اليوم، تنزف الرّقة السورية ما تبقى من دمها، تتوسّد ذراع فراتها وتتكوّر ململمةً جراحها الكثيرة، في محاولةٍ لتأجيل الموت القادم إليها من كل اتجاهات الأرض. تُطبق الرّقة عيونها تحت سماء مزّقتها القنابل والصواريخ، وأطفأ الفوسفور الأبيض أضواء قمرها وشمسها.
اليوم، تتابع الرّقة اختصار الحكاية كلها، وتًفرد تاريخ الثورة فيها على كتب العالم، ليعكس تفاصيل المقتلة السورية كاملةً، ويتنبأ بمستقبلٍ لا يخص المدينة المنكوبة وحدها، بل يمتد ليرسم ما سيؤول إليه غد سورية القادم على اتساع الخارطة.
لطالما كان ما تمر به الرّقة مرآة مصغّرة لما تمر به سورية كلها، لكنها مرآة تعكس التفاصيل الصادمة بوضوح ومن دون رتوش، وتقدّم رسماً دقيقاً مباشراً لما يحدث بشكلٍ غير مباشر في كل المحافظات السورية. وليس على من يرغب بمعرفة حقيقة ما حدث في سورية خلال السنوات الست المنصرمة إلا أن يعود إلى تاريخ أحداث الرقة بالذات لترتسم لديه كل التفاصيل.
فعلى الرغم من انطلاق المظاهرات في الرّقة بعد أسبوع من انطلاقها في درعا، وتواصلها خلال الأشهر الأولى، ولو بشكلٍ خجول، إلا أن كل أشكال الحراك الثوري في المدينة لم تلق ما تستحقه من تغطيةٍ إعلامية، بل تم تغييبها بشكلٍ شبه تام بما في ذلك الاعتصام أمام القصر العدلي في الشهر السابع، وانتفاض آلافٍ من أبنائها خلال شهر رمضان 2011.
ظن نظام الأسد أنه ضَمن ولاء الرّقة بنشر فكر حزب البعث بين أبنائها، وتماهيهم خلال مراحل سابقة مع سلطته. كما ظن بشار الأسد أنه استطاع، بصلاته في مسجد المدينة في العام الأول للثورة، ضمان بعض شيوخ العشائر، القادرين (باعتقاده) على كبح جموح الشباب الثائر، وهو ما حاول النظام اللعب عليه في بدايات الحراك السلمي في كل المناطق، بكسب تأييد السلطات الدينية أو العشائرية أو الاجتماعية، إلا أن هذا المفهوم كان أول ما أسقطته الثورة.
ومع بداية السنة الثانية، بدأت الرّقة تدفع ثمن الحرية بقوافل من الشهداء والمعتقلين، واتسعت خريطة الحراك الثوري فيها لتشمل كل أحيائها والقرى والمدن التابعة لها. وكما حصل في كل المحافظات السورية، كان إسقاط الصنم الأكبر في ساحة الرّقة حدثاً تاريخياً، لكنه تميّز حينها بتحرير واقعي للمدينة، يحاكي مشاعر التحرير التي انتابت السوريين مع كل سقوطٍ لتمثالٍ للطاغية في أي مدينةٍ سورية أخرى.
عاشت الرّقة أربعة شهور إحساساً كاملاً بالحرية من نظام الأسد، وحاول شبابها صناعة أنموذجٍ جميل لمنطقة محرّرة، تُحكم بإدارة مدنية متحمسة. وتميزت تلك الفترة بانتشار عشرات التجمّعات المدنية التي بدأت تعمل مثل خلايا النحل، لترميم البنية التحتية ونشر ثقافة العمل المدني، وتأسيس أرضيّاتٍ مدروسةٍ لاستمراره.
لكن حلم الرّقة الجميل، وهو حلم كل سوري شارك فعلاً أو عملاً أو فكراً في الثورة، لم يلبث أن حوصر من جديد، لكن بأيدٍ تختلف شكلاً عن نظام الأسد، وتشابهه بالتسلط والتحكم وبشكل أقسى وأبشع. ومع انقضاء ربيع التحرير، بدأ تنظيم داعش يتوغل في كل مفاصل الحياة في المدينة، ليبدأ ملاحقة المنظمات المدنية واختطاف رموزها، وهو ما تحول، مع مرور الأيام، إلى اعتقالٍ علني مباشر، استهدف الناشطين المدنيين والسياسيين الذين لم تطلهم يد النظام، فطالتهم يد "داعش".
مطلع 2014 سقطت الرّقة بيد التطرّف، بعد معارك مع الفصائل المقاتلة في المنطقة، لتبدأ مرحلة النزوح القسري لأبناء المدينة، وخصوصاً ناشطيها، بعد تعرّض حياتهم لخطر الاعتقال أو الذبح. وهو ما حدث في كل المدن السورية الثائرة، لكن الاختلاف كان فقط في التسميات؛ فهنا كانت "داعش"، وهناك كانت جبهة النصرة. وفي أماكن أخرى، كان لهؤلاء تسميات أخرى، وكلهم كانوا، بشكل أو بآخر، خناجر في خاصرة الثورة وعملاء، بشكل مباشر أو غير مباشر، لنظام الأسد؛ كانوا شمّاعته الأهم التي علّق عليها كل مبرّراته للعالم، واستخدمها فزّاعة لبقية السوريين.
استمرت مسرحيات النظام و"الإرهابيين" خلال السنوات الماضية، في تسليم مناطق واستلامها وإعادة توزيع وانتشار في الأراضي السورية، حسب ما تقتضيه مخططات المراحل المختلفة. وها نحن اليوم ربما نشهد فصلاً آخر لمسرحيةٍ جديدةٍ، ستخرج فيها "داعش" من الرّقة باتجاهٍ لم نعد قادرين على تحديده، وستسلّم الرقة من جديد لتطرّف آخر؛ ليس دينيّاً هذه المرة، بل قوميٌّ، ولم نعد قادرين أيضاً على تخمين نتائجه.
اليوم، تُجبر الرّقة على الدخول في مرحلةٍ جديدة، وربما سيكون مستقبلها القريب مرآة حقيقية لمستقبل سورية البعيد، مثلما كانت أحداثها الصارخة خلال سنوات عصيبة، الوجه الأكثر مرارةً ووضوحاً لأحداث الثورة السورية كاملة.
هل حقاً أن القوات المدعومة من إيران والجيش السوري تبدو مصممّة على الاستيلاء على نقطة العبور الحدودية في التنف بجنوب سورية، حتى لو أسفر ذلك عن مواجهة مع القوات الأميركية؟ وهل ثمة حسابات إيرانية بأن ذلك قد يشتت «الهجمة الأميركية المستجدة على سياسات إيران»؟، وهل بسبب ذلك نقلت القوات الأميركية، مثلاً، منظومة راجمات صواريخ جديدة بعيدة المدى إلى قاعدة أميركية في التنف قرب الحدود العراقية - والأردنية لتعزز وجودها في شرق سورية أكثر فأكثر، وباتجاه البوكمال، وذلك بعدما أنشات قاعدة أخرى في الزكف؟
الأرجح أن واشنطن مصممة على حماية حلفائها المحليين في شرق سورية وعلى امتداد مثلث الحدود السورية - العراقية - الأردنية، ومنع إيران من التموضع في تلك المنطقة الحساسة. لكنّ ذلك لا ينفي أن الصراع بات مكشوفاً بين إيران وقوات التحالف الدولي بقيادة أميركا على السيطرة على مناطق البادية وعلى المعابر والحدود الدولية وعلى تركة ما بعد «داعش». واليوم، يبدو جلياً إلى أي درجة يستميت النظام السوري في الوصول إلى درعا والسعي الى السيطرة الكاملة عليها من أجل تنفيذ المرحلة الثانية من «سورية المفيدة».
مؤدى ذلك أن يمانع النظام وحلفاؤه الإيرانيون قيام منطقة آمنة في الجنوب السوري في ظل الشروط المفروضة. ومن غير الواضح إنْ كان في هذا «اعتراض» على فحوى الترتيبات الأميركية - الروسية التي استضافتها العاصمة الأردنية في الآونة الأخيرة، أم أن موسكو في طور التأني ومراجعة الحسابات لأبعاد ما تمّ مع الأميركيين؟
ولعل سبب الكلام عن «اعتراض» يعكسه تصعيد القوات النظامية السورية والميليشيات الموالية لها من هجماتها على مناطق تسيطر عليها فصائل المعارضة في درعا، في تمهيد محتمل لهجوم واسع النطاق لانتزاع السيطرة على المدينة بالكامل بما يتضمن طريق دمشق - درعا، البالغ الحيوية من الجانب اللوجستي وتأمين الإمدادات.
التصور في شأن المرحلة الثانية من «سورية المفيدة» يقتضي السيطرة على معبر نصيب الاستراتيجي مع الأردن، لأنه يكفل تقطيع ممرات مقاتلي المعارضة بين المنطقتين الشرقية والغربية من درعا وإنهاكهم في الجنوب، وإخراج درعا من دائرة الصراع، وما يعنيه ذلك من اختلال في الموازين على الأرض، إذ سيصل دمشق بالحدود الأردنية في شكل مباشر وتحت سيطرة النظام وحلفائه. والمعروف أن الأردن لطالما طالب بأن يسيطر الجيش السوري على نصيب، ولطالما قال إن تأمين المناطق في جنوب سورية مسؤولية سورية وليست أردنية، لكن إشكالية ما يبدو عليه الوضع اليوم تكمن في مصطلح «قوات النظام»، التي لم تعد منفصلة أو متمايزة حقاً عن الحليف الإيراني والميليشيات الشيعية، وهو ما يرفضه الأردن، مثلما يرفض بالضبط تمركز الجماعات الجهادية على مقربة من حدوده الشمالية.
السؤال: هل ثمة صبر وجدية استراتيجية أميركية في تحقيق هدف إبعاد إيران عن وصلِ العراق بسورية؟ وفي المقابل: هل المعارك العنيفة المتوقعة قريباً في درعا والصراع المحتدم على السيطرة على دير الزور ودخول «الحشد الشعبي» على معارك الحدود، قد تمكّن القوات النظامية وحلفاءها من إفشال مخطط قوات «التحالف الدولي» بإنشاء منطقة آمنة جنوب سورية وطرد المعارضة من درعا، وفصل الريف الشرقي لدرعا عن الريف الغربي، وتحقيق المرحلة الثانية من «سورية المفيدة» في الجنوب؟
الأسئلة ما زالت أكثر من الإجابات، والمرحلة المقبلة ستُظهر حدود «كسر العظم» وهوامش المناورة في الصراع على المعابر والحدود، وطبيعة تعاطي واشنطن مع هواجس حلفائها الإسرائيليين والأردنيين، كما ستجعل أميركا وإيران أمام احتمالات تصعيد ساخن قد لا تُفرض التسويات في المنطقة بين واشنطن وموسكو وطهران من دونه؟
أعلن الرئيس الإيراني، حسن روحاني، عن استعداد بلاده لإرسال "قوات سلام" إلى سورية. ويطرح هذا الإعلان أسئلة عن هوية القوات الإيرانية التي تقاتل بالآلاف، منذ نيف وستة أعوام، ضد شعب سورية "الشقيق"، وكان روحاني يقول دوما إنها "قوات سلام"! وهل يصدق من يستمع إلى تصريحات جنرالات وملالي طهران وتبجحاتهم أنه يمكن أن يكون لدى هؤلاء "قوات سلام"، فيرسلونها إلى سورية؟. هل يعتقد روحاني أن العالم على قدر من الغباء، يجهل معه أن المهمة الوحيدة للحرس الثوري والباسيج وفيلق القدس... إلخ هي كتم أنفاس الإيرانيين والعرب، وتصدير الخمينية بقوة هؤلاء إلى بلداننا؟. ومتى قامت قوات إيران بأية أعمال تجعل منها "قوات سلام"، وهي التي لم تترك فظاعةً إلا وارتكبتها، في بلادها وبلادنا، دفاعا عن نهج طائفي/ مذهبي، أشعل نيران حروبٍ أهليةٍ بين المسلمين، لم تتوقف منذ حكم الملالي إيران، تطبيقا لاستراتيجية سيطرة وتحكّم ضد جيرانها، نفّذتها بثمن باهظ إلى أبعد الحدود كلف ملايين البشر حيواتهم، ودمر ما بنوه من عمران خلال قرون، في سورية والعراق، اللتين دمرتهما "قوات السلام" الإيرانية؟
هل هناك اليوم بلاد تحتاج أكثر من إيران إلى قوات سلام؟. لنقرأ ما يقوله المرشد خامنئي لقادة نظامه حول الوضع في بلادهم: "أنتم جالسون على برميل بارود بدأ بالاشتعال منذ مدة... وأريد إخافتكم من جيوشٍ تضم ملايين الشباب والشيوخ والأطفال المحبطين والمتضررين، الذين متى انفجروا لن يكون لديكم فرصة للوصول إلى سلم الطائرة كالشاه".
لنقرأ أيضا بعض الأرقام حول "قوات الملالي السلمية"، فقد أسس الحرس الثوري خلايا سرية في 12 دولة أجنبية، وقام بثلاث عشرة عملية إرهابية كبيرة بقوات دعمتها هذه الخلايا. وأجرى أنشطة تخابرية تخريبية الأهداف والطابع مع 12 جهازا أجنبيا يتعاون معه. وأرسل متفجراتٍ إلى أربعة عشر موقعا، لاستخدامها في حروب ومعارك وعمليات إرهاب. وللإنفاق على الإنجازات السلمية، صار 20% من الإيرانيين سكان عشوائيات، واحتكر 4% من الشعب معظم الثروة الوطنية، وانخفض مستوى عيش قسم كبير من المواطنين ثلاث مرات خلال أربعة أعوام، حتى صار الواحد منهم مجبرا على العيش بـ 12 دولارا في الشهر، في حين ازداد عدد الأميين إلى عشرة ملايين شخص، وانهارت فئات واسعة من الطبقات الوسطى، وانضمت إلى عالم الفقراء متزايد الاتساع، وهدر مئات مليارات الدولارات على برنامج نووي، جرى وقفه ووضعه تحت رقابة دولية، تولى التفاوض عليه روحاني الذي يعتبر هذه الكوارث إنجازه الشخصي، وعمله الإصلاحي الذي لم يعد يجد آذانا صاغية من شعب يعيش الملايين من شاباته وشبابه في بطالة دائمة، لكن روحاني يطعمه منمق الكلام، ويغمره بخطاباتٍ معسولة لن تنجح في إنقاذ إيران من انفجار برميل البارود الذي يحذر منه "المرشد" خامنئي، ويراه وشيكا.
تطرح أرقام خامنئي وكلماته السؤال: هل يمكن لقوات بلادٍ لديها هذا الحجم المرعب من المشكلات القابلة للانفجار أن تكون "قوات سلام"؟ وماذا يفعل بقواتٍ كهذه لن تنفعه عند انفجار برميل البارود، إن كانت قوات سلام حقا، وكانت سياساته تقوم على تصدير أزماته إلى خارجه، وشحن جيوشه بحقد أعمى على جيرانهم، لمجرد أنهم مختلفون مذهبيا؟ وهل يمكن لقيادةٍ أوصلت شباب شعبها وشيوخه وأطفاله إلى الدرك الذي تصفه الأرقام، محاربة الإرهاب الذي تنتجه سياساتها مع كل قرار تتخذه، وإجراء تقوم به؟. وهل يمكن، أخيرا، لعاقلٍ قبول مزاعم روحاني بشأن هوية قواته التي تقتل السوريين بلا تمييز، إن كانت هي التي تموّل وتدرب وتسلح تنظيمات مذهبية، تعد بقتل الملايين من معتنقي مذهب إسلامي آخر، تتهمهم بـ "قتل الحسين"، قتل قبل نيف وألف وأربعمائة عام!.
لا يُنتج نظام إيران، باستبداده وفساده ومذهبيته، غير القتلة ومصدري الإرهاب باسم تصدير "الثورة الاسلامية". ولا تستطيع إيران إرسال "قوات سلام" إلى الخارج، لسبب بسيط، هو أنها تفتقر إليها، ولأن المرشد يحتاج إلى قتلةٍ يحولون دون انفجار برميل البارود اليوم، ويضمنون وصول الملالي إلى سلم الطائرة غدا، للنجاة بجلودهم، تيمنا بالشاه.
لا موعد محدداً لجولة مفاوضات جديدة في جنيف، ومحادثات آستانة معلقة بدورها. وكل ما قيل من أن البلدان الضامنة لاتفاقية «مناطق خفض التوتر» الأربع، سيقدمون في الرابع من - يونيو (حزيران) الحالي، الخرائط النهائية للمناطق المشمولة بالخفض، لم يتحقق منه أي شيء، وحتى لا إشارات عن أي لقاء عسكري لهذه الأطراف، كما لم تتابع موسكو مسألة تأمين المشاركة العسكرية من أطراف مقبولة، تتولى الفصل عسكرياً بين هذه المناطق، وتلك التي يسيطر عليها النظام السوري، وأن تكون المشرفة على أمنها، بما في ذلك الأمن الاجتماعي المعيشي والصحي. كل التواريخ سقطت ولم يتذكرها أحد، حتى أن الموفد الأممي ستيفان دي ميستورا المشارك في مؤتمر عن السلام تستضيفه النرويج، لم يجد غضاضة من القول، إن «العودة إلى محادثات جنيف تعتمد على ما سيتحقق في مناطق خفض التوتر».
الواقع أن المستجدات المتتالية في «سوريا المفيدة» أساساً، كما في المناطق التي يتم تحريرها من «داعش»، فرضت تعديلاً في جدول الأعمال الدولي بشأن التسوية في سوريا. فليس أمراً عرضياً أن تعلن «حميميم» قبل أيام أن 47 مدينة وبلدة في إدلب، البقعة السوداء بالذات، نفذت «مصالحات» وانضمت لاتفاقات خفض التوتر، وأن العدد الإجمالي ارتفع إلى 1619 مدينة وبلدة، وترافق ذلك وفق «حميميم» مع انضمام 219 مجموعة مسلحة للاتفاقات و«المصالحات» مع النظام، وكثير من هذه المجموعات التحق بالفيلق الخامس. وهذا الفيلق هو القوة الجديدة، تدريباً وتسليحاً وتمويلاً تقع تحت الإشراف المباشر للقيادة الروسية في سوريا، وتم إيجاده لإنهاء حالة من التشرذم الميليشيوي، التي كانت تتبع للحرس الثوري الإيراني في المناطق الخاضعة للنفوذ الروسي.
هذه المتغيرات أملت إرجاءً مؤقتاً لمحادثات آستانة، التي ستعود وتنعقد وتتأجل مرة بعد مرة، بانتظار استقرار الخرائط الأخيرة للنفوذ، وهي خرائط وضعت أمام التغيير الحتمي، منذ معركة حلب التي أنهت شكلاً من العسكرة المتأسلمة للثورة السورية، في حين أن كل ما بقي من مناطق تحت الإشراف المباشر للفصائل المسلحة، لا تتعدى كونها جيوباً منعزلة آيلة للسقوط. وكل استعراضات الفصائل فيها، وصداماتها وتوافقاتها، ليست بعيدة عن الأهداف العامة لفريق النظام السوري. ومنذ صفقة التغيير الديموغرافي الأكبر والأخطر في محيط دمشق، التي عُرفت بصفقة «المدن الأربع»، وكان لحكام قطر بصمات تمويلية كبيرة فيها، عبر إرهابيي «فتح الشام» (جبهة النصرة)، وقضت بإحلال أُسر من «الهزارة» (الشيعة الأفغان)، وشيعة من باكستان والعراق مكان أبناء البلد الأصليين، فإن كل ما يجري بات علنياً وبشكل مكشوف، والذروة أن تتولى ميليشيات حزب الله نقل جرحى تنظيم «جبهة النصرة» إلى مستشفيات البقاع وهم كانوا قد سقطوا مؤخراً في مواجهات القلمون الغربي التي اندلعت مع أطراف محسوبة على «داعش»، ويتردد أن هذا الترتيب تتمة لصفقة «المدن الأربع». ونفتح مزدوجين للإشارة إلى أن البصمات القطرية التمويلية لـ«جبهة النصرة» بارزة في إدلب معقل هذه الجبهة المتطرفة، وذلك بالتكافل والتضامن مع المخابرات التركية، ولا يستبعد أن يؤدي ذلك إلى الكارثة في الآتي من الأيام، ويصبُّ في خدمة أهداف النظام السوري وحلفائه.
وحقيقة الأمر أن الروس منذ حسموا معركة حلب، تيقنوا أن لا حلّ عسكرياً في سوريا، وأن لا بديل عن التسوية السياسية، وهم أعلنوا تأييدهم لها ولم يتعهدوا يوماً بأن هاجسهم تسوية عادلة، بل أرادوا قبض ثمن تدخلهم، الذي ضاعف أعداد الضحايا وفاقم الدمار، لكنهم عجزوا عن ترجمة أهدافهم مكاسب ملموسة مع إدارة الرئيس أوباما التي اكتفت برفع الصوت أحياناً ضد بعض الممارسات الجائرة. واتسع الرهان مع مجيء الإدارة الجديدة والرئيس دونالد ترمب، لكن الملف المفتوح على خلفية مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، أرجأ البحث الجدي، وتراجع الحديث عن الصفقة الكبرى بين البلدين، واتسعت الشكوك الأميركية بروسيا وتنامى العداء لها، وهذا ما يفسر أنه بعد مرور نحو ستة أشهر على تسلم الرئيس ترمب لم تعقد بعد مباحثات قمة بين واشنطن وموسكو.
كل ذلك ترك انعكاسات سلبية كبيرة، وكان لافتاً أن يعلن رياض حجاب، رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، أن الوفد السوري إلى واشنطن لم يلمس أي رؤية أميركية لحل الأزمة السورية. واليوم بعد كل القراءات لضربة «الشعيرات»، وتحميل طهران المسؤولية عن انعدام الاستقرار في الإقليم، ومع الحرب على «داعش» حيث بدأت معركة استعادة الرقة، تزايد الاهتمام الأميركي بترسيخ الأمن على طول الحدود مع إسرائيل والأردن، وحتى معبر «التنف»، وأدخلت واشنطن نظام المدفعية الصاروخية التدميري هيمراس - Himrass - لكن كل هذا التحرك، لم يرتقِ بعد إلى خطة تكسر أو تجوف مشروع الهلال الفارسي الزاحف، لإقامة ممر بري يربط طهران بالمتوسط! وهذا الأمر لو تقدم لوضع واشنطن في قلب التسوية للأزمة السورية، ولوضع المسألة السورية على طريق الحل الجدي، من هنا يصبح مفهوماً الربط الذي أعلنه الموفد الدولي دي ميستورا، بين موعد جديد لمحادثات جنيف، وانتظار ما سيتبلور من نتائج عن لقاء ترمب - بوتين على هامش قمة العشرين الشهر المقبل.
وحتى إشعار آخر، كل المباحثات بشأن سوريا تمارين بالنار، والبحث الحقيقي معلق، والأطراف تتسابق على الاستحواذ على الأرض والنفوذ، ويدفع الشعب السوري ثمناً غير مسبوق لأبشع حرب لم تبقَ قوة إقليمية أو عالمية إلاّ وتدخلت فيها.
تقود ملاحظة الوجهات التي سلكتها الثورات العربيّة منذ 2011، إلى تفاوت واضح بين الطلب على الحرّية (وفي عداد ذلك الكرامة، وتوفير الشروط اللازمة للطلب على المساواة) وبين الثقافة الملازمة لذاك الطلب. وقد جاءت الذكرى الخمسون لهزيمة حزيران (يونيو) 1967، قبل أيّام، لتدلّ على تشابه بعيد لا يزال قائماً في عمليّة التأريخ والتحقيب بين الأنظمة (ومعها «معارضاتها» الرسميّة) وبين الثورات عليها، أو بالأحرى، البيئات الثقافيّة والفكريّة لتلك الثورات. هكذا تمّ إبطاء الفرز، بل القطع، في النظر إلى التاريخ، وعليه تمّ إبطاء العمليّة المزدوجة التي لا بدّ منها: تحرير العقل من الخرافة، والمساهمة في تعبيد الطريق إلى مستقبل حرّ. وهذا، أيضاً، كان انتصاراً لعمليّة مركزة التاريخ (والواقع تالياً) حول السلطة.
فالسرد الرسميّ، ابتداءً بـ «نكبة» 1948 وصولاً إلى «نكسة» 1967، لم يتغيّر كثيراً في احتفاظه بهذه المعالم والمحطّات الكبرى، وإن ظهر الانشقاق عنه في حدود توجيه الاتّهام وتعيين الجهات المسؤولة عن الإخفاق.
وبالعودة إلى الوراء، يُلاحَظ أنّ الانتقادات التي وُجّهت إلى هزيمة 1967، أصدرت حينذاك عن إسلاميّين أو عن يساريّين، بدت محكومة بالهمّ الحارق: لماذا حصلت، وكيف نردّ عليها؟ الإسلاميّون، مثلاً، ألحّوا على العودة إلى الله. اليساريّون توزّعوا بين مُطالب بقيادة الطبقة العاملة ومُطالب بتغييرات جذريّة في الاجتماع والثقافة، وبين داعٍ إلى حرب عصابات وداعٍ إلى حرب عسكريّة نظاميّة. وكانت تلك الانتقادات، على تباينها، تتضمّن فرضيّة غير معلنة مفادها أنّ الردّ على الهزيمة هو معيار الحاكميّة الصالحة. فلو استطاع حافظ الأسد ذلك، مثلاً لا حصراً، لأمكن غضّ النظر عن استبداده، أو على الأقلّ إبداء درجة من التسامح والتحمّل مع ذاك الاستبداد. وغالباً ما خانتنا ملاحظة أنّ «انتصار» جمال عبد الناصر في 1956 هو ما مكّن طغيانه اللاحق وسهّل عليه ما كان بدأه في 1954 لجهة توطيد دولة التنظيم الواحد وزعيمها المعبود.
في الحالات جميعاً، فإنّ المعبّرين عن ثورات الحرّية لا يملكون الكماليّات التي كانت متاحة لنقّاد ما بعد هزيمة 67. ذاك أنّهم يعبّرون، بالتعريف وبالضرورة، عن الطلب على الحرّية التي لا تُنتزع إلاّ من تلك الأنظمة. وهم، في عملهم هذا، يعاودون اكتشاف بلدانهم عبر استخلاصها من الروايات الرسميّة الخارجيّة، كما ألّفتها السلطات و»معارضوها» الرسميّون. يصحّ ذلك خصوصاً في ميدان تأريخ تاريخنا المعاصر.
وفي هذا المجال، لا يؤتى بجديد حين يقال إنّ الرواية القوميّة للتاريخ، وتعيينها للمنعطفات والمحطّات، كانت من أعتى الأسلحة في مصادرة الأنظمة حرّيةَ مجتمعاتها وإعدام احتمالاتها السياسيّة.
والحال أنّه من وجهة نظر الطلب على الحرّية، تحضر محطّات تأسيسيّة قلّما استرعت انتباه البيئة الثقافية والفكريّة لثورات الحرّيّة. وهي محطّات تشذّ عن التأريخ الرسميّ والقوميّ بـ «النكبة» (التي ردّ عليها العسكر بإقامة أنظمة أمنيّة قوميّة) و»النكسة» (التي «لم تنجح» في إسقاط تلك الأنظمة).
فـ «النـــكبة» الفعــليّة، إذا جازت التسمية، إنّما تبدأ بالناصريّة التي قطعت نهائيّاً طريقاً، شابه التعثّر، لبناء مجتمع سياسيّ في مصر.
وغنيّ عن القول إنّ أحداً ما كان في وسعه أن يتنبّأ سلفاً بالآفاق التي كان يمكن أن تفضي إليها البدايات البرلمانيّة المضطربة السابقة على الناصريّة. لقد قضت الأخيرة على الأحزاب وأمّمت الإعلام وألحقت النقابات وصادرت الحياة الاقتصاديّة مثلما صادرت الحياة السياسيّة. إلاّ أنّها، فوق هذا، تحوّلت النموذج المؤسّس لعمليّات تكرارها في بلدان المشرق العربيّ، لا سيّما العراق وسورية.
ومن وجهة نظر الطلب على الحرّية، يرقى انهيار لبنان في 1975 إلى «نكبة» أخرى. ذاك أنّ هذا البلد الذي تجنّب النموذجين السائدين عربيّاً، العسكريّ والسلاليّ، كان يعيش تجربة مفتوحة أيضاً على احتمالات شتّى. وقد انطوت تلك التجربة، على ما اعتراها من قصور كبير، على حياة برلمانيّة وإعلاميّة وحزبيّة ونقابيّة عزّ نظيرها في سائر العالم العربيّ.
وكان «نكبةً» أخرى، من وجهة نظر الطلب على الحرّية، تعاطي النظام العسكريّ – الأمنيّ – القوميّ مع الأقلّيّات، أكانت طبقيّة ومهــنــيّة (تجّار، صناعيّين، نقابيّين، معلّمين، ذوي ثقافة غربيّة...) أم دينيّة وإثنيّة (الحالة الأفدح كانت الحرب على أكراد العراق، ثمّ أهوال شيعة العراق في عهد صدّام، والتوظيف القوميّ لفلسطينيّي المشـــرق والمـــتاجرة بهم، وإرعاب مسيحيّي لبنان وابتزازهم). لقد قلّص هذا السلوك المنهجيّ واقع التعدّد في مجتمعاتنا بقدر ما ساهم في ترييف مدننا على النحو الذي تشتهيه شوكة الاستبداد والواحديّة.
أمّا «نكبة» احتلال صدّام حسين الكويت فهي أيضاً فاتت شبكة رادارنا في رصده الحرّية. ذاك أنّ تلك التجربة كانت قاصمة لأفكار تبدأ بالحقّ في تقرير المصير ولا تنتهي عند التسليم بالقوّة العسكريّة أداة يُحتكم إليها في نزاعات الدول.
هذه «النكبات» التي منيت بها الحرّية في العالم العربيّ لم تحظ بما تستحقّه في حساسيّات البيئة الثوريّة الطالبة للحرّية. لا بل كثيراً ما تجاوز بعض رموز الحساسيّات الأخيرة حدّ التجاهل لتلك «النكبات» لإعلان التعاطف مع بعض المتسبّبين بها (عبد الناصر وصدّام حسين خصوصاً).
في هذه الغضون، يبقى ذاك الفارق بين الطلب على الحرّية ووعيها أحد الأسباب التي تفسّر انتشار الوعي الإسلاميّ وامتداده، هو الذي لا يخالف الوعي القوميّ في النظر إلى الذات وإلى العالم المحيط. وكلّما استمرّ ينمو هذا الفارق استمرّ ينمو ذاك الوعي بوصفه وحده ما يستطيع أن يملأ، على نحو زائف، ذاك الفراغ القائم في المجال هذا.
وممّا يتأدّى أيضاً عن استمرار ذاك الفارق تعزيز حجّة الأنظمة القوميّة، إذ تجري المجادلة دوماً على الأرض التي رسمتها. وهذا ما يوفّر أحد الأسباب وراء تعاطف «المناهضين للإمبرياليّة» مع مناهضة الأنظمة، لا مع «مناهضة» معارضيها. فالأخيرون يجدون أنفسهم أمام مهمّة مستحيلة من فرز المعاني والدلالات الاستعماليّة وإحداث تغييرات فيها لا يحتاج إليها النظام «المناهض للإمبرياليّة».
لا شكّ في أنّ غيمة قوميّة كثيفة وغيمة مذهبيّة أكثف منها تُسألان عن هذا التلبّد. فهما تفسّران هذا القصور الكبير، وهذا الميل إلى التحقيب والتأريخ بموجب الهوى السلطويّ الذي استهدفته الثورات وتستهدفه، بعدما استهدف الشعوب عقداً بعد عقد. لكنّ المرجّح أنّ نقصاً كبيراً سيبقى يلاحق طلب الحرّيّة ما لم يتمّ التغلّب على النقص في وعيها وقراءتها لتاريخ المظالم النازلة بها.
حفلت الأعوام السورية الستة بأحداث خارجية كبيرة عاكست جميعاً طموحات الشعب السوري وأتاحت لنظام بشار الأسد الاستفادة من فرص، بعضٌ منها غير متوقّع والآخر جاء في سياق تحالفاته واستهتاره وعدم اكتراثه بأرواح مواطنيه ولا بالدمار وانهيار الاقتصاد. لعل الأزمة التي تفجّرت بين السعودية ومصر والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى، آخر تلك الأحداث خصوصاً أنها ترتّب انعكاسات خطيرة على المعارضة السورية التي عوّلت دائماً، بشقّيها السياسي أو العسكري، على تضامن «الدول الداعمة» وتوافقها.
كانت فوضى الميليشيات التي استشرت سريعاً في ليبيا أنذرت القوى الدولية بأن انهيار «الدولة» و»المؤسسات» - وكان مثال العراق لا يزال في الأذهان - سيفضي الى وضع مماثل في سورية، لذلك أُبقي التعاطف مع الانتفاضة الشعبية في أطر سياسية وإنسانية فقدت فاعليتها بعدما عمد النظام الى عسكرة المواجهة. بعد ذلك، جاءت الأزمة الأوكرانية التي حجّمت الاهتمام بسورية لفترة استغلّتها إيران كي تعمّق تدخّلها وتوسّعه، حتى أصبح ناجزاً عندما تهيّأت الظروف لانطلاق المفاوضات النووية التي استدرجت السياسة الأميركية الى قبول ضمني بالأدوار الإيرانية في سورية والعراق واليمن. وتزامن استشراء الإرهاب وتدخّل الولايات المتحدة على رأس تحالف دولي، مع احتدام الصراع على أوكرانيا، لدفع روسيا الى تدخّل عسكري مباشر حسم الصراع، بمجرد حصوله، لمصلحة النظام... بالأحرى لمصلحة إيران.
يجدر تكرار التوضيح بأن مصطلح «قوات النظام» صار عنواناً أو مجرّد غطاء تمويهي لقوات منسوبة الى النظام، لكن عدادها ينتمي بكامله الى ميليشيات تابعة لإيران. وعندما كان الأسد يؤكّد أنه سيستعيد السيطرة على كل المناطق، كان ضباطه يتساءلون عمّن يستعيدها بعدما فشل الروس أو أفشلوا أنفسهم في تهيئة الظروف والأطر المناسبة لاستعادة آلاف من عسكريي «الجيش السوري الحرّ»، بما في ذلك إفشال أي تقدّم في الحل السياسي، فضلاً عن التلكؤ الروسي في بلورة «المجلس العسكري»، الى حدّ أن الإيرانيين دخلوا على الخط لترتيب لقاءات في لبنان بين ضباط نظاميين ومنشقّين بغية إنشاء «مجلس عسكري» على طريقتهم.
قد لا يكون المسؤولون الروس مخطئين أو متسرّعين حين يحكمون بأن الحرب في سورية باتت منتهية، فلديهم على الأرض وعلى المستوى الدولي والإقليمي ما يدعم هذا التقدير، على رغم أنهم لم ينجزوا أي اتفاقات واضحة مع الأميركيين. إذ لم تبقَ ميدانياً سوى جيوب محاصرة أو معزولة، تتولّى فيها الفصائل تصفية بعضها بعضاً، وعند الضرورة قد تتلقى فصائل مساعدة، من النظام هنا من الإيرانيين هناك من الروس هنالك، ضد فصائل أخرى أُسقطت من المعادلة بفعل المتغيّرات والترتيبات الجارية، إمّا لأن داعميها بدّلوا تموضعهم أو تراجع اهتمامهم. والسائد أن كارثة حلب التي ارتكبها الروس بمساهمة الإيرانيين فرضت منطقها على الجميع، بمن فيهم الأميركيون الذين انسحبوا من إدارة الصراع الى «صفة المراقب» عسكرياً وسياسياً، لكن مساعداتهم الحديثة للمعارضة ربما تشير الى نيّتهم العودة لاحقاً بعد الانتهاء من تصفية سيطرة «داعش» في الرقة ودير الزور. مع ذلك، انعكس الإهمال الأميركي للصراع السوري الداخلي على اللاعبين الإقليميين، بخاصة تركيا وقطر، الذين وجدوا مصلحة في تطوير تعاونهم مع روسيا والاقتراب أكثر من أطروحاتها أقلّه في جانبها العسكري.
لذلك، طرأت في الأسابيع الأخيرة تغييرات عميقة على الخريطة العسكرية، نتيجة تبدّلٍ وإعادة هيكلة للعلاقات بين «الدول الداعمة» والفصائل. فالعديد من المواقع في دمشق والغوطة وحمص وحماة انتقل الى النظام، إمّا من دون قتال أو بفعل الخلاف بين المدافعين أو حتى بالتنسيق الذي كان مستحيلاً وصار ممكناً بين «حزب الله» و»جبهة النصرة» (أيّاً ما تكون أسماؤها الأخرى).
يقتصر القتال حالياً بين المعارضة والنظام (مع الميليشيات الإيرانية) على جبهتَين: درعا والغوطة الشرقية، والأخيرة يُفترض أنها إحدى «مناطق تخفيف التوتّر» التي اقترحتها روسيا بالاتفاق مع تركيا وإيران، إلا أنها تضغط الآن لاستعادتها تحت سيطرة النظام، وتريد ترتيباً مماثلاً لدرعا. هذا ما تطرحه روسيا في اتصالات تتم في الأردن مع الولايات المتحدة، مستندة الى أن الموافقة الأميركية على عدم التعرّض لجيش النظام لا تشترط عدم تعرّض هذا الجيش لفصائل معارضة مصنّفة معتدلة، سواء تلك التي في درعا أو الغوطة. ولا يبدو أن لدى واشنطن استراتيجية متكاملة لرفض مطالب موسكو، أو لانتزاع موافقتها على «منطقة آمنة» في الجنوب.
هذه المتغيّرات خفّضت الاندفاع الروسي المتعجّل لتطبيق اتفاق «مناطق تخفيف التوتر» الأربع. فمؤتمر آستانا «الى أجل غير مسمّى» كما أعلنت كازاخستان، بطلب من موسكو، أي أن مفاوضات جنيف مؤجّلة أيضاً. حتى أن المبعوث الأممي الذي قصد موسكو للاستفسار، بعدما وجد نفسه منسياً، لم يجد جديداً سوى أن «العنف انخفض» خلال الشهر الأخير، ولم يشر الى جنيف. لم تعد هناك أخبار عن اجتماعات الخبراء الروس والأتراك والإيرانيين لرسم «حدود» المناطق الأربع، ولا أحد يؤكّد أنهم اتفقوا أم اختلفوا عليها، فكيف يتفقون ما دامت تلك «الحدود» تتحرك باستمرار في اتجاه توسيع سيطرة النظام؟ بل لماذا يتفقون إذا كانت تلك المناطق تتحوّل تدريجاً معازلَ تحاصرها قوات النظام وميليشيات إيران من دون أي التزام بوقف لإطلاق النار؟ أرادت موسكو تلك «المناطق» إرهاصاً لتوزيع مناطق النفوذ وحاولت ترويجها لدى واشنطن، وإذ لم تلمس استعداداً أميركياً لتبنّي خطتها، ولا حماسة من دول ذات مصداقية للمشاركة في قوات فصل بين «المناطق»، تبدو اليوم كأنها فرملت الخطة لتقويم أهدافها وجدواها. والواقع، أن الأهداف بدأت تتحقّق بفعل التصفيات بين الفصائل، كما أن تبدّل المواقف جعل الأزمة السورية في كنف رباعي متوافق (روسيا وإيران وتركيا وقطر) الى حدّ أن «جبهة النصرة» توسّع سيطرتها في إدلب من دون أن يشير أحد الى صفتها الإرهابية.
ماذا يفعل الأميركيون في المقابل؟ تؤكد الجهات التي تعمل معهم ميدانياً أنها تذكّرت أيام إدارة باراك أوباما، تحديداً في عدم الوضوح وتلكؤ القرارات. يظهر ذلك في درعا حيث تُرمى البراميل المتفجّرة وينهال القصف على مدار الساعة، ويظهر في قصة معبر التنف الذي فقد أهميته كحاجز ولم يعد معروفاً ما الهدف من السيطرة الأميركية عليه إذا لم يكن صدّ ميليشيات «الحشد الشعبي» العراقي ومنعها من اختراق الحدود لتلتقي مع «الحشد» الموجود في الجانب السوري، فالميليشيات شقت طريقاً آخر تعمل على تطويره كبديل من المعبر الرسمي. أما في الشمال، فتراجع الحديث عن جعل الرقة ودير الزور مناطق آمنة، لتتقدّم التكهنات بإبقاء الرقة في كنف الأكراد ريثما تتهيّأ الظروف لتسليمها الى النظام.
من الواضح أن الركائز الجوهرية لاستراتيجية أوباما السورية لم تتغيّر: الأولوية لمحاربة الإرهاب، والإحجام عن التدخّل في الصراع الداخلي. وها هي معركة الرقة انطلقت بالاعتماد على القوات الكردية التي بدأ حشدها وتحضيرها في أيام الإدارة السابقة، أمّا المضمون السياسي للتحرك الأميركي الذي أعقب الضربة الصاروخية لقاعدة الشعيرات فلم يبقَ منه شيء، إذ استطاعت روسيا أن تصفّي عملياً كل مفاعيله، كما أنها أحبطت تداعيات الهجوم الكيماوي على خان شيخون من دون أي تنازل. ومنذ أكدت واشنطن أن تحجيم النفوذ الإيراني في سورية وحتى في العراق هو أولويتها التالية، بعد ضرب «داعش»، تمكّنت إيران من مضاعفة تأثيرها، بل إنها ماضية في توسيع دور ميليشياتها في الحرب على الإرهاب في هذين البلدَين، وفقاً لاستراتيجيتها المعروفة.
كان النظام السوري يبدو شاذاً في التعامل مع الثورة، بالقياس إلى النظامين السابقين في تونس ومصر، وحتى اليمن (لم يُتح لنظام معمر القذافي في ليبيا ممارسة الأمر ذاته)، فقد مارس الوحشية منذ البدء، وقرَّر أن يسحق الثورة من دون تردد. ربما كان مصير رئيسي تونس ومصر المخلوعين هو ما جعل النظام المذكور يقرِّر الحسم العنيف، لكي لا يكون مصيره مشابهاً. لكنه كان السبّاق إلى ممارسة العنف العاري، مستغلاً تماسك النظام، والخشية الإقليمية والعالمية من توسّع الثورات العربية أكثر.
لكننا نلمس الآن أن النظم العربية، خصوصاً التي حدثت فيها ثورات، تميل إلى أن تمارس ما مارسه النظام السوري، بعد أن لمست أن كل سياسات المناورة التي قامت بها لم تُفلح في كبح ثورية الشعب، فقد ناورت الطبقة المسيطرة و"الدولة" من خلال إبعاد الرئيس، انطلاقاً من أنه هو السلطة، لكي تنهي تمرُّد الشعب، وتجعله يعتقد أنه انتصر، لكن الشعب الجائع الذي قبل هذه المناورة، معتقداً أن "النظام الجديد" سوف يحقق مطالبه، لمس أن تغيير الرئيس لم يغيّر وضعه، وأنه ما زال فقيراً وجائعاً وبلا عمل. لهذا عاد إلى الحركة، إلى الاحتجاج، وقام بثورة أخرى في مصر. لهذا، بات خطاب النظم يعتمد على التخويف من مصيرٍ مشابه لسورية وليبيا، ولقد عمل بعضها (مصر) على التشديد الأمني والهيمنة الشاملة على الإعلام، والاعتقال. وخلال ذلك كله، كان خطاب التخويف من الإرهاب هو الخطاب المركزي، مع عمليات قتلٍ هنا أو هناك من أجل تأكيد "جدية" الإرهاب. وهو الخطاب الذي كان يلاصق خطاب التخويف من وضع سورية وليبيا، لأن التمرّد مع وجود الإرهاب يعني سيطرة "داعش"، هذا الوحش الذي بات إله النظم، والحاجة الموضوعية من أجل استخدام العنف والسحق والاعتقال، والتخويف معاً.
بالتالي، يمكن تلخيص الأمر أن النظم ناورت أولاً، وحين فشلت المناورة استخدمت خطاب الإرهاب المرتبط بممارساتٍ إرهابية، ومن ثم بالتخويف من مصير سورية وليبيا. لكن ذلك كله لم يَفِدْ، لأن الشعوب لم تستكن، ولم تتراجع عن تمرّدها. فكيف لجائعٍ أن يقبل الموت هادئاً؟ وكيف لا "يُجنُّ"، وهو عاجز عن توفير لقمة خبز؟ ربما هذا ما لا تفهمه النظم، لهذا تميل إلى أن يقبل الشعب بالسكينة، على الرغم من الجوع، و"الموت جوعاً"، في تجاهلٍ كامل لوضع "بيولوجي" يدفع الجائع إلى التمرّد "رغماً عنه"، حيث لا خيار أمامه، فهو يقع بين الموت والموت. وهو خيار مثاليٌّ لحدوث التمرّد، حيث يكسر حاجز الخوف من الموت على يد النظام.
لذلك كله، بات خطاب النظم يقوم على التهديد، فانتقلنا من التخويف (والضغط الأمني) إلى التهديد. إلى التهديد بممارسة أقصى أنواع العنف. إلى استخدام الجيش، وإلى التهديد بالسحق، و"خسارة المستقبل". "كشَّرت النظم عن أنيابها" إذن، ولم يبق أمامها وهي تواجه ثورة الشعوب سوى خيار بشار الأسد. وهذا الأمر يعني أن الأزمة عميقة إلى الحدّ الذي يجعل الصراع حدّياً، ويعني أن أحد طرفيه يجب أن ينتصر أو يُسحق. لهذا، تهدد النظم بسحق الشعوب، وتُعلي من نبرتها التهديدية باستخدام أقصى الوحشية. بالتالي، ليس أمامها خيار سوى الوحشية. وهنا، يصبح بشار الأسد المثال، على الرغم من أنه تحوّل إلى كاريكاتور نظام بلا أرجل، سوى الاحتلال الخارجي. حيث لم تَفِدْ كل وحشيته في أن يظلّ قادراً على الحكم، إلا بدعم قوى خارجية، وبعد تدمير البلد. بالتالي، بات الأسد مثالاً على الرغم من فشله، وهذا ما يشير إلى ضيق ممكنات النظم للخروج منتصرة.
ربما تؤدي وحشية النظم إلى قتل أعلى، وتدمير أكبر، لكنها لن تستطيع الانتصار. وإذا كانت مسارعة النظام السوري إلى استخدام الوحشية هي التي جعلته يصمد بعض الوقت، قبل أن يحتاج "داعمين"، فإن النظم الأخرى لن تستطيع ذلك. بالضبط لأن الصراع الطبقي اخترق الدولة ذاتها، والأزمة طاولت بنيتها. لهذا، سيكون ميل النظام إلى الوحشية هو القرار الذي يفضي إلى تفكّك الدولة ذاتها أمام جبروت الشعب.
صدر في آذار (مارس) الماضي تقرير بالغ الأهمية عن استخدام العناية الصحية كسلاح في سورية. التقرير الذي صدر عن لجنة اللانسيت- الجامعة الأميركية في بيروت حول سورية لم يحظ بما يستحق من اهتمام في الصحافة ووسائل الإعلام العربية، والواقع أنه كتب بالانكليزية ولم يترجم إلى العربية بعد. اللانسيت مجلة طبية عالمية مرموقة، معنية بـ «تطبيق المعرفة العلمية من أجل تحسن الصحة وحفز التقدم الإنساني»، والتقرير الذي بين أيدينا نتاج عمل مشترك لباحثين من مشارب مختلفة ودول متعددة، ومنهم سوريون ولبنانيون وأميركيون وبريطانيون، وهو أول ما صدر عن اللجنة (http://thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(17)30741-9/fulltext).
يظهر التقرير كم أن الصحة قضية سياسية، وكم أنه جرى التعامل مع المرافق الصحية والعاملين الصحيين كأهداف حربية. «استخدام العناية الصحية كسلاح، أي استراتيجية استخدام حاجات الناس الصحية كسلاح ضدهم وحرمانهم منها بالعنف، أفضت إلى مقتل مئات العاملين الصحيين، وإلى اعتقال مئات أيضاً وتعذيبهم، وإلى الهجوم المتعمد والمنهجي على مئات المرافق الصحية». وبفعل ذلك صارت سورية «أخطر مكان على وجه الأرض على مقدمي الخدمات الصحية».
استخدام الصحة كسلاح استراتيجية «متعددة الأبعاد» وفق التقرير، لا تقتصر على «الهجوم على المرافق الصحية» و «استهداف العاملين الصحيين»، وإنما تشمل أيضاً «تقويض الحياد الطبي وفرض الحصار الدوائي». كثير من الممارسات هي جرائم حرب واستخدامها المتكرر من قبل النظام دعا التقرير لإطلاق تسمية «استراتيجية جرائم الحرب» على سياسة النظام.
«منذ وقت مبكر جداً، كان الأطباء الممارسون في مناطق تشهد احتجاجات على النظام السوري يعالجون المُحتجين الجرحى سراً خوفاً من تعرضهم للاعتقال». ومثلما هو معلوم، كان وقوع جرحى، وقتلى، من الوقائع الواسمة للاحتجاجات السورية منذ طورها السلمي الباكر. وفي تموز (يوليو) 2012 أصدرت الحكومة السورية «قانون مكافحة الإرهاب»، وهو «يُجرِّم تقديم العناية الطبية لأي شخص أصيب من قبل القوات الموالية للحكومة في تظاهرات الاحتجاج ضد الحكومة». وبينما يُذكِّر التقرير بأن صربيا كانت سنت قانوناً مماثلاً أثناء حرب كوسوفو في عامي 1998 و1999، فإنه يُبرز حقيقة أن قانون الإرهاب السوري يبرر اعتقال وحجز وتعذيب وإعدام العاملين الصحيين، وأن هذه ممارسات متكررة الحدوث، على رغم أن القانون الدولي الإنساني الساري واضح في وجوب حماية العاملين الصحيين من العقاب على تقديم العناية الصحية للجرحي والمرضى، أيّاً كانوا، على ما تقتضي الأخلاقيات الطبية في أوضاع النزاعات الدولية وغير الدولية.
ويستدل التقرير من «نسق هجمات الحكومة على المناطق المدنية أنها (الحكومة) تعتبر كل المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، بمن فيهم العاملون في الحقل الصحي، مرتبطين بالإرهاب، وبالتالي أهدافاً عسكرية مشروعة».
بين بداية الثورة السورية في آذار 2011 وأيلول (سبتمبر) 2016 قتل 782 من العاملين في الحقل الصحي، 723 منهم على يد النظام وحلفائه، أي نحو 92 في المئة من الحالات (الباقون قتلوا على يد أطراف متنوعة، بما فيها «داعش»). وكان الأطباء المجموعة الأكثر تعرضاً للاستهداف حيث قتل منهم 247، أي ما يقترب من ثلث مجموع العاملين الصحيين المستهدفين.
ومع الزمن صار استهداف المرافق الصحية الملمح الأبرز لمعاملة العناية الصحية كسلاح، وازاداد تواتره واتساع نطاقه، ما أدى حتى بمجلس الأمن (العاطل كلياً في ما يخص سورية) إلى أن يدين الهجمات على العاملين والمرافق الصحية في القرار 2286 الصادر في أيار (مايو) 2016. وبفعل التصعيد الحاد للهجمات بدءاً من التدخل الروسي في أيلول 2015 كان عام 2016 هو الأسوأ على هذا الصعيد، إذ سجلت 194 هجمة، بارتفاع 89 في المئة عن 2015. الشبكة السورية لحقوق الإنسان أفادت بوقوع 289 هجوماً، استهدفت مرافق طبية وسيارات إسعاف ومواقع للهلال الأحمر السوري، قامت بـ96 في المئة منها قوات النظام والقوات الروسية.
نسق الهجمات على المرافق الصحية يوحي باستهداف متعمد، وهو ما يعتبر جريمة حرب. ووفق أفضل المعلومات المتاحة، يقول التقرير، فإن «تواتر ومدى استهداف العناية الصحية في سورية لم يحدث ما يشبهه في أي حرب سابقة».
ويكشف تفحص الهجمات على المرافق الصحية منذ 2012 عن نسق مميز من معاملتها كسلاح. فقد تكرر استهداف مناطق تسيطر عليها المعارضة في حلب وحماة وإدلب والغوطة الشرقية وحمص، بما يثبت نية الحيلولة دون حصول السكان على عناية صحية، سواء بغرض إعاقة قوات المعارضة أو بغرض إجبار المدنيين على النزوح. لقد استهدفت نقطة طبية تحت الأرض في حلب 19 مرة خلال ثلاث سنوات، منها 13 مرة بين تموز وتشرين الأول (أكتوبر) 2016، حيث تعطلت نهائياً. وتعرض كهف كان يستخدم كمستشفى في كفر زيتا في حماة للقصف 33 مرة منذ 2014، منها 6 مرات في 2017 (التقرير صدر في آذار). كما هوجمت مستشفيات أوريَنت في إدلب عشرين مرة منذ 2013، ما أدى إلى إغلاقها كلها تقريباً في 2016. والمستشفيات الحكومية في مدينة إدلب نفسها التي كانت تحت سيطرة النظام حتى 28 آذار 2015، استهدفت عشرات المرات منذ خروجها من سيطرة النظام، منها 15 مرة عام 2016. وهوجم مستشفى الرستن في محافظة حمص 25 مرة منذ 2012، ومثلها هجمات متزايدة على مستشفيات وسيارات إسعاف في دوما في الغوطة الشرقية المحاصرة منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2012.
بفعل هذا النسق المتكرر، غادر البلد 15 ألف طبيب، وفق منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، من أصل 29927 عدد الأطباء السوريين الكلي عام 2009. غير أن موظفاً بارزاً في الأمم المتحدة (هو سوري، كان من الكادر الاقتصادي التخطيطي للنظام) أفاد بأن 27 ألف طبيب غادروا البلد من أصل 42 ألفاً. ومن تأذوا على نحو خاص هم سكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. ففي حلب الشرقية كان هناك طبيب واحد لكل 7000 من السكان في 2015، بينما كان هناك طبيب لكل 800 عام 2010. وتقطع التعليم الطبي لكثيرين، واضطر طلاب الطب إلى القيام بدور أطباء في مناطق محاصرة تتعرض للقصف اليومي، وهو ما يعني تواضع الخدمة الطبية بطبيعة الحال.
وتعرضت وحدات الدفاع المدني السوري، المعروفة منذ 2014 بالخوذ البيض، لـ149 «هجوماً مزدوجاً» عام 2016: حيث تتلو ضربة ثانية الضربة الأولى، وتستهدف المسعفين والمنقذين الذين هرعوا لإنقاذ المصابين بعد الضربة الأولى. وهو ما تسبب بمقتل 154 من الدفاع المدني- الخوذ البيض بين 2013 و2016. ويذكر التقرير أنه يعمل في الخوذ البيض 2900 متطوع، وأنها ساهمت في إنقاذ 80 ألف شخص تعرضوا للقصف في منازلهم أو أعمالهم.
ويرى معدو التقرير أن انتهاكات القانون الدولي الإنساني، وبخاصة الهجمات المنهجية على المرافق الصحية والعاملين الصحيين بقصد تعطيل العمل الصحي والسيطرة على السكان، هو سابقة خطيرة، ويحض على محاسبة المسؤولين عنها وتوفير الحماية للعاملين الصحيين.
*******
تقدم القول إن التقرير يظهر كم أن الصحة قضية سياسية. لكن يمكن الاستناد إليه أيضاً لصوغ تصور واضح حول أن السياسة قضية صحية. يمكن السياسة أن تهتم بمعالجة الأجساد ومحاربة الأمراض وتسهيل الحصول على خدمات صحية تتحسن لقطاعات تتسع من السكان، ويمكن لها، في المقابل، أن تعتبر الصحة سلاحاً، وتعمل على تجريد السكان منه واحتكاره لنفسها، مثلما عملت دوماً على احتكار وسائل العنف وتجريد السكان منها. استهداف أجساد السكان في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام يظهر كما أنها تعتبر أسلحة خطرة، يجب أن تمرض وتتعطل، إن تعذر إفناؤها.
بعد استقلال بلدنا كانت مكافحة الجهل والفقر والمرض هي الثالوث الذي يُعرِّف الوطنيين من سياسيين ومثقفين ومتعلمين. كانت الوطنية هي الفكرة والممارسة التي تعرف أولئك العاملين من أجل «نهوض» بلدهم و»تقدمــه»، ليكون مزدهراً قوياً محترماً. الصحة كانت ميداناً أساسياً للالتزام الوطني، واقترن الطب بالاحترام، حتى أن حافظ الأسد جعل ابنه بشار يدرس الطب، وإن ليس قبل توجيه ابنه الأكبر باسل نحو العسكرية. وبقدر ما اجتذب الطب أنبه الأذهان، فقد اشتغل كثير من الأطباء بالشأن العام، السياسي والثقافي. كان الاعتناء بصحة الأفراد وتقليل وفيات الأطفال والأمهات حديثات الولادة ومحاربة الأوبئة، كلها موجهة نحو عمر طويل منتج، يلبي التطلع العام إلى التقدم والتعافي والقوة. وكانت الأداة التي لا منافس لها للسير على درب تحقق هذه التطلعات هي، بطبيعة الحال، الدولة (التي صارت مثل كل دول العالم محتكرة للعنف، وتحوز سلطات لا نظير لها). في وقت لاحق في سورية، صارت الدولة ملكية خاصة مع بقائها محتكرة للعنف، فصارت الدولة تعتقل وتعذب وتحطم الأجساد وتقتل المعترضين على الملكية الخاصة للدولة، وتهين وتذل وتفقر وتعمم الفساد. وبعد وفاة أخيه العسكري، انقلب بشار الذي لم يكمل دراسة الطب إلى عسكري، ومات أبوه قبل أن يصير عسكرياً بجد، فورث حكم سورية وهو طبيب ناقص وعسكري ناقص.
وبعد محاربة الفقر والجهل والمرض، صار المشروع العام الوحيد هو حماية الملكية الخاصة للدولة، أي كارتل العنف المسمى «سورية الأسد»، وانقلب هذا إلى عامل إمراض عام، ومصدراً للفقر والجهل والتعصب.
يتصور المرء أنه كان يمكن للكارتل أن يحمي نفسه من دون الهجوم المنهجي على المستشفيات واستهداف سيارات الإسعاف وقتل الأطباء والممرضين، واستخدام الغارات السامة ضد المحكومين المتمردين. ما الذي يجعل «سورية الأسد» تفعل ذلك؟ يقتضي الأمر تقصّياً في العمق، لكن له صلة على الأرجح بالنظر إلى الأجساد كأسلحة خطرة، والتخلص منها كواجب.
عمليات التغيير السكاني يمكن أن تفهم ضمن هذا النهج التطهيري كقتل بديل.
ما حدث كان متوقعاً، أما الرد فمن كان يتصور أنه سيكون مختلفاً. هجمات إرهابية استهدفت مؤسسة أساسية هي مبنى البرلمان، ومبنى رمزياً هو ضريح مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني. أما الإرهابيون فكانوا مواطنين إيرانيين. ردة فعل مجموعة من السوريين كانت: «نحن السوريين عانينا كثيراً من الإرهاب، من (داعش) ومن الأسد ومن النظام الإيراني، نقف متضامنين مع كل الشعوب الضحية في كل مكان».
تخلط إيران بين «داعش» والدول الخليجية، وفي الواقع يشكل «داعش» تهديداً أكثر خطورة على الدول العربية مما يهدد إيران. تتميز إيران على الدول العربية بأن الجماعات المتطرفة سواء «حزب الله» في لبنان، أو «الحشد الشعبي» وميليشياته في العراق، أو الجماعات الحوثية في اليمن، كلها جماعات موالية لها.
فوجئت المؤسسة الأمنية الإيرانية بذلك الاختراق، فأوقفت كل شبكة المواصلات «بسبب أنشطة إرهابية». كانت تلك أكبر عملية إرهابية في إيران منذ عقد من الزمن. ما أربك الإيرانيين أن ردة الفعل على الأرض لم تنسحب مع ما بثته محطات التلفزيون المحلية من تخفيف للهجمات. وفي الواقع كان عدد من الإرهابيين قد شق طريقه عبر نقاط تفتيش كثيرة، ووفقاً لتقرير واحد، كانوا يرتدون ملابس النساء، واستغرق الأمر للسيطرة على الوضع وقتل الإرهابيين، بضع ساعات.
نجاح «داعش» في القيام بعملية إرهابية في إيران، كان متوقعاً لأسباب معروفة، لكن في الأشهر الأخيرة تابع المراقبون تطوراً ملحوظاً، وتوقعوا عملية ما. ففي أواخر شهر مارس (آذار) الماضي، بث التنظيم شريط فيديو باللغة الفارسية دعا فيه الأقلية السنّية في إيران إلى التمرد على المؤسسات الإيرانية التي يهيمن عليها الشيعة. هيئة الإذاعة الإيرانية وصفت الفيديو بالهراء ومحاولة من «داعش» لتغطية خسائره المتصاعدة في العراق. وكان قد لوحظ أن المسؤولين الإيرانيين كشفوا العام الماضي عن إحباطهم عدة هجمات حاول التنظيم القيام بها. بعد الفيديو، نشر «داعش» أربعة أعداد من نشرته الإلكترونية «رومية» باللغة الفارسية. هو ينشرها باللغات الإنجليزية، والفرنسية، والروسية والإندونيسية.
مع صعود «داعش» حذر المسؤولون الإيرانيون بمن فيهم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، من أنهم سيتخذون «إجراءات حاسمة» إذا ما صار مسلحو «داعش» على بعد 40 كيلومتراً من حدود إيران.
يقول تشارلي وينتر، الباحث البارز في المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسيين: إن «داعش» نشر ترجمة لمقالات وبيانات مختارة باللغة الفارسية، لكن هذه كانت المرة الأولى التي يصدر فيها «رومية» باللغة الفارسية. (رومية مشتقة من اسم روما، ويعتبر التنظيم أنه عندما يحتل العاصمة الإيطالية، عندها سيكون العالم كله صار «داعش»).
حسب وينتر، دأب التنظيم على نشر مقالات باللغة الفارسية وأشرطة فيديو مترجمة منذ عام 2015. لكن مع «رومية»: «يبدو أن تقدماً منطقياً قد حدث بالفعل». وكان وينتر قد شارك في وضع تقرير صدر عن المركز الدولي لمكافحة الإرهاب ومقره لاهاي، جاء فيه أن 7 إيرانيين قاموا بعمليات انتحارية في العراق وسوريا، ما بين ديسمبر (كانون الأول) 2015، ونوفمبر (تشرين الثاني) 2016. في العدد الأول من «رومية» باللغة الفارسية دعوة إلى قتل «الكفار»، واعتبار القتل حلالاً وشكلاً من أشكال الصلاة. وكان غلاف العدد الثاني سكيناً ملطخاً بالدم، مع نصائح حول كيفية قتل «الكفار» بالسكين (رأينا هذا في هجمات «لندن بريدج» مؤخراً في بريطانيا). أما بقية موضوعات الأعداد الأربعة، فكانت ترجمة من طبعات «رومية» السابقة.
تمثل الدعاية الإلكترونية لـ«داعش» أساساً مهماً في استراتيجيته لجذب متعاطفين من كل أنحاء العالم الذين سافروا بالآلاف إلى سوريا والعراق. ومن الصعب قياس درجة نجاحه في إيران. بعض المحللين يرى أن آيديولوجية «داعش» لا تحظى باهتمام يذكر عند الإيرانيين السنة الذين يشكلون ما بين 5 إلى 10 في المائة من مجموع السكان البالغ عددهم 81 مليوناً، رغم أن السنة في إيران يتعرضون، وبشكل روتيني، للمضايقات والتمييز والتهميش. لكن يبقى «داعش» يشكل تهديداً لإيران، وفي أغسطس (آب) الماضي، قال وزير الاستخبارات محمود علوي، إن السلطات منعت 1500 إيراني من الانضمام إلى «داعش».
الأسبوع الماضي، وفي مقاطعة نانغارهار شرق أفغانستان، حيث تؤكد التقارير أن تنظيم داعش نشط هناك، نشرت السلطات الأفغانية شريط فيديو يدعي فيه رجل أنه من مقاطعة أذربيجان الغربية الإيرانية، وقد انضم إلى «داعش» عبر تطبيق «تلغرام» وهي وسيلة اتصال أكثر انتشاراً في إيران. يقول: «بسم الله، أنا ياسر من أذربيجان الغربية»، وادعى أن عدداً غير محدد من الإيرانيين انضموا ووصلوا إلى نانغارهار. وكون المهاجمين الأربعة للبرلمان وضريح الخميني جاءوا من بلدة سنّية كردية، فهذا يعني أن إيرانيين من إثنيات مختلفة انضموا إلى «داعش». وتحفل وسائل الإعلام الكردية بقصص مجموعات من الأكراد الإيرانيين (أيضا من أكراد العراق) الذين ينضمون إلى «داعش» و«فتح الشام» المرتبط بتنظيم القاعدة، وكانت القنوات الكردية الموالية لـ«داعش» قد نشرت العشرات من أشرطة الفيديو لأكراد إيرانيين، بعد وصولهم إلى الرقة والموصل.
حاول «داعش» ومنذ فترة طويلة شن هجوم داخل إيران، حيث 90 في المائة من السكان من الشيعة، وتصل نسبة الشيعة في طهران إلى 95 في المائة، لهذا يصعب على «داعش» أن يلقى تعاطفاً أو مجندين محتملين في إيران، كما هو الحال في العالم العربي والإسلامي ذي الأغلبية السنّية.
أن يقوم «داعش» أو غيره بعملية إرهابية داخل إيران كان أمراً منتظراً. هناك غضب هائل عند السنة والعالم العربي ضد إيران ودورها في الدول العربية والشرق الأوسط، نظراً إلى دعمها المفتوح من أجل تحقيق طموحاتها، لنظام بشار الأسد المسؤول عن عدد كبير من الضحايا المدنيين، ودعمها لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، ولـ«حزب الله» اللبناني المتمدد سورياً، والميليشيات الشيعية في العراق. حتى على مستوى الفئات غير المسيسة وغير الملتزمة دينياً، هناك عداء كبير تجاه النظام الإيراني. لكن في المقابل، فإن هذه الجماعات الراديكالية السنية المتطرفة سواء كانت «داعش» أو القاعدة أو أخرى، فإنها تسعى أيضا للإطاحة بالأنظمة العربية قبل سعيها أو تهديدها للنظام الإيراني. لذلك، فإن تشويه صورة المملكة العربية السعودية يعتمده النظام الإيراني لحماية نفسه وللتحريض، فهو يعرف أن القومية الفارسية تناصب السعودية، العداء، وهذا العداء يجمع إيرانيين معارضين إلى جانب رجال دين متزمتين. وهنا يسقط العامل الديني المذهبي.
ما حصل نكسة للحكومة، كان المسؤولون يفخرون بأن إيران واحة أمان في شرق أوسط يحرقه الإرهاب. ما حصل هزّ ثقة كثير من الإيرانيين بأجهزتهم الأمنية؛ لأن نظامهم الأمني الغامض يمكن اختراقه والوصول إلى رمزه.
لقد شاركت إيران وبشكل عميق ومفصلي في النزاع السوري، أعطت مليارات الدولارات لنظام الأسد، حيث سقط الملايين وتشردوا، وتحولوا إلى لاجئين بعدما كانوا مواطنين، وبالتالي فإنه من الخيال أن تعتقد أنها ستبقى في منأى عن ارتداد الآثار السورية عليها، إضافة إلى أنها دعمت الإرهاب في المنطقة ومارسته على مستوى العالم.
هجوم «داعش» لن يكون له تأثير معتدل على سياسات إيران الإقليمية، وأول ردّ ميداني على ذلك كانت الصور التي انتشرت للجنرال قاسم سليماني على الحدود العراقية – السورية، مع مقاتلين مرتزقة من لواء «فاطميون» الأفغاني.
والميل هو إلى أن يستخدم النظام هذا الهجوم الإرهابي لمواصلة دعمه لنظام الأسد والحشد الشعبي في العراق، بحجة أنه من الأفضل أن يكون القتال ضد «داعش» خارج حدود إيران وليس داخلها. لكن الاهتزاز حصل. لقد خرجت صحيفة «اعتماد» بمقال اعتبرت فيه الهجوم «فرصة ذهبية» لإظهار الوحدة الوطنية، وحذرت من المحاولات «الصبيانية» للانتقام. إحدى الصحف وجهت أصابع الاتهام إلى الرئيس الجديد لمكتب إيران في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مايكل داندريا. المشكلة في هذه الحالة أن طابخ السم أكله. وقد تكون الوليمة وصلت إلى إيران.
لم يجد وزير الخارجية الروسي، "سيرغي لافروف"، مبرراً لنشر الولايات المتحدة راجمات الصواريخ الأمريكية HIMARS جنوبي سوريا، معتبرا ذلك محاولة لقطع العلاقة بين نظام الأسد والميليشيات الداعمة في سوريا من جهة و الحشد الشعبي في العراق من جهة أخرى.
وأوضح لافروف خلال مؤتمر صحفي عقده في موسكو مع نظيره من لاوس، أن العسكريين الروس يحللون الوضع حول نشر هذه المنظومات جنوبي سوريا على الحدود السورية مع الأردن والعراق، بما في ذلك اعتمادا على قنوات التواصل مع الأمريكيين المخصصة لمنع وقوع حوادث غير مرغوب فيها.
وقال لافروف، أن الخبراء الروس والأجانب، ينظرون إلى هذه الخطوة، كجزء من السعي لإنشاء مجموعة قوات إضافية لن تسمح بإقامة قنوات تواصل مستقرة بين نظام الأسد والميليشيات الشيعية المدعومة من ايران في سوريا وشركائها في العراق.
وشدد على أنه لم تعد في هذه المنطقة، حسب المعلومات الموجودة بحوزة روسيا، أي فصائل تابعة لتنظيم الدولة، لافتاً إلى أن "منظومات HIMARS تعد أسلحة خطيرة، لكنها ليست فعالة في التصدي للمجموعات الداعشية".
تزايد الغزل العلني من قبل الاتحاد الديمقراطي الكردي ، الجناح السياسي لوحدات حماية الشعب الكردية ، اتجاه المملكة العربية السعودية ، بشكل متصاعد ، والذي يأتي في اطار تطورات متلاحقة قد تفضي إلى اعلان الجانبان انشاء علاقات عالية المستوى ، تسبب بالقطيعة مع الحليف الأبرز في المنطقة تركيا.
لم تكن تطورات العلاقات بين الحزب الكردي الانفصالي ، الذي يقوده صالح مسلم ، وليدة الخلافات الحالية بين الدول الخليجة أو تنفيذ لما يقال أنه تحجيم لدور تركي في سوريا و المنطقة ، و إنما يأتي في اطار تطورات متتابعة مر عليها من الزمن ما يزيد عن العامين و نيف ، والبداية كانت مع انشقاق أحمد الجربا من تيار المعارضة السورية التي تتخذ من تركيا منطلقاً لها ، و الانتقال إلى المعسكر المقابل الذي تعتبر القاهرة إحدى بواباته.
انتقال الجربا إلى القاهرة و الذي تبعه فيما بعد عقد اتفاقيات تعاون و من ثم مشاركة في قوات سوريا الديمقراطية ، التي تعتبر الواجهة المزخرفة لوحدات حماية الشعب الكردية التي تملك مشروعاً انفصالياً ، انتقالاً يشير إلى حدوث تغير نوعي بالتقارب بين السعودية و الوحدات الكردية ، اذ كما هو معروف أن ”الجربا” ماهو إلا أحد الأوفياء للمملكة العربية السعودية ، التي تعتبر عمقه العائلي.
انتقال الجربا و ما تبعه من مشاركة في العمليات العسكرية ومن ثم بالمجلس القيادي لما يسمى بـ”الإدارة الذاتية” ، تبعه عدة تطورات لم تخرج إلى الملأ و بشكل فاضح إلا في اطار البروبغندا التي يشهدها الخليج العربي ، مع قطع العلاقات و الأوصال ، والذي يستتبع كما العادة بداية الاشتباك الاعلامي و اخراج الخطط الخفية و اطلاق سراح آلة التدمير التي بطبيعة الحال تسير وفق مبدأ “عليّ و على أعدائي”.
غزل ما تسمى بـ”الرئيسة المشتركة لقوات سوريا الديموقراطية الهام أحمد" بالسعودية ووصفها بأنها “ بلد شقيق ومهم للمسلمين” ، وهو تصريح لافت لحزب يدعي العلمانية و ينشط للديمقراطية، و من ثم لقاء لاحق لزعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الانفصالي “صالح مسلم” الذي يعتبر بمثابة تقديم صك الاندماج بين السعودية و بينهم ، مع وصفه ايران بـ”نظام الملالي” ، وهي الجملة المفتاح لدى المملكة العربية السعودية التي فيما يبدو تصر على المواجهة غير المباشرة مع ايران و عبر ادوات اقل ما توصف بأنها بدائية و لها انعكاسات على البلد الذي يعتبر الميزان العربي و الاسلامي ، و لكن في الحقيقة ليس في هذه الأيام.
تختلف الرؤية للتقارب بين السعودية و المجموعات الكردية الانفصالية ، بين المحللين و المتابعين لهذا الشأن ، فمنهم من يرى به وسيلة لمواجهة التمدد و التوسع الايراني في المنطقة ، عبر أدوات مقبولة دوليا و مدعومة من التحالف الدولي ، وبطبيعتها تقدم هذه المجموعات خدمات في أي مكان وزمان ، طالما توافر أمران المال و الوعود بضمان الانفصال.
و لكن هناك من يقرأ بهذا التقارب أبعد من قضية ايران ، و التي تعتبر كالرماد الذي يذر بالعيون ، فهذا التقارب الذي بدأ منذ زمن ماهو إلا لتصفية من يحاول السيطرة على الملف الاسلامي في العالم ، غير السعودية ، وهذا ما يبرر الدعم السعودي للانفصاليين أنه يصب في صالح اضعاف تركيا و انهاكها بعدو ملاصق يهدد وجودها ووحدتها ، وما كشفه بشكل صريح لجنرال السعودي انور عشقي مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في جدة ، خلال زيارة الى تل أبيب بداية عام2016 ، وكان مما اتفق معه مع الاسرائيليين العمل على اقامة دولة " كردستان الكبرى " ، هذه الكردستان التي تجعل من تركيا و ايران ايضا مهددين بمكون قد يجزىء البلدين ، وبالتالي لن يكون متحكم بالمنطقة غير “السعودي” ، و لكن بطبيعة الحال من تقوم به السعودية بنفسها يشابه ما يتم العمل عليه اتجاهها ، وما المنطقة الشرقية ببعيدة عن ذلك.
تقترب معركة الرقة في سورية من نهايتها، بغض النظر عن التفصيلات العسكرية التي ترافق العمليات العسكرية، فالمدينة، بالمعنى العسكري، لا الزمني، ساقطة تماما. وأهميتها تكمن في اليوم التالي لتحريرها من تنظيم الدولة الإسلامية، حيث بدأت ملامح الصراع السياسي على المحافظة تتمظهر شيئا فشيئا، وذلك مع استبعاد "لواء ثوار الرقة" التابع للجيش الحر من المشاركة في العملية العسكرية، في وقت سُمح لـ 17 فصيلا عربيا المشاركة في تحرير المدينة، لكن هذه القوى العربية تنتمي، في معظمها، إلى الأقليات الدينية والإثنية، وليس لها وزن عسكري يعتد به، حتى القوى السنية معظمها من أبناء القبائل الرحل، وليس من العشائر ذات المكانة والمستقرة تاريخيا في المحافظة، والفصيلان السنيان الأبرزان (قوات النخبة التابعة للرئيس الأسبق للائتلاف الوطني أحمد الجربا، مجلس دير الزور العسكري المشكل في 19 مارس/ آذار الماضي من أبناء عشيرة الشعيطات)، لا ينتميان إلى محافظة الرقة.
أما "لواء صقور الرقة"، المكون من بعثيين وموالين للنظام، فلا يعدو أن يكون مجرد حضور رمزي، وهكذا تمارس الوحدات الكردية تكتيكا عبر توسيع مروحة القوى العربية، المؤيدة للثورة والمؤيدة للنظام، لدفع تهمة الهيمنة الكردية عنها. لكن هذه القوى العربية لا تمتلك أي قرار، وما جرى مع "قوات النخبة" و"قوات صناديد شمّر" التابعة لحميدي الجربا، حينما طوقتهما الوحدات الكردية منذ شهرين، وما جرى مع "لواء صقور الرقة"، حين قصفه التحالف، يؤكد ذلك، فالوحدات الكردية لن تسمح لأي فصيل بالتفكير والعمل خارج الإطار العسكري الذي وضعته مسبقا.
هنا تبرز المخاوف التركية، ومع أن الولايات المتحدة نجحت في احتواء الأتراك وإبعادهم عن معركة الرقة، وتطمينهم، مراتٍ بأن تحالفهم مع الوحدات الكردية لأغراضٍ تقتصر على محاربة التنظيم، وأن الإدارة الأميركية لن تسمح بهيمنة كردية مطلقة على المحافظة، إلا أن الأتراك يراقبون بدقة ما يجري، على المستويين، العسكري والسياسي، مع محاولات "الاتحاد الديمقراطي الكردي" فرض مجالس محلية كردية، ذات تلوينات عربية.
سيكون اليوم التالي لتحرير مدينة الرقة الاختبار الأهم والأصعب بين أنقرة وواشنطن، وفي حين تبدو الولايات المتحدة عاجزةً عن تقديم خيار واضح ومحدّد، تبدو تركيا عاجزة أيضا عن بلورة خطواتٍ على الأرض، تحول دون هيمنة الإدارة الكردية الذاتية على مجمل المحافظة. ويزداد المشهد تعقيدا مع دخول قوات النظام إلى الجنوب الغربي من المحافظة، في خطوةٍ تبدو ظاهريا منع "داعش" من الهروب نحو البادية، لكنها تحمل أبعادا أعمق، فالنظام لا يريد أن يستحيل مصير الرقة بين الثلاثي الأميركي ـ الكردي ـ التركي.
المسألة الآن أن مرحلة ما قبل التنظيم تختلف عن مرحلة ما بعده، وإذا كانت الأولى تتطلب تحييد تركيا وإبعاد النظام لصالح الوحدات الكردية، فإن الثانية تتطلب حوارا وتفاهما مع تركيا، وربما تفاهماتٍ غير مباشرة مع النظام، إضافة إلى التفاهم مع الوحدات الكردية التي تشكل ورقة مهمة بيد الولايات المتحدة.
ثمّة ثلاثة احتمالات لمصير الرقة: إبقاء الولايات المتحدة على الهيمنة الكردية المطلقة في المحافظة، لكنه احتمال بعيد، لأن هذا الوضع سيؤدي إلى انفجارات محلية تضاف إلى البعد التركي. والأكراد أنفسهم يدركون مخاطر ذلك، ويدركون حقيقة قوتهم في هذه المحافظة التي تختلف عن وضع الحسكة، وقد أعلنوا، مراتٍ، أنهم لن يضمّوا الرقة إلى الحكم الذاتي. انسحاب الوحدات الكردية من المحافظة، وهذا مستبعد، بسبب تأثيراته السلبية على محاولاتهم الحثيثة السيطرة على وادي الفرات في محافظتي حلب والرقة، فضلا عن أن الرقة تشكل الجسر الجغرافي الضروري للتواصل بين أذرع الإدارة الذاتية في الشرق والغرب. توسيع مروحة المشاركة في عملية الحكم، لتضم مختلف الأطراف مع غلبة المكون العربي على الحكم، ممن ليسوا على علاقةٍ مباشرة مع الأتراك، ولا على علاقة مباشرة مع النظام، ولا مانع من إشراك جزئي لمن يتبعون أنقرة ومن يتبعون دمشق، وهذا الطرح تقبل به الأطراف المحلية والإقليمية والدولية.
ومع أن الاحتمال الأخير أقرب إلى التطبيق، إلا أن اختلاف أهداف الفرقاء، وطبيعة التحالفات المعقدة في الشمال السوري، قد تدفع الأمور إلى مسارب أخرى، فالوحدات الكردية التي وجدت نفسها، خلال السنوات الماضية، أقرب إلى النظام، قد تجد نفسها في المرحلة المقبلة بعيدةً عنه، في ظل اقتناع "الاتحاد الديمقراطي الكردي" أن النظام لن يقبل أية محاولات للحكم الذاتي. ولا تثق الوحدات الكردية كثيرا بالولايات المتحدة، وهم يعلمون أن الاختيار الأميركي لهم جاء بعيد فشل واشنطن في استحصال حلف مع القوى العربية، مثلما حصل مع "جبهة ثوار سوريا" و"حركة حزم" و"الفرقة 30". وينطبق الأمر على تركيا التي قد تقبل وجودا للنظام في مدينة الرقة، وفي عموم المحافظة، على حساب الوحدات الكردية، متقاطعة في ذلك مع دمشق وطهران في مخاوفهما من تضخم القومية الكردية.
قد يدفع هذا الواقع المعقد الوحدات الكردية إلى إمساك العصا من النصف، عبر تسليم مدينة الرقة إلى النظام الذي طالب بعض نوابه بذلك، ومن شأن هذه العملية أن تمتّن أواصر التحالف بين الجانبين، وتسمح لهما بتحقيق نصر مهم، فبالنسبة للنظام، هو أصبح في قلب وادي الفرات، وبالنسبة للوحدات ستبقى الرقة بأيدي الحلفاء، وممرا اقتصاديا آمنا، فضلاٍ عن أن هذه الخطوة ستجعل النظام يغضّ الطرف أكثر عن نيات الإدارة الذاتية الكردية، على الأقل في المرحلة المقبلة.
بين ما كشفته إسرائيل من وثائق أرشيف الدولة، بعدما رفعت عنها السرية بسبب مرور خمسين عاماً، محاضر جلسات لجنة الخارجية والأمن في الكنيست خلال حرب العام 1967 أن وزير الأمن حينذاك موشي دايان كان معارضاً لفتح جبهة ثانية ضد سوريا. ولكن لم تمض إلا ساعات قليلة حتى غير رأيه بعدما وصلت صور جوية تكشف إخلاء المنطقة من القنيطرة حتى مسعدة من أي وجود عسكري سوري، فصدرت الأوامر بالهجوم.
كان ذلك في اليوم الرابع على بداية الحرب، أي في التاسع من شهر حزيران/يونيو. ولم تبادر القوات السورية ـ قبل انسحابها ـ إلى الهجوم كما كان النظام البعثي قد اتفق على ذلك مع المصريين، وحين كان هؤلاء قد بلغوا نقطة الموافقة على وقف إطلاق النار، أمر وزير الدفاع حافظ الأسد بانسحاب القوات السورية من مواقعها الأمامية بدون قتال. بل أكثر من ذلك هناك روايات تتحدث عن توريط نظام دمشق لجمال عبد الناصر بتلك الحرب المشؤومة بوقائعها ونتائجها.
كان هذا معروفاً بصورة عامة، ولم نكن بحاجة إلى الكشف عن أرشيف الدولة الإسرائيلية لمعرفته. لكن الجديد في هذا الكشف هو أن إسرائيل نفسها لم تكن متحمسة لشن حرب على الجبهة الشمالية واحتلال هضبة الجولان وتدمير القنيطرة، لولا إغراء الأسد لها بذلك. إنه فعلاً قرار محيّر اتخذه رجل واحد، من وراء ظهر الحكومة التي هو وزير الدفاع فيها. ليرتسم السؤال الكبير: لماذا؟
سيأتي الجواب بعد ثلاث سنوات، في انقلاب عسكري قام به وزير الدفاع هذا على السلطة البعثية التي دفعت بذلك ثمن هزيمة عسكرية صنعها قائد الانقلاب عن سابق وعي وتصميم. وبذلك كافأ الرجل نفسه على تسليمه الأرض السورية لإسرائيل، بأن حصل على الملكية الحصرية لسوريا كلها بموافقة الدول العظمى التي يهمها أمن إسرائيل قبل أي اعتبار آخر فيما خص سياساتها في هذه المنطقة من العالم. في كتاب باتريك سيل عن حافظ الأسد (الأسد والصراع على الشرق الأوسط) معلومة كانت السبب في منع تداوله في سوريا، على رغم تعاطف المؤلف الشديد مع نظام الأسد وقربه منه شخصياً.
تتعلق هذه المعلومة بزيارة الأسد الغامضة للعاصمة البريطانية، في أيلول/سبتمبر 1970، قبيل انقلابه العسكري بفترة قصيرة، وما يحتمل أن يكون قد قام باتصالات مع مراكز القرار في الدول الغربية، وحصوله على موافقتها على استيلائه على الحكم. الأمر الذي سنرى أنه سيتكرر مرة أخرى حين قرر توريث الحكم لابنه بشار الذي أوفده إلى باريس ولندن، في الأشهر القليلة السابقة على وفاته، مع أنه لم يكن يشغل أي منصب رسمي. وسيستقبل في قصر الإيليزيه من قبل الرئيس الفرنسي جاك شيراك بالذات استقبال رجل دولة.
بتأمل مسار الأحداث منذ تلك الحرب ـ الفضيحة، يمكننا القول إن حرب الأيام الستة – كما يسميها الإسرائيليون ـ لم تؤد فقط إلى خسارتنا هضبة الجولان، بل سوريا كلها التي استولى عليها بطل الهزيمة مكافأة له على فعلته، تماماً كما ستؤدي الحرب التالية في العام 1973 إلى بداية التطبيع العربي مع إسرائيل، بعد سنوات قليلة، وارتهان مصر النهائي لمعاهدة السلام التي أبّدَت حكم السادات ـ مبارك.
كانت هضبة الجولان، من هذا المنظور، «وديعة الأسد» لدى إسرائيل التي سيستثمرها طوال فترة حكمه المديدة في خطابه «المقاوم» ثم «الممانع» بوصفه مصدراً لشرعية يفتقدها بجميع المعاني. وفي العام 2000، قبيل وفاته بثلاثة أشهر، سيرفض حافظ عرض بيل كلينتون الذي تضمن إعادة إسرائيل كامل الجولان المحتل مقابل السلام، ليترك لوريثه بشار الأسد تلك الوديعة الثمينة ليستمر في الاستثمار فيها من بعده. ليس هذا تحليلاً مغالياً يقدمه معارض للنظام، إذا تذكرنا ردة فعل النظام على القرار الإسرائيلي الأحادي بالانسحاب من جنوب لبنان في أواخر مايو/أيار عام 2000. فقد فقدَ النظام رشده تماماً أمام قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك، فوصفه بأنه مؤامرة إسرائيلية خبيثة! نعم، هي مؤامرة خبيثة فعلاً خلطت جميع أوراق الأسد، فانتزعت منه ورقة المقاومة والممانعة، أو توهمت أنها فعلت. أقول توهمت لأن النظام وحزب الله الإيراني في لبنان سرعان ما أخرجا من جعبتهما جوكر جديدا باسم مزارع شبعا التي لا تعرف تبعيتها فيما إذا كانت سورية أم لبنانية. هذا يشبه جوكر حافظ الأسد في قمة جنيف التي جمعته، في شهر مارس/آذار 2000، مع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون: فحين عرض عليه كلينتون استعادة الجولان، قال له الأسد إنه يريد أن يسبح في بحيرة طبريا! لن نبالغ إذا افترضنا أنه لو قررت إسرائيل الانسحاب من الجولان من طرف واحد، أي بدون أي ترتيبات مع النظام، لجن جنون هذا الأخير واعتبرها مؤامرة إسرائيلية أكثر خبثاً من انسحابها من جنوب لبنان.
لطالما تاجر النظام بما أسماه «وديعة رابين» التي من المفترض أنها نصت على انسحاب إسرائيلي كامل من الجولان المحتل مقابل سلام كامل مع سوريا. وحين آن أوان استحقاق الوديعة المفترضة هذه، رفضها الأسد مفضلاً الحفاظ على وديعته لدى إسرائيل.
القصد أن مقتل الأسديين وأشباههم، كإيران وحزب الله، هو انتزاع ورقة المقاومة والممانعة من أيديهم. ألم يصرح بشار الأسد، في فبراير/شباط 2011 في مقابلته الشهيرة مع صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية أن الشعب السوري لن يتمرد عليه كحال تونس ومصر، لأنه على خط الممانعة نفسه مع نظامه؟
لقد استحق حافظ الأسد بجدارة لقب بائع الجولان الذي وصفه به خصومه، وتفوق عليه ابنه بشار حين دمر سوريا، وقتل نصف مليون من السوريين، وشرد نصف السكان، وباعها للإيرانيين والروس ولكل الدول الطامعة.