مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٥ يونيو ٢٠١٧
واشنطن وموسكو بين المطاردة والتفاهم

في انتظار اللقاء المنتظر بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين والذي يرجح حصوله في 20 تموز (يوليو) المقبل في هامبورغ على هامش قمة العشرين، تبقى العلاقة بين الدولتين خاضعة للتجاذب والتصادم بالواسطة حيناً، ثم ضبط المواجهة، لاسيما في سورية، أحيانا أخرى.

وإلى أن يحصل اتفاق بين الدولتين العظميين يبدد التوتر القائم بسبب العقوبات الأميركية والغربية على موسكو والخلاف على تقاسم النفوذ في أوروبا، فإن الكثير من الأحداث في ميادين الصراع تبدو عصية على الفهم.

إنها مطاردة متبادلة بالواسطة، بين روسيا وأميركا، تثير المخاوف من إمكان صدام خطير بينهما.

لكن هذا لا يعني حتمية هذا الصدام المباشر، بقدر ما يعني أنّ كلاً من الجانبين يرسم حدوداً للآخر يأخذ في الاعتبار مصالح الخصم، والرغبة الدفينة في تفادي أي اصطدام، طالما أن كلاً منهما يمكنه الاتكال على حلفاء يتولى الحد من اندفاعهم لكسب المواقع الميدانية، فيدفع هؤلاء الحلفاء الثمن بالنيابة عنه ويتعرضون للخسائر بدلاً منه.

وفي كل مرة يقترب الروس والأميركيون من المواجهة المباشرة، يحصل اتفاق ما على كبح هذا الاحتمال الخطير، عبر رسم حدود لمناطق نفوذ في سورية. هكذا، تنفذ قوات النظام وميليشيات إيران هجوماً على درعا في الجنوب، وتتقدم ميدانياً نحوها بغطاء قصف روسي مدمر من الجو على مدى 10 أيام، لكن ما تلبث المعارضة أن ترد على هذا التقدم وتنزل خسائر كبيرة بالمهاجمين من «حزب الله» والميليشيات الأخرى والقوات السورية، بعد أن تدفقت أسلحة أميركية نوعية إلى «الجيش الحر»، منها صواريخ «تاو». وبعدما تخوف مَن راقب التصعيد في درعا من تكرار سيناريو حلب فيها، نظمت موسكو وواشنطن عبر محادثات بينهما في الأردن، اتفاقاً على تكريس منطقة آمنة في جنوب سورية، تثبّت أرجحية الوجود الميداني لـ «الجيش الحر» (مع اتفاق على محاربة «داعش»)، وفي ظل تواجد لجيش النظام على الطريق المؤدية إلى المدينة، فيتم لجم الاندفاعة الأسدية الإيرانية.

ويرد النظام وحلفاؤه الإيرانيون بفتح جبهة الغوطة بقصف عنيف جوي ومدفعي، ومحاولة اقتحام حي جوبر مرة أخرى، في الأيام الماضية، فيتكبدون خسائر جديدة، وتقتل قوات المعارضة منهم أعداداً كبيرة وتأسر إيرانيين ومن «حزب الله»، ويمتد القصف إلى أحياء قريبة من دمشق.

خرقت المعارك في هاتين المنطقتين اتفاق آستانة مطلع شهر أيار (مايو) الماضي، على اعتبار الجنوب والغوطة الشرقية من ضمن مناطق خفض التصعيد الأربع، (يضاف إليهما محافظة إدلب وشمال حمص)، وبدت روسيا وإيران دولتين ضامنتين للاتفاق، على أنهما غير معنيتين به أو تتلاعبان ببنوده، فيما بدا الضامن الثالث لآستانة، أي الجانب التركي، كالزوج المخدوع، لأن همه محصور بما يجري في الشمال وهاجسه فقط دور القوات الكردية في محاصرة الرقة، فمن مهمات «الضامنين» وفق نص الاتفاق «ضمان وفاء الأطراف المتصارعة بالاتفاقات».

لكن رسم حدود تواجد حلفاء كل من الدولتين في درعا كان مؤشراً إلى خفض احتمالات المواجهة نتيجة ما كان يحصل على جبهة معبر التنف السوري الذي اقتطع الأميركيون النفوذ فيه لمنع قوات الأسد وإيران من وصل الطريق بين طهران وبغداد ودمشق، حيث قصف الأميركيون هذه القوات عند اقترابها من المعبر، وأسقطوا طائرة استطلاع إيرانية، وأسقطوا طائرة حربية سورية قصفت «قوات سورية الديموقراطية» الموالية لواشنطن أثناء استكمالها حصار الرقة، فالجيش الأميركي رسم حدوداً لمحاولة التفاف القوات الإيرانية- العراقية- الأسدية على معبر التنف هي المدى الذي تبلغه الصواريخ التي نشرتها حول المعبر (80 كيلومتراً). لم يدم مفعول التهديد الروسي باعتبار أي جسم طائر معادياً لها، في الأجواء السورية، رداً على إسقاط المقاتلة السورية طويلاً. فواشنطن خففت من وطأة العملية بالقول إنها كانت في إطار الدفاع عن النفس وسعت لاستعادة التنسيق حول الطلعات الجوية لقصف مواقع «داعش».

يعمق التنافس على استثمار الحرب ضد «داعش» في الرقة وملء الفراغ الذي يتبع التخلص منها، الفوضى على الساحة السورية بحيث تحتاج كل من موسكو وواشنطن إلى رسم مناطق نفوذ كل منهما بالنيران، في انتظار اتفاقهما على الحلول. تزداد الفوضى بفعل أجندة اللاعب الإيراني وصولاً إلى استخدامه صواريخ متوسطة المدى في قصف دير الزور رداً على منعه من فتح الحدود لقواته. ومع أن الجانب الروسي يستفيد من هذه الأجندة تارة، فإنه يغض النظر عن لجمها على يد خصمه الأميركي تارة أخرى، لأن الحد من طموحات طهران لن يتم قبل اتفاق بوتين وترامب.

اقرأ المزيد
٢٥ يونيو ٢٠١٧
سوريون في الشتات

يبدو إصرار السوريين على المضي في ثورتهم مدهشاً بعد أن حل بهم من الفواجع والمآسي ما تتصدع له الجبال الراسيات، ويبدو أن بعض دول العالم وجد في الثورة السورية فرصة موائمة لإعادة ترتيب النظام الدولي، فروسيا الصاعدة ضد نظام القطب الواحد سارعت بالعودة إلى الحضور الدولي القوي بعد أن أهملها الأميركان والأوروبيون وراحوا يعاقبونها كما يعاقبون دولاً ضعيفة! وأما إيران فقد جاءتها الفرصة النادرة لإعلان طموحها الإمبراطوري الفارسي بعمامة إسلامية، ولاستعراض مكانتها العسكرية في المنطقة! وقد بدت الولايات المتحدة أضعف من أي توقع في عهد أوباما، وبدا الاتحاد الأوروبي نفسه مرتبكاً قلقاً من تصاعد حضور بوتين ومن غموض الموقف الأميركي. وأما الجامعة العربية فقد دخلت في موت سريري، على رغم كون انتصار النظام على الشعب ستكون له تداعيات كارثية على الأمة العربية كلها، لأنه سيعني انتصار إيران وامتداد نفوذها إلى عمق المتوسط، فضلاً عن خطر تطويق الأمة من الشمال إلى الجنوب. كما أنه يعني أيضاً بقاء مشكلة اللاجئين معلقة بلا حلول، فلا أحد من ملايين السوريين اللاجئين والنازحين يطمئن إلى العودة إلى دياره وتسليم نفسه لنظام سينتقم من كل من خرج ضده. ومن المفارقات أن النظام أعدم أربعة سوريين عادوا إلى سوريا من إحدى الدول العربية لأنهم وضعوا علامة (إعجاب- لايك) على منشور مضاد للنظام في الفيسبوك! والمفجع أن حالات التوحش صارت عادية في معاقبة خصوم النظام.

وإزاء غياب الإرادة الدولية عن إيجاد حل للقضية السورية، والتحول إلى إدارة الصراع بدل البحث عن حل له، وبعد التحولات الكبرى في المواقف الدولية من القضية السورية، وإلهاء المعارضة بمفاوضات جنيف العبثية، والانتقال الصوري إلى مفاوضات آستانة، أصاب المعارضة وهنٌ سياسي، كان بعضه انعكاساً للخسارات العسكرية التي ألحقتها روسيا وإيران بقوى الجيش الحر الذي سبق أن خاض معارك ضد «داعش» وضد كل التنظيمات المتطرفة وفقد الكثير من قواه، دون أن يتمكن من تعويضها بسبب انقطاع الدعم. وقد رفض المطالب الدولية بأن يتوقف عن الدفاع عن الشعب وأن ينضم إلى جيش النظام وينصرف لقتال «داعش» وحدها، منهياً معركته مع الاستبداد باستسلام كامل! وقد تفاءلت المعارضة بعد وصول الرئيس ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة عسى أن تجد موقفاً أفضل وأقوى في مجلس الأمن من موقف الإدارة السابقة، وما تزال المعارضة تنتظر ظهور الرؤية الأميركية، وجدية أصدقاء سوريا في فرض حل سياسي وفق القرارات الدولية. وقد حاولت موسكو كما هو معروف أن تنقل المفاوضات إلى آستانا، وأن تبعد عنها الهيئة العليا للتفاوض كي تتخلص منها ومن مظلة مجلس الأمن، ولكن المعارضة ودول أصدقاء سوريا ظلوا متمسكين بشرعية جنيف، وسيتابعون الإصرار على مسار التفاوض السياسي دون أن يؤثر ذلك على مسار العمل الثوري. وحسبنا ما نجد من المقاومة الوطنية المدهشة في درعا اليوم وهي تصد جيوش إيران ووحشية «داعش» والطائرات المعادية تقذف الحمم والبراميل المتفجرة. وقد تمكن الجيش الحر في درعا أن يفشل المخطط الفارسي في الاستيلاء على الجنوب السوري، وهو مستمر في المعركة، رغم أنها غير متكافئة. كما أن القوى الوطنية السورية في الشمال تشارك بقوة في تحرير المناطق التي يسيطر عليها «داعش»، وكنا نصرّ على أن تشارك قوى الجيش الحر في هذه المعارك، ولاسيما أن الجيش الحر هو أول من واجه «داعش» ووقف ضد كل تطرف وإرهاب.

ولكن السوريين جميعاً يشعرون بأنهم في متاهات البحث عن حلول، فلا أمل عندهم في إيجاد حل في جنيف مهما ثابرت هيئة التفاوض لأنها لا تجد من تفاوضه بل إن المفاوضات مع النظام لم تبدأ بعد، ولن يتنازل النظام عن شيء وهو طليق لا أحد يحاسبه وعنده دعم بلا حدود. والسوريون يستنكرون مفاوضات آستانا التي ازداد التصعيد العسكري بعدها بدل أن ينخفض، كما أنهم يشعرون بضعف حضور الائتلاف وحاجته إلى إصلاح جذري. وبعضهم يبحث عن بدائل ويطالب بوجود جسد ثوري جديد، وقد اشتعلت وسائل التواصل بحوارات ساخنة تعبر عن حالة من القلق الوجودي، ولكن ما يحمي السوريين من الضياع في الشتات عبر تغريبة يخشون أن تطول، هو وعيهم لكون الانكسار خروجاً من التاريخ والجغرافيا معاً، ولكون الانتصار انتصار بقاء ووجود وليس مجرد انتقال سياسي.

اقرأ المزيد
٢٥ يونيو ٢٠١٧
سوريا: من الحرب بالوكالة إلى الحرب بالأصالة؟

سجلت سابقتان في الحروب الدائرة على الأراضي السورية خلال الأسبوع الماضي: إسقاط الأمريكيين لأول طائرة تابعة للنظام الكيماوي قرب مدينة الرقة، وإطلاق إيران لصواريخ بعيدة المدى من الأراضي الإيرانية باتجاه مدينة دير الزور.

وتشير الحادثتان معاً إلى خلاصة واحدة مفادها أن الأمريكيين في حالة دفاعية أمام الهجوم من المحور الروسي ـ الإيراني، ويشمل ذلك محاولات هذا المحور المتكررة للسيطرة على المنطقة الحدودية السورية ـ العراقية قرب معبر التنف، وصد الأمريكيين لتلك الحملات، وآخرها إسقاط الأمريكيين وحلفائهم الميدانيين في التنف للدرون الإيرانية الصنع مساء الثلاثاء 20 حزيران الجاري.

يبدو مستغرباً، للوهلة الأولى، أن يخاطر طيران النظام الكيماوي بدخول منطقة العمليات الرئيسية لطيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في الحرب على داعش، مهاجماً قوات «سوريا الديموقراطية» الحليفة لواشنطن التي تحاصر الرقة. فهذا الاحتكاك يقوض كل ادعاءات النظام، ومعه ظهيراه الإيراني والروسي، برغبتهم في المشاركة في الحرب على داعش، فضلاً عن مخاطر اختبار العزم الأمريكي.

ولكن إذا نظرنا إلى ردة فعل الأمريكيين على الحادثين، اتضح أن ما يقال عن ارتباك الإدارة الأمريكية بشأن سياستها في سوريا ما زال يحتفظ بصحته. فقد مضى الآن أكثر من شهرين ونصف على ضرب قاعدة الشعيرات الجوية قرب حمص، وما تبعها من تصريحات أمريكية حادة تجاه النظام الكيماوي، وصولاً إلى وصف ترامب لرأس هذا النظام بالحيوان، وما زال الأمريكيون في حالة دفاعية تجاه المحور الروسي ـ الإيراني الذي لم يبد أي علامة على استعداده لتقديم تنازلات أو تراجعات. الإدارة الأمريكية التي دأبت، طوال الأشهر الماضية، على إطلاق تصريحات نارية ضد إيران، لم تكد تقول شيئاً ذا قيمة عن الصواريخ الإيرانية التي أطلقت باتجاه دير الزور، وهي المرة الأولى التي تطلق فيها إيران صواريخ مماثلة إلى خارج أراضيها منذ نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية في أواخر الثمانينيات، أي منذ ما يقارب ثلاثين عاماً. ومن المحتمل أن إسرائيل نفسها أحست بخطورة هذه السابقة الصاروخية الإيرانية، برغم معرفتها أنها ليست مقصودة برسالتها الضمنية الموجهة أكثر إلى الأمريكيين ودول الخليج العربي.

هذا الارتباك الأمريكي هو الذي يشجع المحور الروسي – الإيراني، إذن، على مواصلة اختبار الخط الافتراضي الفاصل بين «سوريا المفيدة» المتروكة للروس و»سوريا ما بعد داعش» إذا صح التعبير التي تريد أمريكا الاحتفاظ بها منطقة لنفوذها المديد. ارتباك لا يخص الحرب في سوريا وحدها، بل ظهر أيضاً في الموقف من الخلاف الخليجي ـ الخليجي، فتضاربت التصريحات بين البيت الأبيض والخارجية، مما يشير إلى أزمة إدارة ترامب الداخلية أساساً. ومن المحتمل أن التنمر اللفظي الروسي في أعقاب إسقاط الطيران الأمريكي لطائرة السوخوي قرب الرقة، يعتمد على تلك «القطبة المخفية» -إلى الآن- في علاقة ترامب وفريقه المفترضة بالحكم الروسي منذ حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام الماضي.

من مفارقات الموقف الأمريكي في سوريا، هذا التساهل الغريب مع هجوم النظام وحلفائه الشرس على مدينة درعا، مقابل الحزم الأمريكي في الحفاظ على منطقة معبر التنف وجواره، على رغم أهمية درعا في الحسابات الأمنية الأردنية والإسرائيلية. وبدلاً من غرفة «الموك» التي كانت تدعم الجبهة الجنوبية وتتحكم بمسار المعارك وحدودها، نرى اليوم «مفاوضات سرية» أمريكية ـ روسية في عمان، يفترض أنها وصلت إلى تفاهمات. فإذا كانت نتيجة هذه التفاهمات هي ترك درعا ليستولي عليها النظام وحليفه الإيراني، فهذا من عجائب سياسة إدارة ترامب، ويعني أنها فعلاً لا تملك أي سياسة في سوريا. وهو ما يتعارض مع الحزم الأمريكي الواضح على طول «الخط الاستراتيجي» الممتد شرقاً من التنف إلى محافظة الرقة شمالاً، وتم اختباره مراراً من قبل الإيرانيين والروس.

بالمقابل، لا يخلو الموقف الروسي أيضاً من الارتباك. فإذا كانوا واضحين في دعمهم لسيطرة عميلهم في دمشق على كامل مساحة «سوريا المفيدة» غرباً، فهم أقل حماسةً في دعم محاولاته للتمدد نحو الرقة والطرق المؤدية إلى دير الزور. وجاءت تصريحات لافروف، في أعقاب إسقاط طائرة السوخوي التابعة للنظام الكيماوي، كأنها تعترف بالتخلي عن «تركة ما بعد داعش» في الرقة، وربما دير الزور لاحقاً، للأمريكيين، مقابل الاحتفاظ بالتملك الحصري للأراضي الواقعة غرب نهر الفرات. ولكن يبدو أن الإيرانيين لم يصلوا بعد إلى هذا التسليم أمام الأمريكيين. وهو ما نراه في مواصلة القوات البرية التابعة للنظام والميليشيات التابعة لإيران محاولاتها المستميتة لنيل حصة ما من تركة داعش في الشرق. محاولات ذهبت بعيداً في المغامرة إلى حد الاصطدام بقوات سوريا الديموقراطية ـ أهم الحلفاء الميدانيين لأمريكا ـ بعد سنوات من علاقة هي أقرب إلى التعاون منها إلى الخصومة.

منذ سنوات، والحرب الداخلية في سوريا هي حرب، أو حروب، بالوكالة بين قوى إقليمية منخرطة في سوريا. وكان أحد أركان السياسة الأمريكية في سوريا، في عهد باراك أوباما، هو ترك هامش حركة واسعاً للقوى الإقليمية للانخراط في الحرب السورية، إيران وتركيا والسعودية وقطر، وبدرجة أقل الأردن ومصر والعراق. أما اليوم فنحن أمام انخراط عسكري أمريكي أكثر في الحرب السورية، ليس فقط بسلاح الطيران، بل كذلك بقوات برية يزداد عددها باطراد، وقواعد أرضية ثابتة، وتعزيزات بأسلحة أكثر تطوراً.

هل تندلع الحرب بالأصالة بين الأمريكيين من جهة والروس والإيرانيين من جهة أخرى، بصورة مباشرة، على الأراضي السورية وفي أجوائها، بعد الانتهاء من معركة الرقة؟ المرجح أن أحداً من القوى المذكورة لا يريد ذلك. فالمحور الروسي – الإيراني يضغط وفقاً لسياسة حافة الهاوية، مختبراً الحزم الأمريكي في كل خطوة. والإدارة الأمريكية أكثر انشغالاً بالمعارك السياسية الداخلية الدائرة حول البيت الأبيض، من أن ترغب في الانخراط بحرب غير معروفة النتائج، بعد سنوات من سياسة الانسحاب.
ولكن من يدري؟ أليس إشعال نار حرب كبيرة في الخارج مخرجاً للأزمات الداخلية لدى الحكام المأزومين؟

اقرأ المزيد
٢٤ يونيو ٢٠١٧
أسابيع حمّالة مفاجآت؟

يحيّر السوريين السؤالُ عن إمكانية الحل السياسي وموعده أكثر مما يحيرهم أي سؤال آخر. أما حيرتهم المعذّبة، فمردُّها فقدانهم الثقة بوجود حل في ظل خروج قضيتهم من أيديهم، وعجزهم عن ممارسة أي تأثير جدي ومنظم على الممسكين بأوراقها، من الأجانب والعرب، ناهيك عن افتقارهم إلى قيادة، وتهافت دور ممثليهم الذين يبدون أقرب إلى المتفرج على مأساتهم، منهم إلى جهةٍ تتابع أهدافاً يرتبط بها مصير الملايين منهم الذين ينتظرون حلاً يرد الكارثة عمّن لم تبتلعهم بعد محارق ومجازر الأسد وإيران وروسيا.

لمتابعة التطورات التي تلعب دوراً تقريرياً بالنسبة للحل، يجب أن نتوقف عند بناء عسكر واشنطن، منذ نيف وعام، قواعد عسكرية على الأرض السورية، تمتد من شمالها وشرقها إلى جنوبها الغربي، تشكل، مع مثيلاتها في شمال العراق، بنية استراتيجية متكاملة، قد تكون بديل البنية التي فشل الأميركيون بإقامتها في العراق، بعد غزوه بين عامي 2003 و2010. هذه البنية ترابط فيها قوة عسكرية عديدها عشرة آلاف جندي وضابط، يمتلكون مدافع ودبابات وراجمات صواريخ وطائرات وسفناً حربية، كلفوا بقطع طرق إمداد إيران إلى سورية ولبنان، وبإغلاق الحدود العراقية مع سورية، والمساعدة على طرد "داعش" من محور الرقة/ دير الزور/ الميادين/ البوكمال الذي ستتولى إدارة مدنه وقراه مجالس مدنية منتخبة وفصائل من الجيش الحر. بعد إنجاز هذه المهام، يأمل الأميركيون أن يحدث تحوّلٌ مفصليٌّ في الوضع السوري يبدل حسابات الروس، ويحد من قدرة إيران على معارضة تفاهم دولي على حل، والأسد على إحراز نصر عسكري.

هل تبني واشنطن هذا الوضع العسكري في سورية، لكي تخوض حرباً بقواتها المباشرة ضد إيران والنظام وروسيا، أو لأنها تريد التراضي مع موسكو على حل سياسي، انطلاقاً من التوازن العسكري بينهما، أو من تفوقها عليها. وفي الحالتين من إنهاء انفرادها بالشؤون السورية؟ بغض النظر عن أن للانتشار الأميركي مهام تتخطى سورية إلى الإقليم، وخصوصاً منه إيران، فإن فاعليته كانتشار مستقر تتطلب العمل لإيجاد بيئةٍ تضمر حلاً سياسياً، يلبي مصالح روسيا أيضاً، ويقلص مصالح إيران ودورها في إدامة الصراع السوري. ما هي التنازلات التي ستطلبها كل دولة من الأخرى؟ سيقرّر الرد على هذا السؤال صورة الحل وهويته، وما إذا كان تقاسم النفوذ السياسي والحضور العسكري بين الدولتين سيتعارض مع وحدة سورية دولة ومجتمعاً، أو سيكتفي بطمر نيران الصراع تحت رماد تفاهمهما وحسب. سيعزّز توازن القوى بين روسيا وأميركا فرص الحل السياسي الذي يعطله اليوم أمران: بدائله التي تطورها روسيا بصورة منفردة، وعدم اكتمال البناء العسكري الأميركي، وبالتالي محدودية قدرته على تنفيذ مهمته الرئيسة: منع إيران من الوصول البري الحر إلى سورية ولبنان، الذي سيحقق عسكر واشنطن، لكونه يحدد استباقياً جزءاً رئيساً من نتائج المعركة ضد طهران التي ستبلغ أوجها بعد لف سورية بحزامين أرضيين، سيمتد أولهما من شمال العراق إلى المتوسط بمحاذاة الحدود التركية، وثانيهما من حدود العراق الشمالية إلى الأردن وفلسطين بمحاذاة حدود إيران الأمنية، وسيضع قيامهما "سورية المفيدة" الروسية بين فكي كماشة، لن تكون إسرائيل بعيدة عنها، ربما كانت ضرورية لإقناع الروس بالتخلي عن إيران، مقابل تقليص دور تركيا السوري.

هل سيكون الحل موضعياً يطبق في موقع واحد، ثم ينتقل تدريجياً إلى غيره، بحيث يسهل تنفيذه في ظل وقف إطلاق نار شامل يسبقه، يتيح انصراف القوتين الكبيرتين إلى ضبط أوضاعهما داخل سورية وخارجها، والتحكم بمشكلاتٍ قد يتسبب بها هذا الطرف أو ذاك، وخصوصاً إيران؟ أعتقد أن الحل المتدرج، في ظل وقف إطلاق نار شامل، ويسمح للسوريين بالعودة إلى وطنهم، يمتلك فرص نجاح حقيقية، سيزيد منها التزام الدولتين بهدف جنيف: نقل سورية إلى الديمقراطية بديلاً للنظام الأسدي.

تبني أميركا قاعدة استراتيجية، سيكون إنجازها لحظة فارقة في الصراع على سورية وفيها، ستأخذنا إما إلى حلٍّ بتراضٍ أميركي/ روسي، شامل أو متدرج، أو إلى خوض صراعٍ مباشر بقواهما العسكرية، سيبدل جذرياً طابع الصراع الذي عشناه حتى الآن، يجعله توازن قواهما من دون جدوى أو عائدٍ لأي منهما، بينما يتيح الحل لهما ملاحقة أهدافهما غير السورية أيضاً. أي هذين الاحتمالين يرجّحه توضع القوتين عسكرياً في سورية؟ هذا ما سنعرفه في الأسابيع القليلة المقبلة.

اقرأ المزيد
٢٤ يونيو ٢٠١٧
تحرير الرقة لن يؤدي إلى الاستقرار في سورية

بدأت معركة تحرير مدينة الرقة من أيدي تنظيم «داعش» وتتزايد التقارير عن المناطق التي تمت استعادتها من المنظمة الإرهابية. الولايات المتحدة وحلفاؤها يقدمون الحملة في شكلٍ إيجابي، قائلين إن تجريد ما يسمى بـ «الخلافة» من عاصمتها سيشكل ضربةً قويةً للتنظيم. لكن تحرير مدينة الرقة يواجه عدداً من التحديات الكبيرة التي يجب على التحالف الدولي المناهض لتنظيم «داعش» أن يوليها الاهتمام، وإلا فإن مكاسب الحملة ستطغى عليها موجة جديدة من التوتر.

لا يزال التوتر العرقي مشكلة محتملة. فالحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة يتم دعمها على الأرض في شكلٍ رئيسي بواسطة «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) التي لا تزال تحت سيطرة المقاتلين المنتمين لـ «وحدات حماية الشعب الكردية» على رغم وجود مقاتلين عرب داخل صفوفها. وأدلت الولايات المتحدة ببيانات تفيد بأن المناطق المحررة من تنظيم «داعش» على يد قوات سورية الديموقراطية سيتم تسليمها للعرب لكي يحكموها وليس للأكراد، في محاولةٍ لتخفيف التوتر العرقي المحتمل.

إلا أن نطاق التعاون بين قوات سورية الديموقراطية والسكان المحليين في المناطق المحررة ما زال غير واضح، بخاصة أن التقارير المبكرة مثل تقرير الزميل حايد حايد الذي تم نشره على موقع مجلس الأطلنطي الالكتروني في أيار (مايو) تشير إلى أن قوات سورية الديموقراطية ستستخدم نهجاً للحكم المحلي في مدينة الرقة يشبه النهج الذي استخدمته عندما قامت بتحرير مدينة منبج العام الماضي. يدور هذا النهج حول إشراك العرب في مجالس الإدارة الذاتية ولكن من دون منحهم سلطة حقيقية. ويمهد مثل هذا النموذج الطريق للتوتر الكردي- العربي في المستقبل القريب.

التوتر القَبَلِيّ هو مصدر قلق آخر. فقامت الولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع الأردن والإمارات العربية المتحدة وغيرهما من الأقطاب الخارجية الأخرى بحشد القبائل لتكون بمثابة شركاء محليين في الحملة ضد تنظيم «داعش». وخلقت تلك الأيدي الدولية «جيش العشائر» الذي يشارك في القتال في جنوب سورية وكذلك في الشرق. ومع ذلك، فإن الاعتماد على العشائر للسيطرة على المناطق ما بعد تنظيم «داعش» ليس نموذجاً يمكن تطبيقه في شكل موحد. هناك فرق بين الديناميكيات الريفية والحضرية في هذا الصدد، وكذلك بين المناطق المختلفة: ولذا من المرجح أن تشهد مدينة دير الزور وريف الرقة نجاحاً أكبر في تنفيذ «مجلس العشائر» منه في مدينة الرقة.

علاوةً على ذلك، ولأن القبائل غالباً ما تعمل على أساس التحالف مع الجانب الذي يوفر لها الحماية، فقد عادت بعض القبائل في شرق سورية إلى دعم النظام. وهذا هو الحال بالنسبة الى قبيلة الشعيطات التي ذبح تنظيم «داعش» المئات من أعضائها في عام 2014، فانضم أعضاؤها في ما بعد إلى الجيش السوري في محاولة لكسب الحماية. لذلك، فإن الاعتماد على القبائل للسيطرة على الرقة بعد تحريرها يحمل خطر الاشتباكات القبلية.

أما المنافسة بين الأقطاب الخارجية فتترجم على أرض الواقع، ما يساهم في تقويض الحملة. فمنذ آذار (مارس)، قُتل نحو 700 مدني في أكثر من 150 ضربة جوية من التحالف المناهض لتنظيم «داعش» وفي معارك برية، وفرّ 160 الفاً من ديارهم وأصبحوا مشردين داخلياً. ووصفت الأمم المتحدة ضربات التحالف بأنها تسببت «بخسارة صاعقة في حياة المدنيين». لكن مدير الشؤون العامة في التحالف الدولي الكولونيل جو سكروكا رفض بشدة تقرير الأمم المتحدة قائلاً إنه يضع التحالف الدولي على قدم المساواة مع داعش. واتهم سكروكا وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية باستنساخ دعاية «داعش» عن غير قصد في تقاريرها عن الخسائر المدنية في سورية. وهذا البيان يضر بصدقية التحالف بدلاً من تعزيزه.

وهناك نزاع آخر يتعلق بتنفيذ «مناطق تخفيض التصعيد» على النحو المتفق عليه في أيار (مايو) 2017 في المحادثات التي تقودها روسيا في الآستانة. ينص الاتفاق على أن هذه المناطق ستسمح لوكالات الإغاثة الدولية بتوصيل الأغذية والخدمات الطبية الى المناطق المحاصرة. ولكن وكالات الإغاثة أفادت بعدم تطبيق هذا البند واستمرار النقص في الإمدادات الغذائية والطبية. إضافة إلى ذلك، يتم إجلاء بعض المناطق من سكانها في ما لاحظته الأمم المتحدة كزيادة في عدد «اتفاقيات الإجلاء»، وهي في الواقع عملية إجلاء السكان مباركة من قبل روسيا، الدافع الأساسي «الاعتبارات الاستراتيجية للأطراف المتحاربة التي تتفاوض»، وفقاً للجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق في سورية.

وهناك أيضاً نزاع بين روسيا وحلفائها من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، حول من يحقق أكبر النتائج في محاربة «داعش». واسترجعت قوات سورية الديموقراطية حتى الآن سبع مقاطعات في محافظة الرقة من «داعش»، وقدمت بيانات علنية عدة عن انتصاراتها من أجل تسليط الضوء على إنجازات حملة التحالف بقيادة الولايات المتحدة. فيما أعلنت روسيا في وقتٍ لاحق أنها «ربما قتلت» زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي في إحدى غاراتها الجوية في 28 أيار. ولكن لا يوجد دليل على أن البغدادي قد قُتل بالفعل في هذه الغارة، أو أنه داخل سورية. آخر بيان صوتي من قبل البغدادي أطلق في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 ولا يُعرف مكان تواجده. حتى لو قُتل البغدادي، فإن هذا لن يؤدي إلى انهيار تنظيم «داعش»، حيث يقوده عدد من الشخصيات التي لا تزال هويتها مجهولة، في حين أن المجموعة غالباً ما تخلق شخصيات عامة من القادة المفترضين من أجل تحويل الانتباه بعيداً من الديناميكيات الفعلية التي تعمل من خلالها.

كل هذه التوترات، سواء بين الأقطاب المحليين أو الدوليين، تعني أن حملة الرقة لن تحقق الاستقرار في سورية، وستؤدي ببساطة إلى تحويل الصراع. إن هدف الحملة محدود ألا وهو هزيمة «داعش» عسكرياً وهذا يعني أيضاً أنه ينتهي إلى تجاهل أحد العوامل الرئيسية لعدم الاستقرار وهو النظام السوري.

وبعد أن الولايات المتحدة، وللمرة الأولى، أسقطت طائرة مقاتلة سورية كانت تهاجم قوات سورية الديموقراطية، أصدرت قوى المهمات المشتركة ضمن التحالف بياناً يوم 18 حزيران (يونيو) أكدت فيه أن «مهمة التحالف هي هزيمة داعش في العراق وسورية. ولا يسعى التحالف إلى محاربة قوات النظام السوري أو الروسي أو الموالي للنظام»، واختتم بدعوة «جميع الأطراف إلى تركيز جهودها على هزيمة داعش، الذي يُعد عدونا المشترك وأكبر تهديد للسلام والأمن على الصعيدين الإقليمي والعالمي». هذا الوصف غير الدقيق للصراع في سورية سيكون أكبر سبب للتوتر على الأرض في المستقبل.

 

اقرأ المزيد
٢٤ يونيو ٢٠١٧
إيران تستعجل الاشتباك مع ترامب في سورية

تزداد في سورية، حدة التوتر بين الولايات المتحدة وحلفائها المحليين من جهة، وبين روسيا وإيران وميليشياتها الأجنبية والنظام السوري من جهة ثانية، مع اقتراب موعد معركة الرقة لطرد تنظيم «داعش» وإنهاء «خلافته» المترنحة. إذ تخشى القوى الخارجية الداعمة الأسد من المرحلة التالية للحرب على «داعش»، وتشكك في النيات الأميركية غير الواضحة التي تتركها ضحية القلق والحيرة.

لكن الغموض الأميركي الذي ينعكس تخبطاً في القرارات السياسية والعسكرية، ليس ناجماً عن تخطيط مسبق، بل عن غيابه. فالتحركات الاميركية تفتقر إلى خط ناظم يرسم استراتيجية واضحة ويحدد الأولويات وتداخلاتها، والعلاقة بسائر الفرقاء على الأرض، لا سيما روسيا وإيران، سلباً أو إيجاباً.

ومنذ مطلع العام الحالي، تاريخ تسلم ترامب مقاليد البيت الأبيض، ازداد التباعد بين الشعارات السياسية وبين تطبيقاتها العملية، وتفاقم التناقض بين الإعلان المتكرر عن الرغبة في تغيير التحالفات في الشرق الأوسط خصوصاً، وبين التعامل الآني مع الوقائع والمعطيات الميدانية.

وفيما ركز ترامب خلال حملته الانتخابية، ثم في تصريحاته الرئاسية الأولى، ثم خلال زيارته المنطقة، على ضرورة كبح جماح إيران ووقف تمددها الإقليمي، والتراجع عن سياسة أوباما في التغاضي عن خططها للهيمنة وتهديدها التوازنات الإقليمية، كان التنفيذ على الأرض متبايناً إلى حد بعيد، ويتجنب المواجهة مع الانتشار الإيراني، المباشر أو بالوكالة، في العراق وسورية واليمن، سوى في حالات نادرة اقتضتها ضرورات عسكرية بحتة.

وحتى الآن، ليس للولايات المتحدة أي هدف معلن في سورية سوى القضاء على «داعش» في رقعته الجغرافية المحاصرة. بل إن قادتها السياسيين والعسكريين يشددون مع كل توتر يحصل مع القوى الأخرى المنتشرة في هذا البلد، على أنهم لا يهدفون إلى محاربة القوات السورية النظامية أو الإيرانية أو الروسية، بل «الدولة الإسلامية» فقط. غير أنهم لا يقدمون صورة واضحة عما ستفعله بلادهم بعد إنجاز هذه المهمة.

أما إسقاط المقاتلة السورية والطائرتين الإيرانيتين المسيرتين، وقصف ميليشيات موالية لإيران اقتربت من مثلث الحدود المشتركة بين سورية والأردن والعراق، فيندرج في رأي واشنطن في إطار تنفيذ تفاهم ضمني مع موسكو بعدم تعرض أي طرف لقوات الطرف الآخر وحلفائه، ويبرره الأميركيون بأنه مجرد رد على خروقات سورية وإيرانية لهذا التفاهم هددت القوات المحلية التي يدعمونها.

لكن من المرجح أن تستمر الخروقات لأن القائمين بها يعتقدون أن الهدف المضمر للأميركيين بعد طرد «داعش» من «دويلته»، سيكون الاستدارة نحو إيران وميليشياتها، ما قد ينعكس على دعم نظام الأسد، ويهدد النفوذ الروسي في سورية.

ولهذا تستعجل إيران الاشتباك مع الأميركيين، وبالتالي تشتيت واشنطن عن هدفها المعلن وإعاقة حربها المنفردة ضد «داعش»، وربما إلحاق خسائر بقواتها المنتشرة في سورية والعراق. والهدف الأبعد إجبار أميركا على مهادنة طهران والتنسيق معها ومع موسكو ودمشق في الحرب على التنظيم، وتقاسم عائدها المعنوي والمادي. وبكلام آخر الاعتراف بامتداداتها الإقليمية.

فالروس والإيرانيون ونظام دمشق يرفضون أن تتصرف الولايات المتحدة كأن لها حقاً مطلقاً في شن حرب في سورية، واعتبارهم مجرد متفرجين غير معنيين، مع أنهم يسيطرون على معظم الأرض ويمتلكون القدرة على وقف أي تسوية أو تخريبها. ولهذا بدأت القوات النظامية تتقدم نحو الرقة وأطلقت إيران صواريخ عابرة على دير الزور وأعلنت موسكو أنها ربما قتلت زعيم «داعش» في غارات على التنظيم، لتأكيد مشاركتها في معركة الرقة.

في هذه الأثناء، يَغيب ويُغيّب أي دور للمعارضة السورية التي قادت الثورة على نظام الأسد. وفي هذا يتفق اللاعبون الدوليون والإقليميون جميعاً بلا استثناء، من واشنطن وأوروبا إلى موسكو وطهران.

اقرأ المزيد
٢٤ يونيو ٢٠١٧
شراكة مؤجّلة قد تحوّلها إيران صداماً أميركياً - روسياً

قدّم الرئيس الروسي سياسته الدولية بأنها «تصحيح» للنظام العالمي الذي تفرّدت الولايات المتحدة في الهيمنة عليه ووضع قواعـــــده. وإذ انطلق فلاديمير بوتين من تداعيات الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، ومن الفوضى التي عمّت ليبيا جرّاء التدخل الأطلسي لإسقاط النظام السابق، فإنه يعتقد أن إدارته الأزمتين السورية والأوكرانية في الأعوام الثلاثة الأخيرة وفّرت نموذجاً صائباً لما يمكن أن تكون عليه القيادة «الجديدة» للنظام الدولي بالاستناد الى جرائم الحرب المحرّمة إدانتها. لكن تبدّى الآن أن النموذج البوتيني يكاد يقوم على فكرة وحيدة هي إنكار القطبية الواحدة وإنهاء وضعية الدولة العظمى (الأميركية) الوحيدة، ولتطبيق ذلك أعطى بوتين أولوية لتقليد وحشية أميركا في فيتنام بالأسلوب الروسي في حلب بعد الشيشان، وانتقل التقليد الى مجلس الأمن الذي باتت موسكو تعطّله بتلقائيةٍ عمياء وغالباً ما كانت واشنطن تعطّله أيام الحرب الباردة. وفي السياق، فإن ما التقى ويلتقي عليه القطبان هو تهميش العدالة الدولية وتمرير جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وإذا تبادلا الاتهامات التشهيرية في شأنها فإن «الفيتو» يحول دون إصدار قرارات ودون التزامها وتفعيلها إذا أمكن إصدارها.

يبدو هاجس «التصحيح» بارزاً أيضاً في الكثير من الكلام والقليل من الفعل في نهج الرئيس الأميركي الذي قد يفقد منصبه وهو لا يزال يُوصف بـ «الجديد». فما أقدم عليه مع أعوانه، قبل الحملة الانتخابية وخلالها وبعدها وقبيل أيام من تنصيبه، يشكّل حالياً الخلفية المزعزعة للسياسات أو الاستراتيجيات التي تحاول إدارته بلورتها. ويبدأ «التصحيح» في عُرف دونالد ترامب بمراجعة الفواتير الأميركية حول العالم، وفقاً لقاعدة أن مَن يريد حماية الولايات المتحدة ينبغي أن يتحمّل الكلفة، لكن طبعاً باستثناء إسرائيل. وهذا حساب مخاتلٌ لأن أميركا لم تكن خاسرةً أبداً من تدخّلاتها، وحساب خاطئٌ لأن لأزماتها الاقتصادية أسباباً في السياسات الداخلية أولاً وأخيراً، وهو حسابٌ غير واقعي يرمي الى إبقاء الهيمنة الأميركية لكن مجانية، ثم أنه يُسقط بل يرفض تقويم المحصلة نسبةً الى الكلفة، فنادراً ما يكون التدخّل والحماية نهايةً لأزمة بل بداية لمسلسل يديم الاضطراب والتوتر. كانت لدى باراك اوباما أجندة «تصحيحية» أيضاً، ولم يتمكّن من تطبيقها فاكتفى بتركة تكرّس الانسداد الدولي والتقاء القطبين على الاستثمار، كالعادة، في الأزمات الإقليمية وإدارة الحروب بالوكالة.

بمعزل عن السياسات، كان هناك دائماً ما يُسمّى «الحلم الأميركي» الذي لم يعد له السحر الإلهامي نفسه، لكن يبقى لدى أميركا دائماً نموذجٌ محمّل قيماً قابلة للتصدير بشرط أن تتوافر إرادة سياسية لتطبيقه، أما اذا غابت القيم والإرادة معاً تكون النتــائج كــارثــية، كما هي حالياً.

والأمثلة كثيرة، لكن تكــــفي الإشارة الى غزوات جورج بوش الابن في إطار الحرب على الإرهاب وما أفضت اليه في العراق وأفغانستان، الى انسحابات اوباما وعدم اعترافه بأخطار سياسة التخريب الإيرانية وانخراطاته الملتوية في التعاطي مــع الأزمات السورية والعراقية والليبية التي أدّت الى ولادة الارهاب «الداعشـــي» الجديد، وأخيراً الى تخبّطات ترامب بين ما يتصوّره وما يحقّقه في شأن إيران وصولاً الى وقوعه في فخّ التواصل مع روسيا كما لو أنه يحتاج الى مَن يلفته الى أن روسيا عدوٌ وليست حليفاً استراتيجياً لأميركا.

في المقابل، لم تكن روسيا يوماً مصدراً لـ «حلم» أو نموذجاً قابلاً للتصدير، وإذا كانت لا تدّعي ذلك فليس في الأمر فضيلة. فحتى النموذج السوفياتي، وهو مقياس بوتين ومرجعيته، استخدمته موسكو لاستقطاب عشرات الدول قرابة قرن من الزمن، إلا أنه انتهى الى سقوط مريع وسقطت معه «اشتراكيته» وأي قيم اقتصادية فيها قد تكون صالحة للاتّباع من دون حمولتها السلطوية الفظّة. لا شك في أن التقليد الروسي قد يتفوّق على الأصل الأميركي في الوحشية أو يتساوى معه، لكن المؤكّد أنه لا يستطيع أن يقدّم منظومة متكاملة يمكن أن تضاهيه. ففي سورية، أثبت التدخّل الروسي أن «نموذجه» هو نظام بشار الأسد الذي يوقّع له على ما يشاء، وأثبت أيضاً أن حليفه الأمثل هو النظام الإيراني. نفذ الروس خطة الأسد والإيرانيين لتفتيت قوة المعارضة وتسفيه طموحاتها كأفضل وسيلة للمحافظة على ماكينة اسمها النظام، وإذ حققوا النسبة الكبرى من برنامجهم بالقوة العسكرية إلا أن تحويل إنجازاتهم الى نهاية حرب وبداية استقرار فتلك مهمة لا يتمتّع الرئيس الروسي بالخبرة لإدارتها، لأن قاموسه يعرف الحكّام والجيوش لا الشعوب.

شكا بوتين أخيراً من أن مشاكل ترامب مع المحققين والقضاة تعرقل مساهمة أميركا كشريك في حل النزاعات الدولية، على افتراض أن القطبَين يريدان فعلاً حلّها. يدرك الرئيس الروسي أن كل ما فعله في سورية واوكرانيا وغيرهما مجرد تأزيم لاستدراج الولايات المتحدة الى مساومة لم تبرهن على أنها راغبة فيها.

فهو يتحدّث علناً عن «شراكة» ويترجمها ضمناً «مساومة». لم تعارض أميركا «تنسيقه الاستراتيجي» مع إسرائيل، وأوحت بأنها تطلق يده في سورية سواء بخطة آستانا لـ «مناطق خفض التصعيد» أو بقيادة من الخلف لمفاوضات جنيف، فهي مثله لا تملك نموذجاً مناسباً لإنهاء الصراع السوري بل لإدامته وتوظيفه.

لكن بوتين الباحث عن شراكة مع أميركا وجد أنها تعمل على مشروع آخر في سورية من خلال محاربة «داعش» في الشمال والمنطقة الآمنة في الجنوب، بل وجد أن أميركا وإيران باشرتا صراعاً ميدانياً متجاهلتَين الوجود الروسي، فإيران تبحث أيضاً عن ظروف لاستدراج الأميركيين الى مساومة لا يريدونها.

اضطر الروس أخيراً لقبول هدنة درعا وفرضها على النظام، لأن تفاهمهم مع الأميركيين على عدم التعرّض لقوات النظام اختُرق مع انكشاف أن الخسائر الكبيرة التي نُسبت الى الأخير كانت في معظمها لحلفائه من «حزب الله» وميليشيات أخرى تابعة لإيران، وبالتالي فإن سيطرتهم على كامل درعا تعني السماح بوجود إيراني على حدود الأردن، وهذا غير مقبول أيّاً تكن الاعتبارات. إذاً، أصبح عنوان «قوات النظام» إشكالية روسية يصعب الدفاع عن مشروعيتها، ولا يمكن موسكو إقناع واشنطن بعدم التعرّض للإيرانيين وأتباعهم لأن النظام هو مَن دعاهم. أما الإشكالية الأخرى فتتعلق بالحدود سواء في الشمال أو الجنوب الغربيين اذ يخترقها الإيرانيون متحدّين الإنذارات الأميركية. وفي أي حال، يُظهر الإيرانيون أنهم لا ينتظرون أن تدافع موسكو عن وجودهم في سورية، بل يمارسونه ويطوّرونه وفقاً لاستراتيجية ثابتة لا تحسب حساباً لحواجز تضعها الدول الكبرى أمامهم.

في أسوأ الظروف، ولعلها حلّت، سيسعى الإيرانيون الى استفزاز الأميركيين بدفع زوارق الى المياه الاقليمية السعودية وإحدى المنصّات النفطية وإلى صدام مباشر، كما حاولوا بالزحف نحو معبر التنف من الجانبين، بل إلى افتعال أسباب لصدام أميركي - روسي سبق أن راهنوا عليه عندما حضّوا على استخدام السلاح الكيماوي في خان شيخون وجاءهم الجواب عبر الصواريخ الأميركية على مطار الشعيرات.

وتلتقي طهران وموسكو اليوم على ضرورة استغلال حال التخبّط الأميركي، فمن الواضح أن واشنطن لم تحسم خياراتها في المنطقة على رغم إطلاقها معركة الرقّة ضد «داعش» وتهديفها على نفوذ إيران واضطرارها مجدّداً لإرسال قوات الى أفغانستان. ولا شك في أن الصواريخ التي أطلقتها سفينة روسية من المتوسط وتلك التي أطلقتها إيران من أراضيها على مناطق «داعش»، وكذلك إسقاط الأميركيين طائرة للنظام على مقربة من الرقة، لا تريد كسر احتكار التحالف الأميركي والقوات الكردية لمحاربة الارهاب فحسب، بل ترمي الى وضع الأميركيين أمام واقع جديد لا يمكّنهم من حسم المعركة مع «داعش» وما بعدها وفقاً لتصوّرهم، ومن دون إشراك الأطراف الأخرى، أي روسيا وإيران ونظام الأسد.

اقرأ المزيد
٢٣ يونيو ٢٠١٧
هذا الاقتصاد السوري منذ انطلاق الثورة

مثل انطلاق الثورة السورية في العام 2011 رداً "شعبياً" على سياساتٍ كثيرة للنظام السوري، في مقدمتها توجهاته الاقتصادية التي كانت ماضية في اتجاه تدمير البنية الصناعية والزراعية السورية، الرثة أصلا، لصالح انتعاش تجاري وسياحي ومالي، تستفيد منه فئة محدودة، وعلى ارتباط وثيق بالنظام السياسي والأمني، يصل إلى درجة الانصهار معه. ونظرا لقناعته بوجود ارتباط جوهري بين توجهاته الاقتصادية نحو اقتصاد السوق، عمليا نحو تبعية اقتصادية، والثورة السورية، فقد تبنى النظام خطابا إعلاميا مغايرا وناقدا، ما بعد انطلاق الثورة في 2011، مجمل التوجهات الاقتصادية السابقة. ليعترف النظام السوري آنذاك بأن سياسات الانفتاح الاقتصادي، والتسهيلات الجمركية لبعض دول الجوار، وخصوصا تركيا، وتوجهات الحكومة السورية نحو تقليص مصاريف الدعم الحكومي العلمية والصحية والمعيشية والاقتصادية، مثل تقليص دعم المشتقات النفطية، قد ساهمت في تصاعد الاحتقان والغضب الشعبي. كما سارع النظام في إيجاد كبش فداء يتحمل وحده مسؤولية التوجهات الاقتصادية المذكورة، وتبعاتها الاجتماعية والسياسية الحاصلة، حيث تم إعفاء نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، عبد الله الدردري، من جميع مناصبه ومسؤولياته الرسمية، ليصبح الدردري مادة إعلامية دسمة على جميع الوسائل الإعلامية التابعة والمقربة من النظام السوري، متناسية خطابها القديم نسبيا ما قبل الثورة، والذي كان يشيد ويتغنى بذكاء الرئيس الشاب وقدرته على استقطاب أهم الخبرات والكفاءات السورية في الخارج وخصوصا عبد الله الدردري، كما تناست هذه القنوات والمحطات الإعلامية ترويجها قبل الثورة جميع إجراءات الانفتاح الاقتصادي وقوانينه، ليتحول المشهد الإعلامي السوري، بين يوم وليلة، إلى تبني رواية غريبة جدا، وعلى درجة كبيرة من الفجاجة في الكذب والتزوير، تتلخص بإخلاء مسؤولية الرئيس والحكومة السورية السياسية والاقتصادية والأخلاقية، على حساب تحميل الدردري كامل المسؤولية، وكأن جميع الوزراء وجميع القيادات الأمنية والعسكرية، وفي مقدمتهم الرئيس، مجرد أسماء ومناصب شكلية وهامشية، حتى أنهم لا يملكون حق إبداء الرأي والاعتراض على أيٍّ من سياسات الدردري الاقتصادية الهدامة!

على كل حال، وبغض النظر عن الدخول في تفاصيل باتت قديمة نسبياً، وإن كانت على ارتباط وثيق باليوم، فقد تم التخلص، وبنجاح، من الشخص المسؤول عن تلك السياسات الاقتصادية.

لذا، من الطبيعي والمنطقي سير الحكومة والنظام السوري في طريق مغاير تماما عنها اليوم. لكن الخطاب والوقائع والقوانين والمعاهدات الموقعة حديثاً تشير إلى عودة سياسات الانفتاح الاقتصادي، أو سياسات الدردري كما كانت تسميها وسائل إعلام النظام، مع تغيير المظهر الخارجي لها، فنحن اليوم أمام دور إيراني وروسي، وربما صيني أيضا بدلا من دور تركيا والاتحاد الأوروبي السابق في فرض تبعية الاقتصاد السوري بالمركز الإمبريالي العالمي. تخلى النظام عن جميع المصادر مضمونة الربح، لصالح تحالف الدول التي حافظت حتى اليوم على بقائه، ليتم بيع عقود استثمار ثروات سورية الباطنية النفطية والغازية، بما فيها المتعلقة باستخراج الفوسفور لهم، فضلا عن المرافئ والموانئ الساحلية وعقود استثمار في قطاع الاتصالات، وجزء مهم من الثروة الزراعية، وربما الحيوانية أيضا، وفقا لما تم الإعلان عنه من الاتفاقات والعقود فقط، فضلا عن عقود إعادة الإعمار وعن عقود الاستثمارات السياحية طويلة الأجل، ليتخلى النظام السوري عن المصادر الرئيسية لميزانيته السنوية (الدخل القومي)، ما يفرض على أي حكومة قادمة تقليص المصروفات التنموية الداخلية العلمية والطبية، فضلا عن تقليص مصروفات الدولة المرتبطة بسياسة الدعم الحكومي في مجال الطاقة عموما، وفي المجال المعيشي كذلك. وهو ما تعكسه تصريحات مسؤولين في الحكومة والنظام السوري الذين يتحدثون، وبكل وضوح، عن أن الدولة عاجزة عن تأمين جميع مستلزمات المواطن السوري الخدمية والحياتية. لذا يجب إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص في المجالات الصحية والعلمية، وفي مجال تأمين مستلزمات الطاقة النفطية والكهربائية، تمهيدا لإلغاء أي دور للدولة، وتترافق تلك التصريحات مع تصريحات أخرى تعبر عن إخلاء مسؤولية الحكومة والنظام السوري تجاه مواطنيها على صعيد تأمين المستلزمات الغذائية والمعيشية البسيطة.

قد يعتبر بعضهم أن عملية بيع سورية للإيرانيين والروس مؤقتة وضرورية، من أجل الدفاع عن سورية "في مواجهة الإرهاب والمؤامرة الكونية"، أو ثمنا بخسا كي يحافظ بشار الأسد على سلطته السياسية والأمنية (وجهة نظر المعارضة)، غير أن ربط الحاصل اليوم بسياسات النظام ما قبل الثورة يشير، وبكل وضوح، إلى مسار النظام السوري منذ نهاية التسعينيات في اتجاه تخليه عن هموم السوريين وحاجاتهم لصالح مجموعة محدودة من المقرّبين والنافذين،

أشهرهم رامي مخلوف. ما يعني أن الخطاب الإعلامي الرسمي ما بعد انطلاق الثورة مجرد مناورة تكتيكية من النظام، بغرض امتصاص الغضب الشعبي وتطويقه، خوفا من تصاعده ونموه ليطاول مناطق جديدة، ويصبح احتواؤه أو مواجهته مستحيلة، لا سيما إن برزت قوى سياسية تعبر عن تطلعات ثورية شاملة، وتطرح تغييرا شاملا يطاول مجمل البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، حيث كان خطاب جميع القوى المعارضة السياسية المعروفة، ولا سيما الائتلاف والمجلس الوطني، وما زال، يرتكز على تحقيق الانتقال الديمقراطي فقط مع تهميشٍ كامل ومقصود لمجمل التوجهات الاقتصادية، ما يعني قبولها جميع هذه الممارسات مع تحفظاتٍ قد تنحصر بهوية الطبقة أو الفئة الاجتماعية المستفيدة من سياسات الانفتاح الاقتصادي، أي يصبح الخلاف أو الاحتجاج الاقتصادي محصورا بهوية أصحاب رؤوس الأموال الذين سوف يقطفون ثمار الانفتاح عبر الوكالات الحصرية التجارية والمالية وشركاء محليين أو حصريين في الاستثمارات السياحية المزمع إقامتها.

لا يمكن اعتبار التوجهات الاقتصادية السورية مسألة ثانوية وهامشية، بل لا بد من الانطلاق من أنها إحدى أهم الركائز المكونة للنظام السياسي، الحالي والمستقبلي. لذا لا بد من فضح النهج الاقتصادي السياسي الحالي، والمستمر منذ نهاية التسعينات، انظلاقا من تبعاته الكارثية على بنية الدولة والمجتمع السوري، والعمل على طرح المبادئ الاقتصادية الرئيسية والضرورية، من أجل بناء مجتمع سوري متماسك ومتطور صناعيا وعلميا وخدميا، بدلا من الاستمرار في حصر خطاب المعارضة في النواحي السياسية، على الرغم من أهميتها الراهنة والمستقبلية، إذ يتطلب الانتقال إلى مجتمع تسوده الحرية والعدالة والمساواة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين جميع أبنائه العمل على بناء دولة مستقلة اقتصاديا وماليا. وبالتالي، رفض جميع أشكال التبعية الاقتصادية، تركية وأوروبية كانت أم إيرانية وروسية، فقضية الحرية والعدالة كتلة واحدة لا تتجزأ.

اقرأ المزيد
٢٣ يونيو ٢٠١٧
مرحلة جديدة في الحرب السورية

الضربة الأميركية التي أسقطت المقاتلة السورية أدخلت حرب التحالف الدولي ضد «داعش» مرحلة جديدة من المواجهة الأميركية مع روسيا في سورية، فقوات التحالف والأكراد مع قوات عربية أضعفت «داعش» على الأرض في العراق وبدأت تضعفه في الرقة السورية، والضربة الأميركية التي استهدفت مقاتلة الجيش النظامي السوري تشير إلى أن أميركا قررت منع روسيا، وخصوصا حليفها الإيراني، من السيطرة وإدارة الرقة بعد «داعش».

أدرك الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند ذلك، وكانت الدبلوماسية الفرنسية تدفع بقوة فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى التفكير المبكر باستراتيجية ما بعد تحرير الرقة من «داعش»، وتحض الجانب الأميركي على منع النظام السوري وحليفتيه إيران وروسيا من تسلم إدارة الرقة، وهو موقف بعيد النظر، لأن مدناً عدة في سورية يقوم النظام بإفراغها من سكانها لاستبدال إيرانيين بهم وتشييع المناطق. أما الآن، فما زالت دبلوماسية الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون بالنسبة إلى سورية في طور إعادة التقويم، ولذلك ليس معروفاً ما هو الموقف الفرنسي، وما إذا كان قد تغير أم لا، فماكرون بدأ عهده -لأسباب غير واضحة- بإبعاد الإعلام الذي ساهم ورحب بانتخابه، والرئيس الفرنسي الشاب الذي اكتسح الساحة السياسية بفوز حزبه «إلى الأمام»، يعتمد نهج «إلى الوراء» في ما يتعلق بمنع فريقه الدبلوماسي أو دبلوماسيي وزارة خارجيته من التكلم وشرح تصوره لخطته الدبلوماسية تجاه سورية، وهذا «الإغلاق» الإعلامي المستغرب من رئيس يريد التحديث، يمنع التحليل الدقيق لما يريده بالنسبة إلى سورية ومرحلة ما بعد «داعش» في الرقة، وهل أنه يوافق التوجه الأميركي بمنع إيران وحلفاء النظام السوري من إدارة الأماكن المحررة، فالمرحلة الآن بالغة الخطورة، كون إرهاب «داعش» لم يعد في مكان واحد وانتقل من الأرض السورية التي كانت بفضل سياسة النظام السوري معقلاً لهذا التنظيم الإرهابي إلى كل مدن الغرب.

إن الأوضاع الأمنية العالمية مع تزايد الإرهاب الأعمى وعدم التمكن من السيطرة عليه تقتضي حلاً جذرياً لحروب المنطقة، فلو تدخلت القوات الأميركية في عهد أوباما في عام ٢٠١٣ وضربت القواعد الجوية لبشار الأسد لما نشأ وتغلغل «داعش» في أراضي سورية. لم يكن هناك حينها تدخل روسي مباشر. والآن، وفيما يتم تحرير مناطق سورية من هذا الوحش الإرهابي «داعش»، لا ينبغي أن تترك هذه المناطق لروسيا وإيران اللتين تعولان على السيطرة على الشرق الأوسط من خلال تواجدهما في سورية، فالضربة الأميركية للمقاتلة السورية قد تكون تنبيهاً لروسيا إلى أن الإدارة الأميركية لن تترك إيران تسرح وتمرح في سورية. تعتمد روسيا لغة التهديد لأنها حامية النظام السوري ومصلحتها في سورية، لكن إدارة ترامب لديها وزير دفاع أميركي قوي وحازم ويعرف المنطقة جيداً، وعلى رغم أنه لا يبحث عن مواجهة عسكرية مع روسيا لكنه يدرك أن الموقف الأميركي الحازم والقوي في مواجهة روسيا ونظام بشار الأسد أفضل من التنازل والتخاذل الذي قدمه جون كيري والرئيس أوباما للجانب الروسي في تعاطيه مع كل من سورية وإيران.

إن الأيام المقبلة وعودة مفاوضات الأطراف السورية التي دعا إليها المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا ستُظهر مدى جدية الجانب الروسي في الضغط على النظام السوري أو تركه يناور ولا يتفاوض على شيء رافضاً مبدأ الانتقال السياسي، فالحرب السورية تحمل في طياتها خطورة مواجهة بين الدول الكبرى، علماً أن روسيا لم تعد بقوة الاتحاد السوفياتي ولكنها تحمي نظاماً إرهابياً مع حليف إيراني مبدع بإرهاب المنطقة العربية منذ ثورة الخميني. إن نهاية الحرب في سورية والحل السياسي مستبعدان طالما الموقف الروسي عازم على حماية هيمنته في هذا البلد وفي المنطقة. والمؤلم أن سقوط الضحايا والنزوح السوري والكوارث الإنسانية ستستمر.

اقرأ المزيد
٢٣ يونيو ٢٠١٧
الحرب على «داعش» في الرقة والمحتلون الجدد

(إلى فراس... حارس ذاكرتنا، الباقي وحيداً هناك)

وصفت لجنة تحقيق مستقلة تابعة للأمم المتحدة عدد الضحايا المدنيين في قصف قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، مدينة الرقة، بالمدهش. وقالت اللجنة أن أكثر من 300 سقطوا في هذا القصف خلال أيام، وأن 160 ألفاً تشردوا من منازلهم. مصادر رقاوية قدمت لائحة اسمية بحوالى 600 شهيد قبل أسبوع من تقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة. النازحون من المدينة يحجزون من قبل «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) في معسكرات خاصة، وتصادر هوياتهم، وعليهم أن يثبتوا أنهم ليسوا «دواعش». يتشكل العمود الفقري من قوات «قسد» من تنظيم الاتحاد الديموقراطي الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، والمرجع المعتمد أميركياً في «تحرير» المدينة. التخلص من «داعش» يبدو وشيكاً فعلاً، لكن يحصل الأمر بصورة لا تبالي بحياة سكان المدينة وعمرانها من جهة، ويبدو مرشحاً لخلق مشكلة إثنية متفجرة في المنطقة من جهة أخرى.

التنظيم الكردي الذي يشغل مواقع القيادة والتخطيط فيه كرد من تركيا وإيران، يتصرف مع الأكثرية العربية من السكان بصورة يمتزج فيها الاستعلاء بالقسوة و «الرسالة التحضيرية». شكاوى السكان المحليين منذ الاستيلاء على تل أبيض عام 2015 أكثر تواتراً من أن يؤَوّل الأمر كحوادث عارضة، وبعض منها موثّق على كل حال في تقارير لمنظمات حقوقية دولية، مثل أمنستي إنترناشونال وهيومان رايتس ووتش. ومن هذه الوقائع نهب بيوت ومصادرة ملكيات وترويع المدنيين ومنع عودة النازحين إلى قراهم، وممارسات إذلالية متنوعة.

لكن، ما الذي جعل هذا العدوان على حياة السكان المحليين، قصفهم الأحياء السكنية العشوائي بالهاون وبالفوسفور الأبيض، والاعتداء على كرامتهم وملكياتهم، ممكناً؟ أولاً وقبل كل شيء «تدعيش» السكان، اعتبار سكان الرقة حاضنة «داعش». هذا كلام قيل مراراً وتكرراً بحق سكان كانوا مهمشين في غالبيتهم ومفقرين من قبل، وساهم في خفض الحواجز الأخلاقية والقانونية والسياسية التي كان يمكن أن تحمي حياتهم. هذه آلية إبادة معروفة، نصادفها أيضاً في خلفية عمليات الجينوسايد الكبرى في ألمانيا النازية وفي رواندا وكمبوديا وغيرها.

ويندرج اتهام السكان المحليين بـ «الداعشية» في إطار سردية الحرب ضد الإرهاب التي تماهي بين الإرهاب و «داعش» والسلفية الجهادية عموماً، وتماهي من وجه آخر بين محاربي الإرهاب والأميركيين ومن يواليهم ويتبعهم. وهي لذلك بالذات لا ترى أن أول من وقع تحت إرهاب «داعش» هو سكان المدينة، وأن أبرز ثائريها اختطفوا وقتلوا في سياق استيلاء «داعش» عليها (ومنهم أخي فراس وطبيبي إسماعيل الحامض، وأصدقاء آخرون)، وأن سكانها هم من تمّ الاستيلاء على ملكياتهم وتهجير كثيرين منهم.

هذا الإرهاب الأول والأصلي هو بالضبط ما لا يهتم المحررون - المحتلون الجدد بمحاربته. ولم يظهر الأميركيون وأتباعهم، ولو اهتماماً لفظياً، بمصير المخطوفين والمغيبين عند «داعش»، وليس هناك ما يؤشر إلى أدنى عناية بتحريرهم أو معرفة مصيرهم. بمقدار ما يتعلق الأمر بالسكان المحليين، ما يحصل هو أقرب إلى تجديد للاحتلال والإرهاب «الداعشيين»، كان «داعش» نفسه استمراراً للاحتلال والإرهاب الأسديين.

لكن، ما الذي يفسر دور هذا التنظيم الذي وضع القضية الكردية في سورية ضد السكان العرب وليس في مواجهة النظام الأسدي الذي يحكم البلد منذ نحو خمسن عاماً؟ لا يكاد يكون هناك سر وراء ذلك. التنظيم فرع سوري لحزب العمال الكردستاني التركي الذي تشغل تركيا موقع إسرائيله، وهو ما وضعه على علاقة قرب متفاوتة الدفء مع كل من الدولة الأسدية في سورية ودولة الملالي في إيران. الواقعة غير المعروفة على نطاق واسع أن النظام سحب قواته من مناطق الكثافة الكردية في سورية لتركيزها في مواجهة الثورة في وقت دالّ جداً، تموز (يوليو) 2012، أي بالضبط عندما كان الحزب الإيراني يسيطر في دمشق في واقعة رمز لها حينذاك اغتيال عنصر خلية الأزمة (18 تموز 2012). في الوقت ذاته تقريباً، كان الفرع الإيراني لحزب العمال الكردستاني، أي النظير الإيراني لحزب الاتحاد الديموقراطي في سورية، يُجمِّد علمياته ضد دولة الملالي. هكذا، أخذت الساحة الكردية السورية التي كانت حتى ذلك الوقت جزءاً من الثورة السورية له مطالب خاصة، تتحول إلى ورقة بيد حزب العمال الكردستاني في تركيا وحلفائه.

في هذا الوقت بالذات، تموز 2012، كانت التظاهرات السلمية تتوقف في سورية، بفعل استخدام النظام سلاحَ الطيران واستهداف حتى طوابير الخبز على نحو موثق في تقارير منظمات حقوقية دولية معروفة.

وقبل نهاية 2012، كانت تركيا تحرض تشكيلات من الجيش الحر على مهاجمة رأس العين ومقاتلة التنظيم الكردي، وهو مسلك عابث بالقضية السورية وضيّق الأفق سياسياً، ساهم في جعل سورية ساحة إضافية إلى الصراع بين السلطات التركية والتنظيم الأوجلاني. تركيا سهلت أيضاً تدفق جهاديين أجانب عبر حدودها، مُعوّلة على قتالهم التنظيمَ الكردي، وهو ما تحقق فعلاً. لكن «داعش» الذي استقطب معظم هؤلاء الجهاديين العنيفين، لم يقتصر على مقاتلة الكرد، وشملت حربه تشكيلات الجيش الحر ومجموعات إسلامية، واستولى في حركة توسع سريعة عام 2014 على الرقة ومناطق واسعة في دير الزور، وشرق حلب وحماة وحمص، وعلى الموصل في العراق، وحاولت احتلال عين العرب - كوباني، البلدة ذات الغالبية الكردية شمال شرقي حلب. هنا وقع التدخل الأميركي، وتم صد «داعش» عن البلدة التي تدمرت بصورة شبه كلية.

التنظيم الكردي ذو الخبرة القتالية الطيبة والهيكلية المتينة المستمرة طوال ثلاثة عقود، ربط نفسه بعد التدخل الأميركي باستراتيجية الصراع ضد «داعش»، وعمل على الارتباط بالروس أيضاً بعد تدخلهم عام 2015 لمصلحة النظام. لكنه تحول عبر هذه الروابط مع قوى دولية نافذة، وانخراطه في حرب اختيارية وهجومية في مناطق ذات أكثرية عربية، إلى تغليب أجندة حزب العمال الكردستاني في سورية على حساب الأجندة الخاصة بحقوق الكرد السوريين، على ما أظهر تقرير للمجموعة الدولية الخاصة بالأزمات في تقرير لها صدر في 4 أيار (مايو) الماضي («خيار حزب العمال الكردستاني المنذر بالسوء في شمال سورية»).

الارتباط بالحزب الأوجلاني التركي يفسر واقعة مدهشة أخرى يبدو أنها أدهشت الكرد السوريين مثل غيرهم: تلك الرمزيات الحديثة التي تم تعميمها على نطاق عالمي بعد معركة كوباني، مشفوعة بخطاب اجتماعي تحرري (مظهر النساء، تناصف المناصب بين الجنسين، خطاب عن الإدارة الذاتية الديموقراطية...).

هذا يمد جذوره في حياة فكرية وسياسية تركية أنشط بكثير من سورية، ومتوجهة نحو الغرب منذ أجيال، مع وجود جاليات كردية كبيرة من كردستان تركيا في أوروبا. ليس للأمر ذاكرة في سورية، ولا منابر ولا نقاش، ولم تبذل في أي وقت جهود للتواصل مع أي بيئات اجتماعية أو ثقافية أو سياسية سورية، وتبدو محدودة جداً حتى في النطاق الكردي السوري.

والقصد أن التقاء هذه العناصر: حداثة برانية تصلح للتسويق في الغرب، واندراج في مخطط تنظيم غير سوري أقرب للنظام السوري والإيراني، واعتلاء قطار الحرب ضد «داعش»، هو ما جعل قتل مدنيي الرقة وإذلالهم مأمون العواقب.

وليس إلا مطالبة برخصة مفتوحة في القتل اتهام كل من يعترض على منهج الإذلال بأنه «داعشي». هذا منهج النظام وأتباعه في رد الصراع في سورية إلى ثنائية النظام أو الإسلاميين. وهو واقع اجتهد النظام بكل طاقته من أجل صنعه، ولا يزال غير محقق. صناعة كهذه أيضاً يشتغل عليها التنظيم المعتمد عند الأميركيين حين يتوسط لديهم لاستبعاد تشكيل «لواء ثوار الرقة» المكون من مقاتلين محليين من معركة تحرير مدينتهم. اللواء كان مقاتلاً «داعش» طوال الوقت، وهو جزء من «قسد». الجماعة يصنعون الواقع الذي يهوون الشكوى منه.

تبقى نقطتان جديرتان بالذكر. يخطئ معارضون وناشطون عرب حين يتكلمون على تنظيم الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية بأنه انفصالي. فعدا أن هناك حقاً مبدئياً للكرد في دولة مستقلة، ينفصلون فيها عن الدول التي تقاسمت كردستان، وفق السردية القومية الكردية (الانفصال عن سورية وحدها متعذر لعدم التواصل الأرضي بين مناطق الكثافة الكردية، ولقلة المناطق الصافية كردياً)، فالمشكلة في الواقع هي أن التنظيم فرع لحزب آخر، أن الاستراتيجية تصنع في مكان آخر ولغرض آخر، لا تكاد تكون سورية غير ساحة له، ولا يكاد يكون كردها غير ورقة فيه. ما ليس مقبولاً ليس طموح الكرد السوريين للانفصال، بل توجيه هذا الطموح ضد السكان غير الكرد (والكرد المعارضون للتنظيم الأوجلاني)، وممارسة من كانوا مضطهَدين قبل قليل الاضطهاد في مناطق عربية كان سكانها مهمشين من قبل الدولة الأسدية.

النقطة الثانية تتعلق بمستقبل الرقة والجزيرة بعد «داعش». ليس هناك مؤشرات إلى التزام أميركي طويل الأمد في الجزيرة السورية. هذا يترك الباب مفتوحاً لإعادة المنطقة إلى الدولة الأسدية، وحلفائها الإيرانيين والعراقيين. قد نرى ذلك خلال أشهر من اليوم. هل هناك احتمال لعمليات تطهير عرقي يشكل استرخاص حياة مدنيي الرقة تمريناً عليها؟ هذا ربما يحتاج إلى إحياء «داعش» بعد موته، أو إبقائه قادراً على القيام بعمليات إرهابية، تسوغ حملات تأديبية وتطهيرية بحق السكان من وقت إلى آخر. تهجير سكان مناطق متعددة من جانب الدولة الأسدية يمكن أن يكون نموذجاً يحتذى في هذا الشأن. وتحت جناح الحرب، يمكن أن ترتكب جرائم كبيرة، وتغطى جرائم كبيرة.

ما يستمر من الأسدية إلى «داعش» إلى «قسد» هو تجريد السكان من ملكية منطقتهم وتمثيل أنفسهم والعيش بكرامة على أرضهم.

اقرأ المزيد
٢٢ يونيو ٢٠١٧
درعا في معركة الصراع على سورية

يعوّل المجتمع الدولي كثيراً، على ما يظهر، على ذاكرة الأطراف السورية القصيرة في تعامله مع قضاياهم، خصوصا في شأن إشاعته أوهام الحل التفاوضي، بعد كل مجزرةٍ يسقط فيها مئات الضحايا من السوريين المدنيين، وفي تهرّبه من مسؤولياته في وقف المجازر، ومحاسبة المسؤولين عنها، وذلك عبر مواصلة القفز إلى جولاتٍ تفاوضيةٍ جديدة، وتحديد جدول أعمالٍ جديد، ينتهي عادة إلى الفشل، ليعود السوريون إلى واقعهم، وإلى حالهم المأساوية المستمرة منذ قرابة سبعة أعوام.

وتدخل معركة درعا، وتطوراتها، ضمن سلسلة السياسات الدولية نفسها التي اعتادت التغاضي عن محاسبة المسؤولين عن خرق اتفاق ما سمي "مناطق خفض التصعيد"، والذي وقعته روسيا وإيران وتركيا، والمفترض أنها الضامنة لتنفيذه ومراقبته، وهي المشاركة بخرقه (إيران وروسيا)، في الوقت نفسه، بل وبارتكاب مجازر بحق المدنيين السوريين في جنوب البلاد، بغرض إعادة رسم خريطة توزيع النفوذ الدولي على الأراضي السورية، وتعويم النظام، بتمكينه من مد سلطته من معبر نصيب على الحدود مع الأردن، وصولاً من دمشق، مع سعيه إلى السيطرة التامة على أحياء درعا الداخلية، للحؤول دون استفراد المعارضة بها، وتهديد وجود مؤسسات النظام الأمنية والعسكرية فيها.

بيد أن فشل حملة النظام المدعومة بقوات إيرانية وأفغانية وطيران روسي، كما اتضح في الأيام الماضية، اضطر موسكو إلى اللجوء إلى خطةٍ بديلة، تتمثل بتقديم صفقةٍ سياسيةٍ للجانب الأميركي، تمنحه فيها بعض ما طالب به ترامب من "مناطق آمنة" إبّان تسلمه السلطة في بداية العام الجاري. فلم تخف الإدارة الأميركية رفضها مسيرة جولات أستانة التي عقدت في شبه غياب لدورها، والأهم من ذلك بحكم عدم رضاها عن توافقات أستانة التي لم تصمد طويلاً، خصوصا بسبب تلويحها الحاسم برفض أي دور لإيران فيها، في الوقت الذي حاولت فيه روسيا أن تلعب بطريقة مزدوجة، بأن تستفيد من إصرار إيران على دور فاعل داخل سورية، من جهة؛ ومن إصرار المجتمع الدولي على تحجيم الدور الإيراني في المنطقة عموماً، من جهة أخرى. بيد أن هذه اللعبة، أو المحاولة، أعاقت أو اضعفت قدرة موسكو على تمرير اتفاق "مناطق خفض التصعيد" أممياً، ما أبقاه في إطار المسعى المرحب بتنفيذ مضمونه، وهو خفض التوتر، وتقليص عدد الضحايا، في أربع مناطق من سورية، وضمنها درعا. بيد أن المدينة المذكورة شهدت، في الأيام الماضية، واحدةً من أكبر المعارك وأوجعها، ليس فقط بسبب استخدام النظام وإيران (ومليشياتها) مختلف أنواع الأسلحة في القصف براً وجواً، بل باعتبارها، أيضاً، المعركة الوحيدة التي حصدت صمتاً دولياً غير مسبوق، حتى من جهة دول الجوار أو المجتمع الدولي عموماً، وحتى من مسيرة عملية التفاوض في جنيف، والشاهد الحاضر على اتفاق أستانة خلال جولتها الخامسة التي عقدت الشهر الماضي، أي ستيفان دي مستورا، المبعوث الأممي إلى سورية.

الواضح أن صمود مقاتلي المعارضة في درعا، وإحباط محاولات تقدّم النظام وشركائه براً، حال، ولو بشكل جزئي، دون أن يكون مصير هذه المدينة كما كان مصير حلب، على الرغم من أنها تعرّضت لعملية تدمير ممنهجة، الأمر الذي اضطر موسكو إلى اللجوء إلى ما سمته إعلان وقف عمليات النظام على درعا بمثابة "هدنةٍ"، لتعود إلى المطلب الأميركي، وهو إقامة منطقة آمنة في الجنوب، خاليةٍ من الوجود الإيراني، ما يبطن، أيضاً، محاولةً منها لطمأنة إسرائيل، أو الاستجابة لمطالبها الأمنية، والتي تتم بالتوافق والتنسيق بينها وبين كل من أميركا وروسيا.

يستنتج من ذلك أن المعركة على درعا، وهي نفسها المعركة على من يسيطر على الجنوب السوري، باتت من أهم محدّدات الصراع على سورية برمتها، لأسباب متعدّدة ومختلفة، أهمها يمكن تحديده في الآتي:
أولاً، إنها ليست معركةً لتجنيب الدول المجاورة (الأردن وإسرائيل) تبعات (أو تداعيات) الحرب السورية، أو الصراع الدولي والإقليمي على سورية، فقط، على الرغم من اعترافنا بأهمية ذلك كله للأطراف المعنية، وإنما هي، إضافة إلى كل ما تقدّم، تتعلق بمنع إيران وملشياتها مختلفة المضارب من إيجاد منطقة نفوذٍ لها في هذه المنطقة، من شأنها تعزيز موقفها في صياغة مستقبل سورية لاحقاً، وهو ما فتئت الإدارة الأميركية ومسؤوليها يؤكدونه ويكرّرونه في تصريحاتهم.

ثانياً، قد تكون معركة درعا، وهذا يفترض صمود قوات المعارضة فيها، مشجعة للإدارة الأميركية على فرض منطقة آمنة في الجنوب، ظلت توحي بها منذ مجيئها، بما يضاهي المنطقة التي تشتغل عليها في الشرق السوري (التنف)، وفي الشمال الشرقي، حيث تتموضع "قوات سورية الديمقراطية" التي تتمتع بالدعم والحماية الأميركيين. وقد شهدنا ممهدات ذلك، في الأيام الماضية، في القصف الأميركي لجماعاتٍ عسكريةٍ تابعةٍ لإيران قرب التنف، وفي إسقاط طائرةٍ حربيةٍ سوريةٍ من طائرةٍ حربيةٍ أميركية قرب الرقة، وفي نشر الجيش الأميركي راجماتٍ من نوع هرمس في التنف. وربما أن هذا الملف هو ما جرى التباحث فيه بين ممثلين عسكريين أميركيين وروس في عمّان أخيرا؛ علماً أن ذلك كله يتوقف على صمود المعارضة السورية في درعا.

ثالثاً، المعركة في الجنوب، كما تبدو في المنظور الأميركي، هي استمرار للمعركة على الجغرافيا السورية، أي أنها تدخل في الخطة الأميركية الرامية إلى السيطرة على الحدود مع سورية، ليس فقط لوضع حد لنفوذ إيران والقوات التابعة لها (من العراق ولبنان وأفغانستان) وإنما أيضا لإنهاء نفوذ "داعش". وإضافة إلى هذا وذاك، هي جزء من المعركة على تقرير مآلات الصراع السوري الممتد منذ قرابة سبعة أعوام، والذي اتضح أن تحديده لا يتعلق فقط بالرغبات السياسية، وإنما هو يحتاج أيضا إلى قوةٍ ميدانية، وهو ما بات ربما في صلب توجهات الإدارة الأميركية، وما تم تسريبه عن وجود مئات المقاتلين من قوات النخبة الأميركية (وغيرها) في القتال الدائر مع "داعش" في الرقة، إلى جانب قوات "قسد".

رابعاً، تعزّز هذه المعركة الضغوط على روسيا التي اضطرّت، كما ذكرنا سابقا، للذهاب نحو فرض هدنةٍ على أطراف الصراع مباشرة (النظام والمعارضة)، بعد أن عجز النظام عن إحراز مكاسب، أو تغيير المعادلات، بجعله المتحكّم في الجنوب من بوابة السيطرة على مدينة درعا وإنهاء نفوذ المعارضة فيها، كما حصل سابقا في حلب. أي أن الولايات المتحدة تستثمر إخفاق النظام في درعا، لاستدراج روسيا إلى توافقاتٍ تتيح جعل هذه المنطقة خارج سيطرة النظام وحلفائه، وهو استثمارٌ يصب في إضعاف النظام، وربما يعجّل في تسريع عجلة الحل السياسي التفاوضي.
ما يجري في درعا قد يحدّد أو يسرع في تحديد مستقبل سورية...

اقرأ المزيد
٢٢ يونيو ٢٠١٧
من حكايات الحصار والتهجير القسري في سورية

«شعرت بالاختناق وكأن روحي تنتزع مني ما إن وصلت حافلات الترحيل. كنت على يقين بأنه لن يتسنى لي رؤية حي القابون الدمشقي مرة أخرى، حاولت الانشغال بمساعدة الأطفال على صعود الحافلة كي أشيح نظري عما يجري في تلك اللحظة المؤلمة، فأنا لا أريد أن يطغى ذلك المشهد المذل على صور ومحطات عشتها، في المكان ذاته، طيلة سنوات من العنف والحصار.

هنا، قرب المسجد الكبير، دمرت البراميل المتفجرة بيوتاً عدة كان أحدها بيتي، لم تتسنّ لي المساهمة في رفع الأنقاض ورؤية جثماني زوجتي وطفلي قبل دفنهما، كنت أشارك في كسر هجوم شرس حاول اختراق مشارف الحي الغربية... هناك خلف ورشة صيانة السيارات، خسرت ثلاثة من رفاق الطفولة حاولوا التسلل لاستلام بعض الأدوية والمصول الطبية من مسعفي حي حرستا المجاور. هذا بينما تمتد، بالقرب من تلك الحافلات اللعينة، مقبرة الحي الشهيرة، التي لم تكن فقط ساحة لانطلاق التظاهرات وتشييع الشهداء، وإنما أيضاً «سلة غذاء» أعانت أعشابها ونباتاتها العشوائية الوفيرة أهل الحي على مقاومة جوع الحصار الجائر. وخلفها ثمة ما كان يعرف بسوق الخضار الذي صار أثراً بعد عين، بفعل إغراقه بالبراميل المتفجرة بذريعة تحوله إلى مستشفى ميداني. وبينهما يقع منزل حلاق الحي الشجاع الذي صار مركزاً للتواصل مع التنسيقيات المجاورة، وتوزيع المهمات ومواد التموين وصياغة الشعارات وحتى التدريب على استخدام السلاح.

كانت قائمة الحافلة الأولى تضم عشرين مقاتلاً مع من تبقى من أسرهم إضافة إلى أهالي بعض الشهداء. لم يكن ثمة جدوى، بالنسبة إلينا كمجموعة لا تزال أمينة لشعارات الثورة، من رفضنا الاتفاق الذي سمي زوراً «مصالحة» وتحديداً اشتراطه ترحيل المقاتلين إلى مدينة إدلب. لم ينفعنا شحن النفوس بنجاحنا، غير مرة، في هزيمة قوات النظام وميليشياته، وبأخطار توطين موالين لإيران في بيوتنا، فالطاغي إحساس بعبث استمرار الصمود الذي بات يشبه الانتحار بعد ما أحدثه التدخل العسكري الروسي من تبدلات، والأهم بعد تنفيذ اتفاقات مماثلة في برزة والتل والمعضمية وداريا. زاد الطين بلة الترويج «لرؤية» تبارك الاتفاق راودت أمير إحدى الجماعات الاسلاموية، مدعومة بكلمات ديماغوجية للمفتي الشرعي تعتبر ما حصل نصراً مبيناً لجند الله، وهزيمة منكرة لنظام كافر أرغم على قبول خروج المقاتلين بكامل أسلحتهم!

نظرت بازدراء إلى بندقيتي وتذكرت نادماً يوم حملتها أول مرة، قبلها كان ثمة إصرار عام على سلمية الثورة، كنا نسارع لتسليم ما تتركه أجهزة الأمن من بنادق رشاشة في زوايا الطرقات إلى مخفر الشرطة، ساخرين من محاولاتهم إغراءنا، لكن الأمور تطورت بسرعة عندما أطلقت قوات الأمن وفي شكل سافر ومقصود، الرصاص القاتل على تجمع مسالم سقط إثره العشرات من الأبرياء بين قتيل وجريح.

لم لا نحمي أنفسنا؟ بدأ السؤال يطرح بصوت خافت، لكن قوته وجهوريته ازدادتا طرداً مع تصاعد العنف السلطوي واستفزازاته الطائفية، ليلقى الاستحسان والتشجيع. الشروع بتشكيل مجموعات مسلحة تحت عنوان حماية الحشود المدنية والمتظاهرين، ومن هذه الخطوة بدأت سلمية الثورة تتراجع ومظاهر العسكرة تتنامى، ولم يلبث الأمر أن خرج عن السيطرة نحو مناوشات مع رجال الأمن وبعض حواجز النظام، ثم معارك تنازع السيطرة على المناطق والمدن.

هل كان في الإمكان أن نحافظ على سلمية الثورة أمام عنف منفلت للنظام ودموية واستفزاز لم يعرفا حدوداً؟! وأنّى لنا ردع متطرفين جهاديين ديدنهم الإرهاب، أطلقهم النظام مراهناً على نهجهم في قيادة الحراك الشعبي نحو العنف؟ وكيف نواجه كمحتاجين ومعوزين، إغراء المال وقنوات التمويل التي تنطحت لتغطية تكاليف استجرار السلاح وحاجات أسر الشهداء والمقاتلين والجرحى؟

تبدلت أسئلة الماضي ما إن تجاوزت الحافلات العاصمة وبدأت تشق طريقها نحو الشمال، لتتواتر الأسئلة المتعلقة بالمستقبل: كيف سأبقى وفياً لدماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الحرية والكرامة؟ أين سأقف من الصراعات الدموية بين الفصائل؟ هل ثمة فرصة لمناهضة فكر «هيئة فتح الشام» وكيف سيتسنى لي العمل وفق قناعاتي وأنا بين ظهرانيهم؟ هل سأكون هدفاً لممارساتهم القمعية المقززة وربما للاغتيال، وهم الذين لم يوفروا قتلاً أهم رموز العمل الوطني وقادة من الجيش الحر؟

استبعدت من تفكيري خيار السفر خارج البلاد، مثلما استبعدت الالتحاق بقوات سورية الديموقراطية التي لي عليها مآخذ كثيرة. تذكرت كيف تجاوزنا الصعوبات التي اعترضتنا قبل النجاح في تنظيم شؤون حي القابون وتأمين أمنه ومستلزمات حياة الناس، حتى صار مضرب مثل، ليس فقط كآخر حي حمل السلاح وعقد «مصالحة» بل كأحد الأحياء القليلة التي لم يغادره إلا القلة من أبنائه، وقد تمكنت الإدارة المدنية طمأنة قاطنيه وتشجيعهم على البقاء.

وتذكرت إرهاب النظام وأجهزته الأمنية عندما وصلنا الى حاجز «هيئة فتح الشام». ران صمت رهيب على الركاب جميعاً، صمت يفيض بالهلع، بانتظار ما قد تسفر عنه المداولات مع سائقي الحافلات. أراحنا سماع ضحكات خافتة وربما مستهزئة، قبل أن يصعد أحد الملثمين ليدقق في الوجوه.

ساعة كاملة قضيناها على الحاجز قبل أن يسمح لنا بالمرور، ساعة رأينا فيها حياتنا البائسة كشريط يختنق بآمالنا وآلامنا وفشلنا، شريط يختصر ربما كل شيء، كل ما مررّنا به من مرّ وعلقم وحزن وفجيعة وغضب وقهر.

في ساحة معرة النعمان، سمعت صوتاً يناديني تشوبه بحة أعرفها، هو أحد رفاق الحي، أصيب منذ سنة ونقل إلى الشمال للمعالجة، سارع لاحتضاني، ولم أعرف لم اندفعت فوراً للحديث عما مررنا به من حصار وألم ومرض وشقاء. اعترفت بتلقائية الأطفال وصراحتهم بأخطائنا ومثالبنا، بدوت كمن يريد إفراغ كل ما يعتمل في صدره، قبل أن يقاطعني وينبهني لوصولنا إلى حيث سأقيم موقتاً، كي يسارع في العودة لاستقبال مهجرين آخرين».

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني