مع دخول الثورة السورية عامها السابع ومرور المناطق المحررة بعدة مراحل وصراعات داخلية حاولت فيها الفصائل العسكرية إثبات وجودها وفرض هيمنتها على معظم القطاعات عسكريةً كانت ام مدنية دون مراعاة أية أنظمة أو قوانين او أعراف لتثبت أنها قادرة على القيام بكل الأعباء المدنية في الوقت الذي كانت فيه تقع بالمحظور وتتهاوى في مستنقع الحياة المدنية وتقوده الى جملة من الاستقطابات الداخلية المعقدة و التي نقلت صراع إثبات الوجود العسكري المحموم الى صراع مدني يختبئ خلف بطانة عسكرية .
ومع دخول منطقة الشمال السوري في مرحلة التهدئة الأخيرة قبل حولي شهرين وتوقف المعارك والأعمال العسكرية ، تحولت الجهات العسكرية الى الالتفات الى الشؤون المدنية لإثبات وجودها وهيمنتها عبر مؤسساتها، لينتقل صراع النفوذ الجغرافي ويتحول الى شبح يلاحق المدنيين بعد أن باتت تظهر الى السطح عورات الولاءات العسكرية من قبل تلك المؤسسات المدنية ، وبدأت تظهر ملامح الصراعات بالتشكيلات المدنية والتي تغذيها مرجعيات عسكرية بغية بسط نفوذها التام على ما تبقى للمدني من حقوق يمارسها دون استقطابات العسكر .
وفي الشهور الأخيرة لوحظ توجه محموم الى تشكيل المجالس المحلية و العشائرية والأهلية ومجالس الشورى، ففي كل قرية او بلدة او مدينة تجد فيها مجلسين محليين متناحرين بالتوازي مع مجلس للشورى وآخر أهلي وعشائري جميعها بنيت على أساس تقديم الولاء لأحد قطبي الصراع في الشمال السوري ( هيئة تحرير الشام و حركة أحرار الشام ) ليحظى كل فريق بدعم من أحد الأقطاب ويروح التشكيل الموازي للتسبيح في فلك القطب الآخر ، وينتقل الصراع العسكري لينعكس سلباً على الحياة المدنية في ظل الأحلام المراهقة للفصائل العسكرية على ما تبقى من جغرافيا المناطق المدمرة .
ولم يقتصر الأمر على مجالس الإدارة المحلية فحسب ، بل قام كل فصيل عسكري بتشكيل محاكم ودور قضاء وسجون بالإضافة الى هيئات خدمية تنموية تقوم على استثمار بعض من المكتسبات والفتات التي بقيت في المناطق المحررة، كالكهرباء والمياه والمطاحن والحبوب والافران وحتى وصل تنازعهم للتدخل بقطاعات حساسة كالتربية والتعليم وحتى الإغاثة، الأمر الذي وصل الى مرحلة التضارب بالتعطيل على الآخر عن طريق العبث بالممتلكات العامة التي تديرها مؤسسات موازية للقطب الآخر، ليبقى المواطن هو المتضرر الأكبر والأكثر تعرضاً للحرمان والخسارة في ظل عدم مبالاة الجهات العسكرية التي تدعم كل مؤسسة .
وباتت الساحة المدنية خلال الأشهر الماضية ساحة صراعات باردة واستقطابات شعواء على ممالك كرتونية تعتمد اللامركزية و تفتقد الى الدعم والخطط والموازنة وتتحكم في قرارها شخصيات عسكرية لا تملك الكفاءة والخبرة وتصدر بيانات وقرارات تشير الى سذاجة وحماقة وجهل القائم على صياغتها، وسادت عليها أجواء النكايات والمناحرات والإكتساب المادي من خلال استغلال حاجة المدنيين لما وضعت يدها عليه الفصائل العسكرية واعتبرته من موروثها الجهادي الحصري .
وليصبح الطابع العام المتحكم في الحياة المدنية هي مؤسسات شكلية محمية ومدعومة من قبل الفرقاء العسكريين، في ظل بقاء القرار الأول والأخير للجهة العسكرية دونما الاستئناس برأي الخبرات المدنية المتاحة في المناطق المحررة، وضاربةً بعرض الحائط التجارب المريرة للشعب السوري من قانون الطوارئ الذي انتهجه الأسدين الأب والإبن خلال نصف قرن من الزمن على الشعب السوري وإعطاء الجهات العسكرية والأمنية مطلق الصلاحيات في التسلط على رقاب المدنيين ومؤسساتهم التي تحولت الى مؤسسات صورية تنفذ ما تمليها عليه الأفرع الأمنية دونما اعتراض .
وفي إضاءة على بعض المؤسسات الثورية التي لم يكن للجهات العسكرية يدٌ فيها فهي - على قلتها - إلا أنها الوجه النير للحياة المدنية فعلى سبيل المثال لا الحصر كسبت الثورة رصيداً قيماً من خلال مؤسسة الدفاع المدني " القبعات البيضاء " و ووزارة الصحة من حيث إظهار الصورة النيرة للوعي في الإدارة المدنية ، وكان ذلك نتاجاً لعدم سماحها للمراهنات والمراهقات العسكرية بالعبث في تشكيلها وادارتها والتدخل في شؤونها ، فأظهرت نموذجاً يحتذى به من العمل المؤسساتي المحايد والقادر على القيام بأعماله على أكمل وجه دونما التحييز الى طرف ما في المنطقة المحررة وجعلت مؤسساتها من المواطن المدني وتلبية حاجاته البوصلة الأساسية لمسيرها محققةً ما عجزت عنه كل مؤسسات العسكر الواهية والغوغائية ، وكانت واحةً خضراء وسط ساحة من الممالك الهلامية التي تبنى على الرمال والتي لم تنتج لرعاتها حتى اليوم إلا الوهم و السراب .
ومن خلال التجارب الأخيرة ونجاعتها ونجاحها كان لزاماً على الشعب السوري أن يصل الى مرحلة من الوعي، يزدري فيها ولوغ العسكر في مستنقع الحياة المدنية، والتوعية من عدم تحويل المدنيين الى قطبين متناحرين أسوة بصراعات العسكر ، وعدم ترك المجال لتعزيز القطبية والصراع وتحويله من الساحة العسكرية الى التناطح في الساحة المدنية ، حيث لا نتيجة لها إلا أن يزهق فيها ما تبقى من الحياة المدنية تحت اقدام بساطير العسكر المتصارعة.
الغريب أن ثمة بقايا روح عند حزب البعث كي يعقد مؤتمره القومي في دمشق بعد عقود من التأخير، وبحضور من سمّوا قيادات بعثية قطرية من عدة دول عربية. والأغرب هو المشاحنات العنيفة التي شهدها المؤتمر وخروجه بقرار حل القيادة القومية للحزب بشكل نهائي، والاستعاضة عنها بمكتب قومي استشاري. والأكثر غرابة ما ذكرته وسائل الإعلام الرسمية عن سبب الحل، وهو غياب دور القيادة القومية وعدم قدرتها على ضبط الأمور الأمنية في البلاد!
منطقياً، كان الأجدى اتخاذ قرار بحل الحزب، ليس فقط لأنه خان الشعارات التي رفعها، وتحول إلى أداة قهر وإفساد بيد النظام الحاكم، أو لأنه فقد مشروعيته القومية بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967، والتي تمر ذكراها الخمسون، هذه الأيام، وإنما الأهم لأن رياح الربيع العربي، أكملت الإجهاز عليه، معلنة نهاية مرحلة طويلة تصدرت فيها الشعارات القومية المشهد، أو معلنة، ربما، بداية تبلور إرهاصات لفكر قومي جديد غني بعمقه الحضاري وبقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
لم تكن صدفة أن تتصدر قضايا الحرية والكرامة والعدالة، شعارات الثورة وخطاباتها، كنتيجة طبيعية لانحسار الفكر القومي لدى السوريين، وتراجع إيمانهم بدوره كحافز نضالي وتغييري، وهم الذين كابدوا كثيراً من ما آلت إليه أوضاعهم ومن النتائج المريرة التي حصدتها سنوات طويلة من تغليب النضال القومي على كل شي، ما يفسر ليس فقط شدة رفضهم لسلطة الاستبداد القائمة وإنما أيضاً للمسوغات الأيديولوجية التي تسوغ استمرارها في الحكم.
وتالياً لم تكن مصادفة أن تتقدم مشهد الثورة، التيارات الليبرالية بداية، ثم الإسلامية فيما بعد، وأن تكون قوى المعارضة، التي لا تزال تتعاطى وفق المنظور القومي وشعاراته، هي الطرف الأضعف حضوراً وتأثيراً في الحراك الثوري، وأن تتكشف صورة لمجتمع لا تعضده آمال قومية وهوية وطنية دأبت السلطة على التغني بهما، بل تنهشه اصطفافات عصبية مريضة ومتخلفة، جراء توسل النظام الشمولي الشعارات القومية والوطنية، لتسويغ القمع والتنكيل وحماية مراتع الفساد والامتيازات الفئوية.
هو حزب البعث الذي احتلت الألوف المؤلفة من قواعده، خصوصاً من أبناء الفلاحين والعمال وصغار الكسبة، الصفوف الأولى في الاحتجاجات والتظاهرات ضد فساد السلطة وعنفها المفرط وقدموا أثمن التضحيات، ليصح القول إن الحركات الإسلامية ما كان لها أن تحوز موقعاً وازناً لولا أنها كسبت فئات شعبية واسعة فقدت ثقتها بحزب البعث والفكر القومي وانسلخت بصورة جماعية عنهما، معتقدة أن الخيار الديني يشكل بديلاً سياسياً وملاذاً روحياً يعينها على مواجهة واقع القهر والاستبداد وأوضاع تنموية ومعيشية مذرية.
هو حزب البعث الذي استسهل أهله التخلي دستورياً عن دوره كحزب قائد للدولة والمجتمع، ولم يعد يسمع لهيئاته وكوادره أي صوت مؤثر في الصراع الدائر، وهو الحزب القومي الذي بادرت سلطته لفتح النار على المبادرات العربية الساعية لمحاصرة تفاقم المحنة السورية واحتوائها، واستجرت لمواجهة شعبها ما حلا لها من الأطراف الإقليمية والدولية، لتمكن الأجنبي المعادي للعرب وطموحاتهم، كإيران وتركيا وروسيا، من تقرير مصير البلاد والمنطقة، وأيضاً هو الحزب الذي دأبت قيادته على تأجيج العصبيات القومية والمذهبية عبر ممارسات مغرقة بالشوفينية واضطهاد الآخر المختلف، ثم توظيف عنفها المفرط واستفزازاتها الطائفية لتنفير البشر من وطنهم ودفعهم للهروب بحثاً عن حياة آمنة وكريمة.
واستدراكاً، هو الحزب الذي قادت سلطته أعنف ثورة مضادة لتحطيم آمال الشعب السوري في التغيير والحرية، واستباحت أشنع وسائل الفتك وأشدها عنفاً وتدميراً للدفاع عن سطوتها وامتيازاتها حتى لو كان الخراب والطوفان، ليغدو أحد وجوه الوفاء لما قدم من تضحيات، هو المسارعة لإطلاق رصاصة الرحمة على حزب البعث وفكره القومي الشوفيني في لحظات احتضارهما، رفضاً لإدمانهما اللاعقلانية وتغليب الغرائز والانفعالات على الواقع الملموس والتحليل الموضوعي، ورفضاً للأوهام والمنفخات الفارغة والجذور المريضة الفكرية والبنيوية التي حاولا أن يستمدا منها حضورهما، والأهم رفضاً لاستمرار دوريهما كأداة قهر وإذلال لمصلحة نظام ازدرى الشرعية الديموقراطية، وكرس سلطانه بشرعية ديماغوجية لا تهتم بالتأسيس لدولة المواطنة والمؤسسات واحترام حقوق الإنسان، بل تتوسل شعارات تدعي الممانعة وتحرير فلسطين وردع المطامع الإمبريالية والصهيونية كي توطد دعائم الاستبداد وتلغي الحريات العامة والتعددية السياسية وتداول السلطة.
وفي المقابل، ربما يكمن أحد وجوه التفاؤل بالرهان على تقدم مصلحة غالبية السوريين، مع تفاقم معاناتهم وضيق خياراتهم، في لجوئهم للتمسك بهويتهم ووحدتهم وتعدديتهم على طريق خلاصهم من الاستبداد والاستباحة الخارجية وخيار الإسلاموية السياسية، وربما يكمن أحد وجوه الأمل، في أن تتبلور في سورية التي اعتبرت، في ما مضى، أهم قلاع القومية العربية، وأنجبت أبرز منظري الفكر القومي وأكثرهم شهرة، ولم تتأخر في التخلي عن هويتها وخصوصيتها لتلبية نداء أول وحدة عربية عرفها التاريخ الحديث، أن تتبلور أفكار واجتهادات نقدية للفكر القومي تحرره من جملة التباسات أحاطت به، ومن اندفاعات شوفينية بالغة الخطورة ارتكبت باسمه، وأساساً لتؤكد حقيقة الدور الرئيس للاستبداد في تشويه الفكر القومي وتحويله إلى إيديولوجية مغلقة ومفرغة من أي بعد إنساني أو حضاري.
هو أمر لافت ومثير، انتماء غالبية أنظمة البلدان التي ناهضتها الشعوب وشهدت ثورات، كمصر وسورية واليمن وليبيا، إلى الفكر القومي، وهي حقيقة ساطعة، وجود أبعاد وروابط قومية كامنة لمستقبل التغيير العربي، اتضحت ليس فقط في قوة وعمق المشتركات وتشابه أوجه المعاناة، وإنما في التواتر الزمني لنهوض الثورات العربية والتأثيرات المتبادلة بينها، والأهم في تماثل الشعارات والمطالب وتشابه الأعداء والمآلات، ما يوفر شرطاً موضوعياً لتعاضد من طراز جديد بين الشعوب العربية، عنوانه نصرة الديموقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان كطريق لا غنى عنها لحماية الخيار القومي وتمكينه في الأرض.
دخل الصراع العسكري السوري مرحلة مختلفة كليا عن المراحل السابقة، لجهة المساحات الجغرافية الجديدة، ولجهة القوى المتصارعة بشكل مباشر هذه المرة (الولايات المتحدة، المعارضة السورية / النظام، الفصائل الدائرة في الفلك الإيراني، روسيا، تنظيم الدولة الإسلامية).
ملامح المعركة بدأت منذ فترة وبلغة أميركية واضحة لتحقيق هدفين معلنين: أولهما يتمثل في منع تنظيم الدولة الإسلامية من الانتشار في الصحراء السورية مع اقتراب معركة دير الزور، والثاني منع إيران من اختراق طرفي الحدود السورية/العراقية.
أخذت المعركة بعدا آخر بعد القصف الأميركي لرتل عسكري تابع لإيران -عند منطقة الحشمي قرب مفرق الزرقا- كان متوجها نحو التنف، الأمر الذي أحدث استنفارا كبيرا من دمشق وطهران، وأطلق معركة الحدود والمحاور الصحراوية بشكل واضح وصريح.
صراع الحدود
بدأت واشنطن أول إجراءاتها على الأرض منذ نحو شهرين عندما أغلقت بالتعاون مع البشمركة معبر ربيعة الحدودي في محافظة نينوى، وتحولت مدينة ربيعة إلى تجمع عسكري للقوات الأميركية والبشمركة لمنع قوات الحشد الشعبي من الاقتراب من هذه المنطقة من الناحية العراقية.
كما تم قطع الطريق أمام أية محاولة لعبور الأراضي السورية من جهة الحسكة، بعدما لاحت في الأفق تفاهمات بين الحشد وحزب العمال الكردستانيفي شنغال، ومحاولة الطرفين الحصول على حصة جغرافية من الحدود.
وإلى الجنوب؛ أحكمت الولايات المتحدة مع فصائل المعارضة السيطرة على منطقة التنف عند المثلث السوري/العراقي/الأردني، قاطعة المعبر الإستراتيجي بين سوريا والعراق أمام الطموحات الإيرانية.
لكن بين معبر ربيعة العراقي ومقابله السوري اليعربية في الشمال، وبين التنف في الجنوب؛ تمتد الحدود السورية مع العراق عبر محافظات الحسكة ودير الزور ثم حمص.
وباستثناء معبر القائم/البوكمال الخاضع لسيطرة "تنظيم الدولة الإسلامية"؛ لا توجد معابر رئيسية في هذا الشريط الحدودي، ولذلك عمدت طهران ودمشق -في لعبة تبادل الأدوار- إلى محاولة فتح ثغرات في الجدار الحدودي:
هناك ثلاث نقاط حدودية يسعى الحشد الشعبي إلى اختراقها ضمن الشريط الممتد من غرب محافظة نينوى إلى القائم في محافظة الأنبار.
المشكلة في هذا الشريط لا تكمن في الجانب العراقي وإنما في سوريا، حيث ينقسم الشريط الحدودي بين محافظتيْ الحسكة ودير الزور، وفي الأولى تسيطر "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) وفي الثانية يسيطر "تنظيم الدولة الإسلامية".
وليس معلوما إلى الآن كيف يمكن لقوات الحشد اختراق الحدود، فمن ناحية الحسكة سيتطلب الأمر تفاهما مع "قسد" بعيدا عن الولايات المتحدة، وهذا أمر بالغ الخطورة لكون "قسد" لا يمكنها تحمل العداء الأميركي، لذلك هددت بمواجهة أية محاولة من الحشد لعبور الأراضي السورية، وهي رسالة تلقفها الحشد فأعلن قبل أيام أنه لا ينوي دخول هذه الأراضي.
أما من ناحية محافظة دير الزور فإن طريق القائم/البوكمال مغلق بسبب الفيتو الأميركي، وقد حاول الحشد قبل أسبوعين اختراق هذا المعبر فتلقى ضربة عسكرية من الولايات المتحدة التي تضع نصب أعينها مدينة البوكمال كهدف مقبل.
ولن يبقى أمام الحشد سوى النقطة الثالثة والأخيرة في المنطقة المقابلة لمدينة الميادين السورية، لكن مثل هذه المحاولة لن تحدث إلا بعد إطلاق معركة دير الزور فعليا، فالحشد لن يخاطر بتحمل خسائر كبيرة في هذه المعركة حيث الثقل الحقيقي لتنظيم الدولة في سوريا.
من الجهة السورية؛ يسعى النظام إلى البحث عن خيار آخر غير التنف بعدما أصبح حاجزا لا يمكن اختراقه، وفي ظل صعوبة الوصول إلى دير الزور في هذه المرحلة، يعمل النظام على اختراق الحدود شمال غرب التنف بنحو 60 كلم (منطقة صحراوية قاحلة)، لكن هذا الأمر يتطلب بداية تثبيت صراع المحاور داخل سوريا، ويتطلب ثانيا موافقة أميركية لا تزال مجهولة التحقق إلى الآن.
ويبدو أن محاولات النظام السوري للوصول إلى الحدود من هذه المنطقة ستكون صعبة، بعد إعلان "جيش مغاوير الثورة" إقامة قاعدة عسكرية بدعم أميركي في منطقة الزكف الواقعة شمال التنف على الطريق نحو البوكمال.
لعبة المحاور
الصراع على الشرق معقد ومتشابك، فالأمر لا يقتصر على المناطق الحدودية فقط وإنما يتعداها إلى العمق الجغرافي السوري، فالمعارك في جنوبي الرقة وريف حلب الشرقي وجنوب وشرق حمص والقلمون الشرقي وصحراء السويداء، هي جزء لا يتجزأ من الصراع على الحدود.
اكتشف الأميركيون ومعه فصائل المعارضة أن تثبيت السيطرة على الحدود مع العراق يتطلب الوصول إلى محافظة دير الزور وتحديدا البوكمال أولا، ويتطلب ثانيا الدخول في عمق البادية غربا لتشكيل محمية جغرافية عسكرية، في حين وجد محور دمشق/طهران/موسكو أن مواجهة الولايات المتحدة والفصائل يتطلب تأمين العمق الجغرافي الداخلي قبيل الانتقال إلى الحدود.
وهكذا نشأت لعبة المحاور العسكرية لكلا الطرفين، لكن هذه اللعبة تبدو أكثر وضوحا وتماسكا لدى المحور السوري/الإيراني مما هي عليه الأمر لدى الولايات المتحدة وفصائل المعارضة.
نجح النظام في تحقيق إنجازات ميدانية نتيجة هدنة المناطق الأربع التي تبين أن الروس استعجلوا فيها للحاق بالأميركيين في الشرق، وليس من أجل تهيئة المناخ لتحقيق السلام السوري.
وعليه فقد تمكن النظام من تشكيل سد عسكري يمتد من ريف حمص الجنوبي والشرقي إلى بادية السويداء، على امتداد القلمون الشرقي. وقد سمح هذا السد الجغرافي لقوات النظام بالانتقال إلى مرحلة ثانية تشمل ثلاث مناطق جغرافية:
ـ المنطقة المحيطة ببلدة القريتين في القلمون الشرقي جنوبي محافظة حمص.
ـ المنطقة المحيطة بتدمر، حيث تمت السيطرة على قصر الحلابات والمناطق الممتدة نحو القريتين، وهذه المنطقة مهمة لأنها تؤمن الطريق نحو السخنة البلدة التي تشكل أهمية إستراتيجية كبيرة لكونها بوابة النظام للدخول إلى محافظة دير الزور.
ـ المنطقة الصحراوية في السويداء، إذ سيطرت قوات النظام على منطقة الزلف ورحبة ومنقار رحبة.
ويسعى النظام إلى وصل هذه المناطق الثلاث ببعضها البعض قبل الانتقال إلى معركة دير الزور، وذلك من أجل تحقيق هدفين: الأول تقطيع أوصال فصائل المعارضة وتشتيتها بحيث لا تستطيع الاتجاه نحو الغرب، والثاني محاصرة فصائل المعارضة في منطقة التنف لقطع الطريق على أية محاولة أميركية بتوسيع رقعة سيطرتها الجغرافية.
وإذا كانت مخططات النظام واضحة في ريف حمص الشرقي، فإنها غير معروفة عند المثلث الجغرافي السوري/العراقي/الأردني، فهل ستذهب دمشق وطهران نحو مواجهة مباشرة مع واشنطن لجرها إلى الانخراط في المستنقع السوري؟ أم ستكتفيان بحصار الأميركيين وفصائل المعارضة في هذه المنطقة؟ وإلى أين سينتهي المخطط الأميركي الذي لا يزال غمضا إلى الآن؟
من المبكر الإجابة على هذه الأسئلة، لكن الواضح حاليا هو عدم وجود نية أميركية لمواجهة النظام عسكريا على الأرض بشكل مباشر، والانتصارات العسكرية التي حققها النظام مؤخرا على حساب المعارضة في جنوب حمص وبادية السويداء والقلمون الشرقي توحي بذلك.
ففي حين تسعى الفصائل إلى ممارسة ضغط عسكري على النظام غرب البادية باتجاه القلمون الشرقي، تركز الولايات المتحدة على معركة الحدود فقط.
لكن واشنطن قد تسمح للفصائل بإقامة نقاط جغرافية آمنة تكون بمثابة حواجز تقف في وجه النظام وإيران إذا ما قررا التوجه نحو التنف، وهذا ما حدث في منطقة السبع بيار، وما حدث مع إسقاط الفصائل لمقاتلة سورية في منطقة تل دكوة بريف دمشق الشرقي.
صحيح أن التحالف الأميركي مع فصائل المعارضة في هذه المنطقة سيكون نسخة مكررة عن التحالف الأميركي مع "قوات سوريا الديمقراطية" في الشمال، من ناحية التركيز على محاربة تنظيم الدولة، لكن الفصائل هنا تتحرك في بيئة معادية لها، في حين كانت "قسد" تتحرك في بيئة مسالمة، ولم يكن أمامها سوى عدو واحد هو تنظيم الدولة.
ولذلك زودت واشنطن فصائل المعارضة بأسلحة متطورة منها مضادات طيران، لحماية نفسها من هجمات النظام والقوات التابعة لإيران، ولمنحها القدرة على التحرك ضمن مساحات واسعة في شمال البادية وشرقها وجنوبها.
وكذلك للقيام بعمليات عسكرية دفاعية ضد قوات النظام وحلفائه ضمن محورين رئيسيين: شمالي يمتد من التنف نحو البوكمال، ويمكن أن يتطور ويتجه نحو الغرب عند السخنة، وجنوبي يصل التنف ببادية السويداء ثم درعا عند الحدود الأردنية.
حافة الهاوية
التطورات العسكرية في الشرق السوري تشير إلى وجود تفاهم أميركي/روسي مضمر حول تقاسم النفوذ بين محوريْ البلدين، وهذا الأمر بدا جليا مع توقف قوات النظام عن التقدم نحو قاعدة التنف أولا، ومع التزام واشنطن الصمت تجاه القصف الروسي الذي استهدف "جيش أسود الشرقية" أثناء تقدمه نحو حاجز ظاظا ومنطقة سبع بيار في البادية ثانيا.
ويبدو من مسار العمليات العسكرية أن الحدود السورية/العراقية داخل محافظة حمص ستكون من نصيب الولايات المتحدة وفصائل المعارضة، ويمنع عليها التوغل نحو الغرب حيث مناطق النظام، على أن يبقى الجنوب في درعا والجنوب الشرقي في السويداء متروكا إلى حين.
وليس معروفا ما هو مصير القوات التابعة لإيران هناك؟ وهل الحضور الروسي المتزايد في الجنوب مقدمة لإطلاق معركة كبرى للضغط على الأميركيين لتحصيل مكاسب في الشرق؟ أم أنها خطوة للحلول محل الطرف الإيراني؟
أما محافظة دير الزور فتبدو أصعب من أن يسيطر عليها طرف بمفرده، وأغلب الظن أن المحورين سيتقاسمان عبء قتال "تنظيم الدولة" ويتقاسمان تركته الجغرافية، وأيضا من دون الحضور الإيراني. وقد كشفت الأيام السابقة الحضور الروسي في محيط تدمر على حساب القوات التابعة لإيران.
حتى الآن، لا يزال التحرك العسكري الأميركي والروسي مدروسا وخاضعا للضوابط الميدانية، لكن موسكو وواشنطن تسيران على حافة الهاوية في ظل رفض إيران معلن لأية محاولة تبعدها عن الحدود، وإذا ما قامت إيران بكسر الخطوط الحمر الأميركية، فإن مرحلة جديدة من الصراع ستبدأ، وقد تضع القوات الأميركية والروسية وجها لوجه.
كتبتُ قبل أيام عن ملامح معركة إيرانية – أميركية على الصحراء بين سورية والعراق. تساءلتُ هل يمكن أن يسمح الأميركيون للإيرانيين، الممثلين بجماعات شيعية تعمل تحت إشرافهم وتقاتل إلى جانب القوات النظامية السورية، بالوصول إلى الحدود مع العراق عند معبر التنف (المقابل لمعبر الوليد في الجانب العراقي). جاء جواب الأميركيين سريعاً. ضربوا رتلاً لحلفاء دمشق وقتلوا عدداً منهم ودمّروا آلياتهم بمجرد اقترابهم من التنف. لكن هؤلاء لم يرتدعوا. حاولوا التقدم مجدداً بعد أيام، فاستهدفتهم ضربة ثانية. وزيادة في التوضيح، ألقى الأميركيون منشورات من الجو فوق القوات النظامية وحلفائها تحدد لهم خطاً أحمر حول التنف لا يمكن الاقتراب منه. ليس واضحاً إذا كان هؤلاء قد فهموا الرسالة فعلاً، أم أنهم يريدون اختبار صبر الأميركيين وحدود ردهم. لم يعاودوا هذه المرة الاقتراب من التنف، بل شقوا طريقاً آخر شمالها ووصلوا إلى الحدود العراقية، قاطعين بذلك الطريق أمام جماعات سورية يسلحها الأميركيون للتقدم نحو البوكمال في دير الزور.
الناطق العسكري السوري الذي ظهر في التلفزيون الحكومي معلناً وصول قوات النظام إلى حدود العراق، كان صريحاً بحديثه عن «حلفاء» شاركوا في المعركة. وحتى في المشاهد المصوّرة التي عرضتها وزارة الدفاع السورية كان واضحاً أن القوات التي تقدمت شمال التنف تألفت على وجه الخصوص من هؤلاء «الحلفاء»، أي الجماعات التي تعمل بإشراف إيران. مروحياتهم وآلياتهم وعتادهم ولباسهم كله أوحى بذلك، على رغم رفعهم العلم السوري.
إعادة فتح طريق برية بين دمشق وبغداد بدت بمثابة هدف إيراني ثانٍ في مرمى الأميركيين. بالطبع، الهدف الأول سجّله «الحشد الشعبي» بوصوله إلى حدود العراق مع سورية (بين نينوى والحسكة). وكي لا يكون هناك لبس في حقيقة أن إيران هي من سجّل هذا الهدف، سارع قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني إلى تفقّد «الحشد» عند الحدود السورية.
ولكن لماذا يسمح الأميركيون للإيرانيين بتسجيل هذه الأهداف في مرماهم؟ هل هم عاجزون عن الرد؟ بالطبع لا. الأميركيون بلا شك قادرون على الرد، وهم يستعدون لذلك، على رغم انشغالهم بالمعركة ضد «داعش» التي يعطونها الأولوية. ويعرف الإيرانيون على الأرجح هذه الحقيقة، ولذلك فإنهم يسعون إلى تثبيت مواقعهم والاستفادة من عدم رغبة الأميركيين في مواجهة معهم خشية أن تؤثر سلباً في المعركة ضد «داعش». لكن عدم حصول المواجهة الأميركية– الإيرانية حتى الآن لا يعني أنها لن تحصل. فالمؤشرات كلها توحي بأنها آتية لا محالة، وقد تحصل في أكثر من ساحة.
إيران نفسها قد تكون إحدى هذه الساحات. وفي لجوء إدارة ترامب إلى مايكل داندريا المعروف بـ «آية الله مايك» وتسليمه ملف إيران في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي آيه)، أكثر من رسالة لطهران. ومايك هذا اسم معروف في عالم الاستخبارات منذ إشرافه على حملة طائرات «الدرون» التي قصمت ظهر «القاعدة» وقضت على قياداتها على الحدود الباكستانية– الأفغانية.
العراق أيضاً سيكون على الأرجح ساحة أخرى من ساحات المواجهة الأميركية– العراقية. لكن مهمة الأميركيين هنا لن تكون سهلة. فقد ثبّت الإيرانيون أقدامهم في العراق منذ أن «أهدتهم» إياه واشنطن عقب إطاحة صدام حسين عام 2003. وعلى رغم أن هناك شرائح عراقية واسعة تعارض النفوذ الإيراني، إلا أن طهران تملك الورقة الأقوى عسكرياً من خلال فصائل «الحشد الشعبي». ولا يريد الأميركيون، كما يبدو، مواجهة مع «الحشد» حالياً خشية عرقلة الحرب ضد «داعش».
وسورية بدورها ستكون ساحة أخرى من ساحات المواجهة. لكن الحرب ضد «داعش» ليست فقط ما يؤخر اندلاعها. فالدور الروسي في دعم حكومة دمشق لا يجب إغفاله بالطبع، وإن كان الأميركيون يتمنون على الأرجح أن يؤدي النفوذ الروسي في نهاية المطاف إلى تقليص نفوذ إيران، وإن كان ذلك لا يبدو واقعياً في ظل الوضع الراهن.
أما لبنان فسيكون بدوره ساحة مواجهة تلوح منذ شهور، وستستهدف تحديداً «حزب الله». لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي عقدت بالأمس جلسة ناقشت فيها «خيارات» المعركة ضد هذا الحزب واستمعت إلى خبراء ومسؤولين سابقين اتهموا إدارة باراك أوباما بأنها - نتيجة توقها إلى اتفاق نووي مع الإيرانيين - «حلّت» أو «غيّرت مسار» أو «جمّدت» تحقيقات ومحاكمات مرتبطة بـ «إرهاب حزب الله».
إذاً، ملامح المعركة الأميركية – الإيرانية توحي بأنها حاصلة لا محالة.
التحديات الأساسية التي يواجهها لبنان اليوم يتصل معظمها بانعكاسات الحرب السورية، وإن كان لبنان يعاني من تشققات بنيوية سابقة للحرب السورية.
رغم التقدم المحرز المتصل بانتخاب رئيس للجمهورية بعد 30 شهراً من الفراغ، ومن ثم تشكيل حكومة جديدة، وملء عدد من المناصب الأمنية والإدارية، فإن تعثر ولادة قانون جديد للانتخاب وتفاوت الرأي والتقدير حول موعد الانتخابات المقبلة يبرزان هشاشة الائتلاف الحاكم اليوم وعدم امتلاك أطرافه رؤية مشتركة لمرحلة ما بعد الانتخابات. والسؤال المهم الذي يطرح اليوم في لبنان: هل فقد حزب الله قدرته على الترجيح أو الحسم بين هؤلاء الأطراف، على غرار ما يضطلع به منذ مايو (أيار) 2008، وعلى غرار ما قام به أخيراً عند ترجيح اختيار العماد ميشال عون للرئاسة، أو عند وضع اللمسات الأخيرة على تشكيلة حكومة الرئيس سعد الحريري؟ أم أن الحزب ينتظر التوقيت الملائم؟ أم هو غير متحمس لإجراء الانتخابات قبل اتضاح الوضع الإقليمي الحرج والمتحرك؟ هذا ما سنتبينه، على الأقل جزئياً، خلال الأسابيع القليلة الفاصلة عن 20 يونيو (حزيران)، موعد انتهاء الولاية الممددة للمجلس الحالي المنتخب عام 2009. وتبعاً للسيناريو الذي سترسو عليه عملية تأجيل الانتخابات، سيتضح حجم الضرر اللاحق بمصداقية المؤسسات والسلطات.
القلق من المجهول وعدم اليقين في لبنان لم يعد يقتصر على المستوى المؤسسي والسياسي، بل بات يطاول أخيراً المستوى الأمني الذي كان مسلماً به ضمن الستاتيكو القائم منذ اندلاع الأزمة السورية أنه خط أحمر. فالمتغيرات المتسارعة في المنطقة منذ انتخاب دونالد ترمب تشي بتوجه أميركي جدي نحو تحجيم طموحات إيران الإقليمية، وهي تطرح بالتالي من جديد مسألة حزب الله ودوره الخارجي. وإن كانت احتمالات التصعيد تنحصر حتى الآن في المسرح السوري، فإن دخول العامل الإسرائيلي على الخط، سواء من بوابة منع الحزب من الحصول على أسلحة كاسرة للتوازن، أو منع إيران من إقامة منطقة نفوذ جديدة محاذية للجولان، أو منع قيام خط إمداد بري متواصل بين إيران وحزب الله في لبنان، يدعو إلى القلق من انفلات أي مواجهة بين إسرائيل وحزب الله في سوريا وتمددها إلى لبنان، وذلك رغم توازن الرعب القائم حالياً بين الطرفين. إن أي حرب جديدة بين إسرائيل وحزب الله على غرار 2006 ستكون لها نتائج كارثية على لبنان.
الترجمة الميدانية للتوجه الأميركي الجديد حيال إيران وحزب الله لم تتضح بعد، لكن ثمة توجه جدي لفرض رزمة جديدة من العقوبات على إيران وحزب الله، من بوابة مكافحة الإرهاب بعدما تم استبعاد خيار تمزيق الاتفاق النووي. وما تسرب من معلومات حول مشروع العقوبات الجديد يشير إلى احتمال توسيعها إلى كل من يتعامل مع الحزب ولتطال ربما مسؤولين في الدولة اللبنانية. وبمعزل عمّن ستطاله العقوبات الأميركية المنتظرة، فإن مجرد إقرارها أو حتى الاستمرار بالتلويح بها يشكلان عبئاً إضافياً على الوضع الاقتصادي الهش أصلاً الذي تعرض في السنوات الماضية لسلسلة ضربات لم يتعافَ منها بعد. فاندلاع الحرب في سوريا، ثم انخراط حزب الله فيها، كانا كفيلين بنقل نحو 8 في المائة من سكان سوريا إلى لبنان، حيث باتوا يشكلون 25 في المائة من إجمالي السكان.
تزامناً مع عبء النزوح السوري، بدأ لبنان يعاني تدريجياً نوعاً من العزلة الاقتصادية ذات أوجه عدة؛ أهمها انقطاع خطوط التصدير البرية، وامتناع السياح الخليجيين عن زيارة لبنان، وانخفاض التدفقات المالية التي تشكل تقليدياً رئة التمويل الخارجية للبنان. وقد انخفضت لسببين: تراجع عائدات النفط، ورداً على تزايد استخدام إيران وحزب الله للبنان منصة إعلامية وسياسية ضد السعودية ودول الخليج.
ؤؤ
قبل أعباء الحرب السورية، لم يكن لبنان «جنة» اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. وفي طليعة التشققات التي كان يعانيها وما زال، الانقسام الحاد حول المنظومة العسكرية التي يحتفظ بها «حزب الله» خارج الدولة التي باتت أهم ذراع خارجية للاستراتيجية الإيرانية، والتي يعود الاعتراض عليها داخلياً إلى ما قبل اندلاع الحرب السورية.
كذلك، هناك الفساد الذي يحتمي بنظام «المحاصصة» بين زعماء الطوائف بذريعة حماية المصالح الاستراتيجية لطوائفهم، في حين أنها حقيقةً التجسيد المحلي لنظام الدولة الغنائمية القائم على السطو على المال العام والحيز العام واستغلاله وتوزيعه على قاعدة الزبائنية السياسية أو المحسوبية. ويعتبر الفساد العائق الرئيسي أمام التنافسية والاستفادة من الحيوية الكبيرة للقطاع الخاص اللبناني المتميّز بروح المبادرة وثقافة ريادة الأعمال. وثمة من يقدر حجم «الاقتصاد الأسود»، الذي يشتمل على التهريب والتهرب الضريبي والرشوة والإثراء غير المشروع، بخمسة مليارات دولار، أي ما يعادل ثلث الموازنة العامة للدولة أو 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
ضمن هذا المناخ، اندلعت الحرب السورية ومعها أزمة اللجوء. ارتفع عدد إجمالي المقيمين في غضون سنتين 30 في المائة، وهي نسبة غير مسبوقة في التاريخ الديموغرافي الحديث لأي دولة. ولتبين فداحة الوضع، يكفي النظر إلى انخفاض حصة الفرد من الناتج المحلي دراماتيكياً من 9400 إلى 7900 دولار، أي بنسبة 14 في المائة. فضلاً عن ذلك، فإن الضغط على المجتمعات المضيفة للاجئين وعلى البنى التحتية بات غير محمول، خصوصاً الطرقات والصرف الصحي والكهرباء. صحيح أن أزمة الكهرباء هي في الأساس أزمة فساد وسوء إدارة، لكن الطلب تزايد بقوة بسبب النزوح. كذلك، فإن البطالة بين اللبنانيين ارتفعت من 9 في المائة إلى 20 في المائة، والعمالة غير النظامية بينهم باتت تناهز 30 في المائة، فيما هي تفوق الـ50 في المائة بين السوريين. نسبة الفقر بين اللبنانيين ارتفعت من 27 في المائة إلى 35 في المائة، وهي تصل بين اللاجئين السوريين إلى 75 في المائة. باختصار، الخسائر المتراكمة للبنان على مدى 6 سنوات من جراء الأزمة بلغت 25 مليار دولار.
الجميع، دولاً ومنظمات، «معجب» بصمود لبنان وسخاء اللبنانيين، لكن قدرة لبنان على الصمود تتآكل كل يوم. والوصفة التقليدية المطروحة أمامه، أي الاكتفاء باستيعاب اللاجئين ودمجهم في سوق العمل، تنم إما عن جهل فادح أو عن تقصير. لا يمكن لأي اقتصاد من 4 ملايين نسمة أن يهضم 1.5 مليون نسمة إضافية، وأن يُطلب منه خلق نصف مليون فرصة عمل إضافية، لا في خلال 5 سنوات ولا في خلال 20 سنة. إن أي خبير اقتصادي عاقل يدرك هذا الأمر، هذا إذا وضعنا جانباً التوترات والمزايدات العنصرية الخطيرة التي تثيرها قضية النازحين. إن الاستيعاب عبر سوق العمل فحسب، وهو ما يُطلب من لبنان، ليس حلاً لأزمة النازحين. الحل المتكامل، الواقعي والعادل والمستدام، يجب أن يقوم على رؤية تعطي أولوية متكافئة لثلاث ركائز:
1 - العودة الآمنة للاجئين، أي المحصنة أمنياً واقتصادياً، إلى مناطق تحظى بالحماية الدولية داخل سوريا.
2 - الاستيعاب المؤقت لجزء من العمالة السورية التي لا تشكل منافسة لليد العاملة اللبنانية. وهذا أمر مفيد للجانبين ويتطلب تنظيماً أكثر فاعلية لسوق العمل، ولا طائل من التحريض والهذيان الشعبوي في هذا المجال.
3 - مشاركة المجتمع الدولي بشكل فعلي في تحمل الأعباء، ليس مالياً فحسب، إنما أيضاً باستيعاب عدد أكبر من السوريين الذين يرغبون في الانتقال إلى بلد ثالث. صحيح أن هناك تقصيراً فادحاً من المجتمع الدولي حيال لبنان والدول المضيفة، لكن المسؤولية الأولى تقع على السلطات اللبنانية التي لم تستقر حتى الآن على سياسة متكاملة وفاعلة لإدارة أزمة النازحين.
الخلاصة العامة:
1 - إن عودة لبنان إلى شيء من الاستقرار يمر بحتمية الحل السياسي في سوريا، الذي يتضمن فيما يعني لبنان ثلاث أولويات: محاصرة الإرهاب، وانسحاب حزب الله من سوريا، وعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم.
2 - إن عودة الأمور إلى نصابها في لبنان تتطلب، فضلاً عن تثبيت القرار 1701، تخلي حزب الله عن دوره الإقليمي وعن دوره الأمني داخل لبنان وتحوله إلى حزب سياسي. هذا معبر إلزامي لتحييد لبنان ولتطبيع الأوضاع فيه.
3 - في لبنان أزمة سلطة وليست أزمة نظام أو دستور أو ميثاق. الصيغة اللبنانية التي تجمع بين المساواة في المواطنة وحماية التعددية الدينية قابلة للتطبيق والتطوير إذا تم تحييد لبنان ونزع عناصر التأزيم الإقليمي، وتم الالتزام باتفاق الطائف، واعتماد قانون انتخاب ديمقراطي واحترام دورية الانتخاب وتداول السلطة.
4 - لبنان ليس بلداً فقيراً، والاقتصاد اللبناني قابل للحياة وهو يملك ميزات تفاضلية قوية وثروة بشرية استثنائية. المعبر الإلزامي إلى ذلك حياة سياسية نظيفة ومصالح اقتصادية مشروعة وفك الارتباط غير المشروع بين السياسة والأعمال والكف عن اعتبار المال العام غنيمة والدولة بقرة حلوب.
نشرت "مجموعة العمل الوطني الديمقراطي" نص رسالتها إلى رئاسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، لمطالبتها بإجراء إصلاح طال انتظاره، ولعب غيابه دورا خطيرا في تراجع الثورة، وإصابة السوريين باليأس من انتصار من ضحوا بمليون شهيدة وشهيد من أجله. وقابل عديديون الرسالة التي أثارت اهتماما واسعا بتعليقٍ ينم عن فقدان الأمل بإصلاح "الائتلاف" الذي يعتبرونه جسما ميتا، تحكمه داخليا بنيته الذاتية الغريبة عن الثورة، وخارجيا تبعيته لدول إقليمية وعربية، تحول بينه وبين ممارسة وظائفه كياناً سورياً مستقل الإرادة، ومن دون تزويده بالوسائل وبآليات الاشتغال الضرورية لتحريره من وضعه المتهالك، ولمنحه الاستقلالية الضرورية عن "رعاته" التي تمكّنه من التفرغ لخدمة ثورة السوريين الوطنية، ولمراعاة خصوصيتها، باعتبارها قضيةً يتولى إدارتها باسم الشعب السوري ونيابة عنه، لا بد أن تذهب دون ذلك، من فشل إلى آخر، وتحتجز، وتعجزعن تحقيق ما طالبت به الثورة: الحرية والعدالة والمساواة، والنظام الديمقراطي البديل للطغيان الأسدي.
أما القول إن "الائتلاف" جسم ميت، فهو مبالغ فيه ويطرح مسألة البديل، وهل يمكن تأسيسه في ظل ما وصل إليه المجتمع السوري من تدمير المجتمع وتمزيقه، وتعانيه تنظيماته السياسية والعسكرية من تشتت وتناقض، وتعيشه نخبه من ضمور وتدنٍّ في وعيها، وتهافتٍ في واقعها، وتخضع له المناطق المتبقية خارج سيطرة النظام من تعسّف تمارسه مليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وتنظيم داعش وجبهة النصرة وبعض حملة السلاح الآخرين، وتواجهه من كوارث تحت وطأة حل النظام وروسيا وإيران العسكري، فضلا عن خضوع "الفصائل المعتدلة" لإرادات غير سورية... إلخ.
تطرح هذه الأوضاع السؤال التالي: ماذا يكسب السوريون إن مات "الائتلاف" حقا، وفقدوا بموته اعتراف أغلبية دول العالم بحقهم في تمثيل سياسي بديل للأسدية؟. وهل موت "الائتلاف" رد يخرجه من ضعفه وعجزه، علما بأن أحدا لا يضمن قيام بديل له أفضل منه، ناهيك عن اعتراف العالم به؟. أليس من الأفضل العمل لإصلاح "الائتلاف"، ليؤدي وظائفه ممثلاً وقائداً ثورياً للسوريين؟. بصراحة: على الرغم من الوضع السيىء الراهن، يبقى "الائتلاف" ملكا لشعب سورية: صاحب المصلحة الحيوية جدا في إصلاحه وتفعيله، والاشتراك في خياراته وقراراته، والتفاعل الإيجابي الشامل مع ممثليه الذين يجب أن ينالوا اعترافه، ويجدّده عبر رفده بدماء تنتمي، قولا وفعلا، إلى ثورته، يمكّنه حضورها فيه من لعب دوره القيادي الثوري، وتوحيد جناحي الثورة السياسي والعسكري على أسس برامجية وخطط تنفيذية، تضمن انتصار حق السوريين على باطل النظام ورعاته.
هل هذا ممكن؟ أعتقد أن تحقيقه احتمال ضعيف، لكنه لن يكون مستحيلا في حال نظمت قوى الحراك والثورة المجتمعية الحية حملة وطنية جدية ومستمرة، للمطالبة بإصلاح "الائتلاف"، يبادر السوريون إلى إطلاقها منذ الغد، على أن تدعم تياره الإصلاحي، وتمكنه من الاستناد إلى إرادة شعبية، وجودها والتعبير عنها أحد حواضن نجاحه الذي يجب أن يركز على إعادة هيكلة بنيته، بحيث تخدم الثورة من دون أي طرف داخلي أو جهة خارجية، وتعيد إحياء الوطنية السورية الجامعة، غير الحزبية أو الفئوية، وتجدّد ثورة الحرية، وتتعامل بندية مع "الآخرين"، ركيزتها شراكة المصالح، والتزامهم بأهداف الثورة وضرورة بلوغها، وتبنيهم استراتيجية تنفذ أعمالا مشتركة، وتبلور أدوات تحقيقها، وتوسع باضطراد هوامش فاعليتها.
لا شيء يضمن أن يحسن التخلي عن "الائتلاف" أو موته العمل الوطني. وفي المقابل، سيبقى عاجزا عن تأدية وظائفه، إن حافظ على بنيته وسياساته وممارساته الراهنة. كما لن تستقيم أمور الثورة، إن اقتصر دور السوريين فيها على شتم "الائتلاف" ومن فيه، وأحجموا عن لعب الدور الحيوي الذي يلزمهم بإخراجه من عجزه الحالي، وتحويله إلى مؤسسةٍ تحظى بدعم شعبها وولائه. لضمان النجاح، لا بد من تشكيل "هيئة إصلاح وطني"، تكون شبابية بصورة أساسية، تتابع بصورة منظمة ويومية شؤونه، وتتواصل مع قياداته حول كل أمر وشأن، لتتكامل نشاطاتها الموازية مع أنشطته، ويصير مؤسسة تخدم الشعب وثورته، تمكنها صفوفها الموحدة من إسقاط الأسد ونظامه، وتأسيس بديله الوطني الديمقراطي، وحقن دماء السوريين، فإن فشل مسعاها وبقي "الائتلاف" على حاله، غدت بديله الإنقاذي الذي ينتظره الشعب، وتمس حاجته إليه.
أخيرا، لا بد أن يبادر إصلاحيو "الائتلاف" إلى بذل جهود يومية حثيثة لإخراجه من حالٍ يجعل وظيفته اليوم التخلي عن الثورة، ومنع غيره من خدمتها.
ترددت في الآونة الأخيرة الدعوات لضم ممثلين عن تشكيلات المعارضة السورية المسلحة إلى الائتلاف الوطني السوري. بل إن جهوداً عملية بدأت في هذا الاتجاه من جانب رياض سيف، رئيس الائتلاف الجديد، الذي تم انتخابه أخيراً من أجل ضم ممثلين عن التشكيلات المسلحة إلى الائتلاف.
الفكرة في أساسها تبدو صحيحة. ذلك أن الفصل بين السياسي والعسكري في وضع المعارضة السورية، ترك آثاراً سياسية وميدانية كارثية، كما تدلل تجربة السنوات الست الماضية، بل إنه خلق رأسين - إن لم نقل رؤوساً للمعارضة - تتنافس وتتصارع بمستوى، قد يفوق مستوى صراعها مع معسكر خصومها من نظام الأسد وحلفائه، وهذا كان أمراً واضحاً في الأشهر الأخيرة بعدما اشتغل الروس علناً وبكثافة في آستانة على التشكيلات المسلحة، ولم تخفف الجهود التركية من التباينات والصراعات بين طرفي المعارضة السياسية والمسلحة رغم علاقاتها الوثيقة بالاثنين.
وباستثناء التنافس والصراع القائم بين طرفي المعارضة حول من يمثل السوريين، ومن يمكن أن يتكلم باسمهم، فإن أمر توحيد الطرفين تحت قيادة الائتلاف، يبدو أمراً غير عملي في ضوء التجربة المرة التي كرستها السنوات السابقة بين الطرفين، عندما اختار الائتلاف بين صفوفه ممثلين لهيئة أركان الجيش الحر، التي كانت شبه هامشية وشكلية في أغلب أوقاتها، وترك التشكيلات الفاعلة خارج اهتمامه أو في الهامش من الاهتمام، فيما كانت الثانية تعزز توجهاتها في التشكيك بشرعيته، وتأكيد هامشية تأثيره، وتسعى في آن معاً لتكون بديلاً عنه من الناحية السياسية، فيما هي قوة مباشرة على الأرض.
والأمر الثالث في القضية، سؤال يتصل بمحتوى ضم التشكيلات المسلحة للائتلاف، فلا الائتلاف بدل شيئاً من توجهاته ولا التشكيلات المسلحة فعلت، مما يعني أنه لا برنامج جديداً، يتطلب إعادة رسم علاقة جديدة بين الطرفين، تقوم على دمج التشكيلات في الائتلاف، وإذا كان الأمر يتصل بموضوع المفاوضات، فإن الطرفين موجودان في الهيئة العليا للمفاوضات، وبإمكانهما من خلالها - إذا رغبا - تطوير أدائهما المشترك فيها، أما إذا كان الأمر يتصل بموضوع تسيير الأوضاع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، التي تتراجع أهميتها الميدانية، وتنحسر مساحاتها بصورة خطيرة، فهذه المناطق خارج التأثير السياسي للائتلاف بشكل عام، وإن كانت تخضع من الناحيتين السياسية والميدانية بشكل عام للقوة المسلحة، التي يتداخل فيها نفوذ جبهة النصرة المصنفة في دائرة التطرف والإرهاب وتشكيلات المعارضة المسلحة الموصوفة بالمعتدلة، وثمة صراعات وصدامات بين الطرفين فيها، ودخول الائتلاف على خط الواقعين السياسي والميداني فيها لن يبدل الأوضاع القائمة إلى الأحسن، إن لم يفاقمها.
وكما يبدو، فإن ثمة انسدادات سياسية وعملية في قضية ضم تشكيلات المعارضة المسلحة إلى الائتلاف، أو تمثيلها فيه، ولأن الأمر على هذا النحو، فمن الصعب تحقيق هذا الهدف في الواقع الحالي.
غير أنه، وإذا كانت ثمة رغبة مشتركة وصادقة، وتتوفر لها إرادة سياسية وعملية لدى الائتلاف الوطني والتشكيلات المسلحة، ودعم إقليمي ودولي، فإنه يمكن تشكيل مجلس سياسي مشترك، لا يقتصر على مشتركات الطرفين بما فيها من توافقات ومهمات، بل يكون نواة لمجلس أوسع، يضم غالبية قوى المعارضة السورية، ويكون له برنامج سياسي وطني شامل، يعالج المهمات الرئيسية في الوضع السوري.
إن الأهم في محتويات البرنامج السياسي المأمول، هو أن وحدة المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، وخضوع الشق العسكري للقيادة السياسية، التي تتضمن تمثيلاً للطرفين، وتأكيد أن مكافحة التطرف والإرهاب بكل أشكاله وتعبيراته مهمة مركزية للمعارضة السورية، لا يمكن الحيدان عنها أو التهاون فيها، إضافة لمهمة العمل على تحقيق الانتقال السياسي في سوريا، وفق قرارات الشرعية الدولية انطلاقاً من بيان جنيف1، وتلبية حاجات الشعب السوري وإنهاء معاناته في إطلاق المعتقلين والمخطوفين، ورفع الحصار وعودة النازحين واللاجئين، وإعادة تطبيع حياة السوريين.
ورغم أهمية وضع برنامج سياسي موحد للمعارضة، فإنه لا بد من خلق قيادة قادرة على التعامل مع المهمات المطروحة وسط المعطيات القائمة والتطورات السياسية والميدانية الحالية، وتجييرها لصالح المهمات الرئيسية، التي دون التركيز عليها، والعمل على تحقيقها، سيظل السوريون ومعارضتهم كلها، يدورون في محيط مغلق بلا حل لقضيتهم، وسيظلون يدفعون فواتير حرب عبثية، لا تولد إلا الخسائر ومزيداً من المعاناة.
لا شيء يشي بما سيحدث في معركة الرقة، وقد وصلت طلائع "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، مشفوعةً بالدعم الأميركي الكبير، إلى منطقة الكيلومتر صفر، وعبر ثلاثة محاور، شرق المدينة وغربها وشمالها، لكن المكشوف عن هذه المعركة أنها مصيريّة على صعدٍ عدة ومهمة للأطراف المتصارعة، وهي محطُّ اهتمام قوى عديدة، مؤتلفة كانت أو مختلفة.
الجانب الظاهر من معركة الرقة أنها درّة تاج معارك "قسد" التي خاضتها في مواجهة التنظيم، وأنها تعني لهذه القوات، من بين ما تعنيه، البقاء شريكاً أوحدَ للأميركان وحليفاً راسخاً في مواجهة التنظيمات الإسلامية الراديكالية. وبالتالي، لا خيار أمام القوات المتقدّمة إلى مشارف المدينة سوى الاستمرار والخوض في هذه المعركة حتى آخرها، وتحقيق الفوز في المرحلة الخامسة من مراحل عملية "غضب الفرات" التي أعلنتها "قسد" في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، والرامية إلى "تحرير" مدينة الرقة، كما لا خيار أمام "داعش" غير المواجهة وتحديد مصيره الذي بات ينوس بين الاندثار والهزيمة أو إطالة أمد بقائه على الأراضي السورية، فالمعركة الحاصلة وتلك القادمة ليستا معارك ضغطٍ أو محاولاتٍ تهدف إلى ثني "داعش" عن أمرٍ ما، بقدر ما هي معارك ترمي إلى إنهاء التنظيم بشكلٍ مبرم.
في مراحل سابقة، نجح الأميركان إلى جوار "قسد" بمراكمة العناصر العربية داخل جسم "قسد" وإيلاء الاهتمام بالحضور العربي داخل هذه القوات، إلى حدٍ بلغت معادلة حجم العناصر العربية، حجمَ تلك العناصر الكردية المشاركة في عملية غضب الفرات، كما نجح الأميركان في التملّص من الضغوط التي مارستها تركيا بخصوص تسليح "قسد" بأسلحة ثقيلة وفتّاكة، ما يجعل الإستراتيجية الهجومية لهذه القوات أشبه بحرب الجيوش النظاميّة المشفوعة بالطيران والوسائل اللوجستية والعسكرية المتطوّرة، في مواجهة تنظيم متمرسٍ في حروب المدن.
ثمّة مفاجآتٌ ستحملها معركة الرقة، لا يمكن استجلاؤها بسهولة، إذ لا يخفي التنظيم تكتيكاته وخططه العسكرية، وقد يضمر أمراً جللاً عبر تكتمه المديد، فمعركته هذه لن تشبه معركة الموصل التي خاضها، وأمامه خيار الانسحاب تكتيكاً إلى الجانب السوري، في حين أن انسحابه من الرقة إلى بقاعٍ أخرى يعني أنه سيبقى مكشوفاً وقابلاً للهزائم السهلة، وإذا كانت معركة الموصل معركة إشغالٍ وإطالة أمد المواجهات، فإن معركة الرقة هي معركة مصير، أو لنقل إنها من الممكن أن تحدّد وجهة التنظيم نحو الانكفاء والتقلص، وبالتالي القابلية للفناء.
سهّلت أميركا على حلفائها المحليين في "قسد" أعباء كثيرة، كتحييد تركيا وعدم إشغالها "قسد" في معارك حدودية، كما حدث في وقت قريب، حين استهدف سلاح الجو التركي مقرّاتٍ تابعة لوحدات حماية الشعب الكردية، كما أن تلويح قوات "قسد" بشأن التصدّي ومواجهة المليشيات الشيعية "الحشد الشعبي"، حال قيامها بالتقدّم نحو مناطق سيطرة "قسد"، بحسب ما قاله الناطق باسم قوات سورية الديمقراطية، العميد طلال سلو، يفيد بجدية أميركا بألا تتحول مناطق سيطرة حلفائها في "قسد" إلى مناطق توتر تسببت به قوات الحشد الشعبي، وهذا يزيد من طمأنينة حلفاء أميركا بأن لا مشاغل ستثنيهم عن المعركة الأم، يضاف إلى ذلك وصول جرعات وافرة من الأسلحة الثقيلة إلى يد مقاتلي "قسد" وانتهاء اللغط الحاصل بين أميركا وتركيا التي رغبت في الحؤول دون وصول هذه الأسلحة إلى يد غريمها في الجانب الجنوبي من حدودها، على ما تخفيه أهمية تلك الأسلحة التي قد تدفع "قسد" إلى التمكّن من تصدّر الموقع الأول في ترتيب القوى المسلحة في سورية.
تبقى مسألة المدنيين، وما سيحيق بهم من أخطار، جراء القصف المتبادل وكمية الذخائر والقذائف والألغام التي ستستخدم في المدينة، ولعل الظاهر في باطن كف التنظيم أنه يتمترس بالمدنيين، ويبقي عليهم دروعاً بشرية، تؤخر سير المعارك، وتحجّم من فاعلية القوى المهاجمة، ذلك أن التنظيم يدرك أهمية ورقة "التمترس" خلف (وبين) ظهراني المدنيين، الأمر الذي يؤثر على مجرى المعارك وسرعتها، بيد أن الأميركان يعون خطورة هذه الورقة التي في متناول التنظيم، وإنها من الأوراق المعطّلة للتقدّم واكتساح التنظيم على الأرض. لذا، لم تشهد معارك الموصل مقداراً من التعاطف الغربي إزاء الضحايا المدنيين، بقدر ما طغت صور التقدّم وهزائم التنظيم على سفح الأحداث، ما يعني أن نزع هذه الورقة متوّقع الحدوث مجدّداً.
يبقى قول إن تفكير الأميركان و"قسد" في شكل إدارة الرقة وطبيعة النقاشات الدائرة حول هذا الأمر على قلتها، تبطن أمراً واحداً مفاده بأن التنظيم سيندحر في الرقة، وأن القوات المرابطة على مشارف الرقة ستنفّذ المهمة الموكلة إليها، طالت المدّة أم قصرت، وسواء كلّفت المعركة أكلافاً باهظة على صعد أرواح المقاتلين والمدنيين، أو الأضرار البليغة التي ستلحق بالعمران والبنية التحتية للمدينة. والحال أن معركة الرقة، في لقطتها شبه الأخيرة هذه، ليست المعركة المصيرية لتنظيم داعش فحسب، بل هي مصيرية كذلك لقوات سورية الديمقراطية وسمعتها ومستقبلها، وكذا هي مُهمة للإدارة الأميركية وسمعتها في ما خص شكل إستراتيجيتها الرامية إلى هزيمة "داعش".
تشكل الأزمة الخليجية الراهنة فرصة أخرى لإيران لتعزيز نفوذها في المنطقة، أمام إفلاس النظام الإقليمي العربي، وعجزه عن تطويق تداعيات هذه الأزمة، والحفاظ على الحد الأدنى من التوافق بين دول مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي سيفتح المجال أمام خلط الأوراق أكثر في المنطقة.
ففي وقت أبان فيه صانع القرار الإيراني عن قدرةٍ لافتةٍ على المناورة وقراءة الاصطفافات وإدارة الضغوط التي تتعرّض لها طهران، جاءت هذه الأزمة لتعكس طورا جديدا في عجز بلدان الخليج عن تدبير المتغيرات التي تعرفها المنطقة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي قبل ستة أعوام، سواء على صعيد السيرورات التي أفرزتها هذه الثورات، لا سيما منذ 2013، أو على صعيد التعاطي مع القوى الكبرى والإقليمية الساعية إلى التحكم في هذه الأحداث وتوجيهها بما يخدم أجنداتها.
تدل معظم المؤشرات على أن هذه الأزمة تصب في مصلحة إيران أولا وأخيرا، خصوصا في ضوء ميزان القوى الحالي الذي يميل لصالح المحور الروسي الإيراني في المنطقة، وفشل القوى العربية الكبرى (تحديدا السعودية) في تعديل هذا الميزان لصالحها في سورية والعراق واليمن، على الرغم من الدعم العسكري واللوجستي الكبير الذي قدمته لحلفائها في هذه البلدان.
تنبئنا أبجديات الفكر الاستراتيجي أن ما لا تحصل عليه الدول بالحرب يمكن أن تحصل على كله أو بعضه بالسياسة والدبلوماسية والمناورة، وهو ما لا تدركه، على ما يبدو، البلدان العربية المتخوفة من تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة، فمنذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، جرّبت هذه البلدان كل الوصفات من أجل وقف الامتدادات المذهبية والطائفية والاستراتيجية لهذه الثورة، لكن من دون جدوى، فعوض أن يعرف تراجعا، ازداد نفوذ طهران تمدّدا، وازدادت معه النخب الإيرانية إصرارا على اللعب بأكثر من ورقة، في مواجهة جيرانها العرب، من خلال إنهاكهم في أكثر من بؤرة توتر، في وقتٍ يضيق فيه هامش الحركة أمامهم، بسبب غياب استراتيجية متكاملة وفاعلة لديهم، تأخذ بالاعتبار تبدلات القوة والنفوذ في المنطقة والعالم.
مؤسفٌ أن تتحول مشكلة الإرهاب إلى مصدر تَستخلص منه القوى الإقليمية عوائد سياسية توظفها لخدمة أجنداتها المتباينة، فالإصرار على الزج ببعض التنظيمات والحركات في خانة الإرهاب تصريفٌ لموقفٍ سياسي غير مدروس، فكيف نجيز اعتبار حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، على الرغم من الاختلاف الفكري والإيديولوجي معها، حركة إرهابية، وهي التي لم تتعدَّ، في كل ما قامت به من عمليات عسكرية ضد الكيان الصهيوني، حدودَ فلسطين المحتلة (التاريخية). وكيف نتجاهل أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر بقدر ما هي جزء من المشكلة المصرية بقدر ما هي أيضا جزء من حلها، على الرغم من إصرار نظام السيسي على إنكار هذه الحقيقة. ثم ماذا تعني هذه الصعوبة البالغة التي واجهت القوات العراقية في حربها على تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل، ألا يعني ذلك بوضوح أن قوى عربية مركزية تعمل جاهدةً للحيلولة دون القضاء نهائيا على التنظيم، حتى يظل ورقةً تناوش بها إيران المتغلغلة في مفاصل الدولة العراقية.
من ناحية أخرى، يمثل الموقف الأميركي مؤشرا على المآلات المحتملة لهذه الأزمة، وهو موقفٌ ينزع، على ما يبدو، إلى التوازن، فقبل صدور بيان وزارة الدفاع الأميركية الذي أكدت فيه امتنانها لقطر لدعمها الوجود العسكري الأميركي بها، خمن كثيرون أن إقدام السعودية والإمارات والبحرين على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، جاء بعد تلقيها ضوءا أخضر من إدارة دونالد ترامب، على اعتبار أن السعودية، ربما، كانت تنتظر عوائد سياسية سريعة لمليارات الدولارات التي ضختها في الخزانة الأميركية بعد زيارة ترامب للمنطقة أخيرا. لكن هذا البيان كان بمثابة رسالة لكل أطراف الأزمة، لأنه تضمن تحذيرا مضمرا للبلدان الثلاثة بعدم الانجرار وراء ردود أفعال غير محسوبة، ومكلفة إقليميا، ثم جاء إعلان البيت الأبيض أن الولايات المتحدة ترغب في تسوية الأزمة وفق المبادئ التي أعلنها الرئيس ترامب فيما يخص القضاء على تمويل الإرهاب؛ إعلان فيه نوع من التوازن الذي يترجم مخاوفَ الإدارة الأميركية من أن يؤدي توتر العلاقات بين بلدان الخليج إلى خدمة أجندة إيران التي من مصلحتها تحويلُ اهتمام الولايات المتحدة والنظام الدولي عن سياساتها التوسعية في اتجاه أزمة دولية جديدة، ربما تتطلب وقتا لحلها، وهو وقتٌ سيستثمره، بالتأكيد، نظام الملالي لترتيب أولوياته في العراق وسورية واليمن ولبنان.
تعي طهران جيدا أن زيارة ترامب للشرق الأوسط أخيرا حملت رسائل كثيرة موجهة إليها. لذلك، تعمل على توظيف هذا التصدع المفاجئ في البيت الخليجي واستخلاص عوائده السياسية. فمن مصلحتها أن يستمر هذا التصدع ويفرز تفاعلاته على المدى البعيد، لا سيما مع هرولةٍ غير مبررةٍ من دول عربية لقطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، ما سيؤثر، بالطبع، على المنطقة برمتها.
بدأت، أخيراً، المعركة النهائية للسيطرة على مدينة الرقة، عاصمة «دولة الخلافة» في سوريا. ويبدو من أحدث الأخبار، أنها مسألة أيام أو أسابيع قليلة قبل إعلان انتهاء الاحتلال الداعشي لها. فهناك أخبار تتحدث عن حصول اتفاق لانسحاب قوات داعش بلا قتال باتجاه البادية السورية جنوباً، بينها وبين «قوات سوريا الديمقراطية» التي تقود الهجوم على المدينة. وهذا ليس بالأمر المستبعد بالنظر إلى سوابق أخرى أخلت فيها داعش مواقعها حين تيقنت من الهزيمة المحتومة.
وعلى رغم ذلك يواصل طيران «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة قصفه التدميري للمدينة وجوارها المباشر مخلفاً مئات القتلى من المدنيين، منهم من كانوا في طريقهم إلى النزوح. سواء تعلق الأمر بالإدارة الأمريكية، أو بالقوات البرية المهاجمة، فكلاهما يسعى إلى «كسب معركة شرسة» حتى لو كان داعش في طريقه إلى الانسحاب بلا قتال. فكلما كبرت المعركة إعلامياً، ارتفع مردودها السياسي الذي هو بيت القصيد لدى كل الأطراف المتحاربة.
ويسعى النظام الكيماوي، أي إيران، إلى الحصول على حصته من «وليمة» الرقة الدموية، من خلال اندفاع ميليشياته لاستلام مدينة مسكنة من داعش على الطريق إلى مدينة الرقة. من المستبعد، في الشروط المنظورة، أن تسمح واشنطن بتقدم هذه القوات عميقاً باتجاه الرقة، وهي التي لم تتردد في ضربها، مرتين، في معركة أخرى، بعيدة جغرافياً، قرب معبر التنف الحدودي. فالواضح أن الأمريكيين قد رسموا حدود منطقة نفوذهم التي لن يسمحوا للإيرانيين وتابعه الكيماوي بالاقتراب منها. أما النظام ومشغِّلوه فما زالوا يحاولون اختبار الأمريكيين هنا وعينهم على دير الزور أكثر مما على الرقة نفسها. فما زال النظام يحتل قسماً من مدينة دير الزور، ويبدو أنه سيتمسك بوجوده هناك طمعاً في شراكة مع الأمريكيين في تحريرها من داعش، ما دام الغموض الأمريكي سارياً بصدد خططها بشأن تلك المدينة.
غير أن الوجه السياسي لمعركة الرقة يكاد يطغى على وجهها العسكري، ويتمحور حول السؤال الحارق: من سيسيطر على المدينة ويدير شؤونها بعد طرد داعش منها؟
المؤسف، من زاوية النظر السورية، أن تشتعل هذه المعركة بأدوات التنافر القومي ـ العرقي، في الوقت الذي لا تحسب فيه القوى المقررة أي حساب للسوريين أو لأهالي الرقة تحديداً. ففي الوقت الذي تسعى فيه قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» (الكردي) إلى توسيع رقعة سيطرتها الميدانية والقيام بالدور المطلوب منها أمريكياً في «محاربة الإرهاب» على أفضل وجه، طمعاً في تحالف استراتيجي مع الدولة العظمى الوحيدة، يتذمر رأي عام عربي معارض للنظام من هذا الدور الكردي، معترضاً على «احتلال كردي» محتمل للمدينة «العربية» إذا وافق الأمريكيون على ذلك. اعتراضاً أكثر حدة من معارضته لاحتلال داعش طوال السنوات السابقة، مع كل الفظائع التي ارتكبها هذا الأخير بحق الأهالي، فقط لأن «المحتل» الجديد المحتمل كردي لا عربي.
والحال أن الأمريكيين أكثر براغماتية من أن يتركوا إدارة المدينة ذات الغالبية العربية لقوات كردية، مهما بلغ اعتمادهم الميداني عليها، وبصرف النظر عن رؤاهم بعيدة المدى بشأن مستقبل الكيان السوري أو مستقبل علاقتهم مع المكون الكردي. ففي حسابات الأمريكيين بشأن الحروب الدائرة في سوريا، يحسب حساب للحساسيات التركية أكثر مما للحساسيات الأهلية في الرقة وغيرها من المناطق الشمالية القريبة من الحدود التركية.
ومن هذا المنظور يتوقع أن يعتمد الأمريكيون على إدارة مختلطة لمدينة الرقة بعد تحريرها من داعش، يغلب عليها المكون الأهلي العربي. فهذا مطلب تركي أيضاً إضافة إلى أن من شأنه نزع فتيل نزاعات محتملة بين العرب والكرد لا يريدها الأمريكيون. وتلوح في أفق الرقة فرصة حقيقية لتكون منطقة محررة ومحمية معاً من هجمات الطيران الأسدي أو الروسي، بخلاف ما كانت عليه الحال إبان تحريرها من النظام وقبل احتلالها من داعش. ومن المحتمل أن يتعمم نموذج الرقة هذا في المناطق الخاضعة للنفوذ الأمريكي بصورة عامة. هذا يعني نصف مساحة سوريا تقريباً. هل هذا جيد؟
يتوقف التقييم على زاوية النظر. فمن زاوية النظر الوطنية يبدو هذا تقسيماً فعلياً للأرض، وليس على أساس عرقي كما قد يعتبر البعض، بين مناطق نفوذ إحداها أمريكية. في حين تتوزع المناطق الأخرى بين الروس والأتراك والإيرانيين (ما لم تقرر أمريكا طرد هؤلاء الأخيرين من كل سوريا). ولن تكون الرقة ضمن منطقة النفوذ التركية التي قد تشمل، في مرحلة لاحقة، محافظة إدلب كما يتردد، بما في ذلك منطقة عفرين الكردية.
أما من زاوية نظر تعذر الوصول إلى حل سياسي مقبول ـ وهو ما يبدو حالياً وفي الأمد المنظور ـ واستمرار النزيف السوري بشراً وعمراناً، فقد يبدو تحرير الرقة تطوراً إيجابياً بوصفه تخفيفاً لآلام جزء من السوريين وتمكينهم من استعادة شيء من شروط الحياة الطبيعية.
ومن زاوية نظر موازين القوى في الصراع الدائر في سوريا، سيكون لتحرير الرقة أثر إيجابي على تعديل التوازنات القائمة لغير مصلحة الإيرانيين والروس وتابعهم السوري، من غير أن يصب بالمقابل في مصلحة تركيا. وميدانياً سيكون الرابح الأكبر هو حزب الاتحاد الديمقراطي.
وإذا تخلى الحزب المذكور عن ممارساته المشينة حيثما سيطرت قواته، سواء بحق الكرد أو العرب من السكان، فسيكون الفوز بمعركة الرقة لمصلحة القضية الكردية أيضاً. وإن كانت صفحة سوابقه لا تبشر بتحول مماثل.
تناثرت أخبار عن خلافات وانقسامات حادة داخل جسم «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» السورية إثر اتخاذ «الهيئة السياسية» فيه قرارها بإنهاء عضوية كتلة «الأركان» (15 عضواً)، من الهيئة العامة للائتلاف، باعتبار أن هذه الكتلة لا تمثل الكيانات العسكرية الفاعلة، أو لا توجد كيانات عسكرية حقيقية تمثلها، مقرنة ذلك بمطالبتها الفصائل المسلحة الفاعلة في الميدان بانتداب أسماء شخصيات بديلة لتمثيلها في الهيئة العامة.
هذه الخطوة الضرورية، والتي أتت متأخّرة، كشفت عشوائية بنية الائتلاف، وضعف تمثيل الأطراف المكوّنه له، وتثير التساؤل عن أسباب وجود هكذا مكوّن، والأطراف التي دفعت لاحتلاله عضوية الائتلاف، بل وعضوية هيئته السياسية، في المراحل الماضية، على حساب مكونات سياسية أو عسكرية أو مدنية فاعلة. كما يطرح ذلك السؤال عن أسباب تأخر إصدار مثل هذه القرار الصائب، لمدة عامين، وعن الآثار السلبية التي أحاطت وجود هكذا مكونات في الائتلاف، إن على خطاباته، أو على بنيته، أو علاقاته بشعبه وارتهاناته لهذا الطرف الخارجي أو ذاك، فضلاً عن تكلفة ذلك من الأموال التي هدرت، بسبب وجود أعضاء خارج اطار الشرعية الموجبة لوجودهم أو لتفرغهم داخل الائتلاف، بل وتسلمهم مناصب ومهمات غاية في الأهمية.
من تجربتي، كنائب لرئيس الائتلاف، أعتقد أن هذا الكيان تأثّر سلباً بوجود مثل هذه الكتل التي لا تمثل إلا نفسها، ومصالح الأشخاص الذين تتمحور حولهم، بحيث بات الائتلاف بوجودهم مجرد كيان مغلق ومعزول، بدل أن يكون كياناً سياسياً جامعاً، ومفتوحاً لكل السوريين. أيضاً، هذا الوضع يدفع إلى طرح التساؤل عن طبيعة بقية الكتل، ومدى أهليتها التمثيلية والكفاحية، ولا سيما كتلة «المجالس المحلية»، التي تبين أن لا صلة لها بالمجالس المحلية في المناطق السورية، لا سيما مع مطالبة هذه المجالس بتغيير مندوبيها إلى الائتلاف، عبر أكثر من كتاب، في حين تم تجاهل هذه الطلبات لخمسة أعوام متتالية، لحسابات انتخابية ضيقة، وبحكم هيمنة أصحاب هذا المكون على مكونات أخرى في الائتلاف.
هكذا لقي قرار الهيئة السياسية المذكور ارتياحاً مشوباً بالحذر، باعتباره خطوة غير مكتملة، يفترض أن تتبعها إجراءات أخرى تعيد من جديد آلية تركيب بنية الائتلاف على أساس تمثيلي وحقيقي، إذ يأتي معبّراً عن إرادة السوريين أنفسهم. وقد عبرت قطاعات واسعة من المعارضة عن رأيها في عمل الائتلاف وإعادة هيكلته، وبضرورة أن تقترن خطوة انتخاب رياض سيف، المعارض السوري المعروف لرئاسته، بخطوات إصلاحية جادة. وكانت مجموعة «العمل الوطني الديموقراطي» التي أسسها عدد من المعارضين السوريين، ومنهم من كان انسحب من عضوية الائتلاف وقيادته بسبب تردي أحواله وهيمنة فئة معينة عليه، بعثت رسالة عبرت فيها عن تأييدها للخطوات الإصلاحية وطالبت القيادة الجديدة بالاستمرار في هذا المسار لإنقاذ الائتلاف من كبواته العديدة واستعادته المشروع الوطني ليكون حاملاً له كإطار جامع لكل السوريين، يقودهم لتحقيق التغيير السياسي في سورية لاقامة الدولة الديموقراطية المنشودة.
وما ذهبت إليه مجموعة «العمل الوطني الديموقراطي» في رسالتها: «أن ازمة العمل الوطني السوري بلغت حداً يتطلّب تدخلاً واسعاً، وفعالاً، من مختلف الأوساط السورية، التي استبعدت منذ تأسيس المجلس الوطني، ثم الائتلاف، عن أية مشاركة وطنية منظمة وفاعلة، في رسم سياساتهما وممارسة أعمالهما، داخل وطننا وخارجه». وحددت المجموعة عدداً من المطالب لتطوير عمل الائتلاف «قبل أن يواجه مصيراً يشبه مصير ما سبقه من كيانات كالمجلس الوطني» الذي أصبح مجرد اسم غائب عن أي فعل سياسي أو حضور ثوري، ويمكن تلخيصها في الآتي:
أولاً: إعطاء الاولوية في أي عمل لسياسات مركزها وحاملها بناء وضع ذاتي يمكن الثورة من استعادة زمام المبادرة، وإلزام المتصارعين الخارجيين بأهداف وحقوق السوريين. وبديهي أن ذلك يتطلب إعادة هيكلة الائتلاف وتوسيعه وتفعيل دوره، واستعادة خطاباته الأساسية الملتزمة التزاماً مطلقاً ثورة الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، ليكون حقاً ممثلاً لمعظم السوريين، ولتطلعاتهم، وقيادة لهم، علماً بأن فترة البناء ليست مفتوحة، ومن الضروري أن تفيد من الصراعات والتناقضات، التي حالت دون انفراد أي طرف خارجي أو أكثر بوطننا، أو بحل يستطيع فرضه علينا.
ثانياً: بينت السنوات الماضية أن سياسات وعلاقات وقيادات الائتلاف حالت دون بناء أوضاع تخدم الثورة وتفيد من زخمها الهائل لأن مسار الأعوام الماضية أكد أن الامتناع، لأي سبب، عن تصحيح مسارات العمل الوطني وأولوياته لم ينتج غير نكسات متعاقبة، فلا أقل من اغتنام الفرصة والتعاون بصورة منهجية ودائمة مع جميع الأوساط السورية المؤمنة بثورة الحرية، وبناء وضع ثوري ذاتي يستطيع حشد قدرات الشعب والإفادة منها، ويبلور أطراً ومؤسسات تنظيمية قادرة على تصحيح مسارات العمل الوطني.
ثالثاً: نؤكد ضرورة إخراج أية جماعات أو كيانات لا صفة تمثيلية ولا دور نضالياً لها، وفتح عضوية الائتلاف أمام جميع الشخصيات والكيانات الوطنية والفاعلة، التي تضم كفاءات تتمتع بالتجربة والخبرة، وجرى استبعادها في الفترة الماضية. وندعو أيضاً إلى القضاء على النزعات الشللية والتكتلية، وإعادة النظر في آليات عمل الائتلاف، غير المهنية والتي عفا عليها الزمن، ليشتغل كجسم متكامل الوظائف، وليس كتجمعات أو جماعات مغلقة لا هم لها غير الانتخابات والألاعيب التي تضمن فوزها فيها.
رابعاً: نطالب قيادة الائتلاف ببناء دوائر متخصصة تشرف على أعماله ومؤسساته، بما فيها الحكومة المؤقتة وهيئات الإغاثة والإعلام، والصلات مع الجاليات، وغيرها، وتكليف شخصيات كفوءة ومجربة ونزيهة داخل وخارج سورية بإدارتها، سواء كانت من الائتلاف أم من خارجه.
وختمت المجموعة مطالبها بضرورة دعوة قيادة الائتلاف إلى ترتيب ندوات ولقاءات تمهد لعقد مؤتمر أو لقاء وطني يراجع التجربة الماضية، ويحدد ثغراتها، ويحاسب المسؤولين عنها، وذلك ليتمكن هذا الكيان من استعادة فاعليته ودوره الوطني الذي كاد أن يغيب وسط أخبار الفساد وتخبط خطاباته السياسية وارتهاناته للقوى الخارجية. فهل ينهض الائتلاف بوجود رياض سيف من كبوته الأخيرة لينهض المشروع الوطني؟! هذا هو السؤال الذي تتطلع أوساط المعارضة، والسوريون عموماً، لمعرفة الإجابة عليه.
تراجع الاهتمام بالتطورات الميدانية السورية في الأيام الماضية، على رغم أنها تشهد ذروة جديدة في التصعيد، وفي الصراع على بلاد الشام، وتنافساً مفصلياً على تموضع قوى خارجية فيها.
من الطبيعي أن تغطي أنباء الزلزال الديبلوماسي السياسي الناجم عن الأزمة غير المسبوقة بين دول الخليج ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، وبين قطر نتيجة تغريدها خارج السرب الخليجي في أزمات الإقليم، ومنها سورية، بل إن الخلاف العربي مع قطر يشمل سلوكها في ساحات تلك الأزمات. والسعودية في سردها وقائع الخلاف مع القيادة القطرية، تناولت «احتضان جماعات إرهابية وطائفية متعددة تستهدف ضرب الاستقرار في المنطقة، ومنها جماعة الإخوان المسلمين و «داعش» و «القاعدة» والترويج لأدبياتها... ودعم نشاطات الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران في محافظة القطيف ومملكة البحرين...».
ما لم يذكره المصدر المسؤول في الرياض، في لائحة «نكث السلطات في الدوحة بتعهداتها» منذ عام 1995، هو امتداد الخلاف إلى الميدان السوري، فقطر اختطت لنفسها سلوكاً منفصلاً عن الرياض ودولة الإمارات في أحيان كثيرة في الميدان السوري، على رغم أن الجامع المشترك هو دعم المعارضة منذ اندلاع الأزمة السورية. وحين أخذت الأزمة منحاها العسكري بفعل جموح نظام بشار الأسد نحو قمع الاحتجاجات السلمية بالتنكيل والقتل والتدمير، ترجمت الدوحة طريقتها بالتمدد، عبر خيوطها مع قوى مصنفة إرهابية، منها «جبهة النصرة» التي تحولت «فتح الشام» (وقيل في حينها إن الدوحة كانت وراء تغيير الاسم لتجنيب الفرع السوري لـ «القاعدة» العقوبات) وباتت ميليشيات سورية أخرى قريبة من «النصرة»، والخيط الرابط تمويلها القطري.
لكن هذه التشكيلات العسكرية خاضت جولات من التقاتل في ما بينها، وسقط من مقاتليها بمقدار ما سقط لها ضد القوات الأسدية والميليشيات الحليفة، من إيرانية وعراقية وأفغانية... في سياق التنافس على الإمساك بالمناطق الخارجة عن النظام، ما ساهم في إضعافها.
مرّ الانخراط القطري في الأزمة السورية بفترات شهدت تنسيقاً مع الدول الخليجية الداعمة للمعارضة، لكنه مرّ أيضاً بفترات شهدت تباعداً وتناقضاً مع الحلفاء الخليجيين المفترضين، فبدا أحياناً أن التقاتل بين القوى العسكرية المعارضة للنظام هو انعكاس للخلاف بين «الحلفاء». والنتيجة الموضوعية كانت إضعاف قوى المعارضة، وتعميق إخضاع الدعم الذي تتلقاه للأجندات الخارجية التي أدخلتها في متاهات سهلت بعض هزائمها، فبات تشتتها حجة لدول غربية كي تحجب عنها الدعم، ما سهل صعود «داعش» والمتطرفين.
بصرف النظر عن تفاصيل انعكاسات ذلك، فإن آخر فصول التفرد القطري في سورية كان صفقة الإفراج عن الـ 26 قطرياً الذين اختطفوا في العراق على يد «حزب الله» العراقي، وبعضهم من الأسرة الحاكمة، مقابل الإفراج عن مقاتلين لـ «حزب الله» وعراقيين وإيرانيين، وإخلاء بلدتي كفريا والفوعة الشيعيتين المحاصرتين مقابل إجلاء بلدتي الزبداني ومضايا اللتين حاصرهما «حزب الله» والنظام. التفاوض الأساس في الصفقة كان مع «حزب الله» اللبناني ثم تشعب، فانتهت الصفقة بدفع مئات ملايين الدولارات مولت الأخير وميليشيات عراقية وأخرى مدعومة إيرانياً، و «النصرة» و «أحرار الشام» على السواء.
للدور القطري انعكاس آخر في سورية: أنتج اتصالات بين «حزب الله» وبعض التشكيلات الإسلامية السنّية، لبعضها أصول «إخوانية» متصلة بالدوحة، بحجة صوغ اتفاقات جديدة لإخلاء قرى في منطقة القلمون، بهدف تحييد مناطق عن القتال، لأن هم الحزب التفرغ لانتزاع السيطرة على معابر من العراق إلى سورية (التنف والبوكمال)، حيث يدعم الأميركيون سيطرة قوات قاموا بتدريبها. والهدف مواجهة السياسة الأميركية الجديدة بقطع طريق التواصل بين طهران وسورية عبر العراق، تطبيقاً لمطلب دونالد ترامب انسحاب إيران والحزب من سورية. وهو ما يطرحه قادة الخليج. وهدف إيران والحزب أيضاً مواجهة المعارضة في درعا، للحؤول دون تمددها بدعم أميركي وأردني.
رفعَ ذلك احتمالات الاحتكاك بين واشنطن وموسكو التي تدعم محاولات النظام و «حزب الله» طرد المعارضة من درعا، بقصف مدمر وكثيف من الطيران الروسي. ويتلمس بعض السوريين المتابعين للتواصل بين «حزب الله» وإيران وتنظيمات سورية على صلة بقطر، مشروعاً لقيام تعاون إيراني- قطري- تنضم إليه تركيا، بحكم خلافها مع الإدارة الأميركية على إعطاء الأكراد دوراً رئيساً في معركة الرقة، وبفعل تقاربها مع الدوحة وتوافقها مع طهران في وجه الدور الكردي. فهل يتعزز هذا الاحتمال بموازاة تعاون الدول الثلاث لمساعدة الدوحة على مواجهة أزمة الحصار الخليجي؟ وهل تستفيد موسكو من هذا التلاقي لمواصلة الحرب بالواسطة مع واشنطن، في الجنوب السوري؟
كل هذا قد يطرح على بعض المعارضة السورية تحدي الاختيار.