواء قبل الأزمة أو بعدها، ووصل الأمر في بعض الغارات إلى استهداف مناطق عسكرية مهمة جدا، مثل الغارة التي استهدفت ما قالت إسرائيل إنه مفاعل نووي سري، طور البناء في دير الزور شرقي سورية في سبتمبر/ أيلول 2007، والغارة التي استهدفت مركزا للأبحاث العلمية في جمرايا خلف جبل قاسيون في يناير/ كانون الثاني 2014، ومركز البحوث العلمية في دمشق في مايو/ أيار من العام نفسه.
وبسبب التباين الحاد في موازين القوة العسكرية بين سورية وإسرائيل لصالح الأخيرة، اعتادت دمشق التصريح، بعد كل عدوان إسرائيلي، بأن الرد سيأتي في الزمان والمكان المناسبين. وفي القصف الإسرائيلي على سورية، قبل أيام، ثمّة تطوران شكلا قطيعة مع الهجمات الإسرائيلية السابقة على سورية: أن إسرائيل أعلنت رسمياً شنها غارة، وهذا لم نعتد عليه طوال السنوات الماضية، حيث كان الخبر يأتي من وسائل إعلام غربية، تعقبها تصريحات إسرائيلية شبه رسمية تؤكد وقوع الهجوم. والتطور الثاني أن سورية ردت على الهجوم الإسرائيلي، ما لم يحدث سابقا، إذ اعترضت الطائرات الإسرائيلية بصواريخ إس 200، ثم أطلقت صواريخ باتجاه إسرائيل.
لا يتعلق السؤال المركزي بالاعتراف الإسرائيلي بشن غارة على سورية، وإنما بقرار الأخيرة إطلاق صواريخ لإسقاط الطائرات الإسرائيلية، ومن ثم إطلاق صواريخ أرض ـ أرض باتجاه إسرائيل. وتشكل هذه الخطوة السورية هذه قطيعة مع التكتيك العسكري المتبع تجاه إسرائيل منذ سنوات طويلة.
هل الرد السوري مرتبط بتغيير في الاستراتيجية العسكرية، كما ذهب إليه بعضهم، على الرغم من أن هذا التغيير يتطلب تطورا تقنيا عسكريا عالي المستوى، وهو أمر غير متوفر في سورية قبل الأزمة؟ أم أن ما جرى لا يخرج عن بروباغندا إعلامية، هدفها إعادة إنتاج النظام لنفسه مقاوماً ومقاتلاً لإسرائيل؟
بطبيعة الحال، لم يكن الرد السوري العسكري ليحدث، لولا الوجود الروسي، فموسكو قد تسمح بهجوم إسرائيلي، يستهدف أسلحة مرتبطة بحزب الله، لكنها لن تسمح برد إسرائيلي على الرد السوري. وعليه، يمكن القول إن الرد العسكري السوري جاء ضمن بروباغندا إعلامية وتغيير في قواعد اللعبة في آن معا، وثمّة مؤشرات تدلّ على ذلك:
أولا، أن الصاروخ س 200، المستخدم في إسقاط الطائرات الإسرائيلية، هو من الجيل الماضي، وغير قادر على تدمير طائرات متطورة مثل إس آيه 5، أي أن سورية ليست في وارد الدخول في مواجهة مع إسرائيل، لكنها لن تسكت بعد الآن على أي اعتداء إسرائيلي.. كان الرد متواضعاً.
ثانياً، الصواريخ السورية التي وجهت إلى إسرائيل سقط أحدها فوق إربد الأردنية، ما يؤكد أنها أطلقت من على مسافةٍ جغرافيةٍ بعيدة من إسرائيل، في محاولةٍ لإعطاء الأخيرة فرصة لإسقاطها، أما الأخرى فقد اخترقت منظومة الصواريخ الإسرائيلية، لأنها متطورة، وفقا لخبراء عسكريين إسرائيليين، لكنها سقطت في أراضٍ خالية، فكانت بلا هدف عسكري.
ثالثاً، قصفت إسرائيل سورية عدة مرات منذ التدخل العسكري الروسي، ولم يحدث أي رد من سورية، بمعنى أن الرد السوري جاء، هذه المرة، بتنسيق مع روسيا التي سرعان ما استدعت السفير الإسرائيلي لديها لاستكمال المشهد.
لا يعني الرد السوري أن إسرائيل لن تشن أي هجمات داخل سورية، لكنه يعني أن مرحلة جديدة قد بدأت، وأن مفتاح المواجهات العسكرية انتقل من واشنطن إلى موسكو، على الأقل في هذه المرحلة.
كشف الرد العسكري السوري المشكلة بين روسيا وإسرائيل، وحدود التباينات والأولويات بينهما. لا تريد إسرائيل التدخل في الشأن السوري، خصوصا بعد الهيمنة الروسية، وهذا ما صرح به وزير الحرب، أفيغدور ليبرمان، بكل صراحة، لكنها لن تسمح باستمرار تدفق السلاح إلى حزب الله، وهذه مسألةٌ لا ترفضها موسكو، لكنها، في المقابل، لم تعد في وارد السماح باقتحام الأجواء السورية من دون تفاهم معها.
بعبارة أخرى، ثمة رسالة روسية إلى إسرائيل بأدوات سورية، مفادها أن التدخل الإسرائيلي يجب أن يجري وفق الإيقاع الروسي، فما جرى ليس مجرد سوء تفاهم عسكري.
أصبح عمري ست سنوات، فاجأت الكثيرين ولادتي، فالمخاض كان عسيراً والمعوقات كثيرة، أهمها الاستبداد المديد الذي كمم أفواه الناس وأخضعهم لتربية وتعبئة قاسيتين كي يحجموا عن تداول أية أفكار أو رغبات في التغيير.
كان موضع شك أن أبصر النور في سورية، بلد الاستقرار الأمني والممانعة والمقاومة، وأن أجترح حضوري من رحم منظومة تحكمها الشعارات القومية ومواجهة المخططات الامبريالية والصهيونية، وتغذيها الدعاية الرسمية بأن كل من يناهض الحكم متآمر ومندس ويرتبط بأجندة خارجية، وكان موضع استغراب نجاحي في فضح زيف هذه الادعاءات الوطنية، وتعرية سلطة لا يهمها من السيادة والاستقلال سوى ما يضمن امتيازاتها واستمرارها في الحكم!
من دوني ما كانت لتسمع شعارات صريحة تدل على أنانية التشبث بالسلطة حتى لو اضطر أصحابها إلى إحراق الوطن، وما كان ليكتشف كيف استخدمت أسلحة «المقاومة والصمود والتصدي» لتدمير المدن والأرياف وسحق حيوات البشر وأحلامهم، وكيف استسهل أهل الحكم تسليم قرارنا السيادي لقوى خارجية جرى الاستقواء بها، كروسيا وإيران وتوابعها.
كان قدري أن أنطلق وأنمو كأني أواجه مصيري وحيدة، فعلى رغم تعاطف الشعوب مع مشاهد الدمار والضحايا وحرج السياسات الرسمية من العنف السلطوي المفرط، لم ترق مواقف معظم الدول الغربية والعربية إلى شدة ما يكابده السوريون، وآثروا المراوحة بين السلبية والتردد، ربما لأن غالبيتهم تخشى التداعيات التي سيخلقها انتصاري الديموقراطي على أنظمتهم ومصالحهم، وربما لعدم ثقتهم بفرصتي في النجاح وتحسبهم من قدرة نظام مجرب أمنياً ومدجج بالسلاح والتحالفات على هزيمتي.
ولدت من دون تخطيط مسبق، بلا مرجعية أو رموز تاريخية تقودني، لم يكن لأحد دور في نشأتي سوى عزم شباب منتفض، تأثراً بشباب تونس ومصر، ضد استشراء الحرمان والقهر والفساد والتمييز، كنت أصارع ومنذ اللحظات الأولى شتى محاولات جري إلى السلاح أو إلى الأتون الطائفي وأجاهد للحفاظ على شعاري الحرية والكرامة، وعلى وجهي الوطني العريض كعابرة للمذاهب والأديان والقوميات، لكن أعترف بأنني لم أنجح في الحفاظ على سلامة قيمي وأفكاري وشعاراتي، بينما نجح النظام في دفعي، بإستفزازاته المفرطة بالعنف والطائفية نحو العنف المضاد، ومكن الدخلاء والمتشددين الاسلامويين، الذين أطلق سراحهم عامداً، كي ينالوا مني. عزز هذا الخيار الخاطئ، انسداد الأفق واستمرار العجز الأممي عن التدخل لوقف العنف وفرض حل سياسي، والأهم إخفاق المجالس والائتلافات المعارضة على تنوعها، في تنسيق نشاطاتها وتجاوز أمراضها وتشتتها، وفي التمفصل مع المكونين المدني والعسكري لضمان أفضل أداء وأقل الأخطاء والخسائر، لأقف حائرة أمام تنامي شعور المحتجين بأن التظاهرات بالصدور العارية، عاجزة عن هز أركان النظام، والأسوأ حين طاول القتل والاعتقال والتهجير عدداً غير قليل من رموزي القديمة التي عرفت بنزعتها السلمية، وبدا كأن أعدائي تواطأوا جميعهم للنيل من تلك الرموز التي كان استمرارها يغذي فرصتي في مقارعة الدخلاء والتمسك بقيمي وشعاراتي ومساري السلمي، كمشعل تمو، غياث مطر، يحيى الشربجي، خليل معتوق، عبدالعزيز الخير، باسل شحادة، فائق المير، يوسف الجادر، خلدون زين الدين، ناجي الجرف، رزان زيتونة وسميرة الخليل وغيرهم كثيرون.
عشت العامين الأخيرين بوجه ليس وجهي، وبلغة ليست لغتي، تمكنت جماعات التطرف الإسلاموي من التغلغل في صفوفي والعبث بمكوناتي وقيمي، شوهت ممارساتهم الشائنة صورتي وكثرت الأخطاء والارتكابات التي تلصق بي، ما عزز الخوف الدفين من وصولهم إلى الحكم وخطورتهم على الديموقراطية والمجتمع، وزاد الأمر تعقيداً التقدم الملح للملفات الإنسانية المتعلقة بالمعتقلين والمشوهين والنازحين واللاجئين، ونجاح التدخل العسكري الروسي بإحداث اختلال في توازن القوى لمصلحة السلطة، ما مكنه من التفرد في وضع المشاريع الكفيلة بإخماد الوجهين المسلح والسياسي للصراع الدائر.
لا يكفي تعريفي بشعاري الحرية والكرامة أو بصور الاستبسال المذهل والمقارعة المكلفة بين شعب ينتفض لنيل حقوقه ونظام لم يتوان عن استخدام أشنع وسائل القهر للحفاظ على موقعه وامتيازاته، أو بما حل بي من نكسات وانكسارات وتشوهات مع تقدم منطق العنف وتصدر الفصائل الاسلاموية المشهد، بل بما كرسته من رصيد معرفي ومفاهيم وقيم جديدة، ولنقل ثقافة بديلة تنقض كل ما هو استبدادي ووصائي، تستمد من الوعي الديموقراطي وحقوق الإنسان جذورها، وتؤسس لفصل الدين عن الدولة واستلهام الميراث التقدمي للإسلام وتفعيله بما يتناسب وروح العصر، بخاصة وقد جاءت حصيلة العامين المنصرمين محبطة ومخيبة للآمال، وأكدت الصورة النمطية للإسلام السياسي الذي لا يهمه سوى تسخير الدين لقهر وإكراه البشر وجعلهم أدوات عمياء لتطبيق رؤيته المتطرفة للشريعة الإسلامية.
وإذ أعترف بأنني لا أزال أعاني وأكابد وتكتنفني الصراعات والعثرات على طريق إعادة السياسة إلى المجتمع والتي تتعاون على تغييبها سلطة القمع والجماعات الاسلاموية، أجزم بأني لم أكن لحظة ولادتي خياراً أمام السوريين يمكنهم قبوله أو رفضه، بل رداً اضطرارياً، تاريخياً وأخلاقياً، ضد نظام استبداد وفساد أوصل المجتمع إلى حالة لا تطاق من القهر والتمييز والعوز، نظام لا يتحمل فقط، مسؤولية اندلاع مختلف الانفجارات الشعبية، بسبب أنانيته وتعنته وشدة عنفه وظلمه، وإنما أيضاً مسؤولية الأثمان والتكلفة الباهظة التي تكبدها المجتمع، وأجزم تالياً بأن كثرة الأعداء وما ينصبونه من أفخاخ لاعتراض نجاحي، لا تضعف مشروعيتي، بل تؤكدها، مثلما تؤكدها اجتهادات نقدية لم تهدأ، لاستخلاص العبر وحفز أسباب استمراري.
يخطئ من يعتقد أن الثورة لا يمكن أن تهزم أو تشوه وإن هزمت لا تعود ثورة أو لا تستحق هذا الاسم، ففي التاريخ أمثلة كثيرة عن ثورات حقيقية وشاملة ومشروعة هزمت موقتاً، والأنكى أن تلي الهزيمة مرحلة دموية وسوداء يقاسي فيها الشعب الثائر الأمرين قبل أن يتمثل الدروس وينهض من جديد.
بدأت معركة تحرير الرقة المعقل الأبرز لتنظيم «داعش» في سورية، وعملياً لم تبدأ... بدأت بالإعلان عنها إعلامياً فقط من «قوات سورية الديموقراطية» (قسد)، وهي تحالف فصائل عربية وكردية سورية مدعومة من واشنطن.
على أرض الواقع ما زالت معركة تحرير الرقة محدودة من ناحية الفعل والعمليات العسكرية على الأرض. ومرد ذلك يعود لعدة أسباب، أولها تواضع قدرات قوات «قسد» الكردية على فتح معركة واسعة ضد معقل ومركز تَحَشُّدِ تنظيم «داعش»، في تلك المنطقة التي يتوقع أن يجري على أرضها حسم أهم جولات الحرب في سورية، بالرغم من إصرار الولايات المتحدة على دفع الأكراد باتجاه زجهم في معركة الرقة، بل وتشجيعهم، حيث تروّج للموقف القائل بأن القوة الوحيدة التي تتمتع بالقدرة في أي مدى قريب هي «قوات سورية الديموقراطية التي تشكّل «وحدات حماية الشعب» جزءاً كبيراً منها. وتقترح في المرحلة الأولى من العملية، أن يتم عزل مسلحي «داعش» في الرقة عن طريق محاصرتهم، ومن ثم شن الهجوم على مواقعهم في المدينة في المرحلة الثانية. وتعتقد في الوقت ذاته أن عملية تحرير الرقة من «داعش» سيستغرق على الأرجح وقتاً أطول من تحرير الموصل.
والسبب الثاني لصعوبة معركة الرقة هو الموقف التركي، فهو الموقف الحاضر بقوة على مسرح الأحداث في الشمال السوري وعلى تخوم محافظة الرقة. فأنقرة تصنف «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي تشكّل العمود الفقري لـ «قوات سورية الديموقراطية» على أنها إرهابية، وتعتبرها امتداداً لـ «حزب العمال الكردستاني»، الذي يخوض عملية تمرد منذ عقودٍ طويلة ضد السلطات التركية، بينما تعتبرها واشنطن أفضل قوة قتالية في سورية. وأن الحالة الكردية بشكلٍ عام غير مؤتمنة من الوجهة التركية.
وثالث الأسباب، أن أنقرة ترى ضرورة تحييد الأكراد في تلك المعركة خشية سيطرتهم على أراض إضافية من سورية على المساحات الفاصلة بين تركيا وسورية، وبالتالي إمكان تشكيل كيان كردي بجغرافية مستقلة، وبالتالي فهي لا تريد رؤية المقاتلين الأكراد الذين يُشكّلون غالبية «قوات سورية الديموقراطية»، فتعزيز نفوذ الأكراد في المنطقة جغرافياً وكيانياً يُثير قلق تركيا.
ورابعها، أن التضارب حول الدور التركي في المعركة، يُدخل معركة الرقة في حالة أكثر تعقيداً من معركة الموصل التي تشارك فيها تركيا بفعالية خلافاً للحكومة المركزية ببغداد، فتركيا تدعم فصائل معارضة تشن هجمات متواترة في شمال سورية ضد تنظيم «داعش» والمقاتلين الأكراد من كل الفصائل والمجموعات في الوقت ذاته، في حين يحظى المقاتلون الأكراد بدعم أميركا التي تعتبر تركيا حليفتها الإستراتيجية. ومقابل ذلك أعربت «قوات سورية الديموقراطية» أكثر من مرة عن رفضها وجود أي دور تركي في الهجوم على الرقة، وزاد على ذلك المتحدث العسكري باسم «قوات سورية الديموقراطية» طلال سلو بقوله: «اتفقنا بشكل نهائي مع التحالف الدولي على عدم وجود أي دور لتركيا أو للفصائل المسلحة المتعاونة معها في عملية تحرير الرقة».
وخلاصة القول، إن الولايات المتحدة، كما يعتقد كثير من المراقبين، بإعلانها «أن الأكراد هم القوة الوحيدة حالياً القادرة على مهاجمة الرقة» تختصر سعيها لتوفير غطاء لدعم فكرة اعتبار سورية دولة فيدرالية.
لا تجرؤ «حركة النجباء» على تصحيح اللغة العربية التي طبعها الإيرانيون على لافتات حملتها لتعلن عن قيام «لواء تحرير جولان» (المقاومة الإسلامية – حركة النجباء). كتب الإيرانيون «الجولان» من دون «ال» التعريف، فحمل مقاتلو «حركة النجباء» الذين أخفوا وجوههم بالأسود، كالنجباء ما كُتب لهم ليحملوه. وأطلقت الفيديوهات باسم «حركة النجباء» لصفوف من المقاتلين يحملون أيضاً لافتات تقول: «إسرائيل ستزول». ثم في الثامن من الشهر الجاري، عقد سيد هاشم الموسوي الناطق باسم الحركة، مؤتمراًّ صحافياً في إيران قال فيه، إن الوحدة الجديدة هي لمساعدة النظام السوري على استرجاع مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ حرب 1967. حمّل الموسوي الحكومة السورية اتخاذ القرار: «إذا طلبت الحكومة السورية فإننا وحلفاءنا على استعداد لتحرير الجولان». قبل أن «يتم التحرير بالكامل» من المؤكد أن «لواء تحرير الجولان» يرغب مستقبلاً في مشاركة النظام في استرجاع الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة في هضبة الجولان وغير الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي، قبل «أن تبدأ حركة النجباء وحلفاؤها بتحرير كل الجولان».
إن إطلاق لواء تحرير الجولان يعكس أولويات طهران في الجنوب السوري.
تشعر إيران بأنها مضطرة للتحدي، فذلك للتسويق الداخلي، ولدى حلفائها ممن تسميهم دول المقاومة والذين وصلوا حتى فنزويلا وكوبا، وتؤكد التزامها بمحاربة إسرائيل خصوصاً مع وصول إدارة جديدة إلى واشنطن، يعرف المراقبون أن تحجيم إيران هي المسألة الأهم التي تجمع أركانها من عسكريين وسياسيين.
لعبت «حركة النجباء» دوراً مهماً في مساعدة «فيلق القدس» من «الحرس الثوري الإيراني» والقوات الموالية للنظام السوري في سقوط حلب العام الماضي.
تتحرك الميليشيات الشيعية العراقية كامتداد لنفوذ إيران، وبعد أن أقسمت على الولاء الكامل للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، تسوق هذه الميليشيات آيديولوجيا ولاية الفقيه. تتلقى «حركة النجباء» أوامرها مباشرة من اللواء قاسم سليماني قائد الفروع الخارجية للحرس الثوري الإيراني- فيلق القدس. وكانت الحركة أعلنت العام الماضي وهي المعروفة أيضاً باسم «حركة حزب الله النجباء»، أنها و«حزب الله» اللبناني، يشكلان «توأم المقاومة».
زعيم الحركة أكرم الكعبي من أكثر المقربين للقيادة الإيرانية بمن فيهم المرشد الأعلى، شارك في تأسيس جماعة «عصائب أهل الحق»، التي هي في الأساس فرع من جيش المهدي. قال عام 2015 إنه إذا أصدر خامنئي الأمر فالكعبي على استعداد للمساعدة على الإطاحة بالحكومة العراقية. في أواخر العام الماضي فتح كبار المسؤولين الإيرانيين المقربين من خامنئي أذرعتهم لاستقبال الكعبي وأقاموا له احتفالات لم يحدث لها مثيل في السابق خلال استقبالهم لأحد أتباعهم من العرب. وفي شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي عممت «حركة النجباء» استقبال خامنئي للكعبي على هامش مؤتمر عقد في طهران.
ما كشفه الموسوي عن دور لواء تحرير الجولان أنه «لن يسمح لأي أرض عربية أن تبقى في قبضة المحتل».
لم يعد سراً أن إيران تريد أن تحصل على موطئ قدم على مرتفعات الجولان، هي بررت «تدخلها» في سوريا إلى جانب النظام بأنه للدفاع عن المزارات الشيعية، ومع ذلك قال رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي إن إيران تسعى لإقامة قواعد بحرية لها في اليمن وسوريا. وكان مسؤولون إسرائيليون أشاروا علناً إلى النفوذ الإيراني المتزايد في سوريا خلال السنوات الست من الحرب إما عبر قوات الحرس الثوري، أو المقاتلين الشيعة وبالذات «حزب الله». وقال آفي ديشتر رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاعية في الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) إن إيران حاولت عدة مرات العام الماضي نقل قوات إلى مرتفعات الجولان السورية: «وقد تم رصد كل التحركات». لكنه لم يسرد تفاصيل. حسب تقارير إعلامية تبين أن إسرائيل قصفت تحركات تقف وراءها إيران لنقل قوات إلى مرتفعات الجولان. وصار معروفاً أن قادة عسكريين إيرانيين يتحركون في الجولان السورية، ويعمد الإعلام الإيراني إلى نشر هذه الأخبار بعدما يكون القادة أنهوا زياراتهم. وكان زار القنيطرة في الجزء الجنوبي- الغربي من الجولان العميد الإيراني محمد رضا نقدي رئيس «منظمة تعبئة المضطهدين» المعروفة بـ«الباسيج» التي بدورها تخضع لأوامر الحرس الثوري الإيراني. لم يكشف الإعلام متى حصلت الزيارة، لكنه نشر صوراً للنقدي من القنيطرة في شهر يوليو (تموز) الماضي.
أما الحادثة المشهورة فقد وقعت في يناير (كانون الثاني) من العام 2015 عندما قصفت صواريخ مروحية إسرائيلية عدة أهداف في المنطقة، كان بينها وفد للحرس الثوري يضم العميد علي الله دادي يرافقه القائد الميداني لـ«حزب الله» محمد عيسى، وجهاد مغنية نجل عماد مغنية، وقد قتلوا جميعاً.
«حركة النجباء» تستمد بالتأكيد القوة المعنوية من الرعاية الإيرانية لها، لكن تبقى الهوة بين قدراتها الفعلية وطموحاتها لاستعادة الجولان واسعة جداً. منذ عام 1967 والنظام السوري «يعد» بالرد على إسرائيل في الوقت المناسب، ثم إن الحرس الثوري الإيراني، المحاط في الدول التي لإيران نفوذ فيها، بميليشيات تلك الدول التي أنشأها للحد من حرية شعوب تلك الدول، ليس نداً للجيش الإسرائيلي، ثم إن لإيران حسابات دقيقة جداً عندما يتعلق الأمر مباشرة بينها وبين إسرائيل. وهي قادرة على البقاء خلف مقولتها، إنها «لا تعتدي بل تخترق». ورغم كل اتهامات إيران و«حزب الله» بأن إسرائيل تقف وراء المنظمات التي تقاتل النظام السوري، نجحت إسرائيل في إبعاد نفسها عن الآثار المدمرة للحرب السورية، لا بل انصرفت إلى عقد الصفقات العسكرية والتقنية مع الصين والهند، مطمئنة إلى أن جبهاتها مع الدول العربية هادئة إلا من مناوشات «اضطرارية»، ومع هذا هناك إدراك داخل المؤسسات الأمنية الإسرائيلية بأن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار وأنه يجب على إسرائيل إعادة النظر في استراتيجيتها. هذه التهديدات الإيرانية، ومن قبل «حركة النجباء» و«حزب الله» تخدم إسرائيل كثيراً في علاقاتها الدولية خصوصاً مع الولايات المتحدة وروسيا، لذلك ليس مستبعداً أن تصبح أكثر اعتماداً على نهج استباق الأحداث. ورأينا مؤخراً قصفها لكل قوافل الصواريخ والأسلحة التي تحاول إيران تهريبها عبر سوريا إلى «حزب الله» في لبنان، وقد تعتمد إسرائيل هجمات مباشرة على الجولان السوري إذ قبل أيام قصفت شاحنة يقودها سوري وليس إيرانياً، والحجة ستكون دائماً لإحباط زحف الحرس الثوري الإيراني إلى الجولان.
إن هضبة الجولان مفتوحة وليست شبيهة بالجنوب اللبناني الذي توفر جغرافيته مكاناً مناسباً لإخفاء مواقع إطلاق الصواريخ. لم تكتف إيران بتحريك ميليشياتها العربية التي تشدها آيديولوجيا ولاية الفقيه، فاستضافت الشهر الماضي مؤتمراً لدعم الانتفاضة الفلسطينية، وكانت المفاجأة فيه كلمة غسان بن جدو مؤسس فضائية «الميادين»، إذ قال إن أقل نسبة مشاهدة تعاني منها البرامج التي تبثها فضائيته هي عن فلسطين.
وكما كان الوصول إلى فلسطين يستدعي مسؤولي فتح، أثناء حربهم في لبنان على القول: إن طريق تحريرها يمر عبر جبال صنين اللبنانية، هكذا نرى أنه منذ سقوط حلب وفي «طريقهم إلى فلسطين»، ركز الحرس الثوري الإيراني وميليشياته على قصف المعارضة السورية، وانتشرت قواته على جبهات في شمال ووسط وجنوب سوريا، وفي درعا حيث قتل الشهر الماضي عقيد في الحرس الثوري الإيراني.
على حساب أرواح السوريين وأرواح مقاتلي الميليشيات غير الإيرانية خصوصاً العربية والأفغانية، تأمل إيران في الحصول على موطئ قدم في الجولان بهدف ردع إسرائيل والولايات المتحدة، ويمكن لها، بالتالي التمهيد لحرب جديدة بين «حزب الله» وإسرائيل في لبنان.
وزير الاستخبارات عضو مجلس الأمن الإسرائيلي قدير كاتز قال لصحيفة «جيروزاليم بوست» يوم الاثنين 13 من الجاري: «حتى لو قصف (حزب الله) إسرائيل من سوريا، فإن الجيش الإسرائيلي سيدمر لبنان». فهل وصلت الرسالة إلى إيران؟!
قبلها استعرض صدام حسين مليون جندي قال إنهم لتحرير فلسطين وكان من أمره ما كان...