شكراً لأنطونيو غوتيريش، الأمين العام الجديد للأمم المتحدة، فقد ذهب إلى العراق. وزار 700 ألف لاجئ من عرب الموصل ينتشرون في العراء على حدود كردستان، فراراً من القتال الدائر بين القوات العراقية و«داعش» في الشق الغربي من المدينة.
جاءت الزيارة بعد تبادل الاتهام بين أميركا والعراق، حول الغارات الجوية التي أوقعت عدداً يتراوح بين ألفين إلى أربعة آلاف قتيل من المدنيين أخرجت جثثهم ممتزجة بشظايا أحجار من أنقاض أبنيتهم المقصوفة بقنابل الأعماق، بحجة الفتك بـ«الدواعش» المختبئين في الجحور التي حفروها في الأحياء القديمة.
انتهى الجدل بلا غالب ومغلوب. فقد تم الاتفاق على القول إن «داعش» تركت أمام الأبنية المقصوفة صهريجاً مليئاً بالمتفجرات. فانفجر بالقصف المتبادل. وانهارت الأبنية من شدة الانفجار! لكن المنظمة الدولية تطالب بتحقيق عادل أكثر جدية في تحمل المسؤولية أمام الإنسانية.
جرى التحضير لحرب الموصل منذ سنة. حشدت ألوية عراقية. وميليشيات شيعية بقيادات إيرانية. وميليشيات كردستانية. وباعت أميركا أحدث الطائرات من طراز إف 15 و16. في الهجوم، دُك شطرا المدينة المفصولان بنهر دجلة.
أين المفر أيها المدنيون؟ فالنهر أمامكم. والمتقاتلون بينكم. السؤال كيف رضي إنسانياً القادة العسكريون الشيعة لألوية الجيش العراقي بشن الهجوم، من دون أن يتأكدوا أولاً من إقامة حكومة بغداد لمناطق آمنة مجهزة بالإطفاء. والأدوية. والأغذية، كافية لإيواء مئات ألوف الموصليين المحاصرين الفارين؟
وهكذا، فحرب الموصل التي جرت بمشاركة أميركية صريحة، كانت حرباً مذهبية بكل معنى الكلمة بين السنة والشيعة. والهدف تماماً كما جرى في حرب حلب الشهيدة شقيقة الموصل: تفتيت الكتلة السكانية المدنية من عرب المشرق، تحت ذريعة القضاء على «إرهاب داعش» كما تدعي أميركا. أو بحجة «مكافحة الإرهاب» كما يزعم بشار الجعفري موفد بشار الطائفي لنسف محادثات جنيف (انتهت الجولة الخامسة من دون تقدم يذكر). وقاسم سليماني موفد خامنئي وفريدون روحاني، لتدمير سنة سوريا والعراق.
لا ننسى دور الأكراد (السنة) في كل مأساة تنزل بالعرب السنة في سوريا والعراق. فبعد استكمال سيطرتها على مدينة كركوك النفطية، لم تشارك «البشميركا» عملياً في حرب الموصل، كما تم الاتفاق بين مسعود برزاني وحكومة بغداد، إنما اتجهت إلى سهل نينوى الواسع في شمال المدينة، لتحتل القرى العربية هناك، معلنة أنها لن تنسحب منها.
أما أكراد حزب العمال الكردي في تركيا (المسجل إرهابياً لدى أميركا)، فقد أقاموا منطقة حكم ذاتي كردية في سوريا، تمتد بمحاذاة الحدود التركية من شرق الفرات إلى حدود العراق. وها هي أميركا ترمب، بعد أميركا أوباما، تزودهم بالدبابات، ليخوضوا حربها مرتزقةً لـ«تحرير» الرقة ودير الزور من «داعش». ولا يخجلون من الزعم بأنهم «قوات سوريا الديمقراطية» المطعمة بعربان مقاتلين معها!
أسمي الحروب الدائرة بأسمائها الطائفية والمذهبية، لكي يفهم ويدرك مئات ملايين العرب في المشرق. والمغرب. والخليج (العرب يعدون حاليا نحو 400 مليون إنسان)، أن هناك كتلة سكانية عربية (سنية) مؤلفة من 23 مليون سوري و15 مليون عراقي. وخمسة ملايين فلسطيني يجري تدميرهم. بالإبادة الجماعية. وطردهم وتهجيرهم من مدنهم وقراهم. واغتصاب ونهب أراضيهم الزراعية، فيما تقف حكومات عربية على «الحياد» و«عدم الانحياز»، في معركة حياة أو موت للعرب والعروبة في المشرق واليمن.
لا أغرب الشيعة عن العروبة، كما فعل صدام. شيعة المشرق العربي جرى خطفها من عروبتها في العراق. وسوريا. ولبنان، لخدمة مشروع الهيمنة الفارسية على المشرق. حزب الشيعة الذي أنشأته المخابرات الإيرانية في لبنان منذ 35 سنة. وقالت للعرب إن تسليحه يستهدف حماية لبنان من إسرائيل، ها هو يدمر الديمقراطية اللبنانية. ويذبح العرب السنة في سوريا.
كفانا سياسة! هناك 108 ملايين جائع في العالم، حسب تقرير أممي وأوروبي. هناك 17 مليون جائع في اليمن مهد «العرب العاربة» في لغة علم الأصول (علم الإثنية). ملايين السوريين جائعون في سوريا. ولبنان. والأردن. هناك عرب جائعون في الرقة. ودير الزور. لا يجدون مع أطفالهم عشاء يومهم.
احتلت القوات الشرعية اليمنية ميناء المخا على ساحل البحر الأحمر. لكن لم تتمكن بعد من الوصول إلى ميناء الحديدة الاستراتيجي. فقد استمات الحوثيون في الدفاع عنه، لتأمين وصول الأسلحة والصواريخ الإيرانية التي يقصفون بها مدن الحدود السعودية. وليس لتأمين وصول أغذية الإغاثة الدولية والعربية.
لنتذكر الإنسان والإنسانية. هناك عشرات ألوف السوريين الذين تحتجزهم المخابرات السورية في زنزانات أقبيتها القذرة المليئة بالقوارض والحشرات السامة. والجراثيم الفتاكة. مئات المعتقلين يموتون يومياً وأسبوعياً. ويدفنون في قبور جماعية مجهولة. وهناك ألوف محتجزون في معسكرات التنظيمات الدينية المسلحة التي تدعي أنها تطبق عليهم حكم العدالة الإسلامية. وتنفذ «داعش» و«جبهة النصرة» و«القاعدة» إعدامات يومية في سوريا. واليمن. وباكستان. وأفغانستان. والصومال.
نعم، لنتذكر الإنسانية. صار لضباط المخابرات الإسرائيلية أسماء معروفة. وهم لا يجرؤون على زيارة بلدان «صديقة» لإسرائيل، خوفاً من أن يطالب العرب بمحاكمتهم أمام العدالة المستقلة عن السياسة. وصار لضباط المخابرات السورية أسماء مشهورة عربياً ودولياً. مع ذلك يجري إرسالهم بمهمات دبلوماسية إلى روسيا. والصين. بل لدول عربية. وهم مطلوبون للعدالة، بموجب مذكرات تحقيق أو توقيف من الشرطة الدولية (الإنتربول). فلماذا لا تعتقلهم الدول المضيفة لهم. وتسلمهم إلى العدالة الدولية؟
«الفيتو» الدولي الذي تستخدمه بكثرة روسيا. والصين. وأميركا، يحمي هؤلاء المجرمين. لماذا لا يشكل الأمين العام للأمم المتحدة لجنة دولية، لتعديل ميثاق الأمم المتحدة، ولوضع حد لاستخدام «الفيتو»، على الأقل لحماية حقوق الإنسان، إذا كان مستحيلاً إلغاؤه لأسباب سياسية؟
التقطت فتاة سورية تعمل في إسبانيا، بالمصادفة، صورة لشقيقها الذي قتلته المخابرات السورية، منشورة على الإنترنت. فأقامت دعوى أمام القضاء الإسباني على كبار جنرالات المخابرات السورية، وبينهم المجرم المشهور علي مملوك. لا علاقة للعدالة بالسياسة. فقد قبل القضاء الإسباني الدعوى. ويعد حالياً ملفات لهؤلاء المجرمين، لملاحقتهم في إسبانيا وأمام المحاكم الدولية.
أوشكت محكمة الشهيد رفيق الحريري على إصدار حكمها بالتفصيل، بأسماء المدانين. وحيثيات الإدانة. واغتال الجناح الاستئصالي في النظام السوري زعماء لجنة «إدارة الأزمة». فأعلنت المعارضة الدينية المسلحة أنها هي التي اغتالتهم. فقوضت بسذاجة الفرصة السانحة لاتهام النظام دولياً بارتكاب الجريمة.
ثم أجبر النظام فاروق الشرع. ومن لف لفه من الخانعين وأركان النظام على تشييعهم ومواساة أهاليهم. ولم يصدر التحقيق إلى الآن في مقتل العماد حسن تركماني. والعماد داود راجحة، وزيري الدفاع السابقين. والعماد آصف شوكت نائب وزير الدفاع، وزوج بشرى شقيقة الدكتور «أبي لمعة الأصلي» رئيس النظام.
شون سبايسر، المتحدث باسم البيت الأبيض، ألقى قنبلة مدوية، «بالنسبة للأسد، فإنه يوجد واقع سياسي علينا القبول به». السبب؟ أنه توجد للولايات المتحدة أولوية أهم، ألا وهي محاربة تنظيم داعش في العراق وسوريا. هذا التبرير الرسمي للمتحدث الرئاسي الأميركي.
في الواقع، الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بإعلانه الخطير هذا، لم يخرج عن خط تعهداته التي أعلنها خلال حملته الانتخابية. حينها انتقد ترمب سياسة سلفه الرئيس باراك أوباما لأنه ترك إيران تستولي على العراق وإيران، لكنه قال إنه عند توليه الرئاسة سيركز على محاربة التنظيمات الإرهابية بالتعاون مع الروس. عملياً، اليوم ينفذ ما قاله حرفياً بالأمس.
السؤال الصعب كيف يستطيع ترمب محاربة النفوذ الإيراني و«داعش» وفي الوقت نفسه يتعاون مع نظام دمشق؟
قبل الحرب الأهلية في سوريا كانت علاقة دمشق بنظام طهران استراتيجية، وتسببت في تدهور علاقة نظام الأسد بدول معسكر الاعتدال، مثل الخليج ومصر آنذاك. كما أن الولايات المتحدة التي كانت غارقة في أزمتها في العراق، بعد الاحتلال، اتضح لها أن إيران استخدمت سوريا كمركز استقبال الإرهابيين من أنحاء العالم وتأهيلهم للقتال في العراق تحت علم «القاعدة» طوال ست سنوات دامية.
ومنذ بداية الانتفاضة في سوريا كانت معظم دول الخليج راغبة في تفاديها، لولا أن دمشق فضلت الطريق الصعب؛ التعاون مع إيران لمواجهة الانشقاقات الواسعة ومحاربة المعارضة المسلحة. والحقيقة فشل دعم إيران العسكري في إنقاذ النظام، وما كان له أن ينجو إلى هذه المرحلة الحالية، أو ما سماه سبايسر بالواقع السياسي الجديد، لولا التدخل الروسي الضخم عسكرياً. روسيا، وليست إيران، هي التي أعطت دمشق قبلة الحياة سياسياً وعسكرياً. وإذا قبلنا بهذه الحقيقة، فإنه ينبغي على النظام السوري أن يقبل بها أيضاً. إيران هي المشكلة بالأمس وهي المشكلة غداً، وإيران سبب نزاع دمشق مع دول المنطقة العربية التي هي في حالة دفاع عن نفسها ضد التمدد العدائي والتخريب الإيراني الذي لم يتوقف. هذا النزاع العربي مع نظام آية الله، لا علاقة له بالخلافات العربية مع نظام بشار الأسد الذي لم يحسن إدارة علاقاته مع الدول العربية بخلاف ما كان يفعله الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي أبقى على شعرة معاوية مع الجانبين، وكان وسيطاً إيجابياً في كل الخلافات بين ضفتي الخليج العربية الإيرانية.
من المحتمل أن تتحول الدول الخليجية نحو التعامل بإيجابية مع «الواقع السياسي الجديد»، وهو الأمر الذي سبقته إليه تركيا منذ عزل أحمد داود أوغلو وتعيين بن علي يلدرم رئيساً للوزراء. هنا السؤال الأول، هل يرغب نظام دمشق في إنهاء الوجود العسكري الإيراني من على أراضيه أم لا؟ والسؤال المكمل له، هل حقاً يستطيع لو قرر التخلص من فيلق القدس الإيراني، وميليشياته اللبنانية والعراقية والباكستانية والأفغانية، التي تقدر مجتمعة بنحو خمسين ألفاً على الأقل؟
الرغبة في حل سياسي للأزمة السورية هو مشروع المعارضة السورية منذ أكثر من ثلاث سنوات، منذ أن اتضح أن أياً من الطرفين لن يكسب الحرب بقوة السلاح. الخلاف كان، ولا يزال، يدور على صيغة الحل ويمكن أن نقول اليوم إنه فشل، فالأسد استأثر بكل شيء، أو يظن أنه كذلك. إنما الحقيقة أن سوريا صارت إناءً مكسوراً، ولنرَ كيف يستطيع إصلاحه سياسياً وإدارياً وأمنياً دون دعم الدول العربية المعتدلة.
المعادلة الصعبة المقبلة، في حال تم الاتفاق على بقاء نظام الأسد، هي في إخراج إيران من القصر الرئاسي في دمشق. باستمرار نظام آية الله يسيطر على مفاصل الدولة السورية أتوقع أنه لن تشهد سوريا استقراراً مهما أجمعت قوى العالم، ولا أقول هذا من باب الإنكار الأخلاقي على ما يحدث، بل أيضاً لأن الواقع السوري نفسه أكبر من إيران وروسيا ونظام دمشق. الواقعية تتطلب فهم هذا الجانب، وهو أن وجود إيران وميليشياتها على الأرض السورية سيفشل أي اتفاق يوقعه أي فريق.
المواقف الأميركية الأخيرة من أزمة سورية ليست مفاجئة. الجديد فيها أنها كشفت صراحة السياسة التي تنهجها الإدارة الجديدة. وكان على قوى المعارضة أن تتوقع ذلك بدل الانتظار أو الرهان على توجهات مغايرة. الرئيس دونالد ترامب قال في إحدى حملاته الانتخابية إن النظام في دمشق يحارب «داعش» فلماذا يقاتله؟ وردد عشية الانتخابات الرئاسية أن الحرب على التنظيم الإرهابي أولوية تتقدم على «اقناع الأسد بالرحيل». وهذا ما كررته مندوبته لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي: «لم تعد إزاحة الأسد أولوية». وكان وزير خارجيته ريكس تيلرسون أكثر صراحة: الشعب السوري يقرر وضع الرئيس «على المدى البعيد». إنه موقف الإدارة السابقة. بل هو موقف لم يكن طوال السنوات الست الماضية قريباً إلى هذا الحد من موقف روسيا. لعل هذا ما سمح للرئيس فلاديمير بوتين بأن يتحدث عن تعاون فعلي بين البلدين «يتحسن ويتعمق في بعض المجالات الحساسة مثل سورية». بالتأكيد إن الحرب على الإرهاب هي أولوية الدولتين. ولا شك في أن القوات الروسية تراقب الآن كيف سيثمر الانخراط الأميركي العسكري المتنامي في معركة الرقة. كأنها تترك المعركة للأميركيين كما كانت لها معركة حلب. لكنها لا تخفي رغبتها في عودة «عاصمة الخلافة» إلى حضن الشرعية.
التفاؤل بإمكان تعميق التعاون مع واشنطن الذي يبديه الرئيس بوتين قد لا يقود إلى تغييرات جذرية في الواقع القائم. تركت له مواقف إدارة ترامب الساحة السورية، ما دام أن التفاهم على صفقة شاملة لكل القضايا العالقة بين البلدين تبدو بعيدة. فهو يدرك أن ما كان يأمل به من انفتاح وتغيير مع قدوم الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض تعترضه عراقيل جمة. ليس بينها وجود جنرالات صقور يعارضون مثل هذا الانفتاح فحسب. بل أيضاً «قضية» التدخل الروسي في الاستحقاق الانتخابي الأميركي والاتصالات بين رجال ترامب ومسؤولين روس. وهي تشهد تطورات يومية تشغل عامة الأميركيين وليس المسؤولين في الكونغرس والقضاء وحدهم. وتضغط على الإدارة الجديدة وتحد من خياراتها الخارجية. لذلك لا تعول موسكو كثيراً على تعاون قريب يدفعها إلى تعديل جوانب في سياستها حيال سورية. بل هي كانت أصلاً ولا تزال تستعجل ترسيخ أوضاع تراعي مصالحها في هذا البلد لتفرض مشروعها للتسوية ورؤيتها هي في أي تعاون أو تواصل مع جميع المعنيين بالصراع القائم في بلاد الشام.
مواقف واشنطن يجب ألا تشكل مفاجأة للمعارضة السورية. فقد سمعت هذه طوال سنوات الأزمة سؤالاً واضحاً من المسؤولين الأميركيين عن البديل من الرئيس بشار الأسد. كانوا يعبرون صراحة عن قلقهم من « اليوم التالي» بعد إزاحته. هذا القلق شاركهم فيه كثير من القوى وليس روسيا وحدها. بل ثمة دول عربية راودتها مخاوف -خصوصاً بعد الخلل في ميزان القوى- من أن يكون البديل إيرانياً، أو في أحسن الأحوال قائداً ميدانياً من القوى الإسلامية التي تبدو الأكثر نشاطاً وفاعلية في الحرب الدائرة. ولا نقصد المعارك التي اندلعت أخيراً في دمشق وريف حماة. فلن تحقق هذه نتائج تبدل في ميزان القوى، وإن تركت نوعاً من المفاجأة أو الصدمة في أوساط النظام وحلفائه. الحضور الروسي لن يسمح بتغييرات ميدانية. وهو شارك ويشارك في منع تحقيق أي مكسب للفصائل. لذلك بدا كأن ثمة تسليماً في أوساط قوى كثيرة مناوئة لإيران بدور موسكو وقواتها في بلاد الشام. يرون إلى هذا الدور أقل خطراً من حضور الجمهورية الإسلامية. فلا يضير عرباً كثيرين وجود روسيا في بلاد الشام. كان هذا الوجود حاضراً طوال عقود. ولا طائل من سعي بعض أطياف المعارضة أو عزمها على استيضاح الإدارة الأميركية ما جاء في تصريحات ديبلوماسييها. مثلاً ماذا يعني الوزير تيلرسون بقوله إن الشعب السوري يقرر مصير رئيسه «على المدى البعيد»؟ ما هو المدى البعيد، متى؟ في الانتخابات التي نص عليها القرار 2254 أو حتى نهاية ولايته؟ وماذا بعد «أولوية محاربة داعش»؟ بل ماذا بعد القضاء على التنظيم الإرهابي؟
الحرب على الإرهاب هو ما يعني إدارة ترامب. لا تبدي أي أهتمام بالتسوية على غرار ما فعل أوباما ووزير خارجيته جون كيري. ولا تقتصر حربها على الرقة وحدها. لذك جاءت ضغوط «السي آي إي» على الفصائل المعتدلة في الشمال السوري، في إدلب وريفها، كي تلتئم في جسم واحد أو تحت قيادة موحدة للتنسيق في أرض الميدان. والهدف الأول بالطبع قتال «هيئة تحرير الشام» التي تضم في من تضم «النصرة» وما شابهها. لكن ما يقلق هو المرحلة التالية للقضاء على التنظيمات الإرهابية. وهذا ما أزعج تركيا التي تعبر عن خيبتها يومياً من اعتماد الأميركيين على الكرد. وهذا ما عبر عنه ديبلوماسيون عرب شاركوا في قمة البحر الميت الأسبوع الماضي. أكثر ما يخشاه المعنيون بوحدة سورية أن يصبح قيام الكانتونات أمراً واقعاً لا مفر منه. وقد يجر إلى تعميم التجربة على المشرق العربي برمته. لا أحد يتوهم، ولا حتى الروس أنفسهم يعتقدون بأن نظام الأسد قادر على حكم سورية كما كانت الحال قبل اندلاع الأزمة. همهم، على ما يقولون أن تبقى سورية للسوريين وليس لإيران أو تركيا. وأن يبقى النظام علمانياً فلا تنجر البلاد إلى كانتونات مذهبية متحاربة. لذلك قدموا مشروع دستور يقترب من الفيديرالية بقدر ابتعاده عن المركزية وحصر معظم الصلاحيات بيد الرئيس. ويخشى الحريصون على وحدة سورية أن يتكرس الأمر القائم اليوم. فجبهة الجنوب تشكل منطقة استقرار بناء على تفاهم روسي - أردني - إسرائيلي - أميركي نجحت عمان في نسجه. وكذلك الأمر في الجبهة المحاذية للجولان التي تخضع لتفاهم بين إسرائيل وروسيا. وكانت لتركيا حصتها في جرابلس والباب، وإن لم تر إليها كافية. فهي إلى حد ما منطقة استقرار بديلاً من تسميتها «منطقة آمنة». ويجهد الروس إلى حماية الكرد في عفرين ومحيطها غرب الفرات حيث يسعى الأميركيون إلى تطهير هذه المنطقة من «النصرة» واشباهها. وإذا قيض للكرد «حكم ذاتي» في الشمال الشرقي لسورية تكون لهم مناطق النفط والزراعة. تكون لهم ثروة البلاد!
تدرك روسيا أن تعزيز حضورها في سورية لا يستدعي مواجهة مكشوفة مع إيران ومشروعها في هذا البلد. بل هي تسعى إلى تعزيز علاقاتها معها، خصوصاً أن هذه تحتاج إلى القوة الروسية لحماية النظام. وبدل أن تنتظر موسكو بلا طائل التفاهم مع واشنطن، تنصرف إلى تفاهمات مع دول الإقليم، من تركيا إلى إسرائيل والأردن ومصر وغيرهما من قوى عربية، تراعي مصالح هذه وحضورها في مناطق نفوذ محددة. ولكن لا غلبة لطرف على طرف. وهذا كاف باعتقادها لقيام مناطق مستقرة وإن شاب البلاد شيء من التقسيم والتفتيت. فيما تبقى الكلمة العليا والأولى لها دون الآخرين. في مقابل هذه السياسة الواضحة للكرملين، ثمة شكوك في أن يكون لإدارة ترامب سياسة واضحة أو متماسكة حيال مرحلة ما بعد الرقة وإدلب. وإلا ما معنى غيابها عن جولات جنيف وعدم اهتمامها بأي حديث عن تسوية سياسية؟ ستكون روسيا مرتاحة إذا رفع العلم السوري في الرقة وإدلب، كما هي الحال في القامشلي والحسكة وغيرهما من مناطق الكرد. الصورة تبرز، وإن شكلياً، وحدة البلاد ووجود النظام، أياً كانت القوى الفعلية على الأرض. لكنها بالتأكيد كانت تفضل دوراً سياسياً للولايات المتحدة يكون منطلقاً إلى تفاهمات أوسع وابعد من سورية. لكن «مبايعة» ترامب موسكو في سورية تركت كرة النار بيدي بوتين، وحرمته من ورقة مساومة.
بعد هذه المواقف الأميركية الجديدة القديمة، لا ينفع قوى المعارضة انتظار ما سيؤول إليه الصراع المقبل بين إدارة الرئيس ترامب وإيران. أو الرهان على مفاوضات في جنيف لن تثمر تسوية قبل القضاء على الإرهاب. وقبل جلاء الصورة كاملة في الولايات المتحدة. ولا يمكنها أن تراقب الحرب على «داعش» فقط. أو أن تشارك فيها فحسب. هل تجترح معجزة فتبادر إلى توحيد صفوفها تحت قيادة سياسية وعسكرية تشكل عنواناً لا بد منه لجميع اللاعبين في الميدان السوري، ويقدم بديلاً مقنعاً إلى هؤلاء وإلى جميع السوريين الراغبين في التغيير؟ المواجهة الأميركية مع إيران لن تأتي بالحل. ستكون أكثر تعقيداً. وقد لا تقتصر على الطرفين وحدهما. بل إن قوى عربية شاركت في القمة أخيراً تخشى أن تلجأ الجمهورية الإسلامية إلى خوض مواجهة شاملة في كل الإقليم، إذا شعرت بأنها ستواجه مزيداً من العقوبات أو قد تخسر الاتفاق النووي. بالطبع لا ترغب طهران في الحرب ومثلها واشنطن والآخرون. يبقى منطق التسويات أقل كلفة وإيلاماً من أي حرب... هذا إذا لم تتطور «قضية» تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية إلى فضيحة تمهد لإطاحة الرئيس ترامب!
توقفت الحركة بشكل كامل في أحد شوارع لوس أنجلوس قبل 3 أعوام تقريباً بسبب بطة.. انتهى الخبر
قُتل 100 مدني وأصيب 400 بسبب غاز السيرين الذي استخدمه الأسد وروسيا على مدينة خان شيخون في إدلب بسوريا.. لم ينته الخبر.
البطة التي أوقفت حركة الشارع في واحدة من أكثر دول العالم ازدحاماً، أصبحت بطة شهيرة فجأة، وسائق السيارة الذي انتبه لها وأوقف سيارته خوفاً من أن يقتلها تحت عجلات سيارته، وأوقف كل السيارات المارة حينها، أصبح الشخصية الأشهر على الإعلام لأيام وأيام عام 2014، فالملاك الذي لم يدهس البطة أمريكي، والبطة حيوان يستنشق الهواء الأمريكي المقدس، والإعلام الفارغ يؤدي دور البطولة بتحويل الحدث إلى حديث الشارع والعالم ووكالات الأنباء، وإن كان ثمة أحد غير مصدق، فليكتب على غوغل "بطة، لوس أنجلوس"، وليرى بعينيه عدد الفيديوهات والمواقع العربية والغربية التي ستظهر له كنتيجة للبحث.
حسناً.. الخبر الثاني لن يعيش أكثر من ساعة على المواقع العربية والغربية، وما سيمد بعمره لن يكون أكثر من إنكار روسيا والأسد ببيانات أو تصريحات رسمية، وسينشغلون أكثر بكلام المتحدث بوازارة الدفاع الروسية حول اتهام وكالة رويترز بالكذب لأنها ضمّنت خبرها عن الغارات الكيمياوية حقيقة ان روسيا والنظام قاما بالمجزرة الكيمياوية، وأما أولئك الـ100 مدني سوري و400 مصاب مدني سوري، فلن يستطيعوا الحصول على نسبة الثلث وربما العشر من الاهتمام.
نسي العالم خطوط أوباما الحمراء الحمقاء، وانشغل أكثر بتصريحات ترامب الهستيرية، وأما عن الأسد وروسيا فانتشيا بتصريحات تلك الإدارة الجديدة حول عدم بقاء هدف إزاحة الأسد من أولويات أمريكا، رغم أننا نعرف أن ذلك لم يكن من أولويات الإدارة السابقة، ولكن الفرق الوحيد أن أوباما تلاعب بالكلام بينما ترامب كان واضحاً بموقفه، رسالته مباشرة "فليمت كل السوريين.. لن يهتز لي جفن، ولتذهب ادعاءات حقوق الإنسان إلى الجحيم".
وسارعت باريس للحاق بأمريكا، فصعد اليمين المتطرف وتصاعدت معه التصريحات اللامبالية بأرواح السوريين، فقفز وزير الخارجية الفرنسي إلى الواجهة عندما ضرب بكل المبادئ التي تتغنى فيها فرنسا حول حقوق الانسان عرض الحائط، وأعلن أنه "لا يجب التركيز على مصير بشار الأسد للتوصل إلى اتفاق سلام في سوريا".
لا ننتظر كسوريين عدالة من البشر، فالبشر الذين ينتمون للعالم المتحضر يمكنهم أن يتعاطفوا مع البطة، ومع كلب، ومع قطة، ومع كل الحيوانات، ولكنهم يشيحون بنظرهم عن 100 مدني سوري قتلوا اختناقاً، ولا يحاولون تشغيل فيديوهات انتشرت لأطفال فتحوا أعينهم قبل أن يختنقوا.
علينا كسوريين أن نعتذر منكم يا سادة، اعذورنا على موتنا الذي صدّع رؤوسكم، اعذرونا لأننا صدقنا كذبة حقوق الإنسان، اعذرونا لأننا لا نزال نموت على الهواء مباشرة منذ 6 سنوات، اعذرونا لأن داعش الذي ابتدعتموه أنتم وزرعتوه في بلدنا يقتلنا ويصلبنا، اعذرونا لأننا تحولنا لبشر نكره العالم، ولأننا لا نرتجف عندما يدهس سائق مجنون بضعة أشخاص في عالمكم المتحضر، ولأننا لن نبكي على قطة ماتت على قارعة الطريق.
نعتذر منكم، لأننا فقدنا مدننا، وهدمت بيوتنا، وتحولنا ليتامى وثكالى، ونعتذر منكم لأننا ننشر فيديوهات موتنا ونخدش مشاعركم، ونعتذر منكم لأننا نحمل جنسية ملعونة لأن ثمة هولاكو يحمل نفس الجنسية قرر وساعدتموه على إحراق الأخضر واليابس..
اخلعوا عنا تلك الجنسية يا سادة، ولن تسمعوا صراخنا بعد اليوم.
اقتلونا جميعاً ولن نضجركم بموتنا بعد اليوم، وأما خان شيخون شهيدة اليوم، فعليها أن تعتذر من الإعلام العربي والغربي، لأنها اقتحمت الأخبار واحتلت قنوات الأخبار.
ثمة وهم قاتل يتكوم الآن في عقل الإدارة الأميركية بخصوص الكارثة السورية٬ خلاصته٬ نحن لا شأن لنا ببقاء أو رحيل بشار الأسد ونظامه٬ ليست أولوية٬ المهمة الأميركية الرئيسية في سوريا٬ والعراق طبعا٬ هزيمة «داعش»... وبس!
وهم قاتل لأنه يختزل الأزمة بتسطيح مدمر٬ فبشار بنظامه٬ ليس مجرد عمدة بلدية٬ يأتي بالانتخاب٬ في كوبنهاغن أو سان فرنسيسكو٬ ويرحل بالانتخاب.
بشار الأسد بنظامه٬ معدن الفتنة٬ مصدر التطرف٬ منبع الطائفية٬ رحم التوتر٬ مصنع الأزمة٬ مغناطيس الإرهاب العابر للحدود.
رحيله أو ترحيله٬ هو المدخل الوحيد٬ لتطهير الجرح السوري المتقيح٬ تمهيدا للجراحة الصحيحة٬ فالنقاهة.
لولا بشار٬ حسن نصر الله٬ قاسم سليماني٬ قيس الخزعلي٬ مصطفى بدر الدين٬ جواد مغنية٬ طلال حمية٬ وأمثالهم من القتلة الطائفيين الشيعة٬ لما وجد العدناني والجولاني والبغدادي. لولا التدخل الروسي الجلف٬ لما تشكلت ألوية تحمل أسماء من التاريخ الساخن لبلاد الشام مثل الزنكي وصلاح الدين وغيرهما.
لذا فكلام المتحدث باسم البيت الأبيض شون سبايسر بتأييد تعليقات وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون٬ والسفيرة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هيلي٬ حول عدم اهتمام إدارة الرئيس ترمب بمصير بشار الأسد٬ هو مدخل واضح لتجذير الكارثة السورية الأمنية٬ قبل الإنسانية والسياسية.
وزير الخارجية الأميركي تيلرسون كان قد قال٬ أنار الله بصيرته! إن «الشعب السوري هو من سيقرر مستقبل الأسد». نفس كلام بشار عن نفسه!
السيناتور الجمهوري٬ جون ماكين٬ نقض هذا «الهراء» السياسي فقال بسخرية مرة: «إن السوريين لا يمكنهم تقرير مصير الأسد بينما هو ماض في ذبحهم».
فرح أنصار بشار ونصر الله وخامنئي وبوتين٬ بهذا الموقف الأميركي الجديد٬ كل على طريقته وثقافته٬ من هؤلاء٬ اللواء اللبناني الذائب في بشار٬ جميل السيد٬ فغّرد بتويتر: «أميركا: لم يعد يهّمنا إسقاط الأسد! ما رأي عملاء أميركا الصغار والكبار في لبنان والمنطقة؟!».
حتى لو أراد الغرب٬ بقيادة واشنطن٬ اختصار المعضلة السورية بملف أمني واحد هو «داعش»٬ فلن يفلح القوم في هزيمة «داعش»٬ وهم يصنعون المناخ الملائم لولادة دواعش أخر.
يعني حتى من باب الأمن٬ يجب إشعار الطرف السوري المقهور من ماكينة الإجرام الأسدية والإيرانية والروسية٬ أن العالم الغربي المتحضر يتفهم مأساته ويناصره فيها٬ حتى تكسب الحرب الأميركية ضد كل الجماعات المتأسلمة المسلحة «حضنا» شعبيا سوريا.
واضحة القصة!
سيكتشف تيلرسون ومعه نيكي هيلي تحدثت مؤخرا بالأمم المتحدة عن حقوق الشعوب «المغدورة» أن القصة ليست حنقا شخصيا ولا مؤامرة على «المقاوم» بشار... بل سعي لإنقاذ المشرق والعالم من «قدر» خطير.
على الرغم من أنّ المفاوضات بين كل من أحرار الشام وجبهة تحرير الشام من جهة، والإيرانيين من جهة أخرى، في ما يتعلق بمبادلة سكان كفريا والفوعة في ريف إدلب بسكان الزبداني، في ريف دمشق، ليست جديدة، وقد كان هنالك اتفاق قبل قرابة عام لم ينفذ بين الطرفين، إلاّ أنّ توقيت عودة الإيرانيين إلى محاولة تنفيذ الصفقة يكشف جانباً مهماً من جوانب مشروعهم في سورية، وهو الهندسة الطائفية الديموغرافية.
ليس الحديث عن عملية التطهير الطائفي جديداً أيضاً، فقبل هذه المفاوضات، كان السلوك الإيراني بأسره في سورية يقوم على البعد الطائفي في الإحلال والاستبدال السكاني، إذ تم ترحيل سكان داريا، وبعض المناطق في ريف دمشق وبعض أحيائها، باتفاقيات مع المقاتلين السنة، بعد عملية تجويع وحصار وتدمير طويلة، وكذلك الحال في ما يتعلق باتفاق حي الوعر في حمص، بعد أن تم تهجير أغلب سكان المدينة السنة منها.
الجديد في المفاوضات الحالية، أنّ المنظور الإيراني أكثر سفوراً ووضوحاً فيها، إذ يتم مبادلة سكانٍ بأرض على أسسٍ طائفية، ما يكشف، في الجانب الآخر، التباين والاختلاف بين الأجندتين، الروسية والإيرانية، وحرص طهران على تثبيت نفوذها وقوتها عبر وقائع وحقائق جديدة على الأرض، لا يستطيع الروس أنفسهم تجاوزها، في حال توصلوا إلى تفاهماتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ مع الأميركيين على الأرض، ولا حتى النظام السوري، إذ إنّ السكان الجدد في سورية الجديدة، من أنصار حزب الله في لبنان وعائلاتهم، أو حتى من الجنسيات الأخرى، إيرانية وأفغانية وغيرها، يدينون بالولاء الكامل لطهران.
ليس ذلك فحسب، بل حتى عسكرياً تقوم طهران ببناء مليشيات في سورية، وتسليحها وتشكيلها، على غرار حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي، بما يشكل قوةً ضاربةً على أرض الواقع، تعمل على ضمان مصالح طهران في سورية.
ليس الروس أغبياء، يدركون تماماً أن طهران التي دفعت كلفةً كبيرةً في سورية خلال الأعوام السابقة، مالياً وعسكرياً، لن تتخلى عن ذلك بسهولة. لذلك، سيتعايش الروس مع الأجندة الإيرانية في سورية، ويعملون على توزيع الأدوار وتنسيق المصالح المتبادلة، مع أخذ حصتهم من الكعكة التي سيكون الجزء الأكبر منها للإيرانيين في المناطق التي يسيطرون عليها مع النظام السوري.
يتمثل حلم طهران لتكريس نفوذهم في المنطقة في بناء خط استراتيجي من إيران إلى البحر المتوسط، مروراً بالعراق وسورية، وهو الخط الذي سيعتمد على عملية الهندسة الطائفية الجارية حالياً في دمشق وحمص، وصولاً إلى اللاذقية، وتواصل نفوذ حزب الله من لبنان إلى سورية.
نشرت صحيفة الغارديان، أخيراً، تقريراً صحافياً مطولاً عما تقوم به إيران حالياً من عملية تطهير طائفي في سورية، ومشروعها الذي تحدثنا عنه، وتحدّث التقرير عن التغييرات الجوهرية في هوية العاصمة دمشق نفسها ثقافياً من خلال حضور الرمزيات الشيعية والتغييرات السكانية.
هذا الاكتشاف الجديد، وللمفارقة، الذي يتزامن مع مفاوضات الزبداني- كفريا الفوعة، كان قد تحدث عنه سابقاً في مقال خطير مطوّل، المعارض السوري، برهان غليون، وعلى صفحات "العربي الجديد"، عندما كشف عن جوهر مخططات إعادة الإعمار في حمص ودمشق، التي تقوم أصلاً على مفهوم الهندسة الطائفية.
وجه المفارقة في الأمر أن غليون نشر مقالته في بداية سبتمبر/ أيلول 2015، في أثناء المحادثات الأولى بين حركة أحرار الشام والإيرانيين حينها حول الصفقة نفسها، الزبداني- كفريا الفوعة. وحينها تم تسريب بنود الاتفاق الذي رجحت التحليلات بعد ذلك أن النظام السوري، الذي لم يكن حاضراً خلال المفاوضات حينها، قام بتعطيله بطرق التفافية مختلفة، لكن تجديد الإيرانيين الحرص عليه يظهر بوضوح ثبات موقفهم وإصرارهم على رؤيتهم لمستقبل سورية، على الرغم من التدخل الروسي، والتحولات والمتغيرات الجارية، والإدارة الأميركية الجديدة.
في المحصلة، في جوار الأجندات الدولية والمفاوضات السياسية في جنيف وأستانة، هنالك مفاوضاتٌ أخرى، لا تقل أهميةً، بل تزيد، حول الترسيم الحقيقي لهوية سورية ومستقبلها ودوائر النفوذ.
قرار تركيا إنهاء معركة "درع الفرات" نابع من أن مرحلة التمدّد العسكري انتهت، وأن أنقرة أخذت حصتها الجغرافية الكافية لحماية مصالحها القومية العليا في سورية، وفق قراءة صناع القرار في الكرملين والبيت الأبيض. لكن الأتراك المحكومين بموازين القوى المفروضة من موسكو وواشنطن غير راضين عما تم تحقيقه في ضوء تنازلات أنقرة لموسكو، سواء في حلب أو في ما يتعلق بالهدنة العسكرية التي ما زال النظام السوري يخرقها أمام أعين الكرملين.
صحيح أن "درع الفرات" حققت هدفها في دحر تنظيم الدولة الإسلامية من الحدود التركية، لكنها لم تحقق أهدافها كاملة في ما يتعلق بـ"وحدات حماية الشعب الكردي"، فمنطقة "درع الفرات"، من جرابلس، شمالي شرق حلب، إلى أعزاز في الشمال الغربي، إلى مدينة الباب في الجنوب، استطاعت تحقيق فصل جغرافي بين عفرين في الغرب، ومنبج وعين العرب ـ كوباني في الشرق، أي أنها نجحت في شطر مناطق سيطرة الوحدات الكردية شرق الفرات، لكنها فشلت في فصل مناطق الهيمنة الكردية بين شرق الفرات وغربه، إذ لم تستطع تركيا إجبار الوحدات الكردية على مغادرة منبج أو عين العرب ـ كوباني وعبور النهر نحو الشرق.
موسكو وواشنطن متفقتان على لجم الاندفاعة التركية في سورية لأسباب تتجاوز المسألة الكردية، إنها متعلقة بعدم رغبة العاصمتين بمنح تركيا أراضي واسعة ووجودا عسكريا يهدّد مخططاتهما، خصوصا أن الرؤية الاستراتيجية التركية تتباعد عن الرؤيتين الأميركية والروسية، وإن بدتا متحالفتين في الظاهر.
وقد كشفت زيارة وزير الخارجية الأميركي، أخيرا، إلى أنقرة حدود التباين بين الطرفين في الشمال السوري، كما كشف التوجه الروسي سابقا نحو عفرين، وتسليم مناطق سيطرة الأكراد لقوات النظام، غياب الثقة بين روسيا وتركيا.
قد تنجح أنقرة عبر دبلوماسية الخطوة خطوة في إنجاز تفاهم سياسي مع موسكو وواشنطن حول الشمال السوري، لكن مثل هذا التفاهم لا يلبي سوى الحدود الدنيا من مطالب الأتراك. وأمام فقدان أنقرة أوراق ضغط على العاصمتين، بدأ صناع القرار في تركيا باعتماد سياسة الاختراق من الخلف، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولا: تشكيل تحالف يجمع قوى عربية فاعلة على الأرض لمواجهة هيمنة الوحدات الكردية، وقد بدأت أنقرة هذه الخطوة منذ منتصف شهر مارس/ آذار الماضي، حين جمعت في مدينة أورفة التركية قرابة خمسين عشيرة ممتدة بين الرقة والحسكة، لتشكيل جسم عشائري، ومن ثم عسكري. وليس معروفا مدى النجاح التركي في استقطاب هذه العشائر في ظل حالة التذرر التي ضربت مجمل العشائر السورية، بين مؤيد للنظام وآخر معاد له، وبين من هو متحالف مع الوحدات الكردية ومن يبحث عن مساراته الخاصة.
وإذا ما فشلت هذه العشائر لأسباب متعددة في تشكيل جسم عسكري، فإنهم، بحكم ثقلهم الديمغرافي والاجتماعي، قادرون على التخفيف من هيمنة الوحدات الكردية على محافظة الرّقة، خصوصا عقب محاولة "الاتحاد الديمقراطي" تسليم مناطق في الرقة إلى مجلس الرقة المدني الذي يتبع الإدارة الذاتية. وهنا تلعب أنقرة على إمكانية قبول الأميركان بتقاسم الأجهزة السياسية والأمنية بين مختلف المكونات، ولأجل ذلك تعد هذه العشائر لتلك اللحظة.
ثانيا: تشكيل قطب كردي يكون ندا لـ"الاتحاد الديمقراطي الكردي" وأذرعه العسكرية، والمجلس الوطني الكردي في سورية المعروف بـ"بيشمركة روج" هو أفضل من يمثل هذا الهدف. وتتم هذه العملية بالتوافق مع أربيل، خصوصا أن رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، أرسل أكرادا سوريين إلى سنجار، للاشتباك مع وحدات المقاومة التي يُدربها حزب العمال الكردستاني، لكن مشكلة هذا الخيار متعلقة بمدى قدرة أربيل على المضي في المشروع التركي، خصوصا أن البرزاني لا يستطيع تجاوز الولايات المتحدة، كما أن "بيشمركة روج أوفا" لا تمتلك العدد والسلاح الكافي لمواجهة الوحدات الكردية في سورية.
ثالثا: غض الطرف عن فصائل عسكرية تابعة للجيش الحر، للقيام بعمليات عسكرية منفردة ضد "قوات سورية الديمقراطية"، فمثل هذه العمليات ستكون خارج التفاهمات الإقليمية الدولية، ما يسمح لأنقرة بهامش من التحرك والضغط، وقد لمحت أنقرة إلى ذلك.
وفي حال فشلت سياسة الاختراق من الخلف، لن يكون أمام أنقرة سوى خيارين: اختراق الحدود السورية عسكريا نحو تل أبيض، شمالي الرقة، وإقامة إسفين جغرافي بين شرق الفرات وغربه، لكن هذه الخطوة ستضع نهاية للتفاهمات التركية مع روسيا والولايات المتحدة، وقد تكون كلفتها كبيرة على أنقرة. الاكتفاء بالواقع الحالي وما حققته "درع الفرات"، والعمل على تحقيق إنجازات اقتصادية في مناطق سيطرتها، وقد لمح الوزير تيلرسون في أنقرة إلى أن واشنطن قد تساهم في إعمار منطقة "درع الفرات". ومن شأن إعادة الإعمار وتقديم إنجازات خدمية وتشكيل هيكل سياسي مستقر أن يمنح أنقرة وجودا مستداما في المنطقة، ويثبت إنجازاتها العسكرية في بيئة قابلة للتغيير بشكل سريع.
انتهت مفاوضات جنيف 5 مثلما انتهت سابقاتها، أي من دون أي تقدم في المباحثات على أي سلة من السلال التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا (الحكم الانتقالي، الدستور، الانتخابات، مكافحة الإرهاب)، ومن دون أي نتيجة تستحق الذكر على كل الأصعدة، وبديهي من دون تمكين أي من الطرفين المتصارعين الادعاء بتحقيق مكاسب سياسية على حساب الطرف الآخر.
واضح من ذلك أن هذه المفاوضات إن استمرت على هذا النحو ستصبح عبارة عن مجرد مفاوضات علاقات عامة ولتقطيع الوقت، وتبرئة ذمة المجتمع الدولي من المسؤولية عن الكارثة السورية ومآسي السوريين؛ تماماً مثلما حصل في تجربة الفلسطينيين في مفاوضات أوسلو (1993) مع الإسرائيليين، التي بات لها قرابة ربع قرن، وكأننا إزاء مفاوضات عبثية أخرى.
المسألة الأساسية التي يجب إدراكها والتركيز عليها أن المفاوضات في شأن مستقبل سوريا لا تجري، في حقيقة الأمر، بين الطرفين اللذين يجلسان على طاولة المفاوضات (النظام والمعارضة)، وهما لم يفعلاها أصلاً إلا في جلسات بروتوكولية أو افتتاحية، وذلك بسبب أن الأطراف الدولية والإقليمية باتت هي التي تتحكم بالصراع السوري، في القتال والهدن، في التسوية والصراع المسلح، في تقرير استمرار الصراع أو فرض الانتقال السياسي؛ هذا أولاً.
ثانياً، أن الطرفين المتصارعين لا يستطيع أي واحد منهما التغلب على الآخر، أو فرض الحل الذي يريده، إذ لم يبق للنظام الذي تآكلت قواه، ما يستطيعه في سبيل ذلك، سيما بعد أن بات واضحا أنه أضحى مرتهنا للطرفين الروسي والإيراني. في المقابل فإن المعارضة لم تستطع أن تراكم من القوى ما يسمح لها بإسقاط النظام، وإنهاء الصراع لصالحها، فلا أوضاعها تمكنها، ولا إمكانياتها تتيح لها ذلك، على نحو ما شهدنا من تطورات عسكرية في الفترة الماضية.
ثالثاً، كل ذلك يفيد بأن كلمة السر بشأن وقف الصراع الدامي في سوريا لم تصدر بعد، من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وإن هذه القوى لم تصل حتى الآن، إلى القناعة بإمكان إنفاذ مصالحها أو إقناع الأطراف الأخرى بأخذ مصالحها في عين الاعتبار.
في هذا الإطار يمكن استعراض وضعية القوى الفاعلة في الصراع السوري، أي إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة (مع غياب النظام العربي أو تشتت مواقفه). ففي ما يتعلق بإيران فهي باتت تشعر أن وجودها في سوريا بات مهدداً سيما بعد دخول روسيا وتركيا على الخط، خاصة من جهة روسيا التي تعتقد أنها هي صاحبة الكلمة الأولى في سوريا، مع اعتقادها أيضا بأنها هي التي أنقذت النظام من الانهيار وليس إيران. هذا الوضع لا يناسب السياسات الإيرانية في المنطقة، ومع كل الأثمان التي دفعتها هذه الدولة التي تمتلك الحجم الأكبر من القوى الخارجية في سوريا، مع ميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية، ومع كل الدعم المادي الذي أغدقت به على النظام.
تركيا تعتقد أن أي بحث في صيغة لسوريا المستقبل ينبغي أن يأخذ في الاعتبار مصالحها كدولة جوار واعتباراتها الأمنية، وبالأخص منها الحؤول دون قيام منطقة حكم ذاتي كردية في الشمال السوري، تحديدا في غرب الفرات، وهذا ما حاولته بإطلاقها عملية درع الفرات، أواخر الشهر الماضي، وما تحاوله من خلال ضغوطها للمشاركة في معركة إخراج داعش من الرقة.
روسيا غير متيقنة بعد ما إذا كانت مصالحها في سوريا باتت مترسخة وتلقى قبولاً من المجتمع الدولي، مع وجود منافستها القوية إيران، ثم الولايات المتحدة التي تبعث رسائل غامضة، توحي أحيانا بأنها تستدرج روسيا للمزيد من التورط في سوريا وتركها لتتدبر أمرها وحدها، في حين توحي أحيانا أخرى أنها تأخذ مصالحها بالاعتبار وأنها توكلها في إدارة الملف السوري.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن الولايات المتحدة هي الدولة التي تملك كلمة السر لوقف الصراع الجاري في سوريا، وأنها الدولة الأكثر قدرة على فرض الحل الذي تريده على مختلف الأطراف الداخليين والخارجيين، وهي الدولة التي تملك إمكانيات استثمار هذا الصراع بل وتوزيع هامش تدخّل الأطراف الآخرين، أو حصصهم من النفوذ، من مدخل الصراع أو التسوية السوريين.
بيد أن المشكلة أن الولايات المتحدة مازالت لم تحسم أمرها في هذا الأمر، وأنها غير مستعدة على ما يبدو للدخول في مساومات مع الأطراف الآخرين، ولا سيما مع روسيا بخصوص العديد من الملفات. يخشى على ضوء ذلك أننا سنشهد لاحقا جنيف 6 و7 و8 الخ وذلك بانتظار كلمة السر الأميركية.
من البديهي أن ينظر سكان المناطق الخاضعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا، إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، على أنه عدوان لا يقل وحشية عن أرباب الخلافة المزعومة، وربما يدور في أذهان المنكوبين تساؤل حول جدوى أعمال عسكرية أراقت دماء المدنيين بحجة “مكافحة الإرهاب”. فالإرهاب هنا، بمعناه الفضفاض والرائج دوليًا، بات مظلة تُشرعِن قتل الأبرياء.
أقر التحالف الدولي بتنفيذ غارات أودت بحياة مدنيين سوريين في مناسبات عدة، وقال إنه سيتحقق من وقائع أخرى، بينما نفى اتهامات بارتكاب مجازر جسيمة، آخرها ما حدث في قرية المنصورة بريف الرقة الغربي مطلع آذار الماضي، حين وثّق ناشطون مقتل عشرات المدنيين النازحين بقصف جوي، وصفه الجنرال الأمريكي ستيفن تاونسند بـ”الضربة النظيفة”.
الضربات “النظيفة”، المتصاعدة بشكل لافت في الآونة الأخيرة، بغية “مكافحة الإرهاب” و”تعزيز الديمقراطية والسلم الأهلي”، بحسب المفهوم الأمريكي للانتهاكات، تزامنت مع ضربات مماثلة من حيث النتائج والأهداف المعلنة لروسيا حليفة النظام السوري، وتقول منظمات حقوقية محلية ودولية، إنها عطّلت القوانين الدولية الإنسانية في سوريا وعززت من مظلومية المكوّن السنّي، ما قد ينعكس سلبًا على المنطقة ويكون سببًا في نشوء تنظيمات متطرفة جديدة، إذ إنّ “قتل الأبرياء كمن يربّي الذئاب” بحسب تغريدة لصحفي سوري في “تويتر”.
تركز عنب بلدي في هذا الملف على انتهاكات اتهم بها التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “الدولة”، والتقييم القانوني لها، وأثرها على المجتمع السوري عمومًا، بالاستناد إلى آراء وخبراء حقوقيين ومختصين، مع الأخذ بعين الاعتبار تسليط الضوء على بنود قوانين ومواثيق دولية بهذا الخصوص، وأرقام إحصائية تكشف حجم المأساة.
مجازر بحق المدنيين تنصّل منها التحالف والروس
ست مجازر وقعت بحق المدنيين في مناطق متفرقة من سوريا خلال أقل من عام (على سبيل المثال لا الحصر)، اتهمت منظمات حقوقية محلية ودولية التحالف الدولي وروسيا بتنفيذها، وتنصل الجانبان منها في بيانات منفصلة.
مجزرة “توخار” في منبج
اتهمت مصادر حقوقية منفصلة، التحالف الدولي بتنفيذ غارات على بلدة توخار كبير الواقعة في منطقة منبج في ريف حلب الشرقي، 19 تموز 2016، وقال ناشطون إن 125 شخصًا معظمهم نساء وأطفال قضوا فيها، بينما أشار تنظيم “الدولة” إلى أن عدد الضحايا يفوق 160 شخصًا.
المتحدث باسم التحالف، العقيد كريس غارفر، عقّب على الحادثة بالقول إن “التحالف يدرس تقارير عن مقتل مدنيين” لكنه “يتوخى الحذر الشديد”، ليتأكد من أن الغارات لا تقتل سوى “مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية”، وأضاف “الغارة كان من المقرر أن تستهدف كلاً من المباني والمركبات التابعة لداعش، إلا أن تقارير وردت لاحقاً من مصادر مختلفة تحدثت عن احتمال وجود مدنيين بين مسلحي التنظيم الإرهابي يستخدمهم كدروع بشرية”
مسجد “الجينة” في إدلب
اتهمت مصادر حقوقية محلية، الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذ مجزرة بحق مدنيين في قرية الجينة بريف إدلب، 16 آذار 2017، راح ضحيتها بين 47 و 49 قتيلًا بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
ونفى الجيش الأمريكي أن تكون طائراته قد قصفت المسجد، وقال إنه استهدف تجمعًا لتنظيم “القاعدة” على بعد 15 مترًا من المسجد، وأضاف أن عددًا ممن سماهم الإرهابيين قتلوا.
متحدث باسم القيادة المركزية الأمريكية، زعم أن الموقع الذي تم استهدافه “دمّر”، وأن المسجد مايزال قائمًا، بينما أوضحت صور نشرها ناشطون تعرّض المسجد لدمار كبير، وقال المتحدث إن الموقع الدقيق لهذه الضربة “غير واضح”، مضيفًا أنه سيُفتح تحقيق في ما وصفها بـ “الادعاءات” بأن الغارة قد تكون أدت إلى سقوط ضحايا مدنيين.
مدرسة “المنصورة” في الرقة
اتهمت مصادر حقوقية محلية، التحالف الدولي، بتنفيذ غارات استهدفت مدرسة تؤوي نازحين في بلدة المنصورة بريف الرقة الغربي، 21 آذار 2017، تسببت بمقتل 33 إلى 53 مدنيًا بينهم أطفال، بحسب مصادر منفصلة.
“المرصد السوري لحقوق الإنسان” قال إن التحالف نفذ مجزرة راح ضحيتها 33 مدنيًا بينهم أطفال، في حين أوضحت منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسيف)، أن القصف الجوي “تسبب بمقتل 53 مدنيًا بينهم 12 طفلًا”.
قائد القوات الأمريكية في العراق، الجنرال ستيفن تاونسند، نفى أن تكون المدرسة تضم نازحين، وقال “لدينا مصادر مخابراتية مؤكدة ومتعددة، أبلغتنا أن العدو يستخدم تلك المدرسة، ولاحظنا ذلك ورأينا ما كنا نتوقع أن نراه”، وأضاف دون إيراد أدلة “أودّ أن أقول لكم إننا لم نستكمل تقييمنا لهذه الواقعة، أعتقد أنها كانت ضربة نظيفة”.
استهداف أحياء إدلب
اتهم ناشطون مؤسسات حقوقية، منها “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، الطيران الروسي بتنفيذ مجزرة في مدينة إدلب، 7 شباط 2017، راح ضحيتها 28 شخصًا معظمهم مدنيون.
وقال الجنرال إيغور كوناشينكوف، المتحدث الرسمي باسم الدفاع الروسية، تعقيبًا على الحادثة “طائرات القوات الجوية الفضائية الروسية لم توجه أي ضربة إلى مدينة إدلب السورية أمس أو هذا الأسبوع أو حتى منذ بداية العام، وكل الأنباء حول هذه الضربات مجرد كذب”، وأضاف “من اللافت للانتباه أن وسائل الإعلام ذاتها تقوم بفبركة مثل هذه التقارير الإعلامية وفقًا لقوالب موحدة، وبشكل دوري، ودائمًا تستند إلى ناشطين مجهولين من الدفاع المدني”.
قافلة الإغاثة في حلب
اتهمت المعارضة السورية ودول غربية، بينها الولايات المتحدة وبريطانيا، الطيران الروسي باستهداف قافلة إغاثة أممية غرب مدينة حلب، 19 أيلول 2017، ما تسبب بمقتل 32 شخصًا بينهم 12 متطوعًا في الهلال الأحمر، بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
ونفت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، الاتهامات الموجهة لموسكو بشأن هذه الضربة، وقالت إن الإدارة الأمريكية “لا تملك حقائق” تؤيد زعمها.
مستشفيات حلب الميدانية
اتهمت منظمات دولية، من بينها “المجلس الأطلسي” في واشنطن، القوات الجوية الروسية بتدمير ثلاث مستشفيات في حلب، في حملة تصعيد جوي استمر من أيلول وحتى كانون الأول 2016، راح ضحيته 440 مدنيًا بينهم 90 طفلًا وفق منظمة “هيومن رايتس ووتش”.
ونفى المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، الجنرال إيغور كوناشينكوف، استهداف مستشفيات حلب، وقال “إن تقارير قناة الجزيرة القطرية والمرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يقع مقره في بريطانيا، وغيرها من المصادر المماثلة، حول قصف طائرات سلاح الجو الروسي لثالث مستشفى في حلب خلال 24 ساعة محض كذب”.
ورغم محاولات التنصل المتكررة من المجازر بحق المدنيين، إلا أن التحالف اعترف أكثر من مرة بسقوط ضحايا حرب، أبرزها ما جاء في بيان القيادة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط (سنتكوم)، تشرين الثاني 2016، حينما قالت إن الغارات الأمريكية تسببت بمقتل 119 مدنيًا في سوريا والعراق منذ آب 2014.
التقييم القانوني للمجازر المنسوبة للتحالف الدولي
وللحديث عن التقييم القانوني للانتهاكات المنسوبة للتحالف الدولي، توجهت عنب بلدي إلى فضل عبد الغني، مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، للاستفسار حول آلية التعامل مع الانتهاكات بحجة “مكافحة الإرهاب”، وقال “أصدرنا كمًا كبيرًا من التقارير عن المجازر التي ارتكبتها قوات التحالف الدولي بحق المدنيين، وسجلنا مرتين قصفهم للمعارضة المسلحة”.
وأشار عبد الغني إلى أن “هناك مجازر كثيرة وقعت بحق المدنيين وقلنا إنها ترقى لجرائم حرب، لأن قوات التحالف دخلت سوريا على خلفية النزاع، ووجب عليها الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، والتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية”.
وعن محاولة تبرير التحالف أخطاءه بحجة “معلومات خاطئة”، قال عبد الغني “لا تهمنا التفاصيل في أنها حصلت على معلومات استخباراتية خاطئة من حلفائها على الأرض، وحدات حماية الشعب الكردية أو قسد (قوات سوريا الديمقراطية)، هم من يتحملون المسؤولية الكاملة”.
وتابع موضحًا آلية عمل الشبكة، “نصدر تقارير توثق المجازر، ونرسلها إلى دول مشاركة في التحالف، وبشكل أساسي إلى الخارجية الأمريكية، وهم على اطلاع كامل عليها”، منوهًا أن “الخارجية سألتنا مرارًا عن تفاصيل بعض الحوادث، وفتحنا هذا الموضوع عندما التقينا معهم مؤخرًا وحملناهم المسؤولية”.
وبناءً على التقارير التي أصدرتها الشبكة الحقوقية، اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية (بنتاغون) بـ 71 حادثة لقصف قتل فيه مدنيون فقط، بحسب عبد الغني، مستطردًا “نملك ملفًا بالحوادث التي اعترف بها”.
بينما اعتبر منيف الطائي، مدير منظمة “أورنامو للعدالة وحقوق الإنسان” في سوريا، أن التحالف الدولي “لا يأبه لقانون الحرب”.
وأضاف في حديث إلى عنب بلدي أن “التحالف الدولي مكون من قرابة 60 دولة تصنف نفسها على أنها مدافعة عن حقوق الانسان، وهي لا تأبه لقانون الحرب بوجوب تحييد المدنيين عن الصراعات”، داعيًا الأمم المتحدة للتأكيد على هذه الدول بوجوب “التزامها الصارم بتحييد المدنيين”، محذّرًا أن تكرار المجازر “يقوض من مصداقية التحالف في حربه ضد داعش”.
ولا يمكن تقييم ما ارتكبته قوات التحالف من مجازر بحق المدنيين إلا كـ “جرائم”، بوجهة نظر الكاتب والباحث السياسي السوري ساشا العلو، موضحًا أن من واجب الأمم المتحدة التدخل للحد منها، وفتح تحقيق جدي بما يتعلق بطبيعة تلك “الجرائم”، خاصة وأنها تزامنت بين الموصل وسوريا بشكل مثير للشك، وتسببت بعدد كبير جدًا من الضحايا، بحسب تعبيره.
وأبدى العلو، في حديث إلى عنب بلدي، استغرابه من تصريحات رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، والتي لم تطالب بوقف العمليات العسكرية في الموصل، وإنما اعتبرت التصعيد الإعلامي ضد التحالف الدولي دعاية من قبل تنظيم “الدولة” لعرقلة العمليات العسكرية، في حين “لم نشهد في سوريا أي إدانة للمجزرة من قبل مؤسسات المعارضة الرسمية أو حتى النظام”.
نتائج التحقيقات في انتهاكات التحالف، لو فتحت، لن تظهر قريبًا وإنما قد تمتد إلى سنوات، كما رجّح العلو، وأضاف “لعل تجربة الانتهاكات للجنود الأمريكيين في العراق بعد الغزو عام 2003، والتي لم تتحول إلى قضايا وملفات حتى الانسحاب الأمريكي، قد تدلل على طبيعة التعاطي مع هذا النوع من الملفات”.
ويرى المختصون الثلاثة، أن الاعتراف بالانتهاكات، هي خطوة معنوية للتحالف في الاتجاه الصحيح، لكنها لن تكون كافية، وقال فضل عبد الغني إن الاعتراف “لابد أن تتبعه خطوات أولها توقف المجازر، وتدارك الأخطاء التي اعترف بها التحالف بالأصل، ومن ثم تعويض أسر الضحايا وتعويض الخسائر المادية، ومحاسبة ومحاكمة الضباط الذين ارتكبوا هذه الجرائم يجب أن تكون علنية ليرتدع الضباط الآخرون”.
ورأى ساشا العلو أن “المطلوب فتح تحقيق في الطبيعة الاستخباراتية لتحديد مواقع القصف، والكشف بشكل واضح عن المسؤول عن تلك العمليات واتخاذ إجراءات عملية للمحاسبة، مقابل تعويض المتضررين، واستحداث آليات جديدة في استهداف مواقع التنظيم، بحيث تضمن التقليل من خطر استهداف المدنيين، وخاصة أن التنظيم مايزال يسيطر على مناطق واسعة من العراق وسوريا، ما ينذر بتهديد حقيقي لمئات آلاف المدنيين”.
هل بات التحالف الدولي عدوًا للشعب السوري؟
ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصور ضحايا المجازر المنسوبة للتحالف الدولي، في مناطق تنظيم “الدولة”، أو الغارات الأمريكية على الشمال السوري، ما خلّف كراهية ملحوظة للدول الغربية عمومًا، والتي لم تكتفِ بخذلان الثورة السورية، بل ساهمت في قتل المدنيين، وفق آرائهم.
فضل عبد الغني، اعتبر أن العداوة “تقاس بكمية الضرر والمتسبب به، فهناك عوامل متعددة وعناصر مختلفة تدخل في تفسير العداوة ودرجتها، وهو بحاجة إلى تحليل منفصل”، وأضاف “لكن درجة العداوة الأكبر بحسب الوقائع وليس الأماني، مازالت للنظام السوري باعتباره المتسبب الأول بالمجازر، وهو من استجلب كل هذه الجهات نتيجة قمعه وتوحشه”.
وصنّف عبد الغني تنظيم “الدولة” كأحد أبرز أعداء السوريين، باعتباره “غاية في العدمية والوحشية والتكفير ولا يمكن التعايش معه، وربما لو أنه امتلك مؤسسات الدولة وقدراتها أن يكون أكثر قتلًا ودموية من النظام السوري”، وفق رأيه.
وأشار الحقوقي السوري إلى أن القوات الروسية تأتي في مرتبة العداء الثالثة، باعتبارها تتعمد قصف المستشفيات والمدارس بشكل واضح، ووقفت إلى جانب النظام السوري لوجستيًا وسياسيًا، منتقدًا أيضَا الولايات المتحدة الأمريكية “ربما نحملها مسؤولية من جانب آخر، وهي إعلان رئيسها في تموز 2011 أن الأسد يجب أن يرحل، وعدم اتخاذه أي إجراءات لرحيله، وتجاوز خطوط حمراء بما فيها مسألة الكيماوي، وخذلانه للسوريين مرارًا”.
و”إذا اعتمدنا المنطق في تصنيف أعداء الشعب السوري، فإننا سنصنف ما لا يقل عن نصف العالم من المجتمع الدولي من جهات إقليمية إلى النظام وفصائل محلية تحسب نفسها على الثورة”، يقول الباحث ساشا العلو، مضيفًا “المشكلة ليست في العدو، وإنما في توزع دم الشعب السوري على أكثر من غريم ما يجعل المطالبة به صعبًا، أي كحادثة اجتماع القبائل لقتل محمد (ص)، كل وفق أدواته وآلياته”.
مظلومية “سنّية” تنذر بما هو أمرّ
يحذّر باحثون ومختصون في شؤون الجماعات الجهادية في سوريا، من نشوء تنظيمات متطرفة تعتاش على “المظلومية السنية”، التي وقعت على الأهالي الرازحين في مناطق سيطرة تنظيم “الدولة”، من قصف وقتل وتهجير تمارسه جهات أبرزها التحالف الدولي وروسيا و”قوات سوريا الديمقراطية”، في تجربة مشابهة لظروف نشأة تنظيم “دولة العراق الإسلامية” على أنقاض القصف الأمريكي قبل عقد من الزمن.
واعتبر فضل عبد الغني، أن “تنظيم داعش يعتاش على المجازر والمظلومية، وهي أحد أسباب نشوئه وارتفاع معدلات التطرف والغلو”، وأضاف “هناك استبداد وقمع وعدم تحقيق للعدالة في المجتمع، والمستبد يزيد من استبداده وتسلطه وهمجيته، ما يولد شعورًا بالظلم والانفجار، يؤدي إلى تشكيل تحالفات للانتقام، ترفع شعارات الدين والإيديولوجيات المختلفة لتنظم نفسها”.
وتحدث عبد الغني عن ظروف دخول “جبهة النصرة” إلى سوريا، “كان السوريون فيها معدودين، وانضم لها الشباب نتيجة استمرار المقتلة والمحرقة والكارثة السورية، وهو ما ينطبق على السوريين الذين اضموا إلى تنظيم الدولة”.
مدير منظمة “أورنامو”، منيف الطائي، وافق إلى حد بعيد ما قاله عبد الغني، معتبرًا أن “أحد أهم أسباب ظهور داعش هو الإفراط في استخدام القوة من قبل النظام ضد المعارضين في بداية الحراك في سوريا، وأحد أهم المبررات على المستوى الشخصي لأفراد التحقوا بتنظيمات إرهابية، هو إحساسهم بالظلم، وأن لا عدالة يقدمها العالم لهم، وأن الانتقام هو السبيل الوحيد الذي عليهم أن يسلكوه”، موضحًا “إذا ما أردنا التخلص من هذه الظواهر، علينا البدء بمرحلة عدالة انتقالية، تشعر أهالي الضحايا بنوع من الإنصاف ولو قليلًا”.
فيما رأى الباحث ساشا العلو، أنه “من الطبيعي أن تصب تلك الجرائم والانتهاكات في خدمة دعاية تنظيم الدولة، وتعزيز المظلومية لدى المكوّن العربي السني، الذي بدأ يشعر أنه مستهدف بشكل خاص من مختلف الجهات، سواءً من شركائه بالوطن أو من تنظيم الدولة، الذي ولد في هذا المكوّن، وإلى اليوم انتهاكاته تستهدف هذا المكون فقط، إلى التحالف الدولي الذي يستهدفهم بحجة التنظيم، ما قد يولد حالات تطرف باتجاهات مختلفة.. تلك الحالات التي تزداد مع سقوط كل ضحية وتنمو داخل المخيمات وتحملها ذواكر الأطفال”.
شهدت الدول الأوروبية خلال العام الفائت هجمات من نوع جديد، لشباب مسلمين من جنسيات مختلفة، سُمّوا إعلاميًا بـ “الذئاب المنفردة”، هاجموا مدنيين في ميادين ومحطات نقل عام وملاه ليلية، بهدف “نصرة الدولة الإسلامية” ومحاربة “الصليبيين في عقر دارهم”، وذهب باحثون إلى أن معظم هؤلاء ارتبطوا بتنظيم “الدولة” عاطفيًا لا عضويًا، ما عزاه باحثون إلى نجاح التنظيم في نشر دعاية “المظلومية السنية” في أوروبا.
أرقام “مهولة” لضحايا “مكافحة الإرهاب“
وبعيدًا عن الإحصائيات التي وثقها ناشطون سوريون، نورد إحصائيات منظمات ومؤسسات حقوقية وإنسانية، ذات صفة اعتبارية متخصصة في التوثيق، وتعتمدها مؤسسات وجهات دولية حقوقية، وأبرزها “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، وحصلت عنب بلدي منها على نسخة محدّثة عن ضحايا التحالف الدولي وروسيا في سوريا.
ووثقت الشبكة مقتل 1112 مدنيًا بينهم 414 طفلًا و133 سيدة، على يد قوات التحالف الدولي في سوريا، منذ تدخلها في 23 أيلول 2014 وحتى 29 آذار 2017، أي بمعدل يتجاوز مدنيًا واحدًا يقتل يوميًا بنيران التحالف في غضون 30 شهرًا مضوا.
كما وثقت الشبكة مقتل 4239 مدنيًا بينهم 1187 طفلًا و342 سيدة، على يد القوات الروسية في سوريا، منذ تدخلها في 30 أيلول 2015 حتى 29 آذار 2017، أي بمعدل نحو ثمانية مدنيين يقتلهم الروس يوميًا في غضون 18 شهرًا مضوا.
ووفقًا لما سبق، فإن 5351 مدنيًا بينهم 1601 طفلًا و475 سيدة قتلوا على يد التحالف الدولي والقوات الروسية في سوريا، حتى 29 آذار 2017.
وبالنظر إلى أرقام منظمة “Air wars” غير الحكومية، المتخصصة برصد غارات التحالف الدولي، فإنها لخصت حصيلة الغارات الجوية للتحالف على سوريا والعراق من آب 2014 وحتى 28 آذار 2017، بأعداد تراوحت بين 7581 إلى 10962 قتيلًا من المدنيين غير المقاتلين، الذين قضوا بفعل 1103 حادثة مسجلة بشكل منفصل، أي بمعدل نحو 11 مدنيًا يقتلهم التحالف يوميًا في البلدين في غضون 31 شهرًا مضوا.
والجدير بالذكر، أن كلا الطرفين: التحالف الدولي، وروسيا، برروا تدخلهم العسكري في سوريا بحجة “مكافحة الإرهاب” والقضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية”، إلا أن الأرقام السابقة توضح أن المتضرر الأكبر من التدخل هم المدنيون بمن فيهم الأطفال والنساء.
القانون الدولي الإنساني تعطّله الأطراف الفاعلة في سوريا
يستند القانون الدولي الإنساني، والذي ينطبق في أوضاع النزاع المسلح، إلى جملة اتفاقيات ونصوص مكتوبة، ونركز هنا على اتفاقية “جنيف الرابعة” المبرمة في آب 1949، والمعنية بحماية السكان المدنيين في وقت الحرب، والبروتوكولات الملحقة بها، والتي أقر مجلس الأمن الدولي بها وبالاتفاقيات الثلاث المعنية في ذات الشأن، عام 1993، ما جعلها ملزمة لغير الموقعين على الاتفاقيات والمنخرطين في النزاعات المسلحة.
وتقضي الاتفاقية في المادتين 14 و15 بجواز إقامة نوعين من مناطق الحماية للمدنيين: مناطق ومواقع الاستشفاء والأمان والمناطق المحيّدة، والغرض منها هو حماية الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والأطفال دون الخامسة عشرة، والحوامل وأمهات الأطفال دون السابعة من عواقب الحرب، أي فئات من الأشخاص لا يتوقع منها أن تسهم في المجهود الحربي.
وتوجب الاتفاقية احترام وحماية المستشفيات المدنية المعترف لها بهذا الطابع والعاملين بها، وكذلك وسائط النقل البري والبحري والجوي المستخدمة في نقل المدنيين الجرحى والمرضى والمعاقين والنساء الحوامل والأطفال.
وتلزم المادة 23 من الاتفاقية كل طرف من أطراف النزاع بأن يكفل حرية مرور جميع شحنات الأدوية والمعدات الطبية ومستلزمات العبادة المرسلة إلى المدنيين المنتمين إلى طرف متعاقد آخر، حتى ولو كان خصمًا، وكذلك أي شحنات من الأغذية والملابس والمقويات المخصصة للأطفال والنساء.
وأورد القرار 2444، الصادر عن المؤتمر الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر (فيينا 1965)، أربعة مبادئ أساسية لقانون النزاعات المسلحة، وفي عام 1968 صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على ثلاثة من هذه المبادئ باعتمادها للقرار 2444 ، ويتعلق مبدآن منهما بمسألة حماية السكان المدنيين.
وتنص مبادئ القرار الأممي على أنه “من المحظور شن هجمات على السكان المدنيين بصفتهم هذه، ووجوب التمييز في جميع الأوقات بين الأشخاص المشاركين في القتال وأفراد السكان المدنيين، بما يؤدي إلى تجنب إلحاق الأذى بالأخيرين قدر المستطاع، وحظر الهجمات على السكان المدنيين والأعيان المدنية”.
كما تورد المادة 51 من البروتوكول الأول الصادر عام 1977، والملحق باتفاقيات جنيف، أحكامًا تفصيلية بشأن حظر اتخاذ المدنيين هدفًا للهجوم، وتبين الفقرة الثانية من المادة أن أعمال العنف أو التهديد به، الرامية أساسًا إلى بث الذعر بين السكان المدنيين، محظورة، بينما تحظر المادة 54، استخدام أساليب للحرب ترمي إلى تهديد بقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، وتورد في فقرتها الأولى المبدأ الذي يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب.
وتحظر المواد 14و15و16 الأعمال الحربية الموجهة إلى أعيان محددة، وهي الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، كالأشغال الهندسية والمنشآت المحتوية على قوة خطرة، وهي: السدود والجسور ومحطات توليد الطاقة الكهربائية والآثار التاريخية أو الأعمال الفنية أو أماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب.
وتحظر الفقرة الأولى من المادة 17 من البروتوكول ذاته، إصدار أوامر بترحيل السكان المدنيين لأسباب تتصل بالنزاع، وتحظر الفقرة الثانية إرغام المدنيين في أي حال من الأحوال على النزوح من أراضيهم لأسباب تتصل بالنزاع.
وعليه، فإن معظم الأطراف الفاعلة في سوريا، ونلخصها بـ : التحالف الدولي، وروسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، والنظام وحلفائه، وتنظيم “الدولة”، و”قوات سوريا الديمقراطية”، وفصائل من المعارضة المسلحة، لم تلتزم بمعظمها بالقانون الدولي الإنساني، وتحديدًا اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكولات الملحقة بها.
وذلك من خلال استهداف المدنيين بشكل مباشر، وقصف واستهداف المناطق الحيوية والخطرة كاستهداف جسور الرقة ودير الزور وسد الفرات من قبل التحالف، والمستشفيات والمدارس من قبل الروس، وإرغام المدنيين على النزوح خلال المعارك كما يفعل النظام السوري وحليفته إيران، وغيرها من الانتهاكات متعددة الأطراف، التي وثقتها منظمات دولية وسورية، أبرزها منظمة “هيومن رايتس ووتش”، ومنظمة “Air wars”، و”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، عدا عن التقارير الدورية الصادرة عن الأمم المتحدة.
هجمات التحالف وقوانين الحرب
أفادت تقارير إخبارية عديدة ومجموعات حقوقية بارتكاب التحالف الدولي ضد داعش والذي تقوده الولايات المتحدة، انتهاكات لقوانين الحرب وقتله مدنيين في سوريا منذ عام 2014.
رغم أن الولايات المتحدة أقرت بمسؤوليتها عن بعض الهجمات، وإعلانها أنها ستحقق في الحوادث، ولكن إلى اليوم لم نسمع بقيام الولايات المتحدة التي تقود هذا التحالف بإنشاء لجنة للتحقيق في هذه المزاعم أو حتى البدء بتحقيق حيادي وشفاف، ولم يُنصف الضحايا أو عائلاتهم.
ينظّم قانون الحرب استخدام القوة ويقيدها في النزاعات المسلحة، وينصّ القانون الدولي الإنساني على أنه على أطراف النزاع التمييز بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية.
يحظر القانون الدولي الإنساني الهجمات التي قد تسبب خسارة في أرواح المدنيين أو إصابتهم أو بالأعيان المدنية. يرد مبدأ التناسب في القانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة أو قانون الحرب للحد من الضرر الناجم عن العمليات العسكرية على السكان والأعيان المدنية.
تلتزم الدول الأطراف في النزاعات المسلحة بالتحقيق في المزاعم ذات المصداقية عن ارتكابها جرائم حرب او انتهاكات خطيرة، وعليها الالتزام بملاحقة المشتبه بارتكابها بقصد إجرامي، أو نتيجة للإهمال.
لذلك على الولايات المتحدة إنشاء فريق للتحقيق في هذه الانتهاكات المزعومة، والالتزام بمبادئ الشفافية في هذه التحقيقات والإعلان عن نتائجها.
تصريحات ترامب السابقة التي تؤيد احتجاز الناس لأجل غير مسمى دون محاكمة، وتعذيب المعتقلين، وقتل عائلات “الإرهابيين” لا توحي أنه سيحترم قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني أو أرواح المدنيين في سوريا.
مع فشل ترامب الذريع بتحقيق عدة وعود متعلقة بالشأن الداخلي الأمريكي، قد تكون حساباته السياسية ووعوده لمنتخبيه بالقضاء على داعش خلال فترة قصيرة، أحد الأسباب في تصعيد الهجمات غير المدروسة أو ربما غير القانونية، بما يؤدي إلى تصاعد أعداد المدنيين الضحايا.
كما ورد في تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان: “للمرة الأولى قوات التحالف الدولي تقتل مدنيين أكثر من القوات الروسية في شهر كانون الثاني 2017. على الولايات المتحدة اتخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة لضمان عدم سقوط ضحايا مدنيين في المستقبل، بموجب قوانين الحرب الدولية”.
على السوريين من وسائل إعلام وصحفيين وجماعات حقوقية، توثيق هذه الهجمات بشكل دقيق وحيادي وكامل قدر الإمكان، والتواصل مع الضحايا أو عائلاتهم وحفظ شهاداتهم والأضرار التي تعرضوا لها، بما فيها الأضرار المادية.
كما أن عليهم اللجوء إلى جهات حقوقية محلية ودولية لتجهيز دعاوى قضائية لرفع دعاوى بهذا الشأن، والمطالبة بمحاكمة مرتكبي الجرائم إن ثبتت، وبالتعويض المادي والمعنوي، والعلاج للمصابين.
يجب توجيه هذه الإجراءات ضد جميع مرتكبي الجرائم المزعومة في سوريا إن كان التحالف الدولي ضد داعش، أو القوات الروسية والسورية وغيرها.
تقوم إيران بكل ما تستطيعه لإحداث تغيير سكاني واسع بين دمشق وبيروت، وصولا إلى القلمون الغربي، مرورا بسرغايا ومضايا وبلودان والزبداني وحدودها مع لبنان، استكمالا للتغيير السكاني بين العراق ودمشق الذي يبقي طريق طهران/ ضاحية لبنان الجنوبي مفتوحةً أمام عسكرها وحزب الله وغيره من مرتزقتها. وهناك تسريباتٌ عديدة حول تمسّك حسن نصر الله بوضع طريق دمشق/ بيروت تحت إشرافه بعد إنجاز الحل السياسي. وعقد "هدنة" مع القلمون الغربي، تمكن السكان من ممارسة حكم محلي، ليس النظام مرجعيته، بل حزب الله، الذي سيمسك بمفاصل المنطقة الأمنية والإدارية. هناك، أيضا، معلومات حول وصول إيرانيين إلى دمشق ومحيطها. ويعني استيطانهم فيهما تنظيف المنطقة عقديا وتطهيرها عرقيا، وانتفاء أي تهديد للحضور الإيراني على محور مزار الشريف/ بيروت، وطريق دمشق/ بيروت ومنطقة القلمون التي تشهد إنشاءات طوبوغرافية، لم يسبق للسوريين أن شاهدوا مثيلا لحجمها، تنفيذا لمخطط متفقٍ عليه بين الأسد وطهران، يفرغ المنطقة تدريجيا من سكانها الأصليين، أو يجبرهم على الرضوخ لما تريده إيران، من خلال تعريضهم لضغوطٍ منها تقديمهم إلى محكمة الإرهاب وإدانتهم ومصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة، ثم بيعها "بطرقٍ قانونية" إلى الإيرانيين والوافدين إليها من جنوب لبنان الذين سيشكلون، عندئذٍ، كتلة سكانية متجانسة، وكتيمة تغطي وجود الحزب والحرس الثوري بكثافة ثقلها البشري، وتحقق التبدل العقدي والبشري المطلوب لعزل المناطق المعنية عن سورية، تمهيدا لدمجها في نسيج مجتمعي/ جغرافي، يختلف عن نسيجها الراهن، انطلاقا من أساسين وضعهما بشار الأسد، وقال في أولهما إن السوري ليس من ولد وعاش في سورية ويحمل جنسيتها، بل من يدافع عن نظامها. وقال في ثانيهما إن عمليات الهدن والترحيل القسري التي طاولت تسعة ملايين مواطنة ومواطن من سورية أدت إلى "تحسين نسيج سورية الاجتماعي".
بالمعيار الأول، يصير الإيراني الذي يقتل الشعب السوري سورياً، ويغدو المواطن السوري أجنبيا يجب ترحيله بالقوة من وطنه، ونزع جنسيته، ويصير تهجير نصف الشعب "خطة وطنية" مدروسة، هدفها تحسين النسيج السكاني للبلاد. والحال لا بد من ملاحظة اندراج "الهدن" التي تفرضها الأسدية على مناطق تنفرد بها وتفتك بأهلها، ضمن الترحيل القسري الذي تفرضه بالحصار والتجويع والقصف العشوائي بالبراميل المتفجرة، وتفضي إلى إفراغ قرى وبلدات ومدن كثيرة من سكانها.
هذا التطور الذي يغير ما أنتجه تاريخ سورية على صعيد بنيتها البشرية، بقوة المذهبية الإيرانية/ الأسدية، يبدو أنه سيلاقيه، بعد اليوم، تطور سيترتب على مذهبية أحد تنظيمات الإرهاب، عنيت "جبهة النصرة" التي عقدت اتفاقا مع إيران حول ترحيل قسري لمواطنين سوريين من ريف دمشق والقلمون إلى كفريا والفوعة، ومن هاتين القريتين إلى ريف دمشق، والسؤال هو: من فوّض الجبهة بتغيير وتدمير حياة أكثر من مائة ألف مواطن يعيشون في ريف دمشق وإدلب؟ وهل أهالي كفريا والفوعة إيرانيون كي تقرّر طهران ترحيلهم عن بيئتهم التاريخية، وإخراجهم من موطنهم الأصلي، وإعطاءهم موطن سوريين آخرين، لحساباتٍ تتصل بمصالح إيران وخططها، سيكونون ضحاياها الأبديين بما تضمره من تلاعبٍ بحياة شعبهم، الذي يمثل جريمةً ضد الإنسانية، لا تقرها قوانين أو أعراف أو قيم دينية أو دنيوية، لن يبقى بعدها أحد من مواطني المنطقتين الأصليين في بيته، بسبب الضغوط التي سيتعرّض لها، وستخيره بين قبول الرحيل القسري والإعدام كإرهابي أو الانضمام إلى شبيحة النظام ومرتزقته، والقتال ضد رفاق الأمس في الجيش الحر، مثلما حدث بعد هدنٍ عديدة، حولت قسما كبيرا من مقاتلي الغوطة الغربية إلى مرتزقةٍ، يقاتلون رفاق الأمس في القابون وبرزه وجوبر والقلمون ... إلخ.
بالترحيل القسري للسكان من ريفي دمشق وإدلب، يقع اختراق قاتل، سيساعد الأسد على استعادة كل شبر من سورية، كما وعد أخيراً. والآن، من كان يصدق أن جبهة النصرة التي قضت على فصائل كاملة من الجيش الحر، بحجة التعاون مع الخارج والتهاون حيال "الرافضة"، هي التي ستتفق مع "رافضة" طهران على ترحيل سوريين من أرض سفك الآلاف منهم دماءهم كي تظل حرة؟
هذه بعض ثمار التمذهب السامة التي لا عذر لمن ينخدع بعد اليوم بها، وبمن يمارسونها؟
تؤكّد من جديد مجريات التفاوض بين النظام السوري والمعارضة في جنيف أنها مجرّد جلساتٍ غايتها صورة إعلامية تزيح الكاميرا عن المكان الحقيقي الذي يجري فيه التنازع بين الأطراف الدولية والإقليمية، في ملفاتٍ كثيرة، تستخدم فيها الحرب السورية أداة ضغط لتعزيز المكانة والنفوذ داخل سورية.
لم يعد الصراع في سورية فقط بين السلطة والمعارضة، أو بين النظام وأغلبية السوريين، بعد أن أضحى الصراع "على سورية" يسبق مسألة "الصراع في سورية" ويغلبها، إذ صار اللاعبون الخارجيون أكثر تقريرا بمصير الصراع السوري من الفاعلين الداخليين؛ أي النظام والمعارضة بكل تلاوينها وأشكالها. أكثر من ذلك، أصبح الفاعلون الداخليون مجرّد أدوات ضغط بيد الخارج، وباتوا، في نظر بعض أطياف المعارضة، بمثابة عبء على الثورة وسلاح ضدها وليس معها.
وقد كنا شهدنا، خلال السنوات الماضية، انزياحات لأدوار دول وتقدم لأخرى، وما ذلك إلا بدفعٍ من القوة الأكثر تأثيراً لتوريط هذه الدول، وجعلها في مواجهة بعضها بعضاً، داخل المساحة السورية. وعلى هذا، يمكن ملاحظة عدة متغيرات في الصراع الدولي والإقليمي على سورية:
أولاً، دخول الولايات المتحدة الأميركية على خط الصراع المباشر بأدوات عسكرية على الأرض السورية، حيث توجد قواتها، لا سيما في شمال سورية وشرقها. وبهذا، نجد أن الولايات المتحدة تعيد، في كل مرة، جدولة الأولويات، حسب ما يتفق والدور الذي ترغب به، موضحةً بذلك أنها ستبقى اللاعب الأساسي الذي يقرّر تموضعات بقية اللاعبين، بل وحصصهم داخل الملفات، أو حتى خارجها، وهي بذلك لا تمارس دورها باعتبارها "ضمير العالم"، حسب تصريح مندوبتها الدائمة في الأمم المتحدة، بل تمارس دورها العسكري في قيادة العالم، حيث رغباتها ومصالحها؛ بما فيها مصالح إسرائيل المعنية بحمايتها مباشرة.
ثانياً، إعلان تركيا وقف عملية "درع الفرات" التي بدأتها أواخر العام الماضي، بعد استنفاد أغراضها، حسب تصريحها، ولا سيما بخصوص الحؤول دون قيام منطقة حكم ذاتي كردية غرب الفرات. وعلى الأرجح، كان هذا القرار تعبيراً عن تفاهمات دولية جديدة، تعيد صياغة حجم الأدوار المسموح بها لكل الأطراف حدودياً أو داخل الأراضي السورية.
ثالثاً، فشل روسيا بفرض حل من طرف واحد من دون العودة إلى الإدارة الأميركية، على الرغم من الاتفاقات الروسية التركية الإيرانية، وهو ما استوجب تعطيل مفاوضات أستانة منتصف شهر مارس/ آذار، ولاحقاً حالة الجمود في مفاوضات جنيف 5.
رابعاً، تبلور نوع من توافق دولي وإقليمي على تحجيم دور إيران في العراق وسورية، علما أن هذا التوافق ينسجم مع طموح روسيا بالاستفراد بتقرير مصير سورية، باعتبارها منطقة نفوذ روسية.
ووفقاً لما تقدّم، إننا أمام خريطة حل جديدة، ربما تستغرق وقتاً أطول في استمرار الصراع لتصفية نفوذ الأطراف، وليس لتقوية طرفٍ على حساب آخر، كما يتصور بعض النظام، أو بعض المعارضة المسلحة، كما يجري الآن في هذه المعركة أو تلك. وقد أثبتت الأحداث، منذ معركة حلب وحتى معركة دمشق (أخيرا)، أن الانتصارات والهزائم تتساوى في معادلات الصراع الذي تم تدويله، واستخدمت الأطراف المحلية (نظام ومعارضة) فيه وقوداً في معركة التحاصص الدولية والإقليمية.
ومن المؤسف أن "المعركة" التفاوضية الحاصلة في جنيف أيضاً هي مجرد استمرار لعملية التدويل الجارية. لذا، ليست حصّة المعارضة السياسية فيها أوفر حظاً من حصة رديفتها العسكرية، حيث المنصات، بكل مسمياتها، تحولت أيضاً أدوات، كما الفصائل تميل حيث يميل هوى الداعمين الدوليين والإقليميين، وهو الآن، حسب المعطيات، ليس بصدد إنتاج حلّ، بقدر ما هو بصدد إنتاج توافق تتحاصص به الدول المعنية، على كل الملفات، من أوكرانيا إلى ملف الغاز مروراً بأمن إسرائيل وترتيبات السلام الشاملة في المنطقة، وصولا إلى الملف الأكثر سخونةً، وهو ملف إعادة الإعمار في سورية. ويذكر أن هذه هي "السلة الخامسة" التي لوح بها مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، أخيرا، ولعلها السلة الوحيدة التي يمكنها إنتاج حل يمهد لوقف المقتلة السورية الجسدية، لتبدأ بعدها حفلة التهام الجسد الاقتصادي السوري المستقبلي.
على أي حال، علمتنا السنوات الست الماضية أنه ما من ثابتٍ في العلاقات الدولية إلا المصلحة الاقتصادية، المتغيرة هي أيضاً باستمرار. ولهذا، من المبكّر معرفة طبيعة الأدوار الجديدة المنوطة بكل دولة، والتي تتقارب أو تتباعد مع مصلحة الدولة الراعية لتوزيع الأدوار والغنائم، وحتى توزيع الصراعات في المنطقة، تماشيا مع منطق أن تبقى إسرائيل آمنة، وما يجاورها دولٌ تتصارع حول حقها في الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية، وإعادة استكشاف الوسائل التي تمكن مواطنيها من سد رمق الحياة ليس أكثر، لعقود قادمة تتغير في أثنائها الأولويات، كما تموضع الدول الشقيقة والصديقة والعدوة.
وتبقى روسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، ومعهم الولايات المتحدة، تشد كل منهم الحبال وترخيها في الصراع على سورية، بينما تتحقق الفرصة المتاحة لرسم خريطة حل، ليست هي ما خرج الشعب السوري منادياً بها، وليست سورية القادمة هي سورية التي عمل عليها النظام، تدميراً وتمزيقاً أرضاً وشعباً، كما أنها ليست سورية التي يحاول كل من المعارضة والنظام الإمساك بمقاليد حكمها، وإن توهما ذلك، فهذا صراع على سورية التي لا نعرفها.
ذهبت العلاقات الاميركية - الايرانية الى تصعيد متقدم خرج الى العلن في الساعات الماضية على نحو غير مسبوق منذ أعوام عدة. ومن أحدث الدلائل ما أوردته وكالة أنباء "فارس" الايرانية الرسمية تحت عنوان: "وزير الدفاع الايراني: العسكريون الاميركيون في الخليج الفارسي لصوص مسلحون". الظروف المباشرة التي جاء فيها كلام الوزير الايراني العميد حسين دهقان مرتبطة بشهادة قائد القيادة المركزية الاميركية جوزف فوتيل أمام مجلس النواب حيث عرض لنشاطات إيران في تهريب الاسلحة الى الحوثيين في اليمن وتهديد الملاحة عند مضيق هرمز ومضيق باب المندب، قائلا: "إن هدف إيران هنا هو الهيمنة الاقليمية. إنهم يريدون ان يكونوا القوة السائدة في المنطقة".
أما الظروف المتزامنة مع هذا التصعيد في العلاقات بين طهران وواشنطن فترتبط بالتصريح المفاجئ للسفيرة الاميركية لدى الامم المتحدة نيكي هايلي التي قالت إن "أولويتنا لم تعد إبعاد الاسد عن السلطة"، وهو موقف يمثل بحسب المراقبين تغييرا كبيرا عن موقف إدارة الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما من القضية. وكان من المفترض ان يثير هذا التحوّل في الموقف الاميركي إبتهاجا في طهران التي تقاتل بضراوة من أجل بقاء رئيس النظام السوري في منصبه. لكن واقع الامور يشير الى تحوّل في الميدان بما لا تشتهيه سفن الجمهورية الاسلامية، إذ نقلت وكالة أنباء الاناضول التركية عن رئيس الشؤون الاستراتيجية في "معهد الدراسات السياسية والدولية" التابع لوزارة الخارجية الايرانية مصطفى زهران في مقال نشره على موقع "ديبلوماسي إيراني" قوله ان بشار الاسد "يدير ظهره لإيران ويتجه الى روسيا". إن كلاما إيرانيا من هذا النوع ينطوي على خيبة أمل بدأت تتسرب الى المشروع الطموح للمحافظين الايرانيين والذي يسعى الى نفوذ امبراطوري يمتد من بحر قزوين الى البحر المتوسط.
لا يستطيع المرء التكهن بما سيؤول اليه التصعيد اللفظي بين إدارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب وبين المرشد الايراني الامام علي خامنئي. لكن الامر مفتوح على كل الاحتمالات بما في ذلك احتمال الاشتباك الميداني الذي هو في المرحلة الراهنة مرجّحا أن يكون غير مباشر على امتداد الساحات من اليمن الى العراق فسوريا وانتهاء بجنوب لبنان. من أجل فهم الارتياب الايراني بسلوك الاسد أكثر، تفيد معلومات ان موسكو لفتت الرئيس السوري أخيرا الى ضرورة الانضباط في مسار الحل الذي يجري صوغه بين روسيا والولايات المتحدة. وتلمّح هذه المعلومات أيضا الى أن الاشتباكات التي وصلت أخيرا الى داخل دمشق تمثل أحد أوجه الضغط الذي مارسته إدارة الرئيس فلاديمير بوتين على الاسد من خلال التراخي في الدفاع عن العاصمة السورية، مما يشكل تنبيها الى ما ستنتهي اليه الاحداث إذا ما قررت موسكو إدارة الظهر لحليفها السوري. كأننا نفهم من كلام وزير الدفاع الايراني أن الاميركيين "لصوص سرقوا الاسد أيضا"!